الرئيسية || من نحن || الاذاعة الكندية || الصحافة الكندية || اتصل بنا
 

عبدالحسين شعبان اكاديمي ومفكر عربي

يكتب مقالا اسبوعيا في جريدة (الخليج) الاماراتية    وينشر مقالات  في جريدة (الزمان) البغدادية

 

مقالات سابقة

عن ظاهرة الترامبية

عبدالحسين شعبان

 

 

يستغرب كثيرون كيف تمكن دونالد ترامب، وهو من خارج النخبة السياسية المهيمنة من الوصول إلى السلطة (2016)، وحتى بعد خسارته في انتخابات العام 2020، فإنه بقيَ في المشهد السياسي، وكما يقول عن أنصاره إن ثلاثة أرباعهم يعتقدون أنه فاز في الانتخابات، وهو ما يدعوه اليوم إلى رفع صوته عاليًا للثأر من خصمه اللدود في الانتخابات المقبلة، التي ستجرى في شهر تشرين الثاني / نوفمبر 2024.

كان فوز ترامب مفاجأة كبرى، حيث كانت جميع الاستطلاعات ترجّح فوز منافسته هيلاري كلينتون، لكنه بحكم نجوميته وعلاقاته بعالم المال والأعمال والإعلام، تمكن من إحراز النصر عليها، واستطاع قلب المشهد السياسي، وظلّ متشبثًا بأحقيته حتى حين خسر أمام بايدن.

لم يهمل ترامب وسيلة لمقارعة بايدن، سواء كانت شخصية أم مالية أم قانونية أم إعلامية أم شعبوية، إلّا واستخدمها لتحقيق مآربه والوصول إلى مبتغاه، مستندًا إلى كارزميته وقوّة شخصيته وتمكّنه من الحصول على دعم الحزب الجمهوري، وهكذا أخذت تتشكّل «الترامبية» ويتجمّع حولها الأنصار، لا باعتبارها ظاهرة عابرة، بل بوصفها وليدة تشابك العديد من المصالح والتوجهات والروافد، التي التقت في تيارها.

وكانت فترة رئاسة أوباما واحدة من أسباب ظهورها، وبالتالي حصولها على قاعدة شعبية أوسع من القاعدة التي يهيمن عليها الحزب الجمهوري تاريخياً، فإضافة إلى أصحاب المصالح والمهن المرتفعة الدخل، فإن الاتجاهات العنصرية التي رفعت لواء الحمائية ومناهضة الهجرة غير الشرعية وتجاوز البيروقراطية الحكومية، كانت خلفية فكرية لها، وهكذا حاول ترامب اللعب على عدد من الشعارات الشعبوية التي شكّلت إطاراً عاماً للتيار الترامبي في السياسة الأمريكية، على المستويين الداخلي والخارجي، بما فيه العلاقة مع روسيا، ولا يزال هناك من يعتقد أن فوز ترامب في الانتخابات المقبلة سيوقف الحرب في أوكرانيا، خصوصًا بالامتناع عن تقديم المساعدات لها.

وإذا كان ترامب يسعى لتجديد الحزب الجمهوري وتوسيع قاعدته الاجتماعية، فإنه اشتغل حتى قبل تولّيه سدة الحكم على ما عُرف ﺑ «فن الصفقة»، وهو عنوان كتابه الصادر في العام 1987، وكان المال، ولا يزال، عنصراً أساسياً في توجهه، فقد استعان به على شحّ خبرته السياسية والحكومية والعسكرية، ويمكن الاستدلال على ذلك، بتصريحاته المثيرة للجدل وسلوكه الغريب أحيانًا، سواء خلال حملته الانتخابية أو بعدها، بما فيه خلال فترة رئاسته، ناهيك عن بعض تصرفاته التي تنمّ عن مسحة استعلائية ضدّ المرأة، فضلاً عن محاولات التفافه على القانون للتخلّص من عبء الضرائب، وركّز على الإعلام لمواجهة خصومه وعشرات الدعاوى القانونية، إضافة إلى مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة، وقد تمكّن من إزاحة منافسيه من الحزب الجمهوري، حتى بدا هو الأول في مواجهة بايدن الديمقراطي.

ثمة أسباب عديدة لظهور «الترامبية»، لاسيّما في ظلّ تعمّق التوجهات المحافظة، وهي موجودة في المجتمع أساساً، وانعكست على السياسة بالطبع، وهكذا أخذت تنشأ بالتدرّج ما يمكن أن نطلق عليه «الترامبية»، وهذه الأخيرة يمكن تلمّسها عبر عدد من المجسّات الأساسية التي شكّلت سداها ولحمتها؛

*أولها – سلوك طريق الشهرة، من خلال علاقته بالمشاهير، سواء كانوا نجوماً سينمائيين أو كتاباً أو صحفيين، وقسم منهم اضطلعوا بأدوار في السياسة الأمريكية، ومن أبرزهم الرئيس الأسبق رونالد ريغان، وهكذا تمكّن من تقديم نفسه باعتباره صاحب قرار ويمتلك إرادة قوية ويستطيع أن ينفّذ ما يضعه كبرنامج من دون تردّد أو خشية، بالرغم من الأخطاء الفادحة التي وقع فيها، سواء خلال فترة حكمه أو في حملاته الانتخابية.

*ثانيها – إثبات فشل السياسيين التقليديين، الذين لم يحسنوا إدارة الحكم، حسب رأيه، لذلك سار على خطى ريغان، الذي كان يردد أنه مواطن عادي وغير سياسي، وأن لديه اعتقادًا راسخًا بأن السياسيين هم الأكثر إزعاجًا للمواطن، وما مكنّه من التبجّح بذلك أكثر، هو كونه «مليارديراً» وليس بحاجة كبيرة إلى جماعات الضغط كما يحتاجها غيره.

*ثالثها – إعلاء النزعة القومية المعادية للمهاجرين، وموقفه الاستعلائي من الأجانب بشكل عام، ووفقاً لشعار «أمريكا أولًا»، و«إعادة عظمة أمريكا»، عمل على بناء جدار على طول الحدود المكسيكية، وسعى إلى ترحيل المهاجرين غير الشرعيين، بل إنه قرّر منع مواطني عدد من البلدان الإسلامية من دخول الولايات المتحدة، واضعًا عقبات جديّة أمام حصولهم على الفيزا، فضلًا عن انسحابه من العديد من الاتفاقيات والمعاهدات الدولية.

*رابعها – الشعبويه، التي جذبت إليه أتباعاً حتى من خارج الحزب الجمهوري، وقسم من هؤلاء كانوا ساخطين على النخب السياسية التقليدية، فاستغلّ استياء العديد منهم ليحقق حضورًا كبيرًا على الساحة السياسية من خارجها، لدرجة أنه أصبح ظاهرة جديدة في السياسة الأمريكية.

ولعلّ المعركة الانتخابية المقبلة بين الترامبية والبايدنية ستكون هي الأكثر سخونة في تاريخ الولايات المتحدة، وأنها أول انتخابات رئاسية، منذ فوز دوايت أيزنهاور في 1956، تشهد إعادة منافسة، خصوصاً أن ثمة اختلافات وخلافات جوهرية بين الاتجاهين في ما يتعلّق بالاقتصاد والسياسة الخارجية والقضايا الدولية، وفي جزء منها اختبار جديد للديمقراطية الأمريكية، التي يعتقد البعض أنها تحتاج إلى المزيد من إعادة النظر بجوانبها المختلفة ومعالجة نواقصها وثغراتها وعيوبها، بل حتى أُسسها.

drhussainshaban21@gmail.com

 

 

تولستوي... والنبي محمد

 

عبد الحسين شعبان

 

            تُعتبر رواية "الحرب والسلم"، للأديب والفيلسوف الروسي ليو تولستوي (1828 - 1910)، الرواية الأكثر شهرة وانتشارًا، والتي شاهدنا فيلمًا مقتبسًا عنها في ستينيات القرن الماضي، من  بطولة أودري هيبورن و هنري فوندا، ومن إخراج فكتور كينغ، لكن آراءه بخصوص النبي محمد (ص)، لم تكن قد اشتهرت، إلّا في العقود الخمسة المنصرمة، وإن كان كتابه "حِكَم النبي محمد" قد نشر قبل ذلك بفترة طويلة، وترجمه سليم قبعين إلى اللغة العربية  في العام 1912 (مطبعة التقدم - مصر).

وكان مالك منصور، حفيد محمد عبده مفتي الديار المصرية وأحد أركان حركة الإصلاح الديني منذ أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، قد أشار إلى أن متحف تولستوي يحتوي على رسالتين متبادلتين بينهما، علمًا بأن تولستوي كان قد وجّه رسالةً إلى عبده أبدى فيها رغبته في تأليف كتاب عن النبي محمد (ص)، وطلب منه مساعدته في جمع الأحاديث الشريفة وتدقيقها، والتي تُعدّ من كَلِمْ النبي، لاعتقاده إن أحاديث النبي ومواعظه وحِكَمِه، هي ما يحتاجه بني البشر، بغضّ النظر عن دينهم وملّتهم، لأن الأنبياء هم ملك للبشرية جمعاء.

 وقد شجّع الشيخ محمد عبده تولستوي على ذلك، دون النظر إلى أنه من دين آخر، وقال يكفي أن يكتب تولستوي، أديب روسيا، وأعظم كتابها عن النبي (ص). وبالفعل فقد جمع تولستوي في كتابه نحو 600 حديثًا من أحاديث الرسول الكريم، وضمّها في باقة ملوّنة ومتنوّعة، تُمثّل القيم الإنسانية السامية.

            وكان تولستوي قد أبدى انبهاره بالنبي محمد (ص)، واعتبره من كبار المصلحين في التاريخ، الذين خدموا البشرية خدمةً جليلةً، ويكفيه شرفًا أنه هدى أمةً برمّتها إلى الحق، وجعلها تجنح إلى السلام وتجد طريقها إلى المدنية والتقدم.

            ويعود سبب اهتمام تولستوي بالسيرة المعطرّة للرسول الكريم، هو انهمامه بقضايا الخير والشر والدين والأخلاق، وانفتاحه على الثقافات العالمية بحثًا عن القيم الإنسانية، حيث كان قد تعرّف على الأدب العربي، وأراد الاستزادة من الإسلام ورسالته الإنسانية لتعميق جوهر ثقافته، بالاطلاع على فلسفة النبي محمد ورؤيته الاجتماعية.

 وكان قد قرأ  منذ وقت مبكّر حكايات "علاء الدين والمصباح السحري" و"ألف ليلة وليلة" و"علي بابا والأربعون حرامي" و"قمر الزمان بن الملك شهرمان"، وقد أشار إلى ما تركته الحكايتان الأخيرتان في نفسه من أثر كبير، وهو لم يبلغ الرابعة عشر من عمره، ولغرض إشباع رغبته بالتعرف على نفائس الأدب العربي، اتّجه لدراسة اللغتين العربية والتركية في كلية الدراسات الشرقية بجامعة قازان (كازان) الروسية (1844)، لكنه لم يستمر في الدراسة، التي لم تعجبه فيها طريقة التدريس العقيمة، كما قال.

            لقد دافع تولستوي عن الإسلام وقيمه السمحاء، رادًّا على الاتهامات التي كانت توجّه إليه وإلى نبيّه، والتي كان يتم ترويجها من جانب "جمعيات المبشّرين"، ولذلك اتّجه إلى تأليف كتابه المذكور، وفي مقدمته ذات البُعد الإنساني كتب قائلًا: إن تعاليم الشريعة الإسلامية لا تقل في شيء عن تعاليم الديانة المسيحية. وبهذا المعنى أراد تولستوي أن يؤكّد أن قيم الأديان مشتركة ومتقاربة، وأن رسالة النبي محمد (ص) هي امتداد لرسالة النبيين موسى وعيسى عليهما السلام، وهو ما يؤكّده القرآن الكريم.

 كما اعترف تولستوي بمكارم أخلاق الصحابة وزهدهم وطهارة سيرتهم واستقامتهم ونزاهتهم، مشيرًا إلى أن من فضيلة المسلمين أن دينهم أوصى خيرًا بالمسيحيين واليهود، وكتب ذلك في مقدمته الجليلة عن حِكَم الرسول، وربما قصد بذلك صحيفة المدينة، التي سنّها الرسول بعد هجرته من مكّة إلى يثرب (المدينة المنورة).

 وتُعتبر تلك بمثابة نواة لفكرة المواطنة في الدولة العصرية، وإن كانت بصورة جنينية، ومن أهم الحكم التي تأثر بها هي "لا يؤمن أحدكم حتى ليحب لأخيه ما يحب لنفسه"، بمعنى إيمانه بالمشترك الإنساني الجامع لبني البشر.

            اتفق تولستوي ومحمد عبده أن الدين والإنسان يشكلان أساس الحياة، وأن قيمة الإنسان لا يمكن تقديرها بأي ثمن، ووظيفة الدين هي النهوض بالإنسان وعقله، كي يبني الحياة ويعيش بسلام.

            وجاء في رسالة محمد عبده المؤرخة في 8 نيسان / أبريل 1904، أي قبل 6 سنوات على رحيل تولستوي 1910 ، مخاطبًا إياه: "أيها الحكيم الجليل، لم نحظ بمعرفة شخصك، ولكن لم نُحرم التعارف بروحك، فقد سطع علينا نور من أفكارك، وأشرقت في آفاقنا شموس من آرائك آلفت بين نفوس العقلاء ونفسك...".

وردّ تولستوي عليه بخطاب رقيق قال فيه: أيها الصديق العزيز، إن خطابك أدخل في نفسي عظيم السرور، حين جعلني على تواصل مع رجل مستنير، وإن يكن من أصل ملّة غير الملّة التي ولدت عليها وربيت في أحضانها، فإن دينك وديني سواء، وإن كانت المعتقدات مختلفة، وهي كثيرة، ولكن لا يوجد إلّا دين واحد هو الصحيح... وكلّما نزعت المعتقدات إلى البساطة وخلصت من الشوائب، اقتربت من الهدف المثالي الذي تسعى الإنسانية إليه، وهو اتحاد الناس جميعًا.

الرسالة الأخلاقية التي تمسّك بها تولستوي في أعماله الإبداعية، هي التي كانت وراء قناعاته بالمشترك الإنساني للأديان وفي بحثه عن السلام واللّاعنف والتسامح، بما فيها مراسلاته مع المهاتما غاندي، وهذه الرسالة هي التجسيد العملي لقول الرسول الكريم: إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق، وحين سئل من أحب عباد الله إلى الله، قال: "أحسنهم خلقًا" و"خالق الناس بخلق حسن". ورُوي عن الحسن عن أبي الحسن عن جدّ الحسن، "أحسن الحُسن الخلق الحسن".

 

 

 

الذاكرة وثقافة الاعتذار

عبدالحسين شعبان

 

دانت الجمعية الوطنية الفرنسية (البرلمان)، يوم 28 آذار/ مارس 2024، المذبحة التي ارتكبتها شرطة باريس بحق تظاهرة سلمية جزائرية، يعود تاريخها إلى يوم 17 تشرين الأول/ أكتوبر 1961. وأصيب فيها نحو 200 شخص بين قتيل وجريح، ورُميت جثث بعضهم في نهر السين.

وندّد القرار بالقمع الدامي والقاتل بحق الجزائريين، ووضع المسؤولية على موريس بابون مدير الشرطة، الذي اتخذ قرار إطلاق النار على المتظاهرين. وخصّص القرار يوماً لإحياء ذكرى المذبحة ضمن جدول الأيام الوطنية والمراسم الرسمية.

تقدّم «حزب الخضر» بالمقترح، حسب وكالة الصحافة الفرنسية، وعارضه مجموعة من اليمينيين المتطرّفين. واعتبرت النائبة صابرينا صبايحي هذا التصويت تاريخياً، ويشكل محطة أوّلية لإدانة هذه الجريمة الاستعمارية، التي قامت بها الدولة، ولعل بقاء الأمر من دون حل يؤثر في العلاقات الجزائرية - الفرنسية، حيث ظلت الجزائر تطالب بإدانة الجريمة والاعتذار الرسمي وتعويض الضحايا، وفقاً لمعايير العدالة الانتقالية، التي تقتضي كشف الحقيقة والمساءلة وتعويض الضحايا، وجبر الضرر المادي والمعنوي وإصلاح الأنظمة القانونية والقضائية والأمنية، وصولاً إلى المصالحة.

وجاء قرار الجمعية الوطنية بعد أسابيع قليلة من إعلان قصر الإليزيه، عن زيارة الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون إلى باريس (أواخر أيلول/ سبتمبر وبداية تشرين الأول/ أكتوبر 2024).

الجدير بالذكر، أن الرئيس فرانسوا هولاند كرّم ضحايا القمع الدامي في العام 2012، الذين تظاهروا من أجل استقلال الجزائر، واعتبر الرئيس ايمانويل ماكرون، أن تلك الجرائم لا تغتفر، وأوعز باتخاذ خطوات رمزية تهدف إلى تعزيز المصالحة، لكنّ ذلك لم يُرضِ الجزائر، التي تطالب باعتذار صريح وواضح، وتحمّل مسؤولية ما حدث.

والعدالة الانتقالية، سواء على المستوى الوطني أو على المستوى الدولي، تعني كيفية استجابة الأطراف المعنية في المجتمع أو الدول على نطاق العلاقات الدولية، كما هي الحالة التي نحن بصددها، المتعلّقة بإرث الانتهاكات الجسيمة الصارخة لحقوق الإنسان، علماً بأنها تطرح أسئلة في غاية الصعوبة عن مدى تشرّب الأطراف المعنيّة بالثقافة القانونية، وقناعتها بمدى تحقّق مبادئ العدالة والإنصاف، واستعدادها للوصول إلى كشف الحقيقة، وتحمّل مسؤوليتها، وخصوصاً ما ترتبه من تعويضات مادية ومعنوية، وبالتالي وضع حدّ لعدم تكرارها بإجراء إصلاحات دستورية وقانونية لضمان ذلك.

ولعل الاحتلال الفرنسي للجزائر، الذي دام 132 عاماً، ما يزال لا يريد مغادرة الذاكرة الجمعية، والأمر لا يتعلق فقط بمجزرة باريس، بل بمئات الآلاف من الضحايا، الذين ذهبوا ثمناً للاستقلال.

وكانت أزمة فرنسية – جزائرية قد اندلعت عام 2021، إثر تصريحات أدلى بها الرئيس ماكرون خلال لقائه بمجموعة من الطلبة الجزائريين ومزدوجي الجنسية، وفرنسيين من المعمرين السابقين من بقايا الإرث الاستعماري. وأشار فيها إلى أن الجزائر تستغل ذكريات الحرب الدموية، وهو ما أثار ردود فعل شديدة من جانب الجزائر، التي أكدت شرعية الكفاح الوطني، والذي واجهته السلطات الفرنسية المحتلة بجرائم إبادة جماعية وجرائم ضدّ الإنسانية، وهي جرائم لا تسقط بالتقادم.

إن عزوف الدول الاستعمارية عن الاعتذار بخصوص ماضيها الاستعماري، يُبقي ملف العلاقات الدولية بينها وبين الدول التي كانت مستعمَرة (بالفتح)، شائكاً ومعقداً وملتبساً، لاسيّما بخصوص مسار العدالة المنشودة، والأمر أحياناً يتعلق برأي عام مضلَّل، عاش على أمجاد بلاده الاستعمارية، وهو ما يمكن ملاحظته من وجهات نظر وآراء لليمين المتطرّف، والاتجاهات الشعبوية الجديدة.

وكانت الهيئة العامة المصرية للكتاب، قد نشرت ترجمة لكتاب بعنوان «زمن الاعتذار - مواجهة الماضي الاستعماري بشجاعة» في العام 2019، لمجموعة مؤلفين غربيين، جاء فيه على لسانهم: إن الدول الاستعمارية الغربية تستنكف الاعتذار عن ماضيها، ويلتجئ بعضها تحت ضغط الرأي العام، والمنظمات الدولية لحقوق الإنسان، إلى الاكتفاء بكلمات غامضة وعمومية، مثل إبداء الأسف إزاء الدول الضحية، دون الإقرار رسمياً بحدوث ارتكابات جسيمة، وتقديم اعتذار واضح وصريح، الذي يقتضي تحمّل المسؤولية، في إطار مبادئ العدالة الانتقالية، تلك التي تستتبع التعويض المادي والمعنوي عن الأذى الجسدي والنفسي لما أصاب الضحايا وذويهم من الأبناء والأحفاد، فضلاً عن الأجيال اللاحقة، فضلاً عن جبر الضرر الجماعي، بما فيه إبقاء الذاكرة حيّة.

لقد كابدت الدول المستعمَرة (بالفتح) من الإذلال لكرامتها الوطنية، إضافة إلى نهب ثرواتها على نحو ممنهج، الأمر الذي ترك ندوباً كبيرةً وجروحاً فاغرةً على تطور مجتمعاتها، فضلاً عن إعاقة تنميتها، وإذا كان مؤتمر ديربن (جنوب إفريقيا 2001) قد طالب الولايات المتحدة الاعتذار عن حرب الإبادة للسكان الأصليين، فإنه وجّه رسالةً إلى المجتمع الدولي دعاه فيها إلى ضرورة إدانة الجرائم العنصرية، التي ارتُكبت تحت عناوين تفوّق «الرجل الأبيض» و«المدنية» و«التحضّر»، وغيرها من المسوّغات الأيديولوجية، التي تعكزت عليها الدول الاستعمارية، سواء بريطانيا أم فرنسا أم بلجيكا أم هولندا أم البرتغال أم إيطاليا أم ألمانيا أم إسبانيا أم غيرها.

ولعل مثل هذا الأمر يصبح أكثر إلحاحاً وراهنيةً، لما يجري اليوم في غزة وعموم فلسطين، تلك التي تقوم بها سلطة الاحتلال من مجازر وحرب إبادة جماعية، وهو ما أكّدته محكمة العدل الدولية كموقف قانوني وأخلاقي وإنساني.

drhussainshaban21@gmail.com

 

 

11 سبتمبر الروسية

عبدالحسين شعبان

 

 

النسخة الروسية من 11 سبتمبر، التي ظهّرها تنظيم «داعش خراسان» بمهاجمة قاعة كروكوس، خلال حفل موسيقي في منطقة كراسناغورسك شمال غربي موسكو، أثارت العديد من التساؤلات الخاصة والعامة عن دوافع تلك العملية، وقد نشرت وكالة «رويترز» تفاصيل قالت فيها: إن المشتبه فيهم وصلوا إلى موسكو عبر تركيا.

وقال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي فاز مؤخراً بالانتخابات بنسبة 87% من الأصوات، إن العالم الإسلامي نفسه يعاني أيديولوجية هؤلاء، لكنه استدرك بأن هذا الهجوم يتّسق مع حملة أوسع من تهديدات أوكرانيا لبلاده.

فهل مثل هذه العملية الكبرى إعلان جديد عن بدء نشاط موسّع ل«داعش» وأخواتها؟ علماً بأن «تنظيم القاعدة» أعاد نشاطه هذه الأيام في اليمن، وتمّ اختيار رئيس جديد له بعد مقتل خالد باطرفي زعيمه في العالم، والمدعو سيف العدل في مأرب.

والسؤال الأكبر، هل «داعش» غبّ الطلب؟ فهو يغيب ويظهر، ثم يعود ويختفي، وهل هدف «داعش» إذكاء نار الصراع بين روسيا والغرب؟ ثم كيف يتحرّك أنصاره؟ وثمة سؤال جوهري؟ لماذا لا يقدم «داعش» على أي عملية ضد إسرائيل؟ وهي تستبيح دماء أهل غزّة وتدنّس القدس وترتكب أبشع المجازر في فلسطين؟

وكانت السفيرة الأمريكية في العراق ألينا رومانوسكي قد صرحت: إن «داعش» لا يزال يمثّل تهديداً خطِراً في العراق، فهو يقوم بأعمال التجنيد والدعاية، وأعتقد بأن ذلك بحكم وجود بيئة حاضنة وأخرى منتجة وثالثة مساعدة، خصوصاً باستخدامه منصات العمل الرقمية، ناهيك عن متعاونين معه يمهدون السبيل للقيام بمهماته، لاسيما في ظل استمرار الحروب والنزاعات الأهلية في كل من اليمن وسوريا وليبيا والسودان، وهشاشة الدولة في لبنان والعراق بفعل أنظمة المحاصصة، ووجود ثغرات أمنية عديدة بما فيها الفساد المالي والإداري وتجارة المخدرات والاتجار بالبشر وتجارة السلاح، وهذه كلها عوامل مترابطة ومتشابكة مع أعمال الإرهاب.

فهل استفاق «داعش» حقيقةً في العراق وسوريا؟ وثمة مخاوف أن يستيقظ في لبنان في ظل أزمته الاقتصادية الخانقة، والاستهدافات «الإسرائيلية» المستمرة، وغياب الوحدة الوطنية، وعدم التوصّل إلى اتفاق لانتخاب رئيس للجمهورية.

الأساس في تفقيس بيض الإرهاب، هو بيئة التعصّب، سواء كانت دينية أم طائفية أم إثنية أم لغوية أم سلالية أم فكرية أم اجتماعية، لاسيّما في ظل الفقر والتفاوت الطبقي، وتفشي ظواهر الأمية والتخلف، وانتشار السلاح وضعف الدولة، ناهيك عن تسهيلات دولية تستقطب بعض الجماعات الإرهابية لمصالحها الخاصة.

التطرّف ابن التعصب ونتاجهما العنف، وهذا الأخير يستهدف الضحية بذاتها ولذاتها، وإذا ما ضرب عشوائياً وأصبح عابراً للحدود، بقصد إضعاف ثقة الدولة بنفسها وثقة المجتمع والفرد بالدولة، صار إرهاباً دولياً، والإرهاب الدولي يخضع للقوانين الدولية، إضافة إلى القوانين الوطنية، لاسيّما بارتكاب جرائم ضد الإنسانية وجرائم الإبادة الجماعية وجرائم الحرب، إضافة إلى جرائم العدوان وتهديد السلم والأمن الدوليين.

إن جريمة موسكو الإرهابية هي امتداد لعدد من جرائم العصر الإرهابية الكبرى، ولعل أبرزها اليوم جريمة الإبادة الجماعية، التي تمارسها السلطات الإسرائيلية، التي تمثّل إرهاب الدولة ضد سكان غزة الأبرياء العزل؛ حيث تتحدى إسرائيل قواعد القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة وقراراتها، وآخرها قرار وقف إطلاق النار، وتضع نفسها دولة خارجة عن القانون ومارقة وإرهابية بامتياز.

وبغض النظر عن الروايات المتعددة، فالمؤكد أن تنظيم «داعش» وأخواته، ما زال يعمل في العديد من البلدان، مستغلاً ثغرات أمنية لتنفيذ مخططاته الجهنمية، وغالباً ما تنقلب هذه المنظمات الإرهابية على صانعيها، فقد انقلب تنظيم المجاهدين الأفغان، الذي أصبح تنظيم «القاعدة» على عدد من الدول الغربية والإسلامية، التي أسهمت في إنشائه ليقوم بمهمة مواجهة الاحتلال السوفييتي لأفغانستان بعد غزوها عام 1979، لكن التنظيم، برئاسة أسامة بن لادن، استدار بمواجهاته وخططه الاستراتيجية، فاختار برجي التجارة العالمية في نيويورك، في عملية غير مسبوقة، وكان ذلك بداية مرحلة جديدة للإرهاب الدولي منذ عام 2001، وبدأت مرحلة لاحقة بعد احتلال الولايات المتحدة أفغانستان في العام نفسه، ومن ثم احتلال العراق في عام 2003، ليتم تفريخ التنظيم إلى تنظيم الدولة الإسلامية «داعش»، الذي احتل في عام 2014 الموصل وثلث الأراضي العراقية، كما احتل ثلث الأراضي السورية واختار الرقة عاصمة له.

الجدير بالذكر أن تنظيم «داعش خرسان»، كان قد نفذ هجوماً في مطلع شهر كانون الثاني/يناير 2024 في كرمان بإيران، في ذكرى مقتل قائد فيلق القدس قاسم سليماني، وأسفر الهجوم عن مقتل 103 أشخاص.

وبعيداً عن الاتهامات المتبادلة بمن يقف وراء «داعش» ويسهّل مهماته، فإن «الثقب الأسود» لا يزال موجوداً، والعالم بحاجة إلى الكشف عنه، وبالتالي علينا فهم طبيعة هذه الحركات، وماذا تريد؟ وكيف تعمل؟ وما هي سبل مواجهتها؟ فليس بالسلاح والأمن حسب، لأنها حركات تعتمد على الإرهاب والعنف كنظرية عمل، وبالتالي لابد من تفكيك وفضح منطلقاتها الفكرية، وسد الثغرات التي تعانيها مجتمعاتنا، بغض النظر عن أنظمتها، ولاسيما باعتماد معايير المواطنة المتساوية والمتكافئة، واتباع خطط مناسبة لمواجهتها، والحيلولة دون تمكينها من تجنيد الشباب، فضلاً عن الاهتمام بوسائل القوة الناعمة لرفع درجة وعي المجتمع وتعزيز مناعتها.

drhussainshaban21@gmail.com

 

 

شركاءالوطن

ومشاركون في اتخاذ القرار

 

عبد الحسين شعبان

 

 

 

حين وصلتني دعوة كريمة من مجلس كنائس الشرق الأوسط للمشاركة في طاولة مستديرة للحوار بعنوان "المساحات الدينية المشتركة في الشرق الأوسط"، بمناسبة عيد البشارة، الذي اعتمد عيدًا رسميًا في لبنان منذ العام 2010 (للمسيحيين والمسلمين)، وبمشاركة نوعية من عدد من البطاركة والمطارنة والأساقفة وعلماء الدين المسلمين والدروز والصوفيين، إضافة إلى شخصيات فكرية وثقافية وباحثين مدنيين بارزين، تساءلت مع نفسي، أثمة نموذج شرق أوسطي راهن للحياة المشتركة على صعيد مجتمعي؟ أم أن النموذج الذي نتحدّث عنه هو في الماضي وإن كان من حقنا أن نتطلع إلى نموذج مستقبلي؟ الماضي مضى ولا يمكن إعادته، ولكن يمكن استعادته، بمعنى التفكّر والتبصّر وأخذ العبر والدروس منه، لأن الأمر يتعلّق بالمعنى والدلالة.

والمقصود بالمعنى قبول الآخر والإقرار بالتنوّع والتعددية، في إطار المشترك الإنساني، أما الدلالة فهي تنطلق من المعايير الإنسانية كذلك، تلك التي تتجسّد في في مفهوم المواطنة المتساوية والمتكافئة  في الدولة العصرية.

وإذا كان ثمة هويّة جامعة وموحّدة، فإن ثمة هويّات فرعية لا بدّ من الإقرار بحقها في الوجود والتطوّر على قدم المساواة مع الهويّات الأخرى، سواء كانت دينية أم إثنية أم غيرها، وبغضّ النظر عن حجمها وعددها، لأن عدم الاعتراف بالهويّات الفرعية يؤدي إلى اندلاع صراعات ونزاعات، بعضها يتّخذ طابعًا مسلحًا على المستويين المحلي والدولي، بفعل نزعات التسيّد والهيمنة، ودائمًا ما تحاول  القوى المتنفذة بسط سيطرتها على الآخر بحجج ومسوّغات مختلفة، فتارة بزعم "الأغلبية"، وأخرى بحجّة "امتلاك الحقيقة"، وثالثة "ادعاء الأفضليات"، والهدف فرض الاستتباع والخضوع على الآخر.

وفي منطقتنا نشأت ثلاث ديانات أساسية ، ونمت وترعرعت وانتشرت منها، وبالتالي فإنها أديان مشرقية بالأساس، وأقصد بذلك اليهودية والمسيحية والإسلام، وقد عَرفت هذه البلاد تاريخيًا نوعًا من التعايش والقبول والتسامح والتفاعل، وإن شهدت كذلك صراعات ونزاعات، بعضها كان دمويًا، لكنه لا يمكن مقارنتها بما حصل في أوروبا من حروب الطوائف، يكفي أن نذكر الصراع اللوثري – الكاثوليكي، الذي استمر 5 قرون، حتى تم ّالاتفاق على تسويته في العام 2016.

            وكان المطران منيب يونان، قد حدّثني قائلًا: لقد وضعنا الخلافات والإختلافات التي تعود إلى القرون الوسطى وراء ظهورنا، وتركنا أمرها للدراسات الفقهيّة المستفيضة للّاهوتيين من الفريقين ومن يريد أن يدلو بدلوه فيها، فقلت في خلوتي، ألا يستقيم مثل هذا الحل السحري البسيط جدًا لوضع حد للخلافات بين السنة والشيعة؟ وهو خلاف لا معنى له، مستمر منذ 14 قرنًا، ثم ألا يمكن وضع حد للتمييز بحق المسيحيين على أساس المواطنة الكاملة والتامة، بكلّ أركانها، ولاسيّما الحريّة، وخصوصًا حريّة التعبير والاعتقاد والمساواة والعدالة والشراكة والمشاركة؟ وتحت قاعدة "شركاء في الوطن ومشاركون باتخاذ القرار"، لاسيّما في الدول المتعددة الثقافات.

 ولعلّ وثيقة الأخوّة الإنسانية،التي وقّعها في أبو ظبي شيخ الأزهر الشريف الدكتور أحمد الطيّب وقداسة البابا فرنسيس في 4 شباط / فبراير 2019 ، والتي اعتُبرت نداءً لكل ضمير حي بنبذ العنف البغيض والتطرف الأعمى، وهي "دعوة للمصالحة والتآخي" بين أتباع جميع الأديان وبين عموم البشر، يمكن أن تكون خلفية فكرية لذلك.

            منذ فترة ليست بالقصيرة دعوت إلى ويستفاليا عربية ومشرقية، ومعاهدة ويستفاليا هي التي وضعت حدًا لحرب الثلاثين عامًا والتي دامت من 1618 لغاية 1648، حيث تم توقيع صلح أو معاهدة ويستفاليا التي نصّت على الاعتراف بالحريّات الدينية واحترام استقلال الدول (المقاطعات المتفرقة حينها) وسيادتها، ومنع أي اضطهاد ديني أو طائفي، والتعاون فيما بينها لإزالة الحواجز الاقتصادية والعوائق التجارية، وإنهاء الحروب الأهلية وعوامل التفتيت الداخلية ووضع قواعد عامة أساسها عقد اجتماعي قانوني جديد يستبعد أي إقصاء أو إلغاء.

            هل يمكن التفكير كنخب ثقافية مدنية ودينية في حوار يشمل أتباع الديانات؟ ولاسيّما المسلمين والمسيحيين، وقبل ذلك أتباع الطوائف المختلفة في إطار الأمم الأربعة التي تعيش في هذه المنطقة وهم الترك والفرس والكرد والعرب، دون أن ننسى الأمم الأخرى، وكمدخل للحوار يمكن البدء بمثقفين من تلك الأمم، وكان هذا أحد مساعي سمو الأمير الحسن بن طلال بتنظيم حوار العام 2018، أطلق عليه "حوار أعمدة الأمة الأربعة"، ضم نخبًا من هذه القوميات، امتدادًا لحوارات أسبق.

            لقد كان ثمن تفريغ المنطقة من مجاميع ثقافية دينية وإثنية فادحًا، وهو ما حصل لليهود في المشرق والمغرب، إضافة إلى تهجير المسيحيين واستهدافهم طيلة العقود الأربعة ونيّف المنصرمة ، وكذلك استهداف الإيزيديين، وخصوصًا من جانب تنظيم داعش الإرهابي، وكذلك استهداف الصابئة المندائيين، وذلك كي يقال أن العرب والمسلمين ليس بإمكانهم التعايش مع الآخر، وهو ما عزفت عليه "إسرائيل"، منذ تأسيسها، التي زعمت أن صراعها مع العرب هو صراع ديني إقصائي وإلغائي حول قيم السماء وليس حول اغتصاب الحقوق واحتلال الأرض، وإجلاء سكان البلاد الأصليين، وذلك ما دأبت عليه الرواية الصهيونية ، التي لا بدّ من مواجهتها ودحضها بالأفعال وليس بالأقوال.

            هل يصبح طريق ويستفاليا العربية والمشرقية سالكًا؟ إذًا لا بدّ من فك الاشتباكات وإنهاء بؤر التوتر في المنطقة عبر الحوار، لبناء سلام دائم وتفاهم مستمر، وفقًا للمشترك الإنساني في كلّ بلد وعلى المستوى الإقليمي، وذلك في إطار المصالح المتبادلة واحترام الخصوصيات وعدم التدخّل بالشؤون الداخلية، والبحث عن سُبل توسيع الحياة المشتركة، وتلك على ما أعتقد رسالة مجلس كنائس الشرق الأوسط. 

 

 

 

الموصل والأمن السيبراني

 

عبد الحسين شعبان

 

            تركت الثورة العلمية التكنولوجية تأثيرًا كبيرًا على نظام الاتصالات والمواصلات والإعلام، بل على عموم حياة الناس، لدرجة أصبح ما قبلها لا يشبه ما بعدها، لاسيّما في ظلّ العولمة بوجهيها الشديد التوحش، وهو الغالب الشائع، والإيجابي، والمقصود به عولمة العلوم والتكنولوجيا والثقافة والحقوق والعمران والجمال، وإن كان ثمة عقبات أمام البلدان النامية للاستفادة منه.

وبات العلم اليوم مختلفًا بفعل هيمنة وسائل الاتصال وتكنولوجيا المعلومات والإعلام والطفرة الرقمية "الديجيتل"، وخصوصًا في ظلّ الطور الرابع من الثورة الصناعية، التي اتّسمت باقتصادات المعرفة والذكاء الاصطناعي، الذي سيغيّر حياة الناس بالكامل.

            وأصبح  للعالم الافتراضي حضور كبير، وبقدر ما ساهم في تقريب المسافات والتواصل المباشر بين البشر، فإنه باعد في الوقت نفسه بينهم، لدرجة أن كلّ فرد صار منشغلًا بحاله دون أن يفكّر بغيره، حتى وإن كان يعيش معه في منزل واحد، مستغنيًا عنه بالاتصالات البعيدة عبر العالم.

لقد انتقل الإنسان من عالم المعارف إلى عالم المعلومات، بعد أن كانت المعلومة هي الأساس في المعرفة، وباعتمادها تتوالد الحكمة، حسب الفيلسوف البريطاني بيرتراند راسل، وصار الإعلام الجديد منتجًا للمعرفة وليس ناقلًا للمعلومات، وغدت الشائعة أحيانًا بديلًا عن العلم، والخبر بديل عن الرأي، حيث أصبح لزامًا حماية المعلومة من التحريف أو التشويه أو السرقة أو التلاعب، الأمر الذي أخذ منحىً خطيرًا، حين "تطوّر" من انتهاك الأسرار الشخصية إلى اختراق الأمن الوطني، وذلك ما نقصد به الأمن والإعلام السيبراني.

            يتنازع رأيان بشأن الإعلام الجديد والأمن السيبراني، أولهما - محافظ  يريد منع أو تحريم أو وضع رقابة صارمة وشديدة على وسائل الإعلام الحديث، وذلك تحت مبرر "الأضرار" التي قد يسببها وصولًا إلى "الجرائم" التي قد يرتكبها، ومثل هذا الرأي ينتمي إلى الماضي. وثانيهما - الإعلام المنفتح، الذي يرفض أي نوع من الرقابة التي تستغلّها الحكومات بحجب الآراء والمعلومات والأخبار التي تحدّ من حريّة التعبير، دون أن يعني عدم وجود أضرار أو ارتكابات خطيرة، لكن طرق معالجتها تختلف عن عملية المنع أو التحريم القديمة.

            تلك الآراء والمفاهيم احتوتها محاضرة وحوار مفتوح لي مع طلبة الدراسات العليا في كلية النور الجامعة وجامعة الموصل، وبحضور إعلاميين وأكاديميين بارزين، بينهم ثامر معيوف وعبد العزيز الجبوري وحسن عبد الحميد، ووجدت من الضروري التفريق بين حريّة التعبير وحريّة التشهير بإحداث نوع من التوازن، ورفع درجة وعي الرأي العام ومناعته، دون المساس بحريّة التعبير، مع الأخذ بنظر الاعتبار التقنيات الجديدة التي تشكله، مثل الإعلام الرقمي والاقتصاد والحماية، فالأمن السيبراني هو مجموعة الوسائل التكنولوجية والتنظيمية والإدارية، التي يتمّ اتّباعها لمنع الاستخدام غير المصرّح به، أو سوء استخدامه لضمان استمرارية عمل نظم المعلومات وحقّ الوصول إليها من جهة، وتعزيز حماية سريّة الخصوصيات الشخصية أو العامة المتعلقة بالأمن الوطني من جهة أخرى.

            وتساءلت، كيف استخدم تنظيم "داعش" الإرهابي التقنيات الحديثة ليعطّل جميع وسائل الاتصال خلال الخطاب الشهير الذي ألقاه أبو بكر البغدادي في جامع النوري بعد احتلال الموصل؟ وهو تساؤل بحاجة إلى إجابات معمّقة بشأن الأمن السيبراني، فلم يعد الصحافي، حسب ألبير كامو "مؤرخ اللحظة"، وهي مهنة محددة يقوم بها من يمتلك مؤهلات معينة، فإنه في الإعلام الجديد بإمكان أي فرد أن يقوم بهذا الدور من خلال الإيميل والهاتف النقال ووسائل التواصل الاجتماعي. وأصبح التحكّم بذلك غير ممكن، بل يقترب الإلى مستحيل أحيانًا، فما بالك حين تسخّر قوىً كبرى إمكاناتها العلمية والتكنولوجية كجزء من الصراع الكوني؟

            وفي ذلك وجهان، أحدهما إيجابي وقد جرت الإشارة إليه؛ والآخر سلبي، وهو خطِر وثمنه باهظ، لاسيّما حين يتمّ عولمة الكراهية والتعصّب ووليده التطرّف ونتاجهما العنف والإرهاب بما فيه السيبراني.

            ظلّ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يكرّر: روسيا.. روسيا.. روسيا.. وذلك ردًّا على اتّهام خصومه باختراق روسيا وسائل الإعلام الأمريكية لصالحه في انتخابات 2016، وقبل ذلك في انتخابات العام 2008 و 2012، ويضيف ربما الصين، والخرق وصل إلى مكتب التحقيقات الفيدرالي FBI ووكالة المخابرات المركزية CIA، وإدارات ووزارات ومؤسسات أخرى. وعن طريق الصدفة تم اكتشاف عمليات الخرق بعد تحقيق أجرته شركة فاير أي، وذكرت صحيفة نيويورك تايمز أن 12 إدارة تعرّضت للاختراق السيبراني.

 لقد كان موضوع الأمن السيبراني وتُهم الاختراق هو الزاد الذي ملأ الموائد وتغذت عليه إدارة الحزبين الديمقراطي والجمهوري، وهو اليوم على أشدّه بين الرئيس جو بايدن وغريمه دونالد ترامب.

            والأمن السيبراني اليوم هو جزء من الصراع الدولي، لأنه يمثّل القوّة الناعمة التي تتغلغل بسرعة خارقة دون مقدمات لتصل إلى الاقتصاد والتكنولوجيا والثقافة وجميع مناحي الحياة، وذلك عبر ما يسمّى بالفضاء السيبراني والردع السيبراني والهجوم السيبراني والجريمة السيبرانية، وهي أسلحة الحرب الجديدة.

            والأمن السيبراني هو أمن المعلومات، وعلى الدول حماية أنظمتها وممتلكاتها وبرامجها وخططها من الهجمات الرقمية، كي لا تتسلّل لها هذه القوى الخفية والناعمة عبر برنامجيات خبيثة وهجمات تطبيقية وعمليات الابتزاز والتهديد بالمعلومات السريّة.

            وبسبب اتهام روسيا بخرق أمن الولايات المتحدة، فقد اتّخذت الأخيرة سلسلة عقوبات ضدّها، لكن الرئيس بوتين عبّر عن فخره بالعمليات الصعبة، التي نفّذتها الأجهزة السيبرانية التابعة لجهاز أمن الدولة KGB.

لم يعد العالم الورقي قادرًا على منافسة العالم الرقمي، فالحضارة لا تعود إلى الوراء ولا تنظر إلى الخلف، إلّا بالاستفادة من دروس الماضي، وعلينا فهم التطوّر الحاصل والتعاطي معه دون انتظار، وخارج دوائر العواطف.

 

 

 

 

ثلاثية التنمية

عبد الحسين شعبان

 

ثلاثة عناصر أساسية تقوم عليها عملية التنمية، أولها - الثقافة؛ وثانيها - السلام؛ وثالثها - العدالة؛ وهذه العناصر مترابطة عضوياً، حتى إن كانت منفصلة، ولكلّ منها حقله.

فالثقافة ركيزة أساسية للتنمية، وهي مصدر كلّ تنوّع وينبوع كلّ ازدهار، وهي صمّام أمان لنجاح التنمية، والانتقال من التخلّف إلى التقدّم، لأنها تمثّل روح التنمية.

أما السلام فهو الحاضنة التي تزدهر فيها عملية التنمية، ولا تنمية من دون سلام، لأن الحروب والنزاعات المسلّحة تحول دون إنجاز مشاريع التنمية، وبالتالي تضع عقبات وعراقيل كبيرة أمامها.

وهدف التنمية هو العدالة وتحسين حياة الناس، فلا تنمية حقيقية من دون عدالة اجتماعية بحدّها الأدنى، والمقصود بذلك توفير مستلزمات حياة حرّة كريمة وعمل مناسب، والاستثمار في التعليم والصحّة والضمان الاجتماعي، فضلاً عن تأمين المتطلّبات الأولية للحياة الروحية للناس بتوسيع خياراتهم.

وهناك أربعة أبعاد للتنمية؛ أولها - الاقتصادي؛ وثانيها - الاجتماعي؛ وثالثها - الثقافي؛ ورابعها - البيئية؛ وهذه الأبعاد جميعها ترتبط ارتباطاً عضوياً بالسلام، فكلما ازدهرت ثقافة السلام انخفضت ثقافة الحرب.

وحسب الاقتصادي الياباني يوشيهارا كيونو، أن أحد أسباب تطوّر اليابان، هو امتلاكها ثقافة مناسبة، وادّخاره واستثماره في التعليم، وكانت الكونفوشيوسية خلفية فكرية لتنمية اليابان، مثلما كانت التاوية والبوذية مصدراً ملهماً لتنمية الصين الجديدة، وسنغافورة، وكوريا، وساهمت اللوثرية في نجاح دول اسكندنافيا في عملية التنمية.

ويمكن للثقافة العربية - الإسلامية أن تكون مرجعاً مهماً لعملية التنمية في البلدان العربية، إذا ما توفّرت مستلزمات الإرادة السياسية، والإدارة الناجحة والرشيدة، والمساءلة، والشفافية، وذلك بقراءة انفتاحية على المستقبل بعيداً عن القراءة الماضوية الانغلاقية.

مفهومان للتنمية، أحدهما ضيّق، والمقصود به النمو الاقتصادي، والآخر واسع، والمقصود به التنمية الإنسانية، التي تقوم على المساواة وعدم التمييز والحريّة والعدالة، وتحسين حياة الناس، وذلك أساس للشرعية السياسية، التي لا بدّ أن تستند إلى المشروعية القانونية، والمقصود «حكم القانون»، وحسب مونتيسكيو، فإن القانون ينبغي أن يطبّق على الحاكم والمحكوم، فهو مثل الموت لا ينبغي أن يستثني أحداً.

وكانت مؤسسة البابطين الثقافية (الكويت)، نظّمت مؤتمرها العالمي الثالث في القاهرة تحت عنوان «المنتدى العالمي الثالث لثقافة السلام العادل»، وناقش في جزء منه مشكلات الدولة الوطنية في ما يتعلّق بالتنمية والسلام العادل، فإضافة إلى التحديات الخارجية، ولاسيّما محاولات فرض الهيمنة والاستتباع ومشاكل العولمة والذكاء الاصطناعي والتنكّر لحقوق الشعب العربي الفلسطيني، فثمة تحديات داخلية، أساسها الدولة الريعية، واتّساع الهوّة بين الحكام والمحكومين وضعف البنية المؤسسية واختلال مفهوم المواطنة، وصعود ما دونه إلى ما فوقه، لاسيّما تفشي الطائفية والعشائرية والجهوية وعموم الهويّات الفرعية، خصوصاً حين يتم تجاهلها، وعدم حل مشكلة المجموعات الثقافية، فضلاً عن قلة مشاركة المرأة في الحياة العامة، وتضخّم الجهاز البيروقراطي.

ولبناء تنمية مستدامة لا بدّ من الترابط بينها وبين الثقافة والسلام والعدالة، وهذه جميعها تتعزّز بالتراكم والتفاعل والتداخل، وتلك جدلية تمتدّ من التراث إلى الحداثة، فثمة علاقة بين الأصالة والمعاصرة، مثلما هناك علاقة بين الأنا والآخر، ونحن والغرب، ما يحتاج إلى مشروع نهضوي حضاري عربي بالتعاون والتنسيق والتكامل بين البلدان العربية، علماً بأن اللغة العربية هي التي يمكن أن تجعل التكامل ممكناً، في ظلّ تاريخ وثقافة مشتركة، ومصالح ومنافع آنية ومستقبلية جامعة، وثمة لحظة وعي جديد لابدّ من التقاطها اعتماداً على كلّ ما قام به نهضويو القرن التاسع عشر، واستناداً إلى تطوّر المجتمع البشري، وكلّ ما أنجزه على هذا الصعيد.

وإذا كان اختيار «السلام العادل» طريقاً للتنمية، فقد كان ذلك جوهر رسالة عبد العزيز سعود البابطين، الذي عمل على الإعداد لهذا المؤتمر، لكنه رحل قبل أن تتكحّل عينه بتحقيقه، وترك لنا تراثاً غنياً على هذا الصعيد، وهو ما بلوره كحصيلة لتجربته في كتابه «تأملات من أجل سلام عادل»، بتحديد 7 أسس لتحقيقه، الأول - الاحترام والصدق بحيث يصبح السلام صيغة تعليمية فاعلة تُربى عليها الأجيال، الثاني - السلام العادل ضرورة، لأن المجتمعات الإنسانية بطبيعتها لا تستمرّ إلّا بالتواصل فيما بينها، مادياً وقيمياً، والثالث - السلام العادل إجماع، بمعنى التمييز بين التوافق السياسي وبين الإجماع الاجتماعي، فالأول لا يدوم، في حين أن الثاني يقوم على القيم، وهي لا تختلف حولها الإنسانية، والرابع - السلام العادل حاجة تاريخية، بمعنى نقل السلام من مستوى الصورة إلى مستوى الواقع الفعلي، بحيث يكون حاجة تاريخية ملحّة، والخامس - السلام العادل مسار متواصل، أي أنه غير مكتمل، فالإنسانية هي مشروع يظلّ أبد الدهر يكتمل لبنة لبنة؛ والسادس - السلام العادل ثقافة، وذلك بجعلها شكلاً معيشاً ومتاحاً وممكناً؛ والسابع - السلام العادل تربية وتعليم، أي الاهتمام بثقافة السلام من الحضانة وحتى الجامعة وفي الحياة أيضاً.

وتلك هي صرخة البابطين القلبية الموجهة للبشرية جمعاء، قصد اعتناق السلام كقيمة عليا، كما عبّر عن ذلك مايكل فريندو، وزير خارجية مالطا الأسبق، وأضاف أن «العالم بلا سلام هو عالم مظلم»، وتلك رسالة عالمية دعا إليها المهاتما غاندي لاعتماد المقاومة السلمية اللّاعنفية.

drhussainshaban21@gmail.com

 

الموصل: ذاكرة وأسئلة وأمل

 

عبد الحسين شعبان

 

            "نحتاج إلى خيال كبير لنتصوّر تلك الفظاعات التي تفرضها علينا الأشياء"، ذلك ما كتبه الناقد الفرنسي جيرارد جينيه، وهو ما كنت أردّده مع نفسي، وأستعيده طيلة الأيام التي قضيتها في الموصل، خصوصًا حين شاهدت مظاهر الخراب والدمار، التي خلّفها "داعش" بعد احتلاله للمدينة (2014 - 2017)، حيث اسْتمعت إلى قصص وحكايات أقرب إلى الخيال.

            وأكثر ما استوقفني هو موضوع التعليم، الذي خصّصتْ له جامعة الموصل العريقة، التي تأسست في العام 1967، مؤتمرًا دوليًا ضخمًا بمناسبة اليوم العالمي لمنع التطرّف العنيف (12 شباط / فبراير) بالتعاون مع كرسي اليونيسكو والوكالة الجامعية الفرنكوفونية وجامعة النور الفتيّة الواعدة، التي زرتها هي الأخرى، واطّلعت على منجزها بعد إعادة إعمارها.

            في تلك الأصبوحة الموصلية المشرقة الجميلة، طرحت السؤال المحوري، لماذا استهدف داعش التربية والتعليم بشكل خاص؟ وهو سؤال فاصل بين المدنية والتوحّش، وبين الظلامية والتنوير. فكيف لمن يريد "بناء دولة" أن يدمّر صروحًا أكاديميةً وثقافيةً وتاريخيةً؟ ألم يقل الرسول العظيم "أطلبوا العلم ولو في الصين"، أوَليس ما جاء في القرآن الكريم "وقل ربي زدني علمًا" ؟ فكيف إذًا يُجهز على 83% من مباني جامعة الموصل، ويفكّك أجهزتها المخبرية، ويستولي على 300 عجلة وواسطة نقل وسيارة، ويعدم 5 ملايين كتاب ومطبوع ومخطوطة، في محاولة لتغيير فكر الناس، فهل تمكّن هولاكو، الذي أحرق ربع مليون كتاب ومخطوطة، من تغيير فكر الناس وقناعاتهم؟ وهل استطاع "هولوكوست الكتب"، الذي قام به هتلر في ألمانيا والنمسا، تجريف العقول وتحريف الأفكار، أم أن ذلك ولّد العكس؟

لم يتمكّن "داعش" بالترغيب أو الترهيب، من الاستحواذ على العقول أو استمالة القلوب، بل إنه، بأفعاله الإرهابية، حوّل السخط إزاء التمييز ومحاولات الاستتباع، التي كان الموصليون يعانون منها، إلى ردّ فعل ضدّه، وهكذا تدريجيًا، لم يجد بيئةً حاضنة أو مستعدّة أو مولّدة لأفكاره. والموصليون، الذين جار الزمان عليهم، لم يرضخوا ولم يستسلموا، بل نظموا مقاومة ثقافية ضدّ داعش وأساليبه الإرهابية بالصبر والمطاولة والدفاع والامتناع، وبجميع الوسائل تصدوا لمحاولات احتوائهم أو إرغامهم، ودفعوا بسبب ذلك أثمانًا باهظة.

وما أن انتهت العاصفة الهوجاء، حتى شمّر الموصليون عن سواعدهم لإعادة بناء مدينتهم بمحبة وألفة وتعاون، وحاولوا تدويل قضيتهم للحفاظ على التراث والإرث الحضاري لمدينتهم، كما حدثني البروفيسور طارق القصار، رئيس قسم العلوم السياسية، وكان لليونيسكو دور في ذلك، وهو ما أشارت إليه البروفيسورة قبس حسن، مديرة كرسي اليونيسكو بجامعة الموصل، وشارك المجتمع المدني بحيوية في ذلك، لاسيّما مبادرات بعض الشباب، وهو ما لمسته من إعادة بناء قاعة "مؤسسة بيتنا للثقافة".

            وحسب رئيس الجامعة، البروفيسور قصي كمال الدين، فقد استعادت الجامعة عافيتها، وهي تضمّ 24 كليّة و 142 قسمًا و7 مراكز أبحاث مختصّة، من بينها "مركز السلام والتعايش السلمي"، وثمة مساعدات وصلتها من عدد من البلدان، مثل ألمانيا وفرنسا وهولندا وإيطاليا ودولة الإمارات العربية المتحدة والكويت، إضافة إلى المتحف البريطاني، وغيرها.

سأل الجنرال شارل ديغول، وهو يتقدّم بجيشه لتحرير فرنسا من الاحتلال النازي: وماذا عن الجامعات؟ فقيل له أن جامعة السوربون تناقش أطروحات الدكتوراه والماجستير في الأقبية، ويتلقى الطلبة محاضراتهم ودروسهم في أجواء من السريّة والكتمان، وهنا علّق ديغول يومها: إذًا فرنسا بخير طالما الجامعات بخير، وهذا ما فعلته الموصل في مقاومتها "لداعش"، فلم تتوقّف الدراسة في الجامعة، بل كانت امتحانات الطلبة قد استُكملت في مناطق بديلة، خارج سيطرة داعش، ومع مطلع العام 2018، أُعيدت إليها الحياة، حيث كانت المدينة بأكملها في ورشة عمل جماعية متصلة، فأُعيد بناء وترميم المباني المهدّمة والمكتبات وتجهيز المختبرات، ومع بداية العام الدراسي (2023 - 2024)، بلغ عدد الطلبة في جامعة الموصل لوحدها نحو 60 ألف طالب.

            وبقدر ما في الموصل الحدباء "أم الربيعين" من حزن وذاكرة وسؤال، لماذا حدث كلّ ذلك؟ وكيف حدث؟ ومن المسؤول؟ لكن المهم عندها أنه ثمة أمل وإرادة وإصرار على إعادة البناء والنجاح والتفوّق، وهو ما لمسته في النخبة الأكاديمية والفكرية والثقافية، التي تفيض إبداعًا وجمالًا وعلمًا.

 كل ما في الموصل يدلّ على أنك أمام مدينة عظيمة، فهناك ينتصب تمثال أبو تمّام، وهنا تستذكر أبو فراس الحمداني وقوله الأثير:

أَقولُ وَقَد ناحَت بِقُربي حَمامَةٌ / أَيا جارَتا هَل تَشعُرينَ بِحالي؟

وعلى الضفة الأخرى تستعيد اسحاق الموصلي وتلميذه زرياب، الذي أضاف وتراً خامساً لآلة العود، وهو صاحب فن الإتيكيت وأول من أدخل لعبة الشطرنج إلى أوروبا. كما يحضر التاريخ الإنساني بكلّ ثقله من حضارات الأكديين إلى الأشوريين، وصولًا إلى أعلام الموصل ورواد الثقافة العراقية المعاصرة، وقسم منهم من الأصدقاء، مع استحضار الدور الاقتصادي والاجتماعي والعسكري والتربوي لمدينة الموصل، التي تعرف التنوّع والتعايش القومي والديني والاجتماعي والثقافي.

            وإذا كان الانتصار على "داعش" عسكريًا قد حصل، فثمة جبهات بحاجة إلى تعزيز وتعضيد، مثل الجبهة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والقانونية والقضائية والإعلامية والمدنية والأمنية والاستخباراتية والدينية، وذلك لاستكمال الجهة التعليمية والتربوية، لتوفير الأمن التعليمي بشكل خاص والأمن الإنساني بشكل عام، وتلك هي إحدى مخرجات مؤتمر الموصل وكرسي اليونيسكو.

 

رهان بوتين

 

عبد الحسين شعبان

 

هل وصل العالم إلى حافة المواجهة؟ سؤال بدأ يكبر مع استمرار الحرب الروسية في أوكرانيا، منذ 24 فبراير/ شباط 2022، حيث بدا الأمر أكثر وضوحاً، تكتلاً ضدّ تكتل، خصوصاً بتعزيز المحور الروسي - الصيني، الذي اقتربت منه إيران إلى حدود كبيرة، مقابل المحور الغربي، الذي تقوده الولايات المتحدة، مستنفرة حلف الناتو والاتحاد الأوروبي، لتقديم الدعم المادي والمعنوي إلى أوكرانيا، التي وضَعها حظّها العاثر في طريق روسيا.

وكان زبيغنيو بريجينسكي، مستشار الأمن القومي في عهد الرئيس الأمريكي، جيمي كارتر (1977 - 1981)، كتب «من دون أوكرانيا لا يمكن لروسيا أن تُصبح قطباً سيادياً لعالم متعدد الأقطاب»، فقد كانت أوكرانيا تاريخياً جزءاً من المجال الحيوي لروسيا، وترتبط معها بروابط عميقة، لكنها ثاني دولة انسلخت عن الاتحاد السوفييتي في عام 1991، ومذ حصلت على استقلالها، أصبحت عيناها على الغرب، وسعت للانضمام إلى حلف «الناتو» والاتحاد الأوروبي، الأمر الذي جعل روسيا مرتابة من وجوده على حدودها، علماً بأن واشنطن كانت قدمت تعهدات لغورباتشوف بعدم انضمام دول شرق أوروبا إلى «الناتو»، بعد تفكك حلف وارسو، لكن واشنطن تنصّلت من وعودها، وسعت إلى تطويق روسيا، بل خنقها داخل حدودها.

لهذه الأسباب يمكن تفهم قيام روسيا ببدء الحرب على أوكرانيا، لكن من يستطيع بدء الحرب، لا يمكنه تحديد موعد نهايتها، فثمة عوامل جديدة تتداخل في مجرياتها، فهل غامر الرئيس بوتين، حين أقدم على الاعتراف بجمهورية الدومباس، والتي تبعها شنّ الحرب على أوكرانيا؟ وإذا كان الاعتقاد أن ضمّ مناطق من شرق أوكرانيا إلى روسيا، سيمرّ كما حصل في ضمّ شبه جزيرة القرم (2014)، فإن مثل هذا الاعتقاد كان خاطئاً تماماً، لأن الأمر مختلف هذه المرّة، فأوكرانيا تمثّل بوابة روسيا إلى الغرب.

صحيح أن وضع منصّات صاروخية من جانب حلف الناتو على حدود روسيا، يعتبر استفزازاً كبيراً لها، وتهديداً لأمنها القومي، ومصالحها الحيوية، وهو ما حذّرت منه، إلّا أن عواقب شنّ الحرب واستمرارها كانت كارثية على الجانبين.

وسبق لبوتين أن اتهم واشنطن بتنظيم انقلاب في أوكرانيا لدعم أنصارها وإقصاء الرئيس المنتخب الموالي لروسيا فيكتور يانوكوفتش، واستبداله بشخصية موالية للغرب، عبر حركة احتجاج شعبية، تلك التي عُرفت باسم «الثورة الملوّنة» (2014)، التي أوصلت بترو بورشنكو، ومن بعده فلاديمير زيلينسكي إلى السلطة.

من يقرأ تاريخ العلاقات الأوكرانية - الروسية، يفاجأ بأن هذين البلدين السلافيين الجارين، اللذين يدينان بالديانة المسيحية وفقا للمذهب الأرثوذكسي، ارتبطا منذ ألف عام بتشابك مصيريهما بشكل عضوي، ما يجعل الصراع اليوم أكثر مأساوية، وتعقيداً، إذْ إن أكثر من 20% من الروس والأوكرانيين، يرتبطون بعلاقات عائلية، حتى أن بعض الأوكرانيين يعتبرون أنفسهم روسيين، وتاريخياً، حين تكونت أول دولة في كييف، في العصور الوسطى، أطلقت على نفسها اسم روسيا.

فقط في الحرب العالمية الأولى أُعلن عن قيام دولة أوكرانيا المستقلة، وهكذا أصبحت حقيقة قائمة، لكنه جرى التحاقها بالاتحاد السوفييتي في عام 1922. وباستثناء فترة قصيرة، أصيب بعض الأوكرانيين بالحيرة، فرحبوا بالنازيين كمحررين، بعد أن شنّ الألمان النازيين الحرب على الاتحاد السوفييتي في 22 يونيو/ حزيران1941، على أمل تحرير أنفسهم من الهيمنة الروسية والقبضة الشيوعية، ولكن حين شعروا بأن الألمان يستهدفونهم أيضاً، انخرطوا في الدفاع عن الوطن السوفييتي، حيث ساهم الجيش الأحمر في تحريرهم في عام 1945.

وخلال فترة الحكم السوفييتي، وسّعت أوكرانيا حدودها ﺑ 165 ألف كم2، وبزيادة سكانية لهذه المناطق بنحو 11 مليون نسمة، مستفيدة من «دلال»، و«كرم» زعيمين تناوبا على قيادة الحزب والدولة، وهما نيكيتا خروتشوف، وليونيد بريجينيف. ولعلّنا نستذكر إقدام خروتشوف على منح شبه جزيرة القرم إليها في عام 1956، لكن بعد 58 عاماً أقدم بوتين على استعادتها، وفصلها عن أوكرانيا في محاولة ترميم التاريخ والجغرافيا معاً، على حدّ تعبيره، ما زاد من حساسية الأوكرانيين المرتفعة أصلاً من محاولات «الترويس».

تضم أوكرانيا مجموعات ثقافية عدة، مثل البولونيين والرومانيين والهنغاريين، إضافة إلى مجموعة عرقية روسية كبيرة، وهو ما حاول بوتين استثماره بذريعة «أكرنتهم»، والتمييز ضدّهم بفرض اللغة الأوكرانية عليهم، بما في ذلك في الدونباس، وشبه جزيرة القرم، خصوصاً بتقرّبها من الغرب، وإدارة ظهرها للعلاقات التاريخية الأوكرانية - الروسية.

لقد أنهكت واشنطن موسكو خلال الحرب الباردة بسباق التسلّح، خصوصاً ببرنامج حرب النجوم، في عهد الرئيس رونالد ريغان، والآن تسعى لتوريطها في أفغانستان جديدة، وشعارها التضحية بآخر أوكراني، كما كان شعارها التضحية بآخر أفغاني في مواجهة السوفييت، رداً على هزيمة فيتنام.

كل هذه الأوضاع عبّر عنها، بحزن وألم، الكاتب والديبلوماسي السابق الروسي - الأوكراني، فلاديمير فيدوروفسكي، حين كتب يقول «هذه الحرب تمزقني، كانت والدتي روسية، ووالدي بطلاً أوكرانياً في الحرب العالمية الثانية...»، ولم يكتف بذلك، بل حذّر من القطيعة النهائية بين روسيا والغرب، ومدى خطورة حصولها، في كتابه الموسوم «بوتين - أوكرانيا: الأوجه الخفية»، الصادر في بيروت، العام الماضي.

drhussainshaban21@gmail.com

 

 

ستالين مُستعاد

 

عبد الحسين شعبان

 

«بعد موتي، ستُرمى على قبري أكوام النفايات، لكن رياح التاريخ ستبدّدها»، هذا ما توقّعه جوزيف ستالين قبل بضعة أشهر من وفاته في 5 آذار/ مارس 1953، ولعل موجة الحنين، التي تجتاح بعض الشباب الروسي إلى «الدكتاتور الأحمر»، هي التي تذكّر بذلك، إذ سيعتبر ستالين «الشخصية المجيدة في روسيا الخالدة»، خصوصاً بعد اندلاع الحرب الروسية - الأوكرانية (24 شباط/ فبراير 2022)، ذلك ما توصّل إليه الكاتب والدبلوماسي، الذي عمل مع غورباتشوف، وكان المتحدّث باسم البريسترويكا، فلاديمير فيدروفسكي، في كتابه المثير «بوتين: أوكرانيا - الأوجه الخفيّة». وهو ما يؤكده مركز ليفادا الروسي المستقل والمختص بالأبحاث الاجتماعية وإجراء الاستطلاعات، الذي صنّف ستالين على رأس الشخصيات التاريخية الأكثر تميّزاً.

وهكذا يُبرَّأ ستالين «الكاريزمي، الجذاب» من الأخطاء والخطايا، التي ارتبطت باسمه، فهو صاحب الإرادة الفولاذية والعناد الثوري والتواضع الإنساني، وتلك الصفات أخذت تقرّبه من لينين سلفه المباشر، ومن القيصر بطرس الأكبر، ومن «إيفان الرهيب» باعتبارهم رموزاً لقوّة روسيا.

وتترافق استعادة ستالين، الذي «تسلّم روسيا الفقيرة وحوّلها إلى قوّة عظمى»، مع توجّه فلاديمير بوتين، الذي تولّى المسؤولية الأولى في روسيا منذ عام 2000، وحاول «إعادة العافية إلى روسيا» بعد أن غرقت في الفساد والانحلال، على إثر الإطاحة بالنظام الشيوعي.

وحين تُقدّم صورة ستالين - بوتين، فإنها تُظهر الاختلاف والتعارض مع صورتي ميخائيل غورباتشوف وبوريس يلتسين، على المستويات السياسية والنفسية والأخلاقية، فالأول ضعيف وساذج، والثاني عاجز وسكّير، في حين أن ستالين يقدَّم باعتباره رجل الدولة المستقيم، ويبرر الستالينيون الجدد أعمال القمع التي قام بها بأنها كانت من اختراع لينين. وكانت المُفكرة والاقتصادية الماركسية روزا لوكسمبورغ، المعروفة باسم «روزا الحمراء» والتي أطلق عليها لينين اسم «صقر الماركسية المحلّق»، أول من احتجّ على هذا النهج، وكتبت إلى لينين تقول «الثورة ليست حمام دم»، مثلما عارضها الروائي مكسيم غوركي، الذي مات مكسوراً بعد أن اضطرّ إلى أن يتدثّر بالصمت، وانتقد كارل كاوتسكي، الديكتاتورية البلشفية، التي قامت عليها السلطة السوفييتية، علماً بأنه يُعتبر أحد زعماء الأممية الثانية، والمنظّر الأبرز بعد وفاة صديقه إنجلز، وكان يُلقّب ﺑ«أبو الماركسية»، علماً بأن لينين خالف الكثير من أطروحاته وردّ على أفكاره بكتاب عنوانه «الثورة البروليتارية والمرتد كاوتسكي».

والحجج التي تقف إلى جانب ستالين كنت قد سمعتها من العديد من الشيوعيين بشكل مباشر، مثل القيادي البارز آرا خاجادور والمفكر حسقيل قوجمان، اللذين ظلّا، حتى آخر أيامهما، يتغنّيان بمجد ستالين ويرفضان الاتهامات الموجهة إليه، علماً بأن بعض الكتابات تستبعد الأرقام المبالغة بشأن الضحايا، وتختصرهم إلى مجرد بضع مئات آلاف، في حين يقدّرهم آخرون بالملايين، وهنا يمكن استعادة كلام ينسب إلى ستالين «موت رجل واحد مأساة، أما موت ملايين فتلك إحصائية».

كان ستالين بارعاً في الدراما السياسية، فهو شديد التواضع في ملبسه ومسكنه ومأكله، غرفته تتزيّن بسجادتين بسيطتين وستائر سميكة وطاولة خشب مصقول وسماور للشاي وعلبة تبع وغليونين أو ثلاثة، وهذا ما يذكره المؤرخون، وقد رفض بناء قصر خاص له وأصرّ على البقاء في موسكو خلال الاجتياح النازي.

كما استطاع ستالين اللعب على الخصوم، فتحالف مع زينوفييف وكامينيف ضدّ تروتسكي، ثمّ أطاح بوخارين وتومسكي وريكوف، وتدريجياً أعدم بعض هؤلاء الزعماء، بمن فيهم بوخارين، الذي كان يلقّب «بمحبوب الحزب» وأعدم ابنه معه بتهم الخيانة والتجسس في محاكماته الشهيرة، التي أودت بالكادر القيادي، وصعد هؤلاء منصة الإعدام وهم يهتفون بحياة ستالين، وتلك مفارقة أخرى.

وفي ذاكرتي الطفلية، استعدت صورة ستالين، التي رأيتها أول مرّة مخبأة في إحدى كتب عمي شوقي شعبان المدرسية، فسألت عن هذا الرجل، وإذا بي أسمع اسم «ستالين»، باعتباره رئيساً للشيوعيين في العالم. وحصلت المفاجأة والدهشة حينما عدت من المدرسة بعد أسابيع، ورأيت عيني عمي شوقي الزرقاوين الجميلتين وقد اغرورقتا بالدموع، وبدا الحزن واضحاً على وجه عمي ضياء، الذي كان من أنصار السلام، ثم عرفت الخبر: لقد مات ستالين، وبسذاجة طفولية سألت، هل ستلبس (جدتي) السواد حداداً عليه؟

ولم يمض وقت طويل، وإذا بالصورة «المشرقة» تبهت وتتغيّر، بل اهتزت بعد التقرير الذي قدّمه خروتشوف إلى المؤتمر العشرين للحزب العام 1956، وتدريجياً أخذت تسبّب لي نفوراً بمرور الأيام، ارتباطاً مع تعمّق وعيي، وانخفاض منسوب الحمولة الأيديولوجية، خصوصاً بالانتقال من اليقينية الإيمانية التبشيرية إلى التساؤلية العقلانية النقدية.

النظرة التقديسية إلى حد المعصومية أخذت تتبخّر، حتى وإن كانت ببطء شديد، بسبب ادعاء الأفضليات، وغضّ الطرف عن الأخطاء والنواقص، بل الانتهاكات السافرة لحقوق الإنسان، فضلاً عن منظومة الدعاية التوجيهية المضلّلة، التي كانت تُضخّ إلينا، ناهيك عن الجهل بالكثير من الحقائق والمعطيات الصادمة.

وكان صدور كتاب إسحق دويتشر الموسوم «ستالين - سيرة سياسية»، قد أحدث هزّة جديدة وعنيفة في النفوس، لا سيّما بكشفه معلومات لم نكن نعرفها.

drhussainshaban21@gmail.com

 

 

الحزام والطريق:

زمن الصين أم ماذا؟

 

عبد الحسين شعبان

 

            يقول وانغ إيوي، مؤلف كتاب "الحزام والطريق - مسؤوليات عالمية تضطلع بها الصين بعد نهضتها"، "إن المبادرة ليست مقطوعة موسيقية تعزفها الصين بصورة منفردة، بل إنها سيمفونية جماعية لكلّ الدول على طول خط الحزام والطريق"، ويضيف أنها لا تؤدي دورًا في التعبير عن حلم الصين فحسب، بل في ترجمة أهداف الأمم المتحدة في السلام والتنمية، ولاسيّما التنمية المستدامة لعام 2030، وتجسّد المسؤوليات العالمية، التي تضطّلع بها الصين بعد نهضتها.

            فهل نحن أمام لحظة مفصلية وربما مقدمة لتغيير عظيم؟ أم ثمة عقبات وعراقيل وتحديات تعترض هذه المبادرة الاستراتيجية؟ فالغرب يسعى لإعادة الضبط والسيطرة والتحكم، كي لا تفلت إدارة العالم من بين يديه، ولهذا فهو يعمل جاهدًا لتطوير الرأسمالية لخشيته من غروب شمسها وسطوع شمس الشرق.

            ولا ندري إن كان ما يترشح إلينا عن مبادرة الصين "العالمية" حقيقة أم خيال؟ فكلّ ما فيها يتعلّق بالحياة والمستقبل، الذي سيُحدث فيها تغيرات غير مسبوقة في الملبس والمأكل والمسكن ووسائل النقل، بحيث تكون أكثر وفرةً وجمالًا وسهولةً، خصوصًا حين يتم تدشين الطور الخامس للثورة الصناعية، بكل ما فيها من ثورة الاتصالات والمواصلات وتكنولوجيا الإعلام والطفرة الرقمية (الديجتل) واقتصاد المعرفة والذكاء الاصطناعي.

            ويُفترض أن تشارك 64 دولة مع الصين في تنفيذ المبادرة، علمًا بأن المشاريع المرشحة تقدّر ﺑ 900 مشروع، وتبلغ حجم الاستثمارات 800 مليار دولار أمريكي، وخلال العام الجاري 2024، ستنبثق عنها تشكيلة موحدة وشبكة موحدة لمناطق التجارة الحرّة المتميّزة، بمعايير عالية بين الدول الواقعة على امتدادها، وتتحوّل بفضلها الممرات الاستراتيجية المؤدية إلى بحر البلطيق والبحر الأبيض المتوسط والمحيط الهندي إلى ممرات مائية مترابطة وآمنة. وحسبما يقول مؤلف الكتاب، ستكون في العام 2049 رابطة مشتركة من المصالح والمسؤوليات والمصير في السياسة والمنشآت والتجارة والتمويل وعلاقات الشعوب.

            حين دعت الصين لهذه المبادرة العملاقة، انطلقت من ثلاث مبادئ هي: التشاور والتشارك والتنافع في النقاش والبناء والفوائد، على أساس العدالة والمصلحة. فهل ستتفلت هذه المبادرة عن قوانين العولمة، خصوصًا بوجهها المتوحّش؟ يجيب عن هذا السؤال دعاة المبادرة بالقول: أنها ستكون عولمة متسامحة على عكس العولمة الغربية، التي أخضعت شرق العالم وأريافه ومدنه ومناطقه القارية لمناطقه الساحلية وللغرب عمومًا.

ولكن ما هي ملامح العولمة المتسامحة؟ يقول أنصار العولمة، ذات الوجه الإنساني، إنها ستتّسم بالتوازن وبتبادل المنفعة، خصوصًا بربط آسيا بأوروبا وأفريقيا، وبالاستفادة من مسيرة التصنيع الصيني خلال اﻟ 35 عامًا المنصرمة، والتي انتقلت من الحضارة الزراعية إلى الحضارة الصناعية والمعلوماتية، حيث تُعتبر الصين اليوم، إحدى الدول الكبيرة الرائدة على المستوى العالمي.

            ربما ذلك يؤكّد نظرية الأوراسيا (أوروبا وآسيا)، التي قيل عنها قلب العالم، ومن يتحكّم فيه يستطيع السيطرة على العالم، فهل يمكن تجاوز "المركزية الغربية"؟ وهل سيكون القرن الحالي صينيًا؟ أم ثمة واقع أخذ يتشكّل؟ وهو تعددية الأقطاب، حيث تتنوّع المصالح وتتشابك المنافع وتتفاعل المستلزمات، وسوف لا يكون مركزًا واحدًا، بل ثمة مراكز متعددة وأشكال متنوعة على أساس الترابط والتواصل.

            وللمبادرة بُعد جغرافي وآخر إنساني، وهذا هو الأهم، أي المشتركات الإنسانية، التي تربط البشر، بغضّ النظر عن خلفياتهم الفكرية وقومياتهم وأديانهم ولغاتهم وأجناسهم ولون بشرتهم وانحدارهم الاجتماعي، وستؤدي العلاقات التجارية والاقتصادية بين البلدان والشعوب التي تشملها المبادرة إلى اقترابها من بعضها، في ظلّ أوضاع سلمية وعلى أساس المساواة والعدالة والمصالح المشتركة والمنافع المتبادلة، وذلك هو ما يحتاجه العالم.

            ويُعتبر الممر الهندي، الذي يربط جنوب آسيا بأوروبا عبر الخليج العربي والشرق الأوسط، والذي قرّرته قمة العشرين (2023) المنعقدة في نيودلهي، منافسًا لمبادرة الطريق والحزام، التي رسمت طريقها الصين   باستراتيجية تنموية كاملة ومشتركة، تقوم على ثلاثة أبعاد:

 أولها - البُعد الزماني، ما بين الماضي والحاضر؛

وثانيها - البُعد المكاني، والمقصود بذلك الدول التي يمتد إليها الحزام والطريق؛

وثالثها - البعد الذاتي، أي قدرة المبادرة على دفع عملية التنمية؛ وحلّ المشكلات العالمية، وأولها الفقر وردم الفجوة بين الغنى والفقر في ظلّ نظام يقوم على الإدارة الرشيدة "الحوكمة".

            حتى الآن، وقّعت الصين على اتفاقيات للتعاون في بناء "الحزام والطريق" مع أكثر من 30 دولة، واتّخذت العديد من المنظمات الدولية موقفًا إيجابيًا منها بما فيها الأمم المتحدة. ولعلّ ذلك ما أثار حفيظة واشنطن، التي تعتقد أن الصين تسعى إلى فرض الهيمنة على التكامل الأوروآسيوي، إضافة إلى وضع نظام بريتون وودز الصيني موضع التطبيق، وهو نظام نقدي تستند فيه الوحدة الاقتصادية القياسية على كمية ثابتة من الذهب (المعيار الذهبي)، والسعي لاستعادة تايوان، والتعتيم على هدر حقوق الإنسان في التيبت، وإيجاد حلّ لمشكلة طاقة الانتاج الفائضة، وتلك خشية الغرب، وخصوصًا الولايات المتحدة، من منافستها على القيادة.

            ويمكنني القول أنه حتى لو نجحت المبادرة وأحدثت تأثيرات كبيرة جيوسياسية وجيواقتصادية لصالح الصين، لكنها لا تلغي دور الولايات المتحدة، علمًا بأن الصين من جانبها تبذل جهودًا إيجابية للتعاون مع الولايات المتحدة، بما يعزز التنمية الاقتصادية ويحقق الاستقرار العالمي والإقليمي.

 

 

 

 

لغز "أوراسيا"

 

عبد الحسين شعبان

 

            يتخطّى اسم أوراسيا الكلمة المركبة، التي تجمع أوروبا وأسيا، ليصل إلى جمع الجغرافيا بالسياسة (جيوبوليتيك)، في إطار استراتيجية دولية، تتصارع فيها وحولها قوى كبرى من داخلها ومن خارجها. وقديمًا قيل من يمتلك أوراسيا يهيمن على العالم.

            تبلغ مساحة أوراسيا 55 مليون كم2، أي ما يعادل 37% من مساحة اليابسة على سطح كوكب الأرض، ويسكنها 70% من سكان العالم (نحو 5 مليارات وثلث المليار نسمة)، وكان بريجينسكي، مستشار الأمن القومي في عهد الرئيس جيمي كارتر (1977 - 1981)، يُدرك أهمية البعد الجيوستراتيجي لهذه المنطقة، ولاسيّما نفوذ الولايات المتحدة فيها، خصوصًا صراعها الأيديولوجي مع الدب الروسي في فترة الحرب الباردة، وهو ما تناوله بعمق في كتابه "رقعة الشطرنج الكبرى".

            ويُعتبر المنظّر البريطاني هالفورد ماكيندر، المتخصص بالجيوبوليتيكا، من أبرز دعاة فكرة الأوراسيا، منذ مطلع القرن العشرين، وهي الفكرة التي عاد وطرحها المفكر الروسي ألكسندر دوغين، إثر انهيار الاتحاد السوفيتي، وهو ما تبناه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين منذ العام 2000.

 

قدّم دوغين "الأوراسية" باعتبارها النظرية الرابعة بديلًا للنظريات التي سادت في القرن العشرين (الاشتراكية والفاشية والليبرالية) بدعوته تعزيز القوة الجيوبولوتيكية لروسيا، والتكامل مع المحاور البرية التابعة في "الحزام الأوراسي" و"الحزام الباسيفيكي"، و"الحزام الأورو أفريقي"، والشرق الأوسط (وبضمنه العالم العربي)، الذي أصبح ساحة اشتباك جيوبوليتيكي مع الولايات المتحدة.

 وحسب دوغين، فإن هدف روسيا هو تكوين قطب عالمي منافس للقطب الأمريكي. وقد أثارت أطروحاته اهتمامًا من لدن نخبة من الأكاديميين والمعنيين العرب، وكنت قد التقيته واستمعت إليه في محاضرة تفصيلية بهذا الخصوص.

أما بريجينسكي فتحليله يرتكز على ضرورة هيمنة الولايات المتحدة على البر الأوراسي، الذي يوجد فيه الجزء الأكبر من سكان العالم، وأيضًا الموارد الطبيعية والنشاط الاقتصادي، ويمتد من البرتغال إلى مضيق بيرينغ (يفصل بين قارة آسيا وقارة أمريكا الشمالية)، ومن لابلاند (أقصى الجزء الشمالي من فنلندا) إلى ماليزيا، وهي التي تمثّل رقعة الشطرنج الكبرى، والذي يسيطر عليها، سيتم الاعتراف له بالقوّة والتفوّق.

            وبالعودة إلى ماكيندر، فإن "المنطقة المحورية" الأوراسية، هي تلك التي تضمّ سيبيريا والجزء الأكبر من آسيا الوسطى، إضافة إلى الأرض المركزية، التي تشمل وسط أوروبا وشرقها بوصفها تشكّل نقاط الانطلاق الحيوية لتحقيق السيطرة على القارة، وبالتالي على العالم، في حين أن بريجينسكي حدّد 5 قوى جيواستراتيجية في أوراسيا هي: فرنسا وألمانيا وروسيا والصين والهند، مستبعدًا دولًا مثل بريطانيا واليابان وإندونيسيا على أهميتها، أما دولًا مثل أوكرانيا وأذربيجان وكوريا الجنوبية وتركيا وإيران، فيمكن أن تؤدي دور المحاور الجيوبوليتكية الثابتة المهمة.

            وانطلاقًا من هذا المفهوم، نلحظ أن التوجّه الأمريكي نحو دول آسيا الوسطى وأفغانستان والعراق خصوصًا، والعالم العربي عمومًا، وأوروبا الشرقية والقوقاز وجورجيا، ازداد كثافةً وتأثيرًا، بما فيه الصراعات الدائرة اليوم مع إيران وفي وسوريا ولبنان واليمن، وهو جزء من المواجهة مع روسيا وحليفتها الصين، سواء كان الأمر على نحو مباشر أو غير مباشر، والأمر يبدو أكثر وضوحًا في أوكرانيا وسوريا.

وإذا كان هذا هو الفهم الأمريكي لأوراسيا، فإن الفهم الروسي الأوراسي يعاكسه بشدّة، بما فيه تبريره للحرب في أوكرانيا باعتبارها "دفاعًا عن النفس"، في حرب مفتوحة اقتصاديًا وسياسيًا واستراتيجيًا، لاسيّما فيما يتعلّق باستيراد بعض دول أوروبا الغاز الروسي (ألمانيا وفرنسا).

 وكان بريجينسكي يُدرك أنه "من دون أوكرانيا، لا يمكن لروسيا أن تصبح قطبًا سياديًا لعالم متعدد الأقطاب"، والتعددية القطبية التي نظّر لها، منذ مطلع السبعينيات في كتابه "بين عصرين - أمريكا والعصر التكنوتروني"، هي التي أخذت تتبلور بعد صعود التنّين الصيني وبداية معافاة روسيا لتشكيل محور موازي للمحور الغربي.

            وإذا كانت الحروب في أوراسيا قديمة ومعتّقة، فهي تتجدّد باستمرار تحت عناوين إثنية أو عرقية أو دينية، وهي حروب موروثة من الماضي السحيق، حتى وإن كانت تختفي وتظهر، فإن الجديد فيها هو الدور غير الأوراسي، بدخول الولايات المتحدة طرفًا أساسيًا بمحاولة نصب صواريخ بالستية لحلف الناتو على الحدود الأوكرانية -  الروسية، بهدف إضعاف روسيا المتحالفة مع الصين، منافسها الاقتصادي والتكنولوجي الأول.

صحيح أن الروس والأوكرانيين ينتمون إلى العرق السلافي، ويدينون بالديانة المسيحية وفقًا للمذهب الأرثوذكسي، ويرتبطون تاريخيًا بعلاقات عميقة ومتشابكة، إلّا أن الحساسيات القومية القديمة، وخصوصًا في الحقبة السوفيتية، تركت ندوبًا عميقةً في الذاكرة الجمعية الأوكرانية. وقد يكون من باب ردّ الفعل ميلها إلى الغرب وتطلّعها لتكون جزء منه، بعد انفصالها عن الاتحاد السوفيتي في العام 1991.

في الصراعات الأوراسية الجديدة - القديمة (الصين - تايوان)، لا يمكن إغفال دور واشنطن، إضافة إلى تأجيج الصراع الياباني - الصيني، مثلما هو بين كوريا الجنوبية والفليبين، وذلك بإيقاظ روح الكراهية والحقد، بما يعيق الرغبة في وصول هذا الجزء الأوراسي إلى الاستقرار والتعاون. وعلى حافة أوراسيا، تتعرّض غزّة إلى حرب إبادة جماعية من أكثر الحروب بشاعةً وتوحشًا من جانب "إسرائيل"، وبدعم ومساندة مادية ومعنوية من واشنطن، ولعلّ تلك الحروب وغيرها هي امتداد لتلك الحروب المعتقة، بما فيها "مبادرة الحزام والطريق"، التي تسعى واشنطن لعرقلتها بشتى السبل، لأنها تُدرك أن أحد مفاتيح حل لغز أوراسيا بيد الصين.

 

             

 

 

 

 

طوفان الأقصى

صراع الإرادات والعقول

 

د. عبد الحسين شعبان

 

تمهيد

            لم تكن عملية "طوفان الأقصى" حدثًا عابرًا في المواجهة المستمرة منذ ثلاثة أرباع القرن، بين المقاومة الفلسطينية والاحتلال "الإسرائيلي"، بل تعتبر حدثًا مفصليًا في تاريخ الصراع، فما بعد 7 تشرين الأول / أكتوبر 2023 سوف لا يشبه ما قبله.

واجهت غزّة التي تبلغ مساحتها 365 كم2، لا تعادل سوى 2% من مساحة فلسطين البالغة 27 ألف كم2، حربًا عالمية بكلّ معنى الكلمة، وتعرّضت إلى إبادة شاملة في ظلّ دعم غربي لا محدود، تبريرًا وتسويقًا للعدوان في الأمم المتحدة وخارجها، تحت حجّة "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها". فكيف يمكن فهم ما حصل؟

 

زمام المبادرة

            بدأت عملية طوفان الأقصى بمباغتة فائقة البراعة، ليلة عيد الفرقان "الإسرائيلي"، حين اقتحمت قوات المقاومة "حماس"، المواقع "الإسرائيلية" في غلاف غزّة، بسرعة مذهلة ودقيقة في الساعة الثالثة صباحًا، في 22 موقعًا عسكريًا، وخلال ثلاث ساعات تمكّنت من اغتيال بضع مئات من الضباط والجنود "الإسرائيليين"، واقتادت ما يزيد عن 100 "إسرائيلي"، بمن فيهم اثنين من العسكريين من جهاز "الشين بيت - شاباك" (المختصّ بالأمن الداخلي، والذي يتبع لرئيس الوزراء مباشرةً)، وعدد من الأجانب، لاحتجازهم كأسرى، أطلقت سراح بعضهم (من المدنيين وحملة جنسيات أخرى)، في عملية تبادل للأسرى، واحتفظت ببعضهم الآخر، ولاسيّما العسكريين، ضمن خطة للضغط على "إسرائيل" لتحرير الأسرى الفلسطينيين من السجون "الإسرائيلية".

            وتكمن أهمية عملية طوفان الأقصى في امتلاك زمام المبادرة أولًا، وثانيًا، ما حققته من اختراق نظرية الأمن "الإسرائيلي"، التي ظلّت مهيمنة لعقود من الزمن، وكيف أُخذ "الإسرائيليون" على حين غرّة؟ ويعود ذلك، في جزء كبير منه، إلى دقة التخطيط والتنفيذ والمعلومات الاستخبارية، حيث تم تحديد المعركة والمبادءة في اختيار لحظة الهجوم، وتكاد تكون هذه العملية الجريئة الكبرى والأولى، التي تدار فلسطينيًا بعد حرب تشرين الأول / أكتوبر1973 التحررية، التي حاولت فيها القوات المصرية والسورية مواجهة نظرية الأمن "الإسرائيلي"، حين اختارت هي تحديد لحظة المواجهة، وبدء المعركة، في حين كانت "إسرائيل" في المعارك الأخرى، هي التي تفرض المعركة بشنّها العدوان.

 

أركان نظرية الأمن "الإسرائيلي"

            ساهمت عملية طوفان الأقصى في خلخلة الأركان التي تقوم عليها نظرية الأمن "الإسرائيلي"؛ وأهمها:

أولها – حرب المعلومات: التفوق الاستخباري، ففي جميع حروب "إسرائيل" ابتداءً من حرب العام 1948 أو في العدوان الثلاثي العام 1956 (الإنكلو - فرنسي "الإسرائيلي") أو في عدوان 5 حزيران / يونيو المعروف ﺑ "الأيام الستة" العام 1967 أو في الحروب على لبنان وغزّة وغيرها، كانت الاستخبارات "الإسرائيلية" الموساد، (جهاز الاستخبارات الخارجي، الذي يرتبط برئيس الوزراء مباشرة)، تمتلك معلومات أكثر مما يمتلكه الجانب العربي والجانب الفلسطيني بكثير، بل إن المعلومات الاستخبارية العربية والفلسطينية، كانت شحيحة جدًا، لكن عملية طوفان الأقصى أظهرت هشاشة التفوق الاستخباري والأمني "الإسرائيلي"، حين هاجمت قوات فلسطينية فدائية، لا تزيد عن بضعة مئات، أكثر من عشرين ألف عسكري "إسرائيلي"، وعرضتها للانكشاف، والفضل يعود، في جزء كبير منه إلى الدقة الاستخبارية الفلسطينية والحصافة الأمنية، وخطط التمويه والإيهام، التي قامت بها بسرية كاملة، ناهيك عن الشجاعة في اتخاذ القرار والتنفيذ، على الرغم من امتلاك الاستخبارات "الإسرائيلية" آخر اختراعات العلم وابتكارات التكنولوجيا.

لقد تمكّنت استخبارات المقاومة، على بساطتها وقلّة إمكاناتها، من الحفاظ على سريّة عملها وتحديد ساعة المواجهة، وإنزال ضربة مفاجئة وغير محسوبة بالمنظومة الاستخباراتية والأمنية "الإسرائيلية"، التي لم تكتشف خطة المقاومة، سواء في اتخاذ القرار، أو في التنفيذ والإداء بإعداد محكم ورصين لهذه العملية، التي استغرقت نحو عام من التحضير المضني.

وثانيها – حرب العلوم: التفوّق العلمي والتكنولوجي، وهذه هي الأخرى تمّ التغلّب عليها، حين اختارت المقاومة لحظة الهجوم، وهكذا كانت الإرادة والحق في مواجهة التكنولوجيا والباطل، فلم ينفع ادّعاء "إسرائيل" بامتلاكها أسرار الذكاء الاصطناعي، وتفوقها على الفلسطينيين والعرب، وتصنيف نفسها كدولة متقدمة، فقد تمكنت المقاومة بأدوات وأسلحة بسيطة، وخطة محكمة، أن تحقق نتائج  مذهلة، وأنزلت ضربة غير متوقعة بالقوات "الإسرائيلية"، علمًا بأنها تمتلك أسلحة متطوّرة ومعدّات واستعدادات وتهيئة، ومنظومات دفاع مدعومة غربيًا، وخصوصًا من جانب الولايات المتحدة، كما حافظت المقاومة، طيلة الفترة المنصرمة، على سريّة بناء الأنفاق، وجهزتها بأسباب الحياة دون أن تعرف "إسرائيل" وعملائها، فضلًا عن أنها، حتى بعد اجتياح غزة، لم تتمكن من الوصول إليها.

 لقد أظهرت، عملية طوفان الأقصى، "إسرائيل" عارية على الملأ، لدرجة أخذت تستنجد بحلفائها لدعمها، وقامت بعد ذلك بعملية انتقامية في حرب إبادة مفتوحة مثّلت فضيحة للضمير العالمي، وكشفت بما لا يدع مجالًا للشك عن زيف إدّعاءات بعض دعاة حقوق الإنسان وقيم العدالة والحريّة على المستوى العالمي.

 وتمكّنت المقاومة خلال هجومها من الحصول على أسرار ومعلومات خطيرة، لا تتعلّق بالجوانب الأمنية والاستخباراتية فحسب، بل على بعض أسرار المنظومة الدفاعية "الإسرائيلية"، وذلك بوضع يدها على كومبيوترات ومعلومات مخزونة وأرشيف كبير، سواء عنها أو عن بعض "المتعاونين" مع "إسرائيل" أو عن المنظومة "الأمنية الإسرائيلية".

وثالثها – حرب الإرادة، وهذه مرتبطة بالسياسة من جهة و بالعقيدة العسكرية من جهة أخرى، فقد كانت "إسرائيل" تدرك أن النجاح في الحرب يعتمد على قرار سياسي أولًا وخطة عسكرية ثانيًا، وسيكون تحديد نتائجها للأقوى، ولذلك كانت دائمًا ما تبدأ بتحديد مكان وزمان المعركة ، وتضع الخطط المسبقة لذلك، ولكن المقاومة، هذه المرّة، كانت هي المبادرة، وهي التي حددت مكان المعركة وزمانها، فألهبت حماسة فلسطين بكاملها، بما فيها داخل الأراضي المحتلة وعرب اﻟ 48، كما يقال، ناهيك عن الضفّة والقدس، وعموم مناصري العدالة والحق على المستوى الكوني.

وسعت المؤسسة السياسية والعسكرية "الإسرائيلية"، طيلة ثلاثة أرباع القرن، الإبقاء على تفوّقها من جهة، والعمل على تفكيك وإفشال أية محاولة لإعادة بناء القدرات الفلسطينية، عن طريق استراتيجية ما يسمى "قصّ الثيّل" أو "جزّ العشب"، وخلال العقدين المنصرمين عمدت "إسرائيل" إلى شنّ 4 حروب كبرى على غزّة بعد حصارها منذ العام 2007، وقبل عملية طوفان الأقصى، وهذه الحروب العدوانية هي:

الأولى في 27 كانون الأول / ديسمبر 2008 أسمتها "إسرائيل" "الرصاص المصبوب"، أما حماس فأطلقت عليها اسم "حرب الفرقان"، واستمرّت إلى يوم 18 كانون الثاني / يناير 2009.

 والثانية في 14 تشرين الثاني / نوفمبر 2012 ، وأسمتها "إسرائيل" "عامود السحاب"، ودعتها حماس "حجارة السجّيل" واستمرّت 8 أيام.

 أما الثالثة في 7 تموز / يوليو 2014 وأطلقت عليها "اسرائيل" اسم "الجرف الصامد" أما حماس فأطلقت عليها "العصف المأكول" واستمرتّ 51 يوماً، حيث توقّفت في 26 آب / أغسطس 2014 .

 والرابعة، في أعقاب "أحداث حي الجرّاح" في القدس والتي شهدت  مواجهات بين سكانها والسلطات "الإسرائيلية"، فانتفضت غزّة وكل فلسطين ما بعد الخط الأخضر تضامناً مع سكان حي الجرّاح في القدس، وشنّت "إسرائيل" عملية عدوانية كبرى أسمتها "عملية حارس الأسوار"، في حين أطلقت عليها حماس "معركة سيف القدس 2021"، حيث بدأ العدوان في 6 أيار / مايو 2021، وتوقّف إطلاق النار بوساطة دولية قادتها مصر في 21 أيار / مايو 2021.

وهكذا كانت "إسرائيل" في حالة "استرخاء" لاعتقادها أن المقاومة لا يمكنها شنّ حرب عليها بسبب الحصار والتجويع ومحاولات التفكيك المستمرة. ولعلّ ما يعزّز مثل هذا الاعتقاد هو بناء الجدار العازل اللّاشرعي واللّاقانوني واللّاإنساني. وبسببه كانت "إسرائيل" تشعر أنها أكثر "أمنًا"، خصوصًا وأن أية محاولة لاجتيازه تستهلك طاقة الفلسطينيين، حيث يبلغ طوله 770 كلم، وتم بناء 406 كلم منه، أي 52.7%، ويتراوح عرضه من 60– 150 مترًا في بعض المواقع، وبارتفاع يصل إلى 8 أمتار، وخندق يصل عمقه إلى أربعة أمتار لمنع مرور المركبات والمشاة، علمًا بأن محكمة العدل الدولية أصدرت قرارًا استشاريًا في 9 تموز / يوليو 2004 بعدم شرعية  الجدار.

ورابعها – وحدة القرار والتنفيذ (الإرادة والعمل): المقصود بذلك التفوق بوحدة القرار السياسي والعسكري والإعلامي، وهو ما عرفته جميع الحروب "الإسرائيلية"، باستثناء ما بعد عملية طوفان الأقصى، فكان الانشقاق واضحًا، فبنيامين نتانياهو يلوم المؤسسة العسكرية والأمنية بسبب عدم معرفتها بخطة طوفان الأقصى، سواء في مرحلة التخطيط أو الإعداد أو حين التنفيذ، وهذا يعني فشل المنظومتين الأمنية والعسكرية، في حين أنهما يلقيان اللوم على نتانياهو لتوريطهما في حرب مفتوحة  والخسائر التي منيت بها "إسرائيل"، وكلاهما يترصّد للآخر، فنتانياهو يريد زجّ الجيش بمعارك لا حدود لها، حتى لو سقط المئات من الجنود والضباط في هذه المعركة، بما في ذلك لو تم التضحية بالأسرى "الإسرائيليين"، طالما تؤدي إلى استمرار الحرب، لأنه يريد أن يظهر بمظهر "البطل"، كي يحمي نفسه بعد انتهاء المعارك من المثول أمام العدالة بتهم الفساد والتزوير، وبالمقابل، تترصّد له المؤسسة العسكرية والأمنية، التي تريد إنهاء المعارك حقنًا لدماء الجنود واستعجالًا بمحاكمته.

            ولعلّ ما أوقع "إسرائيل" في هذا الصراع، هو ازدياد حالات التذمر الشعبي، خصوصًا ضغوط عوائل الأسرى، والخسائر التي تعرّضت لها خلال عملية اجتياح غزّة، وذلك بعد تجريف الأجزاء الشمالية منها ودفع سكانها للهجرة إلى رفح باتجاه الحدود المصرية، فبعد أن كانت جميع الحروب "الإسرائيلية" تحظى باتفاق عام من الجيش والمستوطنين وسكان "إسرائيل"، فإن هذه الحرب أظهرت الانقسام الحاد بين حكم معزول ورئيس وزراء متّهم وجيش متذمّر، ومؤسسة أمنية مرتبكة، والأكثر من ذلك فإن الانقسام الشعبي والاصطفافات ضدّ حكومة نتانياهو التي سبقت الحرب ازدادت عمقًا، وآخرها امتناع وزراء من حضور اجتماعات مجلس الوزراء، وإعلان قادة عسكريين سابقين عن موقف مناقض لمواقف نتنياهو، وقرار جديد من المحكمة العليا بالتحقيق فيما حصل بطوفان الأقصى، حتى قبل انتهاء المعارك، وتلك مسألة تحدث لأول مرّة.

 

الحرب النفسية

            لم تخلخل عملية طوفان الأقصى نظرية الأمن "الإسرائيلي" فحسب، بل عملت على تبهيت صورة الجيش "الإسرائيلي" ، الذي لا يقهر وأسطورته، والذي يُقال عنه أقوى رابع جيش في العالم من حيث القدرات القتالية، والجيش الثامن عشر دوليًا، وهكذا انهارت صورة الردع "الإسرائيلي"، فالمحاصَرون والمجوَّعون انتصروا في لحظة تاريخية فارقة أذهلت العالم، الأمر الذي أدّى إلى استنفار حلفاء "إسرائيل"، الذين تسابقوا إلى تقديم النجدة العاجلة لها، والحج إلى تل أبيب حيث وصلها الرئيس الامريكي جو بايدن ووزير خارجية الولايات المتحدة بلنكن  ووزير دفاعها أوستن والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ورئيس وزراء بريطانيا ريشي سوناك والرئيس الألماني فرانك شتاينماير ورئيس إيطاليا سيرجيو ماتاريلا، وهو ما وفّر لها غطاءً معنويًا لشن الحرب المفتوحة على المدنيين، ورفض أي مطالبة بوقف العدوان، ترافقًا مع الفيتو الأمريكي في مجلس الأمن، بحجّة:

 استعادة الرهائن.

 القضاء على قادة حماس وتفكيك بنيتها التحتية وإخماد أي صوت للمقاومة.

 فرض سلطة أمنية جديدة على غزّة، صديقة "لإسرائيل".

 تشطير غزّة ببناء حاجز يفصل بين شمالها وجنوبها.

 تغيير نمط تفكير من يتبقى في فلسطين بتسفيه فكرة المقاومة، وإظهار عدم جدواها لقبول الأمر الواقع.

ودارت دورة الحرب النفسية الناعمة أيضًا في محاولة استبدال الوعي بالنصر لتحويله إلى موت ودموع ومأسي، وذلك بعد فشل "إسرائيل" في تحقيق أهدافها المعلنة، فضلًا عن فشلها في تسويق روايتها بخصوص قطع رؤوس الأطفال واغتصاب النساء، وكأن همّ المقاومة ذلك، ناهيك عن أن العملية كلّها استغرقت 3 ساعات، فكيف يمكن أن يحدث ما هدفت "إسرائيل "إلى تسويقه؟ وللأسف فإن رئيس أكبر دولة في العالم، جو بايدن، ردّد ذلك، وعاد واعتذر عند قصف "مستشفى المعمداني"، باتهام جهات موالية لإيران، ثم ثبت أن الصاروخ أمريكي وهو مستخدم لدى جيش الدفاع "الإسرائيلي".

 ومثل هذا الأمر ينبغي وضعه ضمن خطط المقاومة، لاسيّما استخدام كلّ ما يتعلّق بوسائل الحرب الناعمة، ووفقًا للذكاء الاصطناعي واقتصادات المعرفة.

 

المحطة الثالثة للمشروع الصهيوني

إن هدف رسالة الردع "الإسرائيلية" هو الإرهاب، ولذلك انفلتت عمليات التهديد لدرجة أن الأمر وصل إلى بيروت، التي هُدّدت بمصير غزّة، وبدأت مع ذلك المحطة الثالثة للمشروع الصهيوني، فقد كانت المحطة الأولى هي إقامة "إسرائيل" العام 1948 بعد قرار التقسيم من الأمم المتحدة (1947).

 ثم المحطة الثانية وهي احتلال كامل فلسطين، بما فيها القدس العام 1967، وضمها بقرار من الكنيست إلى "إسرائيل" (1980)، واعتبارها "عاصمة أبدية موحدة لها".

 أما المحطة الثالثة، فهي التي بدأت مع طوفان الأقصى في العام 2023، بشن حرب إبادة ومجازر مروعة، باعتبار أن الفلسطينيين "حيوانات" يمكن تسويتهم بالأرض بهدف التهجير (ترانسفير)، والسيطرة على الأرض مجددًا (إعادة الاحتلال)، وتلك صفحة جديدة من صفقة القرن، التي يمكن شمولها لدول عربية أخرى، مثل الأردن (حسب ليبرمان) وسوريا ولبنان ومصر والسعودية والعراق واليمن، وإن كانت على مراحل.

وإذا كانت المحطتان، الأولى والثانية، قد مرّتا، وحققت "إسرائيل" جزءًا من أحلامها التوسعية، فإنه بعد عملية طوفان الأقصى، بدى الأمر مختلفًا، على الصعيد الفلسطيني اولًا، وهو ما سيترك تأثيره عربيًا لاحقًا، وسيكون الأمر مؤثرًا كذلك على المستوى العالمي، فبعد أن خفت الحديث عن حلّ الدولتين، وطويت المبادرة العربية (بيروت 2002)، "الأرض مقابل السلام"، التي تعاملت معها "إسرائيل" باستخفاف كبير، ومعها حليفتها واشنطن، والتي كانت تريد من العرب "التسليم بالأمر الواقع" وركوب قطار التطبيع بلا عودة، وإذا بحديث الدولتين يعود بقوّة على المستوى العالمي، ويتصاعد الكلام في الأمم المتحدة وخارجها عن حق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم، طبقًا للقرارات الدولية.

 

سيناريوهان

شكل الارهاب جزءًا لا يتجزأ من العقيدة الصهيونية، منذ ولادتها في نهاية القرن التاسع عشر، ونظر لها عرابوها من هيرتزل إلى جابوتينسكي، وتقوم الفلسفة الصهيونية على الإرهاب كنظرية عمل ونظرية حياة انطلاقًا من اعتبار "اليهود شعب الله المختار"، والشرط الجوهري لبلوغ ذلك، ليس سوى الإرهاب والعنف لمواجهة الوحوش الضارية، حسب هيرتزل، ووفقًا لجابوتينسكي تحطيم كل من يقاوم الصهيونية.

 لا أحد يستطيع أن يقدّر متى ستنتهي الحرب وكيف ستنتهي؟

سيناريوهان يتصدّران المشهد، في الممكن وغير الممكن على المدى المنظور، أحدهما "إسرائيلي"، والآخر "فلسطيني"، الأول عاد بقوّة بعد عدم إمكانية تحقيق نصر عسكري على الأرض، إلى ممارسة الاغتيالات، والتي هي جزء من الفلسفة الصهيونية، فقد لجأت "إسرائيل"، خلال حرب الإبادة، إلى اغتيالات خارج دائرة العمليات الحربية فأقدمت على اغتيال رضا موسوي في دمشق وصالح العاروري (القيادي في حماس) في بيروت وقيادي من حزب الله في الجنوب اللبناني، وتزامنًا مع ذلك، اغتالت القوات الأمريكية مشتاق طالب السعيدي في بغداد من (الحشد الشعبي)، في إطار عمليات الانتقام من طوفان الأقصى.

السيناريو "الإسرائيلي" يريد استثمار التهجير القسري لإحداث تغيير ديموغرافي كي ما يؤدي إلى تغيير جيوسياسي، وذلك في الوعي والثقافة في الحاضر والمستقبل لإسدال الستار على القضية الفلسطينية لتصبح "ذكرى" أو "تاريخ"، والتمهيد لذلك يتم عبر تقطيع أوصال غزه، وتهجير سكانها وإيجاد من يقبل التعامل مع "إسرائيل"، وصولًا إلى إنهاء القضية الفلسطينية، فعلى الرغم من مرور أشهر على شروع "إسرائيل" بحرب إبادة، فقد اضطرّت إلى سحب 5 فرق جديدة خارج غزّة، بعد فشلها من تحقيق أهدافها، كما سحبت لواء نخبة النخبة من الجولان، في محاولة لإعادة الانتشار، خصوصًا في ظلّ الضغوط التي تعرّض لها رئيس الوزراء "الإسرائيلي" بنيامين نتنياهو، والصراع بين القرار السياسي والقرار العسكري، بالرغم من الحرب المفتوحة، التي شنّتها "إسرائيل" على شعب أعزل،

            أمّا السيناريو الثاني (الفلسطيني)، فإنه يقوم على إرغام "إسرائيل" على الحدّ من الاعتداءات على المسجد الأقصى، التي تكرّرت خلال السنوات الأخيرة، منذ محاولة حرقه في العام 1969 على يد مايكل دينيس روهان، وهو متطرّف من أصل أسترالي، إلى اليوم، علمًا أن المسجد الأقصى ليس رمزًا إسلاميًا فحسب، بل هو رمز تاريخي كوني، وهو ما أظهرته اليونيسكو يوم 18 أكتوبر/ تشرين الأول 2016 خلال اجتماع في العاصمة الفرنسية باريس بقرارها رقم 200، الذي ينفي وجود ارتباط ديني لليهود بـالمسجد الأقصى وحائط البراق، ويعتبرهما تراثًا إسلاميًا خالصًا، بالضدّ من ادّعاءات "إسرائيل" وحفرياتها لإثبات عكس ذلك بزعم "وجود الهيكل".

            ومن نتائج طوفان الأقصى، وقف قطار التطبيع، التي سارعت إلى ركوبه بعض الدول العربية، ظنًا منها أنه يمكن أن يساهم في عملية السلام في المنطقة، فضلًا عن الوقوف ضدّ مخطط تصفية القضية الفلسطينية، الذي كان يُراد له، في إطار صفقة القرن أن يدخل مرحلة التنفيذ لإنهاء فكرة قيام دولة، والقبول بالأمر الواقع ليصبح واقعًا، ومن النتائج الأخرى المحتملة، ضمن السيناريو الفلسطيني، إنهاء الحصار المفروض على غزة والذي يستمر منذ نحو 17 عامًا، فلم يعد ذلك مقبولًا ، ولا بدّ من التفكير في مسارات أخرى، خصوصًا بعد أن ساهمت عملية طوفان الأقصى في كسر نظرية الردع "الإسرائيلي"، فضلًا عن التحوّل الكبير في الرأي العام العالمي لصالحها، حتى أن جنوب أفريقيا قدّمت طلبًا إلى محكمة العدل الدولية بشأن فتوى استشارية بخصوص ارتكابات "إسرائيل" في غزّة.

 

فأي السيناريوهين سيكون قريبًا من الواقع؟

 لعل دروس تاريخ المقاومات تعلّم أن القوّة العسكرية والجيوش النظامية مهما أوتيت من جبروت وقوّة وامكانات علمية وتكنولوجية واستخباراتية، فإنه ليس بامكاننا تحقيق النصر على الشعوب الحرّة المكافحة من أجل استقلالها وحريتها وحقها في تقرير مصيرها، ومثالنا الحرب الأمريكية على فيتنام (1962- 1975)، حيث اضطرت في نهايه المطاف إلى تجرّع طعم الهزيمة على الرغم مما ألحقته من خسائر بالفيتناميين.

صحيح ان الحرب غير متكافئة، حيث لا يمكن قياس التفوق العسكري "الإسرائيلي" بإمكانات المقاومة الفلسطينية عسكريًا، لكنها فشلت في القضاء على حماس، بل أن الأخيرة أعادت طرح القضية الفلسطينية كمحور للصراع في المنطقة، بل قضية عربية مركزية، ويعكس الاهتمام الإقليمي والدولي بها شعوبًا وحكومات، ناهيك عن الرأي العام العالمي، بأنه لا بدّ من حلّ عادل ومقبول، يؤدي إلى إنهاء الاحتلال إن آجلًا أم عاجلًا.

 ويعود الفضل في كشف الوجه العنصري "لإسرائيل"، بكل سفور ودون براقع أو تزيين، إلى المقاومة، لدرجة أن نفورًا حصل في الرأي العام اليهودي داخل الولايات المتحدة، والذي كان باستمرار مؤيدًا "لإسرائيل"، وإذا بأعداد كبيرة من الشباب، أخذت تطالب بوقف الحرب، وتحمّل إستمرارها "لإسرائيل"، وتلك من الظواهر الجديدة التي أفرزها العدوان على غزّة، والبشاعة التي استخدمت فيها.

إن عملية طوفان الأقصى، وردّ الفعل "الإسرائيلي"، إنما هي صفحة جديدة ومهمة في صراع الإرادات والعقول، حيث تكون المطاولة فيها متنوّعة ثقافيًا وقانونيًا وديبلوماسيًا وسياسيًا وإعلاميًا واقتصاديًا وعسكريًا ونفسيًا، حيث لا تنتهي المعركة بجولة واحدة، لأنها طويلة الأمد، ولكن النتيجة لن تكون إلّا لصالح الشعوب مهما طال أمد الصراع.

أكاديمي ومفكر عربي من العراق

 

نشرت في مجلة الهدف (الفلسطينية)، العدد الخاص، رقم 55 / 1529، يناير / كانون الثاني 2024.

 

 

غزة والمعركة القانونية

عبد الحسين شعبان

 

أصدرت محكمة العدل الدولية قرارها بخصوص الحرب، التي شنتها «إسرائيل» على قطاع غزة، إثر عملية طوفان الأقصى (7 تشرين الأول / أكتوبر 2023)، بناءً على الدعوى التي أقامتها حكومة جنوب إفريقيا، والتي تم النظر فيها يومي 11 و 12 كانون الثاني / يناير 2024. أثار القرار ردود فعل مختلفة قانونية وغير قانونية، فبعضها استقبله بتحفّظ، بل شكّك بقيمة قرار تصدره محكمة تابعة للأمم المتحدة، التي تتحكم بها الولايات المتحدة والقوى الكبرى. وبعضها الآخر كان يعوّل عليه تحقيق العدالة المنشودة وإنصاف الضحايا، لعدم درايته بالإجراءات القانونية المعقدة، وثمة رأي إيجابي اعتبر القرار خطوةً بالاتجاه الصحيح في إطار المعركة القانونية والدبلوماسية.

وبغض النظر عن الاختلافات بشأن القرار، فلا بدّ من الاطّلاع على حيثياته، التي تلزم «إسرائيل» باتخاذ التدابير لوقف عمليات الإبادة وقتل الفلسطينيين أو إلحاق ضرر جسدي أو عقلي جسيم بهم، بما يسبب في فنائهم أو فناء قسم منهم، كما منع القرار التحريض على الإبادة الجماعية ومعاقبة المحرضين عليها، وتضمن تقديم المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة، وطالب «إسرائيل» بتقديم تقرير خلال شهر واحد لتطبيق الإجراءات الواردة في قرار المحكمة. ومن جهة أخرى، دعا القرار إلى الإفراج الفوري عن أسرى الحرب «الإسرائيليين» واعتبارهم رهائن.

لم يتضمن قرار المحكمة وقف إطلاق النار، كما كان يطمح إلى ذلك سكان غزة المنكوبين منذ عدة أشهر والمحاصرين منذ العام 2007، وهو ما أعطى انطباعاً سلبياً لدى البعض، إلّا أن القراءة القانونية تقول:

{ أولاً - إن جنوب أفريقيا لم تطلب من المحكمة ذلك، بل كان جوهر الشكوى النظر في جرائم الإبادة الجماعية، وهو ما قامت به المحكمة بقبول الدعوى، التي من اختصاصها النظر فيها وإصدار إجراء أوّلي بشأنها. والقرار الذي صدر عنها يشمل ذلك، علماً بأن المحكمة رفضت طلب «إسرائيل» ردّ الدعوى.

{ ثانياً- إن المحكمة أصدرت قراراً أهم وأقوى في حجيته القانونية، ونعني به وقف أعمال الإبادة، وهذا أشمل من وقف إطلاق النار، ويتضمن إدانة «إسرائيل» بالقيام بجريمة الإبادة الجماعية.

{ ثالثاً - يمثل القرار تقويضاً لشرعية «إسرائيل»، خصوصاً حين يتهمها بممارسة أعمال إبادة جماعية بحق مجموعة سكانية عرقية فلسطينية، وهو ما يمكن البناء عليه في المعركة الدبلوماسية والقانونية، استكمالاً لجوانب المعركة الأخرى.

{ رابعاً - إن طلب المحكمة توفير الخدمات الأساسية والمساعدات الفورية لسكان غزة يعني تجاوز الحصار «الإسرائيلي» المفروض عليها بقرار قضائي.

{ خامساً - صدر القرار بأغلبية ساحقة من جانب القضاة، وهو ما يؤكد توفّر الركن المادي لجريمة الإبادة (الأعمال الفعلية)، والركن المعنوي (وجود نيّة الإبادة) لدى «إسرائيل» في حربها المفتوحة على غزة، الأمر الذي دفع بعض القضاة إلى مخالفة المواقف الرسمية لدولهم، كما فعل القاضي الألماني والقاضي الفرنسي والقاضية الأمريكية، باستثناء القاضية الأوغندية التي صوتت ضدّ القرار، بل إن القاضي «الإسرائيلي» صوّت لصالح بندين من القرار، الأول يتعلق بمنع التحريض والثاني توفير الخدمات، كما أنه لم يعترض على اختصاص المحكمة في النظر بالقضية.

كقانوني أستطيع تقييم هذا القرار إيجابياً، وعلى نحو كبير جداً، لاستناده إلى قواعد القانون الدولي والقانون الإنساني الدولي واتفاقية منع الإبادة الجماعية لعام 1948، بل إنه القرار الأول من نوعه، وهو يتضمن إدانة الممارسات «الإسرائيلية» بشكل واضح ويطالبها باتخاذ تدابير محددة، بما فيه تكليفها بتقديم تقرير خلال شهر عن مدى التزامها بما طلبته المحكمة، وهو قرار ملزم، على خلاف الفتوى الاستشارية القانونية بشأن الجدار العازل التي صدرت عن المحكمة العام 2004.

وهو وإن كان قراراً احترازياً مؤقتاً، إلّا أنه سيكون مدخلاً لإصدار قرار باتٍّ واجب التنفيذ فيما إذا امتنعت «إسرائيل» من تنفيذه ويفترض فرض عقوبات عليها، وحينئذ يمكن الذهاب إلى مجلس الأمن الدولي لاتخاذ القرار، وإذا ما استخدم «حق الفيتو» من جانب حلفاء «إسرائيل»، فإنه سيضعهم شركاء في جريمة الإبادة، وفي ذلك جانب أخلاقي وأدبي، وعندها يمكن الذهاب إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة بموجب القرار 377 والمعنون «متّحدون من أجل السلام».

drhussainshaban21@gmail.com

 

 

 

صورة ماركس

 

عبد الحسين شعبان

 

       على الرغم من أن التيار الذي يطلق على نفسه "الماركسي"، لعب دورًا غير قليل في الحياة السياسية العربية، لاسيّما في عقود الخمسينيات والستينيات والسبعينيات، إلّا أن إنتاجه المعرفي، لا يكاد يذكر قياسًا بالنشاط السياسي وباستثناءات محدودة.

 وقد واجهت "الماركسية العربية"، وماركس بالذات، نوعين من الإساءة والتشويه عن عمد أو دون قصد بسبب الجهل وعدم المعرفة، والجهل قسمان: إما من الاعداء والخصوم، حيث جرى أبلسة ماركس، ونُسبت إليه الكثير من المواقف لتشويهه لدرجة التأثيم والتحريم والتجريم، خصوصًا بتفسير بعض عباراته باعتبارها معادية للدين.

 أو من المريدين والأنصار، حيث جرى تقديسه، فاقترب من منزلة الأنبياء والأئمة، لا يأتيه الباطل من أمامه أو من خلفه، واعتبرت آراءه واستنتاجاته صالحةً لكل زمان ومكان، وكأن التاريخ توقف بعده، وحاولت الأحزاب الشيوعية استثمار اسمه لأغراض سياسية وقومية أحيانًا، ففي روسيا جرى "روسنة" ماركس بإضافة اسم لينين ومن بعده ستالين إليه، وفي الصين "صيّن" ماركس، بإضافة اسم ماو تسي تونغ إليه، وفي ألبانيا كان اسم أنور خوجة جنبًا إلى جنب ماركس، وسميت الماركسية البولبوتية في كمبوديا، والماركسية الجيفارية في أمريكا اللاتينية، وفي عالمنا العربي تعاملنا مع ماركس كشيخ عشيرة أحيانًا، وهكذا تضبّبت صورة ماركس، فلم نعد نعرف أين هي صورته الحقيقية من صورته المتخيّلة؟

 وحين أطيح بجدار برلين 9 نوفمبر / تشرين الثاني 1989 هناك من سارع إلى إعلان وفاة ماركس مجددًا، مع أنه رحل عن دنيانا في العام 1883، وانتقل بعض الماركسيين العتاة إلى الضفة المعاكسة بزعم التجديد وتغيّر الظروف، حتى استبعد لفظ الإمبريالية عن الولايات المتحدة، وبين عشية وضحاها، أصبح "العامل الدولي" مرادفًا للحديث عنها، في حين كانت الماكينة الإعلامية تضجّ بأسوأ النعوت لها باعتبارها العدو الأكبر للشعوب، بل إن البعض استقوى بها في مواجهة أنظمة بلاده الاستبدادية.

       ليس غريبًا حين وجدنا من يقول: علينا وضع الماركسية في المتحف، لأنها من تراث الماضي، مثلما ظلّ نفرٌ يتشبّث بكلّ ما قاله ماركس باعتباره الحقيقة المطلقة، وبين التحلّل والجمود، ظلّت صورة ماركس تستخدم ذات اليمين وذات الشمال، حتى ضاع ملمحها الحقيقي، فمن الإمعان بالتنصّل من منهجه، إلى التمسك بتعاليمه، بما فيها تلك التي عفا عنها الزمن، ولم تعد تصلح لعصرنا، دون التوقف عند مراجعة أسباب فشل التجارب الاشتراكية، سواءً على المستوى النظري أم العملي.

ولعلّ الحديث عن صورة ماركس اليوم، إنما هو انعكاس لأزمة وعدم اطمئنان وقلق، وهو حديث عدم ثقة وضعف يقين وتشوّش رؤيا، فقد تخلخلت الأسس والقناعات السابقة والراهنة، ومثلما كان البعض منفصلًا عن الواقع في السابق والفجوة الهائلة بين النظرية والتطبيق، فإنه اليوم أشدّ انفصالًا عنه، سواء كان من أسرى الماضوية والسلفية والنصوصية، أم من المتفلتين من المنهج والمتحللين من تراث الماضي، حتى وإن ظلّ الفريقان يحملان الشعار والعنوان، لكن الزمن تغيّر، فلم يعد يصلح اجترار مقولات الماضي أو اللهاث وراء شعارات ليبرالية.

من يريد استعادة صورة ماركس فعليه اجتراح الواقع، فقد كان ماركس الحلقة الأولى في التمركس، ولا بدّ من الاستفادة من منهجه الاجتماعي، أما تعليماته والعديد من استنتاجاته، فهي تصلح لعصره وليس لعصرنا، وقد تجاوزها الزمن، حتى وإن كانت صحيحة في حينها، وعلينا قراءة الواقع واستنباط الأحكام المنسجمة مع الحاضر والمتطلعة إلى المستقبل، لأن المرجعية هي للواقع وليست للنصوص، ولا قيمة لنظرية دون الواقع، والممارسة جزء لا يتجزأ من النظرية.

 وإذا كانت الغايات شريفة وعادله فلا بدّ من وسائل شريفة وعادلة أيضًا للوصول إلى تلكم الغايات، لأن الوسيلة من شرف الغاية، والوسيلة إلى الغاية مثل البذرة إلى الشجرة على حد تعبير المهاتما غاندي، لذلك فإن العديد من التجارب الاشتراكية التي زعمت تحقيق العدالة والمساواة وإلغاء الاستغلال، فشلت بالتطبيق العملي، بل كانت نموذجًا آخر للاستبداد والطغيان، ولم يشفع لها التشبّث بالنصوص النظرية، لاسيّما بإهمالها الواقع ، فلا قيمة للنصوص إذا لم تأخذ الواقع ومتغيراته بنظر الاعتبار.

وهكذا كانت بعض النصوص الماركسية تقرأ باعتبارها مقدسة مثل الأسفار التوراتية والآيات الإنجيلية أو القرآنية، واقتربت من التعاويذ والأدعية بطريقة كهنوتية، لا تقبل النقد أو المخالفة أو التقريظ، حتى غدت آيقونات خالدة وسرمدية، وتنطبق على كل زمان ومكان، وفي ذلك خلافًا لماركس نفسه، الذي كان ناقدًا، وهو القائل "كلّ ما أعرفه أنني لست ماركسيًا"، بمعنى عدم رغبته في أن يكون خارج النقد، وحاول تعميم معارف عصره لاستنباط الحلول، التي تتلاءم مع تطوره، وسواء نجح أم أخفق، فقد كان منهجه حيويًا، لكن "الماركسية" المطبقة، جرى امتهانها، في ظلّ بيروقراطية حزبوية شديدة، قادتها إلى الفشل في مواطنها الأصلية أو في فروعها في العالم العربي، التي اكتست برداء ريفي أو بدوي أو طائفي أحيانًا.

 

الاستخدام السياسي للدين

عبدالحسين شعبان

 

مثلما في الماضي، ففي الحاضر أيضاً ما يزال العالم يدفع أثماناً باهظة، بسبب الاستخدام السياسي للدين، حيث استُعمل كذريعة أو حجّة لاندلاع أكثر الحروب والنزاعات دمويةً بين الشعوب من جهة وبين جماعات دينية وطائفية مختلفة أيضاً من جهة أخرى، وكان له تأثير سلبي خطير، فأزهقت بسببه وما تزال تُزهق أرواح ملايين البشر، وتهدر أموال طائلة، وتُستنزف جهود عظيمة، لا على التنمية والتقدم والصحة والتعليم وتحسين نوعية الحياة والرفاه الاجتماعي، بل على إنتاج أنواع جديدة من الأسلحة، وتغذية بؤر التوتّر بروح الكراهية والعداوة والحقد والانتقام والثأر.

ولمعالجة هذه الظاهرة، فإن الأمر لا يحتاج إلى إطفاء الحروب والنزاعات فحسب، بل البحث عن السبل الكفيلة لمعالجة جذورها، وتهيئة مستلزمات الوقاية منها، فضلاً عن حماية ضحاياها مادياً ومعنوياً ونفسياً.

وحين انطلقت مبادرة عالمية لحظر الاستخدام السياسي للدين، وتوّجت الجهود لعقد مؤتمر دولي في الرباط - المغرب (2022)، تبنّى مشروع المبادرة، كيما يعرض على الجمعية العامة للأمم المتحدة. وسبق لعدد من الشخصيات الفكرية والثقافية والبرلمانية أن وقّعت عليه مثل نعوم تشومسكي وأدونيس واللورد جيفري آرتشر وماري كيلي وعشرات الشخصيات الوازنة على المستوى الدولي.

وخلال الأسابيع المنصرمة حققت المبادرة نجاحاً جديداً، حين أُدرجت على جدول عمل مجلس أوروبا، وحظيت بتأييد 40 عضواً من 19 دولة، بينهم شخصيات اشتراكية ديمقراطية ومن مجموعات الخضر، وأعضاء من ألمانيا وإسبانيا واليونان والنرويج وسويسرا وغيرها. أما حيثيات الفكرة وأسبابها الموجبة، حسب لغة القانون، فإنها تقوم على أن الاضطهاد الديني هو أكثر انتهاكات حقوق الإنسان شيوعاً في العالم، وأن عدد ضحاياه يتجاوز أية إحصاءات، ولا يقتصر على النساء والأطفال و«الأقليات الدينية» فحسب، بل يشمل قطاعات كبيرة من الأغلبيات أيضاً في العديد من البلدان.

إن المبادرة لإقرار معاهدة دولية لحظر التوظيف السياسي للدين، هي توجّه جديد لوضع قواعد قانونية دولية جديدة وواضحة ومحددة، في إطار القانون الدولي، ووفقاً لمبادئ المساواة، التي هي ركن أساس من أركان المواطنة في الدولة العصرية، وهو ما ينبغي أن تأخذ به التشريعات والقوانين الوطنية لمنع التمييز على أساس ديني، أو تقييد حق الاعتقاد والعبادة وممارسة الطقوس والشعائر الدينية بحريّة.

لذلك سيكون إبرام المعاهدة نقطة انطلاق جديدة لتعزيز السلم العالمي من جهة، والتعايش السلمي المجتمعي من جهة أخرى في أي بلد متعدد الأديان، وسيكون عائقاً جدياً أمام القوى المتعصّبة والمتطرّفة استخدام الدين لأغراض سياسية أنانية ضيقة، بعيداً عن قيم التسامح واللّاعنف والإخاء والمحبة والمشتركات الإنسانية.

ولا ينحصر الاستخدام السياسي للدين على مجتمعاتنا العربية والإسلامية فحسب، بل إن مجتمعات متقدمة ظلّت هي الأخرى تمارسه عملياً، حتى وإن كانت تحرّمه قانونياً، ولعلّ الكثير من المجتمعات الغربية تشهد اليوم هجمات ضدّ اللاجئين والأجانب والمجموعات الثقافية الأخرى، لاسيّما في ظلّ صعود نخب شعبوية متطرّفة وعنصرية، وأحياناً تحت زعم الحفاظ على الهويّة والثقافة الموحدة، يتم التجاوز على الخصوصيات والهويّات الفرعية، بل يتم الاستخفاف بها والتنكّر لها، وأقرب مثال على ذلك أن الولايات المتحدة في عهد الرئيس دونالد ترامب، اتّخذت قراراً بمنع رعايا دول محدّدة من الدخول إليها، وهي ذات أغلبية إسلامية، مثلما تُتخذ اليوم بعض الإجراءات القمعية بخصوص بعض أعمال التضامن مع الشعب العربي الفلسطيني وسكان غزّة في العديد من البلدان الغربية بحجّة العداء للسامية.

ولا يقتصر تكفير تلك الحركات الإرهابية والمتطرّفة على أتباع الأديان الأخرى، بل إنها تقوم بتكفير كلّ من يعارض تعليماتها ولا يؤمن بأطروحاتها، حتى وإن كان من ذات الدين والطائفة، ملتجئة إلى التأثيم والتحريم والتجريم، واضعةً من نفسها قاضياً وسلطة تنفيذية خارج نطاق القانون والدولة، بما يسيء للدين ذاته، ولاسيّما في إفساد العلاقة بين الشعوب والأمم على المستوى الخارجي، وفي تفجير الصراعات والفوضى والحروب الأهلية بين المجموعات الثقافية وأتباع المذاهب المختلفة على المستوى الداخلي.

drhussainshaban21@gmail.com

 

 

)الإسلاموية( و)العلمانية(

عبدالحسين شعبان

 

ظلّ الجدل محتدماً بين تيارين، كلاهما يزعم امتلاكه للحقيقة ويدّعي الأفضلية، بل يتعصّب لفكرته لدرجة يتم فيها «شيطنة الآخر»، التيار الأول - يطلق على نفسه اسم «الإسلامي»، وإن كان يمثل طيفاً واسعاً غير متجانس من الذين يندرجون تحت هذا العنوان، أما التيار الثاني - فيصف نفسه ﺑ «العلماني»، حتى وإن كانت مرجعياته الفكرية مختلفة، بل ومتناقضة.

يرى بعض الإسلاميين، وبشكل خاص الإسلامويين، أن العلمانية مصطلح غربي، وهي بالأساس وجدت لحل مشكلة في الغرب، حتى وإن كانت نتائجها إيجابية في سياق تاريخي، بفصل الكنيسة عن الدولة، إلّا أنه لا يمكن تطبيقها على مجتمعاتنا؛ لأن الأرضية مختلفة تماماً، والإسلام «دين ودولة».

ومثل هذه المبررات تلقى هوىً كبيراً لدى جمهور واسع؛ حيث يتم تصوير العلمانية بأنها فكرة مستوردة، أي أنها لا تمتّ إلى عالمنا الإسلامي بصلة، وهدفها التغريب وقبول الاستعمار الثقافي، خصوصاً حين يتم ربطها بالإسفاف وإشاعة الرذيلة والانحلال الأخلاقي والفساد القيمي، بل إنها ملازمة للكفر، وذلك في إطار الدعاية السياسية والمنافسة المجتمعية ضدّ العلمانية.

لكن ثمة آراء إسلامية منفتحة، تلك التي تعتقد أنه لا وجود لمفهوم الدولة الدينية في الإسلام، ويدعو السيد محمد حسين فضل الله إلى «دولة الإنسان»، وبهذا المعنى يقدّم الإسلام شؤون المجتمع وسياسة الدولة وأمور الدنيا في الحياة، وهو ما فعله النبي محمد (صلى الله عليه وسلم)، حين اضطر للهجرة إلى المدينة المنورة، فوضع دستوراً هو نواة أولى لدولة مدنية تحترم الأديان، بعد أن كان في مكة مبشراً.

أمّا العلمانيون فإنهم أيضاً يحاولون «شيطنة» التيارات الإسلامية، ولا يفرقون أحياناً بين الإسلاميين والإسلامويين، بل ويعتبر بعضهم، بشكل مباشر أو غير مباشر، أن كل ما يمتّ إلى الدين بصلة هو متخلّف ورجعي، حتى وإن قصدوا بذلك بعض الطقوس والشعائر، التي تمارس باسمه، وتمثل درجة تطور الوعي الديني والمجتمعي في حقبة زمنية معينة، وهذه قد لا يكون لها علاقة بالدين، وإنما تندرج في خانة التديّن، وهكذا يتم الخلط بين الدين والتديّن، فتكال الاتهامات تحت هذه المسوّغات، في حين أن الدين منظومة قيم إنسانية وأخلاقية، تدعو إلى السلام والتسامح والعدالة والمساواة والشراكة والإخاء. وقد حاول بعض العلمانيين الابتعاد عن المفهوم المبالغ فيه للعلمانية المغالية، «العلمانوية»، فتبنوا مفهوم «الدولة المدنية»، وهي حسب بعض تفسيراتها، تقف على مسافة واحدة من جميع المجموعات الثقافية الدينية والقومية واللغوية والسلالية، وتحمي جميع أفراد المجتمع. وقد يكون من المفيد استخدام مصطلح «الدولة القانونية» التي تقوم على المشروعية القانونية، بمعنى حكم القانون، وتتجسّد شرعيتها السياسية برضا الناس وتقديم المنجز لهم، فللدين حقله الروحاني والعقائدي والإرشادي، أما السياسة فهي ميدان للمصالح، وحتى لو اجتمعت العقيدة مع المصلحة، فلا بدّ من تكييفهما مع الواقع المتطوّر باعتباره هو الأساس والمتغيّر.

وإذا كان بعض الإسلاميين، والإسلامويين بشكل خاص، يميلون إلى «أدلجة» الدين وتسييسه بالضدّ من تعاليمه، بتبرير أعمال العنف والإرهاب، وهو ما قامت به تنظيمات «القاعدة» و«داعش» وأخواتهما، بحيث فقد طابعه الروحاني والأخلاقي والإنساني، فإن بعض العلمانيين يتنكرون للدين ودوره، كمرجعية للمجتمع.

هكذا تفسخت العلمانية، خصوصاً عند استعمار أمم وشعوب، ونهب ثرواتها وخيراتها، بزعم تمدينها، إضافةً إلى دعم أنظمة استبدادية متخلّفة مفروضة عليها بفعل النظرة المركزية الأوروبية، التي لا تزال مهيمنة في النظر إلى شعوب البلدان النامية، وذلك لضمان مصالح الغرب، وخير مثال على ذلك، الموقف من حرب الإبادة على غزّة، حيث أصبح العقل دغمائياً وذرائعياً ومصلحياً.

وإذا كان هناك علمانيون يميلون إلى قبول المرجعية الإسلامية للدولة المدنية، فإن بعض الإسلاميين أخذ بمصطلح العلمانية المؤمنة، أي غير الإلحادية ذات المرجعية الإسلامية، وهؤلاء ينفتحون على التيارات العلمانية، ولا يجدون ضيراً في ذلك، في إطار مصالحة تاريخية ومبادرة شجاعة لجعل الدولة مدنية بامتياز، مع كون الإسلام مرجعيتها الحضارية بكلّ ما يحمل من معانٍ إنسانية وأخلاقية سامية.

drhussainshaban21@gmail.com

 

 

العرقية ومرادفاتها

في عالم اليوم

 

عبدالحسين شعبان

 

تبدو مصطلحات مثل «العرقية» و«الجماعات العرقية» و«الصراعات العرقية» جديدة. وقد ظهرت لأول مرّة في قاموس أكسفورد البريطاني العام 1972، وإن كانت استخداماتها أقدم من هذا التاريخ بكثير. وكلمة عرقي مشتقّة من الكلمة الإغريقية «إثنو»، وقد استخدمت كلمة «العرقيات» في الحرب العالمية الثانية ككلمة سلبيّة مهذبة بالإشارة إلى بعض الجماعات من غير الإنجليز، والذي يُنظر إليهم كمستوى أدنى.

وكان المفكّر الاجتماعي ماكس فيبر قد نبذ التمترسات العرقية للجماعات المحلية، معتبراً إياها مظهراً بدائياً تتراجع أهميته، بل تزول، بفعل انتصار الحداثة والتصنيع وشيوع الفردانية، وقد أيّد وجهة نظره هذه عدد من علماء الاجتماع في القرن العشرين.

Ads byوقد شهدت العقود الأربعة المنصرمة انفجاراً غير مسبوق للعرقية والنزعات الإثنية والهويّات الفرعية، ارتباطاً بتطوّر العلوم الاجتماعية، وذلك بالترويج لها عبر الكتب والمطبوعات والدراسات والمؤتمرات والندوات، التي تبحث فيها، وشمل ذلك حقول العلوم السياسية والقانونية والتاريخية والاجتماعية والأنثروبولوجيا الاجتماعية.

أصبح من غير المقبول تجاهل المسألة الإثنية، سواء في البلدان المتقدمة صناعياً، الغنية والديمقراطية، أم في البلدان النامية والفقيرة، والتي لم تدخل مرحلة التحوّل الديمقراطي. في الأولى، بشكل عام، كانت الخلافات تُحلّ عن طريق الدستور وحُكم القانون، في حين أنها في الثانية، تؤدّي في الغالب إلى نزاعات مسلّحة وحروب أهلية، لاسيّما باللجوء إلى الحلول العسكرية والعنفية.

وبالطبع، فثمة حروب ونزاعات شهدتها بلدان أوروبا، وخصوصاً بعد انحلال الاتحاد السوفييتي، وانقسامه إلى 15 كياناً، ولعلّ آخرها الحرب المندلعة في أوكرانيا، فضلًا عن تمزّق يوغوسلافيا وتوزّعها إلى 6 كيانات، شهدت بينها حروب تطهير عرقي، ولاسيّما ما حصل في البوسنة والهرسك، ويمكن الإشارة إلى حروب سيرلانكا ورواندا والكونغو، إضافة إلى المشكلة الكردية المزمنة والمعتّقة بين أربعة بلدان في الشرق الأوسط، ومشكلة جنوب السودان التي نالت استقلالها في العام 2011.

وإذا كانت هذه إحدى مظاهر الصراع العرقي، فثمة وجه آخر له، ففي الغرب اتّخذ منحى قانونياً وسياسياً سلمياً في الغالب، كما هي مشكلة الكيبيك في كندا، والفلامانيين والوالانيين في بلجيكا، وإقليم الباسك وكاتالونيا في اسبانيا، ومشكلة إيرلندا التي ما تزال قائمة منذ عقود من الزمن، وتتجاذبها آراء ووجهات نظر مختلفة، كلّها تتصارع تحت حكم القانون، يُضاف إلى ذلك نزعات إثنية في جنوب فرنسا وجنوب إيطاليا، تبحث عن تعظيم للهويّة الفرعية والتمايزات والخصوصيات.

كما أصبحت الهويّات العرقية أحد الميادين للصراع الدولي والإقليمي، بعد التدفّق الهائل والمستمر للاجئين والمهاجرين إلى أوروبا والغرب عموماً، ما أعطى شحنة قوية للشعور بالانتماء إلى الهويّات الفرعية. ولعلّ مثل هذا الشعور تنامى كذلك عند تأسيس الاتحاد الأوروبي، فأخذت العديد من البلدان المنضوية تحت لوائه، تبحث عن خصوصيتها، وهو ما دفع دولة مثل بريطانيا للانسحاب منه، وقاد هذا الاتجاه أيضاً إلى ظهور جهات متطرّفة في القارة الأوروبية، ذات خطاب شعبوي إثني في الغالب، ومعادٍ للأجانب بشكل عام للوصول إلى السلطة، ونمت على هامشه أحزاب يمينية حاولت رفع أكثر الشعارات رنيناً وتطيراً، تحت ذريعة الخشية من إضعاف الهويّة القومية، لاسيّما في ظلّ عدم الاندماج الثقافي.

ويرتفع شأن هذه القضايا على نطاق واسع ومؤثّر في فترات الانتخابات، بقبول أو رفض التعدديّة الثقافية وإدماج المهاجرين، كما تثير، في الوقت نفسه، أسئلة ما تزال بحاجة إلى معالجات بخصوص التمايز بين الجماعات العرقية.

وهذا ما يُظهره الجدل الساخن في إطار المقاربات الأنثروبولوجية، بشأن تصنيف الجماعات البشرية عرقياً، أو ما يُطلق عليه مجازًا «الأقلية» و«الأكثرية» وهو ما تناوله إعلان حقوق الأقليات، الصادر عن الأمم المتحدة في العام 1992.

drhussainshaban21@gmail.com

 

 

)واقعية( اليسار أم تيهه؟

عبد الحسين شعبان

 

قد يكون صادماً القول إن الحلم اليساري، الذي كان واعداً، في القرن العشرين، قد ولّى. ومثل هذا القول يتجاوز بعض الآراء السائدة، التي تعتبر أن النظرية صحيحة، لكن العيب في التطبيق، وأن الذي أفسدها، جماعة من المحرّفين والطغاة والحزبويين المأخوذين بالشمولية والواحدية، وادّعاء الأفضليات والزعم بامتلاك الحقيقة.

علينا الاعتراف بأن ثمّة إشكاليات ومشكلات فكرية وعملانية تحتاج إلى إعادة قراءة وتقويم. وباستثناء المنهج الذي جاء به كارل ماركس، والذي لا يزال حيوياً، خصوصاً بتعاشقه مع المناهج الاجتماعية الأخرى، فإن تعاليمه كانت تصلح لعصره، وليس لعصرنا، لاسيّما ونحن في الطور الرابع للثورة الصناعية واقتصاد المعرفة والذكاء الاصطناعي. ولو جاء ماركس اليوم، لخالف الكثير من استنتاجاته وتعليماته، التي أثبتت الحياة عدم صحتها، فضلاً عن أن بعضها تجاوزه الزمن.

لقد حققت الأنظمة الاشتراكية بعض المنجزات التي لا يمكن إغفالها على الصعد الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وبشكل خاص في ميدان الصحّة والتعليم والعمل والضمان الاجتماعي، إلّا أنها وصلت إلى طريق مسدود، بل أفق مغلق، بسبب شحّ الحريّات، خصوصاً حريّة التعبير، وعدم الاعتراف بالتعدّدية والتنوّع، فضلاً عن الاختناقات الاقتصادية التي عانت منها.

لم يكن أحد يتصوّر أن جدار برلين سيسقط يوماً ما (9 نوفمبر/ تشرين الثاني 1989)، بل كان مجرّد التفكير في ذلك أقرب إلى الحلم أو الخيال، فكيف يمكن إزالة هذا «الصرح» الذي بناه خروتشوف في عام 1961 بسرعة فائقة ومباغتة للغرب لفصل برلين الشرقية عن برلين الغربية؟

وكان الاعتقاد السائد أن الأنظمة الاشتراكية منيعة ومحصّنة، فإذا بها تنهار مثل بيت من الورق، وقد سبقنا سارتر إلى ذلك، حين اعتبرها هشّة وخاوية من الداخل، على الرغم من مظاهر القوّة والبأس التي تبدو عليها من الخارج.

وحين نجحت المعارضة بعد حراك شعبي في الوصول إلى السلطة بفوز ليخ فاليسيا في بولونيا، وفاتسلاف هافل في تشيكوسلوفاكيا، وأرباد كونز في هنغاريا، قبيل تحلّل الاتحاد السوفييتي، لم يكن لديها أي تصوّر عن المستقبل، أو معرفة بحقيقة الرأسمالية. كلّ ما كان في جعبتها هو شعارات عامة، وأحلام غامضة، وتوقعات لم تخل من طوباوية. وكان الثمن الذي على البلدان الاشتراكية دفعه مقابل الحريّات السياسية والانفتاح الاقتصادي، باهظاً وشروطه قاسية.

وظلّ اليسار تائهاً بين شمولية صارمة في الماضي، وليبرالية منفلتة في الحاضر، بل إن الأمر كان أكثر تعقيداً، فالتغيير الذي سعت إليه بلدان أوروبا الشرقية، ليس هو ما كان يدور في خُلد الأغلبية العظمى من الناس.

في أوروبا الشرقية، هيمنت اتّجاهات شعبويّة على مقاليد الأمور، بعد الترويج لليبرالية والتغنّي بفضائلها، الأمر الذي اتّجهت إليه بعض البلدان في منطقتنا بضجيج عال، لاسيّما بإعلاء شأن القطاع الخاص وتعطيل القطاع العام، بزعم الواقعية والتجديد الديمقراطي، وغير ذلك من ادعاءات.

صحيح أن دور اليسار قد أفل، لكن شيئاً واحداً بقي عنده، وهو إمكانيته على تحويل السخط المختمر لدى الناس إلى برنامج عمل، حتى إن بدا حالماً.. أولسنا نحلم، بل نغامر حين نبحث عن الحقيقة؟ ففي ذلك التعبير الأكثر واقعية عن ضمير الناس وهمومهم الجديدة – القديمة، والضمير هو القانون العام الأسمى حسب المفكر ثورو، فليست لحظة الانتشاء الجميلة، التي حصلت بعد سقوط الأنظمة، كافية لرسم صورة المستقبل، بل كان لا بدّ من التفكير في اختلال المعادلة خارج دوائر الوهم والتزوير والتواطؤ.

drhussainshaban21@gmail.com

 

التنمية وحقوق الإنسان

عبدالحسين شعبان

 

تمهيداً للاحتفال بالذكرى اﻟ75 لصدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، نظّم المعهد العربي لحقوق الإنسان وجامعة الدول العربية، ندوة إقليمية في القاهرة، تحت عنوان «تعزيز المشاركة والتعاون للتمتّع بالحق في التنمية وضمان حقوق الإنسان».

فما هو مفهوم التنمية، وما هي فلسفتها؟ وكيف السبيل لضمان حقوق الإنسان؟ وبقدر ما يبدو التفريعان منفصلان، إلّا أنهما مترابطان بشكل عضوي، وقد اتّسع النقاش بشأنهما بعد انتهاء الحرب الباردة، بتأكيد أن لا تنمية حقيقية من دون مشاركة فاعلة من المجتمع المدني، ومن القطاعات غير الحكومية، إضافة إلى القطاع الخاص.

والتنمية مثلّث متساوي الأضلاع، ويُعبّر كلّ ضلع منه عن الأبعاد الثلاثية، نظراً لتداخلها وترابطها، وهذه الأبعاد هي: اقتصادية واجتماعية وثقافية، ويمكن إضافة البعد البيئي نظراً لأهميته وخصوصيته.

ويُمكن القول إن هناك مفهومين للتنمية؛

الأول: المفهوم الضيّق، وهو المفهوم التقليدي المتداول، والمقصود به «النمو الاقتصادي»، أو «التنمية الاقتصادية»، وهو ما عكسته الثقافة الاقتصادية، التي تكرّست منذ آدم سميث وريكاردو وصولاً إلى كارل ماركس.

الثاني: المفهوم الواسع، الذي يستند إلى فكرة التنمية الإنسانية بأبعادها الشاملة، وابتدأ هذا المفهوم يتعزّز، خصوصاً بعد الأزمات الاقتصادية العالمية، سواء أزمة 1929 – 1933، أو أزمة السبعينات، وصولاً إلى أزمة الرهن العقاري، وانهيار مؤسسات مصرفية عملاقة عام 2008، وما بعدها.

وإذا كانت الشرعية تعني رضا الناس، وتقديم منجز حقيقي لهم، فإن المشروعية تستند إلى حكم القانون، الذي يتجسّد بالعلوية الدستورية، حيث تندرج فيها الإدارة العامة الرشيدة (الحوكمة)، كما تذهب إلى ذلك تقارير التنمية الإنسانية المستدامة. ومنذ عام 1977، دخل مفهوم الحق في التنمية في جدول أعمال لجنة حقوق الإنسان.

والتنمية تعني باختصار، «عملية توسيع خيارات الناس»، الذين لهم حق أصيل في العيش الكريم، مادياً ومعنوياً، جسداً وروحاً، ويترتّب على ذلك، شموله على مبدأ المساواة، وعدم التمييز، فضلاً عن الحريّة واحترام الكرامة الإنسانية والمشترك الإنساني، وغير ذلك من الجوانب المعنوية.

وبصدور «إعلان الحق في التنمية» عن الأمم المتحدة في ديسمبر/ كانون الأول 1986، اعتُبرت عملية التنمية حقاً من حقوق الإنسان، وليست مجرّد مطالبات للأفراد والجماعات، أو للحكومات التي قد تستجيب، أو لا تستجيب لتلبية هذه المطالب، «الحقوق».

ولا شك في أن تطبيق هذه القواعد يحتاج إلى بيئة ثقافية وحقوقية حاضنة، ومستوى وعي قادر على تفعيل جوانب التنمية، لاسيّما عبر مشاركة القطاع الخاص، إضافة إلى المجتمع المدني، الذي يمكن أن يكون قوّة اقتراح، لتقديم مشاريع قوانين ولوائح وأنظمة، من خلال آليات وطنية جامعة، تقود في نهاية المطاف إلى عقد اجتماعي جديد، يأخذ في الاعتبار المستجدات والمتغيّرات العالمية، فعالم اليوم هو غير عالم الأمس، وعالم الغد سيكون مختلفاً تماماً بفعل الطور الرابع للثورة الصناعية، إذْ لا يمكن إنجاز أهداف التنمية، من دون ثقة وشراكة لبناء معرفة نقدية، من خلال القوانين والسياسات وتبادل المعلومات، بما يوسّع الأفق، ويجعل الحكومات والقطاع خاص والمجتمع المدني، وجميع الفاعلين، يعملون على الأهداف نفسها، بتناغم إيقاعاتهم.

drhussainshaban21@gmail.com

 

 

ترانسفير غزّة

عبد الحسين شعبان

 

«بصفتي يهوديا «إسرائيليا» من نسل ناجين من الهولوكوست، أعتقد أن المقارنة بين الظروف في فلسطين، وتلك التي سبقت المحرقة، ليست مبرّرة فحسب، وإنما ضرورية أيضا، فقد أصبحت «إسرائيل» مستعدّة أيديولوجيا لتنفيذ عملية إبادة جماعية ضدّ الفلسطينيين في الوقت الحالي» هذا ما كتبه «الإسرائيلي» أميتاي بن أبا، كاتب القصص التأملية التي تستشرف المستقبل في عام 2018، وهو يُشاهد التلفزيون، فيرى صورة نتنياهو وترامب يبتسمان بهدوء، بينما يحمل الفلسطينيون قتلاهم في الجانب الآخر. فما أشبه اليوم بالبارحة، حين نستمع إلى نتنياهو وبايدن وهما يزاودان على بعضهما بشأن عقاب غزّة.
فمنذ عملية «طوفان الأقصى» في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، والتصعيد «الإسرائيلي» اتّخذ منحى غير مسبوق، وذلك بتنفيذ عملية كبرى للترانسفير والتهجير العرقي والتغيير الديمغرافي، تلك الذي ظنّ البعض أنها خفتت منذ أواسط السبعينيات، وإن استمرّت فعلى نحو ناعم وفردي، حتى إن شملت عشرات الآلاف. عملية الترانسفير اليوم تطلّ برأسها من بوابة غزّة بكل قوّة، التي يعمل المحتل «الإسرائيلي» على إفراغها من سكّانها بُغية ما سمّاه بدء الحرب البريّة، فقد وجدت «إسرائيل» الفرصة سانحة لها لتنفيذ عملية الإجلاء القسري العلني، بغطاء دولي، وتعاطف كبير من جانب الدول الغربية، خصوصا الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وغيرها، مع توظيف دعائي ناجح لهذه الحرب الهمجية.
الخشية أن يكون الإجلاء القسري في غزّة مدخلا لإحياء مخططات «الوطن البديل» فسكان غزّة، بعد أن عاشوا حالة حصار مدمّر منذ عام 2007، يُمنعون اليوم من الماء والغذاء والدواء والكهرباء، ويعيشون أسرى في سجن كبير، وفوق ذلك يُجبرون على الرحيل تحت القصف، بل إن قوافل الشهداء تزداد خلال عملية الإجلاء أيضا، إذْ لا تتورّع القوات «الإسرائيلية» عن رمي القنابل فوق الرؤوس، دون أي اعتبار لقواعد القانون الدولي الإنساني واتفاقيات جنيف لعام 1949.
ولا يُستبعد أن تكون عملية ترانسفير غزّة، هي مقدّمة لترانسفير أوسع، قد يشمل الضفّة الغربية في مرحلة لاحقة، وبالنسبة «للإسرائيليين» إن كل فلسطيني هو مقاوم، وهكذا يصبح الفلسطينيون جميعهم إرهابيين أينما كانوا وحيثما وجدوا، حسب وجهة النظر هذه، وإذا ما نجحت خطة الترانسفير، حينها تكون «إسرائيل نظيفة» و«نقية» وفقا لقانون يهودية الدولة، الذي تمّ إقراره من جانب الكنيست في 19 يوليو/ تموز 2018، والذي عرّف إسرائيل بأنها «دولة قومية للشعب اليهودي».
وحكاية الترانسفير
Transfer ليست جديدة، فقد بدأت قبل تأسيس دولة «إسرائيل» من جانب الميليشيات، وهي تعني مجموعة عمليات وإجراءات لترحيل أكبر عدد من السكان العرب، لإحلال يهود محلّهم، وهو ما نظّر له ثيودور هيرتزل في كتابه «دولة اليهود» في عام 1896، وما تقرّر في المؤتمر الصهيوني الأول في مدينة بال السويسرية، الذي أعقبه في عام 1897. ولهذه الأسباب سعت «إسرائيل» لعرقلة أي جهود لتطبيق القرار 194، الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 1948 بشأن «حق الفلسطينيين في العودة إلى ديارهم». إذا كان القرار 181 الصادر عن الأمم المتحدة، والمعروف باسم قرار التقسيم قد منح اليهود نحو 54% من مساحة فلسطين التاريخية، فإنها بعد عام 1967 احتلّت ما تبقّى منها، بما فيها القسم الشرقي من القدس الشريف، وأصدرت القوانين والقرارات لمصادرة أملاك الغائبين وبناء المستوطنات، وصولا إلى بناء جدار الفصل العنصري، وارتفعت الدعوات لترحيل العرب من الجانب الشرقي لنهر الأردن، إلى الأراضي الأردنية. لم يكن شعار «فلسطين أرض بلا شعب لشعب بلا أرض» الذي روّج له المفكّر اليهودي إسرائيل زانجويل، الذي طرحه اللورد البريطاني شافتسبري، بلا مغزى، فقد تمّ الاشتغال عليه ليكون أمرا واقعا، وهو اليوم يطبّق في غزّة بأبشع صورة، بإجراءات يصنّفها القانون الدولي «جرائم إبادة جماعية» و«جرائم ضدّ الإنسانية» و«جرائم حرب».
فخلال حرب عام 1948، تمّ تدمير 531 قرية، وهجّر أكثر من نصف سكان فلسطين، وبعد عدوان 5 حزيران/ يونيو 1967، مارست «إسرائيل» ما سمّي بالترانسفير الهادئ، ليصل عدد الفلسطينيين الذين تمّ إجلاؤهم ما يزيد عن ربع مليون، ومُنع نحو 140 ألف فلسطيني من سكان الضفة من العودة إلى مدنهم وقراهم، بعد مكوثهم في الخارج لمدّة ثلاث سنوات ونصف السنة. واستخدمت سلطات الاحتلال ما سمّته «سياسة الجسور المفتوحة» لطرد عشرات الآلاف من المقدسيين الذي غادروا المدينة لفترة زادت عن 7 أعوام إلى الخارج. يكفي أن أشير إلى أن عدد المسيحيين في القدس، عشية قيام «إسرائيل» كان يزيد عن 50 ألف، في حين أن عددهم اليوم يقل عن 5 آلاف. ومثلما مارست «إسرائيل» الدعاية السوداء في السابق، فإنها تمارسها اليوم عبر «الترانسفير الزاحف» في غزّة، وذلك بعد مجازر مروّعة، وهو الأسلوب الذي استخدمته في نحو 25 مذبحة، من أبرزها مذبحة «دير ياسين» 1948، ومذبحة «كفر قاسم» 1956.

كاتب عراقي

 

 

هل من أمن قومي عربي؟

 

عبد الحسين شعبان

 

تشاركت مع الفقيه القانوني المصري مفيد شهاب في إلقاء محاضرة عن «الأمن القومي العربي وتحدياته الجديدة»، وذلك عند افتتاح اجتماع المكتب الدائم لاتحاد الحقوقيين العرب بعمّان، فثمة أسئلة عديدة تستوجب التفكير بصوت عال، بشأن المفهوم بين التقليدي والجديد للأمن القومي العربي.

وإذا كانت الأخطار العسكرية، وحماية الحدود والحيلولة دون التدخلات الخارجية، تشكّل أهم التحديات القديمة، فإن التحديات الجديدة تتعلّق بالجغرافيا السياسية وموقع العالم العربي ودوله منفردةً ومجتمعةً، فضلاً عن التحديات الاقتصادية والثقافية والعلمية والتكنولوجية، لاسيّما ونحن في إطار العولمة وتكنولوجيا الإعلام والطفرة الرقمية «الديجيتال» والطور الرابع للثورة الصناعية واقتصاد المعرفة والذكاء الاصطناعي.

وهذه التحدّيات ترافقت مع تفشّي ظواهر العنف والإرهاب، واستشراء النزعات الطائفية والمذهبية والإثنية، وضعف الهويّة الوطنية والقومية لحساب الهويّات الفرعية.

والحديث عن الأمن القومي العربي موضوع قلق أكثر منه طمأنينة، وهو سؤال شكّ وليس يقيناً، مثلما هو تعبير عن رغبة وليس تعبيراً عن إرادة. وبهذا المعنى فإنه انعكاس لأزمة وإشكالية، وليس انعكاساً لثقة وأمان. مقاربتان يمكن التوقّف عندهما كمدخل لمناقشة التحدّيات الجديدة للأمن القومي العربي: الأولى تتعلّق بالرؤية والدلالة؛ فما هو منظور الأمن القومي العربي؟ وما هي دلالته؟ والثانية هل تحقّق الأمن القومي العربي؟ وإذا لم يتحقق ما السبيل إلى ذلك؟ والسؤال، هل الأمن القومي العربي مبدّد وضائع؟ وإذا كان كذلك، فكيف يمكن استعادته؟

يمكنني القول إن الإرادة الموحّدة ما تزال غائبة ومشتّتة، ولا بدّ من السعي لاستعادتها. والإرادة هي المدماك الأساسي لاستكمال عوامل المواجهة، الأمر الذي يحتاج إلى إيقاظها وتحفيزها وتوفير حيثيات قيامها، خصوصاً حين نُدرك ما يفعله الأعداء من حولنا، الذين لهم مشاريعهم، ففي منطقتنا هناك ثلاثة مشاريع كبرى هي: المشروع الإسرائيلي العنصري الإسرائيلي والمشروع القومي المذهبي الإيراني والمشروع القومي المذهبي التركي، والغائب في معادلة التوازن هو المشروع النهضوي العربي الذي يمكن أن يكون أساساً صلداً للأمن القومي.

ولعلّ هناك علاقة لسبب الغياب بين العلّة والمعلول والسبب والنتيجة، وبقدر ما هناك خصوصية لكلّ بلد، فهناك ما هو جامع، والمسألة تتعلّق: بالوعي والمصالح والمشتركات الإنسانية، وأساسها اللغة والتاريخ والثقافة، بما فيها من أديان المنطقة وتعايشها التاريخي.

لم يتكامل مفهوم الأمن القومي العربي إلّا بعد تفاقم الصراع العربي الإسرائيلي، والبداية كانت صدمة الاستعمار في مطلع القرن العشرين، الأمر الذي خلق شعوراً متنامياً بأن الأمة العربية مهدّدة، وأن هذا التهديد هو لمصيرها ومستقبلها. وكان مثل هذا التطوّر الجنيني قد بدأ يتطوّر بعد سقوط الدولة العثمانية، والذي تجسّد بتأسيس جامعة الدول العربية العام 1945، وكان قيام إسرائيل في العام 1948 ثم الحرب العربية الإسرائيلية منعطفاً جديداً في تكريس الأمن القومي العربي ليترجم عملياً في العام 1950 إلى دعم المجهود الحربي بقيام «معاهدة الدفاع المشترك والتعاون الاقتصادي»، ثم السوق العربية المشتركة (1964) ومقاطعة إسرائيل.

حين صعدت النزعات القطْرية الانكفائية، وضعفت الهويّة العربية الجامعة، وتحوّلت العروبة من رابطة وجدانية إنسانية وحقوقية إلى أيديولوجيا وأنظمة حكم تسلطية، تصدّع الأمن القومي، وبدلاً من اعتبار فلسطين قضية العرب المركزية، صار البلد الفلاني أولاً، والحزب الفلاني أولاً، والطائفة الفلانية أولاً، خصوصاً بتضخيم الهويّات الفرعية، وتحويلها من المطالب المشروعة بعد احتباس إلى عامل إضعاف وتفتيت، لاسيّما من خلال خطوط وقنوات خارجية، إقليمية ودولية لدرجة صار ظهر العرب مكشوفاً.

وما زاد من تحديات الأمن القومي، الحروب والنزاعات العربية والإقليمية؛ فالحرب العراقية - الإيرانية دامت ثماني سنوات، ومغامرة غزو القوات العراقية للكويت (1990)، عاظمت مشكلات المنطقة، خصوصاً ما تبعها من حصار واحتلال العراق، والحروب الأهلية والتدخلات الإقليمية.

ليس هذا فحسب، بل إن العالم العربي، يواجه اليوم تحديات قديمة جديدة تتعلّق بالأمن الإنساني، بما فيه المياه والغذاء والطاقة، سواء من جانب تركيا (دجلة والفرات)، أو مصر والسودان بالنسبة لنهر النيل، وتستمر إسرائيل في شفط المياه الجوفية من الأرض المحتلة ومرتفعات الجولان.

drhussainshaban21@gmail.com

 

 

القطبية واللاقطبية

و)مفارقات القوة(

 

عبدالحسين شعبان

 

أعادت الحرب الروسية-الأوكرانية طرح موضوع القطبية واللاقطبية بحدّة شديدة، على الرغم من أن الجدل والنقاش حولها لم ينقطعا، نظرياً وعملياً، منذ انتهاء الحرب الباردة في أواخر الثمانينات بانهيار الكتلة الاشتراكية وتحلّل الاتحاد السوفييتي.

 ولكن النظام الدولي الجديد الذي قام على الأحادية القطبية بقيادة الولايات المتحدة، لم يترسخ، إذ سرعان ما واجه تحديات، عدة ومختلفة، أخذت تنمو وتتسع، خصوصاً بعد انفراد واشنطن بقرار غزو العراق عام 2003 من دون ترخيص من الأمم المتحدة، وبمعارضة من جانب ألمانيا وفرنسا، أكبر وأهم قوتين في الاتحاد الأوروبي.

  وكان سعي واشنطن قد انصب على منع تشكيل أي قوة قطبية مستقلة، بما فيها الاتحاد الأوروبي حليفها، إضافة إلى اليابان، فما بالك بالصين وروسيا والهند، وغيرها، إلا أن عوامل عدة ساهمت في تعزيز مواقع أقطاب جديدة منافسة لواشنطن، من دون أن يعني ذلك فقدانها مصادر جبروتها وسيطرتها.

  وحين أصبح فلاديمير بوتين، الرئيس الرابع لجمهورية روسيا الاتحادية في 2007، سعى إلى ترميم الاقتصاد المنهار، وتطويق ظواهر الفساد والعنف، في إطار توجه مركزي اعتبره الغرب تراجعاً عن الديمقراطية، لاسيما بتقليص بعض الهوامش الصحفية والإعلامية، والتضييق على المعارضة. وخلال فترة حكمه، انتعشت الرغبات في استعادة موقع روسيا، وتغيير توازنات القوة لتكون بلاده أحد الأقطاب الأساسية في العلاقات الدولية، وتدريجياً الانتقال من القطبية الأحادية إلى القطبية التعددية.

  وإذا كانت القطبية تعني هيمنة قوة دولية كبرى، أو قوتين أو أكثر، على العلاقات الدولية، فإن اللاقطبية، وهي مرحلة انتقالية، تعني أن العالم فيه عدد من الفاعلين الذين يمتلكون أنواعاً مختلفة من القوة، بحيث لا يمكن فرض إرادة قوة أخرى عليهم. وهكذا، فاللاقطبية هي حالة من التوازن لا يستطيع فيها طرف فرض إرادته على الأطراف الأخرى، وهي ليست حالة جديدة في العلاقات الدولية، فقد شهد التاريخ فترات انتقالية تصدعت فيها قوى وإمبراطوريات كبرى، أو أفل نجمها بفعل اصطفافات وتحالفات جديدة، كانت الحروب أحد سيناريوهاتها الأساسية، وكل حرب تنتج بعدها موازين قوى جديدة لتقاسم المصالح الدولية. وهكذا تتحول اللاقطبية إلى قطبية، سواء كانت ثنائية، أو متعددة.

  ويمكنني القول إن بدايات مرحلة اللاقطبية الجديدة بدأت باحتلال العراق، الأمر الذي استنفد الولايات المتحدة حتى اضطرت إلى الانسحاب عام 2011، بعد أن خسرت سمعتها، ونحو تريليوني دولار أمريكي، و4800 قتيل، وما يزيد على 20 ألف جريح ومعوق، وأدى ذلك إلى صعود قوى جديدة، كان في مقدمتها الصين وروسيا، إضافة إلى اليابان والهند والبرازيل وجنوب إفريقيا.

  وقد عملت واشنطن كل ما في وسعها لمنع تشكيل قطبية تعددية جديدة، بما فيه اللجوء إلى نظام عقوبات غليظة، خصوصاً في فترة الرئيس أوباما ضد روسيا، وفيما بعد ضد الصين، فضلاً عن محاولة عزل الدول والحكومات التي تُبدي اعتراضاً على توجهاتها في استمرار هيمنتها على العلاقات الدولية.

  ولم يكن القرار الروسي باستعادة شبه جزيرة القرم في 2014، وشن الحرب على أوكرانيا في فبراير/ شباط 2022، سوى محاولة جديدة لتغيير موازين القوى، وكسر الإرادات للانتقال من اللاقطبية إلى القطبية. ويمكن إدراج موضوع دعم روسيا لسوريا في هذا الإطار، فضلاً عن قوى إقليمية أخرى لكلٍ أهدافها، مثل إيران وتركيا، وذلك كأحد مؤشرات السعي لرسم خرائط جيوسياسية جديدة لإنهاء نظام اللاقطبية، من دون نسيان دور واشنطن في كبح جماح تلك المحاولات، سواء بمساعدة أوكرانيا أو استمرار الوجود العسكري الأمريكي في العراق.

  صحيح أن الحرب بين روسيا والولايات المتحدة تبدو صعبة، بل ومستحيلة أحياناً، لأنها ستؤدي إلى فناء البشرية بسبب السلاح النووي، لكن الحروب بالوكالة والحروب الإقليمية، بما فيها حرب أوكرانيا، ستكون بديلاً عن الحرب المباشرة، وهو ما كان يجري في فترة الحرب الباردة (1946-1989)، التي شهدت اندلاع عشرات الحروب الكبيرة والصغيرة، من دون حصول مواجهة عسكرية واحدة بين المعسكرين.

  وقد تشهد العلاقات الدولية في المستقبل القريب نوعاً من التوازن، في إطار نظام دولي جديد، علماً بأن التعددية القطبية قد تحدث ليس بفعل ما يسمى بالتمدد والتقلص، إذ قد يكون وارداً وجود أقطاب عدة مع تميز لأحدها، كما هي الولايات المتحدة اليوم، ولكن من دون تفردها، وهو ما نظّر له جوزيف ناي في كتابه «مفارقة القوّة الأمريكية»، يقابله تنظير آخر لانزياح القوة الغربية بتمدّد «القوة الآسيوية»، أو ما سمّي ب«القرن الآسيوي»، أي الهيمنة بلا احتلال.

drhussainshaban21@gmail.com

 

 

الحاكم والمحكوم وما بينهما

عبد الحسين شعبان

 

تُعتبر العلاقة بين الحاكم والمحكوم الإشكالية الأساسية في أية دولة، وعلى حلّها يتوقف تقييم الدولة بأنها ناجحة، أو فاشلة، عادلة أو ظالمة، ديمقراطية أو تسلطية. والأمر يتعلق بشكل الدولة وطبيعة نظامها السياسي، والمبادئ والقيم التي تحكمها، والقواعد التي يقوم عليها «العقد الاجتماعي»، والذي يتأسس عليه دستورها أو نظامها الأساسي، وهو الذي يُطلق عليه «أبو القوانين»، والذي تُقاس على أساسه دستورية القوانين التي يتم تشريعها. ومن هذه القواعد، وارتباطاً بالممارسة والتطبيق، يمكن الحكم على شرعية النظام السياسي أو عدم شرعيته، سواء بمرجعياته المختلفة أو تطبيقاته المتعددة.

الدولة، حسب البروفيسور ليون دكي، ليست سوى التمييز السياسي بين الحاكم والمحكوم. وحسب عالم الاجتماع ماكس فيبر، فإن الشرعية أساس السلطة، وهذه تستند إلى معايير وقواعد أساسية عمادها ثقة الناس بالنظام السياسي، من خلال قناعتهم بإجراءاته المتّبعة لتحقيق تلك القواعد التي يتمّ التعبير عنها بالإرادة السياسية طبقاً للقانون.

وثمة خلط يحدث في الأغلب بين فكرة الشرعية، وبين فكرة المشروعية، فالأولى هي مفهوم سياسي يعتمد على درجة قبول النظام أو عدم قبوله من جانب المواطنين، وشعورهم نحوه، وثقتهم بإجراءاته، الأمر الذي يمنح الشرعية أو يحجبها عنه، لا سيّما بما يقدّمه من منجز لهم على الصعيد العملي. أما «المشروعية» فتعني «حكم القانون»، وهذا يعني درجة انطباق أو عدم انطباق سلوك سياسي أو تصرّف معيّن مع القانون، التزاماً أو خرقاً.

ومع ذلك، تبقى حلقة مفقودة بين الشرعية والمشروعية في العلاقة بين القانون والسياسة، وبين الحاكم والمحكوم، إذ إن طموح أي مجتمع أو فاعلية سياسية أو حقوقية، هو السعي لتحقيق التوافق بين الشرعية والمشروعية، لاسيّما إذا كان التطابق غير ممكن، فإن السير بخط متواز بين الشرعية والمشروعية يعني تحقّق رضا الناس مصحوباً بحكم القانون، ولذلك تُجهد بعض الأنظمة نفسها لإظهار مثل هذا التوافق، ولو شكلياً، في الكثير من الأحيان، لكي تزيّن صورتها أمام العالم الخارجي.

وترتبط الشرعية بمسألة كيفية ممارسة السلطة السياسية في المجتمع وأسلوب إدارتها، وبالتالي العلاقة بين الحاكم والمحكوم، انطلاقاً من المساواة والعدل والشراكة والمشاركة، وبالطبع مبادئ الحريّة، وتلك تشكّل أساس المواطنة في الدولة العصرية.

ويختلف مضمون الشرعية وأهدافها وأدواتها، تبعاً لاختلاف الدول، وطبيعة أنظمتها السياسية والاجتماعية، ففي فترة الحرب الباردة والصراع الأيديولوجي، وفي ظل نظام القطبية الثنائية، ساد مفهوم «الشرعية الثورية» في البلدان الاشتراكية، وبلدان التحرر الوطني، وإن كان لهذا الاستخدام ما يبرره في مرحلة الانتقال، لكن هذه «الشرعية الثورية» استمرّت لعقود من الزمن لتُصبح واقعاً متعسفاً في مصادرة حق الناس في اختيار الحاكم، وهكذا فقدت الشرعية المزعومة أي معنى، وتحوّلت إلى استبداد واستئثار ومصادرة للحقوق والحريات.

لم يعد تبرير الكلام عن «الشرعية الثورية» ممكناً، حتى بوصفها مرحلة ضرورية لمعايير قيمية يهدف إليها التغيير، بل أخذ الحديث شكلاً آخر، منذ نحو أربعة عقود من الزمن، أُطلق عليه اسم «العدالة الانتقالية»، وهي مرحلة وسطية ولفترة محدودة ما بين مرحلتين، تمهيداً للانتقال إلى الشرعية الدستورية، وفقاً لعقد اجتماعي جديد تقوم قواعده العامة على المواطنة واحترام التنوّع والتعددية والاعتراف بالآخر، في إطار حكم القانون وفصل السلطات واستقلال القضاء والانتخابات الدورية، مع الأخذ في الاعتبار درجة تطوّر كلّ بلد، وتوافق نخبه ومرجعياته السياسية والثقافية.

وحتى الحديث عن الديمقراطية التي هي نتاج للجهد البشري والتراكم الثقافي والمعرفي، فقد اتّخذ بُعداً جديداً، لأنه لا يخصّ حضارة، أو أمة، أو شعباً، أو منطقة، أو دولة، أو لغة، أو مجتمعاً، من دون سواه، فالانتقال الديمقراطي قانون اجتماعي للتطور الإنساني، باعتباره القاسم المشترك من دون نسيان خصوصيات الشعوب وهويّاتها وثقافتها وتاريخها، والذي يجب أن يأتي من تنوّع المصادر والتيّارات الاجتماعية وتوافقها.

وإذا كان الماضي، حسب المفكر الإيطالي، أنطونيو غرامشي، قد احتضر، فإن الجديد لم يولد بعد، الأمر الذي يحتاج إلى توفير جميع العناصر الضرورية لولادة طبيعية ولنمو سليم في بيئة مناسبة وظروف سلمية.

لقد تهاوت الشرعيات الثورية في البلدان الاشتراكية السابقة، وامتدّ الأمر ليشمل الشرعيات الثورية العسكرية في العالم الثالث، الأمر الذي يحتاج إلى فترات انتقالية للتكيّف، والتواؤم لصياغة عقد اجتماعي جديد للشرعيّة والمشروعيّة، يختلف عن العقد القديم، لاسيما العلاقة بين الحاكم والمحكوم.

drhussainshaban21@gmail.com

 

 

أسلحة الحرب الناعمة

عبدالحسين شعبان

 

 غالباً ما يرتبط الحديث عن الحرب الناعمة بالحرب الصلبة، وأحياناً تسمّيان «الدبلوماسية الناعمة»، و«الدبلوماسية الخشنة»، ومنهما يتفرّع مفهوما «الأمن الناعم» و«الأمن الصلب». وطريق الحرب الناعمة طويل ومتعرّج وبطيء، ولكنّه الأقل كلفة، بشرياً ومادياً ومعنوياً، وهي تستهدف كسب العقول والقلوب في الآن، والتأثير في الوجدان والسلوك.

وتمثّل الحرب الناعمة الجيل الرابع من الحروب. وعملت الولايات المتحدة على تطوير استراتيجياتها منذ سبعينات القرن الماضي، وخلال احتدام «الصراع الأيديولوجي»، ضدّ الاتحاد السوفييتي في فترة ما أُطلق عليه «الحرب الباردة».

وكان المفكّر الأمريكي، نعّوم تشومسكي، المعروف بمناهضته لسياسة الهيمنة الأمريكية، هو من لفت الانتباه إلى دور الحروب الناعمة التي تستهدف إجبار العدو على الرضوخ بوسائل غير حربية، في كتابه «صناعة الإذعان».

ويُعتبر جوزيف ناي أول من صكّ مصطلح «الحرب الناعمة» في عام 1990 في كتابه الموسوم «وثبة نحو القيادة»، ثم توسّع في تفسيره وشرحه وتطويره ليصبح نظرية كاملة في كتابه المعنون «القوة الناعمة».

وفي الحرب الناعمة فإن الخصم، أو العدو، يتخفّى بصورة ماكرة، أو مخادعة، وراء عناوين تبدو بريئة أحياناً، سواء بتعميم قيمه، أو تشويه صورة الآخر، وإضعاف معنوياته عبر إعلام مضلّل ودعاية سوداء، والهدف كسر شوكته وتحطيم مقاومته بوسائل غير عنفية، بدلاً من الإكراه بالعنف والوسائل الحربية.

الحرب الناعمة تستخدم جميع وسائل القوّة غير العسكرية، لاسيّما الجاذبية الثقافية لدولة ما، وقيمها السياسية ونظامها الاجتماعي، من خلال ثلاث دوائر أساسية: أولاها الدائرة الاقتصادية، أي قوّة الاقتصاد، وثانيتها القوّة العسكرية، فبقدر ما تحتاج القوّة الناعمة إلى وسائل غير عسكرية، فهي بحاجة إلى قوّة عسكرية تمثّل ردعاً، حتى وإن لم تُستخدم، لأن امتلاك القوّة يوازي استخدامها، وثالثتها القوّة الثقافية، بما فيها الفنون والآداب ونمط الحياة للتأثير في سلوك الآخر، سواء كان بصورة ظاهرة، أو مُضمرة.

وهكذا، فقوّة الحرب الناعمة ثلاثية الأبعاد مثل لعبة الشطرنج. وعلى من يريد تحقيق الفوز اللعب بالاتجاهات الثلاثة، وليس باتّجاه واحد، فقد فرضت العولمة سياقات جديدة بفعل التطوّر الهائل وغير المسبوق في وسائل الاتصالات والمواصلات وتكنولوجيا الإعلام. يضاف إلى ذلك عدم قدرة السلاح النووي وحده على الردع، لأن استخدامه أمر يعود بالضرر على الجميع، بمن فيهم من يستخدمه.

وهكذا تغيّرت معادلات القوّة وموازين القوى، وأخذ دور الحرب الباردة الجديدة يزداد ويتّسع للتأثير في العقول، وأحياناً لنزع «شرعية»، أو فرضها، أو بناء «مشروعية»، أو حجبها، من خلال قلب الحقائق وخلط الأوراق وتحويل نقاط القوّة إلى نقاط ضعف، لاسيّما بالحروب السيبرانية والبيئية والفضائية.

ولكي تدار الحرب الناعمة بمهارة، لا بدّ من ابتكار وسائل جديدة لمخاطبة العقول وكسب القلوب، ورفع شعارات جديدة ومؤثّرة، على الصعد الثقافي والسياسي والاقتصادي والاجتماعي والفني، بما فيها نمط الحياة الذي يُراد تعميمه لتسويق وترويج وجهات النظر، وزرع الشك، وعدم اليقين بكلّ ما يخالفها.

وتقيم الدول الكبرى وأجهزتها صلات ومنصّات وبوابات دبلوماسية وثقافية ومراكز أبحاث ودراسات، ومشاريع اقتصادية وفنية وإعلامية ورياضية، ضمن مخططات آنية ومتوسّطة وبعيد المدى للتأثير في الآخر، سواء لنقض روايته، أو لاختراع رواية جديدة بتزوير وثائق واختلاق أكاذيب، تصبّ في نهاية المطاف للفوز في حربها الناعمة.

وتقوم الدول اليوم وبعض مراكز القوّة في الدول الكبرى وبعض البلدان النامية بمراجعة وتقييم القوّة الناعمة وتحديد المؤسسات التي تقوم بها، لإدراك منافسيها من جهة، ومزاياها من جهة أخرى.

ويبدو أن الحرب الناعمة ستكون لها الأولوية في ظلّ ثورة الاتصالات والمواصلات واقتصاد المعرفة والذكاء الاصطناعي، وهو أمر قد تكون نتائجه خطرة على البشرية، وقد لا تقلّ خطراً عن الحروب العظمى.

drhussainshaban21@gmail.com

 

 

سيرورة التاريخ

عبد الحسين شعبان

 

سألتني إحدى طالباتي في دراسة الماجستير: أراك كثير الاهتمام بالتاريخ، فهل درست التاريخ مثل القانون أو معه؟ قلت لها: دراسة التاريخ ومعرفة فلسفته ليستا شغفاً بالمعرفة فحسب، بل إنهما ضرورة، وقد تعلمت ذلك من اثنين من الخبراء الكبار أختلف معهما كلياً في التوجهات والمواقف الأكاديمية والعملية.

Ads by وأردفت الطالبة بالسؤال: ومن هما؟ قلت: كلاهما لا يخفي انحيازه للصهيونية وإسرائيل بشكل مباشر أو غير مباشر، الأول أمريكي من أصل ألماني، وكان مستشاراً للأمن القومي ووزيراً لخارجية الولايات المتحدة، وأقصد به هنري كيسنجر، والثاني أمريكي من أصل بريطاني، وهو أكاديمي كبير وخطير أيضاً، وله العديد من المؤلفات، وكنت قد قرأت له مؤخّراً كتاباً بعنوان «هوامش على قرن مضى»، وهو عبارة عن خواطر ومذكرات بصفته مؤرّخاً مهتماً بالشرق الأوسط، وأعني به برنارد لويس. وهو الذي صكّ مصطلح «صدام الحضارات» الذي أخذه عنه صموئيل هنتنغتون في العام 1993 في مقالة له، ثمّ طوّره ليصبح كتاباً، أثار جدلاً واسعاً، إضافة إلى كتاب فرانسيس فوكوياما «نهاية التاريخ والإنسان الأخير».

 وأعود إلى السؤال: لماذا التاريخ؟ ففي كلّ تاريخ فلسفة، ولكلّ علم تاريخ وفلسفة، وإذا كانت الفلسفة «أم العلوم» فالتاريخ «أبو العلوم»، وباتحادهما يمكن الوصول إلى الحقيقة الكامنة في الحكمة، وهذه، حسب كونفوشيوس، تعني «حب الناس».

 ويوم غادر كيسنجر مكتبه بعد انتهاء مهمته الرسمية، لم يأخذ معه سوى كتب التاريخ والفلسفة، وحين سُئِل: كيف وصلت إلى ما وصلت إليه؟ قال: بالتاريخ والفلسفة. والتاريخ لا يكتبه المؤرخون وحسب، بل الأدباء والفنانون، حسب مكسيم غوركي، ففي التاريخ نبحث عن المجهول وليس عن المعلوم، وذلك لاكتشافه.

 وفي التاريخ، حسب برنارد لويس، لا بدّ من تعلّم الطريقة والمنهج، وهذا هو الأساس، علماً بأنه استخدمه هو لأغراض سياسية خاصة وضيّقة، وهو الذي عمل خلال الحرب العالمية الثانية في قسم الاستخبارات البريطانية، حين تمّ تجنيده، أو ما بعد ذلك في خدمة الدوائر الرسمية الأمريكية والإسرائيلية، وهو ما يفصح عنه في لقاءات مع ملوك ورؤساء ووزراء ومسؤولين وشخصيات عليا كان يتباحث معهم بصفته الأكاديمية، كما يقول، ثم يكتب تقاريره للجهات الرسمية وغير الرسمية، التي تكلّفه عادةً بمثل هذه المهمّات، أو هو يتطوّع للقيام بها لأصحاب القرار.

 وقد أوصى برنارد لويس في العام 1979 بتفتيت الوطن العربي وتقسيمه إلى 41 كياناً إثنياً ودينياً وطائفياً وسلالياً، وتحويل العرب إلى أقليات متنازعة ليسهل التحكّم بهم، وهو ما تبنّاه «الكونغرس» الأمريكي بقراره العام 1983، وذلك لكي تصبح إسرائيل «الأقلية»، ضمن أقليات عديدة، الأكثر تقدماً بالعلوم والتكنولوجيا بمساعدة الغرب. وكان كيسنجر قد صرّح قبله بخصوص تطويع العالم العربي بقوله: ينبغي أن نقيم دويلة وراء كلّ بئر نفط، وذلك لمنع قيام أي اتحاد عربي.

 وبغضّ النظر عن رأي كيسنجر أو لويس، فإن إحدى المنهجيات التي يعلّمها التاريخ هي ضرورة التحرّر من القيود المسبقة المفروضة أحياناً، واتباع البينة والبرهان، وإلى حيث تقود نتائج البحث التاريخي، سواء كانت النتيجة مرضية لك أو غير مرضية.

 وفي البلدان المتقدمة تتسع مساحة البحث العلمي، وتُخصّص لها ميزانيات كبيرة، ويُؤخذ بنتائج أبحاثها، بما فيها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، في حين تتقلّص الحريات العلمية والأكاديمية في البلدان النامية، خصوصاً في الأنظمة السلطوية والديكتاتورية.

 الباحث المهتم بالتاريخ لا يبدأ من النتائج، ولكن من المعطيات والوقائع والأحداث والروايات بما فيها غير المكتوبة، التي يُعيد قراءتها واكتشافها، وبالتالي يستنتج الحقائق من خلالها، بما يوفّر زاداً للحاضر، إذْ لا يمكن قراءة الحاضر بمعزل عن الماضي، ومعرفة الماضي تعطي للدارس الأفق المستقبلي، لاسيما إذا توفرت الأدوات المنهجية الأخرى.

والمسؤولية التاريخية تقتضي قول الحقيقة خارج أُطر الدعاية والأيديولوجيا والانحيازات المسبقة، بما فيها المواقف السياسية.

 يمكنني القول إن التاريخ علم عظيم، لكنه غير كامل أو تمامي، بل يبقى ناقصاً ومتناقضاً ومليئاً بالفجوات وبلا اتّساق، لأنه انعكاس للمأزق الإنساني. وقيمة التاريخ هي مدّنا بالأسئلة الجوهرية، لاسيما إزاء بعض المسلّمات الظاهرة أو المخفيّة، المعلنة أو المستترة، فما بالك بالعقد التاريخية، خصوصاً إذا كنا نبحث عن الإنصاف والعدالة، وليس ادعاء الأفضليات والزعم بامتلاك الحقيقة، ومحاولة تنميط التاريخ أو نمذجته ليكون متطابقاً مع أفكارنا أو توجهاتنا أو مصالح المتسلّطين.

drhussainshaban21@gmail.com

 

 

أوكرانيا

وحروب الجيل الخامس

 

عبدالحسين شعبان

 

في عام 2014، استولت روسيا على شبه جزيرة القرم، التي كانت ضمن السيادة الأوكرانية منذ عام 1956، وذلك تحت مبرّر أن الزعيم السوفيتي خروتشوف، وهو من أصل أوكراني، كان قد ضمّها إلى أوكرانيا التي كانت تحت الخيمة السوفيتية.

وحسب ما تناقلته الأخبار، أن ثمة «رجالاً خضراً صغاراً» ظهروا دون شارات عسكرية، وتمكّنوا من السيطرة على شبه جزيرة القرم. وعلى الرغم من احتجاج العالم والعقوبات التي اتّخذها الغرب ضدّ روسيا، فإن الأمر أصبح «واقعاً». ولعلّ نهج استعادة دور روسيا كان قد اتّبعه فلاديمير بوتين منذ أن بدأ نجمه يلمع في سماء السياسة الروسية، في محاولة لتعديل موازين القوى باتجاه تجاوز الأحادية القطبية نحو قطبية متعدّدة، وخصوصاً مع ارتفاع رصيد الصين كدولة منافسة اقتصادياً وتجارياً وثقافياً وعلمياً للولايات المتحدة.

وتكرّر السيناريو ذاته في الاستيلاء على مناطق الدونباس، شرق أوكرانيا، حيث بدأ الهجوم الروسي في 24 شباط/فبراير 2022، وتم الإعلان عن تأسيس جمهوريتين اعترفت بهما موسكو على الفور، هما دونتسك ولوغانيسك.

وخلال تطوّرات الحرب، وبعد شهور حصلت انفجارات تحت الماء أضرّت بخط أنابيب كانت روسيا تتحكّم به لنقل الغاز الطبيعي إلى ألمانيا، وألقت روسيا اللوم على واشنطن وحليفاتها بولونيا وأوكرانيا، في حين اتّهمت أوكرانيا روسيا بمحاولتها الضغط على أوروبا لقبول شروطها، بسبب نقص الغاز وارتفاع أسعار الوقود بشكل عام.

Ads byفما هي الحرب الهجينة؟ باختصار هي خليط من تكتيكات الحرب التقليدية والنفسية العنفية والسلمية، الافتراضية والواقعية، المعلنة والسريّة، حيث لم تعد الدولة وحدها هي التي تحتكر استخدام القوّة المسلّحة، فالجيل الخامس من الحروب أظهر عناصر جديدة خارج نطاقها وقادرة على شنّ الحرب، مثل الجماعات المسلّحة الإرهابية وعصابات الجريمة المنظمة والميليشيات العسكرية.

الحروب الهجينة هي حروب شبكة المعلومات الأساسية التي يمكن للدولة أن تستخدمها للتأثير في العدو وإرباك خططه والتشويش على برامجه، كما يمكن للجماعات المسلّحة أن تستخدمها في ربط المتطوّعين وتجنيد آخرين، وإحداث التخريب المطلوب لدى العدو. وساهم الذكاء الاصطناعي وتكنولوجيا النانو في زيادة قدرة الدول والجماعات المسلحة على استخدام الحروب الهجينة التي تسعى لتحقيق أهداف سياسية محدّدة تحت غطاء ديني أو عنصري أو أيديولوجي.

وتتعاون الجماعات المسلّحة أحياناً مع دول وكيانات سياسية، تلتقي معها في أهداف محدّدة. وعن طريق التخادم يستفيد أحدهما من الآخر، فالدولة تحتاج إلى مثل هذه الجماعات أحياناً لتحقيق استراتيجيتها. وهذه الجماعات تحتاج إلى دول تقف خلفها أو تسهّل مهمّاتها أو تكون ممراً لها لتحقيق أهدافها، وذلك عبر شبكات عابرة للحدود كما هي تنظيمات القاعدة وداعش والذئاب المنفردة وأيّ جماعات مسلّحة.

وتعتمد حروب الجيل الخامس أو الحروب الهجينة على الشبكات الافتراضية التي تقدّم لها المعلومات والاستشعارات عن بُعد، وتقيس مدى التأثير الذي تتركه في العدو، مثلما تعتمد على قيادات قادرة وكفوءة لإدارة وربط العناصر جميعها عبر الشبكات الافتراضية.

وتحتاج الحروب الهجينة إلى ما يسمّى سحابة القتال الافتراضية التي توصل المعلومات الجديدة إلى عناصر القوات المقاتلة بجميع أفرعها عبر الإدارة المشتركة التي تشمل جميع الميادين في البرّ والبحر والجو والفضاء الإلكتروني، بحيث تكون الحرب مفتوحة تنساب منها المعلومات والتعليمات بشكل منهجي.

ولكن على الرغم من الدور الكبير الذي تلعبه حروب الجيل الخامس، فعلينا ألا ننسى دور العنصر البشري الذي يبقى مهماً بما فيه المعنويات في الحرب، فحتى لو توفّرت عناصر التفوّق اللوجستي، فإن ذلك وحده لا يحقّق النصر، وأبرز مثال على ذلك التفوّق العسكري الأمريكي على المقاتلين الفيتناميين، إلّا أن الهزيمة كانت من نصيب واشنطن في حربها غير العادلة في فيتنام، ناهيك عن معنويات المقاتلين الفيتناميين مقابل تردّي معنويات الجنود الأمريكان، يضاف إلى ذلك ردّ الفعل العالمي إزاء التدخّل الأمريكي في فيتنام.

والأمر كذلك بشأن احتلال العراق من جانب الولايات المتحدة عام 2003، واضطرارها إلى الانسحاب منه في نهاية عام 2011 بعد خسارة 4800 قتيل وأكثر من عشرين ألف جريح ومعوّق، فضلاً عن تبديد تريليوني دولار وفقدان واشنطن سمعتها على الرغم من تفوّقها العسكري. وفي أفغانستان انسحبت الولايات المتحدة مهزومةً بعد 20 عاماً من احتلالها (عام 2001).

drhussainshaban21@gmail.com

 

 

عن ثقافة الكراهية

عبدالحسين شعبان

 

تتغذّى مشاعر الكراهية لدى الأفراد أو الجماعات، باستغلال الجانب الغرائزي والانتماءات الضيّقة والهويّات المغلقة، التي تقوم على التعصّب بادعاء الأفضليات وامتلاك الحقيقة تحت مسوّغات دينية أو عرقية (إثنية) أو طائفية أو مذهبية أو أيديولوجية أو عشائرية أو غير ذلك، وهذه بدورها تنمّي الشكوك وتزرع الأحقاد بين الناس، لأنها تقوم على ادعاءات التفوّق، فيُصبح «الآخر»، أي آخر، خصماً أو عدوّاً «وكُلّ غريب مريب»، وبالتالي فهو لا يستحق ذات المكانة التي ينتمي إليها الفرد أو المجموعة.

والتعصّب يتضمن الرغبة في الإقصاء والإلغاء والتهميش، والحطّ من قدر الآخر، وذلك قبل أن يتحول إلى فعل أو سلوك، إلّا أنه يُصبح خطراً حين ينتقل من التفكير إلى التنفيذ فيتحول إلى تطرف.

والتطرف يقترن بفرض الرأي بالقوة بزعم امتلاك الحق، فيسوق حججاً ومبررات لذلك، وهكذا لا يتورع المتطرف من اللجوء إلى العنف لفرض رأيه، سواء كان لفظياً أو مادياً. والعنف هو نتاج استيلاء التعصب والتطرف على عقل الإنسان، وتبرير ما يقوم به حتى ولو ارتكب مجازر، فلا ضير في ذلك. لأن الحقيقة ستكون إلى جانبه مدّعياً أن غايته شريفة، بغض النظر عن الوسيلة التي يستخدمها للوصول إلى غايته.

وليس غريباً حين يتمكن التعصب ثم التطرف من إنسان أو مجموعة بشرية، فيستحكم فيه أو فيها الكراهية ضدّ الآخر، وهو ما يترجم أحياناً إلى أعمال عنف لا إنسانية، طالما يستبطن ذلك الاعتقاد بصوابية السلوك والفكرة.

ولعل أكثر المجازر في التاريخ التي أُزهقت فيها ملايين الأرواح، وشنّت الحروب واندلعت النزاعات بسببها قامت على الكراهية، فالضحايا يصبحون مجرّد أرقام، ومن يلتجئ إلى ذلك يجد التفسيرات والتعليلات، تارة بحجّة المظالم التاريخية وأخرى رد فعل للاستلابات من خلال الانتقام، وثالثة بسبب الفقر والبطالة ومرّة رابعة بالتفاوت الاجتماعي والطبقي، وبكل الأحوال الادعاء بالتفوق والأفضلية على الآخر، وهناك من يضيف ظلم النظام الاجتماعي، إضافة إلى عوامل نفسية شخصية وعامة، بما فيها ظلم القوى الخارجية وطغيانها، وهكذا تظهر الكراهية والانتقام والثأر كعناصر للقيام بالفعل ضدّ الآخر.

وفي مجتمعاتنا العربية والإسلامية هناك من يحرّض ويعبّئ وينظّر لثقافة الكراهية، حيث التخلّف يهيّئ مناخاً مناسباً لها ثقافياً وفكرياً، فتنمو فيروساتها وتتكاثر، لتنتشر ضمن أجندات سياسية تقوم على تكفير الآخر بعد تأثيمه وتجريمه وتحريمه.

حين قُتل فرج فودة، سُئل القاتل: ولماذا قتلته؟ قال: لأنه كافر، فسأله القاضي: ومن أين عرفت ذلك؟ هل قرأت ما كتبه؟ فأجابه: كلا، لأنني لا أقرأ ولا أكتب وإنما سمعت ذلك. وهنا تكون الإشاعة أحياناً أقوى من الحقيقة، وهو ما يُراد بثه للهيمنة على العقول وتسخيرها، والأمر حصل في محاولة قتل نجيب محفوظ وجار الله عمر، وكأن التاريخ يُعيد نفسه.

وقد اطّلعت على إجابات بعض المرتكبين عن إقدامهم على الفعل الإجرامي، فأجابوا لو عادوا مرّة أخرى سيقومون بذات العمل، لأن معتقداتهم الدينية أو الطائفية أو السياسية، هي التي تدفعهم لذلك لاجتثاث الفكر الآخر، وليس ذلك سوى هيمنة ثقافة الكراهية على بعض البشر، والأمر لا يقتصر على الجهلة أو غير المتعلّمين، بل إن بعضهم تخرّج في أرقى الجامعات، لكنه تشرّب بروح الكراهية، وشُحِن بالعداء للآخر، حيث تلعب بعض الأيديولوجيات دورها في ذلك من خلال روافد مختلفة، لاسيما في مخاطبة الشباب بزعم «الموت من أجل العقيدة» و«ملاقاة الله» تحت عناوين لا علاقة لها بالجهاد في الإسلام، بل إن ما يقومون به شكل من أشكال العنف والإرهاب القائمين على التعصّب ووليده التطرف.

إن ثقافة الكراهية، هي نتاج فكر استعلائي متعصّب، يدّعى احتكار الحق والحقيقة، بعضها يقوم على أوهام التفوّق، التي يتم ضخّها بأساليب مختلفة من خلال مناهج التعليم والإعلام والخطاب الديني بالضدّ من الآخر، سواء بالممارسة العملية أو من خلال قوانين تمييزية تتعارض مع ثقافة السلام والتسامح والتنوّع والتعددية.

لعلّ ما حصل في رواندا العام 1994 من جرائم إبادة جماعية، مدعاة للتفكّر بما تنتجه ثقافة الكراهية، حيث تعرضت قبيلة التوتسي إلى الإبادة الجماعية، الأمر الذي دفع الأمم المتحدة في العام 2003 إلى استذكار تلك الجرائم الأليمة، التي قُتل فيها 800 ألف إنسان على يد قبيلة الهوتو.

drhussainshaban21@gmail.com

 

 

الرومي..

الروح ومدارك الكمال

عبدالحسين شعبان

 

أن تزور مرقد جلال الدين الرومي في قونية (تركيا)، فذلك له أكثر من دلالة، خصوصاً حين يزداد رصيده في الغرب، وتصبح كتبه وفلسفته الصوفية الأكثر إقبالاً، حسب هيئة الإذاعة البريطانية، والأكثر من ذلك حين تشاهد الآلاف من الزوار يتوافدون إلى مرقده، فبعضهم قرويون وبسطاء من عامة الناس، وبعضهم مريدون وطلّاب ومحبّون للشعر وسواح ثقافيون من مختلف أقطار العالم.

ويزداد شغفك حين تحضر عرضاً فنياً راقياً لفرقة الدراويش في إسطنبول، التي تمتزج فيها الموسيقى بالرقص الروحاني بحركات رياضية يختلط فيها الكبرياء بالخشوع بإتقان منقطع النظير وتدفّق وانسياب ودوران، فضلاً عن لغة شاعرية جذّابة، وأسلوب ساحر من الطهريّة الدينية الفائقة.

dsظلّت حياة الرومي مملوءة بالغموض، بقدر ما هي مملوءة بالمعاني والعبر والدروس في العشق والفلسفة وأسرار مكنونات النفس البشرية، ولا تزال مصدر إلهام للباحثين والدارسين والمهتمين بأدب الرومي وحياته، فضلاً عن علاقته بتوأمه الروحي، شمس الدين التبريزي منذ اجتمعا في قونية لنحو عامين ونصف العام، اختفى فيها شمس بعد مرور 16 شهراً، وأرسل الرومي من يبحث عنه، ليأتي به من دمشق، لكن عودته الثانية لقيت سخطاً ورفضاً من العامة، دفعه للاختفاء مرّة أخرى إلى الأبد، وربما تعرّض فيها للاغتيال. المؤكّد أن ظروفاً غامضة ظلّت تحيط باختفائه الثاني، الأمر الذي انصرف فيه الرومي عن الفقه والتدريس والعلوم الإسلامية إلى الشعر والصوفية والمناجاة، والتعبير عن ألم الفراق، وهو ما تركه لنا من تراث صوفي إنساني باهر؛ حيث ما تزال كتبه تثير الكثير من الأسئلة الفلسفية، وأشعاره ترسم صوراً غنية بصفته شاعر الحب الصوفي، الذي وُلد في عام 1207 في بلاد فارس (خراسان – بلخ)، وهناك من يقول في أفغانستان، وقيل إن نسبه يمتدّ إلى الخليفة الأول أبي بكر الصديق رضي الله عنه.

امتاز الرومي بكاريزما عالية، زاد فيها غموضه سحراً بقدر ما امتلك من جاذبية في تقديم الحكمة العميقة بلغة عذبة. وعلى الرغم مما يفصلنا عنه، فإن شعره يبقى الأكثر تأثيراً في النفس البشرية.

اشتمل ديوان «شمس تبريز»، بعد اختفاء معلّمه، أجمل الغزليات الصوفية، وقد احتوى هذا السفر العظيم على أكثر من 26 ألف بيت شعر، إضافة إلى 1760 رباعية، ومجموعة من الرسائل الموجّهة إلى شيخه التبريزي، الذي كانت علاقته به هي علاقة «المريد» «بالرائد»؛ حيث كان يكبره بنحو 30 عاماً، فهو في سن الستين، في حين كان الرومي في سن الثلاثين. وظلّ وفياً لمعلّمه ولذكراه حتى وفاته وبلوغه ال70 من عمره، وهو القائل «الوداع لا يقع إلّا لمن يعشق بعينيه، أما ذلك الذي يحب بروحه وقلبه فلا انفصال أبداً».

ربما كانت فرقة الدراويش تجسيداً حياً لألم الرومي وإحساسه بالفداحة والفقدان، مثلما هي إحساس عبر الحركة اللولبية الطقسية الروحية بالتوحّد بين الإنسان وخالقه، والثناء على النبي محمد، صلى الله عليه وسلم، وترنيمات عن الحياة والكون والخلق والشمس والقمر والنجوم وجميع الكائنات غير الحية والنباتات والحيوانات، مثلما تعكس إحدى حركاتها مراحل الولادة وموت «الأنا»، ورمزيات القبر والكفن والإيمان بوحدانية الخالق، من دون نسيان قراءات من القرآن الكريم، وهكذا تنتهي الرحلة.

الرقصة الدوارة هي بحث عن التواصل مع المحبوب، أو حتى إعادة حبل الوصل مع الغائب عن طريق دوران تأملي، يشكّل مصدر طاقة بقدر ما هو مصدر إلهام؛ بل هو مصدر طاقة وإلهام للمتلقّين أيضاً، وهذا هو الإحساس الذي هيمن على تلك الساعة الذهبية من الخشوع. هكذا يصبح الإنسان على الرغم من كونه فرداً، مجموعاً بالتوحد مع الآخرين، والرومي هو القائل: «عندما تضيء المصباح الخاص بك، فأنت لست فرداً؛ بل الآلاف».

يمنح شعر الرومي الإنسان سلاماً داخلياً لدرجة الابتهاج بالحياة والشعور بالطمأنينة والأمل والإشراق، فهو مولود من العشق كما يقول، واللقاء بالمحبوب كان الولادة الثانية؛ حيث الوجد والوله والصبابة والعشق والحب، وهو جسره للوصول إلى مدارك الكمال.

drhussainshaban21@gmail.com

 

 

)أنسنة( الذكاء الاصطناعي

عبدالحسين شعبان

 

 

«ستحتلّ أراضينا وتطردنا من بيوتنا وتأكل طعامنا وتتزوّج نساءنا». هذا ما يقول به فريق من المثقفين والأكاديميين والعلماء والناشطين السلميين ودعاة حقوق الإنسان في الغرب عن الروبوتات وعمليات الذكاء الاصطناعي، التي هي أقرب إلى سينما هوليوود ذات الخيال الخارق والأفلام «العلمية» الغريبة.

لماذا هذا الموقف الحاد والمسبق من الذكاء الاصطناعي؟ يجيب هؤلاء، لأن الروبوتات هي أكثر سرعة من الإنسان، وأدقّ فاعلية وأشدّ انضباطاً، علماً بأن الإنسان هو صاحب الخيال الذي لا يتحرّك آلياً أو على نحو مبرمج، لكن الفضل يعود إليه وإلى دماغه، خصوصاً في صنع تلك الروبوتات وتطويرها وإعطائها التعليمات والأوامر.

وقد زاد استخدام «مصطلح» الذكاء الاصطناعي خلال العقد الأخير من القرن العشرين، الذي لم يعد مقتصراً على الروبوتات، بل دخل في العديد من التطبيقات التي يستخدمها الإنسان كلّ يوم دون أن يدرك ذلك أحياناً.

وإذا كانت ثمة مخاوف قديمة من اجتياح الآلة حياة الإنسان، فإن هذه المخاوف اليوم أشدّ خطراً وأعمق تأثيراً بسبب تطبيقات الذكاء الاصطناعي، الأمر الذي يستوجب ضرورة إحكام السيطرة الكاملة عليها وتحمّل مسؤولية من يقوم بها خشية من تغوّلها، كما حصل في حوادث تحطّم قطارات وطائرات نتيجة ذلك.

فهل سيكون الذكاء الاصطناعي لخير الإنسان ولرفاهية البشر؟ ثمة فريق، باسم العلم والتطوّر التكنولوجي، يقول نعم، في حين يعترض الفريق الآخر لاعتبارات أخلاقية تتعلّق بالخصوصيات التي سيجري انتهاكها، فضلاً عن المخاطر المحتملة التي تهدّد سلم وأمن البشرية.

وإذا دخل العالم الطور الرابع من الثورة الصناعية في عصر العولمة، والتي جلبت معها المنجزات الكبرى والمخاطر الجسيمة في آنٍ، فالأمر يحتاج إلى إحداث نوع من التوازن بين التطوّر العلمي والجانب الأخلاقي، علماً بأن التأثيرات السلبية قد تؤدي إلى زيادة نسبة البطالة، حيث لم يعد هناك حاجة إلى العديد من المهن والوظائف، وقد يكون لهذه الظاهرة انعكاساتها السياسية بتهديد أسس النظام الديمقراطي، وتآكلها بصعود تيار شعبوي، وهو ما عرفته اليوم العديد من دول أوروبا.

وحتى لو افترضنا أن مردود الذكاء الاصطناعي سيكون إيجابياً على المدى البعيد، فإن ذلك سيعود على الشركات العملاقة التي تحتكره وتترك الفتات المتبقّي لعموم البشر.

وقد يقود الذكاء الاصطناعي إلى تزوير وتشويه الحقائق، ونشر الأخبار الكاذبة، وبالتالي إعادة أدلجة عقولنا من خلال ما نشاهد وما نقرأ، حيث صارت شركات بيع المعلومات أكثر ربحية، ونلاحظ اليوم أن منصات التواصل الاجتماعي أحدثت تطوّراً نوعياً على المستوى الكوني، فاليوتيوب والفيسبوك وتويتر وغيرها، تعيش معنا وتتحكّم في الكثير من الأحيان بتوجّهاتنا. وهكذا تستطيع أن تغيّر نتائج انتخابات أو الترويج لرأي أو لشخصية أو لبضاعة أو تشويهها حسب مقتضيات الحال.

ولذلك هناك من يقول إن الذكاء الاصطناعي يجعل البشر فاقدي التفكير ومجرّد متلقّين، عديمي المبادرة وبلا قدرة على التقييم والنقد، إذْ ستقوم الآلة بالتفكير نيابةً عنهم، وبالتأكيد فإن من سيوجّه الآلة هو الذي سيتحكّم بالنهاية بمصائر الآخرين، بما يحقق له المزيد من الثراء والسطوة، في حين يزداد الفقراء فقراً وبؤساً.

وقد حذّر بعض العلماء من إغفال الجانب الأخلاقي، وطالبوا بحظر كامل لاستخدامات الذكاء الاصطناعي في الأغراض العسكرية، إذْ سيصبح الذكاء الاصطناعي مسلحاً، وهو ما يثير مخاوف دعاة السلام والتسامح والتفاهم بين الشعوب أيضاً.

وكان مشروع قانون أوروبي للذكاء الاصطناعي، قد اقترح حظراً لبعض أشكاله الأكثر عدوانية وغير الأخلاقية، مثل التلاعب بالسلوك ومنها خوارزميات التعليم الآلي التي تستهدف الناس بالرسائل السياسية عبر الإنترنت، واقترح «معهد مستقبل الحياة»، وهو معهد غير ربحي، وقف أنشطة الذكاء الاصطناعي لمدة ستة أشهر.

وعلى الرغم ممّا يحقّقه الذكاء الاصطناعي من مزايا هائلة للبشرية، مثل تشخيص الأمراض والتنبؤ بتغيّرات المناخ، إلّا أن تحدّياته الأخلاقية واحتمالات بعض تطبيقاته تبقى خطرة لدرجة مرعبة، لاسيّما تلك التي تتعلّق بالأسلحة والمراقبة الجماعية.

يصحّ القول إن الذكاء الاصطناعي قدر للبشرية لا مردّ له بما يحمل من أفضل المواصفات وأسوأها، الأمر الذي يقتضي من المجتمع الدولي «أنسنته»، أي جعله لخدمة البشر من خلال اتفاقيات دولية ملزمة، وإلّا ستكون نتائجه وخيمة على البشرية.

drhussainshaban21@gmail.com

 

 

الثورات: تقدّم أم تراجع...؟

 

عبد الحسين شعبان

 

            فكرتان أساسيتان هيمنتا على الجمهور العربي منذ أواسط الخمسينيات، روّجت لهما القوى السياسية الشمولية بجميع مدارسها القومية والشيوعية والدينية فيما بعد؛

أوّلهما – أن التغيير في العالم العربي لا بدّ أن يكون ثوريًا وليس إصلاحيًا تدرّجيًا، عبر التطوّر والتراكم الطويل الأمد.

وثانيهما – أن الجيش هو أداة التغيير الأساسية الحاسمة بحكم انضباطه وتفوّقه التنظيمي، ولذلك تبارت القوى التي تصف نفسها بالثورية بكسب مراتب من الضباط والجنود تمهيدًا للقيام بانقلابات وثورات للوثوب إلى السلطة.

            موضوعيًا ساعد قيام ثورة 23 تموز / يوليو 1952 في مصر بإلهاب حماس الشارع العربي الذي نظر إليها بعين التقدير والإعجاب، خصوصًا إثر تأميم قناة السويس 1956 ومواجهتها للعدوان الثلاثي الإنجلو – فرنسي -  "الإسرائيلي".

            وكانت ثورة 14 تموز / يوليو 1958، التي أطاحت بالنظام الملكي في العراق وأقامت الجمهورية، النموذج الثاني البارز لدور الجيش، خصوصًا إقدامها على عدد من الإجراءات بالضدّ من مصالح القوى الإمبريالية والصهيونية، ولاسيّما الانسحاب من حلف بغداد، والخروج من نظام الكتلة الاسترلينية، وإصدار القانون رقم 80 لعام 1961، الذي تمّ بموجبه وضع اليد على 99.5 % من الأراضي التي كانت بحوزة الشركات النفطية الأجنبية في العراق.

            لكن الثورات والانقلابات العسكرية التي غدت نموذجًا ممكنًا للتغيير في العالم الثالث،  سرعان ما قوّضت المكاسب التي حقّقتها شعوبها في التحرّر الوطني وإحراز الاستقلال، حين فتحت شهية المغامرين والطامعين بالسلطة، وأكثر من ذلك، فإنها قطعت خطّ التطوّر التدرّجي الذي كانت تسير عليه العديد من البلدان في تنميتها وتقدّمها، وهو ما تؤكّده تجارب العديد من بلدان أفريقيا وآسيا منذ استقلالها في الستينيات وإلى اليوم.

            وبدلًا من تسليم السلطة إلى الشعب والعودة إلى الثكنات، تمترست القوى العسكرية فيها  وحوّلت الدولة إلى إقطاعية خاصة بها، رافعة الحدود بين السلطة والدولة، ومتغوّلة بواسطة الأولى على الثانية.

            وإذا كان التيار الديمقراطي ناميًا ومتطلّعًا إلى الحداثة والمدنية والتطوّر السلمي، سواءً في مصر أو العراق أو سوريا أو الأردن أو لبنان أو غيرها، فإن الانقلابات والثورات العسكرية صرعته، بل دحرجته بين أرجلها، وازدرت السياسة الفكر وتطاولت عليه، خصوصًا بصعود نخب عسكرية، من أصول ريفية، شحيحة المعارف ومحدودة الثقافة، معلية من وتيرة العنف الذي صار نظرية عمل بفعل استخدامها الكتل البشرية الهائلة التي تذكّر بعصر المداخن إبّان الثورة الصناعية، والتي تعبّر بطريقة غير عقلانية عن مآلات الصراعات ووجهتها.

            وبسبب موجة العنف والصوت الواحد، وغياب حريّة التعبير والحق في التنظيم الحزبي والنقابي والحق في المشاركة، اضطّر التيار المدني الديمقراطي إلى النأي بنفسه، فقسم منه اتّخذ من الصمت سلاحًا للمواجهة، والقسم الآخر حمل عصاه ورحل إلى المنافي.

 وأذكر هنا مثالين على ذلك في العراق؛ أولهما – المفكر حسين جميل، المحامي والوزير والسفير وسكرتير الحزب الوطني الديمقراطي، الذي اتّجه إلى الكتابة والتنظير بعيدًا عن المشاركة في الحياة العامة محاولًا استعادة الفكر الديمقراطي والليبرالية العربية التي كاد نسلها أن ينقطع، خصوصًا حين أصدر كتاب "حقوق الإنسان في الوطن العربي" 1983،

وثانيهما – رفعة الجادرجي، الذي اختار المنفى بعد تلفيق تهمة له والحكم عليه مدى الحياة، إلّا أنه تمّ إطلاق سراحه بقرار رئاسي بهدف مشاركته في تجميل العاصمة بغداد، بمناسبة قرب انعقاد قمة عدم الانحياز، التي لم تنعقد. وكانت باكورة انشغاله بإحياء الفكر الديمقراطي، تأليف كتابه الأول في المنفى "صورة أب" 1986، الذي هبطت عليه أفكاره وهو منقطع عن العالم وحيدًا في زنزانة رطبة وملابس مهترئة وقمل ينهش جسده وصوت مثل المخاط يملأ أذنيه. اختمرت فكرة الكتاب "حبة.. حبة" يوم كان محاطًا بظُلمة وظَلمة، وهو عنوان لكتابه المثير مع رفيقة عمره بلقيس شرارة "جدار بين ظلمتين" (بالضمّة أو بالفتحة).

            إذا كان كتاب جدار بين ظلمتين يمثّل ملامح مهمة من سردية درامية لحياة يومية تتأسس في خضم المعاناة، ولاسيّما في ظلّ غياب الفكرة الديمقراطية، فإن كتاب حقوق الإنسان كان مساهمة جديرة بالتأمل في ظلّ الحروب والمغامرات العسكرية وأعمال العنف وتكميم الأفواه.

خلاصة القول، أن الجيوش بدلًا من دفاعها عن الأوطان وإسهامها في عمليات الإعمار والبناء والتنمية، ساهمت في تعطيل تطوّر المجتمع، حيث جرت مقايضة الإصلاح والديمقراطية والتنمية بشعارات صاخبة حول تحرير فلسطين والوحدة والاشتراكية، الأمر الذي أعاد العديد من الشعوب التي ابتُليت بالانقلابات العسكرية القهقري، فلا هي حققت طموح الأمة العربية وآمالها، ولا هي تركت البلاد تسير بالتراكم في طريق التطوّر.

            لم تقم السياسة في مجتمعاتنا على الحوار والجدل وقبول الآخر ومباراة الأفكار، بل قامت على التغالب والاستقواء، فضلًا عن التشاطر وعدم التورّع في الكذب ونهب المال العام والاعتصام بالطائفية والإثنية والعشائرية، خصوصًا في السنوات الأخيرة، الأمر الذي جعل الناس بشكل عام تنفر من السياسة في غياب التنافس المشروع وحكم القانون. وكانت تلك الإشكاليات جزءًا من هواجس الفكر الديمقراطي وتحدياته التي جسّدتها تنظيرات جيل الروّاد.

                         

 

 

لوزان والكرد والجيوبوليتيك

 

عبد الحسين شعبان *

 

في 24 تموز/يوليو 2023، تحل الذكرى المئوية لإبرام معاهدة لوزان بين الحلفاء المنتصرين في الحرب العالمية الأولى والجمهورية التركية، التي تأسست في أعقاب انهيار وتمزّق الإمبراطورية العثمانية.

ds وفي هذه المدينة السويسرية، أسدل الستار على معاهدة سيفر، التي وقّعتها الدولة العثمانية مع الحلفاء في 15 آب/أغسطس 1920 والتي اعترفت بجزء من حقوق الشعب الكردي بمنحه حكماً ذاتياً في شرق الأناضول.

وفي السنوات الأخيرة، احتدم الجدل حول معاهدة لوزان، والأبعاد الجيواستراتيجية المترتبة عليها، والأمر لا يخص الدول الأطراف الموقعة على المعاهدة؛ بل يمتد تأثيرها إلى حوض المتوسط وعموم الشرق الأوسط.

Ads by

تتألف المعاهدة من 143 مادة تتعلّق بإنهاء حالة الحرب، وتأسيس علاقات الصداقة والتجارة، واحترام السيادة والاستقلال للدول الموقّعة وفقاً للمبادئ العامة للقانون الدولي. وقد أبرمت المعاهدة بين بريطانيا وفرنسا وإيطاليا واليابان واليونان ورومانيا وصربيا وكرواتيا من جانب، وتركيا من الجانب الآخر.

وفي هذه المعاهدة، تم تحديد الحدود السياسية الجديدة بين تركيا من جهة وبلغاريا واليونان وسوريا والعراق وقبرص والنمسا والمجر وبولونيا ورومانيا وتشيكوسلوفاكيا وغيرها من جهة أخرى، وإن بقيت بعض المشكلات معلّقة، وتنازلت تركيا عن امتيازاتها على مصر والسودان ومناطق أخرى كانت تحت رعاية الإمبراطورية العثمانية، وتم الاتفاق على مبدأ حرية المرور والملاحة في البحر والجو وفي مضيق الدردنيل وبحر مرمرة والبوسفور.

وتقرّر منح الأتراك المقيمين بصفة اعتبارية في إقليم مفصول عن تركيا جنسية البلد الآخر حسب المعاهدة. وتعهّدت تركيا بحماية الأقليات دون تمييز بسبب المولد أو الجنسية أو اللغة أو العرق أو الدين، بما فيها حقّ الأقليات غير المسلمة بالحرية الكاملة في التنقّل والهجرة وبنفس الحقوق المدنية والسياسية التي يتمتّع بها المسلمون.

لكن معاهدة لوزان التي بدت شاملة لكل شعوب المنطقة، استثنت الشعب الكردي من أية تسويات تضمن مستقبله، علماً بأنه أصبح موزعاً بين أربعة دول أساسية، وهي تركيا وإيران والعراق وسوريا، إضافة إلى قسم منه في أذربيجان وأرمينيا.

وإذا استثنينا «فيدرالية إقليم كردستان»، التي لا تزال تتجاذبها الكثير من عناصر الشد والجذب الإقليميين، فإن الشعب الكردي عانى إجحاف معاهدة لوزان، وغُبن وتنكّر الحلفاء بالتجاوز على معاهدة سيفر، وما زاد على ذلك ظلم حكومات المنطقة وعدم اعترافها بحقوقهم القومية، وقد لعبت القوى الدولية دورها في ذلك باستخدام المسألة الكردية ورقة بيدها ضد الدول التي يوجد فيها الكرد، وليس لصالحهم؛ بل لمصالحها الأنانية الضيقة.

وبالطبع، فإن وِزر معاهدة لوزان، وما ترتّب عليها من تشكيلات دولية ورسم حدود وقطع وضم وبتر وإلغاء يقع على عاتق بريطانيا وفرنسا بالدرجة الأساسية. ولعل من أهم الانتقادات التي توجّه إلى معاهدة لوزان، أنها وفّرت غطاء دولياً وقانونياً لطرد سكان منطقة ما لاعتبارات دينية أو إثنية وفقاً لترتيبات الدولتين المنتصرتين، الأمر الذي ترك عواقب وخيمة على دول المنطقة وقوّض أسس التعددية الثقافية؛ بل وضع عقبات جدية أمام التنوّع الديني والإثني بالتجاوز على الهويات الفرعية والخصوصيات؛ بل وعموم حقوق الإنسان.

لقد غابت المسألة الكردية من الأروقة الدولية طوال سنوات القرن العشرين تقريباً، على الرغم من انتفاضات الكرد، حتى عادت مجدداً بصدور القرار 688 في 5 نيسان/إبريل 1991 بعد غزو القوات العراقية للكويت، وبعد حرب تحريرها، التي شهدت فرض حصار دولي شامل على العراق؛ حيث دعا هذا القرار إلى وقف ما تتعرّض له المنطقة الكردية وبقية مناطق العراق.

واعتُبر هذا الأمر تهديداً خطِراً للسلم والأمن الدوليين، وطالب الأمين العام للأمم المتحدة بإبقاء هذا الملف مفتوحاً، وإشعار مجلس الأمن بتطورات الموقف. وهو ما ترتّب عليه إقامة منطقة الملاذ الآمن في كردستان، بعد سحب الحكومة العراقية مؤسساتها الحكومية وإدارتها المالية من الإقليم، الذي أقيمت فيه لأول مرّة في التاريخ إدارة كردية مستقلّة، أعلنت من جانبها ومن طرف واحد الفيدرالية مع العراق العربي، وهو ما تحقّق بعد إطاحة النظام العراقي بالاحتلال الأمريكي عام 2003.

وبمرور 100 عام على معاهدة لوزان، هل تحقّق الأمن الإقليمي، أم ثمة إشكاليات ومشكلات جديدة ومعقّدة في ظل غياب حلول سلمية للقضية الكردية المعتقة؟

بتقديري أن المسألة تحتاج إلى إعادة قراءة وتفكير جديدين بأهمية ربط السلام بالتنمية، وهذا لن يبلغ هدفه المنشود دون تعاون الأمم ال4 في المنطقة والمقصود بذلك الترك والفرس والعرب والكرد، الذين تربطهم علاقات تاريخية أخوية، وفقاً للمصالح المشتركة والمنافع المتبادلة.

drhussainshaban21@gmail.com

 

 

نادي النبلاء.. عقول

«أكسفورد وكيمبريدج»

 

عبد الحسين شعبان

دون يافطة أو إشارة تدلّك على «نادي أكسفورد وكيمبريدج»، فأنت أمام مبنى قديم وأنيق وعريق من وحي المدرسة المعمارية، التي تأثّرت بالفن المعماري اليوناني القديم،  وما أن تدخل من البوابة الأمامية الخشبية البنية حتى تشعر حقيقة بشيء من الانضباط والنظام وكأنك ما زلت في عالم الإمبراطورية البريطانية العريقة وحكاياتها الغامضة، ولربما يراودك الشك بأنها لا تزال خلف الأبواب.

Ads وأكسفورد وكيمبريدج ليستا جامعتين عريقتين فحسب، بل هما من أقدم وأعرق الجامعات في 

العالم، وهما مجمع العقول «تروست الأدمغة»، من داخلهما ومن خارجهما وبالتواصل معهما تُصنع السياسة ويتبارى الفرقاء في تمثيل بريطانيا العظمى، واستناداً للبحث العلمي، وكلّ يدّعي وصلاً بالحق والعدل وحكم القانون، حتى وإن استعمر أمماً ونهب ثروات شعوب وكبح جماح حقّها في تقرير مصيرها بوعود باطلة، لا يزال الشعب الفلسطيني يدفع ثمنها باهظاً، دون اعتذار أو تعويض عمّا لحقه من غبن وأضرار طيلة ما يزيد عن قرن من الزمان.

يقع نادي النبلاء في «منطقة القصور الملكية»، التي تضمّ قصر سانت جايمس الذي صممه المعماري سير سميرك وهو نفسه الذي صمّم المتحف البريطاني في ساحة راسل بالقرب من جامعة لندن. ثم أضيف إليها قصر باكينغهام الذي جرى تشييده في العام 1703، ولكنه تحوّل إلى بيت الملك جورج الثالث في العام 1762، وتمّ توسيعه لاحقاً، وبناء بيت كلارنس (حيث يسكن الملك تشارلز الثالث وقرينته كاميلا، بينما يدير أعماله الرسمية من باكينغهام) ما بين أعوام 1825 – 1827، وكنيسة الملك في جوارها، وهكذا أصبحت المنطقة وسط لندن تسمّى «منطقة القصور الملكية».

استخدمت العائلة المالكة خططاً وسياسات ووسائل مختلفة لكي تُعيد بسط هيمنتها ونفوذها شعبياً بعد تصدّعها، بسبب الثورة التي ساهمت بعزلها لفترة وجيزة في أعقاب حرب أهلية دامت 10 سنوات (1642 – 1652)، حيث أُعدم فيها الملك تشارلز الأول في 30 يناير 1649، وقام القائد العسكري أوليفل كرومويل بتحويل بريطانيا إلى جمهورية لنحو عقد من الزمان.

ظلّ «نادي النبلاء» (أكسفورد وكيمبريدج)، الذي يقع في منطقة القصور، والذي تأسس في العام 1821، حكراً على الرجال فقط حتى وقت قريب (1996)، وقد تمّ توسيعه في العام 1952، حيث ضمّ المبنى الملكي المجاور له، الذي كانت تسكنه الأميرة ماري لويز حفيدة الملكة فيكتوريا. وظلّت العائلة المالكة تعوّل على المناقشات والمبادرات التي تتم فيه لصنع السياسات وصياغة البرامج عبر حوارات فكرية وثقافية لعدد من الأقطاب ومعظمهم من أعضاء النادي، سواء من خريجيه أو أساتذته .

ما لفت انتباهي وأنا أقرأ هذا التاريخ العريق، أن إحدى الشخصيات الأكاديمية، من أصول عربية فلسطينية، وهو البروفيسور مكرم خوري مخّول، لعب دوراً إيجابياً في التعريف بالقضايا العربية، حيث شغل موقعاً متميّزاً في هذا النادي، وأصبح عضواً في مجلس الإدارة لأربع سنوات، قام خلالها بأنشطة متنوّعة ومختلفة بما يعزّز التنوّع الثقافي وفهم الآخر تمهيداً لتقبّله.

كما أن 52 سفيراً بريطانياً متخصّصاً بشؤون العالم العربي مثل السفير مايلز والسفير سير هارولد ووكر، اجتمعوا عشية الحرب على العراق (2003) التي شنّتها الولايات المتحدة بقيادة جورج دبليو بوش، ليوجهوا رسالة احتجاج إلى رئيس وزراء بريطانيا توني بلير وليعلنوا أن الحرب غير شرعيّة، وليقودوا تحرّكاً دبلوماسياً فريداً ضدّها.

 كانت عضوية نادي النبلاء، تضمّ ملكة الدانمارك مارغريت، وملك السويد كارل السادس عشر، وزوج ملكة بريطانيا الراحلة إليزابيث الثانية، فيليب، والذي هو راعي النادي سابقاً، كما تضمّ ملك بريطانيا الحالي تشارلز الثالث، ومن المفترض أن يكون هو خلفاً لوالده لرعاية النادي.

وتعتبر التعدّدية والتنوّع والانتماءات المختلفة سمة مميّزة للنادي، التي يتم التعبير عنها باللعبة العادلة، Fair Play، كما يخضع الأعضاء إلى نظام صارم وبروتوكول للإتيكيت بما فيه المظهر والملبس. ويحتوي النادي على مكتبة ضخمة وقاعات متعدّدة وصالات متنوّعة للاجتماعات الرسمية وغير الرسمية، حيث تُقام فيها الندوات والمؤتمرات في مواضيع فكرية وثقافية وسياسية وديبلوماسية وقانونية وفنية وأدبية ورياضية.

 

 

كلام في الليبرالية العربية

عبدالحسين شعبان

 

يوم غادرنا حسين جميل، الذي يُعدّ من الرعيل الأول للشخصيات الليبرالية الوطنية الديمقراطية العربية، استعدتُ عدداً من الأسئلة التي ظلّت تراودني على مدى أربعة عقود من الزمن: هل انقطع نسل الليبرالية العربية؟ وهل ثمة تيّار ديمقراطي عربي جديد؟ وهل هناك علاقة رحم بين الليبرالية الجديدة والتيار الليبرالي القديم (الكلاسيكي)؟

وبمعاينة تجارب جيل الروّاد التي اختفت من الخريطة السياسية العربية، بفعل الانقلابات العسكرية وهيمنة الأحزاب الشمولية على المشهد السياسي، وزحف الريف على المدينة الذي شهده العالم العربي، وتراجع التوجّه المدني في الدولة والمجتمع، يمكن القول أن الكشف عن فكر المدرسة الليبرالية العربية المعاصرة في العراق ومصر وسوريا ولبنان وبعض البلدان العربية، يصبح «فرض عين وليس فرض كفاية» بالنسبة للجيل الجديد، خصوصاً بتسليط الضوء على مرحلة ازدهارها في ثلاثينيات القرن الماضي وحتى خمسينياته.

لقد اختلطت مفاهيم الليبرالية اليوم لدرجة أصبحت بعيدة عن أصولها الفكرية وأساساتها النظرية التي قامت عليها، لاسيّما بعد سبات دام عقوداً من الزمن دخلته الفكرة الليبرالية، حيث سيطر فيها الفكر الواحدي الإطلاقي والنزعات العسكرية والعنفية، وتهميش الطبقة الوسطى وإضعافها، وانحسار تيار الحداثة المدني.

وأصبح الحديث عن الليبرالية أقرب إلى عمل مرذول، لاسيّما بهجران أو غياب أنصارها المخلصين، وغدت أقرب إلى التأثيم والتحريم والتجريم بسيادة نهج الإقصاء والإلغاء، وهيمنة التعصّب ووليده التطرّف والغلو، ونتاجهما العنف والإرهاب، على حساب ثقافة الحوار، والتعايش والاعتراف بالآخر والإقرار بالتنوّع والتعدّدية.

يتفرّع السؤال عن علاقة الليبرالية بالوطنية من سؤال الليبرالية العربية وتراثها، فهل يمكن أن يكون المرء ليبرالياً من دون أن يكون وطنياً، خصوصاً في ظلّ انسياق بعض دعاة الليبرالية العربية الجدد ضدّ بلدانهم، بما فيها تأييد حصارها وفرض العقوبات عليها؟ ثم ما هي علاقة الليبرالية الكلاسيكية بالليبرالية الجديدة؟

هنا نستذكر حسين جميل نموذجاً، لأنه ترك إرثاً قانونياً وفكرياً وسياسياً ونقابياً غنياً، وكان أحد أبرز رموز ومنظّري الفكر الليبرالي الديمقراطي في العراق مع كامل الجادرجي ومحمد حديد وآخرين، وهو من حاول السير بالتعاليم النظرية والأكاديمية بربطها بالدولة العصرية بموازاة وتماس مع الواقع عبر فهمه والسعي لتغييره، فقد جمع في شخصه اختصاصات كثيرة، فهو أمين عام اتحاد المحامين العرب والباحث السياسي والدبلوماسي والوزير والمفكر الذي ربط السياسة على نحو عضوي ببُعدها الأخلاقي.

وقد تميّز حسين جميل بالوطنية الصميمية والاعتدال والوسطية والتسامح، في مرحلة كان الولاء الأيديولوجي لقوى دولية وإقليمية قائماً، مثلما كان التعصّب والتطرّف سمتين تطبعان سلوك الفرقاء والمتخاصمين بمن فيهم «الأخوة الأعداء» حسب كازنتزاكس.

ما يدفعنا للكلام عن الليبرالية اليوم، هو التباس مفهومها وتعويل البعض عليها بعد فشل المشاريع الشمولية، القومية الاشتراكية والاشتراكية الماركسية والإسلامية الإسلاموية، وانهيار أنظمة أوروبا الشرقية، حيث ارتفع شعار «الليبرالية هي الحل»، بعد أن كان الحل بالقومية تارة والاشتراكية تارة أخرى وبالدين في مرّة ثالثة.

لكن الكلام الجديد في الليبرالية صاحبه إشكالية أساسية، خصوصاً بالتعويل على العامل الخارجي لإنجاز مهمة التغيير المنشود، تلك التي لا تخلو من تداخلات وإملاء إرادة واستتباع، في ظلّ عجز وعدم ثقة ويأس من إنضاج العامل الداخلي، في حين قامت الليبرالية الكلاسيكية على قاعدة سياسية أساسها الحريّات المدنية والسياسية، خصوصاً حريّة التعبير والاعتقاد والتنظيم والشراكة والمشاركة، وقاعدة اقتصادية أساسها الحريّات الاقتصادية، وفقاً للقاعدة الشهيرة التي راجت بعد الثورة الفرنسية (1789) «دعه يعمل.. دعه يمرّ»، أي حريّة العمل وحريّة الأسواق وحريّة انتقال البضائع.

وتمكّنت الليبرالية من تحقيق منجزات تاريخية مهمة وبالتدرّج والتراكم، أبرزها إقامة أنظمة ديمقراطية وبرلمانات، واعتماد مبادئ المساواة، الأمر الذي شجّع الإنتاج العلمي والفني والأدبي، خصوصاً بوجه سطوة الفكر الخرافي والشعوذات التي امتازت بها القرون الوسطى، بتأكيد قيم العقلانية والعلم وأولوية الفرد.

باختصار، فإن الليبرالية تعتبر الحريّة والفردانية الباعث في حياة الإنسان، وهدفها تحقيق سعادته ورفاهه في حاضره ومستقبله. فهل ثمة رابط بين هذه الليبرالية والليبرالية الجديدة التي اتّسمت بسيادة العولمة، تلك التي أظهرت وجهها المتوحّش والسافر في بلداننا ومنطقتنا، التي عرفت احتلالات ومحاولات فرض مشاريع لا تنسجم مع قيمها وتقاليدها وتراثها، فضلاً عن تشبّث بعض دعاتها بالطائفية، فضلاً عن الولاءات الإقليمية والدولية؟

أستطيع القول، لا يستقيم الكلام في الليبرالية دون أن يكون شاملاً دستورياً وقانونياً وسياسياً واقتصادياً وثقافياً وتربوياً. فكيف يمكن التوفيق بين الليبرالية والعنف وبين الليبرالية والخرافة، وبين الليبرالية والتمييز وبين الليبرالية والطائفية؟ فذلك ليس سوى قطيعة مع جوهر القيم الليبرالية، بل مواجهة لها، فما بالك بضعف المجتمع المدني وانتشار السلاح خارج القانون وضعف دور القضاء.

drhussainshaban21@gmail.com

 

 

في «أنسنة» القانون الدولي

 

عبد الحسين شعبان

 

«يظلّ المدنيون والمقاتلون تحت رعاية وسلطان مبادئ القانون الدولي، كما استقرّ عليه العرف ومبادئ الإنسانية وما يُمليه الضمير العام»، ذلك ما كتبه فيودور مارتينو، المندوب الروسي في مؤتمر لاهاي عام 1899. استعدتُ ذلك وأنا أتابع مجريات الحرب الأوكرانية والمآسي والآلام والعذابات التي يتحمّلها السكان المدنيون منذ 24 فبراير/ شباط 2022، والتي ستستمرّ إلى أجل غير مسمّى، حتى الآن.

 وإذا كان هناك من يستطيع أن يحدّد بدء الحرب، فقد لا يكون بإمكانه، في الأغلب، تحديد أو اختيار لحظة إنهائها، وذلك أحد دروس التاريخ التي يبدو أن الزعماء السياسيين والقادة العسكريين لم يتعلّموها.

 وإذا كان هؤلاء يرسمون خطط الحرب، ويضعون الخرائط أمامهم ويؤشرون عليها بعلامات الهجوم والتقدّم والانسحاب، فإن المدنيين، إضافة إلى المقاتلين، هم من يدفعون ثمنها، خصوصاً حين يخسرون حياتهم ومستقبلهم وتتحطّم آمالهم. وهكذا نرى يومياً آثار الدمار، والقتلى والجرحى والأسرى والمعوقين واللّاجئين، والأمر لا يخصّ النزاعات الدولية المسلحة حسب، بل يشمل النزاعات الأهلية المسلّحة، والسودان مثال على ذلك، فهو ما زال ينزف منذ 15 إبريل/ نيسان 2023 وإلى اليوم، وعلى الرغم من المناشدات والوساطات الدولية، فلا يوجد حلّ ملموس في الأفق، ويبقى المدنيون والجنود هم وقود هذه الحرب بلا حدود.

 ولعلّ ما ذكره مارتينو بشأن الإنسانية والضمير يُعتبر الأساس في القانون الإنساني الدولي، على المتحاربين أن يتذكروه دائماً، وأن يعملوا على الالتزام به ويحرصوا على تجنّب مخالفته.

 هنري دونان وغيوم هنري دوفور، هما من أسّسا هذه المسيرة الإنسانية المعاصرة للقانون الدولي الإنساني، الأول رجل أعمال سويسري، أما الثاني فهو ضابط في الجيش السويسري، وبينما كان دونان في رحلة إلى إيطاليا (1859)، شهد ما خلّفته معركة سولفرينو من مآس مريعة وآثار مفزعة، وحين عاد إلى جنيف قرّر أن يدوّن ذلك في كتاب ووضع عنواناً له «تذكار سولفيرينو» وقام بنشره، وقدّم له الجنرال دوفور معلومات أخرى عن الحرب، إضافة إلى دعمه المعنوي، وقد كانت اتفاقيات جنيف الأولى عام 1864، أولى الاتفاقيات في القانون الدولي الإنساني، تلك التي صدرت عن المؤتمر الدبلوماسي.

 ولهول ما شاهده دونان، وما عاشه دوفور، وما عرفه، فقد قررا أن يؤسسا لجنة لإغاثة جرحى الحرب من العسكريين، وضمّا إليها ثلاث رفاق ليصبحوا خمسة و«لجنة الخمسة» كانت النواة لاحقًا ﻟ«اللجنة الدولية للصليب الأحمر» (1876). 

 وكانت قوانين حمورابي (1792 - 1750 ق.م) أقرّت قواعد «لمنع الأقوياء من اضطهاد الضعفاء»، كما أن الكتب المقدّسة احتوت على الكثير من المبادئ التي أخذتها عنها الدول والحكومات، بما فيها قواعد الفروسية في العصور الوسطى، أو ما تسمّى مدوّنات الشرف التي تكفل احترام الضعفاء، أو أولئك الذين لا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم. وبالتراكم والتطوّر البطيء طويل الأمد، تطوّرت هذه القواعد في القرن التاسع عشر، وتوسّعت الأنشطة الإنسانية لتدوين قواعد القانون الإنساني الدولي المعاصر، التي جاءت تتويجاً لأعراف الحروب وممارساتها على مرّ العصور، والتي عرفت أشكالًا مختلفة من القواعد التي تحدّد ظروف الحرب وشكلياتها والسلطات المعنية ببدئها وإنهائها، وحدود المشاركين فيها، وزمان ومكان العمليات الحربية، وأساليب سيرها وقواعد تحريمها.

 وكانت اتفاقيات لاهاي الثانية (1907) استكمالاً وتطويراً لاتفاقيات لاهاي الأولى (1899). أما في الحرب العالمية الأولى، فقد استحدثت وسائل وأدوات جديدة في الحرب لم تكن موجودة، أو معروفة سابقاً، بما فيها الغازات السامة، والقصف الجوّي، وأسر المئات والآلاف في الحرب، الأمر الذي تطلّب من المجتمع الدولي وضع اتفاقيات جديدة لتنظيم ذلك، والتخفيف من غلواء الحروب أو تلطيفها في عامي 1925 و1929.

 وفي الحرب العالمية الثانية، قُتل ما يزيد على 60 مليون إنسان، الأمر الذي احتاج من المجتمع الدولي إلى وضع اتفاقيات دولية جديدة (اتفاقيات جنيف الأربع الصادرة في 12 أغسطس/ آب 1949)، ثم اقتضت الحاجة إلى تطويرها أيضاً، بوضع بروتوكولين إضافيين صدرا عن المؤتمر الدبلوماسي 1974 - 1977، استجابة للآثار الإنسانية لحروب التحرر الوطني التي لم تكن اتفاقيات جنيف عالجتها، لا سيّما «حماية ضحايا المنازعات المسلّحة غير الدولية».

 المهم، ليس تلطيف الحرب أو تحسين قواعد إدارتها، ولكن الأهم هو تحريم الحروب، وعدم استخدام القوّة، أو التهديد بها في العلاقات الدولية، واللجوء إلى الوسائل السلمية لحلّ المنازعات، وذلك ما يمثّل جوهر ميثاق الأمم المتحدة.

drhussainshaban21@gmail.com

 

 

(روح السياسة).. والصالح العام

 

عبد الحسين شعبان

 

استحق نيكولو ميكافيلي، المفكر الفلورنسي المدفون تحت قباب كنيسة سانتا كروشيا الشهيرة، لقب مفخرة إيطاليا، علماً بأن عدداً من عظماء إيطاليا وُوريَ في الثرى في تلك المقبرة الجميلة مثل مايكل أنجلو الرسام والنحات والمهندس والشاعر (1475 – 1564)، محور الفن في عصر النهضة، وغاليليو غاليلي، (1564 – 1642)، العالم الفلكي والفيلسوف والفيزيائي، الذي لعب دوراً بارزاً في الثورة العلمية؛ ودانتي أليغيري (1265 – 1321)، الشاعر الكبير وصاحب «الكوميديا الإلهية»، والتي تعتبر قمة في الأدب العالمي.

 ونُقشت بحروف من ذهب مآثر هؤلاء العظماء، باستثناء صاحب كتاب «الأمير»، فلم يُنقش عليه سوى هذه العبارة «ميكافيلي 1527»، أي سنة وفاته، لأنه لم يبلغ مجده ولم يصل سموه أحدٌ. وقد احتفلت إيطاليا في العام 2013 بمرور 500 عام على صدور كتاب «الأمير».

 لم يقتصر صيت هذا الكتاب النفيس على الفترة الزمنية التي عاش فيها ميكافيلي أو العهود التي أعقبتها، بل لا يزال «راهنياً» على الرغم من التطورات والتغيّرات التي حصلت في علم السياسة على المستوى الكوني. إنه بحث عن الممكنات وليس عن الكمال، وتلك هي السياسة صراع واتفاق مصالح.

 استوقفني مجدداً موضوع «الشرعية» و«المشروعية»، وأنا أعيد قراءة كتاب غوستاف لوبون (1841 – 1931)، «روح السياسة» الذي صدر قبل 113 عاماً، فالأولى لن تتحقق طالما افتقد الحكم إلى رضا الناس ومنجز ملموس، والثانية تفترض حكم القانون لتأمين الأمن والاستقرار للناس وحماية حياتهم وممتلكاتهم. ولوبون الطبيب النفسي والمؤرخ الفرنسي، ليس منظّراً فحسب، بل يمتلك عقلاً عملياً اكتسبه من تجربته الشخصية، وقد انشغل أيضاً بدراسة الحضارات الشرقية، ومنها الحضارة العربية – الإسلامية، وعمل على إنصافها، ومثلما حظي كتاب «روح السياسة» بشهرة كبيرة، فإن كتابه «سيكولوجية الجماهير» لا يقلّ شهرة.

 «روح السياسة» تعني فن الحكم، مع اعتماد العلم وقوانين التطوّر والنزاعات والحروب وأحوال الرجال من جهة، ومراعاة مزاج الناس من جهة أخرى، وتمثّل تلك الروح، العقلية الفردية والجماعية للشعوب والأمم، بما فيها من جوامع، والمقصود الهويّة المشتركة وأساسها اللغة والثقافة والتاريخ والدين، إضافة إلى عوامل اقتصادية ونفسية.

 ووفقاً ﻟ «روح السياسة» يمكن أن تحلّ المعضلات وتُذلّل العقبات التي تعترض طريق العلاقات الدولية، من خلال تفاهمات واتفاقيات وتسويات، وعكس ذلك ستكون الحرب هي البديل بكلّ ما تحمل من تبعات ومآسٍ. ولعلّ المعرفة بعلم السياسة وفنونها تجنّب الكثير من القادة والزعماء اتّخاذ قرارات أو الإقدام على مغامرات أو ارتكاب حماقات قد تؤدي إلى فناء شعوبهم ودمارها قبل غيرها.

 وبقدر ما يكون الحديث في السياسة «سهلاً» لدرجة الابتذال أحياناً، فإن قلّة من السياسيين قرأتْ كتباً في جوهر السياسة مثل «السياسة» لأرسطو، و«الجمهورية» لأفلاطون، و«الأمير» لميكافيلي، فضلاً عن دراسة تاريخ السياسة وفلسفتها والممارسة السياسية التي لا غنى عنها، فلا سياسة حقيقية دون ممارسة. السياسة غاية، أما الممارسة فهي وسيلة لتحقيقها.

 وتزداد فنون السياسة كلّ يوم، بما فيها دور القوّة الناعمة والدبلوماسية الاقتصادية والثقافية وغيرها خصوصاً والعالم في الطور الرابع للثورة الصناعية. ولا شكّ أن عنصر الإقناع في السياسة يبقى ضرورياً، فالقناعة إذا ما تولّدت لدى الناس تصبح قوّة ماديّة يَصعُب اقتلاعها، وكان نابليون يؤكّد أن التكرار أشدّ عوامل الإقناع تأثيراً.

 وإذا كان دستور اليونيسكو يؤكد أن الحروب تُصنع في العقول، فإن تشييد حصون السلام ينبغي أن يكون في العقول أيضاً، فالتواصل بين الشعوب والأمم والجماعات والأفراد يخفّف من غلواء الكراهية والأحقاد والتعصّب والتطرّف الذي هو وليده، وإذا ما انحسر ذلك ستتقلّص دائرتي العنف والإرهاب، والأخير عنف منفلت من عقاله، غايته إحداث رعب وهلع في المجتمع الدولي، وإضعاف ثقة المواطن والمجتمع بالدولة وبالنظام الدولي، خصوصاً حين يضرب العنف عشوائياً.

 روح السياسة تجسّد الخير العام حسب عبد الرحمن بن خلدون، وهو ما كان يعتبره أرسطو الأساس في كتابه «السياسة» حين تحدّث عن الخير العميم (الصالح العام)، وحسب المنجدات اللغوية فترجمته تأتي من الفعل ساس (يسوس)، أي حُكم الناس والحُكم بينهم، وبهذا المعنى تصبح روح السياسة فن إدارة الحكم من خلال علاقة الحاكم بالمحكوم، فهما قطبا الرحى فيها، وبقدر ما تكون العلاقة سالكة وتتمتّع بشيء من الثقة، فذلك يعني نجاح وظيفة الحاكم، خصوصاً بالاعتماد على واقع يتجدّد ويتغيّر بتبدّل نظمه وقوانينه، وهو ما قالت به العرب قديماً «تبدّل الأحكام بتبدّل الأزمان»، ولعمري ذلك يجسّد روح السياسة وجوهرها وهويّتها الحقيقية وفلسفتها.

drhussainshaban21@gmail.com

 

 

رسالة التنوّع الثقافي

عبد الحسين شعبان

 

تقف الأبعاد الثقافية وراء ما يزيد على ثلاثة أرباع الصراعات الكبرى في العالم، حسب الأمم المتحدة، وذلك يعني أن المجتمعات تعيش صراعاً ثقافياً متواصلاً على صعيد أوضاعها، الداخلية والخارجية، وهو ما دعاها إلى تجسير الفجوة بين الثقافات المختلفة، بهدف تحقيق السلام والاستقرار والتنمية، علماً بأن التنوّع الثقافي يعتبر جزءاً لا يتجزأ من الجيل الرابع لحقوق الإنسان، فحتى لو كانت الأسباب الاقتصادية والتجارية والعسكرية والجيوبوليتيكية وراء الصراعات، إلّا أنها تكتسب طابعاً ثقافياً كمبرّر فكري، لإعطائها مشروعية، أو مقبولية، لخوضها، فالقوى الاستعمارية رفعت راية التمدّن عند احتلالها البلدان المستعمرة، وقد تغلّفت العديد من الحروب والنزاعات المسلحة، الداخلية والخارجية، الإقليمية والدولية، ببراقع ثقافية.

Ads by

 وكانت محطة 11 سبتمبر/ أيلول 2001 وتفجير برجَي التجارة العالميين، إحدى العلامات البارزة على صعيد المسوّغات الثقافية والدينية التي قيلت لتبرير الإرهاب، وإيجاد ذرائع له، ما دفع «اليونيسكو» بعد شهرين من هذا العمل الإرهابي إلى تبنّي إعلان عالمي بشأن التنوّع الثقافي (أكتوبر/ تشرين الثاني 2001)، وجوهره القبول بالآخر، واحترام خصوصياته في اللغة والملبس والعادات والتقاليد، وأساس ذلك الحق في الاختلاف والإقرار بالتعددّية واعتماد الحوار وسيلة لإحلال السلام.

 وقد تضمّن إعلان اليونيسكو 12 مادة، وأكّد أن التنوّع الثقافي هو الأساس في التراث المشترك للإنسانية، بل اعتبر الدفاع عنه واجباً أخلاقياً ملزماً

 وقد اتّخذت الجمعية العامة للأمم المتحدة، في عام 2002، قراراً باعتبار يوم 21 مايو/ أيار «يوماً عالمياً للتنوّع الثقافي من أجل الحوار والتنمية»، وعادت في عام 2005، حين دعت إلى حوار الحضارات لتحسين التفاهم والعلاقات بين مختلف الأمم والشعوب والثقافات والأديان، وبالطبع، فإن ذلك يمكن أن يكون عبر إعادة النظر بمناهج التعليم، ومن خلال الأدب والفن والرياضة، وقد ساهمت العولمة في التقارب بين الثقافات على صعيد البلدان متعدّدة الثقافات، والتي تعيش في الرقعة الجغرافية الحدودية الدولية نفسها، أو بين دول الجوار، أو مع بقية دول العالم، مقرّبة بين شعوبها وأممها ولغاتها وأديانها.

 الهدف من إعلان يوم للتنوّع الثقافي هو إبراز الثراء والغنى العالمي لمختلف الثقافات، والدور المهم الذي يلعبه الحوار بينها لتحقيق السلام والتنمية، في إطار التعددية واحترام حقوق الإنسان الثقافية والتراث الثقافي، بوصفه مصدراً للإبداع والتضامن الدولي.

 وإذا كانت الحروب تصنع في العقول، فلا بدّ من تشييد حصون السلام في العقول أيضاً، حسب دستور «اليونيسكو»، وحين تغيب مساحة الحوار، ترتفع وتيرة التعصّب، وإذا تحوّل الأخير من التفكير إلى التنفيذ يصبح تطرّفاً، والتطرّف حين يصير سلوكاً يصبح عنفاً، وإذا ضرب العنف عشوائياً يتحوّل إلى إرهاب.

 وقد اجتمعت في المكسيك وفود 150 دولة في سبتمبر/ أيلول 2022، في أكبر مؤتمر عالمي مخصّص للثقافة خلال العقود الأربعة المنصرمة، واعتمدت بالإجماع، إعلاناً تاريخياً للثقافة دعا إلى دمجها كهدف محدّد خاص في أجندة التنمية لما بعد 2030. وأكّد المؤتمر مجموعة الحقوق الثقافية التي يجب مراعاتها في السياسات العامة، سواء كانت حقوقاً اجتماعية، أو اقتصادية، أو تتعلّق بحرية التعبير، إضافة إلى حق مجتمعات السكّان الأصليين في حماية معارف أجدادهم، وحماية وتعزيز تراثهم الثقافي والطبيعي.

 وتجسّد خطة الأمم المتحدة للتنمية المستدامة 2030 (سبتمبر/ أيلول 2015)، إضافة إلى القرار المتعلّق بالثقافة والتنمية المستدامة (الجمعية العامة للأمم المتحدة - ديسمبر/ كانون الأول 2015) رسالة اليوم العالمي للتنوّع الثقافي من أجل الحوار والتنمية، إذْ ستكون أكثر عمقاً وشمولاً في تحقيق الأهداف اﻟ 17 للتنمية المستدامة، بالاستفادة من الإمكانات الإبداعية لثقافات العالم المتنوّعة، والمشاركة في حوار متواصل لضمان استفادة جميع أفراد المجتمع من التنمية المستدامة.

 والتنمية المستدامة تقوم على ثلاثة أبعاد أساسية هي البُعد الاجتماعي، والبُعد الاقتصادي، والبُعد الثقافي، ويمكن إضافة بُعد رابع، وهو البُعد البيئي، ويتطلّب ذلك عالمياً دعم نُظم مستدامة لحوكمة الثقافة وتحقيق تبادل متوازن للسلع والخدمات الثقافية، ودمجها بسياسات التنمية وتعزيز حقوق الإنسان والحريات الأساسية.

 مناسبة الحديث عن التنوّع الثقافي كان مداخلة لي في مؤتمر نظّمته مجموعة 21 لحريّة الدين والمعتقد وتجمّع الأقليات في العراق، بعنوان «أسئلة الثقافة والتنمية».

drhussainshaban21@gmail.com

 

 

عن ثقافة الكراهية

 

عبد الحسين شعبان

 

تتغذّى مشاعر الكراهية لدى الأفراد أو الجماعات، باستغلال الجانب الغرائزي والانتماءات الضيّقة والهويّات المغلقة التي تقوم على التعصّب بادّعاء الأفضليات وامتلاك الحقيقة تحت مسوّغات دينية أو عرقية (إثنية) أو طائفية أو مذهبية أو أيديولوجية أو عشائرية أو غير ذلك، وهذه بدورها تنمّي الشكوك وتزرع الأحقاد بين الناس، لأنها تقوم على ادعاءات التفوّق، فيُصبح «الآخر»، أي آخر؛ خصماً أو عدوّاً «وكلُّ غريب مريب»، وبالتالي فهو لا يستحقّ ذات المكانة التي ينتمي إليها الفرد أو المجموعة

 والتعصّب يتضمّن الرغبة في الإقصاء والإلغاء والتهميش، والحطّ من قدر الآخر، وذلك قبل أن يتحوّل إلى فعل أو سلوك، إلّا أنه يُصبح خطراً حين ينتقل من التفكير إلى التنفيذ فيتحوّل إلى تطرّف.

 والتطرّف يقترن بفرض الرأي بالقوّة بزعم امتلاك الحق، فيسوق حججاً ومبررات لذلك، وهكذا لا يتورّع المتطرّف من اللجوء إلى العنف لفرض رأيه. والعنف هو نتاج استيلاء التعصب والتطرّف على عقل الإنسان، وتبرير ما يقوم به حتى ولو ارتكب مجازر، فلا ضير في ذلك. لأن الحقيقة ستكون إلى جانبه مدّعياً أن غايته شريفة، بغضّ النظر عن الوسيلة التي يستخدمها للوصول إلى غايته. وبالطبع لا تعصم المبادئ الدينية أو القومية أو الأيديولوجية من ارتكاب المعاصي والآثام تحت الحجج ذاتها.

 وليس غريباً حين يتمكّن التعصّب ثم التطرّف من إنسان أو مجموعة بشرية، فيستحكم فيه أو فيها الكراهية ضدّ الآخر، وهو ما يترجم أحياناً إلى أعمال عنف لا إنسانية، طالما يستبطن ذلك الاعتقاد بصوابية السلوك والفكرة.

 ولعلّ أكثر المجازر في التاريخ التي أُزهقت فيها ملايين الأرواح، وشنّت الحروب واندلعت النزاعات بسببها قامت على الكراهية، فالضحايا يصبحون مجرّد أرقام، ومن يلتجئ إلى ذلك يجد التفسيرات والتعليلات، تارة بحجّة المظالم التاريخية وأخرى رد فعل للاستلابات من خلال الانتقام، وثالثة بسبب الفقر والبطالة ومرّة رابعة بالتفاوت الاجتماعي والطبقي، وبكلّ الأحوال الادّعاء بالتفوّق والأفضلية على الآخر، وهناك من يضيف ظلم النظام الاجتماعي، إضافة إلى عوامل نفسية شخصية وعامة.

وفي مجتمعاتنا العربية والإسلامية، هناك من يحرّض ويعبّئ وينظّر لثقافة الكراهية، حيث التخلّف يهيئ مناخاً مناسباً لها ثقافياً وفكرياً، فتنمو فيروساتها وتتكاثر، لتنتشر ضمن أجندات سياسية تقوم على تكفير الآخر بعد تأثيمه وتجريمه وتحريمه.

 حين قُتل فرج فودة، سُئل القاتل: ولماذا قتلته؟ قال: لأنه كافر، فسأله القاضي: ومن أين عرفت ذلك؟ هل قرأت ما كتبه؟ فأجابه: كلّا، لأنني لا أقرأ ولا أكتب وإنما سمعت ذلك. وهنا تكون الإشاعة أحياناً أقوى من الحقيقة، وهو ما يُراد بثّه للهيمنة على العقول وتسخيرها، والأمر حصل في محاولة قتل نجيب محفوظ وجار الله عمر، وكأن التاريخ يُعيد نفسه.

 وقد اطّلعت على إجابات بعض المرتكبين عن إقدامهم على الفعل الإجرامي، فأجابوا لو عادوا مرّة أخرى سيقومون بذات العمل، لأن معتقداتهم الدينية أو الطائفية أو السياسية، هي التي تدفعهم لذلك لاجتثاث الفكر الآخر، وليس ذلك سوى هيمنة ثقافة الكراهية على بعض البشر، والأمر لا يقتصر على الجهلة أو غير المتعلّمين، بل إن بعضهم تخرّج في أرقى الجامعات، لكنه تشرّب بروح الكراهية، وشُحن بالعداء للآخر، حيث تلعب بعض الأيديولوجيات دورها في ذلك، من خلال روافد مختلفة، لا سيّما في مخاطبة الشباب بزعم «الموت من أجل العقيدة» و«ملاقاة الله» تحت عناوين لا علاقة لها بالجهاد في الإسلام، بل إن ما يقومون به شكل من أشكال العنف والإرهاب القائمين على التعصّب ووليده التطرّف.

 إن ثقافة الكراهية، هي نتاج فكر استعلائي متعصّب، يدّعى احتكار الحق والحقيقة، بعضها يقوم على أوهام التفوّق، التي يتم ضخّها بأساليب مختلفة من خلال مناهج التعليم والإعلام والخطاب الديني بالضدّ من الآخر، سواء بالممارسة العملية أو من خلال قوانين تمييزية تتعارض مع ثقافة السلام والتسامح والتنوّع والتعددية.

 لعلّ ما حصل في رواندا العام 1994 من جرائم ضدّ الإنسانية وجرائم إبادة جماعية وجرائم حرب، مدعاة للتفكّر بما تنتجه ثقافة الكراهية، حيث تعرّضت قبيلة التوتسي إلى الإبادة الجماعية، الأمر الذي دفع الأمم المتحدة في العام 2003 إلى استذكار تلك الجرائم الأليمة، التي قُتل فيها 800 ألف إنسان على يد قبيلة الهوتو. ولعمري إن ذلك فصل مأساوي من أحلك فصول التاريخ البشري، إذ لم يكن هناك سبب حقيقي له سوى ثقافة الكراهية.

drhussainshaban21@gmail.com

 

 

بشتاشان "خلف الطواحين"

... وثمة ذاكرة

شهادة وليست رواية

بشتاشان: وقفة تأمّل

(الحلقة الثانية)

د. عبدالحسين شعبان

 

"إن أكثر المعارك تجري بأوامر من رجال يفتقدون إلى الكثير من المعلومات،

لنصل في النهاية أن الجنود البسطاء هم الذين يُقتلون ويُقاتلون،

فيما الكبار يقرؤون الخرائط ويصدرون الأوامر"

تولستوي

 

            ظلّ الالتباس والغموض يلفّ قضيّة بشتاشان، خصوصًا في ظلّ الصمت أو عدم الإفصاح أحيانًا عمّا حدث، فضلًا عن التباين والاختلاف في المواقف. والأمر لا يتعلّق بالمرتكب أو الضحيّة، سواء برواية الحدث أو تفسير أسبابه ودوافعه ومسوّغاته، ناهيك عن نتائجه وما يترتّب عليه، بل انتقل ذلك أحيانًا إلى فريقي المرتكبين والضحايا، وامتدّ الأمر ليشمل طائفة من الشخصيات القريبة والبعيدة عن مسرح الحدث وشهوده وتداعياته القانونية والسياسية والاجتماعية والأخلاقية والدينية، خصوصًا حين ظلّت الصورة غائمة وضبابية، لغياب الأجوبة الشافية والمنطقية إزاء ما حدث.

وبالطبع فزوايا النظر تختلف من شخص إلى آخر ومن جهة إلى أخرى، لكن مجموع ما دوِّن وما رويَ وما شوهد وما سُمع وما توبع لاحقًا يُعطي تصوّرًا أوضح لما حدث في بشتاشان التي ظلّت تنتظر وستبقى حتى تنجلي الحقيقة، علمًا بأن جزءًا كبيرًا من الرأي العام لم يعرف بالواقعة إلّا في وقت متأخّر، وهو ما شكّل صدمة حقيقية له. ولكي لا يبقى ما حدث في كهف النسيان، كان لا بدّ من كشف الحقيقة، وتوثيق ما حصل وتحديد المسؤوليات، فلم تكن مجزرة بشتاشان قضاءً وقدرًا أو نجمت جرّاء زلزال أو إثر انفجار بركان أو حدوث كارثة طبيعية كي يختفي أي أثر للضحايا، بل إنه بفعل فاعل دبّر بليل وأحيك في الظلام.

 وعلى الرغم من مرور أربعة عقود من الزمن، إلّا أن ما عُرف عن بشتاشان لم يكن في الواقع سوى "إشارات غامضة" "وشذرات ونُتف" من أحاديث متناقضة ومسموعات مبهمة ومرويّات مبتورة أحيانًا، أو بضعة قصاصات ومقالات نقديّة أو تجريحية أو دفاعات في أحيان أخرى، الأمر الذي يتطلّب إعادة قراءة ما حصل بقلب حار وعقل بارد، ليطّلع الجميع على تفاصيل ما حدث وخلفياته بأنفسهم دون انحيازات مسبقة أو آراء جاهزة، ودون إغفال أو عبور أو نسيان لجزء من تاريخ الحركة الأنصارية من جهة، وتاريخ المعارضة العراقية في الثمانينيات من جهة أخرى، بما لها وما عليها. وهو ما جاء في حديث الصديق لؤي أبو التمن في الشام العام 1985، ومثل وجهة النظر هذه أو ما يشبهها وردت على لسان الصديق طارق الدليمي والصديق ابراهيم الحريري، بل كان أكثر من صديق يستوضح عن الحقيقة ويطالب بمعرفة التفاصيل الدقيقة، كما طلب مني البروفيسور طارق يوسف اسماعيل أكثر من مرّة أن يسمع القصّة كاملة، باعتباري أحد الناجين من المجزرة.

وإذا كان صحافيًا متميّزًا وباحثًا مدقّقًا مثل الصديق سهيل سامي نادر يقول أننا لا نملك سوى "معلومات قليلة أو غامضة" ويقصد بذلك عمّا حدث في بشتاشان، تعليقًا على ما نشره الرفيق قادر رشيد "أبو شوان" عن "مجزرة بشتاشان"، "بشتاشان - بين الآلام والصمت" في صحيفة الناس التي ترأس تحريرها الصحافي والمؤرّخ حميد عبد الله، فكيف والحال هذه مع شخصيات وجهات أخرى بعيدة؟ وكان قد كتب عمودين تقديمًا وخاتمة لما نشره بمناسبة مرور 32 عامًا على مجزرة بشتاشان أهداها إلى صديق صباه في المدرسة الشهيد نزار ناجي يوسف، وذيّل ذلك بقوله "كنت أُدرك بحزن أن ما تبقى لكاتب هو أن لا يشترك بمؤامرة الصمت، وأن يخلص لنفسه ويواصل الكلام حتى وهو يعرف أنه لا أحد يسمع".

            فكم هو مؤلم مثل هذا النص؟ وكم تضعك تلك التساؤلات أمام مسؤولية أخلاقية وإنسانية ووطنية لكي تقدّم ما لديك من معلومات بتجرّد وإخلاص أمام القرّاء، وفي ذلك خدمة للحقيقة واستجابة لنداء الضمير، فعسى أن نراجع تجاربنا للاستفادة من دروسها وعبرها، وإعادة قراءة التاريخ بحثًا عن الحقيقة التي ينبغي أن تكون لها الأولوية وليس لغيرها، مع الأخذ بنظر الاعتبار القيم الإنسانية، بما فيها قيم العدالة والإنصاف.

            أعرف أن الكثير من الضغوط الفعلية المباشرة وغير المباشرة، النفسية والمادية، حالت وتحول دون تقديم البعض شهادته، أو تقديمها بصورة "ملطّفة" أو منقوصة أو مقصودة بمعنى "موجّهة"، هدفها تبرئة هذا ووضع المسؤولية الكاملة على عاتق ذاك، كما أن البعض الآخر حاول أن يتجاوز الحدث وطبيعته وتفاصيله وما حصل ليختزله إلى "مجرد خلافات بين القوى الوطنية" و"صدامات راح ضحيّتها بضع عشرات من القتلى الشهداء"، وهناك من يحاول أن  يلبس ثوب الحكمة ليزعم أن المصلحة الوطنية تقتضي عدم الإتيان على ما حصل أو التوقف عنده، بل ينبغي نسيانه وحذفه من تاريخ الحركة الأنصارية. وفي أحسن الأحوال تذهب التبريرات للقول أن ذلك ليس أوانه، وأن الوقت لم يحن لبحثه وكشف المستور بشأنه. وهي التبريرات ذاتها التي كانت تُقدّم بصيغة إيجابية، لكنها ملغومة خلال فترة الجبهة الوطنية مع حزب البعث 1973 - 1979، لاسيّما بخصوص ضحايا انقلاب 8 شباط / فبراير 1963 الدموي.

 وإذا كان البعض أدلى بشهادته للتاريخ انطلاقًا من شعوره بالمسؤولية، فإن البعض الآخر انعقد لسانه لدرجة تشعر إزاءه بالشفقة. وحين يضطّر إلى ذكر ما حصل يُبقى على دور فلان ويهمل دور آخر، حتى إن كان من الأبطال، مثلما هناك من يتطرّف فيضع المسؤولية على عاتق الضحايا بلحاظ تقصير الإدارات الحزبية في تأمين مستلزمات الحماية الكافية وأخْذ الاستعدادات الضرورية والاحتياطات المناسبة، فضلًا عن غياب خطّة طوارئ، والخطأ الكارثي في اختيار الموقع لعدم صلاحيته عسكريًا، ناهيك عن مجمل السياسة العامة والسياسة التحالفية بشكل خاص.

 

نشرت في جريدة الزمان (العراقية) في 30 نيسان / أبريل 2023

 

 

بشتاشان "خلف الطواحين"

... وثمة ذاكرة

شهادة وليست رواية

(الحلقة الأولى)

 

شيء عن بشتاشان

بشتاشان أو كما تُكتب باللغة الكردية بشتئاشان، ومعناها باللغة العربية "خلف الطواحين"، قرية من قرى كردستان العراق، حبتها الطبيعة بكلّ ما هو جميل من مناظر خلّابة ونُهير ذو مياه عذبة يخترقها منسابًا من جبل قنديل متّجهًا نحو وادي شاروشين،  إضافة إلى عيون ماء "حلوة" عديدة. والقرية عبارة عن غابة كثيفة مكتظّة بالأشجار، ولاسيّما أشجار الجوز والفواكه المتنوّعة، خصوصًا العنب. وكانت تقوم حياة القرية والناس فيها على تربية المواشي والنحل وزراعة التبغ وبيع منتجاتها الزراعية إلى المدن والمناطق الأخرى.

تنقسم بشتاشان إلى قسمين: بشتاشان العليا وبشتاشان السفلى، وتتصل جغرافيًا بعدد من القرى المتقاربة من بعضها مثل أشقولكا وليوْجة وقرناقو ورزكة وكاسكان وسط سلسلة عالية من الجبال الشديدة الوعورة والدروب والمسالك المتعرّجة ذات الانحدار الحاد، كما أن الوصول إليها عسيرًا، خصوصًا  في فصل الشتاء لقسوة المناخ، حيث تصل درجة الحرارة إلى 20 درجة تحت الصفر، فتنقطع سُبل الحياة فيها وتعيش حالة عزلة شبه كاملة، الأمر الذي يتطلّب خزن المواد الغذائية لنحو ثلاثة أشهر أو ما يزيد عن ذلك، لاسيّما أشهر (كانون الأول / ديسمبر وكانون الثاني / يناير وشباط / فبراير).

 وتستمر الثلوج بالهطول على نحو كثيف حتى شهر (آذار / مارس)، كما يزداد سقوط المطر طيلة فصل الربيع الذي يمتاز بالبرودة أيضًا. أمّا في فصل الخريف فإن المطر حين يهطل يستمرّ لعدة أيام دون انقطاع، والمناخ يزداد برودة كلّما اقتربنا من فصل الشتاء، وخصوصًا في شهر تشرين الثاني / نوفمبر، في حين يكون المناخ معتدلًا والهواء عليلًا في الصيف. ويقيس الفلاحون قساوة فصل الشتاء بمراقبة ردود فعل الحيوانات وحركتها تحسّبًا للبرودة فيزداد انكماشها، وهذا يعني أن البرد سيكون قارصًا، وكذلك وخلايا النحل فيما إذا بدت مبكّرة في فصل الخريف.

تعتبر قرية بشتاشان مثل قرى جبل قنديل الأخرى معزولة، ولا تصل إليها سيارات، وسكاّنها ينتقلون إمّا مشيًا على الأقدام أو يركبون الحيوانات، ولاسيّما البغال. والبغل مهم في حركة الأنصار، لدرجة عُدّ من الرفاق "الجهاديين" حسبما كنّا نتندّر فيما بيننا، لكنه أحيانًا يحرن ويتمرّد وحتى ينتحر، وهكذا يخرق قواعد النظام الداخلي والطاعة الحزبية، لذلك لا بدّ من العناية به.

كان كلّ شيء في تلك القرية الجميلة الوديعة يسير هادئًا وبطيئًا، فقد ظلت مستلقية وراقدة منذ قديم الزمان على سفح جبل قنديل الذي يبلغ ارتفاعه 7800 قدم وتكسوه الثلوج طيلة أيام السنة تقريبًا باستثناء شهريْ تموز / يوليو وآب / أغسطس، لكن الأمور تغيّر وانقلبت  رأسًا على عقب، فقد تم تهجير سكّانها البالغ عددهم 70 عائلة إلى معسكر (جوارقورنة) القسري في العام 1975، وجرى تجريف منازلهم وأكواخهم ومزارعهم، التي ظلّت مهجورةً على الرغم من انتقال الأنصار الشيوعيين إليها في العام 1982، ثم بدأ بعض سكّانها بالعودة إليها في الثمانينيات والتسعينيات.

لم يكن أحد يتصوّر أن تلك المنطقة النائية المعزولة المنقطعة عن مراكز الحضارة والمدنية ستستقبل مئات من المثقّفين كتّابًا وصحافيين وشعراءً ومسرحيين وفنانين وأطباء ومهندسين ومعلّمين وحقوقيين وأساتذة جامعة وطلابًا وعمالًا وفلاحين وعددًا كبيرًا من السياسيين الذين أجبرتهم الظروف للعيش في تلك الأرض المنسية من العالم.

 أقام الوافدون حياةً جديدة في تلك القرية وبعثوا حركة دائبة فيها، حتى بدت تلك البقعة من الأرض وكأنها ورشة عمل دائمة لا تهدأ ولا تنام، حيث نُصبت فيها إذاعة ونُقلت إليها أجهزة طباعة وأنشئت فيها طبابة وانتظمت فيها ندوات وأماسي واحتفالات وافتُتحت فيها معارض فنية وعُرضت فيها مسرحيات، ناهيك عن تنظيم حراسات، مثلما كان يجول فيها مسلّحون بينهم الكثير من العرب الذين لم يسبق لهم حتى زيارة كردستان، فضلًا عن أنهم لا يتكلّمون لغتها ولا يعرفون تقاليدها وعاداتها الاجتماعية، وبسرعة كبيرة أصبح بعضهم يتحدّث باللغة الكردية (اللهجة السورانية أو البهدنانية) حسب منطقة وجوده، بل صار دليلًا في تلك الطرقات الوعرة والجبال العالية.

وكان الكرونجية (الباعة المتجولون)، سواء الذين يأتون من الداخل العراقي الكردستاني  أم عبر الحدود الإيرانية أحد مصادر المعلومات التي يستقي منها الأنصار ما يجري حولهم، وكان هؤلاء غالبًا ما ينقلون أخبارًا مبالغ فيها أو أن جزءًا منها يقع ضمن تقديرهم ووعيهم، وهذا في الكثير من الأحيان بعيدًا عن الدقّة إن لم يكن مفبركًا أو مغرضًا بحكم هواهم ومصالحهم، ناهيك عمّا يسمعونه من الأطراف المختلفة التي تريد منهم نقل رسائل محدّدة إلى الأنصار.

كان الكرونجية غالبًا ما يبدون إعجابهم واستغرابهم في الآن بقدرة الشيوعيين على تحمّل الصعاب ومشاق الحياة القاسية، إذْ لم يحدث أن عاش غرباء في تلك المنطقة، فما بالك حين يكون هؤلاء من مناطق العراق العربي. فليس من السهولة بمكان التأقلم مع الظروف الطبيعية القاسية وطريقة العيش البدائية، وانعدام الحد الأدنى من مستلزمات الحياة البسيطة. وكانوا يرددون من باب الانبهار أنه لا أحد يستطيع العيش في هذه المنطقة سوى الخنازير والشيوعيين.

 ومثل هذا الكلام سمعته في قرية قاسم رش في الوادي المنحدر من ناوزنك - نوكان، ومن صاحب دكان اسمه كاك أحمد ويُدعى أحمد كلاشنكوف أو أحمد طلقة، وكان يقول أنه نائب ضابط سابق في الجيش العراقي حين خاطبني قائلًا: أنتم الضباط، ما الذي جاء بكم إلى هنا؟ لم أجبه، فأردف مضيفًا، أنا أعرفك، كنتَ نقيبًا في الجيش، فأجابه رفيقي سامي عبد الرزاق الجبوري (أبو طه) الكاك ليس ضابطًا، فوجّه خطابه إليه قائلًا: وأنت كذلك كنت نقيبًا؟ وأنا أعرف الضباط من هندامهم وقيافتهم. ويُذكر أن قرية قاسم رش كانت سوقًا مفتوحة، فيها يتم تبادل العملات وبيع الممنوعات، كما كانت مرتعًا لأجهزة المخابرات الإقليمية والدولية المختلفة.

            في أيار / مايو العام 1983 دخل اسم بشتاشان القاموس السياسي،  وأصبح معروفًا على نطاق واسع كرديًا وعربيًا وعالميًا بفعل ما نقلته وكالات الأنباء والصُحف عمّا حصل فيها، مثلما أصبح  لها رمزية خاصة وإن ارتبطت بمأساة إنسانية. وأستطيع القول أنها احتلّت مكانًا خاصًا في ذاكرة جيل من الحركة اليسارية والكردية في العراق، وذلك حين هاجمت قوات "الاتحاد الوطني الكردستاني" الذي يرأسه جلال الطالباني رئيس جمهورية العراق لاحقًا، ونائبه ناوشيروان مصطفى أمين مقرّات الحزب الشيوعي العراقي في بشتاشان وارتكبت مجزرة راح ضحيتها نحو 70 شهيدًا شيوعيًا ، بعضهم لا تُعرف قبورهم حتى الآن، وبعض الناجين غادروا الحياة دون أن يسمعوا اعتذارًا أو اعترافًا أو تعويضًا لما حصل، وظلّت الحقيقة تحاصر من تورّط بالفعل الشنيع، فضلًا عن أسئلة التاريخ الحارقة.

 

 شرت الحلقة الأولى في جريدة الزمان (العراقية) بتاريخ 29 نيسان / أبريل 2023.

 

 

السودان

من الانقلاب إلى الانقلاب

 

عبد الحسين شعبان

 

            يبدو أن السودان والكثير من بلدان العالم الثالث، لم تغادر حقبة الخمسينيات والستينيات. وتقبع في الذاكرة التاريخية طائفة من الانقلابات العسكرية التي شهدتها منذ استقلالها في العام 1956.

ولعلّ ما يحدث اليوم من مواجهات عسكرية بين "الأخوة الأعداء"، باستعارة عنوان رواية الكاتب اليوناني كازانتزاكيس، إنما هو استمرار لذلك المسلسل الدرامي الذي ما تزال نهايته مفتوحة، فقد احتدم النزاع المسلّح  بين قوات "الدعم السريع"، التي نشأت في العام 2013 وعرفت باسم "الجنجويد" والقوات المسلّحة النظامية بعد فشل الاتفاق على حلّ يُنهي الأزمة السياسية منذ التغيير الذي حصل بإطاحة نظام الرئيس عمر حسن البشير في العام 2019، بل زادت تعقيدًا منذ الحركة الانقلابية العسكرية في 25 أكتوبر / تشرين الأول 2021، بقيادة رئيس مجلس السيادة، عبد الفتاح البرهان.

            ومنذ إزاحة نظام البشير، انقسمت البلاد إلى فريقين، أحدها عسكري يتألف من جناحيين، هما القوات المسلحة التي يقف على رأسها عبد الفتاح البرهان، وقوات الدعم السريع  بقيادة نائبه محمد حمدان دقلو "حميدتي"؛ وثانيهما مدني، وهي وإن اختلف فيما بينه، إلّا أنه يكاد يجمع على مطلبه بقيام حكم مدني وإعادة الجيش إلى الثكنات.

            وبالعودة إلى سيناريو الانقلابات والانقلابات المضادّة، فيمكن القول أن أوّل انقلاب كان بقيادة الفريق ابراهيم عبود في 17 نوفمبر/ تشرين الثاني 1958، وذلك على هامش الخلاف حول حركة التمرد في الجنوب، وقد أطيح به في ثورة  أكتوبر / تشرين الأول 1964.

            ونظّم ما أُطلق عليه "الضباط الأحرار" تيمّنًا بالتجربة الناصرية المصرية انقلابًا عسكريًا في 25 مايو / أيار 1969، وذلك بقيادة الجنرال محمد جعفر النميري، الذي سرعان ما اختلف أقطابه، فنظم هاشم العطا انقلابًا في يوليو / تموز 1971، لكن الحركة الانقلابية فشلت، وتمكّن النميري من استعادة السلطة، وقام بإعدام قادة الحركة، من بينهم قادة الحزب الشيوعي مثل عبد الخالق محجوب والشفيع أحمد الشيخ وجورج قرنق، وشنّ حملة اعتقالات واسعة، وتدريجيًا اتّجه الحكم نحو التشدّد والغلوّ بزعم تطبيق "الشريعة الإسلامية"، ولم يكن ذلك سوى تكميم الأفواه وتقييد حريّة التعبير بشكل خاص، والحريّات بشكل عام.

            ونجحت الحركة الشعبية في الإطاحة بالنميري في 6  أبريل / نيسان 1985، وحدث انفراج نسبي في الوضع السياسي. فتشكّلت حكومة الوحدة الوطنية برئاسة الصادق المهدي زعيم حزب الأمة بعد إجراء انتخابات، حتى تمكن الفريق عمر حسن البشير من الاستيلاء على السلطة بانقلاب عسكري  في 30  يونيو / تموز 1989، وذلك بتحالفه مع الجبهة الإسلامية القومية التي ترأسها حسن الترابي، لكن السودان لم يشهد الاستقرار المنشود والتطوّر السلمي المدني، خصوصًا بتعتّق الأزمات واستمرار الحرب الأهلية، لما يزيد عن ربع قرن.

            وكنت في زيارة لي للسودان في العام 2000 قد سألت الرئيس البشير في حديث متلفز وعلى الهواء مباشرة، بثّه التلفزيون السوداني وتلفزيون المستقلة من لندن: هل لديكم مشروع بشأن حلّ مشكلة الجنوب بعد أن فشلت جميع الحكومات السابقة في التوصّل إلى تفاهم وحلّ مقبول؟ فأجاب، وكانت تلك هي المرّة الأولى التي ينطق بها، ليس لديه اعتراض فيما إذا أراد الجنوبيون الانفصال. الجدير بالذكر أن الحركة الجنوبية هي الأخرى فشلت في تحقيق أهدافها عبر الحلّ العسكري. وقد جرى تضمين  موضوع استقلال الجنوب في اتفاقية نيفاشا للسلام (كينيا)، ووضع موضع التطبيق باستفتاء أشرفت عليه الأمم المتحدة ( يناير / كانون الثاني 2011)، حيث انفصلت دولة جنوب السودان عن جسم السودان الأساسي وانضمّت إلى الأمم المتحدة.

            وعلى الرغم من الإطاحة بحكم البشير العسكري، إلّا أن الجيش عاد ليلعب الدور المحوري، خصوصًا بعد انقلاب البرهان المذكور وازدواجية السلطة مع حميدتي، وتبدد اتفاق تقاسم السلطة مع المدنيين حتى موعد الانتخابات، وهو الأمر الذي قاد لتنافس العسكريين فيما بينهم، إذْ لم يعد ممكنًا استمرار السلطة برأسين (رئيس مجلس السيادة ونائبه)، وهكذا انفجر الصراع بين الجيش والدعم السريع.

            أكّدت التجربة التاريخية أن كل انقلاب عسكري يولد انقلابًا جديدًا من بطنه، وهكذا يتمّ تفريخ الانقلابات، وتستمرّ دوّامة العنف. ففي جميع البلدان التي حكم فيها العسكر، عادت البلاد القهقري، و ذلك واحد من أسباب تعثّر التنمية المستدامة. ومقارنة بالبلدان التي سلكت طريق التطوّر السلمي المدني، فثمة هوّة عميقة بينها وبين البلدان التي عرفت الانقلابات العسكرية، فليس بالشعارات يمكن تحقيق التنمية والرفاه والعيش الكريم لعموم الناس.

            ما ينتظره السودانيون، وهو ما لمسته خلال زيارتين لي في العام 2022، وخلال لقاءات مع مثقفين وأدباء وأكاديميين ومحامين وحقوقيين وإعلاميين، هو توفير الحدّ الأدنى من التفاهم وتحقيق قدر من التوافق لإجراء انتخابات حرّة يستطيع الشعب فيها أن يختار ممثّليه ويطوي صفحة الانقلابات العسكرية المليئة بالدماء والدموع.

 

 

عن شيء اسمه "السيادة"

 

عبد الحسين شعبان

 

            ثلاث قضايا تشتبك سلبيًا مع مبادئ السيادة، واجهها رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني خلال الأيام القليلة المنصرمة؛

 أولها - العدوان التركي على مطار السليمانية، والتهديدات التي أطلقها مولود جاويش أوغلو وزير الخارجية التركي، بإغلاق المجال الجوّي، لكون "السليمانية واقعة تحت سطوة حزب العمّال  الكردستاني PKK "، الذي يعتبره منظمة إرهابية. ولم يكن ردّ الفعل العراقي بالمستوى المطلوب، علمًا بأن تركيا ترفض إجلاء قواعدها العسكرية من كردستان العراق، على الرغم من الطلب العراقي.

ولعلّ عمليات القصف واستهداف بعض مناطق كردستان هي ما تقوم به إيران بصورة روتينية لمبررات مماثلة، بزعم وجود جماعات إيرانية معارضة، وهي التي  تعتبر العراق فناءً خلفيًا، دون أي اعتبار لسيادته. يضاف إلى ذلك، أن القوات الأمريكية تقوم بنشاطات عسكرية على طول العراق وعرضه، دون العودة إلى الحكومة العراقية، وهو ما حصل حين اغتالت مسؤولًا عراقيًا (أبو مهدي المهندس)، وآخر إيرانيًا (قاسم سليماني).

وثانيها - استمرار الميليشيات المسلحة خارج نطاق الدولة والقانون، وقد شهدت بغداد مؤخرًا استعراضًا مفاجئًا لمسلحين غير نظاميين، دون رد فعل يُذكر من جانب الدولة، وهذه ليست المرّة الأولى، ويبدو أنها لن تكون الأخيرة، في منافسة الدولة التي يُفترض أن تكون  مرجعيّتها القانونية فوق جميع المرجعيات، وأن تحتكر السلاح بيدها لوحدها. ولم تتمكّن الحكومات المتعاقبة من ضبط السلاح، على الرغم من أن الدستور يحظر وجود ميليشيات عسكرية (المادة 9).

            وثالثها - التصريحات النارية التي أطلقها أكرم الكعبي، زعيم "جماعة النجباء"، ضدّ الولايات المتحدة، مهدّدًا ومتوعّدًا وجودها العسكري في العراق، إن لم تجل قواتها وترحل من العراق، ملقبًا سفيرتها ﺑ "سفيرة الشر"، علمًا بأنها جزءًا من قوات الحشد الشعبي (الرسمية قانونًا). وكان مجلس النواب قد حدّد مساره القانوني العام 2016، إلّا أن اعتراضات، كانت تظهر، بين الفينة والأخرى في مناطق عدّة من غرب العراق، وصولًا إلى الموصل بشأن السلاح، واستخداماته من جانب المسلّحين، فما بالك حين يكون الأمر في العاصمة بغداد.

            وصرّح السوداني قبل أيام من هذا التصعيد ﺑ "نعمل مع التحالف الدولي لوضع أفكار تُفضي إلى اتفاق بهدف نزع السلاح من كلّ التيّارات"، فهل بعد 20 عامًا على الاحتلال الأمريكي للعراق، نعود إلى المربّع الأول، لمناقشة فكرة السيادة؟

 وكالعادة يختلف الفرقاء، "الأخوة الأعداء"، حسب الروائي اليوناني نيكوس كازانتزاكس، بشأن مفهوم السيادة لدرجة  يعتبر البعض أن العراق خاضع لإيران، والآخر يعتبره مقيد أمريكيًا، حيث استعيض عن الاحتلال العسكري بالاحتلال التعاقدي. وهناك من يذهب إلى أن العراق موزّع بين إيران وأمريكا، وثمة من يقول أن السيادة تمّت إستعادتها على مراحل، ابتداءً من العام 2004، ثم بخروج القوات الأمريكية رسميًا في نهاية العام 2011. وبعد هزيمة داعش عسكريًا، استعاد العراق سيطرته على ثلث الأراضي العراقية التي كانت تحتلّها.

وبالطبع لم يعد مفهوم السيادة مطلقًا، بل إنه مقيّد بحكم الأمر الواقع، فكيف يمكن تصوّر سيادة مطلقة بالمعنى التقليدي في ظلّ العولمة والطور الرابع للثورة الصناعية، حيث أصبح العالم "قرية صغيرة ومفتوحة" من جميع الجوانب، ليس بفعل القوّة العسكرية فحسب، بل بوسائل ناعمة أكثر تأثيرًا وأعمق أثرًا مثل الثقافة والاقتصاد والإعلام والتكنولوجيا وغيرها.    

            ومنذ صدور قرار مجلس الأمن الدولي رقم 688 في 5 نيسان / أبريل 1991، والقاضي بوقف القمع الذي تتعرّض له المنطقة الكردية وبقية مناطق العراق، أصبح مبدأ التدخّل "لأغراض إنسانية" مثار جدل ونقاش فقهيين وسياسيين في ظلّ اعتبار قاعدة احترام حقوق الإنسان بصفتها قاعدة علوية من قواعد القانون الدولي. وللأسف فإن مبدأ "التدخّل الإنساني" تمّ تسييسه واستغلاله من جانب القوى المتسيّدة في العلاقات الدولية على نحو انتقائي بازدواجية المعايير، تلك التي تتجلّى بأبشع صورها اليوم من عسف وإجلاء واستيطان في فلسطين، ومن عدوان "إسرائيلي" مستمر ومتكرّر على الأمة العربية.

وكنت قد جئت على مفهوم السيادة في كرّاس بعنوان "السيادة ومبدأ التدخّل الإنساني"، أساسه محاضرة ألقيتها في جامعة صلاح الدين (إربيل) في العام 2000،  وقامت الجامعة حينها بطبعه، تناولت فيه تطبيقات الفكرة ومفارقاتها نظريًا وعمليًا، خصوصًا فيما يتعلّق بنظام العقوبات المفروض على العراق والذي استمرّ ما يزيد عن 12 عامًا.

                        قد تكون هذه المواضيع الحسّاسة وراء تصريح السوداني بشأن التفكير بالتحالف الدولي في مسألة نزع سلاح جميع التيارات كما قال. وهو أمر إشكالي ويثير أسئلة جديدة - قديمة، حول فكرة السيادة العراقية التي ظلّت "معوّمة" و"مجروحة" منذ فرض الحصار الدولي، إثر غزو الكويت، وإلى يومنا الحاضر. فهل أن إقحام "التحالف الدولي" في شأن داخلي محض، سيكون مساعدًا في استعادة السيادة، أم أنه سيزيد من تعقيدات الوضع العراقي؟ هي أسئلة برسم الحكومة العراقية.

           

 

 

 

منطق ويستفاليا

 

عبد الحسين شعبان

 

منذ أن أُعلن الاتفاق السعودي - الإيراني الذي التأم برعاية صينية، أصبح محطّ تكهّنات عدة بين متفائل، بل وشديد التفاؤل، وبين متشائم وشديد التشاؤم، وبين هذا وذاك، هناك بعض الأوساط تعاطت معه بحذر، وبشيء من «التشاؤل»، باستعادة رواية إميل حبيبي «الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل».

  والأمر لا يتعلّق بمضمون الاتفاق وأبعاده، بل باحتمالات امتداداته وتأثيراته في عموم دول المنطقة، من دون نسيان ما قد يعترضه من تحديات وضغوط، من داخله ومن خارجه، الأمر الذي يحتاج لدوامه، توفر الثقة والصدقية في تنفيذه، بما يُخفّف من حدّة التوتّر بين البلدين، وفي المنطقة، ويطوي الشكوك، ويُزيل العقبات والألغام من طريقها، لاسيّما انعكاساته على أوضاع اليمن ولبنان وسوريا والعراق، فضلًا عن دول الخليج.

 ويمكن قراءة ردّ الفعل «الإسرائيلي» الحاد ضدّه منذ إعلانه، والترقّب التركي الملحوظ، وبلا أدنى شك فإن الملف النووي الإيراني سيكون حاضراً أمريكياً، وليس بعيداً عن ذلك استمرار الحرب الروسية - الأوكرانية، وتصاعد احتمالات مواجهة بين روسيا وحليفتها الصين من جهة، وبين الغرب وحلف الناتو، من جهة أخرى.

 وبغضّ النظر عن التقديرات المتناقضة بخصوص مستقبل العلاقات السعودية - الإيرانية، فإن أية علاقة إيجابية بين دول المنطقة يمكن رؤيتها في إطار الحفاظ على السلم والأمن في المنطقة، بوقف النزاعات، ونزع فتيل التوترات وإطفاء بؤر الحروب التي عانتها، الأمر الذي سينعكس إيجابياً كذلك على تنمية شعوبها، بما يعزّز علاقاتها الاقتصادية والتجارية والاجتماعية والثقافية، التي يفترض فيها أن تقوم على أساس احترام السيادة وعدم التدخّل في الشؤون الداخلية ومراعاة المصالح المشتركة والمنافع المتبادلة.

 لقد عانت المنطقة خلال ثلاثة أرباع القرن الماضي حروباً ونزاعات أساسها العدوان الإسرائيلي المتكرّر على الأمة العربية، بما فيه ما يجري اليوم من عنف وإرهاب طال المقدسيين، إضافة إلى توسيع أعمال الاستيطان المدان بموجب القانون الدولي، فضلاً عن التنكّر لحق الشعب العربي الفلسطيني في تقرير مصيره بنفسه، وإقامة دولته المستقلّة على أرضه، كما شهدت المنطقة حرباً ضروساً عراقية - إيرانية استمرّت لثمانية أعوام، وفيما بعد حرباً ثانية في الخليج بعد غزو قوات النظام العراقي السابق للكويت، والتي توجّت بحصار دولي ثم احتلال العراق بعد أفغانستان.

 ولا تزال المنطقة تعاني صراعات مسلّحة ونزاعات أهلية وتدخلات خارجية متعددة استنزفت مواردها وبددّت طاقاتها، وهدرت إمكاناتها، وعرّضت وحدة دولها إلى التصدّع بدلاً من تعاونها واتحادها، الأمر الذي يفترض إجراء مراجعات على صعيد النخب، الحاكمة وغير الحاكمة، لمصلحة شعوبها عبر حوار مسؤول وجاد للوصول إلى صيغة توافق وتفاهم وتعاون قد تكون أقرب إلى وستفاليا مشرقية.

 لقد سبق لنا أن دعونا من هذا المنبر إلى ويستفاليا مشرقية يكون أساسها مفهوماً جديداً للأمن الخاص بالمجاميع الثقافية في ظلّ التنوّع والتعدّدية الدينية والإثنية واللغوية على صعيد كلّ دولة، وعلى الصعيد الإقليمي.

 ويمكن أن يكون الحوار السعودي - الإيراني نواة أساسية لحوار عربي - إيراني، وهذه المعادلة يمكن أن تفضي إلى فضاء إقليمي يشمل حواراً عربياً - تركياً، وحواراً عربياً - كردياً، وحوارات إيرانية - تركية، فمنطقتنا تتكوّن من أربع أمم أساسية هي: الترك والفرس والكرد والعرب، وهو ما أسماه الأمير الحسن بن طلال ﺑ «أعمدة الأمّة الأربعة».

 ولعلّ أي حوار، فضلاً عن أي اتفاق يتطلّب مناخاً صحّياً لإشاعة روح الثقة بالأفعال، وليس بالأقوال فحسب، من خلال خطوات تدرّجية ملموسة وعملية، فالسياسة في نهاية المطاف ليست بالنوايا.

 وإذا كانت «الحروب تولد في العقول»، لذلك اقتضى «تشييد حصون السلام في العقول أيضاً»، حسب دستور «اليونيسكو»، وهذا يتطلّب تغليب منطق العقل والمصالح والحوار والتفاهم، محل سياسات فرض الهيمنة والتسيّد وإملاء الإرادة.

 أليس حريّاً بأمتنا وشعوبنا العربية والإسلامية ودولها، وضع حدّ لنزاعات طائفية ومذهبية عقيمة، واحترابات دينية لا معنى لها، باعتماد صيغة أقرب إلى «اتفاقية وستفاليا» لبناء سلام دائم وشامل؟ وهو ما توصّلت إليه أوروبا بعد حروب عبثية بين البروتستانت والكاثوليك، خصوصاً حرب «الثلاثين عاماً»، التي أزهقت فيها أرواح ملايين البشر، وانتهت بتوقيع «اتفاقية ويستفاليا» عام 1648 التي وضعت حدّاً لتلك النزاعات، واعترفت بالسيادة والحق في ممارسة الطقوس والشعائر الدينية بحريّة، فضلاً عن حريّة مرور البضائع والسلع في إطار المصالح المشتركة. ويصبح مثل هذا الأمر لمنطقتنا «فرض عين وليس فرض كفاية».

drhussainshaban21@gmail.com

 

صورة الجواهري:

 الشاعر والشعر

 

عبد الحسين شعبان

 

            كيف يمكنني أن أختزل شاعرًا كبيرًا بقامة الجواهري وحجم عطائه الإبداعي وتنوّع تجربته الغنية، ناهيك عن علاقتي الشخصية به والتي تمتدّ إلى نحو ثلاثة عقود من الزمن في مقالة أو بحث أو دراسة أو شهادة أو حتى كتاب، فقد بات البحث في شعر الجواهري وأدبه، ناهيك عن شخصيته وسيكولوجيته الخاصة من الأمور المعقّدة، فقد مثّلت مزيجًا من متناقضات عديدة لا تجتمع إلّا في شعراء نادرين أو فلاسفة كبار، لما تحمل من جوار الأضداد، فبقدر ما تتضمّن من تلقائية واعتيادية، ففيها فوارق واستثناءات، سواءً في الموقف والرؤية والسلوك، أم في التجربة والامتلاء والدلالة في المتخيّل والواقعي وما بينهما.

 

حيرة الشاعر

            فالشاعر "العبّاسي" الذي عاش على امتداد القرن العشرين طولًا وعرضًا، يحمل في جنباته بيانًا وعرفانًا وبرهانًا، كلّ ذلك في محاولة تتطلّع إلى التجديد والحداثة لغةً وشكلًا حتى وإن كانت خيوط المحافظة تشدّها إلى التراث. تلك هي حيرة الشاعر التي عبّر عنها منذ وقت مبكّر، حيث تجاذبه قطبان هما الرغبة في التمرّد على الواقع من جهة والتعايش معه من جهة أخرى، وهكذا ظلّ معلّقًا بين الواقع والحلم وبين الحقيقة والطموح، وهو ما يأتي عليه في قصيدة كتبها في مطلع الثلاثينيات من القرن العشرين والموسومة ﺑ "المحرقة" والتي يقول فيها:

            وما أنت بالمعطي التمرّد حقّه ... إذا كنت تخشى أن تجوع وأن تعرى

            أو كما يقول في قصيدته الدالية التي مطلعها "ازحْ عن صدركَ الزبدا ... ودعه يبثّ ما وجدا" التي ألقى بعض أبياتها بمدينة النجف الأشرف العام 1975 في حفل مهيب اقامته له الرابطة الأدبية لتكريمـــه بمناسبة منحه جائزة (لوتس) من اتحاد كتاب آسيا وأفريقيا، والتي يقول فيها:

            عجيب أمرك الرجراج ... لا جنفًا ولا صددا

تضيق بعيشة رغدٍ ... وتهوى العيشة الرغدا

وترفِضُ مِنةً رَفَها ... وتُبغِض بُلغةً صردا

وتخشى الزُّهدَ تَعْشَقُهُ ... وتعشَقُ كلَّ من زهِدا

ولا تقوى مصامَدةً ... وتعبُد كلَّ من صَمَدا

وظلّت صورة التحدّي والتناقض مهيمنة على الجواهري طيلة حياته التي تمتدّ طوال القرن العشرين، فقد ولد في العام 1900 أي قبل ولادة الدولة العراقية بما يزيد عن عقدين من الزمن، حيث تأسست المملكة العراقية في 23 آب / أغسطس 1921 ، وذلك بتتويج الملك فيصل الأول ملكًا على العراق، وتوفي الجواهري بدمشق في 27 تموز / يوليو 1997.

وهكذا يمكن اعتبار القرن العشرين هو قرن الجواهري بامتياز. ويمكن التعرّف على أوضاع العراق من خلال قصائده التي أرّخت الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية، علمًا بأن التاريخ الحقيقي لا يكتبه المؤرخون، بل يكتبه الفنانون حسب الروائي الروسي مكسيم غوركي، لما فيه من تعبير صادق عن واقع الحال وانعكاس له.

            لعلّ صورة الجواهري التي ظلّت سائدة في الأذهان هي صورة المثقّف المنشق، خصوصًا في سنوات الأربعينيات والخمسينيات والستينيات ، وهو ما حاولت التوقّف عنده في كتابي "الجواهري - جدل الشعر والحياة" في الفصل الخاص الموسوم  "شاعر ودولة"، فالجواهري شخصيةٌ هوميروسيةٌ لقرن عراقي كامل بتركيبته ذات الجذور الفكرية والثقافية والأدبية، وسيرة حياته الغنيّة وتجربته المركّبة وشخصيّته  العصيّة على الطاعة بقدر ما هي مطواعة.

 

جدل الشعر والحياة

            حين صدر كتابي نهاية العام 1996 ، كان الجواهري ما يزال على قيد الحياة. وكان من بين آخر الكتب التي صدرت عنه والتي "اطّلع" عليها قبل وفاته. وفي وقتها كانت البلاد تئنّ تحت وطأة الحصار الدولي، الأمر الذي جعل الثقافة مهمّشة وثانوية أمام عبء البحث عن لقمة العيش، بعد أن كان الكتاب زادًا شهيًّا على مائدة المثقفين العراقيين، ويكاد يكون ضرورة يومية لحياتهم، وبسبب تدهور الأوضاع فقد أصبح اقتناء الكتاب ترفًا، وإن ظلّ العراقيون يطمحون للحصول عليه.

والمسألة تتعلّق بفعلين متناقضين، أحدهما - حالة الإقصاء الثقافي للرأي الآخر، التي كانت تمارسها المؤسسات الرسمية بفعل أُحاديّة التوجّه السياسي والأيديولوجي، وثانيهما - انغلاق البلاد بحكم نظام العقوبات الدولي، فحتى أقلام الرصاص كانت ممنوعة بحجة استخدامها في الصناعات العسكرية.

            لذلك كان كتاب "الجواهري - جدل الشعر والحياة" يدخل المكتبات العراقية متسلّلًا وحذرًا، حيث ساد ما عُرف في وقتها ﺑ "ثقافة الاستنساخ"، أي إعادة تصوير الكتب من نُسخها الأصلية، لاسيّما الممنوعة وبيعها بما يتلاءم مع الظروف المعيشية المتردّية، وعلى نحو أشبه بالمنشور السرّي.

            وعرفت ذلك من عدد من الأدباء والمثقفين الذين اطّلعوا على نسخة كتابي عن الجواهري مستنسخة ورأيتها بأم عيني بعد أول زيارة لي إلى بغداد، التي اضطررت إلى مفارقتها والبعد عنها كراهةً لنحو 23 عامًا، وقد اقتنيت نسخة مستنسخة من كتابي لاحتفظ بها للذكرى.

 ولعلّ إصدار الكتاب بطبعة ثانية (دار الآداب - بيروت) وطبعة ثالثة شعبية (دار الشؤون الثقافية - بغداد) هي تأكيد على انتماء الكتاب للمكان بهدف إحياء الذاكرة والبحث في التفاصيل الصغيرة التي تشكّل عوالم يستعيدها، بل وينسجها المنفيون على حد تعبير إدوارد سعيد في كتابه "خارج المكان" الذي هو بمثابة سيرة ذاتية صدرت طبعته الأولى باللغة الإنكليزية العام 1999، وقد أهديت طبعة كتابي الثانية إلى المتنبي "شاعرًا وشارعًا".

 

ثلاث صور متداخلة

            ثلاث صور تتداخل عندي حين أستعيد تجربتي مع الجواهري؛ أوّلها الصورة المتخيّلة، وثانيها صورة الاقتراب من الواقع، وثالثها الصورة الصداقية، ومع كلّ هذه الصور ثمة إعجاب متميّز ورابط مشترك يجمع هذه الصور حتى لتبدو صورة واحدة وإن كانت متعدّدة.

            كان اسم الجواهري منذ طفولتي يملأ الأجواء لدرجة أنه كان يسكن مخيلتي وأنا ذاهب إلى مدرستي "السلام" الابتدائية في محلة العمارة بالنجف الأشرف، ماراً في الذهاب والإياب أحياناً أمام جامع الجواهري الشهير، الذي مضى على إنشائه أكثر من مئتي عام، حيث كان راعي الأسرة الجواهرية وباني مجدها الأول الشيخ محمد حسن، صاحب كتاب "جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام" قد ذاع صيته العلمي وشاع اسمه في ذلك الزمان. وغدا كتابه مرجعاً رئيسياً للمنهج الدراسي، في جامعة النجف الفقهية، التي شُيّد صرحها منذ نحو ألف عام، وقد توفي جد الشاعر عام 1850، وظل قبره مميّزاً في النجف بقبته الزرقاء كعلامة بارزة في المحلة. وتضم القباب الزرق في النجف مقابر العوائل الدينية الثلاث الشهيرة، وهم السادة آل بحر العلوم وآل الجواهري ومسجدهما، وجامع آل كاشف الغطاء.

           

الجواهري في بيتنا

 

كانت قصائد الجواهري ودواوينه، تزيّن مكتبة العائلة، حيث كان أعمامي وأخوالي، من مريديه والمتغنّين بشعره، وتحتوي مكتباتهم الكثير من القصاصات والصحف التي تتابع أخباره ونشاطاته الإبداعية مثلما كانت دواوينه تتصدرها، وكانوا مع مجموعة من المثقفين والأدباء، لا ينفكّون يتجادلون بما نظمه الجواهري وما كتبه.

هكذا نشأ الجواهري معنا في المنزل إذا جاز التعبير، أو بالأحرى نشأنا ونحن نتطلّع إليه. فمدرسة الجواهري للعلوم الدينية والفقهية، كانت قريبة من دارنا في "عكَد السلام" وآل الجواهري، يتوزعون بالقرب من بيوتنا المتراصة والمتكاتفة والملتفة حول صحن الإمام علي ومرقده الذي تعلوه القبّة الذهبية المتوهجة، والباعثة على الجلال والهيبة.

في تلك البيئة النجفية ولأسرة عربية تهتم كباقي الأسر الكبيرة في النجف بالشعر والأدب والمجالس الحسينية، إضافة إلى مكانتها الدينية، ولدتُ وترعرعتُ لتغدو تلك الروافد الروحية إحدى أهم ركائز حياتي المستقبلية.

وكان الشعر بخاصة والأدب بعامة، يشكّلان الأساس، الذي لا غنى عنه في المجالس والمناسبات الأدبية والدينية والاجتماعية، التي هي أقرب إلى الأندية الثقافية والفكرية، تطورت على مر العصور. فقول الشعر في النجف، وكما تعارف عليه الناس، طبيعي بمعنى آخر، أنه غير مصطنع أو يهدف إلى الكسب، أي إنه وجداني (ضميري) نابع من الشعور وليس أمراً تعليمياً.

 

مطارحات جواهرية

في مطارحاتي مع الجواهري سألته عن روافده الثقافية، فقال أن الظاهرتين الدينية والأدبية تلتقيان وتتعانقان على نحو كبير عنده بحيث يكوّنان مجرىً واحدًا، فدينيًا بحكم فصاحة القرآن الكريم وبلاغته، أما أدبياً فمن منطلق الكتب الأدبية الأولى التي التهمتها مثل نهج البلاغة وأمالي القالي والمرتضى وكتاب الأغاني للأصفهاني وما ترك الجاحظ من روائع وما خلف الشعراء من تحف ونوادر، ثم كُتب النحو والبيان وبما فيها من تقويم الكلمة والبحث عن أسرار بلاغتها، ناهيك عن الدراسة الأولى في الحوزة الدينية.

ويضيف الجواهري إلى ذلك المجالس الأدبية والثقافية في ليالي الجمعة أو أيام الأربعاء (أماسي الأربعاء) التي حظيت بشهرة كبيرة، حيث تشهد مباريات شائقة ومسابقات حماسية، وهو ما يورده الشيخ جعفر باقر محبوبة في كتابه "ماضي النجف وحاضرها"، حيث كان الشعر متعة تلك المجالس الأثيرة، تجري فيه المطاردات الشعرية وفي المقدمة منها مسابقات "التقفية" الصعبة، حيث يقرأ المتسامرون هذا البيت وذاك ويتركون للآخرين الرد عليهم بأبيات تبدأ بحرف القافية ويواصلون هم أيضاً استنباط القافية.

وقد وصف الأديب اللبناني أمين الريحاني عند زيارته النجف عام 1922 بأنها "أعظم مدينة في العالم" لا في زخارفها أو جمال قصورها، بل في رجالها، حيث التقى عدد من أدبائها ومثقفيها وعلمائها، وحضر مجالسهم، وكان الجواهري قد كتب قصيدته النونية التي حيّا فيها الضيف، وجاء في مطلعها:

 

    أرض العراق سعت لها لبنان

 

 

فتصافح الإنجيل والقرآن

 

 

فتوّة وإرهاص

 

دخل الجواهري ذاكرتي الطفلية الأولى مصحوباً بالتقدير حدَّ التقديس، والافتتان حدَّ الوَله، وبقصائد تحدٍّ، زادت جذوة الفتوة اشتعالاً. وكان هذا يكبر معي بمرور الأيام، خصوصاً التأثّر بقدرته العالية في التعبير عن أحاسيس وإرهاصات، كان هو وحده خير من يستطيع ويُحسن التعبير عنها، حتى ليقودنا إلى طريق مليئة بالمفاجآت والأحلام، مفضية إلى عوالم أخرى موشاة بالذهب تارة، وبالألغام تارة أخرى، بروعة وإبداع بالغين، وأخيراً تصويره لعنصر التحدّي والإقدام الذي امتاز به على نحو لا يضاهيه فيه أحد، وقصيدته العمودية التجديدية، ذات البناء اللغوي الخاص والإيقاع الموسيقي المتميز والمعاني الإنسانية التي تنضح بها، وكأنها تريد أن تحلّق بك في أجواء علوية سامية، في حين تتجذر في الأرض وتمد عروقها عميقاً في التربة العراقية، شامخة مثل نخيل العراق، مشرئّبة نحو أفق واسع مديد، يتجاوز فضاء العراق نحو أمة العرب جميعاً، حاملة معها صدق المشاعر الإنسانية الشفيفة.

لم تكتمل صورة الجواهري في مخيلتي الصغيرة، لكنها أخذت تحفر مكانها في الذاكرة لتستقرَّ تدريجياً، متنقلة من المخيلة إلى الواقع.

كانت أجنحة الروح تخفق معه حين ينشد قصيدة التحدي ذات الألق الخاص والتأثير المتميز المرصّع بصور لاهبة شديدة الإيحاء كثيرة التموجات خصبة الأحاسيس مشحونة بمعان الحياة المملوءة بالتقلب والتعرج والتناقض، فهو كالبحر لا يستقيم على مدّ دون جزر أو على جزر دون مدّ... إنه هما معاً.

الذاكرة الأولى بدأت تُختزن بقصائد وأبيات لها دلالات ومعان مرتبطة مع تلك الأيام، وبأسماء وبطولات وصور وتشكيلات كانت تؤلف المشهد الأكثر حضوراً في الصراع. وينبع بعضها من إشكاليات الجواهري ذاته، إذْ باستطاعته تحويل أيّة مناسبة إلى فرصة لتقريع خصومه، بل جرهم على المكشوف إلى حلبة الصراع ليعلن تحدّيه المباشر.

إن هذه القدرة العجيبة على التحدي، كانت السمة الأكثر تميّزاً في شخصية الجواهري وشعره، وكانت الجانب الأكثر تأثيراً في الشباب التوّاق إلى التغيير والتجديد. وتكاد قصيدة مثل "هاشم الوتري" تعبّر عن مرحلة كاملة، حيث يقول في مطلعها:

إيه "عميد الدار" شكوى صاحبٍ

 

 

طفحتْ لواعجهُ فناجى صاحبا

 

 

ويهاجم الجواهري ويتحدّى:

أنا حتفهم ألجُ البيوتَ عليهمُ
خسئوا: فلم تزل الرجولةُ حُرةً
أعرفتَ مملكة يباحُ "شهيدُها"
مستأجَرين يخرّبون ديارهُمْ

 

 

أغري الوليدَ بشتمهم والحاجبا
تأبى لها غيرَ الأماثلِ خاطبا
للخائبينَ الخادمينَ أجانبا؟
ويكافؤون على الخراب رواتبا


 

 

إذا كانت الصورة الأولى التي بدأت تتشكل مع مرور الأيام، مأخوذة بطابع الإعجاب والتحدي، فإن الصورة أخذت تفرز ألوانها، مع بداية الوعي بالحياة وتمييزي للأشياء، وقد أصبحت قصائد الجواهري، علامات مضيئة في الطريق التي تلمستها لاحقاً.

 

 

 

محظورات أبي

 

أذكر أن ثلاثة محظورات عكّرت صفو العائلة، وكدّرت مزاجها، فيوم اختفى عمّي شوقي (قبل اعتقاله) في أعقاب انتفاضة عام 1956، إبان العدوان الثلاثي الأنكلو- فرنسي "الإسرائيلي" على الشقيقة مصر وانتصاراً لها وتضامناً معها، احتار والدي الحاج عزيز شعبان، بتلك المحظورات، لأن كلاً منها كانت مصدر تهمة حسب اعتقاده، فما بالك إذا وُجدت مجتمعة.

            المحظورات الثلاثة هي النظارة السوداء التي اكتشفها والدي مخبّأة في غرفة عمي شوقي مع حاجياته وأوراقه الخاصة. وكانت هذه دليلاً مقنعاً على المشاركة في التظاهرات. والثانية كانت الكوفية البيضاء (الغُترة في العامية العراقية) التي كان يلبسها الشيوعيون مع النظارة السوداء، لإخفاء معالمهم عن شرطة التحقيقات الجنائية، التي كانت تترصد المتظاهرين لتشخيصهم من قبل "الشرطة السرية" كما كانت تُدعى. وكانت النظارة السوداء مع الكوفية البيضاء دليلاً لا يخطئ خصوصاً إذا تم كبسهما في دور "المشبوهين". أما الثالثة فكانت "القصيدة الحمراء" وأعني بها قصيدة "عالم الغد" للجواهري، التي كان الشيوعيون يتغنون بها، وكانت هذه بمثابة بطاقة انتساب "أولية" للحزب الشيوعي، حيث وضع والدي يده على عشرات من النسخ في غرفة عمي البعيدة عن جناح الضيوف، الذي كنا نطلق عليه اسم "البرّاني" في اللهجة العراقية والنجفية بشكل خاص (يقابله استخدام الديوانية في جنوب العراق وبلدان الخليج العربي).

 

القصيدة الحمراء

            أخذ والدي يُداري حيرته وقلقه بتقديم التبريرات التالية" فالنظارة السوداء قال إنه سيبرر استخدامها في فصل الصيف الحار، وفي فترة الظهيرة حيث الشمس المحرقة، أما الكوفية البيضاء بدلاً من الكشيدة (وهي عبارة عن فينة حمراء أي طربوش أحمر ملفوفة من وسطها حتى حافتها السفلى برباط أصفر اللون). التي ظل يعتمرها على طريقة الأجداد، فيما اقترحت والدتي استخدام الكوفية كصرّة لحفظ الملابس (بُقجة بالعامية العراقية) وتوضع في الخزانة مع الملابس والحاجيات الأخرى.

            وازداد قلق والدي بخصوص "القصيدة الحمراء" فلم يشأ إتلاف النسخ التي عثر عليها وهي تعود لشيخ الشعراء على حد تعبيره، وقال: إنني سآخذها معي إلى المحل وأضعها بين الأقمشة بعيداً عن الأعين، حيث كان يعمل تاجراً لبيع الأقمشة، وكان هذا اقتراح عمي ضياء أيضاً، الذي كان شديد الإعجاب بالجواهري وعلى الرغم أنه لم يُعلّق على المقترحات الأخرى، كما لم يبدُ عليه القلق والحيرة التي انتابت الآخرين، لكنه قد يكون أكثرهم احتراساً وإن كان أكثر تماسكاً ورباطة جأش. ثم اقترح والدي إخفاء القصيدة الحمراء ومعها بضع قصائد أخرى في السرداب (القبو) في مكان موحش يصعب الوصول إليه.

 

زيارة رجال الأمن

            وحسمَ الوالد الأمر بقراءة آية قرآنية وأخذ يردد لثلاث مرات "بسم الله الرحمن الرحيم: وجعلنا من بين أيديهم سدّاً ومن خلفهم سدّاً، فأغشيناهم فهم لا يبصرون.. صدق الله العظيم" ثم قرأ "آية الكرسي" وقال: لنترك أمرنا إلى الله، وعلى طريقته "شيريد يصير خلّي يصير" أي "ليكن ما يكون" مضيفاً "الله يعمي أبصار الظالمين".

            وبدّدت حيرة الوالد وتردده زيارة رجال الأمن "التحقيقات الجنائية" وكبسهم المنزل في اليوم التالي، وكانت العادة المتبعة "قانوناً" اصطحاب مختار المحلة معهم، لكن الحاج كاظم الشكري، مختار محلّة العمارة في النجف، رفض مرافقتهم لاعتبارات اجتماعية وصداقية، فأجبروا حلاق المحلة "رسول المزيّن" في سوق العمارة على مرافقتهم أثناء تفتيش المنزل، لكنهم مع وجود "المحرمات" الثلاثة: النظارة السوداء والكوفية البيضاء والقصيدة الحمراء، لم يعثروا على أي "دليل جرمي" أو "مستمسك ثبوتي".

            ظل قلق القصيدة الحمراء ونظرة الإعجاب والتقدير للجواهري هاجساً يراودني بين الحين والآخر، وكلما اختلطت علي الأمور أو تشوّشت الرؤية أو بعدت المسافات، أو اتّسعت الهوّة بين الواقع والحلم أو استشرى التشاؤم والقنوط، أهرع إلى "ارتكابات" القصيدة، مستحضراً الصلة المعقدة وغير العقلانية بين المثقف ورجل الشرطة، والعلاقة بين الثقافة والقانون وبينها وبين السياسة، حتى أجد نفسي وجهاً لوجه أمام تلك الفترة، وبمواجهة الجواهري وهو ينشد قصيدة التحدي.

 

الحضور البهيّ

ما كنّا نقرأه أو نردده عن الجواهري، في المجالس الخاصة، همساً وتلميحاً، سمعته لأول مرة، يصدح من دار الإذاعة العراقية، بعد 14 تموز (يوليو) عام 1958، وإعلان الجمهورية العراقية، في قصيدته "النونية" التي يحيّي فيها الثورة، ويقول في مطلعها:

 

سدّدْ خطاي لكي أقول فأحسنا

 

 

فلقد أتيتَ بما يجلُّ عن الثنا

 

            إلى أن يقول:

جيش العراق ولم أزل بك مؤمنا
عبد الكريم وفي العراق خصاصــة                  

 

وبأنك الأملُ المرجّى والمنى
ليــدٍ وقد كنت الكريـم المُحسنــا

 

لكن الجواهري ظل يتعامل مع هذه القصيدة وكأنها لا تعود إليه، وحاول نسيانها أو تناسيها حتى عندما يُسأل عنها، وأتذكر عندما كنت أحاوره في النصف الأول من الثمانينيات قال لي مازحاً: "أن هذه القصيدة ليست لي"، وعند اختياري لها ضمن الذائقة الشعرية، كمختارات من شعر الجواهري في الكتاب الذي أصدرته في دمشق في العام 1986 بالتعاون معه "الجواهري في العيون من أشعاره"، اتصل بي مستدركاً من براغ وطلب مني رفع هذه القصيدة وعدم الإشارة إليها ضمن القصائد المختارة لفترة الخمسينيات، وفعلت ذلك على الرغم من أنني كنت قد أطلعته على المخطط وعلى الأبيات التي اخترتها من القصيدة، لكنه بنبرة جازمة كرّر طلبه برفع القصيدة، حتى وان تطلّب الأمر "إعادة الطبع"، وهو ما رويته بشيء من التفصيل في كتابي الموسوم "جواهر الجواهري" (قيد الطبع).

 

تكريم وسبع عجاف

شعرت مع بدايات الوعي والخطوات الأولى نحو الاهتمامات الأدبية والسياسية، بأن الثورة، في أهم ركن من أركانها الثقافية ردّت الاعتبار، أو لنقل بشكل أدق، كرّمت المبدعين والمثقفين، وفي الطليعة منهم الجواهري شاعر العرب الأكبر، كما صار يكنّى، وما كنت أدري أن هذه المقدمات التي حسبنا فيها أملاً لحياة جديدة، على الرغم ممّا رافقها من عنف غير مبرر وغير مشروع، ستنتهي إلى فواجع جديدة، ربما أشد فظاظة، بحيث يضطر المبدع الكبير والرمز العراقي والعربي، الجواهري، إلى الرحيل في العام 1961، وتلك إحدى المفارقات الخطيرة والمؤشرات الدالة على وصول الأوضاع إلى القاع تماماً. فقد كان هذه المرّة على يد الزعيم عبد الكريم قاسم الذي حاول إهانته وإذلاله، وهو الذي زار بيت الجواهري بعد الثورة وقال عنه "هذا المنزل هو الذي أنجب الثورة".

 ثم جاء انقلاب 8 شباط / فبراير 1963 فأُدخل الشاعر وشعره في دائرة الممنوعات بقرار أصدره، كما أصدروا قرارًا بإسقاط الجنسية عن عدد من المثقفين والسياسيين خارج البلاد، وكان الجواهري في مقدمتهم، ترأس لجنة التضامن مع الشعب العراقي. هكذا عاد الجواهري إلى دائرة المنع والعزل والتهميش، خلال السنوات السبع العجاف على حدّ تعبيره.

 

الجواهري في الخورنق

بعد أسابيع من ثورة 14 تموز (يوليو) 1958، جاء مدرّس مادة اللغة العربية السيد جواد كاظم الرفيعي في "متوسطة الخورنق" وهو يحمل صحيفة "البلاد" أو "صوت الأحرار" (لا أذكر بالضبط)، ليقرأ علينا قصيدة الجواهري "جيش العراق" ويطلب منّا أن نُعرب الأبيات، التي كان يقرأها على مهل وبدقة مصحوبة بنبرة محببة، ثم كلّفنا بحفظ ستة أبيات من القصيدة على الأقل، وبذلك دخل الجواهري حياتنا المدرسية وليس العائلية فحسب، مثلما شغل حياتنا السياسية والثقافية بكل معانيها، وبالمناسبة، فإن الأستاذ الرفيعي، اعتُقل معنا بعد أربع سنوات ونصف، في موقف "خان الهنود" الشهير (الذي كان المبنى الحكومي في النجف) قبل نقلنا إلى المعتقل (تحت الأرض)، وكنّا مع محبين آخرين لشعر الجواهري نتبادل الأحاديث ونجري مطاردات شعرية، حيث كان قسم غير قليل من المعتقلين ممن يحفظون شعر الجواهري، الذي كان يخرجنا من عتمة السجن ووحشته إلى آفاق شاسعة وعالم فسيح.

            المدرسة التي كانت تستقبل قصائد الجواهري وتفتح نوافذها للجديد، أخذت تشجع المواهب الشابة الواعدة فتشكلت الفرق الموسيقية وأخرى للإنشاد والتمثيل، وكانت أيام الاثنين من كل أسبوع مناسبة يتبارى فيها "الواعدون الجدد" فتلقى الكلمات والخطب وتقرا الأشعار (في الساعة الأخيرة قبل نهاية الدوام).

وأتذكر من أوائل الذين تم تقديمهم وربما "اكتشافهم" إلى تلك اللقاءات الشاعر عبد الأمير الحُصيري (الذي كان طالباً معنا في المرحلة المتوسطة) وبدأ الحصيري خطواته الأولى بقراءة بعض قصائد الجواهري في الاجتماعات العامة "بلثغته المعروفة"، ثم بدأ ينظم بعض القصائد ونشرت له بعض الصحف مقطوعات منها.

 

وجهاً لوجه

            كانت العلاقة الأولى، قد نشأت بين الجواهري وبيني من بعيد، حيث كنت أتابع كل شأن عام له، وكنّا نجتمع في بيوت الأقرباء والأصدقاء، للاستماع إلى قصائده أو تلقّف أخباره.            وكانت المرة الأولى التي ألتقي فيها بالجواهري وجهاً لوجه، هي في الاحتفال الذي انعقد في ساحة الكشافة ببغداد كانون الثاني (يناير) 1959، بمناسبة الذكرى الحادية عشرة لوثبة كانون 1948، حين اعتلى المنصة، لينشد في الجموع المحتشدة، بدعوة من جبهة الاتحاد الوطني، وكان حاضراً حينها بعض رجال الثورة، كالمهداوي وماجد محمد أمين ووصفي طاهر.

            هكذا نشأت العلاقة بين الجواهري وبيني، بصمت ومتابعة وشغف. وكم كان الحزن عميقاً، عندما سمعنا لاحقًا سوء العلاقة بينه وبين عبد الكريم قاسم، والتي اضطرّ بسببها الهجرة إلى براغ بعد أن وصلته دعوة لتمثيل اتحاد الأدباء الذي كان يرأسه في مهرجان الأخطل الصغير (بشارة الخوري) التي تمّ تنظيمها في بيروت، وكتب قصيدته الشهيرة الموسومة:

لبنان ياخمري وطيبي ... هلّا لممت حطام كوبي

ومن بيروت توجّه إلى براغ. وكم كنّا ننتظر أخباره، التي كانت تصل إلينا مع "بريد الغربة" ومن إذاعة "بيكي إيران"، وفيما بعد "إذاعة صوت الشعب العراقي"، وأتذكّر أننا كنّا نسجّل بعض قصائده على شريط كاسيت لنقوم بتوزيعها ومنها قصيدة "أمين لا تغضب" التي أهداها إلى الصحافي اليساري اللبناني أمين الأعور وذاع صيتها في العراق. كما كان يسرّب لنا بعض أخبار صديقه الأديب عبد الغني الخليلي.

 

في بغداد

حين عاد الجواهري إلى بغداد التقيت به في منزل خالي المحامي والشاعر جليل شعبان الذي وجّه دعوة له، وكان بصحبة صديق العائلة عبد الغني الخليلي، وكان لقاء حميمًا حضره نخبة من الأدباء. وفي العام 1969 التقيت به في براغ في مقهى سلوفانسكي دوم وهي المقهى الشهير التي كان يرتادها وكتب منها قصيدة إلى وزير الداخلية صالح مهدي عماش، وعُرفت باسم قصيدة "الميني جوب"، وكان ذلك خلال زيارتي إلى براغ في طريقي بالذهاب إلى والعودة من كراكوف (بولونيا) لحضور اجتماع تحضيري بمناسبة الذكرى المئوية لميلاد لينين.

 وبعد استقراري في براغ في أواخر العام 1970 كانت لقاءاتنا تتكرر وتزداد، سواء اللقاءات العامة وفي الفعاليات التي كنّا نقيمها وندعو الجواهري لإلقاء قصيدة فيها أو اللقاءات الخاصة مع مهدي الحافظ ونوري عبد الرزاق وموسى أسد الكريم (أبو عمران) وفيما بعد مع شمران الياسري "أبو كاطع" وعبد الستّار الدوري السفير العراقي حينها.

وكانت الحكومة العراقية قد خصّصت له راتبًا تقاعديًا بعد العام 1968 وحدوث انفراج سياسي وجرى تكريمه على أعلى المستويات. وعلى الرغم من تكرّر زيارته إلى بغداد 1968 - 1979، إلّا أن تلك الزيارات لم تنه منفاه، حيث استقرّ فيه بصورة نهائية حتى وفاته واختار منذ أواخر العام 1981 الشام بعد تهيئة مستلزمات ضيافته من الرئيس حافظ الأسد.

            وخلال تلك الفترة توثّقت علاقتي بالجواهري، حيث أقمت في الشام أيضًا وهو ما جئت عليه في أكثر من مناسبة.

 

دمشق العيــون

فكّرت أكثر من مرّة في تدوين بعض ما ورد في لقاءاتي مع الجواهري وعن لسانه، فضلًا عن قراءاتي النقديّة لشعره، وذلك منذ أيام براغ المحطّة الأولى التي شاطرته عشقها، حيث أخذت العلاقة تتّخذ طابع الصداقة، لاسيّما توفّر عوامل موضوعية مدعاة للثقة، منها العلاقة العائلية والمدينية، إضافة إلى كوني رئيسًا للطلبة. ولكن هذا المشروع تأجّل بسبب عودتي إلى العراق، وعاد مجدّدًا في دمشق، وابتدأت معه فعلاً، حين استقر فيها أوائل الثمانينيات، وكنت أشعر بمسؤولية كبيرة  بقدر ما هي رغبة شخصية. واحتفظت بجزء من تلك الذكريات والقصاصات والخصوصيات، إلّا أن الوقت لم يسعفني في إنجازها، حيث ذهبت إلى كردستان في مهمة إعلامية وسياسية، مع الأنصار "البيشمركة"، بين عامي 1982 و1983، وعند عودتي وتماثلي للشفاء، إثر علاج تلقيته في دمشق وموسكو واستكملته في براغ وصوفيا، بدأت المشوار معه مرة أخرى، وسجلت له أشرطة صوتية (كاسيت) في أواسط العام 1985، وأحتفِظ بعشرة منها.

 وخلال الحوار، عَنَّتْ لي فكرة عبَّر عنها الجواهري بحاجة الجيل الجديد من الشباب العربي والجامعي بخاصة، وكل متذوقي الأدب والشعر منهم بعامة إلى المجموعة الشعرية الكاملة.

فاقترحت عليه إصدار عيون القصائد، وهكذا وقع اختيارنا على الإسم "الجواهري في العيون من أشعاره"، وهو عنوان موسيقي بقدر ما يمتلك دقّة في التعبير. وأبديت استعدادي لإنجازها. وقد قسّمت مجموعة القصائد إلى سبعة عقود، واخترت أفضلها وأحسن ما فيها من أبيات، محافظاً على روح القصيدة ومناسبة نظمها وفقًا لذائقتي الشعرية. وعرضت عليه المخطّط الذي وضعته، فوافق عليه مع بعض التعديلات الطفيفة. وهكذا صدرت "العيون" وأصبحت مرجعًا للدارسين ولكلّ متذوّقي شعر الجواهري.

وطلبت من الجواهري الكبير كتابة مقدّمة لها تبيّن أسباب اختيار هذه العيون ودوافع نشرها. وخصص الجواهري صفحة للحديث عن الجهد الذي بُذِل في سبيل إنجازها قال فيها "... ويسرّني في الختام أن أخّص بالشكر الجزيل والامتنان العميق أخي وصديقي الأديب والمؤلف الدكتور عبد الحسين شعبان على أتعابه وفرط عنايته وجهوده الحميدة، سواء بما تقابل به معي في اختيار هذه "العيون" وفيما يختص بضم هذه اللقطة المختارة إلى جانب تلك أو في تصويرها، أو في الإشراف على طبعها وتصحيحها، وكما قيل:

 

من يصنع الخير لا يعدم جوازيه

 

 

لا يذهب العرف بين الله والناس"

 

وقد صدر الكتاب في دمشق عام 1986، عن دار طلاس للدراسات والترجمة والنشر بـ (696) صفحة. ونظرًا لمرور ثلاثة عقود ونيّف من الزمن ونفاذ الطبعات العديدة، فقد عملت على إضافة شروح كثيرة لألفاظ قدّرنا أنها تصعب على القارئ العادي، فلغة الجواهري عبّاسية بامتياز. كما صحّحنا جميع الأخطاء الطباعية التي كانت في طبعتنا من "العيون" أو في الدواوين السابقة دون إشارة إلى ذلك. وحدّثنا سيرة الجواهري إلى تاريخ وفاته (1997) بعد أن توقفنا في الطبعة الأولى عند سنة 1986. وذيّلنا هذا الكتاب بفهرس للقوافي إضافة إلى فهرس عناوين القصائد ليسهل الرجوع إلى القصيدة المطلوبة. وأضفنا 9 قصائد كتبها الجواهري بعد صدور "العيون" (ما عدا قصيدة أمين لا تغضب فهي من نتاج الستينيات)، وقد وضعناها آخر الكتاب مع الإشارة إلى أنها ليست في طبعات الكتاب السابقة. كما ضبطنا أواخر الكلم وخرّجنا بحور جميع القصائد وأثبتنا قبل كلّ قصيدة عدد أبياتها من الأصل، واخترنا اسمًا يدّل عليها والموسوم "جواهر الجواهري".

جدير بالذكر أن الجواهري كان قد كتب لي قصيدة يقول فيها:

 

أخي العزيز عبد الحسين شعبان

 

أبا "ياسر" أنت نعمَ الصحيب
لقد كنت في محضر والمغيب
وفي ذكرياتي كنت الصميم

 

 

 

وقلّ الصحّابُ ونعمَ الخدين
ذاك الوفي وذاك الأمين
سمير المعنى وسلوى الحزين

 

 

وطيلة العقود الثلاثة من علاقتي مع الجواهري كنت أكتشف في كل لقاء معه شيئاً جديداً وسراً مغايراً. وفي كل مرة أعيد قراءة شعره، أكتشف أشياء كثيرة جديدة، حتى وإن كنت قد قرأت القصيدة من قبل مرات عدة، وهكذا كنت أطّلع باستمرار على معلومة ثرية لديه أو دلالة جديدة في المعاني والإيماءات البلاغية أضيفها إلى خزيني، الذي بدأ يكبر.

  واليوم أشعر بمسؤولية أكبر من السابق بوضع حواراتي مع الجواهري وما دوّنته عنه وما بحثت فيه وما استقيته من مراجع معتمدة أمام القارئ، أملي أن تكون إضافةً جديرةً ومختلفة ومتميزة عما جاء في المقابلات واللقاءات الصحفية، التي سبق للجواهري أن أجراها خلال عمره المديد وحياته الأدبية الحافلة وما كُتب عنه. فقد حاولت أن أركز على بعض القضايا التي لم يتناولها الجواهري سابقاً أو لم يتوقف عندها طويلاً.

            وحين نشرت حلقتين من حوارات مع الجواهري في صحيفة "الحياة" (مصدر سابق) هاتفني الصديق الشاعر الراحل بلند الحيدري، مبدياً إعجابه وتشجيعه، وهنا انتهزت الفرصة فطلبت منه أن يقرأ المخطوطة بعد اكتمالها ويقوم هو بتقديمها إلى القراء العرب، فرحّب بذلك بأدبه الجم وكياسته المعهودة وتواضعه المشهود قائلاً: "هذا يشرفني" واتفقنا على التفاصيل، لكن المرض داهمه بعد أيام فدخل المستشفى لإجراء عملية قسطرة قلبية، صاحبتها مضاعفات سريعة، لم تمهله طويلاً، فرحل ركن هام من أركان التجديد الشعري في العراق والوطن العربي وخسرت الثقافة رائداً من روادها.

 

حضور التاريخ

 

من النجف إلى بغداد ومنها إلى براغ ولندن ودمشق وبيروت كان الجواهري حاضرًا معي، بل أنه حاضر في تاريخ العراق، إذْ لا يمكن أن تتناول تاريخ العراق السياسي أو الاجتماعي أو الثقافي أو الصحافي أو غيره، دون أن تأتي على ذكر الجواهري، فهو أوّل من تمرّد على المدرسة النجفية التقليديّة حين خلع العمامة، وأوّل من ندّد بموقف الرجعيين كما أسماهم حين عارضوا فتح مدرسة ابتدائية للبنات في النجف 1929، وأول من ندّد بالفاشية والنازية وحيّا في قصائد شهيرة سواستبول وستالينغراد، وأول من وقف بوجه المجالس النيابية المزيّفة وضدّ المشاريع الخارجية، وكان صوته صدّاحًا بعد ثورة 14 تموز / يوليو 1958، مع أن التشاؤم والإحباط بدأ يتسلل إليه، خصوصًا في غربته وبُعده عن الوطن.

في الختام أستطيع أن أقول أن الجواهري كان طفلًا صغيرًا، لم يكن يريد أن تفلت لحظة من بين أصابعه، كان حالمًا وظلّ حالمًا طوال حياته، حتى وإن كانت أحلامه تتبدّد أمام عينيه، لكنه ظلّ يركض وراءها، وكلّما كان يقترب منها كانت تفرّ من بين يديه. كان يطلب المستحيل أحيانًا، لكنه يرضى بالممكن أو بأقلّ منه.

 لم يغادر حلمه حتى في أسوء الظروف، فالشعر سؤال فرادة وهو سؤال فلسفة، والفلسفة فكر، وهي قلق إنساني، وبالتالي فالشعر رؤية "وليست كلّ عين ترى" حسب جلال الدين الرومي.

أديب وكاتب عراقي

 

 

الصحافة والعدالة

 

عبد الحسين شعبان

 

كان الروائي ألبير كامو يردّد أن "الصحافي مؤرّخ اللحظة" وفي تلك المقولة معلومة ومعرفة وحكمة باقتباس من الشاعر إليوت، فكامو يدرك بمعرفته وبُعد نظره ورؤيته الثاقبة قيمة المعلومة التي يسعى الصحافي تقديمها إلى الجميع لتصبح لاحقًا معرفة، وهو يقدّر في الوقت نفسه ما يقوم به الصحافي من عمل في أصعب الظروف أحيانًا وأقساها ليكشف الحقيقة ويمهّد لتحقيق العدالة، وبذلك فهو يقوم بعمل مزدوج في الآن، فإضافة إلى الوصول إلى الحقيقة، فهو يؤرّخ في الوقت نفسه للحدث، ليأتي من بعده فيُظهر المعنى والدلالة اجتماعيًا ونفسيًا وقانونيًا وتربويًا، فما بالك حين يكون الحدث نفسه يخصّ الصحافي ويصبح هو ذاته هدفًا لجرائم تُرتكب بحقه، ويحتاج كشفها إلى جهود أخرى لإجلاء الحقيقة من جهة، وتحقيق العدالة من جهة أخرى، كي لا يفلت الجناة من العقاب.

            وعلى مرّ العصور كانت فلسفتا الحقيقة والعدالة شغل العالم أجمع، فكيف حين يتعلّق الأمر بالصحافيين الذين يتعرّضون للقتل والتعذيب والاختفاء القسري والاعتقال والاحتجاز والطرد والترهيب والمضايقة والتهديد وجميع ضروب الأفعال التي تنطوي على العنف المادي الجسدي والمعنوي النفسي.

 ولهذه الأسباب قرّرت الجمعيّة العامة للأمم المتحدة في العام 2013 الاحتفال بيوم 2 نوفمبر / تشرين الثاني من كلّ عام بتأكيدها على ضرورة عدم الإفلات من العقاب عن الجرائم المرتكبة ضدّ الصحافيين الذين يؤدون عملهم في كشف الجرائم التي تمسّ أمن الشعوب واستقرار الدول وتهدّد الإنسانية مثل الفساد وتجارة الأسلحة والمخدّرات والبشر، وتزوير الانتخابات، وتلويث البيئة وتدمير المحيطات والغابات وغيرها.

            وقد حثّ الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيرش الدول الأعضاء والمجتمع الدولي على التضامن مع الصحافيين في جميع أنحاء العالم في هذا اليوم العالمي وفي سائر الأيام، وتأكيد الإرادة السياسية اللّازمة للتحقيق في الجرائم المرتكبة ضدّهم ومقاضاة الجناة بأقصى ما ينصّ عليه القانون من أحكام.

            ولا بدّ هنا من استذكار بعض القرارات الدولية ذات العلاقة في تبجيل "صاحبة الجلالة" أو ما يُطلق عليها "السلطة الرابعة" والتي هي بحق وأخواتها من وسائل الإعلام المختلفة تُعتبر السلطة الأولى الناعمة التي تتغلغل في التأثير على العقول مثل القلوب وتتوغّل عميقًا لتشمل كلّ مناحي الحياة، خصوصًا في ظلّ الطور الرابع للثورة الصناعية، ومنها القرارات التي صدرت بشأن حماية الصحافيين في النزاعات المسلّحة، وذلك على خلفية اتفاقيات جينيف الأربعة الصادرة في 12 أغسطس / آب 1949 وقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة في 16 كانون الأول / ديسمبر 2021، وقرار مجلس حقوق الإنسان الصادر في 10 تشرين الأول / أكتوبر 2022 وغيرها.

            وفيما يخصّ العالم العربي والعراق منه، لا بدّ للسلطات المسؤولة من ضمان المساءلة عن طريق إجراء تحقيقات محايدة وسريعة وشاملة ومستقلّة وفعّالة في جميع القضايا التي تقع في نطاق ولايتها القضائية من أعمال عنف ضدّ الصحافيين والعاملين في وسائل الإعلام، وتقديم المتّهمين بارتكابها بمن فيهم الأشخاص الذي يأمرون بارتكاب هذه الجرائم أو يتآمرون مع مرتكبيها أو يحرّضونهم أو يتستّرون عليهم. الأمر الذي يقتضي ضمان وصول الضحايا وأسرهم إلى سبل إنصاف مناسبة، ويتطلّب ذلك الإفراج الفوري واللّامشروط عن الصحافيين الذين اعتقلوا تعسّفًا أو أُخذوا رهائن أو أصبحوا ضحايا إختفاء قسري.

            وهنا لا بدّ من إنشاء آلية إنذار مبكر والاستجابة السريعة لتمكين الصحافيين من اللّجوء إلى السلطات المختصّة، كلّما تعرضوا لتهديد مباشر أو غير مباشر بهدف اتخاذ تدابير فعّالة لحمايتهم، وهنا يمكن اقتراح:

إنشاء وحدات تحقيق خاصة بالصحافيين والعاملين في وسائل الإعلام أو لجان تحقيق مستقلة.

تعيين مدّعِ عام متخصّص.

دعم قدرات العاملين في الجهاز القضائي والموظفين المكلّفين بإنفاذ القانون وضبّاط الجيش ووحدات الأمن والشرطة.

تدريب الصحافيين وتأهيلهم من خلال النقابة، وكذلك بعض الناشطين في المجتمع المدني المدافعين عن الصحافيين وتوعيتهم فيما يتعلّق بواجبات الدول والتزاماتها المنصوص عليها في القانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي لجهة سلامة الصحافيين.

إدراج سلامة الصحافيين وحريّة الإعلام في أطر التنمية الوطنية وضمن خطّة التنمية المستدامة 2030.

 وأتذكّر أننا وضعنا بعض تلك القواعد في إطار تعاون شمل اتحاد المحامين العرب واتحاد الصحافيين العرب والمنظمة العربية لحقوق الإنسان في العام 1999(القاهرة)، حيث قمنا بتدريب صحافيين على القواعد الحقوقية والأحكام القانونية، خصوصًا المتعلّقة بحريّة التعبير وفي الوقت نفسه تدريب محامين وحقوقيين على القواعد التي تشمل حريّة الإعلام وحقوق الصحافي. فكم نحن بحاجة إلى التعاون بين المحامين والحقوقيين من جهة وبين الصحافيين والعاملين في وسائل الإعلام من جهة أخرى، وتحويل دور هذه النقابات والاتحادات إلى قوّة اقتراح لمشاريع قوانين وأنظمة بحيث تكون شريكة ومتممة في الآن مع الحكومات، وفي الوقت نفسه راصدة لأدائها وتنفيذها لخطط التنمية والضغط على السلطات المسؤولة لتطبيقها.

 

 

 

 

لهذه الأسباب أُعدم فهد

 

عبد الحسين شعبان

 

            لطالما كنت أفكّر وعلى مدى سنوات، لماذا أُعدم فهد "يوسف سلمان يوسف" أمين عام الحزب الشيوعي العراقي ورفاقه في العام 1949؟ فقد كان هناك قادة معتمدون لأحزاب شيوعية عربية ولدول المنطقة ولديهم علاقات وطيدة مع الاتحاد السوفيتي، لكنهم لم يلاقوا المصير ذاته، حتى وإن تعرّضت الحركة الشيوعية العربية عمومًا وقاداتها إلى العسف والتنكيل.

            جاء إعدام فهد في لحظة تاريخية مفارقة، فقد شهدت فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية انتعاش الحريّات على الصعيد العالمي وانتشار الأفكار الديمقراطية عقب هزيمة النازية والفاشية، وقد انعكس مثل ذلك على العراق أيضًا، ولاسيّما بعد خطاب الوصي على العرش الأمير عبد الإله في 27 كانون الأول / ديسمبر 1945، الذي أُعلن فيه موافقته على تأسيس الأحزاب وورد ما نصّه "لا يصحّ بقاء البلاد خاليةً منها"، الأمر الذي التقطته وزارة توفيق السويدي التي تشكّلت بتاريخ 23 شباط / فبراير 1945 ووزير داخليّتها سعد صالح (جريو) الذي يعتمر القبعتين القانونية والأدبية، إضافة إلى وطنيته المعهودة، فأقدم على عدد من الخطوات الجريئة منها إجازة 5 أحزاب سياسية بينها حزبين ماركسيين وإجازة عصبة مكافحة الصهيونية وإطلاق حريّة الصحافة وتبيض السجون وإلغاء الأحكام العرفيّة، فكيف حصل مثل هذا الارتداد السريع وحُكِمَ على فهد بالإعدام؟

كانت مبادرة تأسيس العصبة إحدى مآثر الحزب الشيوعي وزعيمه "فهد"، إضافةً إلى دور اليهود الشيوعيين الذين وقفوا ضدّ الصهيونية وعارضوا منطلقاتها الفكرية وكشفوا زيف ادعائها تمثيل اليهود بغضّ النظر عن بلدهم الأصلي، وميّزوا بين الصهيونية كعقيدة عنصرية واليهودية كدين، وهو ما أوردته أوريت باشكين في كتابها Impossible Exodus: Iraqi Jews in Israel الصادر في العام 2017.

وقد استقطب الحزب آنذاك أعدادًا واسعة من اليهود المعادين للصهيونية، وبلغ عدد المنتسبين حسب تشلسي سيمون ماي 300 عضوًا بينهم شيوعيات يهوديات متميّزات وذلك في دراستها "النساء اليهوديات في الحزب الشيوعي العراقي".

وحسب سجلات التحقيقات الجنائية (أجهزة الأمن العراقية) واستجوابات العديد منهن فقد برزت شخصيات مثل: إلين يعقوب درويش ودوريس وأنيسة شاؤول ونجيّة قوجمان وسعيدة ساسون مشعل (سعاد خيري – زوجة زكي خيري) وعمومة مير مصري (عميدة مصري) ومارلين مائير عيزرا (زوجة بهاء الدين نوري) وكامن سعيدة سلمان وألبرتين منشّي وراشيل زلخا، وبلغ عدد الناشطات قبل الهجرة الجماعية (1951) نحو 600 ناشطة كما جاء في إنسيكلوبيديا النساء اليهوديات Encyclopedia of Jewish Women.

 

الصهيونية والاستعمار

 

            ربط فهد مكافحة الصهيونية بمكافحة الاستعمار، فهما وجهان لعملة واحدة، وفي كرّاس صدر له بعنوان "نحن نكافح من أجل من؟ وضدّ من نكافح؟" يقول فيه " إن مكافحة الصهيونية توجب مكافحة الاستعمار حتماً في فلسطين وكلّ البلاد العربية، ومن يزعم مناهضتها ولا يناهض الاستعمار يخدمها،أراد أم لم يرد... ".

وعالج في هذا الكرّاس المشكلة الفلسطينية بفصل الصهيونية عن اليهودية وربطها بالاستعمار بما فيه الاستعمار الأمريكي الصاعد. وقد ساهمت تلك التوجّهات والنشاط داخل صفوف اليهود العراقيين على كسر التردّد الذي كان ينتاب بعض أفراد المجموعة الثقافية اليهودية للمشاركة في العمل السياسي، ونشط هؤلاء بشكل ملحوظ بمناسبة الذكرى اﻟ 28 لصدور وعد بلفور، حيث أصدرت العصبة نداءً جاء فيه " أن الاستعمار يستطيع أن يتكرّم بفلسطين مئات المرّات، طالما أنها ليست بلاده وطالما أنه يجد في ذلك ربحاً له ومغنماً لأن غايته وعميلته الصهيونية هي تحويل نضال العرب الموجه ضدّ الاستعمار نحو جماهير اليهود، وبذلك تخلق منهم حاجزاً يختفي وراءه الاستعمار، ولو كان المستعمرون يعطفون حقاً على اليهود لعاملوهم معاملة طيبة في أوروبا".

وبادرت العصبة بتوجيه من فهد إلى التظاهر يوم 28 حزيران / يونيو 1946، وتعرّضت التظاهرة التي شارك فيها أعداد من اليهود العراقيين إلى القمع والقسوة الشديدين من جانب الأجهزة الأمنية، وسقط شاوول طوّيق أول شهيد شيوعي وكان يهوديًا دفاعًا عن فلسطين، وهو ما أورده المؤرّخ والباحث الفلسطيني حنا بطاطو.

وبعد حظر نشاط العصبة وإيقاف صحيفتها وإحالة المشاركين في التظاهرة المذكورة إلى القضاء، أصدرت محكمة الجزاء أحكامًا متفاوتة يوم 15 أيلول / سبتمبر 1946 على عدد من اليهود الشيوعيين بمن فيهم رئيس العصبة يوسف هارون زلخا بالسجن المؤبّد بالزعم أنه يترأس عصبة للكفاح من أجل الصهيونية وليس ضدّها، وكان ذلك بداية حملة شعواء لطي صفحة الانفتاح المحدود ما بعد الحرب العالمية الثانية، حيث نشطت الحركة الصهيونية بشكل كبير، خصوصًا بعد صدور قرار الأمم المتحدة رقم 181 القاضي بتقسيم فلسطين في 29 تشرين الثاني / نوفمبر 1947.

 

العدو المشترك

 نبّه فهد إلى العدو المشترك للعرب واليهود وأهمية التضامن إزاء المخاطر المشتركة وسلّط الضوء على نشاط الوكالة الصهيونية وبعض أركان الحكومة العراقية الموالية لبريطانيا، لتهجير اليهود العراقيين إلى فلسطين.

وعلى الرغم من وجود فهد في السجن، حيث اعتقل ليلة 18 كانون الثاني / يناير 1947، وصدر الحكم عليه بالإعدام في 24 حزيران / يونيو من العام ذاته، إلّا أنه كان يتابع تطوّر الموقف من القضيّة الفلسطينية على الصعيد العالمي، خصوصًا بعد تغيير الموقف السوفيتي السلبي وانعكاساته على الشارع العربي.

 وكان غروميكو المندوب السوفيتي في الأمم المتحدة قد أعلن في تشرين الثاني / نوفمبر 1947 تأييد قرار التقسيم وأطلق عليه "القرار الأكثر قبولًا". وبرّر أن القرار ليس موجّهًا ضدّ العرب وأنه يتوافق مع المصالح الوطنية الأساسية لكلا الشعبين. وحين أُعلن عن تأسيس "إسرائيل"، بادرت موسكو للاعتراف بها مباشرة، واستقبلت أول وفد "إسرائيلي" برئاسة السفيرة غولدا مائير (مايرسون).

وقد غيّرت غالبية الأحزاب الشيوعية موقفها منتقلة من التنديد بقرار التقسيم إلى تأييده باعتباره "أحسن الحلول السيئة" وكان ذلك يمثّل نموذجًا لطريقة التفكير التعويلية من جهة ولعلاقة التبعية للمركز الأممي من جهة ثانية. ولم يهضم الحزب الشيوعي العراقي مثل هذا التبدّل في بداية الأمر، وظلّ متحفّظًا لحين، على الرغم من وصول وثيقة "أممية" من باريس بعنوان "أضواء على القضية الفلسطينية" (11 حزيران / يونيو 1948) تعكس وجهة نظر الحزب الشيوعي الفرنسي ومن خلاله وجهة نظر (المرجعية الأممية) المؤيدة لقرار التقسيم، وقد نقلها يوسف اسماعيل البستاني وتمّ الترويج لها، حتى وصلت إلى سجن الكوت، حيث كان الرفيق فهد يقبع فيه وعدد غير قليل من السجناء.

وكما جرت العادة في السجن، كان السجناء يجتمعون لتقرأ عليهم، نصوص البيانات والأخبار والتقارير الحزبية لتتم مناقشتها. وحين بدأ أـحد الرفاق بتكليف من منظمة السجن بتلاوة وثيقة باريس المذكورة وما أن وصل إلى "الانقلاب" في موقف الاتحاد السوفيتي، أمره الرفيق فهد بالتوقّف وعدم إكمال تلاوة ما تبقّى من الوثيقة، وذلك لسماعه فقرات لم تعجبه وتتعارض مع توجّه الحزب الشيوعي العراقي، خصوصًا بعد قيام "إسرائيل" في 15 أيار / مايو 1948. وقد أبدى فهد وهو في السجن تحفظات حول الموقف من قرار التقسيم، وقد انعكس ذلك في توجيه حزبي داخلي، وهو ما يمكن تلمّسه من الفقرة التالية، وأنقلها على الرغم من طولها كما وردت في كتاب حنّا بطاطو، الجزء الثاني، وجاء فيها "إن موقف الاتحاد السوفيتي بخصوص التقسيم وفّر للصحف المرتزقة ومأجوري الإمبريالية فرصة لا للتشهير بالاتحاد السوفيتي فقط، بل أيضاً بالحركة الشيوعية في البلدان العربية... ولذلك على الحزب الشيوعي تحديد موقفه من القضية الفلسطينية حسب الخطوط التي انتمى إليها والتي يمكن تلخيصها بالتالي:

إن الحركة الصهيونية حركة دينية رجعية ومزيفة بالنسبة للجماهير اليهودية.

إن الهجرة اليهودية... لا تحلّ مشكلات اليهود المقتلعين من أوروبا، بل هي غزو منظّم تديره الوكالة اليهودية... واستمرارها بشكلها الحالي... يهدّد السكان الأصليين في حياتهم وحريّتهم.

إن تقسيم فلسطين عبارة عن مشروع إمبريالي قديم... يستند إلى استحالة مفترضة للتفاهم بين اليهود والعرب.

شكل حكومة فلسطين لا يمكن أن يتحدّد إلّا من قبل الشعب الفلسطيني الذي يعيش في فلسطين فعلاً، وليس من قبل الأمم المتحدة أو أي منظمة أو دولة أو مجموعة دون أخرى.

إن التقسيم سيؤدي إلى إخضاع الأكثرية العربية للأقلية الصهيونية في الدولة اليهودية المقترحة.

إن التقسيم وخلق دولة يهودية سيزيد الخصومات الوطنية والدينية وسيؤثر جديّاً على آمال السلام في الشرق الأوسط.

ولهذه الأسباب فإن الحزب الشيوعي يرفض بشكل قاطع خطة التقسيم.

لكن هذا الموقف تغيّر بعد ذلك، واستمرّت التبريرات الخاطئة والساذجة لتلميع الموقف السوفيتي، بل والاستماتة في إثبات "صحّته"، بما فيه الدفاع عن قيام "إسرائيل"، وظلّت ذيول هذه القضية مستمرّة لسنوات عديدة ولم يتمكّن الحزب من معالجة هذه القضيّة الحسّاسة والخطيرة والجوهريّة والمبدئية، إلّا على نحو جزئي بمراجعة أوّلية أجراها تقرير الكونفرنس الثاني (أيلول / سبتمبر 1956) الذي كتبه عامر عبد الله بإشراف سلام عادل وتوجيهه (استشهد العام 1963 على يد إنقلابيي 8 شباط / فبراير). وجاء فيه " إن بعض العناصر المشكوك بها نجحت في أن تدسّ في صفوف حزبنا وحركتنا مفاهيم خاطئة بالنسبة إلى الصهيونية... من بينها الأفكار التي وجدت صداها في بيان عنوانه "أضواء على القضية الفلسطينية".

 

السبب المباشر للإعدام

 

لعلّ موقف فهد من الصهيونية ومبادرته تأسيس عصبة مكافحة الصهيونية ومن القضية الفلسطينية عمومًا، لاسيّما تحفّظه على قرار التقسيم كان وراء إعدامه، فبعد أن اضطرت حكومة صالح جبر إلى إبدال حكم الإعدام بالسجن المؤبد، إلّا أن ذلك لم يرض المخابرات البريطانية التي لجأت إلى التحريض ضدّه، فضلًا عن الدعاية الصهيونية، خصوصاً ضدّ العصبة ومن يقف وراءها، لاسيّما بعد إفشال توقيع معاهدة بورتسموث 1948 (جبر – بيفن)، بتأجيج الشارع في تظاهرات عارمة في وثبة كانون، حيث اعتبر فهد مسؤولًا عنها على الرغم من كونه سجينًا. وهكذا تحالفت ثلاث قوى لتنفّذ فعلتها النكراء تلك وهي الصهيونية العالمية والإمبريالية البريطانية والقوى المحافظة العراقية في الحكم وخارجه من الجماعات الرجعية والقومية المتعصّبة مستغلّةً الموقف من القضيّة الفلسطينية، لاسيّما بعد تأييد قرار التقسيم.

لذلك أصرّت حكومة نوري السعيد التي تشكّلت في 6 كانون ثاني / يناير 1949 على إعادة المحاكمة على نحو عاجل فصدر حكم الإعدام بحق فهد ورفاقه، وتم تنفيذه على جناح السرعة ليلتي 13 – 14 شباط / فبراير 1949، حيث أُعدم كلّ من فهد وزكي بسيم (حازم) وحسين الشبيبي (صارم) ويهودا صدّيق، وعُلّقت جثثهم في الساحات العامة. 

وحسب الصحافي البارز عبد الجبار وهبي (أعدم العام 1963) كان السفير البريطاني شخصياً يتابع محاكمة فهد، وشجّع إصدار حكم الإعدام ضدّه. ويروي كامل الجادرجي الزعيم الوطني الديمقراطي في مذكّراته أن أحد وزراء العدل في العهد الملكي وهو جمال بابان عمل على رشوة 3 من القضاة بتوزيع مبلغ 800 دينار عراقي عليهم من المخصصات الخاصة للتأثير عليهم بإصدار حكم الإعدام بحق فهد ورفاقه وهو ما يؤكّده صبيح ممتاز الذي كان وكيلًا لوزارة العدل وهو الذي قام بتوزيع المبلغ بحضور الوزير كما أخبر الجادرجي.

وبالطبع لم تكن هناك مبررات كافية لمثل هذا الحكم الغليظ، إلّا إذا كان موقف فهد من الصهيونية وتأسيس عصبة مكافحة الصهيونية وقيام دولة "إسرائيل"، ففي جميع البلدان العربية لم يعدم حتى ذلك الحين أي قيادي شيوعي، لاسيّما في قضية مدنية.

ولم تنته القصة بإعدام فهد، بل انتقل المجلس العرفي العسكري بكامل هيأته إلى سجن نقرة السلمان الصحراوي أواخر العام 1949، فأجرى محاكمة ﻟ 44 سجينًا بتهمة ترويج الشيوعية، لأنهم قدّموا عريضة يحتجوّن فيها على إعادة محاكمة فهد وإعدامه.

 

الوكالة اليهودية

 

            وكانت الوكالات اليهودية قد نظّمت حملة مضادة لتوجّهات فهد وعصبة مكافحة الصهيونية جمعت بعض مئات من التواقيع المطالبة بالهجرة، لتأكيد روايتها بأن الصهيونية مسؤولة عن يهود العالم، وزاد الأمر سوءًا ما تعرّض له اليهود من أعمال عدوانية وعنفية والتي عُرفت ﺒ "الفرهود" راح ضحيّتها العشرات من القتلى والجرحى، وذلك لدفع الحكومة العراقية لإصدار قانون يسهل أمر تهجيرهم وهو ما حصل فعلًا في العام 1950.

            وهكذا تواطأت الحركة الصهيونية مع بعض أركان النظام الملكي والقوى المتعصّبة بشكل مباشر أو غير مباشر على تهجير اليهود من العراق، وحينما كانت تفشل في مخطّطها لعدم الاستجابة الكافية من جمهور اليهود، كانت تضع المتفجرات في محالهم التجارية وأماكن سكنهم ودور عبادتهم، فضلًا عن نشر الإشاعات لتخويفهم ودفعهم إلى الهجرة على نحو قُضيَ على أعرق وأقدم مجموعة ثقافية يهودية خارج فلسطين (نحو 125 ألف مواطن عراقي يهودي)، وألحق ضرراً بالنسيج الاجتماعي للمجتمع العراقي وتعدديته الدينية والعرقية والثقافية، وهو الأمر الذي يتكرّر اليوم بخصوص المسيحيين في العراق وعدد من البلدان العربية، بما فيها فلسطين المحتلّة، ناهيك عن الإزيديين والصابئة المندائيين وغيرهم.

 

الهجرة القسريّة والدور المشبوه

 

            وسبق للصديق عباس شبلاق أن سلّط الضوء الكاشف على المزاعم الصهيونية بشأن هجرة اليهود "القسريّة" إلى "إسرائيل" في كتابه الموسوم "هجرة أو تهجير – ظروف وملابسات هجرة يهود العراق". وكشف الجاسوس الصهيوني رودني الذي سبق له أن خدم في الجيش البريطاني وهو معروف بقسوته ووحشيته فضيحة الأسلحة المدفونة في عدد من أماكن بغداد، فضلًا عن جمعه المعلومات عن شخصيات عراقية كبيرة لإقناعها بعقد الصلح مع حكومة "إسرائيل".

ومثل هذا الدور الذي قام به رودني ظلّ قائماً منذ ذلك الحين وازداد كثافة وسفوراً بعد احتلال العراق العام 2003، حيث يتم الاتصال بجهات وشخصيات عراقية لدعمها مقابل تبنّيها فكرة إقامة علاقات مع "إسرائيل" تمهيداً للاعتراف بها، وهو ما يقوم به العرّاب الفرنسي برنارد ليفي.

وأختتم بفقرة مما كتبه فهد باسم لفيف من الشباب اليهودي برسالة موجّهة إلى وزير الداخلية لطلب تأسيس العصبة وهي تعكس حقيقة توجّهه وتفسّر سبب إعدامه، وجاء فيها: "نحن نعتقد، إخلاصاً، بأن الصهيونية خطر على اليهود مثلما هي خطر على العرب وعلى وحدتهم القومية، ونحن إذ نتصدّى لمكافحتها علانية وعلى رؤوس الأشهاد، إنما نعمل ذلك لأننا يهود ولأننا عرب بنفس الوقت".

نشرت في جريدة القدس العربي (لندن) في 25 شباط / فبراير 2023.

 

 

 

الجيل والهويّة

عبد الحسين شعبان

 

شهد العالم خلال الثلاثة عقود ونيّف المنصرمة تغيرات كبيرة ومتسارعة ساهمت في تعرّض الأجيال المختلفة لظروف وخبرات متباينة، ما أدّى إلى اختلاف منظومة القيم والتوجّهات بين الأجيال القديمة والأجيال الجديدة، وبالتالي حدوث فجوة كبيرة لم يكن من السهل ردمها، بل كانت تتنامى وتتّسع وتكبر وتتعمّق.

والفجوة الجيلية في كل مجتمع ومنها مجتمعاتنا العربية ذات مستويين، أحدهما - رأسي أو عمودي (بين جيل الكبار وجيل الشباب)، وثانيهما – أفقي، وذلك على مستوى كل جيل، خصوصاً بالتباين بين الفئات العمرية التي تندرج تحت أحد الجيلين بشأن القيم والتوجّهات.

يرتبط مفهوم الجيل بالقيم والأفكار والتوجهات المشتركة من خلال وعي عام أساسه الشعور المشترك بالانتماء والترابط والتضامن، مع الأخذ بنظر الاعتبار ظروف النشأة والتجارب والخبرات، لأفراد من الجيل العمري، حتى وإن كانوا لا يمثّلون وحدة اجتماعية متشابهة أو متطابقة. وتحدث الفجوة الجيلية بسبب التباين والاختلاف والتباعد بين أفراد ينتمون إلى جيلين مختلفين، فكراً ورأياً وقيماً وتوجّهاً في المنظور الثقافي والسياسي والاجتماعي وفي السلوك والتوجّهات. ويقوم مفهوم الفجوة على ثلاث فرضيات:

*الأولى – اعتيادية، وهي الاختلاف في العمر البيولوجي بين أجيال تنتمي إلى مجتمعات منقسمة في الخبرات والتصوّرات.

*الثانية – هويّاتية، أي أن هناك وعياً جمعياً لكلّ جيل، وهذا يكسبه نوعاً من التضامن بين أفراده مقابل الجيل الآخر.

*الثالثة – سلوكية، فسلوك الأجيال الأصغر سناً وتوجهاتها واهتماماتها مختلفة عن الأجيال الأكبر.

وثمة علاقة جدلية بين الفجوة الجيلية والهويّة، خصوصاً وقد أخفقت العديد من المجتمعات ومنها مجتمعاتنا العربية في استيعاب الجيل الشاب في إطار هويّة جامعة، وقد أدّت تلك الفجوة إلى تعميق الخلاف بشأن الهويّة ومفهومها، وحين يتعمّق هذا الخلاف ويتّسع يتحوّل إلى صراع حاد أحياناً، يُضاف إلى الصراعات المجتمعيّة القائمة.

تحدث الفجوة بين الأجيال بمدى تقبّل أو عدم تقبّل كلّ منهما للقيم الثقافية المتباينة بين الجيل الأكبر والجيل الأصغر، خصوصاً في ظلّ المتغيرات الاجتماعية والأحداث السياسية التي ينظر كل منهما نظرة مختلفة إليها. وإذا كان هذا أمراً يمكن لحاظه قيمياً وسلوكيًا باختلاف الفئة العمرية، فإنه أصبح عاصفاً في السنوات الأخيرة، محدثاً تغييرات جذريّة وعميقة بفعل العولمة؛ حيث هيمنت وسائل التواصل الاجتماعي وتكنولوجيا الإعلام والطفرة الرقمية «الديجيتال» وثورة المعلومات والاتصالات واقتصاد المعرفة والذكاء الاصطناعي على الجيل الجديد، والتي أدّت إلى اتساع الفجوة على نحو هائل في السنوات الأخيرة. علماً بأن هناك اختلافاً داخل كل جيل أيضاً.

وتبقى مسألة التباين بين الأجيال إشكالية في العديد من المجتمعات البشرية، وخصوصاً في المجتمعات النامية ومنها مجتمعاتنا العربية، الأمر الذي يفرض على الجميع التعامل معها من خلال علاقة سويّة تقوم على تفهّم ما يريده الجيل الجديد وتطلّعاته المستقبلية، في عصر العولمة ومفاعيلها التي لا غنى عنها. ولا شكّ أن التواصل بين الأجيال والثقافات والحفاظ على هويّة موحّدة إنسانية مسألة مهمّة في ظلّ تحدّيات الثقافات الوافدة أو المتغلغلة بوسائل ناعمة دون أن يعني ذلك الانعزال، مع أهميّة التفاعل مع ما هو كوني وإنساني، والهدف هو تقليص الفجوة بين الأجيال.

ويمكن أن تلعب البرامج التربوية والدراسية للنشء الجديد دوراً على هذا الصعيد، وكذلك المؤسسات الإعلامية والدينية ومنظمات المجتمع المدني في البحث عمّا هو جامع، والابتعاد عمّا هو مفرّق، مع الأخذ بنظر الاعتبار الأساليب الحديثة لرفع الوعي، وإحداث نوع من التوازن لكي لا تتعمّق الفجوة الجيلية وتتحوّل من جدل بأفق مستقبلي إلى أزمة وصراع مجتمعي؛ ولعلّ الحاجة إلى مشروع نهضوي حديث وتدرّجي تبدأ من الطفولة مروراً بمرحلة الشباب، مثلما تتطلّب حواراً هادئاً وهادفاً لمواجهة التحديّات والمشكلات المتعلّقة بالجوانب الإنسانية، ابتداءً من الأسرة إلى الصحّة والعمل والضمان الاجتماعي والثقافة والفنون والآداب، وكلّ ما يتعلّق بقواعد السلوك الإنساني التنموي المستدام، الذي يستند إلى «توسيع خيارات الناس»، و«تلبية احتياجاتهم الأساسية»، و«تحسين ظروف حياتهم»، وذلك مراعاة للخصوصية مع احترام للقيم الكونية.

لعلّ مناسبة هذا الحديث هي مداخلة قدّمها الكاتب في ندوة أقامها منتدى الفكر العربي بعمان والموسومة ب«دور المؤسسات الثقافية العربية في التواصل بين الأجيال».

drhussainshaban21@gmail.com

 

في ما يسمّى ﺑ

(الإمبريالية الثقافية)

عبد الحسين شعبان

 

ظهرت بدايات «العولمة» مع بزوغ عصر الرأسمالية، إلّا أن ما شهده العالم من تقدّم خلال العقود الثلاثة الأخيرة يكاد يفوق في حجمه الهائل وسرعته الفائقة كل ما حصل في تاريخ البشرية، ومع ذلك فالعولمة لا تزال في بداياتها وليس لها نهايات حسب ما يبدو، وهي لا تزال تخبئ الكثير من القدرات غير المكتشفة حتى الآن.

«الإمبريالية الثقافية» نمط استهلاك ثقافي يتأسس على شكل جديد للإمبريالية، شيّد على أنقاض النظام الإمبريالي القديم، حيث تمظهرت فيه الإمبريالية باعتبارها «أعلى مراحل الرأسمالية» حسب وصف لينين، وكان ماركس الأسبق في الكشف عن قوانين التطوّر الرأسمالي، إلّا أن ما أظهرته «العولمة» من قوانين جديدة تحتاج إلى معالجات جديدة استناداً إلى استنتاجات مختلفة تتجاوز ماركس ولينين، بحكم التطوّر الذي حصل في الطور الرابع للثورة الصناعية، الأمر الذي فرض نمطًا استهلاكيًا ثقافيًا كونيًا أريد له أن يكون وحيدًا، في حين كانت الإمبريالية القديمة تسعى لسيادة نمطها الإنتاجي الاقتصادي القادر على التحكّم بمتطلّبات السوق لإحكام الاستتباع.

وتمكّنت الرأسمالية من تجديد نفسها وإعادة ترتيب أولوياتها وتدوير أزماتها والخروج من مآزقها، وهو ما أتاح لها الظهور بوجه ثقافي جديد ومهيمن، بحيث يسعى للتحكم بمخيّلة البشر والتأثير فيهم والتغلغل في العقول والتوغّل إلى منظومة القيم لدرجة إملاء طريقة العيش.

ويمكن الاستدلال على ذلك بنموذج الموبايل والإنترنت اللذين دخلا الأكواخ الفقيرة مثلما دخل القصور المنيفة، وذلك كي يسود نمط الاستهلاك الثقافي المعولم، الذي سيؤدي بالتدرّج إلى إلغاء التعدّدية الثقافية والتنوّع الثقافي لصالح نموذج وحيد سائد ومسيطر، ومن هذا الباب يمكن تفهم حساسية واشنطن من منافسة بكين وصراعها معها وانفعال إجراءاتها بما فيها اللجوء إلى فرض عقوبات عليها وتحميلها نتائج ما جرى من انتشار كورونا.

ويعني إلغاء التنوّع الثقافي إلغاء الخصوصيات القومية والدينية واللغوية والأعراف والتقاليد الاجتماعية، إضافة إلى طريقة العيش ونمط الحياة، بسيادة نموذج استهلاكي ثقافي وحيد بحيث يصبح هويّة أساسية للجميع. وهكذا تصبح الثقافة طريقًا للهيمنة وتعميم ذلك اقتصاديًا وسياسيًا، من خلال العولمة.

وإذا كانت تلك فرضية وسعي لتنفيذها من جانب القوى المتنفذة، فهل هي كليّة الجبروت أم ثمة عقبات أمامها؟ إن مأزق العولمة كنمط استهلاك ثقافي هو مأزق الثورة العلمية وثورة المعلومات والاتصالات والثورة الرقمية (الديجيتال) أيضاً، وبقدر ما تحتوي العولمة على درجة عالية من القبح والتوحّش، فإن فيها بعض الإيجابيات، ولا بدّ من الإفادة من إيجابياتها، ومشروع العولمة هو نقيض للحداثة، بل هو مشروع ما بعدها، ولذلك بشّرت العولمة وما بعد الحداثة بموت الإيديولوجيا وموت التاريخ وموت الفلسفة وموت المثقّف، وهو ما دعا إليه فوكوياما في كتابه «نهاية التاريخ»، في محاولة لفرض نمط استهلاكي ثقافي واحد، إلّا أن حسابات الحقل ليست مطابقة لحسابات البيدر، فقد اندلعت موجة عارمة من الهويّات الفرعية قادت إلى انتشار العقائد والأديان والإيديولوجيات وكل مظاهر التنوّع الثقافي، الذي انتعش عقب انحلال الكتلة الاشتراكية وما بعدها.

وتسعى الإمبريالية الثقافية إلى تغيير قيم الناس وقناعاتهم بوسائل ناعمة قد تكون أشد إيذاءً وخبثاً، وذلك بهدف دفعهم إلى الاستسلام أمام القوّة التي لا يمكن مجاراتها في الإبداع والابتكار، خصوصاً أن الإمبريالية تعمل على إعلاء قيم شعوبها وثقافتها، وبالمقابل تحقير ثقافة الغير وازدرائها، وكل شيء يأخذ نقيضه، فمقاومة العدوان تعتبر إرهابًا والدفاع عن الخصوصية يسمى انعزالية، ورفض شروط صندوق النقد الدولي يُعتبر إحدى الكبائر التي تلقى عقوبات.

وتستخدم الإمبريالية الثقافية جميع الوسائل الناعمة لتحقيق أهدافها بالتأثير في الشعوب والأمم وجعلها تخضع لهيمنتها، دولًا أو مجتمعًا مدنيًا أو منظمات غير حكومية أو قوى وأحزاب سياسية، وذلك بعد خلخلة البنية الفكرية وإضعاف الخصوصيات بحجّة الكونية والمعايير العامة.

وتركّز بشكل خاص على المثقفين لما لهم من تأثير في مجتمعاتهم، وهذه الفئة الأخيرة تشعر باضطهادات مزدوجة من جانب سلطات الاستبداد والقوى التقليدية والدينية. وليس عبثاً أن يعلن بريمر في كتابه «عام قضيته في العراق» أنه صرف 780 مليون دولار كمنح ومساعدات للمجتمع المدني في العراق خلال عام واحد، ولم يخبرنا أحد أنه استفاد من هذه المساعدات، التي قال إنها ذهبت إلى صحف ومراكز أبحاث ودراسات ومؤسسات ناشئة وأشخاص تواطؤا مع الاحتلال وقبلوا بمشروعه، وذلك جزء من التوجه النموذجي اليوم للرضوخ للإمبريالية الثقافية.

drhussainshaban21@gmail.com

 

 

سؤال اللغة والثقافة

 

عبد الحسين شعبان

 

إذا كانت الثقافة والتاريخ ركني الهويّة الأساسيين، فإن اللغة تترك آثارها في الهويّة، لأنها تعمّق من وجود الإنسان وانتمائه، ولذلك يُقال أن الأدب هو مرآة الشعوب التي ترى فيه نفسها ويتم التعبير عن هويّتها وكينونتها، ولا أدب دون لغة مثلما لا ثقافة دون لغة، فهما يتماهيان  في علاقة عضوية تتمظهر فيه الهويّة من خلال الثقافة وتتجلّى فيه اللغة بأبهى صورها. وهكذا فإن الوشائج تكون قويّة بين اللغة والثقافة والهويّة، وبقدر ما تسهم اللغة في تكوين الهويّة، فإنها تنطلق من الثقافة وتندغم فيها وسيلة للتعبير والتواصل والتفاهم والمشترك الإنساني.

واعتبر ميشيل فوكو المفكّر الفرنسي في كتابه "الكلمات والأشياء"، اللغة أصوات بشرية دالة على معانٍ عقلية ثابتة في الأشياء ترتبط بها من خلال إشارة وعلامة وصورة وحركة. وبهذا المعنى فاللغة نتاج اجتماعي لملكة اللّسان، إضافة أنها تقاليد اجتماعية وأنظمة تتحقق من خلال التنشئة الاجتماعية للإنسان المتكلّم وعلامات دالّة أيضًا تظهر في الكلمات والجمل والنصوص التي يستخدمها، أي عبر الصورة السمعية التي هي انعكاس للفكر.

 وبالطبع فلكلّ لغة نظامها الداخلي المعقّد الذي يحتاج إلى معرفة ونسق ينتقل من الكلمة والنحو إلى الجملة فالنص في إطار هارموني يزداد تأثيرًا كلّما كان محكمًا ودقيقًا في التعبير، خصوصًا حين يعكس "الوحدة اللغويّة" جماليًا، ولكلّ مفردة في ذلك وظيفة وموقع ودلالة ورمزية. وهي تتساوق مع القيم المادية والمعنويّة وتعكس الانتماء الثقافي والمعرفي والحضاري، فالعلامات والرموز التي تتشكّل في اللغة تحلّل المفهوم وتعطيه دلالة حسب أمبرتو إيكو، وهذه الدلالة جماعية حين تخصّ مجموعة من الذين يتكلّمون بنفس اللغة ويعبّرون من خلال تراكيبها عن مفردات وجمل ونصوص وعلامات ، وهكذا تكون إحدى مرجعيات هويّتهم ومخزونهم الثقافي.

واللغة لدى أي متكلّم تعبّر عن غرضين، أحدهما بلاغي (أي القصد منه) والثاني تبادلي أي إشراك المتلقّي في سياق أفكاره، الذي يتلقّى الكلام ويستنتج الغرض منه ويعتمد على ما هو متبادل من مرجعية ثقافية مشتركة.

وبقدر ما تكون اللغة وسيلة تعبير عن الهويّة وانعكاس للثقافة، لا سيّما بوجود مشتركات تاريخية واجتماعية وثقافية تمثّل عناصر تعايش وتوافق وتواصل، فهي في نهاية المطاف منتج بشري إنساني يتعزّز بالتفاعل ويغتني بالتراكم، خصوصّا بنشوئه في بيئة مشتركة. تلك هي وظيفة اللغة في التعبير عن الانتماء للجماعة البشرية المعينة، وهي تعبير عن خصوصية الفرد وموقعه في هذا الانتماء أيضًا.

والثقافة تعني ذلك المجموع الذي يتآلف من المعارف والمعتقدات والفنون والآداب والاعراف والقوانين والعمران وطريقة العيش وكلّ ما أنتجه الإنسان. وحسب تعريف منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة "اليونيسكو" فالثقافة تمثّل جميع السمات الروحيّة والمادية والفكرية (اللغوية) والعاطفية التي تميّز مجتمعًا بعينه أو فئةً اجتماعية محدّدة، وهي تشمل الفنون والآداب والمعتقدات.

وثقافة أي مجتمع مثل هويّته ليست مغلقةً أو نهائيةً بمعنى سرمديّةً، وإنما تتأثّر بالآخر مثلما تؤثّر فيه، ولاسيّما في العادات والتقاليد والفنون والآداب والأذواق، وهكذا تصبح قابلة للإضافة والحذف والتعديل، فالهويّة والثقافة فضاءان مفتوحان متفاعلان مع محيطهما الداخلي والخارجي، وهما ليستا بركةً راكدة، وإنما بحر مترام الأطراف تصب فيه أنهار عديدة تستوعبها الثقافة الأصيلة وتعبّر عنها بهويّتها الحيويّة.

والثقافة مثلما هي الهويّة واللغة تتطوّر مثل أي كائن اجتماعي من خلال الفكر والسلوك والتراكم وهي تتغيّر ببطئ شديد، خصوصًا بتعاقب الأجيال والمراحل والحقب الزمنية، بحيث تكون قابلة للتعديل بسبب تواتر الإستخدام والوعي بأهمية ذلك. وكلّ ثقافة مثلما كلّ هويّة ولغة نسبية وليست مطلقة حتى وإن سادت لزمن طويل، إلّا أنها ستكون مثل غيرها عرضةً للتغيير والتجديد أيضًا من خلال سلوك الجماعة مثلما تكون الثقافة الأكثر تأثّرًا باللغة، خصوصًا من خلال الكتابة، حيث تقوم بدور الوساطة لنقل الثقافة.

والثقافي بقدر استقلاليته فإنه متأثّر بالاجتماعي، حتى وإن كانت اللغة مرجعية للتواصل لها قوانينها فإنها في الوقت نفسه مستمدة من الفضاء الثقافي، حيث يستخدم الناس اللغة للتعبير عن هويّتهم الثقافية.

إن جدل اللغة والثقافة ليس بين طرفين متناقضين أو متعارضين، وإنما بين طرفين يتكاملان ويتحدان في اتساق متناغم بموسيقيته الخاصة، يسهم أحدهما في إغناء الآخر.

واللغة هي نتاج تطوّر الإنسان وفكره ومستوى تفكيره ونمط حياته، وهو ما نطلق عليه الثقافة، فالثقافة تقوم على عملية بناء لقيم تتشكّل منها كلمات ومفردات وجمل ونصوص لها دلالات تنم عن وعي وسلوك من داخل اللغة ومن خارجها أي من المحيط الاجتماعي والثقافي الذي تنشأ فيه وهما في حال من التداخل والانشباك الذي لا غنى عنه لدرجة التعاشق والتماهي.

الثقافة قوّة ولا ثقافة دون معرفة، والمعرفة سلطة مادية ومعنوية، خصوصًا عندما تتشرّب بها شعوب وأمم، وحسب تعبير الفيلسوف البريطاني فرانسيس بيكون فالمعرفة قوّة بذاتها تحتاجها السلطات الحاكمة وتوظّفها أحيانًا بطريقة إيجابية أو سلبية، وإذا ما اتحدت سلطة المعرفة مع سلطة الدولة فسنكون أمام الحكمة، وتلك فضيلة مثل هذا الاتحاد.

 

 

 

في استقبال عام 2023

عبدالحسين شعبان

 

كثيرة هي التحدّيات التي تواجه العام الجديد، فقد سلّطت الحرب الروسية في أوكرانيا الضوء على مجموعة كبيرة من الأزمات الدولية المترابطة والمتداخلة، وهذه جميعها تشكّل تحدّيات مستمرّة لعام 2023 وربما يمتدّ بعضها إلى أعوام قادمة، ويبقى البحث عن حلول ومعالجات لإطفاء بؤرة الحرب ونزع فتيل التوتّر تمهيداً لإحلال السلام وبنائه وإدامته هاجساً مؤرقاً للعالم أجمع.

وكان الدبلوماسي الأمريكي المخضرم هنري كيسنجر قد توصّل إلى استنتاج مفاده: حان وقت إحلال السلام على أساس التفاوض في أوكرانيا للحدّ من مخاطر نشوب حرب عالمية مدمّرة أخرى، وهو الرأي الذي بشّر به خلال اندلاع أزمة جزيرة القرم عام 2014 داعياً إلى إجراء استفتاء تحت إشراف دولي للبتّ في أمر الأراضي التي أعلنت روسيا ضمّها، لكن حكومة زيلنسكي رفضت مقترحاته واعتبرتها «مهادنة للمعتدي».

وتعتبر أزمتا الغذاء والطاقة متفرّعتين عن الحرب الأوكرانية، فلم يعد بإمكان أوكرانيا تصدير الحبوب، كما أن إجراءات واشنطن والغرب عموماً لمنع الآلة العسكرية الروسية الاستفادة من أرباحها، ورد فعل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بقطع إمدادات الغاز عن أوروبا كانت وراء استفحالها، ناهيك عن ارتفاع نسبة التضخّم بسبب ارتفاع أسعارهما باضطرابات أخرى تتعلّق بالنقل ومعوّقاته، وتعقيدات انتشار وباء كورونا.

وكان موقع «ناشونال إنترست» الأمريكي قد نشر تنبؤات لباحثين مختصّين هما ماثيو بوروز وروبرت مانينغ، اللذان قسّما الأزمات إلى ثلاثة مستويات، عالية السقف ومتوسطة السقف ومنخفضة السقف، في إطار الدراسات المستقبلية. وتوقّفا عند الحرب في أوكرانيا واعتبراها لغزًا لا أحد يستطيع التكهّن كيف يمكن أن تنتهي؟ ويمكن طرح أسئلة عديدة من سيكون الرابح فيها؟ ومن هو الخاسر أو المهزوم؟ وهل ستبقى أوكرانيا موحدّة؟ وهل ستتمترس روسيا في الأجزاء التي احتلّتها، وهي بأغلبيّة روسية، بعد شبه جزيرة القرم التي سيطرت عليها العام 2014؟ وما هو شكل النظام الدولي الذي سيُقام بعد انتهاء الأزمة الاوكرانية؟ وهل التعدّدية القطبية أصبحت أمراً واقعاً بعد تخلخل نظام القطب الواحد الذي هيمن على العلاقات الدولية إثر انهيار الكتلة الاشتراكية في أواخر الثمانينات وانتهاء عهد الحرب الباردة؟

إن الأزمة الأوكرانية المركبة والمعقدة، هي أزمة العلاقات الدولية أيضاً لاتصالها بالأمن الإنساني الدولي، ناهيك عن استنزافها للغرب كذلك، الذي أخذ يضخّ الأسلحة والمساعدات لأوكرانيا في ظروف الانكماش الاقتصادي وانخفاض مستوى حياة السكان والمطالبات الشعبية التي بدأت ترتفع بعدم هدر ضرائب المواطنين على مساعدات خارجية، فضلاً عن احتمالات التصعيد الحربي بإرسال أسلحة متقدّمة من واشنطن وعدد من العواصم الغربية إلى كييف، وارتفاع درجة حرارة الردّ الروسي النووي المحتمل.

والأزمة ممتدّة ومتفاعلة مع أزمات أخرى من أمريكا الوسطى وهاييتي إلى شمال إفريقيا حتى جنوب السودان، وتشمل منطقة القرن الإفريقي وسوريا واليمن وأفغانستان وباكستان، ناهيك عن استمرار سياسة «إسرائيل» العدوانية وصعود التيار الأكثر تعصّباً وعنصرية داخل «إسرائيل». وترتفع تأثيرات الحصار الأمريكي والغربي على إيران مع عدم التوصّل إلى حلّ بخصوص الملف النووي، وزاده اليوم ما يجري من احتجاجات شعبية داخل إيران. ومن القضايا الجديدة في هذه الأزمة تزويد إيران موسكو بطائرات مسيّرة وصواريخ استخدمتها الأخيرة في حربها ضدّ كييف.

وعلى صعيد العلاقات الأمريكية – الصينية، فإنه على الرغم من الاتفاق في قمة العشرين الأخيرة على استئناف المفاوضات، فإن مسألة تايوان قد تبدّد هذه الجهود، فلا تزال هناك خلافات جوهريّة تتعلّق بالقيم والمعايير الخاصة بالتجارة واستخدامات التكنولوجيا وحقوق الإنسان، ويزداد الأمر تعقيداً مع المأزق الكوري باختبار بيونغ يانغ المستمر لمجموعة كاملة من الصواريخ الباليستية وقذائف كروز.

وحتى بعد انعقاد مؤتمر المناخ الدولي في شرم الشيخ (كوب 27) في 6 تشرين الثاني / نوفمبر 2022، فإن أزمة المناخ العالمية لا تزال مستمرّة وتحتاج إلى جهود كبيرة للتعاون وتخصيص مبالغ هائلة لمعالجتها، علماً أن بعض التقديرات العلمية تقول إن درجة حرارة الأرض سترتفع بنسبة 1.5% ما لم تلتزم البلدان بتخفيض 43% من إجمالي انبعاث غازات الاحترار العالمي.

العالم 2023 سيكون مثقلاً بالعديد من تركة العام الذي سبقه، وأوروبا التي لم يخطر ببالها أن الحرب ستدقّ أبوابها، أصبحت تهدّد اليوم بيوتها، الأمر الذي يحتاج إلى تفاهمات جديدة لصياغة نظام دولي جديد ما بعد الأزمة الأوكرانية.

drhussainshaban21@gmail.com

 

 

المهاجر وهويّته الثقافية

عبد الحسين شعبان

كان تولّي ريشي سوناك منصب رئيس وزراء بريطانيا، وهو من أصل هندي خلفًا لرئيسة الوزراء ليز تراس، التي لم تستمر في رئاسة الحكومة سوى 44 يومًا، والتي جاءت على أعقاب بوريس جونسون، سببًا جديدًا في طرح أسئلة قديمة وجديدة، بل معتقة بخصوص الهويّة والثقافة، فالجيلين الثاني والثالث من المهاجرين إلى بريطانيا وإلى عموم البلدان الأوروبية، مرّا بتجارب ذات طبيعة إشكالية بقدر ما هي مشكلة في الآن ذاته، خصوصًا وهما يحملان أو يمثلان أو يعبّران عن ثقافتين مختلفتين، لاسيّما بالنسبة للمهاجرين غير الأوروبيين.        لم يكن مفاجئًا تكليف سوناك من جانب الملك تشارلز الثالث، وهو المعروف بانفتاحه على القيم الإنسانية للحضارات والثقافات والأديان والشعوب والأمم المختلفة، وذلك بعد استقالة تراس وسط ذهول داخلي وترقّب خارجي فيما يتعلّق بإعادة لُحمة حزب المحافظين من جهة، واستعادة دور بريطانيا على الصعيد العالمي من جهة أخرى، خصوصًا بعد الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تعاني منها، إضافة إلى تداعيات الحرب الروسية في أوكرانيا وأزمة الطاقة.        يُنظر إلى المهاجرين من غير الأوروبيين باعتبارهم يحملون “ثقافة خاصّة ومميّزة”. وقد أظهرت الحداثة والعولمة صيرورات هذه الهويّات بإدراك الذات في تداخلاتها، خصوصًا للجيلين الثاني والثالث، وذلك من خلال القيم والحياة العامة بين المهاجرين وفي داخلهم مع مجتمعاتهم الذي يعيشون فيها؛ فضلًا عنالتحولّ الذي يظهر على الإنسان بين الهويّة الأولى والهويّة الثانية، ولا أريد القول الهويّة الأصليّة والهويّة المكتسبة، فكلاهما يمثّلان انتماءً مندغمًا في شخصية المهاجرين بعد العيش في مجتمع بقيمه السائدة. وقد بيّنت التجربة أن توتّرًا يحصل  بين الجيل الأول وما يليه من أجيال، أي بين الأبناء من جهة والآباء والأجداد من جهة أخرى، وثمة عوامل تحول دون الاندماج داخليًا وخارجيًا، وقد حاول توماس هايلاند إريكسون معالجتها من وجهة نظر أنثروبولوجية في كتابه “العرقية والقومية“.        صحيح أن العيش في ثقافتين ليس أمرًا إشكاليًا إذا كانت البيئة الاجتماعية تسمح بذلك، إلّا أن ثمة معوّقات وعقبات تحول دون ذلك أحيانًا، فالهويّة الغالبة أو السائدة يُراد لها أن تكون مترابطة ومحدّدة وواضحة المعالم، وبهذا المعنى يصبح المهاجرون من الذين لم يندمجوا أقرب إلى التمايز، والأمر لا يتعلّق بالثقافة بقدر ما يتعلّق بالفشل في الاندماج والتواصل المنسجم مع الفئات المهيمنة على التركيبة الاجتماعية.        قد تنبعث حركات باسم “الهويّة” أو “الخصوصيّة” أو “الأصل” أو “الحق في التعبير”، لكنها بالتدرّج تتضاءل الأهميّة الاجتماعية لمثل هذا التمايز مع مرور الأيام، ويندفع أحيانًا أبناء المهاجرين أو أحفادهم إلى الاندغام الذي هو أقرب إلى إضاعة الأصل، بل أن بعضهم يبالغ به أكثر من اللّازم، خصوصًا حين يزداد الشعور بعدم أهمية هذا التمايز ورغبة الأكثرية في عدم رؤيته أو الاستجابة إليه، سواء بالمساواة الثقافية أو توازن المصالح واتفاقها.        ومن ملاحظتي الشخصية خلال إقامتي في بريطانيا، أن التباينات الثقافية بما فيها اللغة، ليست مفصولة عن العرقية تمامًا، على الرغم من أن بعض الدراسات الأنثروبولوجية تقلّل من أهميتها أو تجعلها نسبية، والمهم كيف يمكن استخدام الاختلافات الثقافية سبيلًا للاتصال وليس للانفصال، بما يعطيها دلالة اجتماعية بتغيّر المحتوى الثقافي للهويّة ذاتها؟        ويبدو منطقيًا أن المهاجرين، وخصوصًا من الجيلين الثاني والثالث، ممّن ولدوا وعاشوا ودرسوا في المدارس البريطانية سيكونون مجبرين على إقامة صِلات وثيقة بالسكان الذين يمثّلون الأكثرية وبالنظام الذي تقيمه في الانتاج والاستهلاك، فابن المهاجر “البريطاني” من أصل هندي أو إفريقي أو عربي، لم يختر أن يكون كذلك، فذلك مفروض عليه ولا يستطيع هو، إن كان رجلًا، أو هي، إن كانت امرأة، أن تتجاوز الدولة وقوانينها من التدخّل في حياتهما ومستقبلهما واندماجهما في المجتمع، فهما لا يمكنهما تغيير نمط حياة الناس أو علاقاتهم أو شكل انتاجهم أو خلفياتهم الثقافية، وإنما عليهم هم أن يتغيّروا مع ما هو سائد ومتواصل وتاريخي والتصرّف بموجبه، مع بقاء بعض الخيارات قائمة نسبيًا. على سبيل المثال، المسلم يذهب إلى الجامع حتى وإن لم يكن متديّنًا، وقد يكون ذلك في الأعياد أو في المناسبات بما فيها حضور مراسم العزاء، ويفعل الهندوسي ذلك بالذهاب إلى المعبد، وهكذا كلّ منهما يجد طريقة ذات معنى في تعبيره عن خصوصيته لاعتبارات رمزية أو تاريخية وثقافية، فالهويّة ليست ثابتة وإنما مفتوحة وتقبل الإضافة والحذف والتجديد، وهي ليست نهائية أو كاملة بمعنى سرمدي، وإنما هي في حالة تفاعل وتراكب وتواصل مع محيطها وفي ظلّ تراكم طويل الأمد، فما بالك حين تعيش في مجتمع بقيم وتوجهات أخرى سائدة. بهذا المعنى تكون الهويّة غير راكدة أو مستقرّة، سواء كانت هويّة الجيل الأول أو الأجيال التي تبعته، بما تفرضه عوامل مختلفة وأوضاع اجتماعية واقتصادية وثقافية سائدة، ولعلّ تلك هي هويّة ريشي سوناك، وهو ما عبّر عنه بوضوح منذ وصوله إلى 10 داونغ ستريت.

 

 موقع (جنوبية)

 

إملاء الدستور

عبد الحسين شعبان

 

يعيش العراق منذ إجراء الانتخابات في 10 أكتوبر / تشرين الأول 2021 وإلى اليوم حالة انسداد آفاق سياسية ودون حكومة كاملة الصلاحيات، وهو أمر تكرّر بعد انتخابات العام 2006 والعام 2010 والعام 2014 والعام 2018، وما بعد إطاحة حكومة عادل عبد المهدي العام 2020.

وما زاد الطين بلّة، أن كتلة السيد مقتدى الصدر (التيار)، الأكبر في البرلمان، والبالغ عددها 73 نائبًا انسحبت من البرلمان، في حين كانت المرشحة بتسمية رئيس الوزراء، وحين بادرت كتلة الإطار التنسيقي (تحالف شيعي آخر) إلى ترشيح  محمد شياع السوداني احتجّ التيار وقاد تظاهرة اقتحمت المنطقة الخضراء ودخلت البرلمان وهدّدت بما هو أشدّ لاحقًا.

وهكذا ما تزال الدولة معوّمة، حيث تستمرّ حكومة تصريف الأعمال منذ عشرة أشهر، ولم تتّفق المجموعتان الكرديتان على تسمية رئيس الجمهورية الذي بدوره يسمي رئيس الوزراء بعد اتفاق الشيعية السياسية عليه.

ومثل هذا الوضع المضطرب لا يخصّ العراق وحده، فهذا لبنان يشهد الحالة ذاتها منذ آخر انتخابات له في 15 مايو / أيار 2022، وقبل ذلك كان لنحو عامين، دون رئيس ودون حكومة كاملة الصلاحيات، فضلًا عن البرلمان الذي جدّد لنفسه.

وأما في تونس فالأمر اتخذ بُعدًا آخر لتقويض صلاحيات البرلمان وإعداد دستور جديد وعرضه على الاستفتاء الشعبي في 25 يوليو / تموز المنصرم 2022، وبموجب الدستور الجديد منح الرئيس قيس سعيّد لنفسه صلاحيات واسعة بالضدّ من دستور العام 2014، وتمّ تقليص دور البرلمان بعد تجربة العشرية الأولى من التغيير التي شهدت صراعات حادة وتعطيل لدور المؤسسات، ناهيك عن استشراء الفساد المالي والإداري على خلفية الفساد السياسي.

            والأمر يستمر في ليبيا على هذا المنوال، حيث الانقسام بين الكتل والجماعات والأطراف والجهويات وعدم القدرة على ضبط السلاح المنتشر وجعله بيد الدولة، ناهيك عن الصراعات داخل البرلمان وبينه وبين الحكومة، ممّا عوّم السيادة الليبية بسبب عدم قدرة أي طرف من حكم البلاد بصورة دستورية.

 ربما كان أحد أسباب عدم استقرار بلدان مثل العراق ولبنان وتونس وليبيا هو الدستور الذي قام على أساس النظام البرلماني، حيث تم تفصيله على مقاسات مصنوعة في الخارج، وحتى لو  كان التصميم دقيقًا، إلّا أنه لا يصلح بالضرورة لهذه البلدان التي تعاني من انقسامات دينية وطائفية وإثنية وجهويّة، ساهم الدستور المشوّه في زيادة تشويهها، وهو ما يعكسه الدستور اللبناني، الذي تكرّس في ميثاق الطائف العام 1990، والدستور العراقي  الذي صاغه نوح فيلدمان الأمريكي المتعصب "لإسرائيل"، وقام بوضع العديد من الألغام فيه بيتر غالبرايت، مثلما عملت جهات أممية ومحلية وبتوجيهات أحيانًا من مراكز أبحاث ودراسات أمريكية لفرض نظام برلماني على بعض البلدان العربية التي خرجت لتوّها من جوف الديكتاتورية والاستبداد، وليس لها تجربة سابقة في النظام البرلماني، ناهيك عن أجواء الانفلات التي شهدتها وضعف الدولة وانتشار السلاح خارج القانون، فضلًا عن محاولة الاستقواء بالخارج.

  إن مهندسي الأنظمة ما بعد التغيير والذين اختاروا النظام البرلماني، كانوا يدركون أن التوافق بين الكتل البرلمانية لتأمين أغلبية في غاية الصعوبة، وإن تحقّقت وتشكّلت الحكومة فسيكون برنامجها ضعيفًا وتقترب سياستها من تصريف الأعمال بسبب الصيغة التوافقية، حيث تعاني من الهشاشة وعدم التماسك، وتعيش حالة من الأزمات المستمرّة. جدير بالذكر أن النظام البرلماني يقوم على ركيزتين أساسيتين، هما رئيس فخري دون صلاحيات تذكر ، وبرلمان يختار رئيس الوزراء الذي يشكّل الحكومة بتوافق القوى، ويكون خاضعًا للاستقطابات السياسية.

            إن الدول التي انتقلت إلى النظام البرلماني، وخصوصًا في العالم الثالث، عانت من الجمود السياسي، وأحيانًا عاشت لفترات غير قصيرة حالة من التعويم قبل التوصّل إلى اتفاقات هشّة. ولذلك تبرز دعوات عديدة ومن مواقع مختلفة لتغيير الدساتير الجاهزة، والتي جاء بعضها مع الاحتلال أو طبقًا لوصفات دولية لم تكن بعيدة عنها أيادي القوى المتنفّذة، والهدف هو تغيير النظام البرلماني إلى نظام رئاسي أو مختلط يعطي لرئيس الدولة صلاحيات فعلية وهو أقرب إلى النظام الفرنسي بعد العام 1958 تجنّبًا لما يرافق النظام البرلماني من أزمات سياسية تنعكس سلبًا على إدارة الدولة بجميع مرافقها الحيوية بفعل عوامل خارجية أو داخلية.

            والنظام البرلماني، وإنْ كان له امتدادٌ في بريطانيا لنحو خمسة قرون، وناجحًا حتى في ظلّ دستور غير مكتوب، لكنه لم يكتب له النجاح في العراق و ليبيا و لبنان و تونس و غيرها، فالأمر مرهون بدرجة تطوّر المجتمع وتراكم التقاليد الدستورية والثقافية والقانونية بشكل عام،

وهكذا بدت هذه  الدساتير وكأنها تفقد قابليتها على الحياة. وأي دستور ينبغي أن ينبع من حاجات الناس الفعلية، لا أن يتم إملاؤه من الخارج، حتى وإن حيكت عباراته بنسيج جميل، لكن الفشل سيكون مصيره لا محال.

 

 

 

الهند والإسلاموفوبيا

عبد الحسين شعبان

 

أثار تصريحان أدلى بهما مسؤولان في حزب بهارتيا جاناتا القومي الهندوسي الحاكم في الهند ردود فعل إسلامية وعربية وعالمية كبيرة، وقد شملت تلك التصريحات إساءة إلى نبيّ المسلمين الرسول محمد (ص).
ولم تكن تلك المرّة الأولى التي توجه فيها انتقادات إلى الحزب الحاكم منذ تولّيه السلطة عام 2019 وهو ثاني أكبر حزب في البلاد بعد حزب المؤتمر الوطني.
لقد زاد عدد الحوادث العنصرية إزاء المجاميع الثقافية، وخصوصاً المسلمين في العقود الثلاثة ونيّف الماضية، الأمر الذي دفع دولاً عربية وإسلامية إلى مطالبة الحكومة الهندية بالاعتذار إزاء الإساءة إلى الرسول محمد (ص).
كما شاركت منظمات إقليمية وهيئات دينية في التنديد بتلك التصريحات مثل منظمة التعاون الإسلامي ومجلس التعاون الخليجي والأزهر الشريف وهيئة كبار العلماء السعودية.

أوساط الحزب الحاكم

وعلى الرغم من اتخاذ حزب بهارتيا جاناتا قرارات انضباطية ضدّ بعض قيادييه الذين تمادوا في إطلاق التصريحات إزاء المسلمين ونبيّهم، إلّا أن أجواء الإسلاموفوبيا حسبما يبدو أصبحت متغلغلة في أوساط الحزب الحاكم. وقد تباهى ناريندرا مودي رئيس الوزراء في وقت سابق بعلاقاته بالعالم الإسلامي، بل وقام بزيارات عديدة إلى دول الشرق الأوسط، ولكن ذلك لم يمنع من الشعور بتضخم الهويّة الهندوسية على حساب الهويّات الأخرى، وخصوصاً الإسلام، وقد اضطّر الحزب الحاكم إثر نقد العديد من الدول العربية والإسلامية (إندونيسيا وماليزيا وباكستان (العدو اللّدود) وإيران وأفغانستان) إلى إصدار بيان جاء فيه “أن الحزب ضدّ أي أيديولوجيا تهين أو تحقّر أي طائفة أو ديانة” دون أن ينسى وصف المندّدين ﺑ “ضيق الأفق” وأن الهند تولي أعلى درجات الاحترام لجميع الأديان.
وبالطبع فإن الهند تدرك حجم الضرر الذي قد يصيبها إزاء تدهور علاقاتها مع العالم العربي، فالعمالة الهندية في دول الخليج العربي تقارب عشرة ملايين إنسان، وهي تشكّل مجتمعاً كاملاً للمغتربين الهنود وهم يغذّون الاقتصاد الهندي بإرسال نحو 35 مليار دولار سنوياً إلى الوطن الأم، كما يبلغ التبادل التجاري بين الهند ودول الخليج العربي نحو 87 مليار دولار، وترتبط الهند مع العراق والمملكة العربية السعودية باستيراد النفط، ومع قطر باستيراد الغاز الطبيعي.
تُعتبر التجربة الهندية من أكثر تجارب العالم تنوّعاً دينياً وطائفياً وقومياً وسلالياً ولغوياً، والمواطنة المتكافئة والمتساوية هي إحدى مبادئ الدستور الأساسية دون إهمال الإقرار بحقوق المجموعات الثقافية في ممارسة طقوسها وشعائرها الدينية بحريّة، ويُعدّ الدين الإسلامي ثاني أكبر الديانات المنتشرة في الهند، وهو من حيث العدد يأتي بعد الهندوسية. ويُقدّر عدد أتباع الديانة الهندوسية ﺑ 900 مليون نسمة، في حين أن عدد أتباع الإسلام حوالي 200 مليون نسمة، وهناك الديانة البوذية والمسيحية (التي انتشرت عبر البعثات التجارية والتبشيرية وبوصول البريطانيين إلى الهند) والديانات السيخية والكونفوشيوسية والزرادشتية وغيرها.

أجواء التسامح

وعلى الرغم من أجواء التسامح والإقرار بالتنوّع والاعتراف بالتعدّدية، خصوصاً وأن الدستور نصّ على ذلك بتأكيد مدنية الدولة ووضع مسافة واحدة من جميع الأديان، إلّا أن بعض النزعات العنصرية تأجّجت وانفلت بعضها في سنوات التسعينيات التي شهدت انفجار ما سمّي بالهويّات الفرعية على المستوى العالمي، بل قاد إلى تشظّيها أحياناً وأدّى إلى أشكال مختلفة من العنف والإرهاب.
وإذا عرفت الهند بوجهها المدني العلماني الديمقراطي في العالم الثالث، فإن مثل تلك التصرّفات الاستفزازية للمسلمين تلحق ضرراً كبيراً بالديمقراطية، علماً بأن المسلمين في آسيا يشكّلون قوّة كبيرة، فإندونيسيا يبلغ عدد سكانها حوالي 275 مليون نسمة والباكستان 238 مليون نسمة وبنغلاديش 165 مليون نسمة، وهناك عدد كبير من المسلمين في بلدان أخرى، ولو لم تنفصل الباكستان عن الهند العام 1947، وبنغلاديش عن الباكستان العام 1971 لكان عدد المسلمين فيها يزيد عن 600 مليون نسمة.
وخلال ربع القرن الماضي تصاعدت الاتجاهات الهندوسية اليمينية المتطرّفة وعلى نحو تدريجي بدأت بعض أعمال العنف ضدّ المسلمين وبقية المجموعات الثقافية وهو ما خلق ردود فعل مماثلة. ولعلّ التصريحات الأخيرة المسيئة للرسول محمد (ص) جاءت لتصبّ الزيت على النار ولتؤجّج الصراع الهويّاتي، خصوصاً باستفزاز مشاعر المسلمين، بما يؤدي إلى تهديد منظومة القيم الديمقراطية، وهي تعيد إلى الأذهان بعض المجازر التي حدثت في السابق والصدامات والتفجيرات التي راح ضحيّتها الآلاف من الأبرياء.
العنف دليل تعصّب والأخير حين يتمكّن من الإنسان يصبح تطرّفاً وحين يتحوّل إلى سلوك يصير عنفاً وحين يضرب العنف عشوائياً يصبح إرهاباً وإذا ما حاول إضعاف ثقة الإنسان والمجتمع بالدولة وكان عابراً للحدود يصبح إرهاباً دولياً، ولكن هذا شيء وحين يكون ممارسة حكومية أو بتشجيع منها أو تواطؤ معها فإنه يصبح عنفاً منظّماً وهدفه إقصائياً وإلغائياً وتهميشياً.
لقد جسّد غاندي النموذج الديمقراطي المتعايش بتحالفه مع المسلم عبد الغفّار خان، وذهب ضحيّة التعصّب الهندوسي دفاعاً عن وحدة الهند، وكان يردّد أنه مسلم بقدر ما هو هندوسي، فالدين ليس بالطقوس، ولكن بالعمل والأخلاق والمعاملة، وهذه جوهر رسالة الرسول محمد (ص).

كاتب عراقي

 

 

100 عام

على المأساة الفلسطينية

عبد الحسين شعبان

 

منح مؤتمر سان ريمو 19 – 25 أبريل / نيسان 1920 بريطانيا «حق» الانتداب على فلسطين دون استشارة أهلها أو أخذ رأيهم أو الاستماع إلى رغبتهم، وسعت هي بعد ذلك إلى الحصول على قرار دولي من عصبة الأمم، يعترف لها بحق الانتداب وهو ما تحقق في 22 يوليو / تموز 1922. ونجم عن تلك القرارات المجحفة مشكلة دولية «ساخنة» تفاقمت مع مرور الأيام وما تزال إلى اليوم تغلي في تصاعد مستمر.
ولعل آخر ما قامت به قوات الاحتلال «الإسرائيلي» هو اغتيال الصحافية الفلسطينية شيرين أبو عاقلة في وضح النهار وهي تقوم بعملها المهني المحمي دوليا وفقا لقواعد القانون الإنساني الدولي واتفاقيات جنيف لعام 1949 وملحقيها لعام 1977، في تجاهل كامل وإنكار مستمر للقوانين والأعراف الدولية واستهتار بالرأي العام العالمي والقيم الإنسانية.
ويصادف في 22 يوليو/ تموز المقبل مرور 100 عام على قرار عصبة الأمم الذي كان بداية المأساة الفلسطينية، ولاسيما بالقضم التدريجي لاحتلال السوق واحتلال العمل تمهيدا لاحتلال الأرض، والذي حاولت فيه بريطانيا «توريط» المجتمع الدولي ليتحمل مسؤوليته معها بدلا من اقتصاره عليها، وذلك تساوقا مع المشروع الصهيوني الهادف إلى إقامة دولة يهودية في فلسطين وتنفيذا لوعد بلفور الذي منحه وزير خارجية بريطانيا السير آرثر بلفور إلى اللورد روتشيلد والقاضي بإقامة «وطن قومي لليهود في فلسطين»، وذلك في 2 نوفمبر / تشرين الثاني العام 1917 والذي غير مجرى الشرق الأوسط، انسجاما مع اتفاقية سايكس – بيكو بين وزيري خارجية بريطانيا وفرنسا (مارك سايكس وفرانسوا جورج بيكو) لتقسيم البلاد العربية وبمشاركة من روسيا القيصرية وإيطاليا والتي صادقت عليها حكومات تلك البلدان بين 9 – 16 مايو / أيار 1916، وهي اتفاقية كشفتها روسيا البلشفية بعد انتصار ثورة أكتوبر 1917 في إدانة الدبلوماسية السرية التي اعتمدتها الدول الاستعمارية، خصوصا عشية الحرب العالمية الأولى، لاسيما إزاء تركة الامبراطورية العثمانية.
وما بين الحربين العالميتين الأولى 1914 – 1919 والثانية 1939 – 1945، أي في عهد عصبة الأمم ولاحقا عشية وبُعيد تأسيس الأمم المتحدة، لعبت بريطانيا دورا محوريا في إحداث تغيير ديموغرافي في فلسطين نتج عنه تشجيع الهجرة اليهودية إلى فلسطين والتي بلغت مديات بعيدة وبأعداد ضخمة في مسعى لدعم المشروع الصهيوني بالعنصر البشري الذي ظل بحاجة إليه حتى اليوم، وتهجير الشعب العربي الفلسطيني من وطنه وحرمانه من حقه في تقرير مصيره.
وقد ظلت الاستراتيجية الصهيونية منذ ذلك الوقت وحتى هذه اللحظة تقوم على عنصرين أساسيين أولهما – محاولة استقطاب يهود العالم والزعم بتمثيلهم، وخصوصا بالهجرة إلى «إسرائيل» طبقا للرواية الصهيونية بأن «فلسطين» أرض الميعاد، وثانيهما – الإجلاء والترحيل والتهجير للفلسطينيين (الترانسفير) وطردهم من بلادهم مقابل الإحلال والاستيطان وبناء المستعمرات. وظلت «إسرائيل» بحاجة إلى كلا الركنين، ليس لمرحلة التأسيس حسب، بل حتى في الثمانينيات سعت الصهيونية لعقد صفقة الفلاشا (مع يهود أثيوبيا) بعملية سرية قام بها جهاز الموساد «الإسرائيلي» وبتواطؤ من الرئيس السوداني محمد جعفر النميري وذلك في العام 1985 وما بعده. وكان الدعم الأكبر للاستراتيجية الصهيونية في نهاية الثمانينيات بفتح باب هجرة اليهود السوفييت إلى «إسرائيل» والذين بلغ عددهم نحو مليون مهاجر. و»إسرائيل» إلى اليوم بأمس الحاجة إلى العنصر البشري، بحكم الزيادة السكانية الفلسطينية وارتفاع عدد المواليد.
لم تكتفِ بريطانيا بالتواطؤ مع الصهيونية حسب، بل عملت على إشراك المجتمع الدولي في تحقيق أهداف الحركة الصهيونية، وذلك بعرضها قضية فلسطين على الأمم المتحدة بعد تنصلها من مسؤولياتها، خصوصا بعد تهيئة كل المستلزمات لقيام «دولة إسرائيل» ومماطلتها في منح الشعب العربي الفلسطيني حقه في تقرير مصيره وإنهاء الانتداب البريطاني، خصوصا في لحظة التباس دولية، حيث «فازت» الصهيونية بالحصول على دعم الغرب والشرق على حساب أصحاب البلاد الأصليين، وكأن الصراع الدولي دخل حالة غيبوبة ليصحو على مساومة تاريخية ظالمة لحظة البت بمستقبل فلسطين العام 1947 وما بعدها عند تأسيس «إسرائيل» العام 1948.
إن محاولة بريطانيا إشراك المجتمع الدولي لم تكن سوى عملية تهرب من المسؤولية الملقاة على عاتقها باعتبارها الدولة المنتدبة، حيث قررت بريطانيا في 2 نيسان / إبريل 1947 رفع القضية الفلسطينية إلى الأمم المتحدة، ثم أعقبتها بخطوة أخرى في 26 أيلول / سبتمبر من العام نفسه، حيث أعلنت نيتها في الانسحاب من فلسطين، خصوصا بعد احتدام النقاش والجدل بشأن القضية الفلسطينية، وتصاعد نضال الشعب العربي الفلسطيني ودعم وإسناد الشعوب العربية بهدف إلغاء الانتداب وتحقيق انسحاب القوات البريطانية وبالتالي تمكين الشعب العربي الفلسطيني من تقرير مصيره بنفسه.
وقبيل إعلان بريطانيا انسحابها، أثارت فتنة كبرى وأشعلت أوار حرب أهلية بين سكان البلاد الأصليين وبين المستوطنين اليهود، وذلك لرمي مسؤولية اتخاذ قرار بحل القضية الفلسطينية على الأمم المتحدة والمجتمع الدولي والتخلص من مسؤولية الانتداب الذي يقضي «إقامة حكومة وطنية فلسطينية تتسلم مقاليد الأمور بعد خروج الدولة المنتدبة».
وبعد مناقشات وصراعات وتقديم العديد من المقترحات صدر القرار 181 والمعروف ﺑ قرار التقسيم في 29 نوفمبر/ تشرين الثاني 1947 بأغلبية 33 صوتا مقابل 13 صوتا ضد القرار وامتناع 10 دول عن التصويت. وأثار هذا القرار جدلا طويلا ولم ينقطع لحد الآن، حتى بدا بحكم استمراره وتواصله قضية راهنية وليست تاريخية فحسب، بسبب الاستقطابات والتقاطعات وتبدل المواقف، ناهيك عما ألحقه من أذى ما يزال مستمرا ومتعاظما بحق الفلسطينيين والأمة العربية ومسألة التقدم والتنمية في عموم المنطقة، خصوصا وأن تداعياته تركت بؤرة توتر مستديمة للصراع في الشرق الأوسط، وهي أقرب إلى بؤرة بركانية عدوانية تنفجر بين الفينة والأخرى دون أن يلوح أي أمل في سلام عادل وأمن وأمان حقيقيين في الشرق الأوسط بوجودها.
إن اقتراب الذكرى المئوية لقرار العصبة بالموافقة على انتداب بريطانيا على فلسطين، يعيد إلى الأذهان المأساة الفلسطينية التي ما تزال ماثلة للعيان كأكبر مأساة عرفها التاريخ المعاصر، كما يعيد مسؤولية بريطانيا «الدولة المنتدبة» والمجتمع الدولي «عصبة الأمم» وبعدها «هيئة الأمم المتحدة»، الأمر الذي يتطلب تصحيح هذا المسار انسجاما مع مبادئ العدالة والإنصاف التي جسدها ميثاق الأمم المتحدة، وريث عهد عصبة الأمم.
وإذا كان من غير الممكن إعادة عجلة الزمن إلى الوراء، إلا أن من المناسب اليوم وقد تعززت شرعة حقوق الإنسان الكونية وتجذرت القيم الإنسانية على المستوى النظري على أقل تقدير بصدور العديد من الاتفاقيات والمواثيق الدولية، كما تعمقت قواعد القانون الدولي والقانون الإنساني الدولي، أن يتوقف المجتمع الدولي لإعادة النظر بما حصل للشعب العربي الفلسطيني وتعويضه عما لحق به من غبن وأضرار وهو ما طالبت به جهات حقوقية عربية وشخصيات بارزة، الأمين العام للأمم المتحدة غوتيريش، داعية إلى الإفساح في المجال لعقد ندوة دولية في مبنى الأمم المتحدة في المقر الرئيسي (جنيف)، وهو المبنى الذي بارك عملية التغيير الديموغرافي القسري في فلسطين، في ظل الانتداب الذي منحته العصبة إلى بريطانيا.
ويبقى الأمل في أن تنعقد هذه الفعالية الحقوقية في تموز / يوليو 2022 وهي مناسبة للذكرى الأممية لمرور 100 عام على تصديق عصبة الأمم على صك الانتداب في فلسطين، وحتى اليوم لم يستلم الدكتور جورج جبور بصفته رئيسا للرابطة السورية للأمم المتحدة وكاتب السطور بصفته الأمين العام للرابطة العربية للقانون الدولي ما يفيد بالتحضير لمثل هذا الحدث، وهو ما يدفعهما لعقد ندوة أو جلسة لمناقشة الأمر على المستوى العربي في إطار توجهات حقوقية وإنسانية بإطلاق حملة تضامن عالمية جديدة مع الشعب العربي الفلسطيني، فكل ما جرى في فلسطين خلال اﻟ 100 عام يعتبر جريمة دولية ضد الإنسانية، لا بد للعالم المتحضر من وضع حد لها.

أكاديمي وحقوقي عراقي (القدس العربي) لندن

 

 

 

العراق: استعصاء

سياسي أم أزمة بنيويّة؟

عبد الحسين شعبان

 

ما يزال العراق يعيش وضعاً استثنائياً بكل ما لهذه الكلمة من معنى. وهذا الوضع الاستثنائي يستمر منذ ما يزيد عن أربعة عقود من الزمن، ففي عام 1980 دخل العراق حرباً مع إيران، ظلّ أوارها مشتعلا لثماني سنوات (1988). وفي عام 1990، بدأت مغامرة غزو الكويت في 2 أغسطس وقادت إلى كارثة حقيقية بمسلسل قائم حتى الآن.
كانت البداية حرب قوات التحالف عام 1991 لتحرير الكويت، لكنها قادت إلى تدمير جزء كبير من البنية التحتية والمرافق الحيوية العراقية، والأكثر من ذلك تم فرض حصار دولي شامل، طحن عظام العراقيين مثلما محق كراماتهم، دام 12 عاماً ونيّف وكان أقرب إلى إبادة جماعية، وتُوّج لاحقاً باحتلال ممنهج في إطار ما أطلق عليه “الفوضى الخلّاقة” (2003)، بزعم امتلاك العراق أسلحة الدمار الشامل والعلاقة بالإرهاب الدولي، فضلاً عن إقامته ديمقراطية تكون نموذجاً للشرق الأوسط. فما الذي حصل؟ أقيم نظام حكم أساسه المحاصصة الطائفية ـ الإثنية والتقاسم الوظيفي وتقديم قوى ما دون الدولة لتصبح ما فوقها، سواءً كانت دينية/ طائفية، أم إثنية أم عشائرية أم حزبية أم جهوية أم غيرها، خصوصاً في ظلّ انتشار السلاح ونشاط ميليشيات تم دمجها بالجيش أو ظلّت خارجه، وتفشّي ظواهر العنف والإرهاب واستشراء الفساد المالي والإداري نتاج الفساد السياسي القائم على المغانم والزبائنية.
ذلك كان حصيلة ما بعد الديكتاتورية التي حكمت البلاد ثلاثة عقود ونيّف من الزمن، فأنتجت تشوّهات عديدة في المجتمع العراقي زادها الحصار الدولي عمقاً وتشعّباً ما أضعف الوطنية العراقية ودفع بالهويّات الفرعية الإثنية والطائفية إلى الصدارة في عملية انفجارية ساعد في تقنينها الدستور العراقي النافذ (2005) تحت عنوان “المكوّنات” التي جاء على ذكرها عدّة مرات (مرّتان في المقدّمة وفي المواد 9 و12 و49 و125 و142) كما حمل الدستور ألغاماً عديدة تكاد تنفجر في كلّ لحظة وأمام أي منعطف وزاوية، مهدّدةً النسيج العراقي ومُضعفةً الوحدة العراقية. جدير بالذكر أن المسوّدات الأولى لقانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية كانت من إعداد نوح فيلدمان الأمريكي المتعاطف مع “إسرائيل”، وشارك في وضع الألغام بيتر غالبرايت وهو دبلوماسي أمريكي، وكان أول سفير للولايات المتحدة في كرواتيا، وتمّ ترحيل العديد من مواد “الدستور المؤقت” إلى الدستور الدائم الذي كانت مرجعيّته الفكرية وخلفيته الحقوقية “قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية”. ولعلّ حالة التشظّي والتفتّت وعدم الثقة نجمت عن ممارسات استعلائية وتهميش من جانب الحكومات المتعاقبة للمجموعات الثقافية، خصوصاً فترة النظام السابق، الذي استمرّ بطرق مختلفة ومنفلتة، الأمر الذي فجّر أزمة الهويّة وقاد إلى تمترسات تهدّد مستقبل التعايش ووحدة البلاد، وهكذا تعكّز أمراء الطوائف والمستفيدون من النظام الجديد على الامتيازات الكبيرة التي حصلوا عليها خارج دائرة المواطنة، والتي جرى تعويمها رغم أن الدستور جاء عليها. وبالطبع فإن هذه الامتيازات سوف لا يتم التنازل عنها طوعاً أو عن طيب خاطر، لأن هؤلاء يعتبرونها مكاسب واستحقاقات للمكوّنات لن يتخلّوا عنها.

تدهور الوضع العراقي قد يقود إلى تصدعات في الوحدة الوطنية، وهو ما كان بايدن قد دعا إليه تحت عنوان الفيدراليات التي هي أقرب إلى كانتونات شبه منفصلة

لعلّ ذلك يشكّل الخلفية للاستعصاء الذي وصلت إليه العملية السياسية، التي لم تعد قادرة على الاستمرار بالطريقة التي بدأت فيها بعد احتلال 2003، حيث وصلت إلى طريق مسدود، وهو ما يعترف به حتى المشاركون فيها، بل والمتحمسون لاستمرارها، رغم تعثّرها وفشلها، خصوصاً أن كلّ طرف يرمي المسؤولية على الأطراف الأخرى، علماً بأن منتفضي تشرين 2019 يضعون المسؤولية كاملة على المشاركين وكلّ حسب حجمه ودوره ونفوذه، دون نسيان العامل الخارجي، ولاسيّما الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وإيران، التي يمتدّ نفوذها إلى العمق العراقي وغيرها من القوى الإقليمية والدولية. خلال السنوات التسع عشرة ونيّف الماضية أُجريَت خمسة انتخابات في عام 2005 و2010 و2014 و2018 ثم في عام 2021، لكن قاعدة العملية السياسية بدلاً من التوسّع زادت ضيقاً وانحساراً ولا جدوى، حتى أن المشاركة في الانتخابات في الدورتين الأخيرتين كانت محدودة جداً ووصلت إلى أقل أو أكثر بقليل من 20% حسب التقديرات المتشائمة والمتفائلة على حدّ سواء. في 15 أكتوبر 2021 أجريت آخر انتخابات، لكن استكمال المراحل التنفيذية بعد اختيار رئيس البرلمان لم يتم حتى الآن، والمقصود اختيار رئيس الجمهورية الذي سيكلّف رئيساً للوزراء بتشكيل الوزارة التي يتمّ عرضها على البرلمان لنيل الثقة أو حجبها. وحسب الدستور النافذ المادة 76 “يكلّف رئيس الجمهورية مرشّح الكتلة النيابية الأكثر عدداً بتشكيل مجلس الوزراء خلال 15 يوماً من تاريخ انتخاب رئيس الجمهورية”، وبما أن الأمر لم يتم، فقد استمرّ الوضع الاستثنائي منذ ما يزيد عن 7 أشهر وما يزال بسبب تقديم كل من الإطار التنسيقي والتيار الصدري قوائم تشير إلى كونها الكتلة الأكبر نيابياً، ولم يتم البت فيها نظراً للطعون المقدّمة، خصوصاً الالتباس حول مفهوم الكتلة الأكبر، أي قبل الانتخابات أو ما بعدها باتحاد قائمتين أو أكثر. واستمرت فرق الشيعية السياسية بالتنافس والسعي لتشكيل حكومة، بتحالف من خارجها ومن داخلها، لكنها لم تفلح حتى الآن، علماً أن السيّد مقتدى الصدر منح قوى الشيعية السياسية المنافسة له مدّة شهر واحد لتشكيل الحكومة، وقال في آخر تصريح له سيكون لنا موقف آخر إن لم يتم التمكّن من تشكيل الحكومة. والاختلاف بين وجهتين، فالتيار يدعو إلى حكومة أغلبية وطنية (ولكن بتحالف الكرد والسنة أي العودة إلى المربّع الأول مع تغيير طفيف لجزء من الشيعية السياسية بدلاً من تمثيلها الكامل)، والإطار الذي يدعو إلى حكومة توافق دون عزل القوى الكبرى (وهو كذلك عودة إلى المربّع الأول).
وهكذا ما تزال العصي قويّة ومعطّلة في دواليب العملية السياسية، والشارع يغلي بسبب شح الخدمات الطبية والتعليمية وارتفاع نسبة البطالة، فضلاً عن النقص الحاد والمعتّق في الكهرباء وأزمة المياه المستفحلة، التي زادتها أزمة القمح بسبب انفجار الأزمة الأوكرانية، ورغم واردات النفط التي بلغت 115 مليار دولار هذا العام وارتفاع أسعاره، فإن الحالة الاقتصادية تزداد تدهوراً والوضع المعيشي يزداد سوءا، حيث لجأت الحكومة إلى تخفيض سعر الدينار أمام الدولار، والأمر يشمل المعضلات السياسية المتراكمة بين الحكومة الاتحادية والإقليم حول النفط والمنافذ الحدودية والرواتب، ناهيك من التنازع حول عائدية بعض المناطق المختلطة، إضافة إلى ما تعرّض له المسيحيون والإيزيديون وبقية المجموعات الثقافية من استهدافات طالت وجودهم ومستقبلهم، حيث اتسع نطاق الهجرة على نحو شديد. وحتى لو تشكّلت الحكومة من أي من الفريقين أو بتعاونهما، فماذا يمكن أن تنتج في ظلّ نظام أسّس على المحاصصة ( رئيس الجمهورية: من حصّة الكرد ورئيس الوزراء: من الشيعية السياسية ورئيس البرلمان: من السنية السياسية). وهكذا تستمر خريطة التقسيم والفرز من الأعلى إلى الأدنى، حيث تتكرّس هذه الحالة بتعويم الوحدة الوطنية والإرادة السياسية الموحّدة، خصوصاً في القضايا الحاسمة والأساسية، الأمر يضع الباحث أمام ثلاثة احتمالات كما تقول الدراسات المستقبلية.
الأول ـ استمرار الوضع على ما هو عليه دون تغيير يذكر، وهذا سيكرّس الانسداد السياسي ويعمّق محتوى الأزمة وقد يقود إلى الانفجار.
الثاني ـ تحسّن الوضع ولو ببطء وبالتدرّج، الأمر الذي يحتاج إلى تفاعل الإرادات السياسية والتخلّص من النظام المحاصصاتي، وهذا يتطلّب تعديلات جوهرية في الدستور لإزالة الألغام منه وتحديد المعاني والمباني بنحو واضح، خصوصاً علاقة بغداد بأربيل، ناهيك من اعتماد مبادئ المواطنة والمساواة الأساس في علاقة المواطن بالدولة. إذْ لا مرجعيّة ينبغي أن تعلو فوق مرجعية الدولة، خصوصاً باعتمادها حكم القانون.
الثالث ـ تدهور الوضع وقد يقود ذلك إلى احترابات وتصدعات في الوحدة الوطنية، وهو ما كان الرئيس جو بايدن قد دعا إليه تحت عنوان الفيدراليات التي هي أقرب إلى دوقيات أو كانتونات شبه منفصلة، بإقامة الحدود فيما بينها وتحديد هويّات المرور (أقرب إلى جوازات سفر) ووضع قوّة فاصلة لمنع الاحتراب، وهو المشروع الذي قدّمته إلى الكونغرس عام 2007، وهذا عملياً يعني تقسيم العراق وإن كان على مراحل ووفقاً للأساس الإثني ـ الطائفي، الأمر الذي قد يقود إلى عمليات تطهير جديدة دينية/ طائفية وعرقيّة، ولعلّ استمرار الحال على ما هو عليه، خصوصاً عدم الثقة بين المجموعات السياسية سيؤدي إلى أن يصبح الأمر الواقع واقعاً.

*أكاديمي وحقوقي عراقي

(القدس العربي)

 

 

جودت سعيد:

هو الذي أنفق عمره في اللّاعنف

 

عبد الحسين شعبان

 

 

            "الإنسان هو اللّاعنف وإلهه العدل والإحسان" هذا ما كتبه بخط يده جودت سعيد المفكر السوري اللّاعنفي، وأرسله إلى جامعة اللّاعنف في نظرة استبشاريه بإنشاء مؤسسة أكاديمية تُعنى بثقافة اللّاعنف وفلسفته وتاريخه والتربية عليه وحلّ الخلافات بواسطته في إطار نشر قيم السلام والتسامح والتآخي والعيش معاً لمقاومة الظلم والدفاع عن الحقوق، وذلك عبر تخصّصات حديثة وغير مسبوقة مثل الأديان واللّاعنف والإعلام واللّاعنف والتنمية واللّاعنف  وصولاً إلى مسرح اللّاعنف.

            رحل جودت سعيد عن دنيانا في اسطنبول فجر يوم الأحد 30 يناير / كانون الثاني 2022 عن عمر ناهز 91 عاماً، حيث ولد في مدينة القنيطرة السورية (1931 / قرية بئر عجم) التابعة للجولان السوري، التي دمّرتها القوات "الإسرائيلية" خلال حرب تشرين / أكتوبر العام 1973 ، ومن المفارقة أن يرحل بعد أيام من رحيل رفيق مشروعه الفكري جان ماري مولر فيلسوف اللّاعنف المعاصر (12 يناير / كانون الثاني 2022 )، فمنذ لقائهما الأول في دمشق العام 2004 كان ثمّة كيمياء بين الرجلين اختلطت مكوناتها وعناصرها بتفاعل كبير في بيروت من خلال الجامعة وزادتها مداخلات ومراسلات عديدة، فضلاً عن حوار موسّع بينهما نشره مولر باللغة الفرنسية وتُرجم إلى اللغة العربية.

مفكر اللّاعنف العربي

            يُعتبر جودت سعيد من أوائل المفكرين العرب الذين استخدموا كلمة اللّاعنف منذ كتابه "مذهب ابن آدم الأول – مشكلة العنف في العالم الإسلامي" الصادر في العام 1964 ، وحاول فيه الرد على سيّد قطب زعيم "حركة الإخوان المسلمين" الذي كان يدعو إلى العنف بزعم أن القرآن الكريم "يشرّع العنف لنُصرة دين الله" في قراءة مبتسرة للنصوص القرآنية دون أخذها بسياقها التاريخي، فضلاً عن تفسيراتها الإغراضية وتأويلاتها السياسوية بعيداً عن روح العصر، وهو ما عارضه سعيد الذي كان يدعو إلى ضرورة ارتقاء البشرية إلى مستوى الروح.

            ويتوقّف جودت سعيد عند حكاية هابيل وقابيل ليؤكّد أن التاريخ بدأ بموقف لاعنفي وليس بجريمة قتل، وأن هابيل خاطر بنفسه لكي لا يكون قاتلاً بما يظهر المسؤولية الأخلاقية التي ينبغي على الإنسان أن يتجشّمها من خلال رفضه أي تواطؤ مع الشر. ويذهب أبعد من ذلك حين يؤكّد أن الإسلام وجميع الأديان والأنبياء يشاطرون ابن آدم في مقاومته للشر والصبر على الظلم الذي ينزل على الإنسان، وذلك بالدعوة إلى الحوار وتحمّل النتائج ورفض الأذى والعزم على مواجهة العنف باللّاعنف، بإعلاء حريّة التفكير والاعتقاد "ولنصبرنّ على ما آذيتمونا" (سورة ابراهيم – الآية 12 ).

            ويُرجع سعيد سبب الحروب إلى عوامل عديدة أهمها العوامل الفكرية، والمقصود بذلك "التعصب" ، سواء لدين أو مذهب أو أيديولوجية سياسية أو نظام أو غير ذلك، والسعي للهيمنة تحت مزاعم شتّى تارة بادعاء الأفضليات أو امتلاك الحقيقة أو المظلومية أو الأغلبية، تلك التي تقوم على الإقصاء والإلغاء والتهميش والعزل، لاسيّما "بالتطرّف" .

            وحين يصبح هذا الأخير سلوكاً وينتقل من القول إلى الفعل يتحوّل إلى "عنف"، والعنف حين يضرب عشوائياً يصير "إرهاباً"، وحين يتجاوز الحدود بهدف إضعاف ثقة الإنسان بالدولة والمجتمع وبالقوانين الوطنية والدولية يكتسب صفة "إرهاب دولي".

   في العنف يتم اختيار الضحية بذاتها ولذاتها، لأن من يمارس العنف يعرف ضحاياه، سواء لأسباب فكرية أم سياسية أم اقتصادية أم دينية أم طائفية أم عنصرية أم شخصية، في حين من يرتكب الإرهاب يستهدف زعزعة الأمن وإحداث الرعب في المجتمع ككل، وبما يتعداه إلى المجتمعات الأخرى، خصوصاً حين يكون الفعل الإرهابي عابراً للحدود.

             وحسب جودت سعيد فإن الكراهية هي "جراثيم فكرية" تتغلغل في بعض المجتمعات كما تخترق الجراثيم  جسم الإنسان ، لدرجة أن بعض الأفراد من جرّاء تأثيرها يقومون بأعمال وحشية، وذلك بسبب الجهل "المادة الحاضنة للكراهية" والدافع أحياناً لاستخدام العنف ضدّ الآخر، والمعرفة هي التي تتيح للإنسان سلوك سبيل الصراط المستقيم، صراط الحكمة بتجنّب الشر والركون إلى فعل الخير وعكس ذلك فالجاهل قد يلتجأ إلى العنف لأن معارفه للتفريق بين الخير والشر شحيحة إن لم تكن معدومة.

اللقاء المثير

            قرأت لجودت سعيد قبل أن أتعرّف عليه ثم التقيت به أكثر من مرّة واستمعت إليه  وحاورته، المرة الأولى في صيف العام 2009  حين جاء إلى الجامعة مهنئاً بتأسيسها، حيث فوجئت بهذا "الشاب" الثمانيني حينذاك وقد جاء من سوريا ليشارك الطالبات والطلاب فصلاً دراسياً، وحين سألته عن رحلته الطويلة والعويصة مع العنف، قال لي: جئت أتزوّد بفلسفة اللّاعنف وثقافته أكاديمياً. وكم كان مسروراً ومتفائلاً بتجربته تلك مع "زملاء" قال عنهم يشاطرونه مقاعد الدراسة وهم بعمر أولاده وبعضهم بعمر أحفاده، الأمر الذي أضفى حيوية على المشهد. والشيء بالشيء يذكر، فقد كان في الصف الذي أدرّسه عن ثقافة اللّاعنف وحقوق الإنسان، الشيخ زهير الدبعي مدير الأوقاف والشؤون الدينية في نابلس  والمسؤول عن 62 جامعاً وتشاطره المقعد الدراسي ابنته التي جاءت هي الأخرى للحصول على شهادة عليا في اختصاص اللّاعنف، كفرع إضافي جديد ولتتعلّم مهارات وخبرات جديدة ومفيدة. وقد أصبح الشيخ الدبعي داعية لاعنفية متمسّكاً بالمقاومة المدنية.

            والتقيت به في العام 2010 ، حيث كان في غاية الانشراح والاستمتاع، فلم يأت للتزوّد من مَعين اللّاعنف أكاديمياً، بل هو من قدّم زاداً وفيراً للطلبة خلال محاضرة ألقاها عن "الإسلام واللّاعنف"، وأشار أنه حاول أن يزرع ثقافة اللّاعنف في سوريا منذ أن دخل اللّاعنف إلى حياته قبل 6 عقود ولم يخرج منها. وكان قد درس في الأزهر الشريف وعاد إلى بلده لأداء الخدمة العسكرية وتجادل مع مرؤوسيه فاعتقل أكثر من مرّة، وانصرف بعدها إلى الزراعة وتربية النحل وإلى إلقاء المحاضرات في اللّاعنف.

            وكنت قد سألته كيف اهتدى إلى اللّاعنف، فقال: تلك حيرتي الإنسانية منذ يفاعتي، حيث كنت وأنا الشركسي أميل إلى التواصل والتعامل والتفاعل مع الآخر على أساس العيش المشترك والمساواة واعتماد قيم التسامح والسلام، وأضاف حتى بعد تدمير القنيطرة، لم أتخلّ عن قناعاتي  بأهمية المقاومة اللّاعنفية، بل وضرورتها لردع العدوان.

            وحين اندلعت حركة الاحتجاج السورية في العام 2011 كان جودت سعيد من أوائل الذين حذّروا من اللجوء إلى العنف وسفك الدماء، وذلك أحد ثوابته الأساسية التي ارتكزت عليها نظرته إلى العلاقات الإنسانية، فضلاً عن قضية السلام الذي ينبغي أن يكون هدفاً للبشرية جمعاء.

رافد اللّاعنف الإسلامي

            قارب سعيد فكرة اللّاعنف وفلسفته من رافده الإسلامي، وهناك نماذج باهرة يزخر بها التاريخ العربي – الإسلامي مثل "حلف الفضول" ، حين اجتمع فضلاء مكّة في دار عبدالله بن جدعان وتعاهدوا على إعادة الحق إلى أصحابه وردّ الظلم وأن لا يدعوا مظلوماً من أهل مكة أو من دخلها إلّا ونصروه على ظالمه وأعادوا الحقوق إليه.

 أو من خلال "دستور المدينة" ، وهي "شرعة" كتبها الرسول محمد (ص) الذي جاء "يثرب" مهاجراً، فضمّنها حقوق الطوائف والأديان والمجموعات والعشائر المختلفة (يهود نجران والنصارى والمسلمون -  المهاجرون والأنصار) باحترام حريّة الدين والمعتقد. وتُعتبر صحيفة (دستور) المدينة نواة للدولة الجديدة بالإقرار بالتعددية والتنوّع للمجموعات الثقافية.

 أو "صلح الحديبية" الذي أكد لجوء الرسول محمد (ص) إلى الصلح والسلم والتسامح واستبعاد جميع الوسائل لتجنّب الحرب واللجوء إلى العنف، وقد اضطّرت قريش إلى الرضوخ له.

 أو "العهدة العمرية" التي هي عبارة عن وثيقة أصدرها الخليفة الثاني الفاروق عمر بن الخطاب (رض) بعد معركة اليرموك التي انتصر فيها العرب على الروم، فحين دخل مدينة القدس العام 15 ﻫ تعهّد ﺑ حفظ الحقوق لكونه مؤتمناً على حياة  نصارى وطوائف القدس وأمنهم وكنائسهم وأموالهم. وكان ذلك بحضور البطريرك صفرنيوس.

 أو "وثيقة فتح القسطنطينية" التي أعطاها محمد الفاتح إلى سكان الأستانة (اسطنبول) بعد فتحها (857 ﻫ / 1453 ﻡ)، منحهم حقوقاً أساسية هي الأمن والسلامة الشخصية وحفظ المال والعرض وتأدية الطقوس والشعائر الدينية، خصوصاً وأن معظم سكّانها كانوا من المسيحيين.

            وقد استهوت الفيلسوف الفرنسي جان ماري مولر فكرة المقاربة الإسلامية للّاعنف التي أقدم عليها جودت سعيد، وحاول هو في كتابه "نزع سلاح الآلهة" (بيروت – 2015 ) أن يأـتي عليها من منظور فريضة الإسلام والمسيحية، فحسب مولر ليس هناك صلة بين الإسلام وبين "الإسلامية" والمقصود بذلك الإسلاموية أو الإسلامولوجيا أي تحويل الدين إلى أيديولوجيا وهذه الأخيرة نسقية وتسيّدية في حين أن دين الإسلام يعلّم التسامح والسلام والعدل والرحمة والحب وهو ما يسمّيه "إسلام اللّاعنف" وهو الكشف عن النور في جوهر الدين، والأمر سيّان للمسيحية وجميع الأديان. 

ووفقاً  لجودت سعيد فإن اللجوء إلى العنف ستكون أثاره وخيمةً ليس على الآخر فحسب، بل ضدّ النفس أيضاً، علماً بأن عدم اللجوء إلى العنف لا يعني تخلياً عن الكفاح من أجل العدالة، بل اختيار أسلوب أنجع وأقلّ خسارة من المواجهة العنفية أي عدم مجابهة العنف  بعنف مضاد، بل رفض تقديم الولاء والطاعة لمن يقوم به، وذلك أفضل السبل وأقلّها ضرراً وأكثرها إنسانيةً.

التنويري العرفاني

            يمكنني القول أن جودت سعيد هو أحد كبار الفقهاء الإصلاحيين والتنويريين والإشراقيين العرفانيين، وهو امتداد للشاعر والمفكر الإسلامي الهندي محمد إقبال الذي تأثر بأرسطو وجلال الدين الرومي وغوته ونيتشه. وهو تواصُلٌ مع مدرسة علي عبد الرازق وطه حسين والمفكر الجزائري مالك بن نبي، وذلك في إطار الموجة الثانية بعد حركة الإصلاح الأولى في نهاية القرن التاسع عشر المتمثّلة بجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وعبد الرحمن الكواكبي ورفاعة الطهطاوي وخير الدين التونسي وحسين النائيني. وهؤلاء جميعهم  دعوا إلى اعتماد العقل أساساً في الدين والمجتمع وهو ما يدعو إلى العلم، فكل عقل نبي على حدّ تعبير الشاعر أبو العلاء المعرّي الذي يقول:

            أيها الغرّ إن خصصت بعقل / فاتبعه فكل عقل نبي.

      فشاور العقل واترك غيره هدراً / فالعقل خير مشيرٍ ضمّه النادي

 

            لم يكن جودت سعيد سياسياً أو معنياً بالسياسة وإن كان همه سلام العالم، إلّا أن دعوته كانت أخلاقية ثقافية تنويرية، لأنه كان يدرك حجم الكوارث والمآسي التي يسببها العنف، وعلى غرار توماس هوبز كان يعتقد أن لا إصلاح حقيقي دون إصلاح الفكر الديني، ولذلك فقد سعى إلى نشر الثقافة الدينية المتسامحة التي تقوم على الحقيقة بعدم تسييس الدين وتوظيفه لأغراض حزبية أو طائفية أو سلطوية، وذلك بتجاوز العصبيات الدينية والمذهبية والأيديولوجية التفريقية.

نشرت في مجلة أفق (مؤسسة الفكر العربي) وفي جريدة الزمان (العراقية)

 

أحمد بن بلّة…

الطهرّية الثورية

 

عبدالحسين شعبان

 

كان أول مرّة ألتقي بها بالزعيم الجزائري أحمد بن بلّة في العام 1999، وكنت في جنيف، وعلى هامش مؤتمر دُعيت إليه من جانب وزير خارجية سويسرا جوزيف دايس، بمناسبة الذكرى الـ50 لتوقيع اتفاقيات جنيف الأربع في 12 آب/أغسطس 1949، في إطار مجموعة “خبراء المجتمع المدني”، علماً أن الاجتماع الرسمي الذي يمثّل الحكومات قد ألغيّ بعد 10 دقائق من بدئه بسبب معارضة الولايات المتحدة لانعقاده ممالأةً لإسرائيل التي تقف موقفاً سلبياً من اتفاقيات جنيف، وخصوصاً ملحقَيها: الأول الذي إعتبر الاستيطان جريمة دولية، وهو البروتوكول الخاص بحماية ضحايا المنازعات الدولية المسلّحة. أما البروتوكول الثاني فهو الخاص بحماية ضحايا المنازعات المسلّحة غير الدولية، وكلاهما صادران عن المؤتمر الدبلوماسي المنعقد في جنيف 1974 – 1977 مع دعوة لتطويرها وجعلها أكثر استجابة للتطورات والمتغيّرات الدولية.
وعلى الرغم من انفضاض المؤتمر الرسمي (الحكومي) إلّا أننا واصلنا اجتماعنا وأضفنا نقطة جديدة على جدول أعمالنا ألا وهي التغوّل الدولي للقِوى المتنفّذة، ومحاولة فرض رأيها على الاجتماع الأمميّ، وهكذا استثمرت مجموعة الخبراء في المجتمع المدني فرصة اجتماعها في مبنى الأمم المتحدة، لإصدار عدد من القرارات والتوصيات التي رفعتها إلى الأمم المتحدة بمناسبة مرور خمسة عقود على إبرام اتفاقية جنيف.
وقفتُ أمام بن بلّة، أتفحصه قبل أنّ نجلس ونتحدث في همومنا المشتركة، وكان يحضر معي تاريخ طويل وعويص من الذكريات والحكايا والقصص عن الثورة الجزائرية التي اندلعت في الأول من تشرين الثاني/نوفمبر 1954، ففي أول تفتح وعييّ كنت أهتف مع أبناء جيلي في العراق للثورة الجزائرية ولأحمد بن بلّة (أحمد بن بلّة… يسوه العرب كلّه) وكم كانت مؤثرة عملية اختطاف الطائرة من جانب المخابرات الفرنسية خلال تحليقها من الرباط إلى تونس وعلى متنها خمسة من قادة ثورة التحرير الجزائرية وهم: أحمد بن بلّة ومحمد خيضر وحسين آية أحمد ومحمد بوضياف ومصطفى الأشرف، وذلك في 22 تشرين الأول/أكتوبر عام 1956.

الجزائر وثورة تموز العراقية

شهدت الأشهر الأولى لثورة 14 تموز/يوليو 1958، تعاطفاً منقطع النظير وانعطافة كبيرة باتجاه الثورة الجزائرية، حتى أنّ الزعيم عبد الكريم قاسم أعلن دعمه وتزويده الجزائر بالأسلحة والمعدّات ومساعدتها بالأموال أيضاً، وذلك استكمالاً لجهود القاهرة وجمال عبد الناصر في دعم ثورة الجزائر، وحين قررّت الجزائر بعد توقيع “اتفاقية إيفيان” في العام 1962 مع فرنسا ونالت بموجبها استقلالها، دخول معركة التعريب، تطوّع الآلاف من الأساتذة والمدّرسين العراقيين في تلبية نداء العروبة والواجب، للقيام بهذه المهمة النبيلة، وذلك فرحاً واغتباطاً باستعادة هذا البلد العربي، الأصيل والمكافح، هوّيته وروحه.
وقد قام الصديق الدكتور عثمان سعديّ سفير الجزائر في العراق في السبعينيات باقتفاء أثر الثورة الجزائرية في الشعر العراقي، وكان حصيلة عمله الموسوعيّ أن وجد 255 قصيدة نظمها 107 شاعراً وشاعرة “عراقيون”.
ومن بين هؤلاء الشعراء الكبار: الجواهري وبدر شاكر السيّاب وعبد الوهاب البياتي ونازك الملائكة. ويتألف كتاب عثمان سعدي من نحو 1000 صفحة، وطبع في جزئين (ثلاث طبعات) عن وزارة الثقافة الجزائرية.

تظاهرة شيوعية

وإذا كنت أنسى فلا أنسَى التظاهرة التي نظمًها الحزب الشيوعي العراقي والتي كانت تهتف للجزائر وثورتها وعروبتها وذلك خلال “مباحثات إيفيان” مع فرنسا وهدفها التضامن مع الشعب الجزائري والضغط على المجتمع الدولي للإسراع في منح الجزائر استقلالها، خصوصاً بعد أن فشلت محاولات الاستعمار الفرنسي في “فرنسة الجزائر” وتهميش هوّيتها ولغتها، من جهة، ومن جهة أخرى إخفاق فرنسا في قمعها للثورة الجزائرية، وفلّ عزيمة الثوار، سواء من جانب الجيش الفرنسي أو قوات “الكوماندوز” والمظليين والمرتزقة من جنسيات متعددة، أو المستوطنين الذين شكلوا منظمة سريّة باسم “اليد الحمراء” لخطف المناضلين الجزائريين وتعذيبهم. ولا يفوتني إلا أن أذكر الضربة القوية التي تعرّضتُ لها على ظهري حين هاجمتنا الشرطة لتفريق صفوفنا واعتقلت عدداً من المشاركين.

أول زيارة للجزائر

كانت أول زيارة لي للجزائر في العام 1982، حيث كنتُ ضمن وفد شعبي عراقي ضمّ: عوني القلمجي ومحمد النهر والمشهداني وإلتحق بنا كاظم حبيب، حيث كان مقيماً في الجزائر، والوفد كان باسم “جوقد” أي (الجبهة الوطنية والقومية الديمقرطية التي تأسست في دمشق نهاية العام 1980، والمجموعة المشار إليها تمثل بعثيين وقوميين وشيوعيين) وقد احتفيّ بنا بشكل خاص وأسكنّا في منطقة (سيدي فرج)، والتقينا فاعليات سياسية ومهنية وأكاديمية جزائرية.
بعد أن قابَلني بن بلّة بابتسامة لا تخلو من مسحة حزن واضحة، سألته كيف قضى أيامه في السجن؟ والتي زادت على أربعة عشر عاماً، فتدفق يتحدث عن معاناته والجحود الذي تعرّض له، وعدم الوفاء من جانب البعض، الأمر الذي ندمتُ عليه وشعرت بالحرج من سؤالي، وهكذا استبدلت الموضوع للحديث عن العراق، فـأشاد بالدور الرسمي العراقي على الرغم من معرفته أنني لست على توافق معه، لكنني كنت أقف بشدّة ضد الحصار المفروض على بلدي وأدين المشاريع الخارجية التي لا تضمرُ للعراق ودّاً، وهدفها بالدرجة الأولى تحقيق مصالحها الأنانية الضيقة ومآربها اللّا أخلاقية، فالحصار فعل إبادة لشعب أعزل وليس عقاباً للحاكم.
واتفقنا على تكثيف الجهود وتعبئة الطاقات وفتح الحوار مع أنشطة وفاعليات دولية حكومية وغير حكومية، للضغط بجميع الوسائل من أجل رفع الحصار المفروض على العراق، وانتهزتُ تلك المقابلة لتأكيد رأييّ بشأن أهمية وضرورة وقف الانتهاكات لحقوق الإنسان والانفتاح على القِوى الوطنية وإجراء إصلاحات داخلية وإطلاق الحريّات وإقرار التعددية والتنوّع وحكم القانون وحلّ القضية الكردية وإعادة المهجرين العراقيين وتعويضهم. وتلك منظومة كنت أدعو إليها، فمواجهة الإمبريالية ومشاريعها تتطلّب خطوات داخلية عملية وانفتاحا على القِوى الوطنية والتخليّ عن نهج احتكار العمل السياسي وقمع الحريات. وهي رسالة كانت رديفاً لخطابي بشأن لاإنسانية الحصار الدولي الجائر الذي تفرضه واشنطن.

ضد الحصار

وصادف حينها، وفي الفترة ذاتها، أن نظّم النادي العربي ورئيسه ضياء الفلكي مؤتمراً في لندن ضد الحصار الدولي الجائر، وبالتعاون مع المؤتمر القومي العربي وزعيمه خيرالدين حسيب، وذلك بعد مؤتمر المنظمة العربية لحقوق الإنسان التي كنت أتشرّف برئاستها، وكنت قد ألقيت فيه بحثاً بعنوان “الحصار الدولي وتشريع القسوة” تناولت فيه الحصار المفروض على العراق وليبيا والسودان، فضلاً عن الجوانب النظرية والقانونية لكون الحصار عملية إبادة جماعية. وكان من المفترض حضور بن بلّة لهذا المؤتمر، حيث قام أديب الجادر بإيصال الدعوة إليه، لكنّ ظرفاً طارئاً حال دون حضوره، كما علمت.

حق تقرير المصير

أمّا اللقاء الثاني فكان في الجزائر العام 2010، وذلك بمناسبة مرور 50 عاماً على صدور قرار الجمعية العامّة للأمم المتحدة رقم 1514 بشأن “تصفية الكولونياليّة” الصادر في 14 كانون الأول/ديسمبر 1960، وهو الأمر الذي فتح الباب أمام تطورات حق تقرير المصير على المستوى الكوني، حيث ظل خلال الفترة الممتدة ما بين الحربين العالميتين (الأولى والثانية) أقرب إلى مبدأ أخلاقي أو قيميّ أو مطلب سياسي منه إلى الصيغة القانونية التي كُرست في ميثاق الأمم المتحدة، ولاسيمّا ما تعرضت له البشرية من مآسي خلال الحرب العالمية الثانية 1939 – 1945، علماً أن وثيقة الأطلسي الصادرة عن الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت ورئيس وزير بريطانيا ونستون تشرشل في العام 1941 لَحظت في أحد بنودها “مبدأ الحقوق المتساوية وحق تقرير المصير للشعوب”، وكانت رافعتان أساسيتان قد ساهمتا في إعلاء مبدأ حق تقرير المصير، وهما:
الرافعة الأولى – هي الحركة اليسارية الاشتراكية وتيارها الأساسي الماركسي الذي تجسدّ في مؤتمر الأممية الثانية – المنعقد في لندن العام 1896، والذي اتخذ قراراً بشأن حق تقرير المصير، حين أعلن “تأييده لحق جميع الأمم في تقرير مصيرها”، وكما أوضح فلاديمير لينين، أن فكرة “حق الأمم في تقرير مصيرها”، تعني بوجه الحصر حق الأمم في الاستقلال بالمعنى السياسي، وفي حرية الانفصال السياسي عن الأمة المتسلّطة المضطهِدة. ومن الناحية العمليّة أيّد البلاشفة استقلال بولندا وفنلندا وأوكرانيا وليتوانيا.
وكان لينين مثل سائر الاشتراكيين يعتقد أن القوميات إحدى مظاهر الحقبة الرأسمالية التي ستزول بزوالها، ولذلك فقد كان خياره قيام الدولة – الأمة وصولاً إلى المجتمع الاشتراكي، الأمر الذي يحتاج إلى قراءة جديدة وتدقيق أشد ومراجعة نقدية في ضوء التجارب الاشتراكية السابقة، وفي ضوء الواقع وما أفرزه من ظواهر جديدة متداخلة ومتشابكة.
وكان “مرسوم السلام” الذي صدر بعد ثورة تشرين الأول /أكتوبر العام 1917، خطوة متقدّمة على طريق حق تقرير المصير، والذي أكدّ على السلام بلا ضم أو استيلاء على أراضي الغير وإلحاق شعوب أجنبية بالقوّة بها، واعتبر الحرب جريمة ضد الإنسانية، مثلما أكدّ “إعلان حقوق شعوب روسيا” على حق تقرير المصير، بما فيه الانفصال وتكوين دولة مستقلة.
أمّا الرافعة الثانية، فقد كانت إعلان الرئيس الأمريكي وودرو ويلسون مبادئه الـ14 والتي أكدّت على حق تقرير المصير، ولعبت دوراً كبيراً ومركزياً في تطوّر فكرة حق تقرير المصير على المستوى العالمي، ولاسيمّا خطابه الشهير في الكونغرس الأمريكي في 8 كانون الثاني/يناير 1918، حيث جاء عليها في الفقرة 13 واعتبرها لاحقاً في خطاب ألقاه في شباط/فبرير من العام نفسه مبدأً واجب التطبيق، وحاول إدخالها في عهد عصبة الأمم التي تأسست العام 1919، لكن الظروف لم تكن موآتية لذلك بسبب تحفظات بعض الدول ومصالحها.
وكان أحمد بن بلّة وهو يستمع إلى التحليلات النظرية والعملية، خصوصاً بعد قيام الأمم المتحدة، يستعيد دور الجزائر التاريخي، حتى وإنْ كانت لا تزال حينها تحت الاستعمار الفرنسي، إلّا أن كفاحها ومقاومتها لعبت دوراً كبيراً في بلورة قرار الأمم المتحدة 1514 الصادر في العام 1960 بشأن “تصفية الكولونيالية” وحق تقرير المصير، وهي جدلية مستمرة بحيث أصبح الحق مبدأً قانونياً وسياسياً وإنسانياً، وردَ ذكره أيضاً في العهدين الدوليين الصادرين عن الأمم المتحدة: الأول، في 16 كانون الأول/ديسمبر 1966، العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، الذي دخل حيّز التنفيذ في كانون الثاني/يناير 1976، والثاني، العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية والذي دخل حيّز التنفيذ في 23 آذار/مارس 1976، حيث نصّت المادة الأولى من كليهما على حق تقرير المصير.

بهلوي- صدّام

لفتَ أحمد بن بلّة انتباهي إلى أنّ القاعة التي نجتمع فيها، وخصوصاً في جلسة الافتتاح في “قصر المؤتمرات” هي التي ضمّت لقاء شاه إيران محمد رضا بهلوي ونائب الرئيس العراقي حينها صدّام حسين، وذلك بوساطة من الرئيس هواري بومدين ودور متمّيز لوزير الخارجية الجزائري آنذاك عبد العزيز بوتفليقة، خلال مؤتمر انعقد في الجزائر العاصمة، حيث تسلّم يومها بومدين رئاسة الاتحاد الإفريقي، وتم خلال هذا المؤتمر وعلى هامشه إبرام اتفاقية الجزائر في 6 آذار/مارس 1975، التي أدّت إلى تخليّ شاه إيران عن الحركة الكردية المسلّحة التي انهارت حينها، واضطر الزعيم الكردي مصطفى البارزاني إلى وقف القتال والانسحاب إلى إيران مع العديد من قيادات وكوادر الثورة المسلّحة.
وبموجب اتفاقية الجزائر قدّم نظام الحكم في العراق تنازلات عديدة لصالح إيران، منها ما يتعلق باعتبار “خط الثالويك” هو الحدّ الفاصل في الحدود النهرية لشط العرب، وهو خط وهميّ يبدأ من أعمق نقطة في وسط مجرى النهر وحتى البحر، في حين أن شط العرب هو نهر وطني عراقي، إضافة إلى تنازلات بحدود 1000 كم2 بالحدود البريّة في منطقة نوكان (ناوزنك) في كردستان العراق، وكذلك ما يتعلق بمحاربة حركات التمرد، ولاسيمّا في ظفّار واتفاقية تعاون أمني لمنع تسلّل المعارضة إلى البلدين.

مؤتمر غير تقليدي

كان مؤتمر الجزائر مؤتمراً غير تقليدي، وقد حضره 200 شخصية سياسية وأكاديمية وثقافية، وتكلّم فيه بيار غالون نيابة عن المجتمع المدني في افتتاحه وهو أمر غير مألوف، كما تحدث دايفيد أوتاي عن الإعلام والسينما، وتناوب على المنصّة نيفين تي بينه نائبة رئيس الفيتنام، وتابو إمبيكي رئيس جنوب إفريقيا وعبد العزيز بلخادم ممثلاً عن الجزائر، إضافة إلى تاي بروك زرهون عن الأمم المتحدة، وعمرو موسى عن جامعة الدول العربية، وجون بينغ رئيس منظمة الوحدة الإفريقية، وتكلم أولو سيجون أوبانجو رئيس نيجيريا السابق. وقد أعاد المؤتمر عزّ حركات التحرر الوطني ومجدها حيث كانت في قمّة تألقها في سنوات الخمسينيات وساهم كفاحها في بلورة صدور القرار الخاص “بتصفية الكالونيالية” العام 1960.
وكم كنت فرحاً حين صادف جلوسي بالقرب من أحمد بن بلّة في المؤتمر، فحاولت أن أقتنص الفرصة لمراقبته، وأتذّكر على الرغم من وضعه الصحي، فقد حاول الوقوف أحياناً ليبدأ بالتصفيق حيث تضجّ القاعة حينها بذلك، وكم كان مزهوّاً أنّ مثل هذا الانجاز التاريخي كان للجزائر دورٌ فيه حيث كانت سبّاقة إليه في إطار حركات التحرر الوطني.

كوبا- الحلم الغامض

لعلّ هذه الذكرى ظلّت عالقة بذهني كثيراً، وحاولت استعادتها باستمرار، وجئتُ على ذكر بن بلّة في كتابي الموسوم “كوبا – الحلم الغامض” (دار الفارابي) بيروت 2011، بفقرة طويلة بعنوان “غيفارا وأحمد بن بلّة – العنفوان”، والعنوان يعكس نُبل مقاصد تلك الأيام الثورية ذات الطهرّية العالية والشعور بالتضامن الأممي والمصير المشترك.
وفيما يلي نصّ الفقرة التي سبق ونُشرتها في إحدى الصحف العربية والتي نقلتها عنها العديد من المواقع والصحف الإلكترونية قبل ضمّها إلى الكتاب حيث مثلت هذه الفقرة حصيلة حوار ومتابعة واستقصاء:
“ثلاث شخصيات عربية كبرى جمعتها صداقة مديدة مع تشي غيفارا، أولّها أحمد بن بلّة أول رئيس جزائري بعد الاستقلال، وثانيها الرئيس جمال عبد الناصر، وثالثها المهدي بن بركة الذي اختطف في باريس في ظروف غامضة.
تميّزت علاقات غيفارا بأحمد بن بلّة بالتفاعل والتأثّر المتبادلين، لاسيمّا وقد نظرا إلى أفريقيا كفضاء جديد للثورة، خصوصاً في أعقاب إحراز الجزائر استقلالها بعد معاناة مع الاستعمار الفرنسي دامت 132 عاماً. وكان غيفارا قد عُيّن في بدايات الثورة الكوبية “سفيراً بصلاحيات مطلقة” من قِبل زعيم الثورة الكوبية فيدل كاسترو، حيث توّجه في 12 حزيران/يونيو 1959 إلى زيارة العديد من البلدان للتعريف بكوبا وثورتها ونضال أمريكا اللاتينية، في جولة طويلة زار خلالها 15 دولة.
وفي جولته تلك أبرم غيفارا اتفاقيات تعاون اقتصادية وعسكرية مع العديد من البلدان في آسيا وأفريقيا، ولاسيمّا دول عدم الانحياز. وزار الجمهورية العربية المتّحدة (القاهرة ودمشق)، كما اطلّع على تجاربها فيما يتعلق بالإصلاح الزراعي والنظم الاقتصادية والاجتماعية ومشاكل التصنيع وسبل الانفكاك من هيمنة الاحتكارات وإحراز الاستقلال.
بعد الاستفتاء الذي حصل في الجزائر يوم 13 تموز/يوليو 1962 وتصويت الجزائريين على الاستقلال عن فرنسا بنسبة 93,7% في 19 آذار/مارس من العام ذاته بين قيادة الثورة الجزائرية (جبهة التحرير الوطني الجزائرية) والحكومة الفرنسية، وقد تشكّلت الحكومة الجزائرية برئاسة أحمد بن بلّة أول رئيس بعد الاستقلال.
وكان من أوائل البلدان التي زارها أحمد بن بلّة هي كوبا، وذلك بعد مشاركته في أعمال دورة الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، حيث توجّه بعدها إلى زيارة كوبا في 16 تشرين الأول (أكتوبر) 1962، والتقى فيدل كاسترو وتشي غيفارا وراؤول كاسترو وقيادات الحزب والدولة.

دلالات زيارة هافانا

ولعلّ للزيارة دلالاتها: الأولى أنها جاءت إثر احتدام حدّة التوتر بين واشنطن وهافانا بسبب أزمة الصواريخ الكوبية التي بناها الاتحاد السوفييتي في الجزيرة لمواجهة احتمالات هجوم تقوم به واشنطن للإطاحة بالنظام الكوبي، تلك التي تطورت إلى أزمة دوليّة عُرفت بأزمة الصواريخ بعد خليج الخنازير والتي كادت تهدد بحرب عالمية، لولا محاولات احتوائها من جانب الإدارة الأمريكية والرئيس جون كيندي والقيادة السوفييتية ممثلة في نيكيتا خروشوف حيث تمت المساومة على سحب الصواريخ، مقابل الحصول على تعهّد يقضي بعدم مهاجمة الجزيرة، في إطار تسوية سمحت بها ظروف تلك الأيام.
والدلالة الثانية أن الزيارة كانت بإصرار من جانب أحمد بن بلّة الذي يقول إن كيندي حـّذره من زيارة هافانا مباشرة بعد حضوره اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة، ويضيف: «دُعيت في صباح 15 تشرين الأول (أكتوبر) (أي قبل يوم من زيارته إلى كوبا) إلى البيت الأبيض حيث أجريتُ حوارات ساخنة وصريحة مع الرئيس كيندي بشأن كوبا» ويواصل: «أجابني الرئيس على سؤال مباشر وجهته له: هل أنتم ذاهبون إلى مواجهة مع كوبا؟» ومن دون أن يترك مجالاً للشك في نواياه الحقيقية أجاب: «لا إذا كانت الصواريخ السوفييتية غير موجودة.. نعم إذا كان الأمر عكس ذلك»، ولعلّ إجابة الرئيس كيندي تلك تحمل قدراً من التهديد ورسالة إلى القيادة الكوبية عبر أحد أصدقائها وهو أحمد بن بلّة، ويمضي أكثر من ذلك ليؤكد تهديداته حتى بالنسبة لـ”بن بلّة” حين يقول الرئيس الجزائري الأسبق: «حاول كيندي أن يُثنيني وبإصرار عن الذهاب من نيويورك إلى كوبا مباشرة»، حتى إنه ذكر احتمال حصول اعتداء على الطائرة التابعة للقوات الجوية الكوبية التي سأستقلها، من قبل «المعارضة» الكوبية المتمركزة في ميامي.
ويجيبه بن بلّة بكل ما تحمل إجابته من بساطة وعفوية، لكن لها دلالاتها في الصدق والشجاعة حين يعلّق ردّاً على تهديداته المبطّنة: «إنّي فلاح لا ترهبني المعارضة الجزائرية ولا الكوبية» (من خطاب ألقاه بن بلّة حين أدلى بشهادته عن غيفارا بعد مرور 30 عاماً على استشهاده ونقلته جريدة لومانيتيه الفرنسية التي يُصدرها الحزب الشيوعي الفرنسي في 9 تشرين الأول/أكتوبر/1997).
كان تاريخ زيارة بن بلّة إلى كوبا هو تاريخ صداقة مديدة مع غيفارا استمرت بضع سنوات قبل أن يقطعها الانقلاب العسكري الذي قاده الجنرال هواري بومدين في 19 حزيران (يونيو) عام 1965، ويذكر بن بلّة في شهادته أن يوم 9 تشرين الأول (أكتوبر) 1967 مكتوب في ذاكرته بأحرف من نار، لاسيّما وهو سجين متفرّد، عندما سمع من جهاز الراديو إعلان خبر رحيل «أخيه» غيفارا كما يقول.

غيفارا في الجزائر

زار غيفارا الجزائر بمناسبة الذكرى الأولى للاستقلال ممثلاً لكوبا وذلك في 4 تموز/يوليو عام 1963، ومكث فيها نحو 3 أسابيع، اندمج غيفارا خلالها بالجو الجزائري طبيعياً وسياسياً، حيث المناخ الحار و«الناشف» الذي ذكّره – كما يشير- بطبيعة أرض الأرجنتين التي ترعرع فيها، كما أبدى إعجابه بقدرة الشعب الجزائري وبطولته في طرد المستعمرين الفرنسيين، لاسيّما بعد اندلاع الثورة، وفي حرب الأنصار والكفاح المسلح الذي دام 7 سنوات (من عام 1954 وحتى عام 1962)، وإضافة إلى علاقته مع بن بلّة، فقد استضاف في كوبا خلال عودته قائد القوات المسلحة الجزائرية هواري بومدين بمناسبة يوم 26 تموز (يوليو)، وهو يوم انطلاقة الحركة المسلحة التي قادها فيدل كاسترو.
زار غيفارا الجزائر مرّة أخرى بعد زيارة نيويورك في 9 كانون الأول (ديسمبر) 1964، حيث ألقى خطاباً باسم كوبا في الجمعية العامة للأمم المتحدة، وكان غيفارا قد التقى خلال وجوده في نيويورك الزعيم الأسود مالكولم إكس ووجه عِبرَه رسالة تضامن إلى «إخوته وأخواته» من الأصول الإفريقية، ولاسيّما أن أفريقيا حسب تقييماته تعتبر مرتكزاً جديداً للثورة التي شغلته.
ودامت زيارة غيفارا إلى الجزائر نحو 3 أشهر، حيث وصلها يوم 18 كانون الأول (ديسمبر) 1964 وكانت هذه الزيارة الثالثة، واتفق مع بن بلّة على دعم ومساندة حركات التحرر الوطني، معتبراً الجزائر العاصمة البيضاء المنوّرة للثورة، غرفةَ قيادة، وهي في الوقت نفسه القاعدة السرّية للعديد من قيادات وكوادر حركات التحرر في أميركا اللاتينية وأفريقيا، وقد سهّلت معرفة كل من غيفارا وبن بلّة للغة الفرنسية والإسبانية، صداقتهما الحميمة وتفاعلهما المستمر والمتواصل.
وقد اقترح غيفارا على بن بلّة أن تصبح الجزائر محطة لتزويد الحركات الثورية الأمريكية اللاتينية بالأسلحة، دفعاً لعيون واشنطن التي هي قريبة من كوبا، وكان رد بن بلّة الموافقة الفورية والإيجابية، بل والأكثر من ذلك تحضير التجهيزات اللازمة لذلك، وحدد مركز القيادة الذي وُضع تحت تصرف غيفارا فيلاّ كبيرة في مرتفعات العاصمة تدعى فيلاّ «موزيني»، ولهذه الفيلاّ رمزية خاصة، إذ كانت مخصصة للتعذيب ومركزاً للفرنسيين أيام الاحتلال، وإذا بها تتحول إلى مركز للحركات التحررية لدول العالم الثالث، وللتغطية على نشاطها في أميركا اللاتينية، وقد أُنشئت عدة شركات للاستيراد والتصدير بهدف التمويه وذرّ الرماد في العيون.
أفريقيا: الحلقة الضعيفة
اعتقد غيفارا أن أفريقيا هي الحلقة الضعيفة للإمبريالية وهي غنية بالمواد الأوليّة، ولذلك يتوجب كسر هذه الحلقة من السلسلة، وتحضيراً لفكرته قام بزيارة 7 بلدان إفريقية نالت استقلالها في حينها، واحتسبت ضد المعسكر الإمبريالي، ولعلّ غيفارا هو من دعا إلى تأسيس اتحاد الجمهوريات الاشتراكية الإفريقية، وكان قد قال: «وجدتُ شعوباً بكاملها تحت الضغط مثل الماء الذي يوشك على الغليان»، وقد سُمّي خلال زيارته إلى جمهورية مالي في 17 كانون الثاني (يناير) 1965 بـ «ماو أميركا اللاتينية» (نسبة إلى ماو تسي تونغ).
خطاب الجزائر الشهير
وخلال زيارته الرابعة إلى الجزائر في 24 شباط (فبراير) 1965 ألقى خطابه الشهير في ندوة اقتصادية لمنظمة التضامن الأفروآسيوي، والذي عُرف لاحقاً «بخطاب الجزائر»، وهو وثيقة أو لائحة مرافعة ضد بعض مواقف الاتحاد السوفييتي كما جرت الإشارة إليه، علماً أن كوبا لم تكن سوى مراقبٍ في المؤتمر، هذه الوثيقة التي تشكل محتوى الفكرة الجيفارية بعد 6 سنوات على انتصار الثورة الكوبية، وجوهر الخلاف الذي اتسّع بينه وبين التيار الاشتراكي الرسمي السائد.
ومن الجزائر توجّه إلى القاهرة في 2 آذار (مارس) 1965 ومكث فيها 8 أيام كما ذكرنا، بعد سلسلة من التأملات والاعتراضات والمراجعات، ويبدو أن هذا التحوّل كان أقرب إلى القطيعة بينه وبين المناصب الرسميّة، فعاد إلى ميدان المعركة الحقيقي في الكونغو ومنها إلى كوبا حيث اجتمع بكاسترو، وبعدها قررّ السفر إلى بوليفيا حيث اختفى هناك، حتى أعلن عن جرحه وأسره ثم إعدامه.

صداقة وتبّصر

وإذا كان عبد الناصر أو بن بلّة قد رحبا بحماسةِ غيفارا وانجذبا إليه بصداقة مديدة، لكنهما كل من موقعه حاولا تبصيره بتعقيدات النضال في أفريقيا، وقد سهّل بن بلّة جميع متطلباته، بما فيها كما يقول وضع معاونته الشخصية مريم مرزوق في خدمته، التي شعرت بصداقة قوية تجذبها إلى غيفارا، الذي داعبها مازحاً ذات يوم «أشعر بأن روحي مسلمة لأني متعدد الزوجات، واعتقد أنه بالإمكان محبّة عدّة نساء في آن واحد»، حيث كان متزوجاً مرّتين.
يقول بن بلّة: «كنت أحاول لفت انتباهه إلى أن خياراته في العمل المسلح، ليست الطريقة الأجدى في مساعدة النضج الثوري الذي ينمو في القارة الإفريقية، فإذا كانت ثورة مسلّحة، فيمكن أن تحظى بدعم خارجي، إلا أنها لا بدّ أن تتهيأ الظروف الذاتية التي تعتمد عليها»، لكن غيفارا، كما يذهب بن بلّة، ظلّ مُصرًّا على خياره، وصادقاً في اختياره مُضحياً بحياته من أجل ذلك.

ثوري من النوع غير المألوف

ويلخّص بن بلّة علاقته بصديقه غيفارا بالقول:
«من بين جميع السياسيين الذين التقيتهم في حياتي، ترك غيفارا عندي انطباعاً أكثر من الآخرين.. كان يحبّ الجزائر كثيراً وبقيّ فيها مدّة أطول مما يعتقده الناس، من خمسة إلى ستة أشهر مع ذهاب وإياب.. كان ثورياً من النوع غير المألوف، إنسانياً، وكان يعرف أن يعيش وأن يتألم، كان رجلاً ساخراً حتى من نفسه، شجاعاً ومتيقظاً..».
سخط على الماركسيين التقليديين
ويمضي بن بلّة بالقول: وذهب إلى كابيندا في أنغولا، ثم إلى الكونغو برازافيل (البرتغالية كما تسمّى)، ولم يكن مرتاحاً من علاقاته مع بعض الأحزاب الماركسية للدول التي زارها، ولعلّه كان ساخطاً على مفاهيمها وتطبيقاتها، الأمر الذي ترك عنده خيبة أمل ومرارة كبيرة، وهو الذي حاول التصدي لقتلة لومومبا وإذا به يُحاصَر، فكرياً وسياسياً، ويداهمه المرض، ليضطر إلى الرحيل بعد فشل تجربة الكونغو كما يقول، ثم يرحل ليلتقي كاسترو ويغادر بعدها راكضاً وراء حلمه، ليُقتل في بوليفيا، وفي ذلك روايات كثيرة وجدتها في كوبا ولدى أوساط الثوريين القدامى والشباب مع تفسيرات متباينة، جئت في كتابي “كوبا- الحلم الغامض”. وإذا كان أحمد بن بلة رمزاً وطنياً جزائرياً كبيراً وزعيماً عربيّاً، لإسمه وقع قوي، فقد عاش أواخر أيام حياته في أجواء أقرب إلى العزلة بسبب الصراعات الجانبية والمنافسات السياسية، ومحاولات التهميش.
* أعلن استقلال الجزائر في تموز/يوليو1962 وهو التاريخ نفسه الذي أُحتلّت فيه الجزائر في العام 1830، وقد تلى اعلان الإستقلال الجنرال الرئيس شارل ديغول عبر التلفزيون مخاطباً الشعب الفرنسي: جاء الإستقلال نتيجة استفتاء تقرير المصير في الفاتح من تموز/يوليو المنصوص عليه في إتفاقيات إيفيان في 18 آذار/مارس 1962، وتأسست على إثر ذلك الجمهورية الجزائرية الديموقراطية الشعبية في 25 أيلول/ سبتمبر من العام نفسه وكان أول رئيس لها أحمد بن بلّة الذي توفي عن 96 عاماً في 11نيسان /إبريل 2012، وكان نحو مليون من المعمرين الفرنسيين قد اضطروا لمغادرة الجزائر.

كاتب عراقي

 

 

عن روح الإسلام

 

عبد الحسين شعبان

 

 

يعتبر القرآن جوهر العقيدة الإسلامية وهو كتاب أزلي "خالد" وغير قابل للتغيير شكلاً ومضموناً، فكيف يمكن والحالة هذه التعامل مع فكرة الحداثة ذات الطابع النسبي فيما يتعلّق بالحقيقة وتطوّرها المستمر، خصوصاً بما له صلة بإعادة صياغتها في ضوء التطوّر العلمي وبما يساعد على تحديثها؟

ومثل هذا الأمر يرتبط بالهويّة من داخل الإسلام ومن خارجه، خصوصاً حين تكون مهدّدة بالانغلاق والتقوقع  أو بالتذويب والتغريب. وتدور حول ذلك مقاربتان أساسيّتان تتعلّقان بقراءة النصوص، فالمقاربة الأولى تقوم على القراءة الحرفية، أي التمسّك بالنص بحذافيره دون الأخذ بعين الاعتبار متى قيل؟ ولماذا؟ وكيف؟ وماذا يُقصَد منه؟ بمعنى من المعاني عدم أخذ النص بسياقه التاريخي، باعتباره نصاً مقدّساً سرمديّاً، علماً بأن بعض النصوص تتوقف عند الأسباب التي قيلت في ظروفها، وجاء التطوّر لنسخها وتجاوزها.

المقاربة الثانية، تتعامل مع النصوص من موقع التفسير والتأويل، باستلهام روحها وليس حرفيّتها، وذلك بما له علاقة بالعقل والتطوّر التاريخي وسمة العصر ، والدين في نهاية المطاف هو دين العقل ، وما يتعارض مع العقل سيكون متعارضاً مع الدين، لأن العقل هبة ربّانية منحها الله للإنسان.

وفي هذا الإطار تبرز ثلاث اتجاهات:

الاتجاه الأول – الدين الأيديولوجي الذي يعتمد على التفسير الحرفي للنص، ويقود مثل هذا التفسير إلى سحب الماضي على الحاضر في محاولة لإحداث التوافق على الرغم من الفارق الزمني الذي يربو على 1400 عام. ومثل هذا الاتجاه ينغلق على نفسه ويرفض التطوّر بزعم التمسك بالنصوص بما يؤدي إلى التعصّب، وهذا الأخير ينجب التطرّف ، وحين يصبح التطرّف سلوكاً وينتقل إلى الفعل سيصير عنفاً، وحين يضرب العنف عشوائياً يتحوّل إلى إرهاب، وهذا الأخير يمكن أن يكون دولياً حين يصبح عابراً للحدود وهدفه إضعاف ثقة الدولة بنفسها وإضعاف ثقة المجتمع والفرد بالدولة أيضاً.

            الاتجاه الثاني – الإسلام السياسي، وهو انعكاسٌ للاتجاه الأول، ولكنه يتعامل بصورة براغماتية تبعاً للمصالح السياسية الأنانية الضيّقة، ويبقى اتجاهاً أحادياً إطلاقيّاً لا يقبل الآخر ولا يقرّ بالتنوع والتعدّدية والحق في الاختلاف، وإذا ما وصل إلى السلطة سيكون أكثر تشدّداً وإقصاءً للآخر، ولا يتورّع مثل الاتجاه الأول في استخدام العنف والإرهاب بزعم إعلاء كلمة الإسلام.

            أما الاتجاه الثالث – الاسلام الثقافي، فهو ينبع من تأويل جديد وقراءة عصرية للنصوص المقدّسة واستلهام روحها الحيوية وليس حرفيّتها. ويأخذ الإسلام الثقافي بممارساته وشعائره خصائص المجتمع الذي يعيش فيه ويتعامل معه، أي أن الإسلام الثقافي وثيق الصلة بالحضارة التي ينتمي إليها. وإذا كان الإسلام واحداً، إلّا أن ثمة خصوصية لكلّ مجتمع تؤثّر على تطبيقاته وممارسة تعاليمه، حتى وإن بقي الجوهر موحّداً، فهناك إسلام عربي وإسلام تركي وإسلام فارسي وإسلام باكستاني وإسلام أفغاني وهكذا، أي أن النصوص الإسلامية المقدّسة بما فيها القرآن الكريم تتمّ قراءتها وفقاً لخصائص المجتمع التي تُطبّق فيه بمراعاة تقاليده وعاداته وأعرافه ودرجة تطوّره الاجتماعي.

            ولعلّ الدفاع عن الهويّة يتحوّل أحياناً إلى نوع من التعصّب والتطرّف كلّما زاد عن الحدّ، وهو ما يفسّر ظهور الإسلاموية أو الإسلاملوجيا أي استخدام التعاليم الإسلامية السمحاء بالضدّ من روحها بزعم الدفاع عن الإسلام بوجه الغرب ومحاولات التغريب. وقد حملت القوى الإرهابية الراية الأيديولوجية مثل تنظيمات القاعدة و داعش و جبهة النصرة "جبهة فتح الشام" وأخواتهم، مستندةً إلى التعصّب والتطرّف بسبب الإحباط والقنوط وفشل الدولة الوطنية بعد مرحلة الاستقلال و التحرّر من الاستعمار المباشر،  ناهيك عن استمرار عدم عدالة النظام الدولي، وخصوصاً إزاء حل عادل وسليم للقضية الفلسطينية، وهو الذي دفع مثل هذه التنظيمات إلى حشد مجموعات بشرية هائلة بالتعكّز على الطائفية السياسية وادعاء الأفضليات للانخراط بعمليات إرهابية وانتحارية.

 وكانت الخلفية الأيديولوجية الإسلاموية  بدأت مع الحركات الإسلامية الأولى، وفي مقدّمتها حركة الإخوان المسلمين منذ العام 1928 ، واستمرار حركات إسلامية أخرى سنية وشيعية بما فيها أنظمة عملت تحت عناوين راديكالية. وهكذا برّرت هذه القوى استخدام جميع الوسائل بما فيها الإرهاب لتحقيق أهدافها، وكان الضحية ليس المسلمين فحسب، بل العقل والعقلانية والاعتدال والتنمية.

            إن الإسلام الثقافي هو أقرب إلى إسلام التأويل الذي يسمح للإجتهاد بإيجاد أفكار تفسيرية جديدة للنصوص المقدّسة، بما فيها القرآن، وهو أمر أُغلِق عليه الباب منذ نحو ألف عام تقريباً (منتصف القرن العاشر)، وأهمية الإجتهاد تكمن في التساوق مع التطوّر التاريخي وروح العصر، فأساس النهضة في أي مجتمع يقوم على الحريّة والتنمية، وهو ما أراده دعاتها في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين مثل الأفغاني ومحمد عبدة والكواكبي والطهطاوي والتونسي والنائيني وغيرهم ممّن امتلكوا شجاعةً ومعرفةً وعلماً، فضلاً عن لياقةٍ في دعواتهم لإحداث تطوّر وتراكم على نحو هادئ بما يؤدي إلى التغيير، ولا يمكن إحداث تنمية وتطوّر حقيقييّن في أيّ مجتمع دون إصلاح الحيّز الديني على حدّ تعبير هوبز.

 

 

مثلّث الإرهاب: التعصّب

والتطرّف والعنف (*)

 

عبد الحسين شعبان(**)

تـوطئــة 

[1]أصبح التطرّف (Extreme) ظاهرة متفشّية في الكثير من المجتمعات، بما فيها بعض المجتمعات المتقدّمة، وإنْ كان قديمًا قِدَم البشرية، إلّا أنه، بفعل «العولمة»، والثورة العلمية - التقنية والتطوّر الهائل في تكنولوجيا الإعلام والاتصال والمواصلات والطفرة الرقمية (الديجيتل) والمعلوماتية، بات أكثر خطورة وتهديدًا على المستوى العالمي بما لا يمكن قياسه قبل بضعة عقود من الزمان، سواء بعمق تأثيره أم بسرعة انتقاله أم بمساحة تحرّكه، حتى غدا العالم كلّه «مجالًا حيويًا» لفيروساته، الأمر الذي لم يعد تهديده مقتصرًا على السلم الأهلي والمجتمعي فحسب، بل أصبح عالميًا بتهديده للسلم والأمن الدوليين.

ويصبح التطرّف فعلًا ماديًا حين ينتقل من التنظير إلى التنفيذ، ومن الفكر إلى الواقع، ومن النظرية إلى الممارسة، فما بالك إذا استُعمل الدين ذريعة للإلغاء والإقصاء وفرض الرأي بالعنف والإرهاب خارج نطاق القانون والقضاء، ولا سيّما من خلال تكفير الآخر بزعم امتلاك الحقيقة وادّعاء الأفضليات.

التكفير حكم ليس بالضرورة أن يصدر عن محكمة، بل تصدره أحيانًا جماعة سرّية خارج القانون والقضاء، بحق شخص أو مجموعة من الناس لا تتفق معها بزعم مخالفتها للدين أو العقيدة فتقوم بتأثيمها لفعل ما ومن ثم تحريمها وبالتالي تجريمها، والأمر يشمل الأفكار والأشخاص.

وكان من نتائج استشراء ظاهرة التطرّف انتشار ظاهرة العنف والإرهاب، وهو الأمر الذي تفشى في الكثير من البلدان العربية والإسلامية وأخذ يهدّد الدولة الوطنية بالتشظّي والتفتّت، إنْ لم يكن بالانقسام، الذي يتّخذ في بعض الأحيان طابعًا مجتمعيًا، وخصوصًا حين يجد بيئة صالحة لتفقيس بيضه، وتفريخ مجموعات متنوّعة ومختلفة من القوى الإرهابية، ابتداءً من تنظيم القاعدة وفروعها وصولًا إلى تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام «داعش» وأخواتها «جبهة النصرة» أو «فتح الشام» بحسب التسمية الجديدة أو غيرها.

جدير بالذكر أن ظاهرة التطرّف استفحلت بدرجة مريعة، بعد موجة ما أطلق عليه «الربيع العربي» التي ابتدأت في مطلع عام 2011، والتي كان من أعراضها «الجانبية» تفشي الفوضى وانفلات الأمن واستشراء الفساد المالي والإداري وإضعاف الدولة الوطنية ومحاولة التغوّل عليها من جانب جماعات مسلّحة خارج حكم القانون والقضاء، وأخذت بعض تلك الجماعات على عاتقها تهديم مقوّمات الدولة، سواء بفعل "إرادي" أم عبر سلوك وتصرّف من شأنه أن يؤدي إلى النتيجة ذاتها.

وإذا كان من الوظائف الأساسية لأي دولة حفظ الأمن والنظام العام وحماية أرواح وممتلكات المواطنين، فإن الجماعات المتطرّفة والإرهابية التي اعتمدت العنف والإرهاب وسيلتين لفض النزاعات بينها وبين الدولة في الأغلب، وبينها وبين المجتمع، قادت من الناحية الفعلية إلى «حروب أهلية»، الأمر الذي أدى إلى تدمير المؤسسات الحكومية والمرافق الاقتصادية والحيوية، وعطّل التنمية وعملية التراكم والتطوّر، ناهيك بالعبث والاستخفاف بالأرواح والممتلكات العامة والخاصة، سواء بشلّ أجهزة الدولة أم بتعويمها وإفقادها القدرة على القيام بمهامها كلًّا أو جزءًا، وخصوصًا في ظل الفوضى وانعدام الأمن.

وإذا كان التغيير "فرض عين" مثلما هو "فرض كفاية" كما يُقال، أي أنه خيار واختيار، وفي الوقت نفسه "اضطرار"، لأن ذلك من طبيعة الأشياء، إذْ لا يمكن دوام الحال على ما هي عليه إلى ما لا نهاية، فذلك من المُحال، لكن الوصول إليه يحتاج هو الآخر إلى توافر شروط موضوعية وأخرى ذاتية لإنجازه، وكسب للرأي العام. فحتى البلدان التي حصل فيها التغيير بإرادة شعبية، بانهيار أو تآكل "الشرعيات القديمة" فإن "الشرعيات الجديدة" لم تُبنَ بعد أو لم تستكمل، وواجهتها مشكلات جمّة وتحدّيات كبرى أمام عمليات الانتقال والتحوّل من طور إلى طور. وحسب المفكر الماركسي الإيطالي أنطونيو غرامشي "فإن الماضي قد احتضر، أما الجديد فلم يولد بعد".

وقد أكّدت الأغلبية الساحقة من التجارب العالمية أن التغيير الذي حصل بحكم القوة سرعان ما ارتدّ على أعقابه، وأحيانًا تكون ردود الفعل أقوى وأقسى، الأمر الذي سيؤدي في نهاية المطاف إلى تأخير عملية التطوّر الطبيعي التدرّجي، لأن درجة تطوّر المجتمع والقوانين السائدة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ومستوى وعي الناس والثقافة عمومًا لم ترتقِ لتحقيقه، والعكس صحيح، كلّما كان التطوّر منسجمًا مع درجة تطوّر ووعي الناس، ناقلًا إيّاها من طور إلى آخر، ولكن دون قفز على المراحل أو حرق لها، كان أكثر رسوخًا وثباتًا ونجاحًا، لأنه تطوّر طبيعي وليس مفروضًا.

 

أولًا: جدلية القانون والسياسة

 

التطرّف ابن التعصّب ووليده العنف، وقد يقود هذا الأخير إلى الإرهاب. ويستهدف العنف في العادة ضحية أو ضحايا بعينهم، في حين أن الإرهاب هو استهداف مجموعة من السكان بهدف إحداث نوع من الرعب والفزع في المجتمع وإظهار الدولة بمظهر الضعيف والعاجز عن حماية الأمن، وإذا كان العنف يخضع للقانون الجنائي الوطني، فالإرهاب يخضع له أيضًا، إضافة إلى القوانين الدولية، وخصوصًا إذا كان للأمر علاقة بجرائم ضد الإنسانية أو جرائم الإبادة الجماعية أو جرائم الحرب.

وقد بات هذا الثلاثي (التعصّب والتطرّف والإرهاب) قضية دولية مطروحة على طاولة البحث والتشريح في الأمم المتحدة وعلى صعيد المجتمع الدولي كله، فلم يعد كافيًا منذ أحداث 11 أيلول / سبتمبر 2001 الإرهابية التي حصلت في الولايات المتحدة وهزّت العالم، وجود قرارات تعالج قطاعيًا وجزئيًا بعض مظاهر التعصّب والتطرّف والإرهاب في العلاقات الدولية، وإنما استجدّت الحاجة الملحّة والماسّة إلى بحث شامل لهذه الظواهر بأبعادها ودلالاتها المختلفة.

للتعصّب سبب والتطرّف ثمرة لهذا السبب، أما الإرهاب فهو نتيجة، الأمر الذي سيبقي الحاجة ضرورية لمعالجة أسباب التعصّب والتطرّف، وليس معالجة النتائج فحسب، وحتى النتائج فهناك من يريد تحميل تسديد فواتيرها للآخرين، وإنْ كان الجميع مشمولين بها، لكن القوى المتنفذة والمتسيّدة في العلاقات الدولية تريد تعليقها على شماعة "البعض"، ولتلك الأسباب تتنصّل عن أي محاولة لوضع ضوابط ومعايير لإيجاد تعريف دولي جامع ومتفق عليه لظاهرة الإرهاب. وعلى الرغم من أن الحديث عن الإرهاب يرتفع بوتيرة متسارعة منذ ما يزيد على 5 عقود من الزمان، إلّا أنه يتم الاتفاق على تعريفه، وبالتالي وضع الخطط والوسائل الكفيلة لمواجهته.

وكانت الأمم المتحدة قد أصدرت منذ عام 1963 وحتى أحداث 11 أيلول/سبتمبر 2001، نحو 13 اتفاقية وإعلانًا دوليًا حول الإرهاب[2]، لكنها لم تتوصل إلى تعريف لماهيته بسبب التفسيرات والتأويلات الخاصة التي تريد القوى النافذة في العلاقات الدولية فرض مفهومها وإملاء استتباعها على الشعوب والأمم، ولا سيما حين تحاول دمغ المقاومة بالإرهاب وتغض النظر عن إرهاب الدولة والجماعات العنصرية الاستيطانية الاستعلائية، وخصوصًا في فلسطين المحتلّة، في حين تتحدّث أحيانًا عن إرهاب فردي أو عمليات عنف محدودة ومعزولة.

وعلى الرغم من أن مجلس الأمن الدولي أصدر 3 قرارات بعد أحداث 11 أيلول/ سبتمبر، وفي ما بعد 4 قرارات عقب احتلال "داعش" للموصل في عام  2014، لكن الأمر لم يتغيّر، وظلّ تعريف الإرهاب عائمًا، بل ازداد التباسًا بحكم التفسيرات المختلفة في شأنه، باختلاف مصالح القوى الدولية[3]، لأن القوى المتنفّذة تحاول احتكار العدالة وفرض مفهومها الخاص للإرهاب، وكان مجلس الأمن الدولي قد أصدر بعد يوم واحد من أحداث 11 أيلول/ سبتمبر القرار 1368 في 12 أيلول/ سبتمبر الذي عدّ الحدث تهديدًا للسلم والأمن الدوليين شأنه شأن أي عمل إرهابي وطالب الدول بعمل عاجل لتقديم المرتكبين ورعاتهم إلى العدالة[4].

ثم صدر القرار 1373 في 28 أيلول/ سبتمبر من الشهر ذاته والعام ذاته (2001)، وهو من أخطر القرارات بخصوص الإرهاب الدولي، لأنه أعطى المبرّرات للعودة إلى القانون الدولي التقليدي و"الحق في الغزو" و "شن الحرب"، أنّى شاءت الدولة تحت عنوان حماية مصالحها القومية، أو إذا شعرت أن ثمة خطرًا وشيك الوقوع يهدّدها أو من المحتمل تهديدها أو أن ذلك يلبي مصالحها القومية، وذلك حين رخّص القرار لما سمي "الحرب الاستباقية"، أو "الحرب الوقائية"، الأمر الذي يثير إشكالات وتحفظّات فقهية وسياسية لتعارضاته مع ميثاق الأمم المتحدة[5].

والقرار يتجاوز أيضًا على مضمون المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة التي تجيز للدول "حق الدفاع عن النفس" (فرادى أو جماعات) إلى أن تتم دعوة مجلس الأمن إلى الانعقاد، وذلك حين سمح، لمجرد الشبهات شن الحرب ضدّ دولة أو جهة ما، تصنّف بوصفها "إرهابية" (دول محور الشر وقائمة المنظمات الإرهابية مثلًا)، كما أهمل القرار الأسباب السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والدينية والتربوية والقانونية التي تكمن وراء ظاهرة الإرهاب الدولي، وكذلك وراء ظواهر التعصّب والتطرّف والعنف، مثلما أغفل مبدأ حق تقرير المصير والحق في المقاومة[6].

وكان القرار الثالث هو القرار 1390 الذي صدر في 16 كانون الثاني/ يناير 2002 قد فرض التزامات ومسؤوليات على الدول بشأن مكافحة الإرهاب الدولي وتجفيف منابعه والقضاء على بؤر تمويله وغير ذلك، ودعا هذا القرار إلى تعاون الدول مع الأمم المتحدة وإلّا عُدّت متواطئة أو داعمة للإرهاب في حال عدم انضمامها إلى الحملة الدولية لمكافحة الإرهاب[7].  وقد صدر هذا القرار بالتوافق وليس بالتصويت، ويتلخص مضمونه وتفسيراته وتأويلاته في أنه أعطى للمرّة الأولى في تاريخ الأمم المتحدة: الحق في اتخاذ عقوبات خارج نطاق حدود الدول وأدرجها ضمن الفصل السابع، حيث نص على تجميد الأموال وحظر توريد الأسلحة ووضع أسماء أشخاص مطلوبين للعدالة ومنظمات كذلك، إضافة إلى ضرورة تعاون الدول وإلّا عُدّت متواطئة أو داعمة للإرهاب في حال عدم انضمامها إلى الحملة الدولية لمكافحته[8].

أما القرارات عقب احتلال داعش للموصل فهي أربعة:

الأول، رقم 2170 وصدر في 15 آب/ أغسطس 2014 بشأن التهديدات التي يتعرّض لها السلم والأمن الدوليان نتيجة الأعمال الإرهابية وفيه إدانة للفكر المتطرّف وتنديد بتجنيد المقاتلين الأجانب.

الثاني، رقم 2178 الصادر في 24 أيلول/ سبتمبر 2014 وفيه أيضًا إدانة للتطرّف والعنف والإرهاب، ويستعيد القرار 1373.

الثالث، رقم 2185 الذي صدر في 20 تشرين الثاني/ نوفمبر والذي أكّد دور الشرطة كجزء من عمليات الأمم المتحدة لرفع درجة المهنية لمحاربة التطرّف والإرهاب.

الرابع، رقم 2195 في 19 كانون الأول/ ديسمبر 2014، الذي حثّ الدول على العمل الجماعي والتصديق على الاتفاقيات الدولية ذات الصلة وشدّد على العلاقة بين مكافحة الإرهاب والتطرّف المقترن بالعنف ومنع تحويل الإرهاب[9].

يمكن القول إن كل تطرّف ينجم عن تعصّب لفكرة أو رأي أو أيديولوجية أو دين أو طائفة أو قومية أو إثنية أو سلالية أو لغوية أو غيرها، ولكن مهما اختلفت الأسباب وتعدّدت الأهداف، فلا بدّ أن يكون التعصّب وراءها، وكلّ متطرّف في حبّه أو كرهه لا بدّ أن يكون متعصّبًا، ولا سيّما إزاء النظر إلى الآخر وعدم تقبّله للاختلاف، وكل اختلاف بحسب وجهة نظر المتعصّب يضع الآخر في خانة الارتياب، وسيكون غريبًا، وكل غريب أجنبي، وبالتالي فهو مريب، بمعنى هو غير ما يكون عليه المتطرّف.

التطرّف يمكن أن يكون دينيًا أو طائفيًا أو قوميًا أو لغويًا أو اجتماعيًا أو ثقافيًا أو سياسيًا، والتطرّف الديني يمكن أن يكون إسلاميًا أو مسيحيًا أو يهوديًا أو هندوسيًا أو غيره، كما يمكن التطرّف أن يكون علمانيًا، حداثيًا، مثلما يكون محافظًا وسلفيًا، فلا فرق في ذلك سوى بالمبرّرات التي يتعكّز عليها لإلغاء الآخر، بوصفه مخالفًا للدين أو خارجًا عليه أو منحرفًا عن العقيدة السياسية أو غير ذلك.

أما الإرهاب فإنه يتجاوز التطرّف، أي أنه ينتقل من الفكر إلى الفعل، وكل إرهاب هو عنف جسدي أو نفسي، مادي أو معنوي، ولكن ليس كل عنف هو إرهاب، خصوصًا إذا ما كان دفاعًا عن النفس ومقاومة العدوان. وبحسب نعوم تشومسكي، فالإرهاب هو كل محاولة لإخضاع أو قسر السكان المدنيين أو حكومة ما في طريق الاغتيال والخطف وأعمال العنف، بهدف تحقيق أهداف سياسية، سواء كان الإرهاب فرديًا أو تقوم به مجموعات أو تمارسه دولة، وهذا الأخير هو الإرهاب الأكثر خطورة[10].

وإذا كان هذا التعريف البسيط والعميق الذي يقول به مفكر أمريكي، فإن صعوبات جمّة تعترض المجتمع الدولي للاتفاق على تعريف المقصود بالإرهاب في القانون الدولي بسبب خلفية الجهات والقوى والبلدان التي تنظر إليه كل من زاويتها ومصالحها. وغالبًا ما يحدث التسييس والخلط المتعمّد والمقصود بين الأعمال الإرهابية وأعمال المقاومة المسلحة.

تحاول "إسرائيل" ومعها الولايات المتحدة وقوى متنفّذة في العلاقات الدولية، حسبان كل عمل عنفي حتى وإن كان اضطرارًا ودفاعًا عن النفس ومن أجل التحرّر الوطني، وهو ما تقرّه المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة، «إرهابًا»، علمًا بأن القانون الدولي يعدّ اللجوء إلى الدفاع عن النفس واستخدام جميع الوسائل المشروعة بما فيها القوة، عملًا مشروعًا في حالات النضال من أجل الانعتاق وتحقيق الاستقلال وحق تقرير المصير[11].

وكلّ إرهاب تطرّف، وبالطبع كل متطرّف هو متعصّب، ولا يصبح الشخص إرهابيًا إلّا إذا كان متطرّفًا، ولكن ليس كلّ متطرّف إرهابي، فالفعل سواء كان عنفيًا أم إرهابيًا تتم معالجته قانونيًا وقضائيًا وأمنيًا، لأن ثمة عملًا إجراميًا تعاقب عليه القوانين، أما التطرّف، ولا سيّما في الفكر، فله معالجات أخرى مختلفة، وهنا يمكن قرع الحجة بالحجة ومحاججة الفكرة بالفكرة، والرأي بالرأي، وإنْ كانت قضايا التطرّف عويصة ومتشعّبة وعميقة، وخصوصًا في المجتمعات المتخلّفة، كما أن بعض التطرّف الفكري قد يقود إلى العنف أو يحرّض على الإرهاب، بما فيه من طريق الإعلام بمختلف أوجهه.

وإذا كان التطرّف يمثّل نموذجًا قائمًا على مرّ العصور والأزمان، فإن نقيضه الاعتدال والوسطية والمشترك الإنساني بين الشعوب والأمم والأديان واللغات والسلالات المتنوّعة، لأن الاجتماع الإنساني من طبيعة البشر، حيث التنوّع والتعدّدية والاختلاف وهذه صفات لصيقة بالإنسان، وكلّها ينبغي الإقرار بها والتعامل معها كحقوق إنسانية توصلت إليها البشرية بعد عناء، وهي النقيض لفكر التطرّف والتكفير.

التطرّف يعني في ما يعنيه ادّعاء الأفضليات، فـ "الأنا" أفضل من "الأنت"، و"النحن" أفضل من "الأنتم"، و"ديني" أفضل من الأديان الأخرى، و"قومي" فوق الأمم والقوميات الأخرى إلى درجة الزعم بامتلاك الحقيقة، وتلك البذرة الأولى للتعصّب والتطرّف والعنف والإرهاب.

ثانيًا: في نقيض التطرّف

 

لا يمكن القضاء على فكر التطرّف وجذوره، ما لم يتم القضاء على فكر التعصّب الذي يزعم امتلاك الحقيقة المطلقة، وما سواه إلّا بُطلان ووهم على أقل تقدير. وقد أثبتت التجارب أن الفكر المتطرّف والتكفيري لا يتمّ القضاء عليه بالعمل العسكري أو المسلح، كما لا يمكن القضاء على التطرّف بالتطرّف أو مواجهة الطائفية بالطائفية أو مواجهة الإرهاب بالإرهاب، وإنْ كان "آخر العلاج الكيّ" كما قالت العرب، لكن:

عنفان لا يولدان سلامًا،

وإرهابان لا يبنيان وطنًا،

وظلمان لا ينتجان عدالة،

وطائفيتان لا تنتجان مواطنة،

الأمر الذي يحتاج إلى معالجة الظاهرة اقتصاديًا واجتماعيًا وثقافيًا وتربويًا ودينيًا وقانونيًا ونفسيًا، وهو علاج قد يكون طويلًا ومتشعّبًا، ولا يقع على الدولة وحدها إنجازه بقدر ما تحتاج إلى طاقات جميع القوى الحيّة والفاعلة في المجتمع التي يهمّها إنجاز التغيير بوسائل سلميّة تدرجية وإحداث التراكم المطلوب.

ولعلَّ القضاء على الفقر والأمية والتخلّف ضمن استراتيجية بعيدة المدى يساعد على خلق بيئة مناسبة لنشر قيم السلام والتسامح واللاّعنف وقبول الآخر والإقرار بالتنوّع والتعدّدية، وذلك في إطار المواطنة التي تقوم على أركان متوازية ومتكاملة، تبدأ بالحرية وتمرّ بالمساواة والعدالة، ولا سيّما الاجتماعية لتصل إلى الشراكة والمشاركة، وبذلك يمكن تجفيف منابع ومصادر القوى المتطرّفة والإرهابية، بالقضاء على أسباب التعصّب.

لا ينمو التطرّف إلّا إذا وجد بيئة صالحة لنموّه ومثل هذه البيئة بعضها ناجم عن أسباب داخلية وأخرى خارجية، وبهذا المعنى ثمّة دلالات لهذه الظاهرة:

أنها ظاهرة راهنة وإنْ كانت تعود إلى الماضي، لكن خطورتها أصبحت شديدة العمق والتأثير، ولها تجاذبات داخلية وخارجية، عربية وإقليمية ودولية، لأن التطرّف أصبح كونيًا، وهو موجود في مجتمعات متعدّدة ولا ينحصر في دين أو دولة أو أمّة أو شعب أو لغة أو ثقافة أو هويّة أو منطقة جغرافية أو غير ذلك، وإنْ اختلفت الأسباب باختلاف الظروف والأوضاع، لكنه في جميع الحالات لا يقـبل الآخر ولا يعتـرف بالتـنوّع، ويسعى إلى فرض الرأي بالقـوة والعنـف والتـسيّد إن تطلّب الأمر ذلك.

ومع أن منطقتنا وأممنا وشعوبنا الأكثر اتهامًا بالتطرّف، إلّا أنها في واقع الحال الأكثر تضرّرًا منه، حيث دفعت الثمن لعدّة مرّات ولعدّة أضعاف من جرّاء تفشّي هذه الظاهرة، الأمر الذي لا ينبغي إلباس المنطقة ثوب التطرّف تعسفًا أو إلصاق تهمة الإرهاب بالعرب والمسلمين بوجه خاص، بحسبان دينهم أو تاريخهم يحضّ على التطرّف والإرهاب، علمًا بأن المنطقة تعايشت فيها الأديان والقوميات والسلالات المختلفة، وكان ذلك الغالب الشائع، وليس النادر الضائع كما يُقال.

وإذا كانت البلدان العربية والإسلامية تعاني اليوم ظاهرتَي التطرّف والإرهاب، وتشهد نزاعات واحترابات دينية وطائفية وإثنية، فقد سبقتها أوروبا إلى ذلك وشهدت "حرب المئة عام" بين بريطانيا وفرنسا[12]. مثلما شهدت "حرب الثلاثين عامًا" في عام 1618 – 1648 التي انتهت بصلح وستفاليا[13]. وهناك أوجه جديدة من حروب الإبادة تعود لأسباب دينية أو طائفية أو عنصرية، يمكن أن نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر ما حدث في البوسنة والهرسك 1992 – 1995، وحرب كوسوفو 1998 – 1999، واحتلال أفغانستان عام 2001، واحتلال العراق عام 2003 وغيرها، وإن كانت أسباب الحروب مختلفة أساسها المصالح الاقتصادية ومحاولات التسيّد وفرض الهيمنة، لكنها تلبس لبوسًا مختلفة.

فخلال عقد من الزمان شنّت «إسرائيل» حربًا ضدّ لبنان عام 2006، وفرضت حصارًا على غزّة عام 2007، وقامت بثلاث حروب: أولاها، وأطلق عليها اسم "عمود السحاب" في أواخر العام 2008 وأوائل عام 2009؛ وثانيتها، "عملية الرصاص المصبوب" في عام 2012؛ أما الثالثة، فهي "عملية الجرف الصامد" في عام 2014. وبهذا المعنى فالتطرّف والإرهاب موجودان في جميع المجتمعات والبلدان، وليسا محصورين في منطقة أو دين أو أمة أو غير ذلك.

تثير ظاهرة التطرّف ومخرجاتها التباسات نظرية وعملية بعضها يعود إلى القوى الدولية الكبرى، والآخر إلى قوى التطرّف المحلية التي تستند إلى تفسيرات وتأويلات تنسبها إلى "الإسلام" ولا سيّما بالعلاقة بالآخر، بما يمكن تصنيفه بـ "الإسلامولوجيا" أي استخدام التعاليم الإسلامية ضد الإسلام، في حين يستخدم الغرب "الإسلاموفوبيا" (الرهاب من الإسلام)، في محاولة لتعميم وربط بعض الأعمال الإرهابية والمتطرّفة، بالإسلام والمسلمين.

ولهذا فإن البحث في موضوع التطرّف والإرهاب ينبغي أن يفكّك الظاهرة على المستويين النظري والعملي، ولا بدّ أن يتناول موقف الجماعات والتيارات الفكرية المختلفة، الجديد منها والقديم، والديني وغير الديني، على النطاقين المحلي والدولي، وقد أدت المصالح الدولية والتوظيف السياسي الإغراضي ومحاولات الهيمنة والتسيّد دورًا مهمًّا في انتشار ظاهرة التطرّف.

لم تعد الظاهرة تقتصر على جماعات محدّدة أو فئات محدودة كانت الدولة تغضّ الطرف عنها أحيانًا، بل إن تهديدها وصل إلى أساسات الدولة والهويّة، وخصوصًا في مجتمعاتنا التي غالبًا ما تلجأ إلى العنف في حل الخلافات، الأمر الذي يحتاج إلى حوار فكري وثقافي ومعرفي، ليس بين الشرق والغرب، وبين الشمال والجنوب فحسب، بل بين أتباع الديانات والثقافات المختلفة، داخل كل بلد وعلى مستوى إقليمي لتحديد ضوابط وأسس توافقية لمواجهة هذه الظاهرة، التي لا يمكن القضاء عليها أو محاصرتها إلّا بنقيضها، ونعني بذلك أفكار التسامح واللاّعنف وقيم العدل والمساواة والتآخي والتضامن بين الأمم والشعوب، واحترام الهويّات الفرعية، وتلبية حقوقها.

طبعًا لن يتم ذلك من دون التوصّل إلى تفاهمات واتفاقات في إطار التكامل والتفاعل والتواصل وتعظيم المشتركات والجوامع وتقليص المختلفات والفوارق، وجعل الحوار السلمي الوسيلة المناسبة والفعّالة لحل الخلافات، وصولًا لتحقيق المشترك الإنساني.

وإذا كان الحوار مطلوبًا على مستوى دول وأمم المنطقة التي هي بحاجة إلى حوار بين بعضها بعضًا، فإنها أيضًا بحاجة ماسة إلى حوار داخلي في إطار الدولة الوطنية، وهو الأساس الذي يمكن الانطلاق منه، ناهيك بحوار مع المجتمع الدولي حول المشتركات الإنسانية.

في المقابل فإن القوى الإرهابية التي هاجر بعض قياداتها إلى الغرب عملت على استغلال أجواء التسامح وفضاء الحرّيات والديمقراطية، فجندت الشباب، وهو ما جاء دورهم بخاصة عقب احتلال أفغانستان عام 2001 والعراق عام 2003 ، وذلك بعد أحداث 11 أيلول/ سبتمبر الإرهابية الإجرامية التي حصلت في الولايات المتحدة.

 

ثالثا: خطاب جديد وفكر جديد

 

 لا ّبد من خطاب جديد، وقبل ذلك لا ّبد من ّف والقضاء عليها[14] لكي يتم تطويق ظاهرة التطر تجديد الفكر، لكي يتم تجديد الخطاب، والأمر يحتاج إلى وضع معالجات طويلة الأمد تقوم على عدد من الدوائر والجبهات:

الأولــى، الجبهة الـفـكـريـة والـحـقـوقـيـة: اعـتـمـاد مـبـادئ الـمـواطـنـة والـمـسـاواة، وهـمـا ركنان أساسيان من أركان الدولة العصرية التي يفترض فيها أن تكون «دولة الحق والقانون» وتستند إلى قواعد العدل والشراكة والمشاركة، إذْ لا يمكن القضاء على التطرّف والإرهـاب بوسائل عسكرية أو قواعد أمنية فقط، بل لا ّبد من مواجهة فكرية راهنة مثلما هي متوسطة وطويلة المدى، فالنصر الحقيقي عل التطرّف هو في الجبهة الفكرية  أولاً،  وخصوصا حين يدير الشباب والناشئة ظهورهم للتطر على التطر ويبنون علاقات ً وجـسـورا من الثقة والاحـتـرام بينهم وبين الآخـر، ً وفقا للمشتركات الإنسانية، مع ّات العامة والخاصة وقيم ّات الفرعية، بما ينسجم مع جوهر الحري احترام الخصوصيات والهوي حقوق الإنسان.

الثانية، الجبهة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية: وتلك التي تستوجب توفير ظروف مناسبة للعيش الكريم، وفرص عمل متكافئة، ومن دون تمييز لأي سبب كان وتهيئة فرص تعليم. وضمان صحي واجتماعي، الأمر الذي سيقطع الطريق على الفكر التعصبي المتطرّف والإرهابي.

  الثالثة، الجبهة التربوية والدينية: الأمر ّ يتطلب تنقية المناهج الدراسية والتربوية عن كل ما من شأنه ازدراء الآخر أو تحقيره، لأن ذلك سيؤدي إلى إشاعة مناخ من الكراهية والأحقاد والكيدية، فالجميع بشر ومتساوون في الكرامة الإنسانية، وبحسب قول الفاروق عمر: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً"  أو قول الإمام علي لعامله في مصر مالك بن الأشتر النخعي:

"لا تكن عليهم (أي على الناس) سبعا ًضاريا لتأكلهم، فالناس صنفان: إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق".

وعلى هذا الأساس ينبغي أن تكون مرجعية الدولة فوق جميع المرجعيات التي لا ّبد أن تخضع لها، سواء كانت سياسية أو حزبية أو دينية أو تربوية أو اجتماعية أو اقتصادية أو ثقافية أو مناطقية أو غير ذلك. ويحتاج الأمـر إلـى عمل طويل الأمـد، ومـن دون هـوادة لإصـلاح المجال الديني بما ينسجم مع سمة العصر والتطور وإدماج المناهج والمدارس الدينية مع المناهج والمدارس التي تعتمدها الدولة، وذلك بالعيش بهدف توحيدها وإشاعة الثقافة المدنية فيها، وجعل الدين في خدمة المجتمع ُ ميسّرا المشترك لأتباع الأديان في إطار دولة تقوم على المساواة وتحترم الجميع وتأخذ في مبادئ الكفاءة والإخلاص للوطن، في تولي الوظائف العامة.

الرابعة، الجبهة القانونية والقضائية: لا ّبد من تأكيد مبادئ احترام القانون وعدم التجاوز أحــدا»، أي أنه عليه لأي سبب كـان، وبحسب مونتيسكيو فـ "القانون مثل الموت الـذي لا يستثني أحداً" أي أنه ينطبق على الجميع، وبتأكيد استقلال القضاء ونزاهته وتنقية النصوص الدستورية والقانونية عن كل ما يتعلق بالتطرّف والتعصب والتمييز.

الخامسة، الجبهة الإعلامية والمدنية: هنا ينبغي أن يؤدي الإعلام دورا ً مهما ومعه المجتمع المدني في نشر ثقافة التسامح واللاعنف والسلام المجتمعي واحترام الهويات والخصوصيات التي هي جزء من تاريخنا بكل ما فيه من مشتركات، ولا سيّما بتأكيد احترام الآخر.  

السادسة، الجبهة الأمنية والاستخبارية: هي جبهة مهمة وأساسية، وبقدر ما هي جبهة وقائية فهي جبهة حمائية ولا بد أن تكون جبهة رعائية، وإذا كـان تحقيق الأمـن مسألة جوهرية وأساسية لأي تقدّم وتنمية، وهو الذي عدّه سيغموند فرويد موازياً للكرامة، بل يتفوق عليها ً أحيانا، وخصوصا في ظل الحروب والنزاعات الأهلية وانفلات الفوضى، إذ لا كرامة مع غياب الأمن، مثلما لا أمناً حقيقياً من دون كرامة. ومع استخدام الوسائل العسكرية والحربية ضد الجماعات الإرهابية، فينبغي في الوقت نفسه الحرص على حماية المدنيين وعدم تعريضهم للأذى واحترام الاتفاقيات والمعاهدات الدولية على هـذا الصعيد، ولا سيّما اتفاقيات جنيف الأربـعـة لعام 1949 وملحقيها بروتوكولي جنيف لعام 1977 ، الأول، الخاص بحماية ضحايا المنازعات الدولية المسلحة، والثاني، الخاص بحماية ضحايا المنازعات المسلحة غير الدولية.

    ويمكن الـقـول إن تحقيق الأمـن وحماية الحقوق الإنسانية والـكـرامـة الـفـرديـة والجماعية هي مسؤولية متكاملة للدول والحكومات والـقـوى الفاعلة والحية في المجتمع، من أحـزاب ونقابات ومؤسسات رأي عام ومنظمات مجتمع مدني وإعلام، ً وخصوصا بالبحث عن المشتركات ومحاولة فك الاشتباك الذي يحصل أحياناً بالممارسة، وبتقديري، فإن ذلك أحد أركان الخطاب الجديد لمواجهة التطرّف والإرهاب، وخصوصا بتوسيع دائرة الحقوق والحريات وتعزيز الهويّة الوطنية المشتركة.

 يعتمد نجاح الدول على قدرتها على الموازنة بين سبل المواجهة وسبل الحماية، إضافة إلى سبل الرعاية، ولا بدّ من اعتماد تشريعات وآليات جديدة أكثر قـدرة على استقطاب الشباب وامتصاص طاقاتهم عبر نــوادي أدبـيـة وأنشطة ثقافية وريـاضـيـة وفنية مـن رسـم وموسيقى وغـنـاء ومسرح وغيرها.

 

وهذا يعني إشراك مؤسسات المجتمع المدني في عملية التنمية بوصفها مكمّلة ومتمّمة لاتخاذ القرارات وتنفيذها، وهي بهذا المعنى يمكن أن تكون «قوة اقتراح»، وليس «قوة احتجاج» فحسب.

ويعّد الحفاظ على الدولة الوطنية واحداً من المهمّات الجديدة، التي تواجه مجتمعاتنا، والتي تقع في صلب استراتيجيات مواجهة التطرّف، إذ لا يمكن إحداث التنمية من دونها، فالدولة الوطنية وإن كانت هي نتاج اتفاقية سايكس - بيكو ( 2016 ) أصبحت اليوم مهددة في ظلّ التطرّف في ومحاولات التديين والتطييف والإثنية ّ والتشظي، والهدف هو تجزئة المجزّأ وتذرير المذرّر.

 إن حزمة الاستراتيجيات تلك التي تواجه التطرّف على المستوى الداخلي، يمكنها، في ظل تعاون وطني شامل وإدارات سليمة، مواجهة التحديات الخارجية، سـواء بالسعي مع غيرنا من شعوب الأرض وأممه لإعـادة صوغ نظام العلاقات الدولية، ليصبح أكثر عدالة وأشد قرباً إلى التعبير عن المصالح المشتركة بين الدول والأمم والجماعات الثقافية، الأمر الذي يحتاج إلى توازن قوى دولي من نوع جديد، لا بدّ من العمل عليه.  

وإذا كان نظام القطبية الثنائية قد انتهى وبوجه خاص (1945 - 1989 )، فإن نظام الأحادية القطبية بدأ يتفكك ويتآكل، ولم تعد الولايات المتحدة المتحكم الوحيد في نظام العلاقات الدولية، وهـنـاك مـحـاور إقليمية ودولـيـة، وخصوصا فـي ظـل صعود روسـيـا وعودتها المؤثرة فـي النطاق العالمي والدور الجديد الذي تؤديه الصين بما لها من إمكانيات، ناهيك بدول البريكس الأخرى مثل الهند والبرازيل وجنوب أفريقيا، ويمكن القول لا بدّ من إيجاد مواطن قدم للعرب فيها، وخصوصا حين يكون هناك حد أدنى من التنسيق والعمل المشترك، وبقدر ما للمسألة من أفق استراتيجي، فإن لها خطوات أولى تمهيدية يمكن الشروع بها والعمل في إطارها.  

ولا ّشك أن ثمة مشتركات إنسانية تجمعنا مع شعوب الأرض ، وخصوصا قوى التحرّر والتقدّم في أمريكا اللاتينية وآسيا وأفريقيا، لا بـدّ من تعزيز التعاون والتنسيق معها سـواء في المحافل الدولية أو على الصعيد الميداني، والهدف هو توثيق عـرى الصداقة والتفاعل الثقافي والتواصل الحضاري، لأن التطرّف الـذي ينجبه التعصب سيلد العنف والإرهــاب، وهـذه مسألة تشمل جميع شعوب البلدان النامية الأكثر تضرّراً منه، إضافة إلى شعوب العالم أجمع.

(**) أكاديمي ومفكر عربي من العراق،

 ونائب رئيس جامعة اللاعنف وحقوق الإنسان أونور - بيروت.

مجلة المستقبل العربي ، العدد 515 ، كانون الثاني / يناير 2022 .

 


 

[1]   هذا النص هو جزء من دراسة أطول أعدها الباحث تحت عنوان  :" ثلاثية التعصّب والتطرّف والإرهاب" ، ونشر في مجلة المستقبل العربي الذي يصدرها مركز دراسات الوحدة العربية، العدد 515 ، كانون الثاني / يناير 2022 .

(**)   البريد الإلكتروني:          drhussainshaban21@gmail.com.

 

[2] نوقشت مسألة الإرهاب الدولي قبيل الحرب العالمية الثانية، وفي عام 1937 تم التوصل إلى إبرام اتفاقية دولية في خصوص الإرهاب الدولي، وحاولت هذه الاتفاقية توصيف الأعمال الإرهابية في المادة الأولى بأنها "الأعمال الإجرامية الموجّهة ضد دولة، وتخطط إلى إحداث حالة من الرعب في أفكار أشخاص معنيين أو مجموعة من الناس لدى العامة"، لكن الإرهاب على الرغم من الدعوات القديمة والجديدة إلى تعريفه ما زال ملتبسًا ومبهمًا، وخصوصًا باستمرار سياسة الكيل بمكيالين والازدواجية في التعامل الدولي، والانتقائية والتجزيئية التي تريدها القوى المتنفّذة. جدير بالذكر أن هذه الاتفاقية لم تدخل حيّز التنفيذ بسبب عدم المصادقة عليها، على الرغم من توقيع 24 دولة عليها. انظر:        League of Nations OJ no. 19, at 23, 1938 Doc C456 (1) M(1) 1937-1938.

قارن: محمد عزيز شكري، الإرهاب الدولي: دراسة قانونية ناقدة (بيروت: دار العلم للملايين)، 1991، ص 143.

 

[3] يبلغ عدد الاتفاقيات والإعلانات والقرارات الدولية التي تتناول قطاعات مختلفة من ظاهرة الإرهاب الدولي أكثر من 20 وثيقة، لكن جميعها لم تعرّف معنى الإرهاب الدولي، ولم تضع معايير جامعة ومانعة لمفهومه. انظر: «نصـوص القـرارات الدولية التي صدرت بعد أحداث 11 أيلول/سبتمبر 2001،» في: عبد الحسين شعبان، الإسلام والإرهاب الدولي: ثلاثية الثلاثاء الدامي، الدين، القانون، السياسة (لندن: دار الحكمة، 2002)، ص 146 – 152. أما القرارات التي صدرت عقب احتلال داعش للموصل فيمكن الاطلاع على شرحها وتفسيرها في محاضرة للباحث بعنوان: «الإرهاب الدولي: أخطاره واستراتيجية مكافحته،» (مركز الدراسات العربي - الأوروبي)، باريس، منتدى حوار باريس الرابع 10/3/2015. ومحاضرة للباحث بعنوان «الإرهاب الدولي وإشكاليات احتكار العدالة الدولية،» ألقيت في عمان بتاريخ 28 تشرين الثاني/نوفمبر 2014 لمناسبة انعقاد اجتماع المكتب الدائم لاتحاد الحقوقيين العرب، ومحاضرة للباحث بعنوان: «حكم القانون والأمن الإنساني» المركز العربي لتطوير حكم القانون والنزاهة، بيروت، 5 آذار/مارس 2015، ومحاضرة الباحث في دمشق بتاريخ 8/1/2017 بدعوة من اتحاد الكتاب العرب واتحاد الصحافيين في سوريا والموسومة «نحو خطاب عربي جديد لمواجهة التطرّف»، ومحاضرة للباحث في موسكو بدعوى من مجلس شورى المفتين لروسيا والموسومة: نحو استراتيجية جديدة لمواجهة التطرّف والإرهاب 31 آب/أغسطس 2018.

 

[4] قارن: شفيق المصري، «مكافحة الإرهاب في القانون الدولي،» مجلة شؤون الشرق الأوسط (بيروت)، العدد 74 (آب/أغسطس 1998).

 

[5] يسمّي جورج ديب الأجندة الأمريكية الجديدة بالدستور العالمي الجديد الذي يعطيها «حق التدخل» ويضرب أمثلة كثيرة على ذلك ما حصل في هايتي العام 1994 والصومال 1992-1993 والعراق بسبب غزو الكويت العام 1991 وفيما بعد فرض الحصار عليه وكوسوفو 1999 بما وسّع من محاولات استخدام القوة في العلاقات الدولية ليس لإعادة السلام والأمن إلى نصابهما، بل لفرض النموذج الذي تريده الولايات المتحدة. انظر: جورج ديب، حوار خاص أجراه معه علي الأمين، مجلة الصياد، العدد 2983 (4 كانون الثاني/يناير 2002). انظر: جورج ديب، إسرائيل دولة إرهابية في القانون والممارسة، كتاب فكر، ندوة الحزب السوري القومي الاجتماعي، بيروت، 2001، ص 56 وما بعدها.

 

[6] جدير بالذكر أن قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 40/61 الصادر في 9 كانون الأول/ديسمبر 1985 كان قد عَدَّ: الاستعمار والعنصرية والاحتلال الأجنبي وهدر حقوق الإنسان مولدة للإرهاب الدولي.

 

[7] قارن بـ: ألفريد هاليداي، ساعتان هزتا العالم: 11 أيلول/سبتمبر 2001: الأسباب والنتائج، ترجمة عبد الإله النعيمي (لندن: دار الساقي، 2002)، ص 19 وما بعدها.

 

[8] قارن: عبد الحسين شعبان، «الإرهاب الدولي وإشكاليات احتكار العدالة الدولية،» محاضرة في عمان (اتحاد الحقوقيين العرب) مصدر سابق.

 

[9] انظر: عبد الحسين شعبان، حول «حكم القانون والأمن الإنساني، بيروت، مصدر سابق.

 

[10] انظر: نعوم تشومسكي، القوة والإرهاب وجذورهما في عمق الثقافة الأمريكية، ترجمة إبراهيم يحيى الشهابي (دمشق: دار الفكر، 2003).

قارن: بحث للباحث في ندوة أثينا (5 - 7 كانون الأول/ديسمبر عام 1986) الموسومة «الإرهاب إزاء التحرر الوطني في الظروف الدولية الراهنة» حضرها 70 أستاذًا ومختصًا وباحثًا من ثلاثين بلد، والجدل الذي دار بينه وبين البروفسور بالمير من جامعة فلوريدا الذي حاول اختزال الإرهاب إلى اختطاف الرهائن والقتل والقنص والاغتيال وأعمال العنف متجاهلًا إرهاب الدولة وخصوصًا إرهاب «إسرائيل» ضد الشعب العربي الفلسطيني، وكان بالمير قد حدّد المرتكزات الأمريكية إزاء الإرهاب في الشرق الأوسط بثلاثة: أولاها، طرد النفوذ السوفياتي وثانيتها، توثيق العلاقة التحالفية والتعاهدية مع «إسرائيل» وثالثتها، حماية المصالح النفطية. انظر: شعبان، الإسلام والإرهاب الدولي: ثلاثية الثلاثاء الدامي، الدين، القانون، السياسة، ص 16-18.

[11] تنص المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة، «الفصل السابع» على: ليس في هذا الميثاق ما يضعف أو ينتقص الحق الطبيعي للدول، فرادى أو جماعات، في الدفاع عن أنفسهم إذا اعتدت قوة مسلحة على أحد أعضاء «الأمم المتحدة» وذلك إلى أن يتخذ مجلس الأمن التدابير اللازمة لحفظ السلم والأمن الدولي، والتدابير التي اتخذها الأعضاء استعمالًا لحق الدفاع عن النفس تبلغ إلى المجلس فورًا، ولا تؤثر تلك التدابير بأي حال فيما للمجلس - بمقتضى سلطته ومسؤولياته المستمدة من أحكام هذا الميثاق - من الحق في أن يتخذ في أي وقت ما يرى ضرورة لاتخاذه من الأعمال لحفظ السلم والأمن الدولي أو إعادته إلى نصابه. انظر: ميثاق الأمم المتحدة والنظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية، نيويورك، المركز الإعلامي للأمم المتحدة، كانون الأول/ديسمبر 2012.

 

[12] من الناحية الفعلية استمرت الحرب نحو 116 سنة (1337 - 1453) وإن تخلّلتها مراحل هدنة وسلام، ومن أسبابها ادعاء الملوك الإنكليز بأن العرش الفرنسي لهم، وبالطبع فإن هناك أسبابًا سياسية واقتصادية وشخصية كانت وراء اندلاع هذه الحرب الطويلة.

 

[13] حرب الثلاثين عامًا (Thirty Years War) هي سلسلة من الحروب والصراعات الدموية التي وقعت معاركها ابتداء في أوروبا الوسطى وخصوصًا في ألمانيا وامتدت إلى أراضي روسيا وإنكلترا وكاتالونيا «إسبانيا» وشمال إيطاليا وفرنسا، وهي حرب دينية وطائفية بالدرجة الأولى بين طائفتي البروتستانت والكاثوليك، وقد شهدت أوروبا بسببها تدميرًا شاملًا، وانتشرت خلالها الأمراض والمجاعات، مثلما عرفت هلاكًا لملايين البشر، يكفي أن نعرف أن عدد النفوس في ألمانيا انخفض بنسبة 30 بالمئة وأن هناك أكثر من 13 مليونًا ونصف المليون قضوا نحبهم، وقد انخفض عدد الذكور إلى النصف، وفي نهاية المطاف تم التوصل إلى صلح يضمن المصالح المشتركة وعدم التدخل، بل والتعاون الاقتصادي والتجاري، وقد عرف هذا الصلح باسم «صلح وستفاليا» عام 1648.

 

[14]  : للمزيد من الاطلاع على أفكار التطرف جهاد ما بعد القاعدة، ط 2، (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية،2016 )، ص 201 – 202  الذي يرى أن القاعدة وداعش كلاهما ينتميان إلى العائلة نفسها التي يطلق عليها «السلفية الجهادية» ويتشاركان الأفكار الرئيسية نفسها ويجملها باليوتوبيا الإسلامية ّ وملخصها استبدال «حكم الدولة» بـ«حكم الله»، ويحدد الفارق بينهما، فالقاعدة تنظيم سري عابر للحدود، في حين انغمس داعش في الجماعات السنية المحلية وعمل داخل إطار مفهوم الدولة، أي أنه متجذر في الانقسام الشيعي – السني، وينحت جرجس لتوصيف الحالة ً مصطلحا عميق الدلالة وهو «الجيوطائفية» كتعبير عن التنافس الإقليمي، فداعش ليس  مجرّد مجرد تنظيم إرهابي متمرد، وإنما هو أقرب إلى كيان دولة «خلافة»، لهذا قام بتمزيق الحدود «الاستعمارية» التي تشكلت ً وفقا لاتفاقية سايكس – بيكو عام 1916 وعقب انحلال الدولة العثمانية. وكـان بـودي لو استخدم جرجس مصطلح «القوى الإرهابية» ً بـدلا من «الجهادية» والإرهابيون ً بـدلا من "الجهاديين"، و«الإسلامويون» ً بدلا من «الإسلاميين»، وخصوصا أن الإسلامولوجيا تعني استخدام التعاليم الإسلامية بالضد من الإسلام.

 

 

هشام جعيط

"الفتنة" المستمرة *

عبدالحسين شعبان

لم يصادف أن التقيت المفكر التونسي هشام جعيط سوى مرة واحدة يتيمة، وكنت قد قرأت له كتاب "الفتنة- جدلية الدين والسياسة في الإسلام المبكّر" الذي صدر عن دار الطليعة ببيروت 1991، وأعجبت به كثيراً. ولذلك كان حديثنا قد تركّز حول الكتاب والإسلام السياسي بشكل خاص، والتجربتين التونسية والعراقية في هذا الميدان، حيث كانت ملامح تيار سياسي إسلامي قد توّضحت في كل من تونس والعراق مطلع التسعينيات؛

الأول: ممثلاً بحزب النهضة بقيادة الشيخ راشد الغنوّشي، خصوصاً بعد اضطراره الهجرة، حيث بدأت علاقتي به في لندن، وكان غالباً ما يشارك في فعاليات المنظمة العربية لحقوق الإنسان. وهو قريب من تيار الإخوان المسلمين، لكنه متقدّم عليه نظرياً، وهو ما عبّر عنه في كتابه "الحريات العامة في الدولة الإسلامية" ج1، الصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 1993، وصدر الجزء الثاني 2011.

والثاني: حزب الدعوة الإسلامي الذي استلهم منطلقاته الأولى من حركة الإخوان المسلمين ومن سيد قطب تحديداً، وفيما بعد من تنظيرات السيد محمد باقر الصدر الذي أعدم وشقيقته بنت الهدى العام 1980، ولاسيّما من كتابيه: "فلسفتنا" و"اقتصادنا" ولاحقاً برز تنظيم المجلس الإسلامي الأعلى، الذي تأسس في إيران 1982 بقيادة السيد محمد باقر الحكيم، الذي قتل إثر تفجير سيارته في النجف عقب الاحتلال الأمريكي للعراق 2003.

استوقفني كتاب "الفتنة" الذي بحث في مسارين أساسيين أحدهما، فلسفي - فكري وثانيهما، تاريخي- راهني، وقد استخدم أدوات المؤرخ في البحث والتنقيب.

في المسار الأول عالج جعيط القضايا الدينية والمجتمعية الكبرى، وفي المسار الثاني نحا منحى التاريخ ليصل من خلال دروسه حتى وإن كانت حسب فريدريش هيغل (1770-1831) ماكرة أو مراوغة إلى الحاضر والحقيقة، التي ظلّ يبحث عنها ويريد تجسيدها.

لمجرد قراءتي لعنوان كتابه "الفتنة" عدت إلى ذاكرتي لاستحضر كتاب "الفتنة الكبرى" لمؤلفه العلامة طه حسين(1889-1973)، الذي صدر جزؤه الأول بعنوان "عثمان"، أما الجزء الثاني فكان بعنوان "علي وبنوه"، والمقصود بالفتنة التي هي حركة الجدل والخلاف السياسي منذ اجتماع "سقيفة بني ساعدة" وحتى خلافة عثمان تلك التي أدخلت الإسلام الأول في دوامة الأزمات والنزاعات والانقسامات السياسيّة حتى وإن اتخذت طابعاً دينياً، وصولاً إلى معاوية وعليّ.

يعتقد هشام جعيط أن الفتنة ما تزال موجودة في الوعيّ الإسلامي، وتشكّل إحدى علامات الصراع الدائر، لاسيّما بواعثها وتعقيداتها وتشابكها واستغلال القوى الكبرى لها، وقد درس ذلك بخلفيّة المؤرخ الموضوعي الذي حاول ربط الوقائع واستقراء الأحداث واستنطاق المعلومات وغربلتها خارج دوائر الاصطفافات المُسبقة أو الانحيازات العقائدية والمذهبية، خصوصا محاولاً الابتعاد عن تأويلها.

وبغضّ النظر عن الاتفاق والاختلاف معه في هذه الجزئيّة أو تلك، وفي هذا الرأي أو ذاك، فإن كتابه المشار إليه ودراساته المختلفة وحفرياته البنيوية تشكّل إحدى المراجعات التاريخية لفترة عصيبة ومفصليّة من التاريخ العربي - الإسلامي، خصوصاً ما استقرّ منها في أذهان العامة، وما هو متوارث من معتقدات مذهبية أججت الصراع وما تزال تفعل فعلها إلى يومنا هذا، بل أحياناً تلهب نار الفرقة، وكأن ما حدث قبل ما يزيد عن 1400 عاماً قد حدث اليوم.

ثلثا عمره البيولوجي

رحل جعيط عن عمر ناهز الـ86 عاماً قضى ثلثيها أو ما يزيد في الجامعة والبحث العلمي والتفتيش في المصادر التاريخية والمخطوطات وقراءة ما كتبه بعض المفكرين والمؤرخين القدماء والمعاصرين.

ولعل ما واجه جعيط واجه عالم الاجتماع العراقي علي الوردي (1913-1995) الذي بحث أيضاً في الشخصية العراقيّة بشكل خاص والعربية بشكل عام، ناهيك عن الصراعات المذهبية وتفسيرات وتأويلات المؤرخين، وكلاهما اعتبر الجامعة ميدانه الأساس في البحث عن الحقيقة وفي تعميق التوّجه التنويري وإثارة الأسئلة المشاكسة، وأغنَيَا المكتبة العربية بكتب ومؤلفات يتداخل فيها التاريخ بالفلسفة، والاجتماع بالفكر، والسياسة بالدين.

وكان النقد وسيلتهما الأساسيّة في الوصول إلى المعرفة. وإذا كان الوردي قد بحث في علم الاجتماع السياسي من زاويته التاريخية، وركّز على الشخصية العراقية وازدواجيتها والصراع بين قيم البداوة والحضارة بمواصلة المدرسة الخلدونية نسبة إلى عبد الرحمن بن خلدون (1332-1406) مؤسس علم الاجتماع، فإن جعيط انشغل ببيئة الرسول والثقافة والإنثربولوجيا العربية، وخصوصاً في الجزيرة العربية واليمن، مستنداً إلى القرآن بالدرجة الأساسية معتبراً ما كُتب عن الرسول أو نقل عنه (الأحاديث والسيرة النبوية) جاء متأخراً، أي في وقت لاحق، وهو قابل للإضافة والحذف، لأنه شفويّ، وبالطبع قد يخضع للتأويل السياسيّ والتفسير المصلحيّ، كلما تقادم عليه الزمن، انطلاقا من اصطفافات آيديولوجية وسياسية وانقسامات مذهبية، ويعتبر"الوحي والقرآن والنبوة" ثلاثية متلازمة لأبحاثه.

الاستشراق

اعتبر جعيط الدراسات الاستشراقيّة مُثقلة بالمركزية الأوروبية الاستعلائية الكولونيالية ولاحقاً بالثقافة النيوليبرالية الأمريكية، على الرغم من دراسته في فرنسا واعتماده المنهج التاريخي الذي حاولت المدارس الاستشراقية الغربية دراسة التاريخ العربي- الإسلامي والإسلام كدين

من خلاله. وفي هذا المجال قام بتأصيل فكري ثقافي للتاريخ الإسلامي دون الغرق في الاستراتيجيات المركزية للاستشراق.

وبالعودة إلى تاريخ الاستشراق ودراسات المستشرقين فهي ليست بريئة أو أكاديمية صرفة، أو اجتهادات تحتمل الخطأ والصواب، إنها في الكثير من الحالات مغرضة وفوقية تحاول إسقاط مناهجها على الواقع كما أنه ليس حديثاً، بل يمتد إلى حروب الفرنجة (1095-1291) وسقوط الأندلس(غرناطة) في العام 1492. وهو بهذا المعنى فضاء متحيّز وفوقي يفترض أفضلية للغرب تفرض بالقوة العسكرية أو بالاستتباع، والأخير يعني "الاغتراب" تأثراً بالمنهج الاستشراقي، حيث يبرر البعض أن السير في عالم الحداثة يفترض قطع الصلة بالتراث، لأنه يشكّل عائقاً أمام التقدّم. وإذا كان جعيط يعتبر الحداثة "تيار لا يُقاوم فهو المجرى الحتميّ للتاريخ"، فهذا يعنيالانفتاح على العالم، لأن الإسلام والبلاد الإسلامية ليسوا جزراً معزولة، بل هم جزء من الحضارة الإنسانية ويفترض أن يلعبوا مثل هذا الدور في المستقبل. أي أن البلاد الإسلامية لا يمكنها أن تغلق الباب وتقفل النوافذ أمام تيار الحداثة، الذي هو عابر للجغرافيا والأمم والقوميات والأديان والحدود، ولا أحد يستطيع أن يعفي نفسه منه.

حاول جعيط الذهاب إلى ما هو مسكوت عنه، فناقش في "المُسلّمات"، وأثار نقاط استفهام عديدة حول تاريخنا، بما فيها السيرة النبوية لاسيّما من منظور المدرسة الاستشراقية التي تسعى على نحو مباشر وغير مباشر إلى إثارة الكثير من الشكوك والارتياب، خصوصاً خلال نصف القرن الماضي.

لعل جعيط يتميّز عن غيره من المفكرين الحداثيين كونه يعتبر الإسلام عنصراً أساسياً في تشكيل الشخصية العربية والإسلامية، وأنه لا يمكن الاستغناء عنه، لأنه جزء لا يتجزأ من الهويّة، لكنه دعا إلى أن يكشف العرب أنفسهم وليس عبر مستشرقين غربيين يمينيّين أو يساريين، عن ماضيهم باتّباع المناهج المعترف بها عالمياً. وأجد نفسي في اتفاق مع وجهة نظر

جعيط في هذا الميدان، لأن الثقافة بما تشمل من لغة وتاريخ ودين وعيش مشترك وعادات وتقاليد تشكل أساس الهوّية. وبقدر ما انشغل جعيط بالاستشراق، فقد اتهمه البعض أنه تأثر بالمدرسة الاستشراقية، في قراءة النص الديني خارج سياقه التاريخي، وبأدوات لا تنسجم مع الحقل المعرفيّ في الدراسات الإسلامية، خصوصاً ميله للمدرسة التاريخية التي قالت بتأويلات وتخمينات لا ترتقي إلى المنهج الأكاديمي. كما اتهمه أنصار المدرسة الاستشراقية بأنه تقليدي ومحافظ.

صدمة الحداثة

يعتبر جعيط أن تحوّلاً عميقاً حصل في تطور الإنسانية، خصوصاً في العقود الأخيرة فما بالك ونحن على أعتاب الثورة الصناعية الرابعة، حيث يمثل هذا التطور ما يعادل عشرة آلاف سنة عاشتها البشرية منذ اختراع الزراعة وتدجين الحيوانات والاستقرار، وحتى سومر ومصر وصولاً إلى غاليلو وديكارت والحداثة الصناعية المبنية على عقلنة التاريخ والفلسفة والسياسة وإعادة صياغة العقل ارتباطاً بالثورات العلمية - التكنولوجية المتلاحقة وبمجالات التفكير العلمي.

لقد فتحت بداية الثورة الصناعية الباب أوروبياً للانتقال من مرحلة الإقطاع إلى نمط إنتاج رأسمالي، حيث أخذ رأس المال يتراكم "المركنتيلية" التي ترتبط بالتجارة والسيطرة على الأسواق والمستعمرات ومن ثم احتكارها، ففي هذه الفترة كان المجتمع العربي في حالة جمود حيث عاش صدمة الكولونيالية القائمة على الصناعة الغربية والحداثة المرتبطة بها التي انتجت التطور الرأسمالي غير المتكافئ، وهو ما حاول رواد النهضة مواجهته، ولأن الإسلام مسألة مركزية في المجتمع العربي والإسلامي، فلا يمكن شطبه، وقد أخفق بعض التحديثيين في القرن العشرين حين اعتقدوا إمكانية ذلك، ولاسيّما عن طريق السياسة، لذلك فإن التحديث الكولونيالي قاد إلى فشل الدولة الوطنية، والمسألة تتعلق بالهوّية، وهو ما حاول بحثه في كتابه "أزمة الثقافة الإسلامية" الصادر عن دار الطليعة، بيروت، 2000، مشيراً إلى أن هزيمة 5

حزيران/يونيو1967 كانت هزيمة للمشروع القومي العربي وهي تاريخية عادلة، حسب اعتقاده بسبب عدم ديمقراطيته بشقيّه الناصري والبعثي.

وبما أن الحداثة هي الطور الراهن في تاريخ الإنسانية فإنها ستستفحل مثل الحضارات الزراعية مرتقية بنفسها إلى عالم الحداثة بكل ما فيها من شساعة وتواصل واتصال ومواصلات وتكنولوجيا الإعلام والمعلومات والطفرة الرقمية "الديجيتال"، وصولاً إلى الذكاء الاصطناعي واقتصاد المعرفة.

فهل هي خيبة ظن من الحداثة بوجهها المتوحش أم أن الأمر يحتاج إلى مواجهة عربية وإسلامية بمشروع نهضوي أساسه استقلال سياسي وتحرر اقتصادي وتنمية مستدامة وديمقراطية وعدالة اجتماعية ووحدة أو اتحاد مع انبعاث وتجدد حضاري لمواجهة صدمة الاستعمار وإخفاق مشروع الدولة الوطنية. ولعل جعيط يعبّر عن ذلك باقترابه من الفكر النهضوي العربي الحديث الذي يضع تلك الأهداف أساساً لما يصبو إليه مشروعه الفكري.

وأختتم باقتباس فقرة من كتابه "الفتنة" الذي بدأتُ حديثي عنه وأنتهي به، لأبرز تميّزه واستقلاله الفكري، في مواجهة تيارين متعاكسين، حين يقول "من واجبي أن أقول للقارئ إن المقصود هنا هو كتاب وضعه رجل ترّبى في كنف التقليد الإسلامي، عليه أن يكافح في وقت واحد ضد الرؤية التقليدية للأمور وضد حداثة تبسيطية...".

* ولد هشام جعيط في العام 1935 وتوفي في الأول من حزيران/يونيو2021، وكانت عائلته تتمتع بمكانة فقهية دينية وقانونية، وهي عائلة ثقافية ومحافظة في الآن نفسه. وفي هذه الأجواء نشأ مُحباً للفلسفة والتاريخ.

 

 

 

العروبة المؤنسنة

 

د. عبد الحسين شعبان

 

 

     كان اختيار منتدى أصيلة وجامعة المعتمد بن عبّاد المفتوحة بالمغرب لموضوع "العروبة والبناء الإقليمي العربي: التجربة والآفاق" كعنوان لندوة ذات طابع راهني بأفق مستقبلي وقراءة إستشرافية ، فرصة مناسبة لتبادل الآراء واستمزاج وجهات النظر والاستئناس بأفكار حاولت ملامسة الجديد في فكرة العروبة، التي ظلّت تشغل الأفق السياسي والاستراتيجي لغالبية مشاريع النهضة والإصلاح في العالم العربي منذ نهاية القرن التاسع عشر وحتى الأن، وقد اتخذت ثلاث اتجاهات أساسية:

الأول – "العروبة الثقافية"، وهي الفكرة التي حاولت محاكاة مشاريع النهضة الأوروبية التي كان توجّهها نحو "دولة مدنية"، وقد أخذت هذه الفكرة تتعمّق بالتجربة العملية وبعد طائفة من الإخفاقات والممارسات السلبية التي عملت باسم "العروبة" .

الثاني – "العروبة الآيديولوجية"، وهي الفكرة التي حاكت السياسة والتيارات القومية الأوروبية الإستعلائية الشوفينيّة بشيفرة قومويّة.

الثالث – "العروبة في طور التكوين المؤسساتي"، وهي فكرة قامت عليها جامعة الدول العربية (22 مارس / آذار1945 ) كمنظّمة إقليمية أرادها الآباء المؤسسون أن تكون نواة أو خطوة للوحدة العربية وعلى طريقها، وهي وإن أخفقت سياسياً في حل المشكلات والنزاعات والحروب العربية – العربية، والعربية – الأجنبية، إلاّ أنها تمكنت من لعب دور إيجابي في دعم البلدان العربية لنيل استقلالها والتحرر من الإستعمار وفي دعم تنميتها، إضافة إلى مساندة القضية الفلسطينية في المحافل الأممية ضدّ العدوان "الإسرائيلي" المتكرر.  

     و خلال القرن ونيّف الماضي تعرّضت العروبة إلى تحدّيات عديدة، من خارجها ومن داخلها إذا جاز التعبير.

أولها – إخفاق المشروع السياسي الوحدوي وتضبّب صورته الحلمية، والأكثر من ذلك فإن الدولة العربية (القُطرية) التي اعتُبرت من مخرجات التجزئة وسبباً في عدم تحقيق مشروع النهضة  تصدّعت هي الأخرى بسبب الحروب والنزاعات الأهلية، إلى درجة أصبح الحفاظ عليها مهمةً عروبية بامتياز.

وثانيها – التداخلات الإقليمية غير العربية وتأثيرها على القرار العربي، وذلك بسبب محاولات الهيمنة الإيرانية والتركية، فضلاً عن محاولات أثيوبيا المائية التي ألحقت ضرراً بالمصالح العربية، ناهيك عن تحالفاتها الإقليمية.

وثالثها – تراجع القضية الفلسطينية، التي مثلّت جامعاً للعروبة الثقافية والمؤسساتية .

ورابعها – إنفجار الهويّات الفرعية وانبعاث رياح الطائفية والإثنية المناوئة لفكرة العروبة، خصوصاً بعد تنكّر أو عدم اعتراف بها.

وخامسها – الممارسات الإستبدادية السلبية لأنظمة حكمت باسم العروبة.

     العروبة بصفتها هويّة منفتحة ليست ساكنة أو نهائية أو تمامية. لأنها متجدّدة ومتحوّلة ومتفاعلة ، حيث تتغير بعض عناصرها مثل العادات والتقاليد والفنون والآداب حذفاً أو إضافة، ومثلما هي كذلك، فلا بدّ أن تقّر باختلاف الهويّات وتعترف بحقوقها وتتعامل معها كأمر واقعي وليس مفتعلاً أو متخَيّلاً، كما هي النظرة الإستعلائية الشوفينيّة. وهكذا يصبح من واجب العروبة المؤنسنة احترام  حق كل شعب أو مجموعة بشرية تشعر بوجود خصائص تجمعها هويةً وانتماءً، بل و أن تعمل على مساعدتها في تعزيز وتطوير خصوصيتها بما يجعلها تتفاعل إنسانياً معها.

    وبهذا المعنى لا يمكن إختزال العروبة بالقومية أو العرق أو النسب ، وإذا ما فعلنا ذلك فأين سيكون مكان الأندلس والمعتمد بن عبّاد وابن طُفيل وابن باجة وابن حزم وعبّاس بن فرناس من فكرة العروبة ؟

     والعروبة هي لغة امرؤ القيس والمتنبّي وأبو القاسم الشّابي وطه حسين وجبران خليل جبران والجواهري، وكانت وما تزال فعل مواجهة، خصوصاً حين  تبلورت في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين من خلال مفكرين ورُوّاد مثل جورج أنطونيوس وشكيب أرسلان ورشيد رضا والبساتنة والريحاني واليازجي وصولاً إلى ساطع الحصري، ولعلّ ما هو مطلوب اليوم تعزيز العروبة وتجذيرها وتحصينها وأنسنتها بالحرية والإقرار بالتنوّع وقبول الآخر والاعتراف بالحق في الإختلاف.

 

 

الصين:

الحضور الاستراتيجي

 

عبد الحسين شعبان

 

إذا كانت استراتيجية شياوبينغ الإصلاحية الذي تولّى القيادة بعد الزعيم التاريخي ماوتسي تونغ توصف بالصبر، فإن استراتيجية الرئيس شي جينبينغ يمكن اعتبارها استراتيجية حضور، خصوصاً بعد أن خطت الصين خطوات كبرى في تحديث اقتصاداتها وتطوير تكنولوجياتها وربوتاتها (إنسانها الآلي) في ظلّ الذكاء الاصطناعي.

ومنذ أن تولّى الرئيس شي جينبينغ القيادة في العام 2012 سارع إلى تعزيز دور الصين ومكانتها، وذلك بالتوجّه للسيطرة على أراضي في بحر الصين الجنوبي وإنشاء منطقة تعريف في الدفاع الجوي (فوق الأراضي المتنازع عليها في بحر الصين الشرقي)، وتأسيس بنك التنمية الجديد (بنك بريكس) مثلما أقدم على مشروع البنية التحتية الدولي المعروف باسم "مبادرة الحزام والطريق" Belt and road initiative (2016) وأثبت قدرة الصين في ظلّ إدارته على احتواء تفشّي وباء كورونا "كوفيد 19" وذلك بحلول صيف (2020) حيث استطاعت الصين في ظلّ فضائل التحكّم المركزي من احتواء الانتشار المحلي للوباء، وأصبح نهجها  في مكافحة الفايروس مصدر فخر وطني ينظر إليه عالمياً بإعجاب كبير، وقد جرى التعبير عن إستراتيجية الحضور هذه خلال الاحتفالات بمرور100 عام على تأسيس الحزب الشيوعي الصيني (يوليو/ تموز المنصرم).

وقد استند جينبينغ إلى تراكم طويل وطائفة من الإصلاحات التدرجية لإعادة بناء الدولة وهيكلة اقتصاداتها والتي بدأت في عهد قيادة شياوبينغ منذ انتهاء عهد الثورة الثقافية "1965 - 1976" وبداية مرحلة جديدة من الانفتاح منذ نهاية السبعينيات وصولاً إلى وضع الصين منافساً للولايات المتحدة. ومن المحتمل أن يتقدّم اقتصادها على اقتصادات العالم العام 2030،  وهو ما يسعى إليه.

وإذا كان أسلاف جينبينغ قد تجنّبوا الصراع الإقليمي والدولي بالنأي عن النفس واستخدام وسائل ناعمة وطويلة الأمد فيما يتعلّق بـ هونغ كونغ وتايوان، وركّزوا على فرصة الصين في التنمية الاقتصادية السريعة والتوسّع المنتظم لنفوذها من خلال الاندماج التكتيكي في النظام العالمي الحالي، وهو ما لمسه كاتب السطور لدى مشاركته في دورة للحوار العربي - الصيني في بكين، (العام 2010) حيث كان المفكرون والباحثون الصينيون يصرّون على أن الصين دولة نامية ولا تريد أن تنخرط في الصراعات الدولية كما لا تريد أن تلعب دور الاتحاد السوفيتي السابق، ويهمّها تنمية قدراتها الاقتصادية بالقضاء على الفقر والتعامل التجاري مع الجميع على أساس المصالح المشتركة والمنافع المتبادلة، إلاّ أنّ الرئيس جينبينغ اختار طريقاً جديداً يحمل درجة عالية من التحدّيات بعد انقضاء الصبر الإستراتيجي، خصوصاً وهو يقود مجموعة واسعة من المبادرات السياسية هدفها إعادة تشكيل النظام العالمي بشروط مؤاتية لبكين.

ومثل هذه الشروط تبنى وفقاً لحسابات سواء كانت تطلعات أو مخاوف، ولذلك يراهن القائد الصيني اليوم على الزمن، فقد عزّز سلطته بشكل كبير وزعزع الوضع الراهن الدولي بقوة، وهو ينظر إلى موقع الصين خلال العقد وربما العقد ونصف العقد القادم للاستفادة من مجموعة التحوّلات التكنولوجية والجيوسياسية المهمة التي يمكن بواسطتها التغلّب على التحدّيات الداخلية الكبيرة.

ويرى جينبينغ أن تلاقي التحوّلات الديموغرافية والتباطؤ الاقتصادي الهيكلي والتقدّم السريع في التقنيات الرقمية والتحوّل الملحوظ في ميزان القوى العالمي بعيداً عن الولايات المتحدة يمثل بحدّ ذاته "تغيرات عميقة لم نشهدها منذ قرن" وهذه تتطلّب حلولاً جريئة وعاجلة وهنا يكمن حضور الصين.

ولهذه الأسباب أدخل جينبينغ تعديلات جوهرية على النظام السياسي الصيني لكي تتمكّن الصين من منظوره أن تهندس نظاماً سياسياً عالمياً يقوم على التعدّدية القطبية والمنافسة في التصنيع والتسليح والتكنولوجيا لقدرات البلدان الأكثر تقدّماً، كما يعتقد أن الغرب (نفوذاً وقوة) دخل مرحلة التدهور المتسارع  خصوصاً بعد فشل الولايات المتحدة في احتلال أفغانستان العام 2001 وانسحابها المشين منه 2021 واحتلال العراق 2003 واضطرارها للانسحاب العام 2011 وتخلخل وجودها الحالي، الذي يمكن وصفه بـ "مستنقعات غير مأمونة" وفي بيئة ليست قابلة لها، يضاف إلى ذلك الأزمة المالية التي ضربتها والعالم الرأسمالي بشكل عام العام 2008، ثم إعلان  بريطانيا عن خروجها من بريكست بالتصويت في العام 2016 واعلان انسحابها النهائي 2020 وانتخاب دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة، الأمر الذي أضعف من هيبتها وأنزل من سمعتها في قيادة النظام الدولي الجديد، وهذه تحدّيات كبرى يواجهها الرئيس جو بايدن منذ تسنّمه إدارة البيت الأبيض.

وإذا كان ماوتسي تونغ قد بنى الصين وفقاً لنظريته بضرورة توجيه الاقتصاد وتأميم أدوات الإنتاج، وكبح جماح القطاع الخاص وفقاً للعقيدة الآيديولوجية ونظام الولاء والطاعة الحزبية وعلى أساس الأمن القومي، فإن ذلك العهد لم يعد قائماً، بما عليه من مآسي وما له من إيجابيات، ولذلك فـإن استمرار جينبينغ مطالبة الكوادر الحزبية الالتزام بالعقيدة الآيديولوجية وإبداء الولاء الشخصي له يعني تقويض مرونة نظام الحكم وكفاءته، بل أنه سيؤدي إلى جعل "الذئب المحارب" أكثر عزلة بدلاً من الانفتاح، كما أنه سيقلّص من البدائل ويضعف النقد، خصوصاً بعد إلغاء القيود المفروضة على فترة الرئاسة واحتمال استمراره بالحكم إلى أجلٍ غير مسمّى والسؤال الأخير من سيخلف جينبينغ وكيف سيحكم؟

 

 

 

الملك حسين

الاستثناء في الاستثناء

 

د. عبد الحسين شعبان*

 

مقدمة: مئوية الدولة الأردنية

     يستذكر الأردنيون والعرب والمسلمون عموماً في هذه الأيام الذكرى العطرة لتأسيس المملكة الأردنية الهاشمية، وذلك بمناسبة مرور مئة عام على تأسيسها، كما ويصادف في هذه الذكرى مرور 86 عاماً على ولادة جلالة الملك حسين، الذي أبصر النور في 14 تشرين الثاني/ نوفمبر 1935 ، وغادرنا في 7 شباط / فبراير 1999 ، وكان تسلّم عرش المملكة لنحو 46 عاماً، أي حوالي نصف عمر الدولة الأردنية، وترك بصمته الواضحة على مسارها وتوجّهها.

      وإذا كان عمره البيولوجي قد بلغ 65 عاماً يوم رحل إلى "الرفيق الأعلى"، فقد قضى أكثر من ثلثيه وهو على رأس الدولة الأردنية، واكتسب خلاله تجارب لا حدود لها وخلص إلى عبر ودروس غاية في الأهمية والعمق، وهو ما يزال يافعاً في مقتبل ربيع حياته وفي عزّ شبابه، وهو ما مكّنه من قيادة المملكة بحكمة وعقلانية وتسامح واعتدال وبُعدَ نظرٍ، خصوصاَ وقد تلقّى تأهيلاً علمياً ودينياً ولغوياً وعسكرياً عالياً وتربية عائلية سديدة في بيت يزخر بالقيم والمعاني الإنسانية. وأستذكر ما قاله الشاعر الجواهري الكبير في 2 كانون الأول / ديسمبر 1992  بحق جلالة الملك حسين وبحضوره في حفل مهيب :

يا  سيّدي  أَسْعِفْ   فَمِي   لِيَقُــولا  

                            في عيدِ  مولدِكَ  الجميلِ جميلا

أَسْعِفْ  فَمِي يُطْلِعْكَ  حُـرّاً  ناطِفَـاً

                            عَسَلاً، وليسَ مُدَاهِنَاً  مَعْسُولا

يا  ابنَ  الهواشِمِ  من قُرَيشٍ  أَسْلَفُـوا 

                          جِيلاً  بِمَدْرَجَةِ  الفَخَارِ ، فَجِيلا

 

يا   ابنَ   الذينَ    تَنَزَّلَتْ   بِبُيُوتِـهِمْ    

                            سُوَرُ الكِتَابِ ، ورُتّلَتْ تَرْتِيلا

 

يا  ابنَ  النَبِيّ ، وللمُلُـوكِ  رِسَالَـةٌ، 

                            مَنْ حَقَّهَا  بالعَدْلِ كَانَ رَسُولا

 

                       

 

العنف والقدس

     في العام 1921 ، وعلى هامش الثورة العربية الكبرى التي قادها الشريف الحسين بن علي    للتحرّر والإنعتاق والتخلص من الهيمنة العثمانية، أعلن الأمير عبد الله الأول عن تأسيس "إمارة الشرق العربي" ، ثم سُمّيت "إمارة شرق الأردن" وأعلن عن استقلالها في 25 أيار/ مايو 1946 تحت اسم "المملكة الأردنية الهاشمية"، ونوديَ ﺒالأمير عبد الله الأول بن الحسين  ليصبح ملكاً دستورياً عليها وهو المؤسس الأول لها، لكن اغتياله في العام 1951 في القدس وهو على درجات المسجد الأقصى، ترك أثراً كبيراً لدى الفتى الذي سيتولّى عرش المملكة بعد سنتين من إطلاق النار على جدّه، ومثل هذا الأثر لازمه حتى آخر يوم في حياته. واتّسم بتوجّهين أساسيين:

أولها – نبذ العنف بكل أشكاله ومبرّراته وحججه وتداعياته ؛ فقد أدرك منذ وقت مبكّر أن العنف ليس السبيل السليم لحلّ الخلافات أو إجبار الآخر على تغيير قناعاته، بل أن الحوار خيار واضطرار في الآن، فأي اجتهاد يبقى نسبياً وهو قابل للخطأ مثلما هو قابل للصواب أيضاً، وحسب الفيلسوف الفرنسي فولتير : أننا كائنات بشرية قابلة للوقوع في الخطأ، وبما أن البشر خطاءون، فعلينا أن نأخذ بعضنا البعض بالتسامح.

 وثانيها – رسوخ صورة القدس في وجدانه والتي ظلّت حاضرة في كلّ خطوة اتخذها كجزء من إستراتجيته، وهو الذي كان قال: إن الرمز الحقيقي للسلام هو القدس وعودتها عربية هو المعيار الوحيد لصدق الداعين إلى السلام في المنطقة.

     وهو ما كتبه في رسالة إلى الرئيس الأمريكي رونالد ريغان مصحّحاً المعتقدات التوراتيّة المزيّفة حول فلسطين والقدس والمسجد الأقصى نتيجة الدعاية الصهيونية،  مؤكداً على حق الشعب العربي الفلسطيني في تقرير مصيره وضرورة عودة أراضيه المحتلة وسيادته عليها ، واستمرّ الأردن حامياً للأماكن المقدّسة الإسلامية والمسيحية ووصياً عليها حتى بعد قرار فكّ الارتباط ، وحيث تستمر الرعاية الهاشمية بالإعمار والصيانة والتبرع الشخصي لهذه الغاية.

 

الملك الباني

   

      إذا كان الملك طلال قد صاغ دستور المملكة فإن الملك حسين هو بانيها منذ أن اعتلى عرشها في 11 آب/ أغسطس 1952 ، وفي 2 أيار/ مايو 1953 تسلّم الحسين سلطاته الدستورية كاملة بعد أن أتمّ الثامنة عشر من عمره وفق التقويم الهجري. وحدّد خطاب العرش المبادئ الأساسية التي تسير عليها المملكة والتي ستصبح بمثابة "بلاتفورم" للملك حسين وللمملكة مكمّلة ومتمّمة دستورها ومواثيقها. وهي ما يأتي:

النظام رائدنا

التعاون مطلبنا

الاتحاد في الصفوف رمزنا

العمل شعارنا

بناء وطن محكم الدعائم راسخ الأركان هدفنا

مساواة جميع المواطنين مبدؤنا

     وظلّت هذه المبادئ مرشداً لسلوك الملك حسين طيلة فترة حكمه، بل إنها مثلّت الخلفية المرجعية القيمية الأساسية للمملكة الأردنية الهاشمية خلال الفترة المنصرمة، وحين يتم  الخروج عليها أحياناً أو التهاون بِشأنها بسبب تعقيدات الوضع السياسي كان الملك حسين يبادر إلى إعادة البوصلة باتجاهها محاولاً تصحيح ما ينشئ من أخطاء وممارسات سلبية بروح الشجاعة والنقد، فقد كانت مسألة توطيد أركان الدولة وتعزيز مكانتها وتثبيت هيبتها داخلياً وعلى المستوى العربي والإقليمي والدولي شغله الشاغل ووضعها هدفاً استراتيجياً له، بالاستناد إلى مبادئ الثورة العربية الكبرى التي فجرها جدّه  الشريف حسين بن علي في 10 حزيران / يونيو العام 1916 في مكة والمصادف 9 شعبان 1334 ﻫ ، واسترشاداً بمسيرته التي ساهمت في تعزيز حركة الوعي واليقظة العربية نحو التحرّر والاستقلال وتقرير المصير . وما تزال ألوان علم الثورة العربية الكبرى تمثل أساس أعلام العديد من الدول العربية، وهو ما أوردته في بحثي الموسوم:" ملاحظات أولية وقراءة ارتجاعية بعد قرن من الزمن لأول كيانية عربية"، وذلك بمناسبة مئوية الحكومة العربية والمملكة السورية بزعامة الملك فيصل بن الحسين (1918 - 2018)، ندوة منتدى الفكر العربي، 2 أيلول/ سبتمبر 2018 .

 

استثنائية الموقع

     أدرك الملك حسين ما لا يدركه الآخرون، من حساسية وخطورة موقع الأردن في خريطة الشرق الأوسط التي ظلّ نابليون يقول عنها منذ أواخر القرن الثامن عشر أنها:" مفترق طرق العالم"، ويصفها الرئيس أيزنهاور في العام 1957 : " بأنها أقيم قطعة عقار في العالم"، فحاول وهو يواجه عواصف عاتية أن يتوازن  ويوازن ويضع مسافة من الجميع  بحيث لا ينخرط في الصراعات القائمة أو ينجرّ إليها إلاّ دفاعاً عن النفس والحق وعند الضرورة، خصوصاً وهو يعرف موازين القوى، بما لها وما عليها.

     فالأردن يمتلك موقعاً استثنائياً وسطياً وهو ما جعله يواجه تحدّيات استثنائية أيضاً، وهو محاطٌ ﺒ خمس دول، فمن الغرب فلسطين التي تحتلّها "إسرائيل" بؤرة العدوان المستديمة والترسانة العسكرية التي   تغتصب حقوق أهلها وتشرّدهم ، ومن الشرق، العراق الذي ارتبط مع الأردن ﺒ "اتحاد هاشمي" في العام 1958 ، سرعان ما أطاحت به ثورة 14 تموز/ يوليو العام 1958 وانفرطت العلاقة بين البلدين لسنوات غير قليلة ، ومن الجنوب المملكة العربية السعودية التي لا تخلو علاقاتها  من منغّصات مع الأردن، ومن الشمال الجمهورية العربية السورية، ويشترك الأردن مع مصر بحدود مائية في خليج العقبة، ومصر وسوريا كانا ضدّ توجهات الأردن على الرغم من أن الأخير لم يشارك في حلف بغداد الاستعماري العام  1954 - 1955 ، بل نأى بنفسه وتعرّض حينها إلى ضغوط غربية وإقليمية عديدة.

     وإذا تأسست "إسرائيل" في ظلّ تواطؤ دولي واستناداً إلى مزاعم دينية ورواية أقرب إلى الميثولوجيا، فإن المملكة العربية السعودية تحتضن مكّة المكرّمة والمدينة المنوّرة، وهما مكانان مقدّسان للمسلمين، وتأسست في العام 1926 باتحاد نجد والحجاز، واتخذت الدين عنواناً لها. أما العراق وسوريا، فهما منذ قيامهما شهدا حركات راديكالية ثورية وأقيمت فيهما أنظمة قومية شمولية ، ومعهما مصر منذ ثورة 23 يوليو/ تموز العام 1952، وهذه البلدان عملت ما في وسعها لتغيير نظام الحكم في الأردن، في حين استمرّت المملكة الأردنية الهاشميّة تغرّد خارج السرب وسط هذا الخضم من الواحدية والإطلاقية ، فاتجهت صوب الإعتدال والوسطية وبصياغات أقرب إلى الليبرالية أو بعض إرهاصاتها، حسب وصفة نهاية الأربعينيات والخمسينيات.

     وقد حاول الأردن وهو بلدٌ صغير قياساً بجيرانه: السعودية والعراق وسوريا، ناهيك عن مصر، الحفاظ على خصوصيّته وتوجهه الوسطي، وإن بإمكانات محدودة مادياً وبشرياً وجغرافياً، حيث  تبلغ مساحة الأردن 89.213 كيلو متراً مربعاً وعدد نفوسه لم يتجاوز الأربعة ملايين في مطلع الستينيات، ولكن العين ظلّت عليه بين هذه الدول الكبيرة، ناهيك عن أطماع "إسرائيل" المختلفة والمتعدّدة والمتجدّدة.

     وحين يحتفل الأردن اليوم بمئويته، فالاحتفال ليس أردنيّاً فحسب، بل هو احتفال عربي ودولي أيضاً، فقد تمكّن هذا البلد الصغير والفقير قياساً بدول تجلس على بحر من النفط والمحاط بأطماع وتحدّيات كبرى أن يواصل البقاء وأن يحرص على علاقات طيّبة مع الجميع، ويمسك بأوراق غير قليلة في ذروة لعبة الكبار. وكان الأردن من الدول المؤسسة لجامعة الدول العربية في 22 آذار/ مارس 1945، وانضمّ إلى الأمم المتحدة في العام 1955.

 

استثنائيّة التحدّيات

     واجه الأردن تحدّيات وامتحانات عسيرة منذ استقلاله العام 1946 ، منها حرب العام 1948 العربية - "الإسرائيلية"، بعد قيام دولة "إسرائيل" بموجب قرار مجلس الأمن الدولي رقم 181 لعام 1947 ومحاولة تمدّدها في الأراضي الفلسطينية، وخصوصاً في القدس التي ظلّت الإدارة الأردنية وصيّة عليها، كما واجه مسألة بناء الدولة وتعريب الجيش والعلاقة مع بريطانيا التي تُوّجت بإلغاء المعاهدة معها ، فضلاً عن التجاذبات السياسية في مراحل عديدة من تاريخها، ثم عدوان "إسرائيل" العام 1967 .

      ولعلّ أهمها الموقف من الحرب العراقية -  الإيرانية 1980 - 1988 ، وأخطرها غزو القوات العراقية للكويت العام  1990 ، ثم حرب الخليج الثانية لتحرير الكويت 1991 والتي قادت إلى تدمير العراق، يضاف إلى ذلك رفض الأردن المشاركة في مفاوضات كامب ديفيد الأولى ( 1978 - 1979  ) بعد زيارة الرئيس المصري محمد أنور السادات إلى القدس في العام 1977 ، واستمرّ الأردن اقتفاءً بإثر نهج الملك حسين في مواجهة العديد من التحديات أهمها: احتلال العراق العام 2003 ، إضافة إلى صفقة القرن التي حاول الرئيس دونالد ترامب الترويج لها، وذلك في عهد جلالة الملك عبدالله الثاني.

     ومثل هذه التحدّيات الاستثنائية لم تتمكّن دول أكبر وأغنى من الأردن وأكثر سكاناً أن تصمد أمامها، لكن الأردن بحكم قيادة الملك حسين وتوجّهاته الإعتدالية وحنكته السياسية تمكّن من ذلك لميزات شخصية وعامة.

استثنائية الشخصية

 

     تجمّعت في شخص الملك حسين استثناءات عديدة، سواء على المستوى الشخصي أو العام، وهذه الاستثناءات جعلت منه شخصية استثنائية بامتياز، وقد تمكّن بفضل ذلك السير بالأردن في طريق تُجنّبُه المغامرة، وكان مقياسه ذهبياً أحياناً، أي دقيقاً لكلّ خطوة يخطوها، لأن أي خطأ أو عدم تقدير سليم سيكلف الأردن خسائر فادحة بما فيها وجودها، وهو ما فتح أبواباً أمامها  للتنمية والتقدم، ومن ينظر إلى مسيرة الدولة الأردنية ويعرف إمكاناتها الشحيحة والمخاطر التي تحيط بها يدرك حقيقة الدور الاستثنائي الذي لعبه الملك حسين بنجاح واقتدار وأفق مستقبلي.

وتتجلى عناصر استثنائية الملك حسين في:

قدرته الاستثنائية على استنباط الجوهري من الأشياء وعلى الرغم من اهتمامه بالتفاصيل التي قد تقود إلى الجحيم أو الهلاك أحياناً، إلاّ أنه كان ينظر بشمولية إلى المشهد العام وكان حريصاً عليه، مثل حرصه على التدقيق في التفاصيل.

      وبقدر اتساع رؤيته فقد عمل بواقعية استثنائية أيضاً ، معتبراً السياسة  فن الممكن دائماً (صراع واتفاق مصالح) وهي كانت كذلك منذ أرسطو وكتابه "السياسة": تحقيق الخير العام ووصولاً إلى عبد الرحمن بن خلدون، دون طموحات أقرب إلى الأوهام ودون يأس أقرب إلى الاستسلام، فرغم الظروف الصعبة واضطراره لتقديم تنازلات أحياناً، لكنه بقي ماسكاً بالجوهر والمضمون، ولذلك امتاز بأنه صاحب مبادرات ومشاريع باستمرار، فعقله ظلّ شغّالاً ومنفتحاً وحيوياً حتى آخر لحظة من حياته، فضلاً عن نظرته المستقبلية.

 

شخصيته الكاريزمية الاستثنائية، وهي شخصية آسرة، وهو ما يدرس في إطار أدبيات علم الاجتماع السياسي والعلوم السياسية، والمقصود بذلك دور الفرد في التاريخ، أي ما يمكن أن يلعبه القائد أو الزعيم في السياسات العامة وفي الحرب والسلم وفي البناء والهدم والتأثير على الآخر، صديقاً أو خصماً أو عدواً، وهذا يندرج في علم النفس الاجتماعي، وغالباً ما تكون لمثل هذه الشخصيات قدرة في التأثير على الآخر، مثلما لها قدرة على الإقناع، ناهيك عمّا يمنحه من ثقة سرعان ما تنتقل إلى الغير، فتنفتح أمامه فرصاً ونوافذ وحتى بعض المغاليق من خلال صداقة تمتد بجسور من التواصل، فما بالك حين يكون مصحوباً بأدوات حديثة من علم الإدارة ، الذي سيكون نجاح أي خطةٍ مستنداً إليه وإلى الإدارة الحكيمة.

 

تواضعه الاستثنائي، وهو ما يجمع عليه كلّ من قابلوه أو التقوا به أو استمعوا إليه، وقُدّرَ لي، لمرة واحدة، أن ألتقي به وإن كان بحضورٍ عام في لندن (لدى السيّد عبد المجيد الخوئي)، إلاّ أني بقيت أراقبه طيلة فترة وجوده، وكنت أُصغي إلى حديثه وكلماته، فضلاً عن اختيار مفرداته، ومع الأسف ضاعت عليّ فرصة اللقاء المباشر والخاص، حين طلب لقاء بعض الشخصيات العراقية في لندن ، وكنت حينها مسافراً، وحصل أن تجدّدت الفكرة لاحقاً باتصال من اللواء عبدالإله الكردي السفير لاحقاً، لكن ذلك لم يحصل حتى خلال دعوتي إلى الأردن من رئيس مجلس النواب سعد هايل السرور،  بسبب تدهور صحّته الذي حال دون ذلك.

      ومثل هذا التواضع ينطلق من تربيته العائلية، وإضافة إلى حُسن معشره، منذ أن كان  طفلاً مع أقرانه في المدرسة، فلم يشعر يوماً بالتعالي أوالتكبّر عليهم وهو ما يستذكره الأردنيون من الناس البسطاء الذين أحبوه حبّاً جمّاً، بل بكوا بكاءً مرّاً حين رحيله.

      وقد نقلتُ في بحث لي عن الملك حسين بعد عام على رحيله قدّمته إلى "المؤتمر الفكري الدولي" العام 2000 في جامعة معان (الأردن) والموسوم" الملك حسين: الحاكم والإنسان وسؤال التسامح"، ما قالته الصديقة د. ليلى شرف وزيرة الإعلام الأسبق وعضو مجلس الأعيان سابقاً، وهذا الاقتباس يمثّل نموذجاً لعلاقة الحاكم بالمحكوم، ومن هو في قمّة الهرم ﺒمن هو في قاعدته، وذلك نقلاً عن شابة أردنية روت لها بأن أمها خاطبت زائرين (أجانب) عبّروا عن دهشتهم لما شاهدوه من مظاهر الحزن التي تلت وفاة الملك حين قالت لهم : انظروا، لم يسبق لي أن قابلت الملك أو صافحته، كما لم يسبق له أن مرّ شخصيّاً بجوارنا ولم أرَه شخصياً أبداً، إلاّ أنني في كل مساء عندما أعدّ مائدة العشاء، أشعر أن هناك شخصاً غائباً عنّا.

     وتلك الحادثة بالغة الدلالة على النوافذ المفتوحة بين الحاكم والمحكوم، على الرغم من جميع التعقيدات التي أحاطت بها والملابسات التي عرفتها أجواء التوتر السياسي أحياناً وبيروقراطية الدولة ودواوينيّتها وتجاوزاتها أحياناً على حقوق المواطنين وحريّاتهم وهو ما ينبغي أخذه بسياقه التاريخي.

      ولعلّ السيماء الشخصي للملك حسين وروح السخاء والبساطة والمروءة التي امتاز بها هي التي جعلته قريباً من الحس الشعبي. وحسب ليلى شرف، فالأردنيون يشعرون أنهم يعرفونه فرداً فرداً وأنهم يستطيعون اللجوء إليه في أوقات الشدّة. وهو ما سمعته من دولة أحمد عبيدات ودولة طاهر المصري ودولة عدنان بدران ومعالي سمير الحباشنة ومعالي جواد العنّاني وآخرين.

 

تسامحه الاستثنائي الجّم  فقد امتاز بتواضع الكبار، وكلما تسامت النفوس تواضعت، ولم يكن ذلك متكلّفاً أو مصطنعاً، وإنما كان نابغاً من سويّة إنسانية وخلق رفيع ، فالتسامح بالنسبة إليه يقوم على أسس أخلاقية وحضارية وإنسانية، وهو ما  شكّل صورةً للدولة الأردنية وأصبح ملمحاً من ملامحها حتى اقترب من القاعدة الحقوقية، حيث أصبحت حالة عامة، وهو ما يطبع علاقة الحاكم بالإنسان، وحين تجري مقارنة بينه وبين صدام حسين مثلاً أو حسني مبارك أو معمّر القذّافي، ستجد فرقاً شاسعاً بين شخصية الملك حسين المتواضعة وبين هذه الشخصيات المتغطرسة، وهو فرق بين التواضع والتعالي وبين التسامح والتعصّب وبين الشموخ والغرور.

      وقد ذكرت في البحث الذي جرت الإشارة إليه، أنه لم يلتجأ إلى إعدام شخص واحد خلال كل فترة حكمه، على الرغم من العديد من محاولات الانقلاب العسكري التي قامت ضدّه، لكنّه بعد حين يلجأ إلى تخفيف الأحكام من الإعدام إلى المؤبد، ومع مرور الوقت يتم الإفراج عن المحكومين، وفي الغالب، تتم معاملتهم بالحسنى، وبعضهم احتل مناصب رفيعة.

     وقد تطورت نظرته المتسامحة مع نضج تجربته وأصبح التسامح الوسيلة الأكثر ملائمة لتحقيق المثل الإنسانية والقيم العليا، فلم يجلب العنف غير العنف والانتقام غير الانتقام والكراهية غير الكراهية ،ﻓ رذيلتان لا تنتجان فضيلة، و ظلمان لا ينجبان عدلاً  وقد كان حقّاً قريباً من إعلان منظمة اليونسكو الصادر في 16 تشرين الثاني / نوفمبر 1995 "إعلان مبادئ التسامح" ، لأنه أدرك أن نقيض التسامح هو اللّاتسامح ، ونقيض اللّاعنف هو العنف، وهما ينجمان عن التعصّب ووليده التطرّف، وحين يصير الأخير سلوكاً يصبح عنفاً، وإذا ما ضرب العنف عشوائياً فإنه يتحول إلى "إرهاب" و"إرهاب دولي"، حين يكون عابراً للحدود.

     إن إيمانه بمبادئ التسامح جعله أميل إلى الاعتدال والوسطية، وحين يصبح الحاكم  بمثل هذا الفهم والمسؤولية،  فإنه يتطلّع بعدلٍ إلى الدولة وبنائها وترسيخها وحقوق المواطن ومستقبله، بل يحاول معالجة ما ينشأ من ظواهر سلبية وممارسات خاطئة وانتهاكات لحقوق الإنسان، لأنها ستعود بالضرر على الدولة وعليه.

     إن وسطيّته واعتداله جعلت من إيمانه الديني بعيداً عن التعصّب والتطرّف، فقد كان مؤمناً بحب الحياة وفي الوقت نفسه معتقداً باليوم الآخر، وغالباً ما تأتي آيات قرآنية على لسانه، على نحو عفوي وغير متكلّف وهو ما وجدته أيضاً لدى شقيقه سمو الأمير الحسن، الذي يكاد يكون الوجه الآخر للملك حسين، وهو ما أشرت إليه في بحث عن سمو الأمير الحسن الموسوم:" لا يكتمل نصفه إلاّ بالنصف الآخر".

عقلانيته الاستثنائية، وهي نتاج لمراجعة وتفكّر ونقد ذاتي  ورسوخ رؤية، فقد قادته المبادئ التي أعلنها والسياسات التي رسمها وسار على هداها إلى التوازن والعقلانية ،  فالغاية بالنسبة إليه لا تبرّر الوسيلة، لأن الأخيرة ملموسة ومعروفة، في حين أن الغاية بعيدة المدى وغير منظورة، وهكذا تصبح الوسيلة من "شرف الغاية"، ولا غاية شريفة وعادلة دون وسائل شريفة وعادلة، وحسب المهاتما غاندي فإن الوسيلة إلى الغاية هي مثل البذرة إلى الشجرة ترتبط بها عضويّاً ولا يمكن فصلهما.

      وكان الحسين  يقلّب الأمور ولا يحاول أن ينفرد في رأي وإن كان رأيه مختلفاً، وهو ما كانت قراراته خلال الحروب مع "إسرائيل" والتصدي لعدوانها، سواء دخلها مقتنعاً أو اضطّر عليها بفعل الجو العام السائد أو حين حاول تجنّبها، ومثل تلك العلاقة المركّبة والمزدوجة كانت تطبع مواقفه من المقاومة الفلسطينية على الرغم من الموقع الحسّاس الجيوبوليتيكي للأردن كدولة مواجهة ضدّ "إسرائيل" ،  ذلك بحكم أن القدس ضمن الإدارة الأردنية قبل احتلالها العام 1967 (القسم الشرقي) والضّفة الغربية، وحتى فك الارتباط في العام 1988، يضاف إلى انطلاق الثورة الفلسطينية والعمليات الفدائية من الأردن.

      وعلى الرغم من اختلاف التصوّرات والتباين في وجهات النظر وتنازع السلطات، إلاّ أن دور الجيش الأردني في معركة الكرامة 21 آذار/ مارس 1968 كان له صدىً كبيراً في دعم المقاومة الفلسطينية وإعلاء شأنها، وذلك بإلحاق ضربة موجعة ﺒ "إسرائيل" بعد عدوان 5 حزيران/ يونيو العام 1967 . 

     لقد تعامل الأردن مع الفلسطينيين من منظور مختلف، فعلى الرغم من رفضه فكرة التوطين، مثل بقية البلدان العربية، بما فيها من جانب المنظّمات الفلسطينية لأسباب سياسية، إلاّ أنه منح الفلسطينيين الحقوق الأساسية كمواطنين، وهذه الحقوق جزء من الحقوق الإنسانية كالملكية والجنسية والإقامة والسفر، ناهيك عن الحقوق السياسية، وهو ما أخذت به لاحقاً العراق وسوريا. وكان أمام الأردن قرابة مليون لاجئ فلسطيني في حين كان عدد الأردنيين لا يزيد عن 400 ألف أردني، وخلال ثلاث سنوات ارتفع عدد سكان عمّان من 30 ألف ليصل إلى 200 ألف نسمة.

     وتعتبر مخيّمات اللاجئين في الأردن أكبر المخيمات وهي ستة أساسية. وكان الملك حسين يعتقد وهو على حق أن منح الفلسطينيين الحقوق الأساسية لا يتعارض مع حقّهم الثابت وغير القابل للتصرّف بالعودة والتعويض. وعلى الرغم مما حصل من أحداث مؤلمة في أيلول / سبتمبر 1970، راح فيها ضحايا من الفلسطينيين والأردنيين في اقتتال الأخوة ، إلاّ أنه ما إن انتهت الأحداث فإنها لم تترك مجالاً للكراهية أو الحقد أو الانتقام، وعاد الملك حسين والتقى مع  الرئيس ياسر عرفات وفتح صفحة جديدة، حيث كان خطر"إسرائيل" قائماً ومستمراً ، وهو الذي ينبغي أن تصوّب نحوه البنادق.

 ثقافته الاستثنائية الموسوعية، فهو يمتاز بين الزعماء العرب بأفقه الثقافي الواسع، فقد كان أديباً وشاعراً وخطيباً ذرب اللسان بلغة متقنة وحديثة. وكان مجلسه الأدبي والثقافي عامراً جمع فيه نخبة من الشعراء والأدباء، وكان يدخل معهم في حوارات ونقاشات ثقافية، ويتردّد عليه عدد من المثقفين المعروفين منهم: محمد علي الحوماني ونديم الملّاح وفؤاد الخطيب وسعيد البحرة وتيسير ظبيان وعرّار (مصطفى وهبي التل) وحسني زيد الكيلاني وغيرهم الكثير.

     وخلال فترة حكمه انتعشت الحركة الثقافية التي أولاها اهتماماً خاصاً وأسس مجمّع اللغة العربية العام 1976 وكذلك تطوّرت حركة الفنون التشكيلية والمسرحية والسينمائية والموسيقية، كما اهتم بالتنوع الثقافي للمجموعات المختلفة، وأقصد بذلك من المسيحيين والشركس والشيشانيين وغيرهم، الذين شاركوا في بناء الدولة وحماية صرحها على أساس المواطنة، وأصبح منهم رؤساء حكومات ووزراء وفنّانين ورُوّاد في الأدب. كما تأسست في عهده  المنتديات والمراكز الثقافية وتعزّزت مكانتها ، واهتم بالعلوم الآثارية فأسس متحف الآثار الأردني عام 1951 ومتحف البتراء في العام 1963 ، ومتحف الحُلي والأزياء العام 1971 ومتحف الحياة الشعبية العام 1977 ومتحف صرح الشهيد العام 1977 وأُسس لاحقاً في عهد الملك عبد الله الثاني متحف الأردن ومتحف الأطفال .

 رؤيته الاستثنائية الإستشرافية، حيث امتاز الملك حسين بقراءة استشرافية للمستقبل فهو شخصية رؤيوية وضعت المستقبل دائماً في ذهنها وفكرها، وربما ينطبق عليه قول الروائي الروسي مكسيم غوركي عن أحد مفكري وثوريي عصره:"أن نصف عقله يعيش في المستقبل"  ، بل إنه امتلك حاسّة شمّ سياسية واجتماعية ذكية جداً، فكان يقرأ إرهاصات المتغيرات الدولية والإقليمية ويحاول أن يضع خططاً استراتيجية وتجريبية في الآن، أي  قصيرة ومتوسطة المدى لاختبار مدى تساوق ما يجري كونياً وإقليمياً وانعكاساته على الوضع الداخلي، فيتخذ المبادرة السريعة بشجاعة وبُعدَ نظرٍ.

      فعلى سبيل المثال ، أدرك عشيّة انتهاء الحرب الباردة وبداية أشكالٍ جديدة من الصراع الأيديولوجي في نهاية الثمانينيات أن السياسات والوسائل القديمة لم تعد صالحة في ظل صعود موجة احترام الحقوق والحريات وارتفاع رصيد الدعوات الديمقراطية والإقرار بالتنوع والتعددية، فبادر بجرأة قبل العديد من دول المنطقة لتهيئة البنية التحتية لعملية التحوّل التدرّجي، فأقدم في العام 1989 على تحديث التشريعات لتكريس التعددية السياسية وبعض المبادئ الخاصة بحقوق الإنسان والديمقراطية، وتفعيل قانون الأحزاب السياسية الذي شُرّع منذ العام 1955 ، حيث أجريت أول إنتخابات برلمانية بعد أن تعطلت بسبب الأوضاع الاستثنائية إثر عدوان العام 1967. وهكذا حصل الانفتاح الأردني الداخلي مبكّراً حتى قبل أن تهب موجة التغيير على الشرق الأوسط.

     وكان تقرّر فكّ الارتباط القانوني والإداري بالضفة الغربية الذي اتخذه الملك حسين في العام 1988 استجابة لمؤتمر قمّة الرباط العام 1974، والذي اعترف بمنظمة التحرير الفلسطينية (م.ت.ف.) كممثل وحيد وشرعي عن الشعب العربي الفلسطيني، وهو ما أتاح له التفرغ للداخل واستئناف مسيرة إنفتاحية جديدة في العام 1989 وتوسيع دائرة المشاركة لتشمل المرأة مرشحّة وناخبة.

      مثلما انصرف لتوسيع دائرة التعليم الإلزامي والمجّاني في الصفوف العشرة الأولى، لأنه أدرك أن إحداث النهضة الحقيقية والتنمية المستدامة لا بدّ أن تقوم على التعليم، خصوصاً بنقل المجتمع الأردني من مجتمع شبه أمّي متخلّف إلى مجتمع متعلّم يتطلّع إلى الحداثة والمدنية. وشملت النهضة قطاع الصحة والخدمات والبنية التحتية والعمران والنقل والزراعة والسياحة والصناعة والتجارة والطرق والجسور والمواصلات والإهتمام بالثقافة والرعاية الشبابية والرياضة.

قدرته الاستثنائية في عقد تحالفات ومدّ جسور وقنوات اتصال، دون نسيان  الإمساك بالحلقة المركزية بيد الدولة، فقد عمل بكل سعي لعقد اتفاقات وتحالفات عسكرية ومدنية وعشائرية في الحضر والبادية  تحت لواء الدولة وقيادتها، وحاول ذلك عبر فلسفة تقوم على إخضاع كلّ المرجعيات للدولة وقوانينها الموحدّة لإحداث التغيير المنشود. وأتاح له ذلك الانفتاح دعم قوى اجتماعية مختلفة لتعزيز مكانة الدولة وتمثيلها، خصوصاً وأنه محاط بدول إيديولوجية شمولية دينية أو قومية، الأمر الذي دفع الأردن للبحث عن حلول للمشاكل القائمة بوسائل سلمية وبإيقاع دبلوماسية نشطة وبنّاءة ومدّ أواصر التواصل مع الآخر وتجنب القطيعة.

     لقد أدرك الملك حسين أن شرعية أي نظام سياسي تقوم على رضا الناس وتحقيق منجزات لمصلحتها، أمّا المشروعية فتقوم على الالتزام ﺒ حكم القانون، وإذا ما سارت الشرعية السياسية بموازاة المشروعية القانونية، فإن ذلك يعني أن الدولة سلكت الطريق الصحيحة على الرغم من وعورتها أحياناً وكثرة منعرجاتها وتقلّبات المناخ السياسي وعواصفه.

   

قدرته الاستثنائية على تدوير الزوايا وسعيه المستمر  لتنقية الأجواء العربية، خصوصاً في فترة الأزمات وتعقّد المشكلات وتعاظم التوترات، فيبادر حين تتلبّد السماء بالغيوم ويسعى لانكشاحها ليرى الجميع شمس الواقع وما خلفها، وذلك بوضع الخلافات جانباً وتهيئة الأجواء لقبول اللقاء والحوار ومن ثم الجلوس إلى طاولة مفاوضات أو عقد اجتماعات ثنائية أو جماعية، معلنة أو سرّية وصولاً إلى توافقات واتفاقات ومصالحات 

كلّما اقتضت الضرورة ذلك.

     فعلى سبيل المثال لا الحصر، فقد ترك خلافاته مع قيادة الرئيس جمال عبد الناصر جانباً وتوجّه إليه عشية عدوان 5 حزيران/ يونيو 1967 ليطلب منه توقيع معاهدة للدفاع المشترك شبيهة بالمعاهدة المصرية - السورية ، بل هي استنساخ لها، وطلب منه إرسال الجنرال عبد المنعم رياض معه إلى الأردن ليكون مسؤولاً عن القوات الأردنية والقوات العربية المتوقّع قدومها من العراق والسعودية، ووافق على المصالحة مع رئيس منظمة التحرير الفلسطينية أحمد الشقيري بطلب من عبد الناصر ، بل قام باصطحابه معه في الطائرة إلى عمان مع عبد المنعم رياض، وذلك لتأكيد صدقيه توجّهه.

     وعلى الرغم من معلوماته وتقديراته المختلفة عن معلومات القيادة المصرية، إلاّ أنه كان حريصاً على وحدة الصف العربي مثلما هو حريص على تأكيد صدقيته، وهو ما أكدّه محمد حسنين هيكل ، بتنبيهه للفخ الذي أريد للعرب أن يقعوا فيه، وهو ما كان لديه من معلومات مسبقة.

     وحاول خلال حرب الخليج الثانية أي بعد غزو القوات العراقية للكويت في 2 آب/ أغسطس 1990 ، الحيلولة دون الحل العسكري لأنه أدرك أن التدمير سيمتد إلى عموم دول المنطقة، فحاول الضغط على الجانب العراقي للإنسحاب من الكويت ، ونزع فتيل الحرب ، إلاّ أن التعنت والرؤوس الحامية والمخطّطات الهادفة إلى الإستلاء على المنطقة كانت هي الأقوى والأسرع، وحصل ما حصل . وظلّ حريصاً على التخفيف من عبء الحصار الدولي الجائر على العراق وشعبه .

 

إنسانيته الاستثنائية، فقد تمتّع الحسين بسعة صدر وقدرة كبيرة جداً على التحمل ، وبعيداً عن السياسة فقد كان رحيماً " والرحمة فوق القانون" كما يُقال و رؤوفاً وعطوفاً ، بل عاطفيّاً تترقرق عيناه بالدموع إزاء بعض المشاهد الإنسانية. وحسب نيتشه: "ما قيمة فضيلتي إن لم تجعل منّي إنساناً عاطفياً"

      وعلى الرغم من إحساسه بالغدر في الكثير من الأحيان، إلاّ أنه تعامل ببعد نظر إنساني مع خصومه وأعدائه ، وحسبي هنا أن أذكر بعض الحوادث ذات الدلالة، منها حادثة الجنرال علي أبو نوار رئيس الأركان العامة الذي كان على رأس حركة استهدفت النظام بالكامل في العام 1957 ، واضطّرّ بعدها للعيش في المنفى حين سمح له الملك بالمغادرة وهو يعرف أنه سيتحوّل إلى" خصم لدود" كما يذكر الملك الحسين في كتابه:" مهنتي كملك: أحاديث ملكية" ، إلاّ أنه عفا عنه وعاد إلى الأردن  في العام1965 ،ثم عينه سفيراً في باريس العام 1971 ، وعضواً في مجلس الأعيان في العام 1989 .

 ونستعيد  أيضاً ما حصل مع الجنرال نذير رشيد الذي شارك أيضاً في المحاولة الإنقلابية ضدّ الملك حسين في نيسان/ أبريل 1957 ، وهرب على إثرها إلى سوريا، ثم صدر العفو الملكي عنه وبقية المعارضين العام 1965 ، وعاد إلى الخدمة وعيّنه الملك مديراً للمخابرات العامة العام 1970 ، ثم سفيراً وعضواً في مجلس الأعيان، وأصبح وزيراً للداخلية في حكومة عبد السلام المجالي(أبريل/ نيسان 1997 ) .

 

  وأستعيد ما حصل مع الصديق ليث شبيلات  كما نقله لي، فبعد أن قضى سبعة أشهر في السجن بعد الحكم عليه 3 سنوات بتهمة "تشويه سمعة الملك" قابلته والدته طالبة إطلاق سراحه " عشيّة يوم العيد" ، فقال لها "أبشري الليلة ينام لديك في البيت"، وذهب الملك حسين بنفسه إليه في السجن واصطحبه معه بسيارته وطاف به في  شوارع عمّان ليوصله إلى البيت وفاءً  لوعده .

     وفي الختام أقول أن هذه الإنسانية  المرهفة والحساسية الأخلاقية الفائضة ، إضافة إلى السجايا الشخصية والقيادية الاستثنائية هي التي وفّرت " الإجماع  الاستثنائي" على شخصه، فحتى المعارضة لبعض الإجراءات والتوجّهات كانت تعتبره ملكاً للجميع، وتلك إحدى امتيازات الأردن. وهكذا كان رحيله صدمة وخسارة حقيقية لكل أردني وربما لكل عربي منصف، اختلف أو اتفق معه، وهو ما نستعيده اليوم بمناسبة مئوية ميلاد الدولة الأردنية.

 

* أكاديمي ومفكر عربي (من العراق) – له أكثر من 70 كتاباً ومؤلفاً في قضايا الفكر والقانون والسياسة الدولية والأديان والثقافة والأدب والمجتمع المدني. نائب رئيس جامعة اللاّعنف وحقوق الإنسان في العالم العربي  (أونور)، بيروت. وحائز على جائزة أبرز مناضل لحقوق الإنسان في العالم العربي، القاهرة، 2003.

 

نشرت في جريدة الدستور (الأردنية) الخميس في 11 تشرين الثاني / نوفمبر 2021

 

صورة الأردن

عبد الحسين شعبان

 

     كانت صورة الأردن حاضرة بقوّة وإشراق  في مؤتمر نظّمته الجامعة الهاشمية بالزرقاء وبالتعاون مع وزارة الثقافة ، وبرعاية سامية، والتأم  بمناسبة مئوية الدولة الأردنية، حيث استعاد المشاركون وهم من 23 بلداً وفي نحو 60 بحثاً ودراسة تلك المناسبة، بمراجعة نموذج  التجربة الأردنية  ارتباطاً بأجواء الأمل والتفاؤل، على الرغم من التحدّيات الاستثنائية التي عاشها الأردن، وكذلك وضعه الاستثنائي الجغرافي والتاريخي، بما فيه من عناد وظلم.

     وكان الملك حسين تسلّم عرش المملكة لنحو 46 عاماً، وترك بصمته الواضحة على مسارها وتوجّهها على خلفية الثورة العربية الكبرى التي قادها الشريف الحسين بن علي للتحرّر والانعتاق من الهيمنة العثمانية، حيث كان الأمير عبد الله الأول قد أعلن عن تأسيس "إمارة الشرق العربي" ، ثم سُمّيت "إمارة شرق الأردن" التي نالت استقلالها في 25 أيار/ مايو 1946 وأصبح ملكاً على "المملكة الأردنية الهاشمية"، لكن اغتياله في العام 1951 في القدس وهو على درجات المسجد الأقصى، ترك أثراً عميقاً لدى الفتى الذي سيتولّى عرش المملكة بعد سنتين من إطلاق النار على جدّه، ومثل هذا الأثر لازمه حتى آخر يوم في حياته. واتّسم بتوجّهين أساسيين:

أولهما – نبذ العنف بجميع أشكاله ومبرّراته وحججه وتداعياته ؛ وثانيهما – رسوخ صورة القدس في وجدانه كجزء من استراتيجيته. وإلى اليوم فإن الأردن ما تزال وصيّة على الأماكن المقدّسة في القدس.

 

      وإذا كان الملك طلال صاغ دستور المملكة، فإن الملك حسين هو بانيها منذ أن تسلّم سلطاته الدستورية كاملة بعد أن أتمّ الثامنة عشر من عمره وفق التقويم الهجري  في 2 أيار/ مايو   1953 . وحدّد خطاب العرش المبادئ الأساسية التي تسير عليها المملكة والتي ستصبح بمثابة "بلاتفورم" لها مكمّلة ومتمّمة دستورها ومواثيقها. وهي: النظام رائدنا والتعاون مطلبنا والاتحاد في الصفوف رمزنا والعمل شعارنا وبناء وطن محكم الدعائم راسخ الأركان هدفنا ومساواة جميع المواطنين مبدؤنا.

     يمتلك الأردن موقعاً استثنائياً وسطياً وهو ما جعله يواجه تحدّيات استثنائية أيضاً، فهو محاطٌ ﺒخمسة دول، فمن الغرب فلسطين التي تحتلّها "إسرائيل" بؤرة العدوان المستديمة والترسانة العسكرية التي   تغتصب حقوق أهلها وتشرّدهم ، ومن الجنوب المملكة العربية السعودية، ومن الشرق العراق ، ومن الشمال سورية، ويشترك الأردن مع مصر بحدود مائية في خليج العقبة. وشهدت مصر وسوريا والعراق انقلابات عسكرية عديدة وأنظمة قومية  راديكالية شمولية، في حين استمرّت المملكة الأردنية الهاشميّة تغرّد خارج السرب وسط العواصف الآيديولوجية  الواحدية والإطلاقية ، مختارةً طريق الاعتدال والتطوّر التدرّجي  وبتوجّه  أقرب إلى الليبرالية أو بعض إرهاصاتها، حسب وصفة نهاية الأربعينيات والخمسينيات.

     واجه الأردن تحدّيات وامتحانات عسيرة منذ استقلاله العام 1946 ، منها حرب العام 1948 العربية - "الإسرائيلية"، ، كما واجه مسألة بناء الدولة وتعريب الجيش والعلاقة مع بريطانيا وإلغاء المعاهدة معها ، فضلاً عن التجاذبات السياسية في مراحل عديدة من تاريخه، وخصوصاً في نهاية الخمسينيات ، ثم عدوان "إسرائيل" العام 1967 ، إضافة إلى الموقف من الحرب العراقية -  الإيرانية ، وغزو القوات العراقية للكويت ، ثم حرب الخليج الثانية لتحرير الكويت والحصار الدولي على العراق واحتلاله فيما بعد وصولاً إلى صفقة القرن في عهد الرئيس دونالد ترامب ، وذلك في عهد جلالة الملك عبدالله الثاني. ومثل هذه التحدّيات الاستثنائية لم تتمكّن دول أكبر وأغنى من الأردن وأكثر سكاناً أن تصمد أمامها، لكن الأردن بحكم بُعدِ نظر  قيادته وحنكته السياسية تمكّن من مواجهتها، وإن بصعوبات بالغة.

    لقد تمكّن الملك حسين وهو الاستثناء في الاستثناء أن يرسم طريقاً سالكاً للأردن على الرغم من وعورة الأوضاع وقسوة الظروف ووجود أكثر من مليون لاجئ فلسطيني عاملهم الاردن معاملة الأخوة بالحقوق والواجبات، وبفضل ذلك تمكّن من  تجنّب طريق المغامرة وردود الأفعال ، وهو ما فتح أبواباً أمامه  للتنمية والتقدم.

      ومن ينظر إلى مسيرة  الأردن ويعرف إمكاناته الشحيحة والمخاطر التي تحيط به يدرك حقيقة الدور الاستثنائي الذي لعبه الملك حسين باني المملكة، وما فتحه من أفق مستقبلي بالرغم من تعقيدات الوضع العربي والإقليمي وتجاذبات القضية الفلسطينية ومحاولات "إسرائيل" التوسعيّة وعدوانها المستمّر .  

     وتتجلّى استثنائية الملك حسين من خلال قدرته على استنباط الجوهري من الأشياء . وبقدر اتساع رؤيته فقد عمل بواقعية استثنائية أيضاً، وامتاز ﺑشخصيةٍ كاريزمية  وتواضعٍ جم وتسامحٍ متفرّد، فخلال فترة حكمه التي قاربت نصف عمر المملكة الأردنية الهاشمية ، لم ينفّذ حكم إعدام بأي سياسي معارض، وهو أوردته في بحث بُعيدَ رحيله والموسوم" الملك حسين: الحاكم والإنسان وسؤال التسامح".

        كما تمتّع الملك حسين ﺑثقافةٍ  موسوعية ورؤية إستشرافية عقلانية وقدرة على عقد تحالفات وتدوير زوايا، إضافة إلى إنسانية واسعة ، فكان رؤوفاً وعطوفاً ، وحسب نيتشه: "ما قيمة فضيلتي إن لم تجعل منّي إنساناً عاطفياً".

 

 

صاحب الحكيم

وسوسيولوجية الشيوعية في النجف

 

عبد الحسين شعبان

 

ما أخطأتك النائبات / إذا أصابت من تحب

                                                                                                         الشريف الرضي

 

     لا تُذكر الشيوعية في النجف إلاّ وهي مقترنة بثلاثة أسماءٍ كبيرة، أولها–سلام عادل (حسين أحمد الرضي) الأمين العام للحزب الشيوعي، الذي استشهد تحت التعذيب في العام 1963 على يد إنقلابيي 8 شباط/ فبراير، وثانيها- حسين محمد الشبيبي (صارم)عضو المكتب السياسي، الذي أعدم في العام1949 مع يوسف سلمان (فهد)أمين عام الحزب الذي يعتبر أحد أبرز مؤسسيه والمساهم الأكبر في بنائه، ومحمد زكي بسيم   (حازم)عضو المكتب السياسي، وثالثها - صاحب جليل الحكيم (جهاد)، والثلاثة ينتسبون إلى عوائل دينية، فوالد سلام عادل درس في الحوزة الدينية، ووالد حسين الشبيبي الشيخ محمد الشبيبي كان قارئاً للمنبر الحسيني وكان منبره تحريضياً تعبوياً عامراً، أما الحكيم فوالده السيد جليل وشقيقه السيد سلمان وعدد غير قليل من آل الحكيم من سدنة الروضة الحيدرية للإمام علي أيضاً.

      وعلى هذا المنوال المتنوع بين الإنحدارات الدينية والتوجّهات المدنية كان المجتمع النجفي يمورُ بالجدل والنقاش و الإختلاف بين ما هو ديني وما هو دنيوي، وكانت قد انبعثت الروح التجديدية في الحوزة الدينية منذ أن جاءها الإمام الطوسي ملتجئاً في العام 448 هجرية وتوفي فيها في العام 660 هجرية.

     وظلت النجف منذ نحو 1000 عام قبلة للعلوم الدينية ومرجعية مرشدةً للدارسين من شتّى الأقطار العربية والإسلامية، مثلما كان وجهها الآخر مشرقاً بالثقافة والأدب والشعر بخاصة. وعلى مرّ العهود كانت الكبرياء تسكنها، فهي مدينة عصيّة على الترويض، ولعلّها  تآخت مع التمرد، ولم تستكن في كل الظروف والأحوال، بالرغم من محاولات تطويعها في السابق والحاضر.

    وعلى الرغم من أجوائها المحافظة ، إلاّ أن هاجس الإصلاح والتجديد كانا على الدوام في رفقةٍ مع نخبها الفكرية والثقافية المتنوعة.فالنجف بتناقضاتها وجوار أضدادها وروح الجدل التي تحوم حولها تمثّل "الفكر المنفتح في المجتمع المنغلق"،حسب السيد مصطفى جمال الدين كما ورد في كتابه " الديوان" 1995، فباحاتها وجوامعها ومساجدها ومدارسها تضجّ بالدارسين والمنشغلين بالعلوم الدينية واللغة والنحو والفقه والعبادة. حيث مرقد الإمام علي الذي يعتبر مزاراً لعموم المسلمين.وقد خرّجت النجف أعداداً كبيرة من " علماء " الدين من البلدان العربية والإسلامية وأوفدت إليها "علماء" دين يمثلون مراجع " كبار" في النجف.

     والنجف مدينة مفتوحة للوافدين والزائرين وهي تقع على طرف الصحراء بالقرب من نهر الفرات المار بالكوفة وهي ملتقى الأطراف المحيطة بها من حضرٍ وبدوٍ ومللٍ ونِحلٍ وفيها أكبر مقبرة في العالم تسمى "مقبرة وادي السلام" وهي رابع المدن الإسلامية بعد مكة المكرمة والمدينة المنورة والقدس الشريف وهي دار هجرة الأنبياء ومواطئ الأولياء، فقد نزل فيها النبي ابراهيم الخليل ودفن فيها النبي هود والنبي صالح وفيها انتعشت مدرسة الكوفة التي أبقت باب الإجتهاد الفقهي واللغوي مفتوحاً.

      ولعل ذلك أوجد مناخاً متميزاً وأفقاً رحباً في النجف كرّسته بقبول تنوّع التيارات الفكرية والإجتماعية. فلا غرابة أن تكون النجف قد خرّجت شيوعيين كباراً أيضاً، عراقيين بالطبع وعلى المستوى العربي أيضاً من أمثال المفكر حسين مروّة الذي تمّ إغتياله في العام 1987 في بيروت والمناضل محمد شرارة والد الأكاديمية والروائية حياة شرارة والكاتبة بلقيس شرارة، وغيرهم.

     وبقدر ما تكون بيئة النجف عراقيةً وعربية أصيلة فإنها كانت مفتوحة لتلاقح الثقافات وتعاشق الأعراق وتآلف اللغات والألسن، دون أن يعني ذلك إخلالاً أو إنتقاصاً من عروبتها وقيمها الحضارية وأبعادها الإنسانية، حيث كانت اللغة العربية لغة الدراسة التي لا يمكن التقدم والتدرج في العلوم الدينية والدراسة الحوزوية دون الإلمام بها وإتقانها.

 

شريط سينمائي

     مرّ شريط سينمائي برأسي وهو أقرب إلى إسترجاعاتٍ و استعاداتٍ، وأنا في آخر زيارة لصديق العمر صاحب الحكيم ( مطلع أيلول /سبتمبر 2021 ) في منزل نجله باسم في بغداد، حيث قفزت إلى الذاكرة أسماء أخرى رنّانة من شيوعيّ النجف، وكان في المقدمة منهم حسين سلطان القيادي والوجه الإجتماعي المحبوب،وحسن عوينة ( الذي استشهد تحت التعذيب بعد انقلاب 8 شباط/ فبراير 1963)،وباقر ابراهيم الموسوي (أبو خولة) الذي قاد التنظيم الحزبي لنحو ربع قرن 1961-1984 قبل تنحيته،ومحمد موسى "حديد" ( الذي استشهد أيضاً تحت التعذيب في العام 1963 ) والدكتور خليل جميل الجواد، صديق العائلة وزميل الدكتورة نزيهة الدليمي والتي كانت قد اختفت بمنزله في النجف في الخمسينيات كما أخبرتني،ومحمد حسن مبارك المرشح للجنة المركزية، والذي عاش في عزلةٍ لأكثر من 10 سنوات توفي بعدها في ظروف غامضة وملتبسة بعد الإنتفاضة الشعبية في العام ،1991 ورضا عبد ننه ( أبو جبّار) الذي توثّقت علاقتي معه بعد إنتقاله إلى حزب القيادة المركزية إثر انشطار الحزب الشيوعي في العام 1967 ودخلت معه في نقاشات مطوّلة ، وآخرين ممن عرفتهم في مرحلة الفتوة الأولى، وتأثرت بالعديد منهم، خصوصاً لسجاياهم الأخلاقية وشجاعتهم، وأولهم صاحب الحكيم .

 

لقاء الوداع

 

    كان اللقاء الأخير وداعياً، هكذا شعرت وأنا الذي يكره الوداع، فقد كنت أغيب عن أصدقائي وأحبائي حين أشعر بدنوّ منيّتهم، لأنني أريد أن أُبقي في ذاكرتي صورتهم وهم في عزّ قوّتهم، إلاّ أن اللقاء الأخير كان مفروضاً عليّ وحاولت أن أتهرّب منه، وكان صاحب الحكيم قد عرف بزيارتي إلى بغداد وهاتفني مستنجداً، فكيف لي أن أزوغ عن هذا الواجب الإنساني والأخلاقي وأنا الذي عرفته منذ أن أدركتني لوثة السياسة بأحلامها الكثيرة وهمومها الكبيرة، بحلوها ومرّها كما يقال، فقد عشنا منعرجاتها وتقلّباتها وتشعّباتها وتذرّراتها وإحباطاتها، فأين كنّا وأين أصبحنا؟

    بعد زيارة لما يقارب الساعة ودّعته مع كلمات مجاملة غصّت في فمي باللقاء قريباً، وهممت بالمغادرة. حين وصلت باب المنزل عدت لألقي عليه نظرة الوداع. صعدت السيارة بجوار ولده باسم وكنت أشعر بحشرجةٍ داخليةٍ أخذتني إلى عالم آخر أقرب إلى الخيال أو التوهّم، حيث بدأت الذكريات تتقافز في رأسي وتمطرني بزخّاتٍ من الأسئلة. كيف لك أن تودّع صديقاً مثل صاحب الحكيم؟ وكيف طاوعك قلبك وراودتك نفسك لدرجة إنفجرت تلك العواطف الإنسانية بشيء أقرب إلى النحيب، "فما قيمة فضيلتي إن لم تجعل منّي إنساناً عاطفيّاً؟"على حدّ تعبير الفيلسوف نيتشة.

      لا أدري بمَ تمتمتُ وأنا أهّمّ مسرعاً نحو مدخل فندق بابل. لحظتها استعدت بيت شعرٍ للصديق السيّد حسين هادي الصدر، والذي بقيت أردّده يومياً طيلة الأسابيع الثلاثة المنصرمة حتى جاءني خبر وفاته الذي نزل عليّ كالصاعقة (25 أيلول/سبتمبر 2021) ، وهو الذي يقول فيه :

سيف المنايا مرهفُ الحدّ  /  يُردي ولا نقوى على الرّدِّ

وفي اللّاوعي كنت أقرأ الفاتحة على روحه صباحاً ومساءً،  مستعيداً الجواهري الكبير في قصيدته المهداة إلى صلاح خالص- أأخي أبا سعد:

فالمرء مرتطمٌ بحفرته / من قبل أن يهوى فيرتكسا

أو كما يقول في قصيدته المهداة إلى الدكتورة نجاح العطار وزيرة الثقافة السورية السابقة وهي بعنوان أسيدتي نجاح :

يظلّ المرء مهما أخطأته / يدُ الأيام طوع يد المصيبُ

أو بيت الشعر المشهور من قصيدته الإستذكارية للشاعر الرصافي 1959:

ذئبٌ ترصّدني وفوق نيوبه / دمُ إخوتي وأحبتي وصحابي

هكذا هي الحكمة الأبدية "فالموت يدرك كلّ ذي رمقٍ" وهو ما ورد في القرآن الكريم حيث تقول سورة الرحمن – الآيتان 26 و 27 " كلّ من عليها فان. ويبقى وجه ربّك ذو الجلال والإكرام".

 

 

"أبو زمن" و الوعي الأوّل

 

     بُعيد ثورة 14 تمّوز / يوليو 1958 وفي بدايات تكّون وعيي الأول بحكم إنتماء العائلة اليساري، وفي غُمرة الإبتهاج بالتغيير إلتقيت بصاحب الحكيم، الذي كان يُكنّى بأبو زمن وذلك بعد الإعلان عن تأسيس لجنة تحضيرية لإتحاد الطلبة العراقي العام وكان هو على رأسها، حيث أُعيد إلى الدراسة بعد أن فُصل منها لخمسة أعوام ( طالباً في الصف الثالث المتوسط – المسائي). واختارت اللجنة مقرّا علنيا لها في إحدى المقاهي في شارع نادي الموظفين بين متوسطة الخورنق وإعدادية النجف. وبعد الإنتخابات التي كانت حامية الوطيس أصبح الحكيم رئيساً للإتحاد ومثّله في المؤتمر العام الأول ( بعد المؤتمر التأسيسي الذي انعقد في ساحة السباع في 14 نيسان / إبريل 1948). وتغير إسم الإتحاد إلى " إتحاد الطلبة العام في الجمهورية العراقية".

    كان الحكيم (أبو زمن) عضواً في الوقت نفسه في مكتب اللجنة المحلية للحزب الشيوعي التي يقودها محمد حسن مبارك ، وفي نهاية العام 1959 ومطلع العام 1960 أصبح سكرتيراً للجنة المحلية وعضواً في لجنة منطقة الفرات الأوسط .

    في فترة الخمسينيات كان يتردّد على بيتنا هو وبعض المسؤولين الحزبيين لإداء عدد من  المهمات الحزبية حيث كان  مشرفاً على اللجنة الطلابية التي ضمّت محمد موسى ( مسؤولاً) ورحيم الحبّوبي وشوقي شعبان وعبد الزهرة الحلو وكان معهم قبل ذلك عبد الرضا فيّاض الذي حكم عليه لمدّة عام وعام آخر تحت المراقبة إثر إنتفاضة العام 1956 انتصاراً للشقيقة مصر وضد العدوان الثلاثي الإنكلو- فرنسي الإسرائيلي.

     وعاش شيوعيو النجف بكل جوارحهم  حالة إنشقاق ( راية الشغّيلة)بكل تفاصيلها،حيث انشطر الحزب الشيوعي إلى جناحين( القاعدة و راية الشغيلة) وقد توالى على مسؤولية اللجنة المحلية التي تضمّ النجف وكربلاء حمزة سلمان الجبوري الذي استشهد عام 1963، وكان قد اعتُقل لإتهامه بأحداث الموصل إثر حركة العقيد عبد الوهّاب الشوّاف (آذار / مارس 1959)، وأُعدم بعد إنقلاب 8 شباط / فبراير. وقد استلم مسؤولية اللجنة المحلية بعده صالح الحيدري وهو من عائلة كردية معروفة وشقيق الشهيد جمال الحيدري الذي استشهد تحت التعذيب في تموز/ يوليو 1963، وكان حسين سلطان من الذين تولوا مسؤولية اللجنة المحلية لأكثر من مرة، وبعد تحقق وحدة الحزب لم يستطع سلطان إستيعاب التغيير المفاجئ، خصوصاً ما كان من خصومة وعداء واتهامات وتراشق بين الفريقين المتصارعين التي تحولت بين ليلة وضحاها إلى مودة ورفقة وتضامن ومبدئيةٍ ، فاعتذر عن المسؤولية وسلّم قيادة اللجنة المحلية إلى صاحب الحكيم لفترة مؤقتة شهدت إزدهاراً ونمواً واتساعاً للحركة الشيوعية .

 

أبو بشائر وأسماء أخرى

 

     أخذنا نسمّي صاحب الحكيم "أبو بشائر" بعد ولادة إبنته البكر بشائر( المهندسة حالياً )، وبعد زواجه من الشيوعية فهيمة عمران الدجيلي العضوة في رابطة المرأة والتي اعتقلت في العام 1963، وكان إسم أبو بشائر يتغيّر باستمرار إلاّ للخاصّة والأصدقاء المقربين، فحين عمل في منطقة بغداد كان إسمه "أبو محمد" وفي سوريا أطلق على نفسه "أبو سعدون" وحين إلتقيته في طهران وأنا عائد من مجزرة بشتاشان أبلغني أن إسمه "أبوهادي"، وهكذا، وعلى الرغم من أنه عمل في قطاعات تنظيمية مختلفة فتارة مسؤولاً للمثقفين وأخرى مسؤولاً عن محليّة الكاظمية ومنظماتٍ أخرى،إلاّ أنه ظلّ يتابع أوضاع الطلبة وحركتهم وكانوا أحد مشاغله أيضاً ، و بقي على هذه الحال لسنوات غير قليلة، ولاسيّما بعد خروجه من السجن وانتقالنا إلى بغداد، وحاول الإتصال بعدد من الطلبة الذين يعرفهم في الجامعات،  وخصوصاً بعد الإنشقاق الذي حصل في الحزب العام 1967 ، فانتدبته إدارة الحزب للمشاركة في تعزيز التنظيمات الطلابية والإشراف على هذا القطاع المهم الذي كان في غالبيته الساحقة مع مجموعة القيادة المركزية بإدارة عزيز الحاج، وهكذا ساهم مع كوكبة لامعة لإعادة بناء إتحاد الطلبة والتنظيمات الحزبية.

     وحتى خلال فترة إدارته للتنظيم في دمشق، طلب منّي الإشراف على عقد كونفرنس طلاّبي لإختيار قيادة لجمعية الطلبة العراقيين في سوريا، وذلك بحكم تجربتي الطويلة في هذا الميدان. وقد اصطحبت معي الشاعر سعدي يوسف الذي خاطب الجمع الطلاّبي إنطلاقاً من تجاربه المهنية والفكرية، واختارت الجمعية قيس حسن الصرّاف رئيساً لها.

 

أوّل سجن

إثر إنتفاضة العام 1956، كان الحكيم قد اعتقل عدّة مرات في الخمسينيات، لكنه سُجن لأول مرّة لمدّة عام حيث اعتقل في بغداد، وبعد الحكم عليه نقل إلى سجن بعقوبة، والتقى لأول مرّة بالرفيق عزيز محمد في السجن والذي سيصبح أميناً عاماً في العام 1964 ويستمر في موقعه ل 29 عاماً، وحين أُطلق سراحه نُسّب للعمل لقيادة منظمة الشامية ومنها إلى الحلّة (لم يستمر فيها) وعاد لقيادة محليتها في العام 1962 ، حيث اعتقل فيها، وحكم عليه لمدّة سنتين تنقّل خلالها في سجون عديدة منها سجن بغداد المركزي وسجن الحلّة وسجن نقرة السلمان وسجن الرمادي حيث شكّل لجنة لقيادة السجن ضمّت يوسف حمدان وكمال شاكر وزهير الدجيلي.

     وبعد لقاءات مستمرة أغلبها عامة وبعضها خاصة إلتقيته آخر مرّة  قبل إنتقاله إلى قيادة محليّة الحلّة وذلك خلال زيارة سريعة لشقيقه سلمان الحكيم، وبعدها انقطعت أخباره بالنسبة لي بتردّي الأوضاع السياسية واتجاه الزعيم عبد الكريم قاسم للإنفراد بالحكم وإتّباعه أساليب دكتاتوريّة وقمعيّة، ثمّ إلتقينا في المعتقل بعد 8 شباط (فبراير) 1963  لتتوطّد علاقتنا وتبدأ صداقة حميمة بيننا لم يفرّقها سوى الموت.

 

 

عائلة الحكيم

 

     بودّي أن أتوقف هنا للحديث عن عائلة الحكيم، فشقيقه الأكبر السيّد سلمان من الشيوعيين الأوائل البارزين في النجف  وقد اعتقل عدّة مرّات ومثله الشيخ وهاب شعبان وهما من سدنة الروضة الحيدرية للإمام علي، وكلاهما نالا قسطاً وافراً من التعذيب والتنكيل. وكانت المرحلة الأولى للحركة الشيوعية النجفية قد بدأت إرهاصاتها في مطلع الأربعينيات، ويدون كتاب الصديق محمد الشبيبي عن والده الموسوم "الرائد علي محمد الشبيبي - ذكريات التنوير والمكابدة" محطات التأسيس الأولى.

     أما شقيقه الثاني، فهو السيّد ناجي فقد سجن بعد 8 شباط/ فبراير1963، وبعد إطلاق سراحه عمل في لجنة محلية الكرخ لغاية العام 1970 وقد اعتُقل في قصر النهاية. وأخته العلوية زهوري هي زوجة الرفيق حسن عوينة الذي استشهد في العام1963، وكان حينها عضواً في لجنة الإرتباط لتنظيمات الحزب مع الألوية (المحافظات) والمكاتب في إطار"لجنة التنظيم والرقابة المركزية "(لترم)،ووالدته العلوية زكيّة عملت كمراسلة لأكثر من مرّة بتكليف من الحزب الشيوعي. ففي كامل مرحلة الخمسينيات كانت تزور السجون العراقية للقاء المعتقلين من أبنائها، فما أن يخرج واحد حتى يدخل آخر وهكذا. وكانت والدته وشقيقتاه عضوات في رابطة المرأة العراقية بعد ثورة 1958.

      أما والده فعلى الرغم من كونه يعمل مرشداً  في حضرة الإمام علي، إلا أنه كان متعاطفاً مع اليسار مثله مثل العديد من سدنة الروضة الحيدرية من آل الحكيم وآل الرفيعي وآل الخرسان وآل شعبان وغيرهم، إضافة إلى عوائل دينية معروفة مثل آل الشبيبي وآل سميسم وآل الجواهري وآل بحر العلوم وآل الدجيلي وآخرين، وحين اعتقلت زوجة الرفيق محمد حسن مبارك في الحلة قاد السيد جليل الحكيم وفداً لإطلاق سراحها، فإلتقى بالسيد محسن الرفيعي مدير الإستخبارات العسكرية في وزارة الدفاع وطلب منه التدخل لدى الزعيم لإطلاق سراحها ونجح في مهمته وهو ما ترك أثراً طيباً لدى النجفيين. جدير بالذكر أن منزل السيد جليل الحكيم هو الذي  استضاف أول كونفرنس للحزب بعد الثورة في منطقة الفرات الأوسط حضره سلام عادل وهو ثاني لقاء بين صاحب الحكيم وسلام عادل كما أخبرني .

      وعلى ذكر سلمان الحكيم فقد كان صديقاً لوالدي عزيز شعبان، وقد رفض جميع المغريات خلال فترة الجبهة، وبشهامة منقطعة النظير وبمروءة عالية استضاف صاحب الحكيم لعدّة أشهُر حين تسلل الأخير إلى بغداد في العام 1983 لإعادة التنظيم وتلك قصّة درامية أخرى، لا يتّسع المجال لذكرها في هذا المقام.

      وكان السيّد سلمان الحكيم بعد العام 1958 عضواً في لجنة مختصّة بالوسط الديني مؤلفة من الشيخ باقر الفيخراني والسيد نوري الموسوي وهما خطيبان منبريّان والسيد أحمد الحكيم (نجل السيد سعيد الحكيم البصراوي ) والشاعر عبد الحسين أبو شبع الذي كان عضواً في الحزب قبل ثورة 14 تموز/ يوليو 1958 وإسمه الحزبي "علي"، وتتبع هذه اللجنة أكثر من خلية وحلقات أصدقاء ومتفرقين يتوزعون على خدم الروضة الحيدرية والحوزة الدينية وقرّاء المنابر الحسينية وأصحاب المواكب، وكان  بعضهم من أنصار السلام . وكانت النجف تعرف تاريخهم أذكر منهم الشيخ حبيب سميسم ومحمد مصطفى الحكيم (الذي سبق له أن إلتقى بفهد) وحسن الحكيم ( الذي استشهد عام 1979 ) وثلاثتهم كانوا معتقلين معنا في خان الهنود والشيخ مجيد زيردهام والشيخ عبد الحليم كاشف الغطاء والشيخ ابراهيم أبو شبع وعدد من مرشدي حضرة الإمام علي من العوائل التي جرى ذكرها وهي تابعة للجنة المثقّفين، وكان لولبها السيد سلمان الحكيم الذي يملك "فندق النجف" في دورة الصحن الشريف، وبالقرب منه محل والدي المستأجر من صالح معلّة بعد أن انتقل من (السوق الكبير) لفترة قصيرة، ثم عاد إليه في العام 1959.

     وكان بجوار الفندق أيضاً آل سنجر ومحلّهم المعروف لبيع ماكينات الخياطة، ومصطفى الأطرقجي الملقّب "أبو الزوالي – محل لبيع السجاد" ويقترب منه دكّان سهل الخيّاط ( المبالِغ في يساريته) وهو والد جواد الطالب الذي كان  معنا في الحزب الشيوعي وهو خال علي ناجي بر، وبين هذا الوسط كان السيّد خلف الحبوبي وتعليقاته على لقاء عفوي يجمع من يريد الإطلاع على جريدة " إتحاد الشعب" أو تصفّح بعض المجلّات السوفيتية مثل المدار وصحف مثل أنباء موسكو ومنشورات وكالة نوفوستي. وكان يشير بإصبعه إلى الخط الأحمر، لكن هذه اللقاءات التي استمرّت لأشهر سرعان ما انقطعت بعد تدهور العلاقات السياسية.

 

خان الهنود

 

     يرجع بناء "خان الهنود" في النجف إلى القرن التاسع عشر، حيث قامت مجموعة تنتمي إلى "طائفة البهرة" ببنائه لإستضافة القادمين لزيارة مرقد الإمام علي والتبرك به. والبهرة  طائفة إسماعيلية نسبةً إلى إسماعيل إبن الإمام جعفر الصادق الذي ينسب إليه "المذهب الجعفري"، وتعود أصولها إلى أيام الدولة الفاطمية حيث يوجد لها بعض المزارات مثل ضريح "حاتم الحضارات" الداعية الفاطمي المدفون في منطقة حراز ( غربي صنعاء عاصمة اليمن) ومسجد الحاكم بأمر الله في القاهرة. ويبلغ نفوس طائفة البهرة في العالم نحو مليون شخص.

     إنعقدت صداقتي مع صاحب الحكيم في موقف خان الهنود، الذي كان مركز الشرطة الرئيسي في النجف، وتلك إحدى المفارقات ، حيث كان قد سبقنا إلى ذلك المكان، وكان المسؤول الحزبي عن المعتقلين الذين بدأوا يتوافدون بالعشرات، بل بالمئات إلى خان الهنود ومنها يتم ترحيلهم، وبعد استدعائه للتحقيق في الحلّة نصّب مسؤولين إثنين، ففي حالة غياب أحدهما أو إستدعائه للتحقيق يتولّى الثاني ( الظل) محلّه، وفي حالة وجودهما يتم التوافق بينهما، ويقوم أحدهما بمسؤولية العلاقة بالإدارة، الأول جواد الرفيعي مدرّس اللغة العربية والثاني حسن الخرسان من سدنة الروضة الحيدرية، وكلاهما من عائلة دينية معروفة ومن حضرة الإمام علي.

     حين تكدسنا في بهو المعتقل، طلب هو إرسال الطلاب إلى الغرفة التي يعيش فيها وهي لا تسع لأكثر من 30 إلى 40 شخصاً، ولكن عددنا أصبح 88 معتقلاً وأحياناً يأخذ بالنقصان إلى 15 أو 20 وأحياناً يعود إلى سابق عهده. وعلى الرغم من وجود معتقلين عاديين معنا إلاّ أن الحكيم كان يحظى بإحترام  وهيبة كبيرين، سواءً من جانبهم أو من جانب الإدارة، وحاول أن يقوّي معنوياتنا وأن يرشدنا وأن ينبهنا، إذ كان غالبيتنا يُعتقل لأول مرة، فضلاً عن صِغَرِ سنّنا حيث كانت تتراوح أعمارنا بين سن 16 – 17 سنة ، باستثناء الصديق العزيز كاظم عوفي البديري الذي لعب دوراً في تلطيف الأجواء من الرسم إلى المطارحات الشعرية، إلى أن اختصّ بحلاقة شعر رؤوسنا التي طالت وامتلأت بالقمل، حتى أنه أصبح من أمهر الحلاقيين في العراق بعد خروجه من المعتقل، وإنتسابه إلى كليّة التجارة (لاحقاً)، حيث عمل مساءً في صالون توكالون في الكرادة.

      ومن بين الطلبة المعتقلين أذكر كوثر الواعظ وطارق شكر (الصراف )وجبار رضا عبد ننة ( العلي) وعلي الخرسان وكاظم شكر وفاضل جريو، إضافة إلى عبد الله الشمرتي  وحسن رجيب ورحيم كاطع الغزالي وآخرين. وقد اعتُقلنا في يومٍ واحد (10 شباط/ فبراير) باستثناء علي الخرسان الذي اعتُقل قبل 8 شباط/ فبراير لتوزيعه منشورات تدعو للسلم في كردستان في أحد المقاهي الشعبية بناءً على قرار الحزب، فتم اعتقاله، كما أن كاظم عوفي كان قد اعتقل قبلنا، وقد اعتقل معنا بعض أساتذتنا منهم داوود ملاّ سلمان وجواد الرفيعي، إضافة إلى العشرات من الوجوه النجفية التي يعرف بعضها البعض.

     وقد حرص الحكيم على تجنيبنا بعض المواقف التي غالباً ما تحصل في المعتقلات والسجون، حيث تتم بعض التحرشات والإعتداءات وذلك  بوضع ضوابط للنوم والإستيقاظ، خصوصاً وأن المعتقل كان يكتظ بالعديد من المعتقلين وبعضهم من العاديين.

 

على حافة الشهادة

 

     بعد شهر ونيّف إقتيد الحكيم إلى مركز تحقيق في الحلّة، بناءً على اعترافات، وتم تعذيبه في مقر الحرس القومي على يد عبد الوهّاب كريم الذي أصبح له شأنٌ كبير بعد إنقلاب 17 تموز / يوليو 1968 ولكنه قتل بحادث سيارة غامض، وكاد الحكيم ( أبو بشائر)  أن يلفظ أنفاسه من جرّاء التعذيب الوحشي، إلاّ أنّ استشهاد "شهيد خوجة نعمة " قبله، وهو من أهالي الحلّة المعروفين ، دفع الجناة إلى عدم الإستمرار في تعذيبه. وكي لا يتحملوا المسؤولية ، فقد أرسل مع مجموعة من الرفاق إلى مديرية الأمن العامة في بغداد ومنها إلى قصر النهاية ثم إلى مركز شرطة المأمون كما أشرت في مطالعة لي بعنوان " مقهى ورواد ومدينة" وهي سردية استذكارية عن النجف.

      وقد أورد الحكيم بعض تفاصيل تلك الرحلة المجهولة في كتاب مذكراته الموسوم " النجف –الوجه الآخر: محاولة استذكار" 2011، حيث إلتقاهم محسن الشيخ راضي رئيس الهيئة التحقيقية الخاصة والمسؤول عن قصر النهاية وهم معصوبوا العينين، فأمر بنقلهم إلى مركز شرطة المأمون وذهب لاحقاً لتفقد أحوالهم وهو ما يذكره الشيخ راضي أيضاً في كتابه" كنت بعثياً- ج1- من ذروة النضال إلى دنو القطيعة" 2021.وقد سبق للحكيم أن أكدّ ذلك، وأن الشيخ راضي طلب من آمر الحرس القومي في المأمون تحسين معاملتهم ؛ وهو ما سمعه من مهدي الشرقي أيضاً القيادي البعثي حين نقله إلى النجف.

     وقد اعتذر محسن الشيخ راضي بشجاعة للشعب العراقي فيما سبّبه له خلال تلك الفترة السوداء، وهو ما أكدّه لي خلال مقابلة خاصة سبق أن أشرت إليها أكثر من مرّة في كتاب " سلام عادل الدّال والمدلول" إذ قال بصراحة لا أعفي نفسي وكلّنا مرتكبون، وإن تفاوتت المسؤوليات وقد حاول إجراء مراجعة لتلك الفترة وللصراع السياسي الذي دار بشكل لا عقلاني ولا مبرّر ودفع الشعب العراقي بجميع قواه الوطنية ثمنه باهضاً.

     وبالمناسبة فقد حظي الحكيم حسب علمي باحترام البعثيين والقوميين في النجف وهو ما لمسته من محسن الشيخ راضي وعبد الحسين الرفيعي ومهدي الشرقي وأحمد الحبوبي ومحسن البهادلي  وعبد الاله النصراوي وجواد دوش، وخلال فترة ما سمّي بالمد الثوري أو "الإرهاب الأحمر" كان يميل إلى عدم التشدّد ويسعى لإيجاد حلول للخلافات وعدم اللجوء إلى استخدام القوة أو العنف، وهو ما حصل في إنتخابات الطلاب الأولى، حيث تم الإتفاق مع الإدارة والقوى الأخرى على بعض المستلزمات لإنجاح العملية الإنتخابية.

      وخلال فترة وجوده في قيادة محلية النجف وحتى قبل أن يكون المسؤول الأول لا توجد حوادث كبرى قد حصلت باستثناء بعض الإستفزازات للآخرين منها محاولة تفتيش القيادي البعثي صدقي أبو طبيخ الذي كان قادماً من السفر ويحمل حقيبة،والتعرّض لمكتب المحامي القومي المعروف وعضو قيادة جبهة الإتحاد الوطني في النجف والمنسّق مع اللجنة العليا في بغداد أحمد الحبّوبي، وهو ما أثار سخط أوساطٌ غير قليلة ضد تصرفات  المقاومة الشعبية ، خصوصاً محاولة الشيوعيين إحتكار العمل السياسي والنقابي وإستفزاز بعض رجال الدين الذين حاولوا أن يؤلبوا الشارع ضد الحركة الشيوعية مستغلين بعض نقاط الضعف في إطار دعايةٍ هجوميةٍ وتحريض لبعض أجهزة الدولة  التي توّجت بالفتوى التي أصدرها لاحقاً  السيّد محسن الحكيم المرجع الأول، باعتبار الشيوعية كفر وإلحاد( شباط / فبراير 1960) .

      ولعلّ تلك مفارقة كبرى أن يكون صاحب الحكيم وأعداد غير قليلة من آل الحكيم والعوائل الدينية المعروفة من الرجال والنساء أعضاء في الحزب الشيوعي ووجوهاً إجتماعية معروفة وأن تصدر فتوى من السيد محسن الحكيم بتحريم الشيوعية.

 

السحل

 

     ولا يسعني في هذه الفقرة إلا أن أذكر الحادثة التي كادت أن تمزّق النسيج الإجتماعي، خصوصاً إرتفاع موجة الكراهية والإنتقام والإنفلات بإندفاع بعض المتطرفين للإيقاع بأحد المحسوبين على التيار القومي العربي بزعم أنه متآمر وإسمه " مهدي محسن بحر" أو "مهدي الخبازة" كما كان يعرف، فحاولوا سحله، وحدث هرجٌ ومرج بين مؤيد ومعارض، وقد كان الحكيم حاضراً، فاندفع بشدّة ومعه محمد موسى وحسن عوينة للتهدئه وارتقى كتف أحد الرفاق ليخاطب الجمع بإسم اللجنة المحلية للحزب الشيوعي، وفعل حسن عوينة ذلك أكثر من مرّة وكذلك محمد موسى، لكن  الحقد كان يغلي في عروق الجموع المحتشدة. وهنا بادر العقلاء إلى إدخال "المغدور" في دكان حلاّق للحفاظ على حياته وخشية من انتقام المتعصّبين الغاضبين.

     أتذكّر تلك الحادثة كأنها حصلت يوم أمس، كما أتذكر كلمات الحكيم وعوينة ودعوة المحتشدين إلى التفرّق والإنصراف إلى بيوتهم وإنهاء الإجتماع الذي لا أتذكّر مناسبته، وهو من الإجتماعات التي كانت تُعقد تأييداً للثورة أو لبعض إجراءاتها، كما طالبوهم الإقلاع عن أي محاولة تستهدف الإخلال بالأمن أو تعكير صفو العلاقات بين النجفيين خارج القانون والنظام. وبالفعل تم إنقاذ  مهدي محسن بحر الذي كان هو الآخر متشدداً في إستفزاز المحتشدين بكلماتٍ نابية، وحسبما أتذكر أو سمعت ذلك فإن الحكيم اقتاده إلى منزله ليطمئن على وصوله سالماً.

     وفي حوار معه أكّد أنه لم يكن هناك حزم حزبي ضدّ مثل هذه التصرفات لكبح جماحها بما فيه الكفاية،  الأمر الذي شجّع على شيوع ظواهر التطرّف والإقصاء. ولعّل مثل هذا الإقرار والمراجعات حتى وإن تأتي متأخرة فإنها مفيدة للمستقبل وللأجيال الجديدة دون تبرئة القوى الأخرى ومسؤولياتها في إذكاء نار الصراع، فالتعصّب ووليده التطرّف لوثة فكرية إذا ما استفحلت فإنها تنتج عنفاً وإرهاباً. فحتى أعظم الأفكار والفلسفات وأكثرها نبلاً وإنسانية ، فإنها لا تعصم الإنسان من إرتكاب الأخطاء وحتى الجرائم أحياناً خصوصاً بإدّعاء إمتلاك الحقيقة والأفضلية على الآخر.

       وقد جرت مناقشات بين عدد من وجهاء النجف وبعضهم على ملاك الحركة الشيوعية مثل عزيز عجينة وأمين عجينة ومعين شعبان وعبد الحسين أبو شبع والسكافي وأحمد الشمرتي وعبد الرزاق سميسم وسلمان الحكيم وغيرهم وكذلك شملت المناقشات بعض الشخصيات الدينية من بينهم السيد محمد الحسني البغدادي والشيخ محمد شعبان والشيخ عباس شعبان وآخرين عن جدوى مثل تلك الأعمال ووجّهت إنتقادات بعضها شديداً وبعضها خفيفاً إلى تصرفات المقاومة الشعبية غير المنضبطة والإستفزازية ضد الناس ومصالحهم بسبب نقاط التفتيش التي كانت تقيمها بزعم البحث عن المتآمرين، وكانت في الواقع  تعني تعقّباً وملاحقةً لحركة القوى الأخرى ، ولاسيّما القوى القومية العربية ( البعثية والناصرية) والقوى الدينية الإسلامية، وهذه الأخيرة نشطت على نحو ملحوظ في التصدي للتيار الشيوعي بتأسيس" جماعة العلماء" و"حركة الشباب المسلم" وغيرها وكانت تلك بدايات لتأسيس حزب الدعوة الإسلامي، وقد سبق لي أن دخلت في حوار معمّق مع السيد محمد بحر العلوم بخصوص تلك المرحلة وتداعياتها، وكنت قد أبديت ملاحظات بشأنها منذ وقتٍ مبكّر وعدت ودونت بعض الآراء النقدية في سردية عن السيد محمد باقر الصدر المنشورة في صحيفة المنبر الذي كان يصدرها السيد حسين الصدر الموسومة  "حلّق في سماوات بعيدة وسبح في بحور عميقة" (نشرت في صحيفة المنبر، العدد الثاني والخمسون، لندن ،أيار/ مايو 1999).

العامري – أبو كلل

    أثّرت تلك الحادثة وحادثة أخرى، قتل فيها عامر العامري ( من ألبوعامر) المحسوب على الحركة الشيوعية، أكرم هندي أبو كلل المحسوب على الحركة القومية، في نفسي على نحو شديد، ودفعتني تدريجيّاً إلى نبذ العنف، بل والإشمئزاز منه بتقوية ميولي اللاّعنفية، على الرغم من التنظيرات السائدة عن "العنف الثوري"  التي كنّا نردّد بعض عباراتها ونحفظ بعض جملها، فقد كنت أعتبرها ضمن وعيي البسيط آنذاك مجرد مقولات للكتب وللتثقيف وليس للتطبيق والممارسة، خصوصاً في مجتمعاتنا المترابطة والمتشابكة.

     لقد قاد مقتل أكرم هندي أبو كلل إلى أن يقوم شقيقه أحمد هندي أبو كلل المعروف بجرأته بقتل رئيس عشيرة ألبو عامر "مهدي العبد" وهو شيخ وقور وعضو في منظمة أنصار السلام والتي كان رئيسها الدكتور خليل جميل وسكيرتيرها العام صاحب الحكيم، ثم قام عدد من أفراد عشيرة ألبو عامر بقتل السيد حسن الرفيعي الكيليدار في حضرة الإمام علي، الذي اختبأ القاتل أحمد هندي أبو كلل في منزله ، حين أجهز على مهدي العبد بعد أن لاحقوا الضحية  في بغداد.

      وقد أوقعتني تلك الحوادث في حيرة شديدة أساسها كيف أساوي بين القاتل والمقتول وكلاهما من أصدقائي (عامر العامري وأكرم أبو كلل ) ؟ وكيف أشعر إزاء مقتل مهدي العبد الشخصية المعروفة وهو صديق عمّي ضياء من جانب، في حين أن أحمد أبو كلل ( قاتل العبد )  صديق عمي شوقي؟ ثم كيف لي أن أستوعب مقتل السيد حسن الرفيعي وهو جار الشيخ محمد شعبان والد حسن شعبان وبالقرب من منزلنا، خصوصاً وأن علاقة عائلية حميمة تربطنا مع آل الرفيعي؟ وهكذا ترى العلاقات متشابكة ومتداخلة ومترابطة وهو ما أشرت إليه في بحث نشرته بعنوان " العنف وفريضة الّلاعنف.. شذرات من تجربة شخصية " في مجلة آفاق عراقية، كما نشرت في صحيفة الزمان العراقية في 30 كانون أول/ديسمبر 2018 .

 

التواصل البغدادي

           

     بعد خروجه من السجن إلتقيت الحكيم حين وصلتني رسالة شفوية منه عبر كاظم عوفي، وكان قد حدد لي موعداً في شارع الرشيد قرب سوق الصفافير وهو يعرف أنني أتردد على "خان شعبان" في سوق المرادية بعد إنتهاء دوامي في الجامعة، وكنت حينها في كلية الإقتصاد والعلوم السياسية، وطال حديثنا لاستعادات واستذكارات، ثم اصطحبته إلى منزلنا ليستدلّ عليه وأعطيته رقم هاتفي للإتصال وقد سألني عن النشاط الطلابي الجامعي، فقلت له ما يزال محدوداً، وكانت تأثيرات الضربة التي تعرّض لها الحزب والإتحاد قائمة، إضافة إلى ذلك تأثيرات خط آب.

     وقد استفسر مني عن التنظيمات الجديدة التي تشكّلت في النجف بعد الإنقلاب وقد أطلعته على المحاولات التي شاركت فيها، وهي تشكيل لجنة اجتمعت لمرتين في بيت عبدالله الشمرتي دون أن تكون له علاقة بذلك، سوى تهيئة مستلزمات الإجتماع، ومرّتين في الكوفة في بستان سهام الماضي، وأجرت إتصالات حينها مع مركز الفرات الأوسط بقيادة باقر ابراهيم، وضمّت عدنان الخزرجي ومحسن القهواتي وصادق مطر وجبّار (كفاح) سميسم وكاتب السطور، والتحق بها في آخر إجتماع بترتيب مني علي الخرسان، كما كان يتبعها لجنة في الكوفة ضمّت محمد الكويتي وعبد الأمير السبتي و سهام الماضي ، وكان للجنة النجف امتدادات واسعة، وهو ما ذكره في كتابه عن "النجف الوجه الآخر".

     وبالمناسبة فاللجنة المذكورة، بعد أن اعتقل بعض أركانها تشتتت وعادت وإلتقت مع المسؤول الجديد عبد الرزّاق السبيس، وضمّت عباس فيروز العامل في الخياطة وحسّون صاحب مقهى، وكان لها صلة فرديّة مع عبد الحسين الشيباني (عضوها) لكنها قررت الإبقاء عليه بارتباط خاص لعمله في دائرة الكهرباء. وتفككت أواصر اللجنة بعد خط آب، وكنت قد انتقلت كلياً إلى بغداد لإلتحاقي بالجامعة. وعرفت من المراسل عبد الأمير الغرّاوي أن منظمة النجف رفضت توزيع بيان آب.

     وقد سمعت عن خط حزيران/ آب1964  لأول مرّة من أحمد سنجر وكان يعمل مترجماً في السفارة البلغارية الذي زارني إلى الكلية وأطلعني على نسخة منه، واصطحب في المرة الثانية معه حسن شعبان بعد أن كان الأخير قد قام بزيارة إلى الكويت بغرض العمل ولم تكن موفّقة، وكان قد صدر الحكم ببراءته بعد إعتقاله لبضعة أشهر في الموقف العام (القلعة الخامسة) في قضية التحضير لمهرجان هلسنكي للشباب والطلاب (صيف 1962 ) ، وصادف أن أطلق سراحه قبيل إنقلاب شباط/ فبراير 1963، فإختفى في النجف طيلة فترة البعث. وقد سبق لي أن رويت قصّته في مطالعتي عن" حركة حسن السريع" الموسومة "من دفتر الذكريات – على هامش حركة حسن السريع" (نشرت في جريدة الناس على حلقتين في 15 و25 آب / أغسطس 2012 )

     وفي كل لقاء كنّا نستعيد بعض المحطات، وحين حدثت هزيمة حزيران/ يونيو 1967، ونشطت القوى جميعها للتصدي لها في تظاهرات واحتجاجات، كان رأيي أن موقفنا خاطئ وذلك برفع شعار " إزالة آثار العدوان" وهو شعار لا يصلح لحزب عريق مثل حزبنا. وألمحت في أكثر من مناسبة إلى نقدٍ مباشر أو غير مباشر للموقف السوفييتي، وهو ما عدت وبلورته في موقف متكامل منذ أواسط الثمانينيات فيما كتبته عن الموقف السوفييتي من قرار التقسيم : بين الإيديولوجيا والسياسة، وسبق لي أن ألقيت أكثر من محاضرة في مركز الدراسات الفلسطينية في الشام وبيروت ونشرت جريدة الحقيقة التي تصدر في بيروت من جانب "رابطة الشغّيلة" التي يتزعّمها زاهر الخطيب نَص المحاضرة في الثمانينيات، ومثل هذا الرأي كنت أجادل فيه على شكل أسئلة وتساؤلات وإنتقادات واعتراضات حتى تبلور بشكل نهائي بتخطئة الموقف السوفييتي وما تبعه من موافقة الأحزاب الشيوعيّة على قرار التقسيم.

     وقد سبق لي أن عرضت العديد من مواقف أحزابنا في كتابي " تحطيم المرايا- في الماركسية والإختلاف" وكان آخر ما قرأته في كتاب منير شفيق " من جمر إلى جمر " حيث روى له الأمين العام للحزب الشيوعي الأردني فؤاد نصّار (كان حينها في المكتب السياسي) حين كان في سجن الجفر أنه كتب مقالاً لجريدة الإتحاد التي يصدرها الحزب وهو رئيس تحريرها وصف فيه قرار التقسيم "بالإستعماري البريطاني"، وفي الساعة الرابعة صباحاً أيقظ عامل التصفيف الذي يصفّ الأحرف ويركّب المقالات في مطبعة الجريدة، حيث كان نصار ينام في المطبعة وخاطبه قائلاً : يا رفيق أبو خالد "قوم شوف" لقد وافق الرفيق غروميكو (مندوب الإتحاد السوفييتي في الأمم المتحدة حينها) على قرار التقسيم"، فقام فؤاد نصار كمن لسعته أفعى وطلب منه إلتقاط إذاعة موسكو ففعل، وعبرها تأكد من صحة الخبر، فما كان منه إلا أن سحب المقال السابق المعارض لقرار التقسيم، وكتب مقالاً جديداً على الفور عنوانه" قرار التقسيم في مصلحة الشعبين الشقيقين اليهودي والفلسطيني".

     وقد تابعت تغيّر الموقف السوفييتي من وصف مشروع الهجرة اليهودية باعتباره مشروعاً رجعياً إستعمارياً مرفوضاً إلى إعتبار "إسرائيل" واحة الديموقراطية في الشرق الأوسط حسب تصريحات مولوتوف وزير الخارجية السوفييتي (1954). وذلك بعد أن سمح الإتحاد السوفييتي بهجرة اليهود السوفييت في أواخر الثمانينيات، وهو ما انتقدته بشدّة على الرغم من تأييدي لتوجّهات البريسترويكا والغلاسنوست (إعادة البناء والشفافية) بعد أن هيمنت البيروقراطية الحزبية وترهّلت كيانات الحزب والدولة واستشرى الفساد إلى حدود مريعة وتلكّأت التنمية بإنسداد الآفاق والإختناقات الإقتصادية، ناهيك عن شحّ الحريات التي وإن اعترف بها الحكيم إلاّ أنه كان يجادلني بالضدّ منها رافعاً من شأن الإيجابيات ومقلّلاً من شأن السلبيات.

     صحيح أن الموقف السوفييتي تغيّر بعد العدوان الإنكلو- فرنسي "الإسرائيلي" العام (1956) وكان إنذار بولغانين محطة حاسمة في هذا التحوّل، لكنه استمر دون أن يرقى إلى الموقف المبدئي حتى العام 1969 حيث إتخذ المؤتمر العالمي للأحزاب الشيوعية والعمالية قراراً مؤيداً لحق تقرير المصير للشعب العربي الفلسطيني، وحسب حواري مع عامر عبد الله المفكّر الشيوعي قال لي: إنه سعى في محاولات عديدة لإقناع السوفييت بضرورة وأهمية مثل هذا الموقف بالنسبة للعرب، وهو ما كان رأي نوري عبد الرزّاق حين عمل سكرتيراً عاماً لإتحاد الطلاب العالمي (1960-1967 ).

 

الطلاب وانشطار الحزب الشيوعي

 

     كانت الإنتخابات الطلابية قد جرت في ربيع العام 1967، وفاز فيها إتحاد الطلبة، وقد فصّلت في كرّاس صدر عن مطبعة طريق الشعب في بشتاشان والموسوم "لمحات من تاريخ الحركة الطلابية في العراق"1983 ، تفاصيل تلك الإنتخابات وما تركته من أثر إيجابي على تنشيط الأوضاع الحزبية وارتفاع نسبة الجدل والحوار الداخلي ، والتي ترافقت مع ردّة الفعل الشعبية والتظاهرات العارمة ضد عدوان 5 حزيران/ يونيو. وللأسف الشديد فإن الصراعات الداخلية للحزب كانت حادّة، بل شديدة التقاطعات ، فانفجر الصراع الكامن والذي ظلّ يعتمر لسنوات، فانفصل فريق بإسم "القيادة المركزية" واحتفظ الفريق الثاني بإسم " اللجنة المركزية" وكنت " منزلة بين منزلتين "، فمن جهة أؤيد بعض توجّهات القيادة المركزية السياسية، ومن جهة أخرى أعارض توجهاتها التنظيمية ، خصوصاً إستخدامها للعنف ضدّ رفاق الأمس وضدّ قيادات شيوعية، حيث احتجز زكي خيري وقبله بهاء الدين نوري الذي تمكّن من الهرب، فضلاً عمّا اتبعته لاحقاً من أساليب كفاحية بإسم "العنف الثوري" بنقل تجارب أخرى تأثراً بالتيّار الجيفاري، وفي وضع أقرب إلى المغامرة والطفولة اليسارية.

     كان الحكيم قد كرّس كل وقته لمواجهة الإنشقاق وقد عقدنا جلسات مطولة محاولاً إقناعي، وكنت قد شعرت بمرارة شديدة حينها وحيرة كبيرة وتوزع فكري ونفسي وصداقي. كما حاول رضا عبد ننة الإتصال بي لإقناعي الإنضمام إلى القيادة وفضّلت لبعض الوقت "العزلة المجيدة" كما كنت أسمع عنها ممن سبق أن عاشها في السجون، أيام راية الشغيلة، وحتى بعد انشقاق العام 1967 مثل كاظم فرهود الذي احتفظ باستقلاليته، ولم تكن تلك المرّة الأولى التي أشعر فيها بانفصال روحي عن التوجهات السائدة وأساليب العمل البيروقراطية.

     وبما أنني لم أكن قيادياً أو مسؤولاً، بل كنت مجرّد شيوعي حالم، بدأت تساؤلاته تكبر مع مرور الأيام، ليودّع الإيمانية التبشيرية الدعائية  وينتقل تدريجياً إلى التساؤلية  النقدية العقلية، لذلك ازداد قلقي وكبر،ولكن تطور الأحداث كان كفيلاً بتغيير بعض قناعاتي وبدأت العمل مجدداً في المجال المهني (طلبة وحقوقيين وجمعية العلوم السياسية) وفيما بعد في المجال الحزبي مع احتفاظي بملاحظاتي التي كانت تتضخّم.

     وأستطيع القول أن السجايا الأخلاقية لصاحب الحكيم قبل الإقناع السياسي أو المستوى الفكري كانت وراء بعض ليونتي تلك، وظلّ يتابع أوضاعي وساهم فترة في قيادة لجنة كنت عضواً فيها. وحين اشتدّت حملة الإعتقالات إنقطعت الإتصالات بيننا واتصل بعمّي شوقي وأبلغه بأن عليّ أن أكون شديد الحذر، حتى وإن كنت وجهاً معروفاً ومُنحت عضوية شرف من الإتحاد الوطني لطلبة العراق بعد مؤتمره الأول (نهاية العام 1969) مع نوري عبدالرزاق وماجد عبد الرضا ولؤي أبو التمّن تقديراً لدورنا في الحركة الطلابية.

      وحين أصبح في موسكو وأنا في براغ بعد عام من الفراق تقريباً طلب مني في رسالة معرفة لقائي مع الملّا مصطفى البارزاني حيث كنت على رأس وفد زاره في كلالة في أيار/ مايو 1970، وكتبت له عن ذلك، بالخطوط التي كانت معروفة ومنشورة في "جريدة كفاح الطلبة"و"جريدة طريق الشعب"(السرّية) وبعض القضايا الخاصة.

 

مواقف خاطفة

     بعد عودتي إلى بغداد كان أول لقاء لي هو مع الحكيم " أبو محمد" في مقر لجنة بغداد، وحين عرف أنني سألتحق بالخدمة العسكرية، طلب مني قطع جميع علاقاتي الحزبية وعدم التردد على الأماكن الخاصة، بل وإنهاء علاقتي تماماً وكنت قد قرّرت ذلك،ولم ألتفت للتوجيهات الحزبية، ولم ألتقيه مرّة أخرى سوى في دمشق 1980 حيث نظّم لقاءً لي مع الرفيق أبو خولة ( باقر ابراهيم) وطلب مني الأخير إستلام مسؤولية العلاقات مع القيادة القومية السورية ومع القوى السياسية الأخرى. وحضرت مع عبد الرزّاق الصافي بعض إجتماعات  الجبهة الوطنية والقومية التقدمية (جوقد) ومنها الإجتماع الذي تم فيه تجميدنا.

      ولكن الحكيم بحكم الصداقة طلب مني الإنضمام إلى لجنة دمشق التي كان يديرها (لجنة داود) بالرغم من إثقالي بمهمة الإشراف على تنظيمات المثقفين، ثم لاحقاً الإشراف على تنظيمات الطلبة، وبعد ذلك الإشراف على العمل المهني والديموقراطي كما نطلق عليه الذي جمع (الطلبة والشبيبة والمرأة ورابطة الكتاب ولجنة المهجرين) وحاولت الإعتذار لكنه أصرّ علي، وكنت أحرر محاضرها وأكتب تقاريرها.

    وحين استضفنا الرفيق عزيز محمد في إجتماع موسّع وبحضور نخبة من الكوادر وحضور الحكيم كذلك في منزل الرفيق علي السامرائي، قدّمته بالعبارات التالية : هذا أمينكم العام فصارحوه، وكنت أعرف ثمة إعتراضات وآراء ووجهات نظر وتحفّظات على السياسة العامة والتنظيمية، فضلاً عن تململات وإرهاصات مغايرة لسياسة الحزب بشان الحرب العراقية – الإيرانية، ومنها ما كنت أتبناه وما كتبت عنه.

     علمت أن الحكيم لم يكن مع قرار عقد الجبهة الوطنية في العام 1973، خصوصاً التنازل لحزب البعث باعتباره يلعب دوراً متميّزاً في قيادة الجبهة والسلطة والمجتمع. و خلال الحرب العراقية – الإيرانية، أخذت بعض مواقفه تقترب من مواقفنا بإدانة الحرب ورفض المشروع الحربي والسياسي الإيراني وإن كان بتحفّظ. كما لم يكن مع نتائج المؤتمر الرّابع الذي حُرم من حضوره حيث كان قد وصل إلى المنطقة التي انعقد فيها بعد أن تسلل إلى بغداد وبقي فيها لنحو عامين اختفى لفترة منها في النجف في منزل شقيقة السّيد سلمان، لكن ذلك كله لم يشفع له لأنه احتسب على ملاك باقر ابراهيم المغضوب عليه ومجموعة المعارضة الحزبية حتى وإن لم يكن منها، فأبعد تحت حجج أمنية حاولت النيل منه والإساءة إليه.

     وكنت حين إلتقيت به في طهران قد حاولت ثنيه من التسلل إلى بغداد وكتبت رسالتين عبر الرفيق جاسم الحلوائي (أبو شروق) إحداها إلى المكتب السياسي والأخرى إلى الرفيق باقر ابراهيم ، لكن الرسالتين وقعتا بيد الأجهزة الأمنية الإيرانية بعد إلقاء القبض على المراسل كما علمت من أبو شروق لاحقاً. كما إلتقيت به في طهران في أحد المرات بصحبة الرفيق قاسم سلمان "أبو الجاسم" والرفيق جميل إلياس منصور "أبو نغم أو أبو جمال" وكانا متوجّهين معه إلى كردستان وقد سمع مني ما حصل في مجزرة بشتاشان التي نجوت منها (أيار/ مايو 1983). أما هو فقد توجّه إلى الداخل.

    وبعد انفضاض المؤتمر الرابع والنتائج التي خرج فيها تقرّر أن يعمل الحكيم في طهران في الظروف الأمنية القاسية، خصوصاً بعد الإعتقالات الواسعة التي طالت حزب تودة الشيوعي الإيراني، وقد اتخذ جميع الإجراءات كي لا يقع بقبضة الجهات الأمنية، كما حصل للرفيق حيدر الشيخ الذي بقي في السجن لمدة 5 سنوات. ثم جاء إلى دمشق حيث إستقبلته بعد مراسلات وإتصالات عديدة، وقد كنا حينها نصدر صحيفة المنبر التي كنت أشرف على تحريرها ، وقد هيّأت له مستلزمات المجيء عبر برقية من القيادة القومية، واستضفته ليومين في المنزل ( حسب الإتفاق)، ثم انتقل إلى بيت حسين سلطان لعدّة أيام، إلى أن تم توفير سكن له، وظل خلال تلك الفترة على الهامش وهو ما يذكره في مذكراته ، حيث لم توكل له أيّة مهمة.

      واعتبر متعاطفاً مع تيار المعارضة الحزبية علماً بأن ماجد عبد الرضا كان قد فاتحه في براغ وكذلك بهاء الدين نوري  وكل على انفراد، فاعتذر منهما كما أخبرني، وكنت أعرف رأيه وبعض ملاحظاته السلبية على نهج المعارضة الحزبية بما فيها مجموعة باقر ابراهيم، على الرغم من تأييده بعض وجهات نظرها ، فقد اقترب من بعض مواقفنا السياسية والفكرية ، فضلاً عن العلاقات الصداقية الحميمة مع بعضنا، ولكنه كان متردّداً بشأن التنظيم وهو الموقف ذاته الذي اتخذه من الرفيق أبو خولة. وبقدر ما كان يدين الإجراءات التعسفية ضد المعارضة الحزبية فإنه كان ينتقدها أحياناً، مستعيداً تجربته مع راية الشغّيلة، وقد عبّر عن ذلك على نحو واضح  خلال انتقالنا إلى براغ 1989 ( عامر عبد الله وباقر ابراهيم وعدنان عباس) وقبل ذلك كان معنا حسين سلطان قبل عودته إلى العراق، وماجد عبد الرضا الذي كان قد سبقنا ، وكان في زيارتنا المستمرة مهدي الحافظ الذي كان يأتي من فيينا ونوري عبد الرزاق من القاهرة، كما زارنا بهاء الدين نوري وفتح حوار معنا .

    كان هدف زيارة الحكيم إلى براغ هو مراجعة السفارة العراقية للحصول على جواز سفر بعد تعليمات حزبية بالتوجه إليها ، وكان ذلك قد تقرّر عقب إنتهاء الحرب العراقية- الإيرانية وترافق مع انهيار الأنظمة الإشتراكية في نهاية الثمانينيات واستكمال المفاوضات لتحقيق وحدة اليمن التي كنا نستخدم جوازات سفرها (اليمن الجنوبية). ثم تقرر على نحو شبه جماعي التوجه إلى بلدان اللجوء عشيّة غزو الكويت وبعيد كارثة الحرب. وقد استضفته في براغ لمدة ستة أشهر قبل أن أتوجه إلى لندن.

     وحين حانت لحظة سفره إلى كوبنهاغن وكنت قد اتفقت مع أحد الأصدقاء البحرينيين لمرافقته وتأمين مستلزمات لجوئه ومساعدته ،إلاّ أنه ظل طيلة مساء وليل ذلك اليوم يصعد وينزل وكأنه لم ينم. ونظر إليّ نظرة استفهام وتساؤل وفهمت معناها على الفور : أيليق بي أن أكون لاجئاً؟ و طلب مني مباشرةً الإقلاع عن الفكرة إلّا إذا كنت معه، ولكنني كنت قد أمّنت سفري إلى لندن وكان من الصعوبة تأمين ذلك له في فترة وجيزة وعملت كل ما في وسعي لكي أمدّد له الإقامة لمدة ستة أشهر. وطلب مني مرافقته إلى دمشق حيث كان يخشى الإيقاع به وكنت قد ذهبت قبل ذلك إلى دمشق لمرافقته إلى براغ عبر لارنكا (قبرص) حيث استضافنا الصديق العزيز فراس فاضل عباس المهداوي لمدة يومين.

      ستبقى هذه السردية ناقصة لأنها لم تغطي سوى شذرات من سيرة مناضل لا يمكن أن نعطيه حقّه ونحيط بكل جوانب ما قدّمه ، فقد إجترح عذابات وحرمانات لا حدود لها وعاش خارج الأضواء زاهداً متواضعاً كتوماً محافظاً على سرية عمله حتى بالظروف الطبيعية، وقد كنت قد فرضت إسمه العلني حمايةً له  في الشام على الرغم من تمنّعه في البداية ، لكن ذلك شكَل، في ظروف الصراعات الحزبية والدسائس والمؤامرات والوشايات، ضمانةً له ضدّ تداخلاتٍ أمنية، لاسيّما وأن مواقفه كانت ضدّ الحصار والعدوان واحتلال العراق وهو ما وقع به آخرون.

     عاش صاحب الحكيم شيوعيا نقيّا ووطنياً أصيلاً وإنساناً شريفاً وهو في كلّ مراحل عمله امتاز بتعامله الإنساني وبروح المودة والتآزر والتضامن والرحمة بين الرفاق، ولذلك وقف ضدّ إجراءات القمع والتنحيات والمقاطعة الإجتماعية، وهي أساليب تنتمي إلى الحقبة الستالينية المظلمة.

 

 

مناظرة السليمانية :

واستذكارات الحوار العربي - الكردي

 

د. عبد الحسين شعبان *

 

     كان أول حوار عربي – كردي خارج الأطر الرسمية  تقرّر قبل 30 عاماً، حين اجتمعت نخباً فكرية وثقافية وحقوقية و سياسية من العرب والكُرد بدعوة من المنظمة العربية لحقوق الإنسان في لندن، التي تسجّل لها هذه المبادرة، وذلك لمناقشة جوهر الموقف من حقوق الشعب الكردي و أهم الإشكاليات النظرية والعملية والقضايا الخلافية لبحثها ومناقشتها بروح الشعور بالمسؤولية والحرص وبكل صراحة وشفافية، حيث تم تبادل وجهات النظر واستمزاج الآراء والاستئناس بأفكار متنوعة بشأن واقع العلاقات العربية - الكردية وآفاق المستقبل ، خصوصاً بعد المآسي والارتكابات التي تعرّض لها الشعب الكردي، لاسيّما إثر مشاهد الهجرة الجماعية الكردية المرعبة 1991 بعد حملة الأنفال السيئة الصيت ومن ثم قصف قضاء حلبجة في 16 – 17 آذار/ مارس1988  بالسلاح الكيماوي وغاز الخردل، الذي أودى بحياة بضعة آلاف، وذلك  قبيل وقف الحرب العراقية – الإيرانية (1980 - 1988) التي أُعلن عن انتهائها في 8 آب/ أغسطس 1988 ، بقبول إيران لقرار مجلس الأمن الدولي رقم 598 الصادر في العام 1987 .

لمعان الفكرة

    حين علمت أن وفد الجبهة الكردستانية وصل بغداد للتفاوض مع الحكومة العراقية، لمعت برأسي فكرة الحوار العربي - الكردي، وذلك بعيد انسحاب القوات العراقية ، إثرَ حرب التحالف ضد العراق 17/1/1991  من الكويت وصدور قرار مجلس الأمن الدولي رقم 688 الخاص  باحترام حقوق الإنسان، وذلك بعد فشل انتفاضة آذار / مارس 1991 ضدّ النظام الحاكم في العراق، فطرحتُ الفكرة في محاضرة لي في ديوان الكوفة كاليري في لندن وسط حشد كبير وذلك يوم 17 نيسان/ أبريل 1991، وكانت المحاضرة بعنوان " المهجّرون العراقيون والقانون الدولي"، وهي موثّقة بكتابي " عاصفة على بلاد الشمس"، دار الكنوز الأدبية، بيروت، 1994 . وهو ما نشرته جريدة الحياة (اللندنية)  في 28/4/1991 . ولكن الفكرة اختمرت في ذهني وقررت الإشتغال عليها بسبب تباين المواقف واختلاف وجهات النظر خلال وبُعيْد المفاوضات الحكومية - الكردية.

اعتبارات موضوعية وذاتية

        تعود قناعتي بفكرة الحوار العربي - الكردي إلى عدد من الإعتبارات أهمها:

      أولها - الموقف المادي الجدلي "الماركسي" من مبدأ حق تقري المصير والذي مثّل رؤية أممية - إنسانية كانت وما تزال صالحة عند الحديث عن حل مشكلة التنوّع الثقافي، لاسيّما المتعلّق بالهويّات القومية في المجتمعات والبلدان المتعدّدة الثقافات ، والذي تجسّد في جوانب عملية إتخذتها الحركة الشيوعية في العراق منذ العام 1935 حين رفعت شعاراً "على صخرة الإتحاد العربي - الكردي تتحطّم مغامرات الإستعمار والرجعية"، وذلك انطلاقاً من إيمانها بحق تقرير المصير للشعب الكردي، والذي انعكس على نحو ملموس في الكونفرنس الثاني للحزب العام 1956 الذي أكد على " الإستقلال الذاتي" لكردستان في إطار التحالف القوي بين "حركة الانبعاث القومي العربي والحركة القومية الكردية وتطلّع الشعب الكردي إلى التحرر والوحدة القومية"، فالاستعمار هو الذي فرّق كردستان وهو الذي شجّع سياسة الإضطهاد القومي في العراق، وهو الذي قسّم البلدان العربية كما ورد فيه.

     وثانيها - علاقاتي الكردية وصداقاتي الحميمة مع العديد من الكرد، خصوصاً فترة دراستي في جامعة بغداد، وسبق لي أن رويت الكثير عنها في مناسبات مختلفة يضاف إلى ذلك معرفتي بواقع الاضطهاد والإستلاب الذي عانى منه الشعب الكردي، وذاكرتي الأولى لإحدى المناسبات وأنا فتى حين اطّلعت على بيان من صفحة واحدة، وجهها الأول باللغة العربية ، ووجهها الثاني باللغة الكردية وهو ما أثار فضولي الشديد آنذاك (ربما كان بمناسبة كردية أو عيد نوروز)، فضلا عمّا أثار قدوم الزعيم الكردي الكبير الملّا مصطفى البارزاني من المنفى في العام 1958 من مشاعر تضامن ظلّت عالقة بذهني.

      وثالثها - انخراطي في أعمال جماهرية مبكّرة بشأن القضيّة الكردية منذ العام 1961 وأنا في بدايات عضويّتي في الحزب الشيوعي، ومنها مشاركتي في تظاهرة تدعو للسلم في كردستان في العام 1962 ، كذلك التوقيع على عريضة (مذكرة)  موجّهة إلى الزعيم عبد الكريم قاسم  تطالبه بوقف الحرب ضدّ الحركة الكردية وتدعو إلى حل القضية الكردية بالإعتراف بحقوق الشعب الكردي، وذلك من خلال السلم والحوار. وقد ساهمتُ في جمع تواقيع العشرات من الأصدقاء حينها.

     ورابعها - بعض الملاحظات المبكّرة التي تولّدت لديّ بشأن بعض مواقفنا من القضية الكردية، ومواقف القوى الأخرى، بما فيها القوى القومية الكردية. وهنا أذكر على سبيل المثال لا الحصر الموقف من رفع شعار "السلم في كردستان"، الذي نظرت إليه في فترة لاحقة باعتباره شعاراً عامّاً يصلح لمنظمة مجتمع مدني، أو جمعية إنسانية لا لحزب عريق ذو تاريخ عريق ومواقف عريقة بصدد القضية الكردية، إضافة إلى الموقف الخاطئ والضار من حمل السلاح ضد الحركة الكردية في فترة الجبهة الوطنية مع حزب البعث في العام 1974، وهذه ربما تحتاج إلى مناقشتها في سياقها التاريخي دون تبريرها أو إغفالها.

      وهناك جوانب أخرى كان لديّ تحفّظات بشأنها، وخصوصاً  اتفاقية  6 آذار/ مارس لعام 1975 المعروفة بإسم "إتفاقية الجزائر" وهي اتفاقية مُجحفة وغير متكافئة، وكنت قد توقّفت عندها في وقت مبكّر، أذكر بعضاً منها ما ورد في كتابي " النزاع العراقي - الإيراني"، بيروت، 1981، وما جاء في مقالة بحثية بعنوان: "القضية القومية الكردية والحزب الشيوعي العراقي"، مجلة الحرية، العدد 87 (1162) في 21/10/ ، 1984. ومقالة أخرى الموسومة "القضية الكردية والحرب العراقية - الإيرانية"، مجلة الحرية، العدد 96  (1171) في 23/12/1984،. وهو ما أصبح نهجاً  لي في  معالجة الوضع العراقي.

أين دور المثقفين؟

       ويعود الإهتمام بالقضية الكردية أيضاً إلى شعوري أن ثمّة دور للمثقّفين لا بدّ أن يلعبوه كما كانوا في خمسينيات القرن الماضي، بهدف بلورة رؤية خارج الأطر الرسمية، بحيث تساهم فيها النخب الفكرية والثقافية والسياسية العربية - الكردية اليسارية والقومية . وقد أخذت على عاتقي تحويل الفكرة إلى مبادرة، وهذه الأخيرة إلى فعل قابل للتنفيذ بتشكيل لجنة تحضيرية للملتقى الفكري الذي اتخذ من "الحوار العربي - الكردي" عنواناً له، وضمّت اللجنة التحضيرية للملتقى أعضاء من اللجنة التنفيذية للمنظمة العربية لحقوق الإنسان وساهم معنا من الأصدقاء الكرد سامي شورش كعضو في اللجنة التحضيرية، وانعقد المؤتمر في المركز الثقافي الكردي الذي كان يرأسه محمد صدّيق خوشناو حينها.

     وقد اخترنا عدداً متكافئاً من الكرد والعرب (25 + 25) بحيث يكون المجموع 50 مثقّفاً وحضرت وسائل الإعلام المختلفة، وبعض الصحافيين مثل عبد الوهاب بدرخان وحازم صاغية وكاميران قرداغي، وكانت الشخصيات العربية والكردية  تمثّل الألوان المتنوّعة في الساحة الثقافية والسياسية والفكرية. 

      ووقع اختيارنا من العراق على خمسة شخصيات أساسيّة تمثّل كلّ منها تيّاراً فكرياً فعامرعبد الله رمزاً للشيوعيين والماركسيين وهاني الفكيكي عن البعثيين والقوميين والسيد محمد بحر العلوم عن الإسلاميين وعبد الكريم الأزري أقرب إلى التيّار الملكي المنفتح وحسن الجلبي من التيّار الليبرالي الأكاديمي القريب من التوجه الغربي، إضافة إلى حضور عراقي لعدد من الشخصيات المهتمّة، ومن العرب حضرت شخصيات من مصر و سوريا والسودان و لبنان  وفلسطين و المملكة العربية السعودية و البحرين و ليبيا.

     ولعلّ مثل هذا الحضور النوعي والجغرافي كان الأول من نوعه في إطار حوار مفتوح دون أجندات مسبقة أو إصطفافات مبيّتة، بل كان الغرض منه التعرّف على واقع المطالب الكردية وعلى لسان الكرد بشكل حر وفي إطار مواقف عربية بعضها يستمع لأول مرة إلى واقع التنوع القومي في العراق، ناهيك عن ما تعرّض له الكرد من مظالم. 

     وكان التمهيد لذلك الحوار محاضرة ألقيتها في مركز آل البيت الإسلامي في لندن ( بإدارة السيّد محمد بحر العلوم) والموسومة "القضية الكردية في الفكر السياسي العراقي " (31/5/1992)، ومحاضرة أخرى في المركز الثقافي الكردي، نشرتها في جريدة الحياة بعنوان:" الفيدرالية وحق تقرير المصير: جدل الحاضر والمستقبل"، (حلقتان في 2 و 3 آب/ أغسطس 1992 ).

القرار 688

       ترافق ذلك التوجّه بعد فشل مفاوضات بغداد و صدور القرار 688 في 5 نيسان/ أبريل 1991 من مجلس الأمن الدولي حيث عادت القضية الكردية إلى الأروقة الدولية، وخصوصاً في الأمم المتحدة، حيث أكد القرار المذكور على وقف القمع الذي تتعرض له المنطقة الكردية وبقيّة مناطق العراق، بل اعتبر هذا القمع "تهديداً خطيراً" للسلم والأمن الدوليين، ودعا إلى احترام الحقوق السياسية لجميع المواطنين العراقيين، وذلك في إطار الدعوات التي ارتفعت لاحترام حقوق الإنسان، لاسيّما بعد تحلل الكتلة الإشتراكية في نهاية الثمانينيات، كما طلب تقديم تقرير دوري إلى الأمين العام للأمم المتحدة.

     وبسبب مشاهد الهجرة الجماعية وما رافقها من دعوات إنسانية، وأخرى تتعلّق بتداعيات ما بعد غزو الكويت وتدمير العراق، قررت حكومات كل من الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا منع الطيران العراقي من التحليق فوق خط العرض 36 باعتباره منطقة آمنة "الملاذ الآمن " Safe Haven ، وقد شملت المنطقة الكردية التي تأسست فيها إدارة ذاتية بعد إنسحاب الإدارة الحكومية في نهاية العام 1991 وإجراء إنتخابات لأول برلمان في كردستان (ربيع العام 1992) ، وتأليف أول حكومة لإقليم كردستان، الذي قرر برلمانه في 4 تشرين الأول / أكتوبر 1992 اختيار الفيدرالية كشكل للعلاقة المستقبلية مع عرب العراق. وهو ما تقرّر في مؤتمر صلاح الدين للمعارضة

        وإذا كان من يقرّر مصير العلاقة العربية - الكردية هي الجهات السياسية، خصوصاً القابضة على السلطة، فإن رأياً عاما يمثّل تيارات مختلفةً وبقوة ناعمة ومتنوّعة ، وخصوصاً بحضور نوعي للمثقفين، يمكن أن يؤثر في التوجه العام، وذلك بالتراكم والتطوّر التدرّجي، حتى وإن جاء بعد حين. ولم يكن بيان 11 آذار /مارس 1970 ، سوى ثمرة لتراكم كمّي طويل الأمد وصل إلى مثل هذا التغيير النوعي.

       إن فكرة الحوار تنمّ عن رغبة في إيجاد حلول ومعالجات، ووضع مخرجات للتطبيق يمكن أن تكون خلفية لأصحاب القرار، فالحوار العربي – الكردي، الذي كنّا وما زلنا ندعو له هو حوار معرفي وثقافي وفكري وحقوقي يبدأ من منطلقات المصير المشترك والحقوق المتكافئة وتوسيع الخيارات بما يستجيب لمصالح الشعبين العربي والكردي، ومن مقاصده أيضاً لفت الإنتباه إلى أهمية حلّ القضية الكردية كمسألة مركزية بالإرتباط مع مسألة الحكم في العراق على صعيد السلطة والمعارضة، وكان شعار "الديمقراطية للعراق والحكم الذاتي لكردستان"  يمثّل جزءًا مهماً من الحركة الوطنية وعموم الحركة الكردية منذ الستينيات.

     والحوار يعبّر عن  درجة عالية من الوعي والمسؤولية والشجاعة في تناول المشكلات بصراحة ووضوح وأفق مستقبلي أيضاً، دون نسيان الحواجز الفعلية والوهمية التي تعترض هذه الطريق، بما فيها مواقف بعض القوى القومية العربية السلبية ولا أبالية الحركة الدينية الناشئة التي لم تتّخذ موقفاً فعلياً من الحقوق الكردية حتى العام 1992، بل ظلّ موقفها أقرب إلى جملٍ عمومية متفرّقة.

مناظرة بعد 30 عام

      على هذه الأسس والخلفية التأمت  مناظرة بعد 30 عاماً في مدينة الثقافة والجمال السليمانية ضمّت كاتب السطور والسياسي والمثقف  الكردي الفطن والجريء ملّا بختيار ( حكمت محمد كريم) القيادي في حزب الإتحاد الوطني الكردستاني الذي أسسه الرئيس جلال طالباني في العام 1975 ، لتناقش بجو حضاري وشفافية عالية المشكلات القديمة والجديدة، بما فيها ما احتواها الدستور النافذ لعام 2005 ، وكان هدفها الأساسي البحث عن المشتركات وتوسيع دور المثقفين في تعزيز العلاقات بحثاً عن السلم والمساواة والجمال.

     جدير بالذكر أن المناظرة التي خصصت لها جلسة مستقلة و لقيت اهتماماً بالغاً، حيث تم نقلها مباشرة عبر يوتيوب، كانت ضمن جدول أعمال  فعالية ثقافية عربية تم تنظيم جلستها الأولى في مدينة العمارة ( جنوب العراق) لتجمع عدد من المثقفين العرب تحت عنوان "مؤتمر القمّة الثقافي" الذي ينسّق أعماله الأديب محمد رشيد، فجاءت المناظرة  مترافقة مع انعقاد الجلسة الثانية في مدينة السليمانية.

     وكان الحوار خارج دائرة المدح أو القدح وبعيداً عن الولاء أو العداء أو التأييد أو التنديد أو التقديس أو التدنيس، بل تمّ طرح القضايا ذات الإهتمام المشترك بروح الصداقة المتبادلة وضمن أجواء حضارية ومستقبلية، بما فيها تباين وجهات النظر واختلاف زوايا الرؤية في الماضي والحاضر.

     فماذا يريد الكرد من العرب؟

     وماذا يريد العرب من الكرد؟

     وكيف السبيل لطي صفحة الماضي البغيض خصوصاً تعامل الحكومات المتعاقبة مع حقوق الشعب الكردي، تلك التي اقترنت بالتمييز والعسف والاضطهاد، ومنذ تأسيس الدولة العراقية في العام 1921 ، وكان أكثرها قسوة من جانب النظام البعثي السابق، على الرغم من أن الإعتراف بحقوق الشعب الكردي الأولية، كان قد تقرّر في بيان 11 آذار/ مارس 1970 وأُدرجت في الدستور العراقي الصادر في تموز/ يوليو 1970 ، وتلك مفارقة كبيرة أيضاً تستحق التوقف عندها، وقد سبق لي أن أضئت بعض جوانبها.

 

 

نصوص دستورية

      كان أول نص دستوري تقرّر فيه "شراكة العرب والكرد" في الوطن العراقي قد ورد في الدستور العراقي المؤقت الذي خطّه يراع الطيّب الذكر الفقيه القانوني حسين جميل في العام 1958 بُعَيد ثورة 14 تموز/ يوليو، وأهم من ذلك، بعد اتفاق 11 آذار/ مارس 1970 حيث ورد النص دستورياً " أن العراق يتألّف من قوميّتين رئيسيّتين هما العربية والكردية ...." وهو إعتراف صريح وواضح بالحقوق السياسية والإدارية والثقافية، وكل ذلك في إطار الإئتلاف والإختلاف، من خلال الإقرار بخصوصية الشعب الكردي في العراق، وهذه تقود منطقياً إلى الإعتراف بمقوماته بما فيها حقّه في تقرير المصير.

      وهذا لا يعني بالضرورة الانفصال كما يذهب البعض إلى ذلك، وهو إعتقادٌ خاطئ من أي جاء، فالعديد من القوميات والشعوب والمجموعات الثقافية والإثنية والدينية والسلالية واللغوية تعيش في دول متعددة الثقافات وفي إطار حقوق متساوية دستورياً، بغضّ النظر عن عددها وحجمها، لكن الإقرار بكيانيّتها وخصوصيّتها يمنحها مثل هذا الحق الذي يمكّنها التمتع فيه كحق قانوني واستخدامه بطريقة إيجابية، وتعود المسألة في أغلب الأحيان إلى درجة تطوّر المجتمع والثقافة السائدة ودور النخب الفكرية والثقافية والسياسية من الأمة" المضطهِدة" ومدى تضامنها مع الأمة "المضطهَدة"  حسب تعبير كارل ماركس " لا يمكن لشعب يضطّهِد شعباً آخر أن يكون حرّاً" ، أي لا بدّ من الاعتماد على شكل من أشكال الإستقلالية المتجسّدة بالحكم الذاتي أو الفيدرالية أو الكونفيدرالية وصولاً إلى إقامة كيانيّة خاصة حين يصبح العيش المشترك مستحيلاً، وهو مثل الطلاق على حدّ تعبير لينين ( أبغض الحلال عند الله ).

     إن مثل هذه المواقف مرهونة بالظرف الموضوعي والذاتي للطرفين ومدى توافقهما على المصالح المشتركة والمنافع المتبادلة وعلى درجة الإصطفاف في معسكر الأصدقاء أو معسكر الأعداء. أي على مدى تضامن الأمة الأكبر مع الأمة الأصغر  في نبذ الإستعلاء والهيمنة مقابل نبذ الأمة الأصغر للتعصّب والانغلاق، سواء حين يتقرر الإتحاد الإختياري الأخوي في ظل شراكة متكافئة، ومواطنة كاملة ومتساوية أو حين يتقرر الإنفصال، علماً بأنه ليس كل انفصال يقضي إلى تطور ورفاه وتنمية، إلّا إذا توفّرت ظروفه الموضوعية والذاتية، وتجربة جنوب السودان الذي انفصل باستفتاء حاز على 98% لصالحه وبإشراف من الأمم المتحدة لكن أوضاعه زادت سوءًا وحالته تدهوراً.

دروس التاريخ

     إن دراسة التاريخ ضرورية، فالتاريخ مراوغ وماكر حسب هيغل، ووفقاً  لماركس "ليس وعي الناس هو الذي يحدّد وجودهم إنما وجودهم الاجتماعي هو الذي يحدّد وعيهم" بمعنى من المعاني أن الحياة هي التي تحدّد الوعي، وبالطبع  فلكل تاريخ فلسفته ، وفلسفة تاريخ القمع ضدّ الكرد، ليست سوى الانجراف بالضدّ من الصيرورة الإنسانية. وهو الأمر الذي يثير أسئلة مقلقة بشأن استخدامات القوة والعنف واللجوء إلى السلاح  لحل الخلافات، خصوصاً من جانب القوى المهيمنة، وإذا كانت قوّة الحق وقوة المقاومة متّسقة برفض من جانب الجهات التي تتعرّض للقمع، ففي وجهها الثاني تضامنٌ من جانب الأصدقاء في الدفاع عن المظلومين والمضطهدين، خصوصاً وأن الشعب الكردي تعرّض منذ تأسيس الدولة العراقية أي قبل 100 عام إلى إنتهاكات سافرة على حد تعبير ملّا بختيار.

      وكانت الكثير من القوى تتّخذ من حقوقه موقفاً سلبياً أو لا مبالياً حتى فترة قريبة. وقد حاولت جميع الحكومات التي تعاقبت على سدّة الحكم استخدام الوسائل العسكرية و العنفيّة في مواجهة مطالبه العادلة والمشروعة، لكنها لم تتمكّن من فلّ عزيمته، كما أنه لم يستطع نيل حقوقه وتحقيق آماله بوسائل المقاومة العنفية على أهميتها وعلى اضطراره إليها، الأمر الذي يقتضي التفكير مليّاً بالوسائل السلمية والمدنية أسلوباً مرجّحاً وغالباً لتحقيق طموحاته، وهو ما ينطبق اليوم على علاقة إربيل ببغداد وعلى حلّ القضية الكردية في كل من إيران وتركيا، إضافة إلى مستقبل الإدارة الذاتية الكردية في سوريا وعلاقتها مع الدولة السورية.

الحوار الثاني

      إذا كان أول حوار عربي – كردي من النوع الذي جرت الإشارة إليه انعقد في لندن في العام 1992 ، فإن الحوار الثاني التأم في القاهرة في العام 1998 بعد وقف الإقتتال الكردي - الكردي 1994 - 1998  بالتعاون مع لجنة التضامن المصرية برئاسة أحمد حمروش وشارك في التحضير له الصديق عدنان المفتي (ممثل عن أوك) وعمر بو تاني (ممثل عن حدك) ، وحضره نحو75  شخصية بينهم عدد كبير من الشخصيات الكردية وعدد قليل من عرب العراق من بينهم كاتب السطور الذي حضّر بحثاً رئيسياً وعدد من الشخصيات المصرية البارزة ، وكان مؤتمر القاهرة استكمالاً وتواصلاً للحوار الأول وشارك فيه جلال الطالباني، زعيم الإتحاد الوطني الكردستاني وعدد من قيادات الحزب الديمقراطي الكردستاني وبمباركة من رئيسه مسعود البارزاني. 

     لكن هذا الحوار المتكافئ والموضوعي كان يمكن تطويره و مأسسته، وجرت محاولات على صعيد تشكيل جمعيات للصداقة العربية - الكردية، فضلاً عن دعوات لقيام معهد للدراسات العربية - الكردية، إلاّ أنه بعد إحتلال العراق العام 2003 اتخذ أشكالاً أخرى ، وذلك باستقطابات جديدة، فإما كان أقرب إلى مهرجانات تأييد ومبايعة وولاء دون حوار يطرح الإشكالات أو يقترح حلولاً ومعالجات أو يناقش وجهات النظر المختلفة، حيث ظلّت معظم المشكلات عائمة دون حلول، وانعكس ذلك في دستور العام 2005 ، الذي زاد من حدّة الإختلاف بسبب الألغام العديدة التي احتواها لدرجة أن الفرقاء الذين أقروا الصيغة الفيدرالية حين كانوا في المعارضة وفي مؤتمر صلاح الدين العام 1992  ظهروا كمتخاصمين، بل أقرب إلى "الإخوة الأعداء" باقتباس من عنوان رواية الشاعر والمفكّر اليوناني نيكوس كازانتزاكيس، وهو ما انعكس في صياغات غامضة وملتبسة ومشفّرة تكاد تنفجر عند أول منعطف أو اختلاف كما حصل عند استفتاء إقليم كردستان ، وأصبحت مع مرور الأيام عُقداً تضاف إلى العُقد المُزمنة والمشاكل المعتّقة.

الاستفتاء

      كان الإستفتاء الكردي في 25  أيلول/ سبتمبر العام 2017 مجسّاً جديداً للعلاقات العربية – الكردية، وكاد الأمر أن يؤدّي إلى صدام لا يحمد عقباه على الرغم من خطر داعش الإرهابي (تنظيم الدولة الإسلامية)  الذي كان ما يزال يحتل الموصل وأجزاء أخرى من محافظات صلاح الدين والأنبار وله جيوب في كركوك وديالى . وانقسمت النخب وسط تأجج للمشاعر واستدرار  للعواطف بين مؤيد بلا حدود للإستفتاء، حتى وإن لم يكن مؤيداً لحق تقرير المصير للشعب الكردي، ولكن لمكاسب وامتيازات وطموحات ومساومات سياسية وخصومات معلنة أو مستترة وفقاً لميزان القوى، وبعضها الآخر رافض بالمطلق للفكرة أساساً منقلباً حتى على بعض مواقفه السابقة من تأييد حقوق الشعب الكردي، سواء لحسابات إقليمية أو لقصور في التفكير وضيق أفق ومحاولات للإستقواء.

      ولم يكن بعض هذه المواقف بعيداً عن دول الإقليم، وخصوصاً إيران وتركيا، وكلاهما وجّها رسائل واضحة وصريحة من جهة، ومن تحت الطاولة من جهة أخرى  ، بأن الإستفتاء لن يمرّ وسيعملان بكل ما يستطيعان على إفشاله، لإدراكهما ما سيكون له من تأثير على حقوق الشعب الكردي لديهما، فالبلدان يعانيان بأشكال مختلفة من إنسداد أفق إزاء حقوق الشعب الكردي في كل منهما ، فتركيا تلتهب فيها القضية الكردية منذ الثمانينيات وينشط فيها حزب العمّال الكردستاني PKK حيث ما يزال زعيمه عبد الله أوجلان رهن السجن منذ العام 1999 ، وهو صاحب فكرة "الأمة الديمقراطية "التي تكمن في إطارها تحقيق حقوق الشعب الكردي بالإعتراف به وبخصوصيته  وحقه في حكم نفسه بنفسه. أما إيران فما تزال تعتبر "القومية" بدعة وضلالة، وكل بدعة في النار، وبالتالي فأي مطالبة بالحقوق القومية تنظر إليها بصفتها استهدافاً للجمهورية الإسلامية.

      وإذا كان الإستفتاء قد حصل في إطار إقليم كردستان، وصوّت إلى صالحه الغالبية الساحقة من سكّانها، إلّا أن نتائجه ظلّت مقتصرة على الرغبة المعلنة، وهي خيار استراتيجي كردي مع معارضة قوى داخلية وإقليمية وتحفّظات دولية. وكان وزراء خارجية كل من إيران وتركيا وسوريا يلتقون منذ مطلع التسعينيات ولغاية وقوع العراق تحت الإحتلال  العام 2003 ، وفي كل اجتماع ، تتم الإشارة إلى حالة الفلتان الأمني والفوضى والمخاطر على الوحدة الوطنية العراقية، وليس ذلك سوى التعبير عن خشية من انتقال مثل تلك الحالة إليها، وخصوصاً ما يتعلق بقيام كيانية كردية.

اللحظة التاريخية

    إذا كنّا قد تحدثنا عن المؤيدين والمنددين لخيار الإستفتاء، فثمّة فريق ثالث وإن كان الأقل عدداً ولكنه الأكثر وجدانية وصميمية بتأييده حقوق الشعب الكردي كاملة وغير منقوصة، بما فيها حقّه في تقرير المصير، ولكن قرار مثل ذلك القرار المصيري لابدّ من دراسته بدقّة وإحكام، بما فيه قياس درجة تقبّل الوضع الإقليمي والدولي، إضافة إلى حشد قوى صديقة ومجتمعية في الداخل العراقي، كيما تتوفّر له عوامل النجاح والإستمرارية والديمومة، خصوصاً وأنه سيقود إلى إحداث تغيرات جيوبوليتكية في الحال أو في المستقبل، الأمر الذي يقتضي حساب اللحظة التاريخية  في الإختيار والتوقيت استراتيجياً وتكتيكياً، بما لها علاقة  بمستقبل الشعب الكردي وطموحاته المشروعة،إضافة إلى علاقته المستقبلية  بالشعب العربي وظروف توازن القوى في المنطقة كي لا يكون عرضة لإختراق القوى الإقليمية، خصوصاً ما يتردد عن تأييد مجاني يشكّل إستفزازاً لمشاعر عربية من جانب "إسرائيل" مستغلّة ومستفيدة من اضعاف أي كيانية عربية من خلال تأجيج نار الصراع والإحتراب وصولاً إلى تفتيتها أو تقسيمها.

      وحتى بعض القوى الدولية التي كان يُعتقد تأييدها لخطوة الإستفتاء، فإن موقفها كان سلبياً ومتحفظاً، بما فيها الولايات المتحدة الأمريكية، التي كان بعض المسؤولين الكرد يعوّلون عليها، لأنها وضعت مصالحها الحيوية في العراق والمنطقة، قبل أي اعتبار آخر.

     وعلى الرغم من  استراتيجية واشنطن المعلنة والتي بلورها على نحو واضح برنارد لويس منذ نهاية السبعينيات، إلاّ أن إختيار اللحظة التاريخية مسألة ينبغي أن تُؤخذ بنظر الإعتبار بقراءة المستجدات والمصالح الدولية، إذْ لا تكون أحياناً متوافقة أو متطابقة مع متغيّرات محليّة ولكل ذلك سياقاته الجيوبوليتكية في الصراع والإتفاق وبما ينسجم مع المصالح الحيوية كما تسميها القوى المتنفّذة.

     لقد نظّر برنارد لويس  لفكرة تقسيم العالم العربي إلى دويلات إثنية ودينية وطائفية ومناطقية وغيرها، حتى أنه اقترح خريطة ضمّت 41 كياناً، وهكذا يصبح الجميع "أقليّة "، وتكون حينها "إسرائيل" الأقلية المتفوقة تكنولوجياً وعلمياً، لاسيّما بدعم من الولايات المتحدة الأمريكية بشكل خاص  والغرب عموماً، وكان إيغال ألّون في سياساته الإستيطانية الطويلة الأمد وصولاً إلى إجتياح لبنان ومحاصرة العاصمة "بيروت" 1982 قد تبنّى سياسة القضم التدرّجي للأراضي الفلسطينية وتفتيت العالم العربي، وهو مشروع قائم ومستمر بأشكال مختلفة، وكان آخرها وليس أخيرها مشروع الشرق الأوسط الكبير الذي روّج له جورج بوش الإبن عند احتلال العراق، ومشروع الشرق الأوسط الجديد الذي بشّرت به كونداليزا رايس وزيرة خارجية الولايات المتحدة  بعد العدوان "الإسرائيلي" على جنوب لبنان في العام 2006  ومشروع جو بايدن الخاص بتقسيم العراق إلى ثلاث فيدراليات أقرب إلى "كانتونات" أو "دوقيات"  والذي وافق عليه الكونغرس الأمريكي العام 2007 ، وهو وإنْ ما يزال في الأدراج إلّا أنه يُمكن تحريكه باللحظة المناسبة فيما إذا اختارت الولايات المتحدة ذلك، وقد دعا الرئيس دونالد ترامب إلى مشروع صفقة القرن ، والذي هو استمرار لإتفاقية  سايكس – بيكو ولكن بطبعة جديدة، وكان الفلسطينيون قد خسروا وطنهم في الصفقة الأولى، ولم يتمكّن الكرد من تلبية طموحهم في وطن موحّد كما جاء على لسان الملّا بختيار في مناظرة السليمانية.

      وحتى بعد إتفاقية سيفر لعام 1920، التي اعترفت بجزء من حقوق الكرد  والتي تم تسويفها بمعاهدة لوزان العام 1923حين قرّر الحلفاء المساومة لحساب تركيا، كان الضحية الشعب الكردي وشعوب المنطقة جميعاً، خصوصاً بعد وعد بلفور العام 1917 القاضي بمنح اليهود حق إقامة دولة لهم في فلسطين، وتمهيداً لذلك كان الإنتداب البريطاني على فلسطين في العام 1922 ، بعد أن تقرر الأمر في مؤتمر سان ريمو العام 1920.

         وحين أستعرِضُ تاريخ المنطقة، فإنما أريد الإضاءة على إشكالية إتخاذ القرار بالتساوق بين ما هو موضوعي وما هو ذاتي، دون أن يعني ذلك تخفيض سقف مبدأ حق تقرير المصير.  وبالعودة إلى قرار الإستفتاء الذي أثار زوبعة من العداء والكراهية والإتهامات المنفلتة من عقالها، حيث عادت لغة التخوين والتشكيك، ووجد البعض ضالّته بإذكاء نار الصراع، فأحيا من جديد ما توفّر في القاموس القديم بما فيه استخدامات الأنظمة السابقة ومعارضاتها، ولعبت القوى الأكثر تطرفاً في الضرب على الأوتار الحساسة لدى الجانبين العربي والكردي. فماذا يتطلّب الأمر من المثقفين المؤمنين بقيم الحرية والتحرّر وحق تقرير المصير؟

الأمير الحسن وحوار عمان

 

 كمثقّفين يهمّنا إقامة علاقات سويّة ومتكافئة ومتساوية وسلميّة، خصوصاً بما يجمعنا من قيم مشتركة أساسها نبذ التمييز ورفض الظلم والإستبداد والإضطهاد والدفاع عن الحقوق والحريات وصولاً إلى سلام عادل يلبّي طموح الكرد في إطار المصالح الوطنية العليا والقيم الإنسانية، ولكي يتم توسيع دائرة الحوار ونزع فتيل النزاع بادر سمو الأمير الحسن بن طلال بقناعة بالدعوة الخيّرة لرأب الصدع وإعادة اللحمة، خصوصاً بين المثقّفين الكرد والعرب، فدعا في عمان إلى حوار عربي – كردي في 1 آذار/ مارس 2018 ، ساهم فيه مثقّفون كرد وعرب من الأقطار العربية المختلفة، وبينهم بالطبع من العراق أيضاً.

 وطرح لقاء عمان بلاتفورم للعمل عليه فيما يتعلّق بتعزيز الروابط الثقافية والفنية والأدبية وتشجيع الترجمة وتبادل الزيارات وإقامة فاعليات وأنشطة مشتركة على جميع المستويات الفنيّة والرياضية والإجتماعية، يكون سقفها الإحترام المتبادل ومراعاة الخصوصية والهويّات المتعدّدة بما يجمعها من مشتركات عامة. وصدر في كرّاس بعنوان " الحوار العربي - الكردي" - خلاصة أعمال ندوة عقدها منتدى الفكر العربي في 1 آذار/ مارس 2018.

وقد أُجريت جولة الحوار العربي - الكردي، الفكري والثقافي بشفافية عالية واعتمدت كأساس لإقامة جولة ثانية موسّعة للحوار وفقاً للبلاتفورم الذي وضعه منتدى الفكر العربي، ولولا اجتياح المنطقة والعالم أجمع جائحة كورونا (كوفيد-19) لكان من المقرّر التواصل لتحديد موعد للجولة الثانية.

 

حوار أعمدة الأمة الأربعة

واستناداً إلى نجاح فكرة الحوار العربي - الكردي، بادر سمو الأمير الحسن لتبنّي مقترح تنظيم جولة لحوار مثقّفي الأمم الأربعة: الكرد والفرس والترك والعرب في 23 تموز/ يوليو 2018 ، وكان أول لقاء لوضع هذا المقترح موضع التنفيذ قد حصل في تونس في إطار المعهد العربي للديمقراطية 2016  بمبادرة من كاتب السطور ، وشارك فيه شخصيات كردية وفارسية "إيرانية" وتركية وعربية، وتأسّس وفقاً له لاحقاً منتدى التكامل الإقليمي في بيروت 2019، إلاّ أن جائحة كورونا وظروف التباعد حالت دون تنشيط دوره، علماً بأنه عقد لقاءً تشاورياً في تونس أيضاً في مطلع العام 2020.

وبالعودة إلى مبادرة سمو الأمير الحسن فقد انعقد "مؤتمر أعمدة الأمّة الأربعة" بحضور شخصيّات من تركيا وإيران وكردستان (العراق) والبلاد العربية. وتجري الإستعدادات لعقد لقاء جديد يستكمل اللقاءين السابقين، العربي - الكردي و"أعمدة الأمة الأربعة"، وقد انعقد لقاء تشاوري للجنة مصغّرة ضمّت ممثلين عن مثقفين من الأمم المشار إليها .

 

 

 

السليمانية : التواصل والتكامل

 

 تواصلاً مع مؤتمرات الحوار العربي - الكردي منذ 30 عاماً، فإن المناظرة الفكرية التي انعقدت في السليمانية 3-5  أيلول/سبتمبر 2021، والتي تحدّث فيها ملّا بختيار وكاتب السطور، أعادت طرح الإشكالية  التي هي العنوان العام لجميع الحوارات: ماذا يريد الكرد من العرب وماذا يريد العرب من الكرد؟ وكيف السبيل لتعزيز دور المثقفين للتفاعل والتواصل في إطار المشترك الإنساني؟

ومن خلال المداخلات وعلى هامشها أيضاً تم التفكير في سبل جديدة لبحث و تطوير ما هو مشترك وصولاً إلى ما هو خلافي، أو العكس البدء مما هو خلافي لتنقية الأجواء وصولاً إلى ما هو مشترك، وذلك بالعمل على إزالة العقبات التي تعترض طريق المثقفين والثقافة التي هي  المظلّة التي يستظلّون تحت لوائها، كما يمكن تحديد الأولويات بدءًا بالمواطنة وفكرة الإتحاد الإختياري والعيش المشترك، من خلال مناقشة التجارب العملية، سواء ما هو قائم منها أو ما هو محتمل إبتداءً من الحكم الذاتي ومروراً بالفيدرالية وصولاً إلى الكونفيدرالية، مثلما يمكن مناقشة حق تقرير المصير في تجليّاته الحقوقية والسياسية، بجوانبها النظرية والعملية بما فيه تشكيل كيانية خاصة بالكرد فيما إذا رغبوا بالإستقلال وتكوين دولة حين يصبح العيش المشترك مستحيلاً.

 

"الضد" واﻠ "مع"

 الأمر لا يتعلّق بالرغبات (ضدّ أو مع)، بل بتوازن القوى والمصالح وإمكانية الإستمرار في كيانية كردية خاصة دون تداخلات أجنبية، وخصوصاً إقليمية، ناهيك عن ضغوط دولية، فما هو دور المثقّف الكردي النقدي التنويري التبصيري؟ وأين يكمن جوهر ثقافته؟ وكيف السبيل للتواصل مع شقيقه المثقّف العربي في العراق والعالم العربي، ناهيك عن المثقف الإيراني والمثقف التركي ؟ والأسئلة ذاتها هي التي تواجه المثقّف العربي في العراق، فما هو دوره؟ وكيف ينظر إلى مطالب شقيقه المثقّف الكردي؟ وماذا يريد منه؟

 ففي بعض المواقف ثمّة اختبار لصدقية وإنسانية وثقافة المثقّف، إذْ كيف يمكن تطويع وسيلته الإبداعية لخدمة القيم الإنسانية والجمالية؟ ثم ما السبيل لتواصله مع شقيقه المثقّف الكردي في كردستان العراق أو في بقية أجزاء كردستان؟ ويتطلّب الأمر النظر بحيوية وتكافؤ دون إستعلاء أو تسيّد أو ادعاء بالأكثرية العددية من جانب المثقّف العربي ودون تعصّب أو انغلاق من جانب المثقّف الكردي.

 

الراهن مستمر

مثل هذه الأسئلة الراهنة، كانت "راهنة" دائماً وعلى قدر كبير من الحساسية في وقت تمّت الدعوة لأول حوار عربي – كردي في العام 1991 خارج الأطر الرسمية حين التأم في العام 1992 ، ويتذكّر الأحياء من الذين حضروا المؤتمر الأول للحوار وهم كثر من العرب والكرد كيف سارت وجهة الحوار في بداياتها؟ وكيف انتهت إليه في خاتمتها وهو ما يعزز الثقة بالحوار وأهميته وأفقه المستقبلي؟

وهو ما يمكن الإجتماع عنده كمثقفين وأصدقاء معنيين بشؤون الثقافة وبالدور المنشود للمثقّف، خصوصاً حين يكونون على قناعة بأهميّة العلاقات العربية – الكردية ليس ببعدها السياسي فحسب، بل بأبعادها الجيوسياسية والثقافية والإجتماعية  والصداقية والإنسانية.

وبما أن المثقّف ناقدٌ فمن خلال النقد والنقد الذاتي والمراجعات الضرورية يمكن التوصّل إلى مشتركات لتجسير الفجوة بين المثقّفين أولاً، وإزالة بعض الحساسيات والعوائق خارج دوائر الإستتباع والهيمنة أو الإنعزالية والإنغلاق، وهو ما ينبغي البناء عليه في إطار علاقات  حميمية وصادقة، فلا الولاء أوالمديح أوتأييد السياسات بما لها وما عليها، ولا العداء أوالتجريح أو الشوفينية ، تستطيع بناء علاقات صادقة وصافية ومحترمة وواعدة في الآن، تلك التي تعني توسيع خيارات الناس في التنمية والتقدّم والإزدهار.

لقد كانت مناظرة السليمانية علامة مضيئة على طريق الحوار العربي – الكردي، خصوصاً وأنها من السليمانية وكردستان، لذلك فإنها ستكون خطوة إيجابية وموفّقة لتعضيد المبادرات العربية على هذا الصعيد، وبالتالي يمكن أن تكون نواة لحوار قادمٍ بين مثقّفي الأمم الأربعة الذي هو الآخر يحتاج إلى مأسسة وإدارة وتواصل في الحقول المختلفة.

 

حوار 50 عاماً أفضل من ساعة حرب

     أعتقد إن السبيل لبلوغ الأهداف المشتركة هو الحوار، وكما قيل حوار 50 عاماً أفضل من حرب ساعة، فالحرب ستترك ويلات ومآسي وآثار إجتماعية ونفسية وجروح يصعب إندمالها أحياناً وذاكرة قد تتّجه إلى الكراهية والحقد والإنتقام، فما بالك حين يكون ضحيّتها الشعب الأعزل والجهات التي دُفعت إليها دفعاً، حتى وإن كانت خارج دائرة الصراع. 

     والحوار يتطلّب جهداً أكبر يجمع مثقّفين من تيّارات فكرية واجتماعية مختلفة، ليكونوا قوة ضغط وقوة إقتراح وقوة شريكة ومكمّلة في وضع الحلول والمقترحات، من خلال رؤية حقوقية - إنسانية، انطلاقاً من المشتركات والمصالح والمنافع المتبادلة.

     أعتقد أننا كنخب عربية وكردية بحاجة إلى حوارات معمّقة وتفاهمات استراتيجية واتفاقات طويلة المدى وثقة متبادلة وصراحة كاملة وشفافية عالية ونقد متبادل ونقد ذاتي أيضاً، لندفع بجهد السياسيين لعلاقات منزّهة خالية من الأغراض والتكسّب والمصالح الأنانية الضيّقة، والتفاهمات التكتيكية الطارئة والظرفية والصفقات، والتي سرعان ما تتبخر وتظهر عيوبها، وذلك بعيداً عن أجواء الغرف المظلمة أو المهرجانات الصاخبة ذات الطابع الدعائي والتي غالباً ما تأخذ جانب المجاملة والإحتفالية.

    وكنت لأكثر من مرّة قد أشرت إلى ضرورة مراجعة وتدقيق ما يحتاجه الطرفان العربي والكردي وكلاهما مستهدفٌ من قوى خارجية وأخرى داخلية لا تريد لهذا الملف أن يصل إلى غاياته المنشودة ، وكان آخرها في المنتدى الأكاديمي الدولي بالتعاون بين جامعتي كويسنجق وبغداد 28 - 29 نيسان/ أبريل 2019 وفي بحثٍ عن "المثقف ومسألة التعايش المشترك" حاولت أن أضع أمام المعنيين عدداً من القضايا التي تحتاج منّا إلى وقفة جديّة لمراجعتها ومنها:

المحاولات الحثيثة لعزل الكرد عن المحيط العربي وإضعاف ما هو مشترك و

وإيجابي في العلاقات وتقديم ما هو إشكالي و خلافي، حيث يجري تضخيم "الفوارق" بدلاً من تعظيم "الجوامع". وفي هذا المجال هناك تفاصيل عديدة، تتعلّق باللغة والثقافة والترجمة والفنون والأداب والعلاقات بشكل عام.

تحميل العرب والعروبة وزر ما حدث للكرد من اضطهاد وعسف شوفيني. وبنظرة تعميمية تتحوّل ارتكابات النظام السابق وآثامه والأنظمة التي سبقته وكأنها ارتكابات من جانب العرب والعروبة، ومثل هذه النظرة تنطلق من رد الفعل بعيداً عن العقلانية النقدية الإيجابية، ناهيك عن الواقع.

أما من جانب العرب فيتم:

اتهام الكرد بالانفصالية والعداء للعرب لمطالبتهم بحق تقرير المصير ودعوتهم لإقامة كيانيّة خاصة مستقلة بهم (دولة) ، وتحميلهم مسؤولية ما حدث وما يحدث بعد الاحتلال. ومثلما ينبغي التمييز بين عروبة الحكّام المستبدين وعروبة العرب، فإن ضيق أفق بعض النخب السياسية الكردية الانعزالية لا ينبغي أن يتحمّله المثقفون الكرد، ناهيك عن الشعب الكردي.

عدم اكتراث بعض عرب العراق وقسم كبير من القوى السياسية، فضلاً عن المثقّفين العرب من بلدان عربية أخرى بمسألة كرد إيران وكرد تركيا وكرد سوريا وحقوقهم المشروعة، وكأن الأمر لا يعنيهم، في حين أنهم يطالبون الكرد باتخاذ مواقف تضامنية مع العرب في كل مكان، وخصوصاً فلسطين، إلا أنهم يقفون موقفاً سلبياً إزاء حقوق الكرد.

عدم اكتراث بعض كرد العراق أو غيرهم من الكرد بحساسية العلاقة مع "إسرائيل" المنتهِكة لحقوق الشعب العربي الفلسطيني، ولاسيّما حقه في تقرير المصير.

وعلى الطرفين العربي والكردي عدم تقديم ما هو طارئ ومؤقت وآني من قضايا شائكة ومعقدة، على حساب ما هو استراتيجي وثابت وبعيد المدى. والأمر يشمل النخب السياسية بالدرجة الأساسية، والنخب الفكرية والثقافية والحقوقية أيضاً وإن بدرجة أدنى.

 وعلى الطرفين العربي والكردي تبديد المخاوف والشكوك إزاء بعضهما البعض، إذْ لا بدّ للمثقفين العرب تبديد مخاوف الكرد وذلك من خلال تعزيز وتوطيد العلاقة والتفاهم والمشترك الإنساني، والاعتراف بحقوقهم وفي مقدمتها حقهم في تقرير المصير بكل ما يتضمنه هذا الحق وما يعنيه من مضامين، لا باعتبارها منّة أو هبة أو هديّة، بقدر كونها إقراراً بواقع أليم وانسجاماً مع النفس في الإنتصار للمظلوم والشريك في الوطن، فضلاً عن مبادئ المساواة والعدالة والشراكة والمواطنة المتكافئة التي هي الأساس الذي ينبغي أن يقوم عليه بناء الدولة ، مثلما ينبغي أن تقوم عليه العلاقات بين الشركاء. فالكرد أمة مثل بقية الأمم لها الحق في تقرير مصيرها وتحقيق الوحدة الكردية الكيانية، مثلما العرب أمة قسمها المستعمرون أيضاً ولها الحق في إقامة الوحدة العربية. وهو ما ينبغي أن يُؤطّر قانونيّاً وفي سياق دستوري مُتّسق.

 كما لا بدّ  للمثقفين الكرد تبديد مخاوف العرب بتأكيد اعتبارهم جزءًا من العراق في إطار حق تقرير المصير الذي اختاروه عبر النظام الفيدرالي، علماً بأن  لا سعادة للعرب من دون الكرد، ولا سعادة للكرد من دون العرب في العراق، لأن مصيرهما مشترك وذلك قدر الجغرافيا، سواء أكان نقمة  أم نعمة.

ولعلّ جميع هذه القضايا ستظل مطروحة للنقاش، وقد جاء بعض هذه القضايا في مناظرة المفكّر الكردي ملّا بختيار مع كاتب السطور عبّر فيها الطرفان برحابة صدر وموضوعية وشفافية عالية.

 

عوضاً عن الخاتمة

وفي الختام أودّ أن أشير إلى ما سبق وأن قلته منذ عقود من الزمن، وهو أن "أغلبيات" كثيرة اجتمعت في شخصي المتواضع، وذلك بمحض الصدفة، وهي أغلبيات دينية وقومية وحسب البعض مذهبية، وأزعم أنها أغلبيات شعبية، وخصوصاً دفاعي عن الفقراء والكادحين وعموم المظلومين، ولكن عروبتي التي أعتزّ بها وانتمائي الصميمي للحضارة العربية - الإسلامية ودفاعي عن المسحوقين ستكون ناقصة ومبتورة ومشوّهة إن لم أعترف بحقوق الآخرين وفي مقدمتهم الشعب الكردي الشقيق، ولاسيّما حقّه في تقرير مصيره.

وكنت كتبت رسالة خاصة للزعيمين الكرديين مسعود البارزاني و جلال الطالباني عشية غزو العراق واحتلاله في العام 2003 محذّراً من المخاطر الجمّة، وأكرر اليوم ما جاء فيهما فحتى لو تخلّى هذا الطرف الكردي أو ذاك لأسباب سياسية أو تكتيكية عن حق تقرير المصير، فسوف أبقى مدافعاً عن حق الشعب الكردي في تقرير مصيره وخياراته الحرة لإيماني المبدئي، الفكري والحقوقي بذلك، ولأن ذلك حق قانوني وإنساني أيضاً، سواء بالإتحاد الإختياري الأخوي أو إقامة دولة مستقلّة صديقة للعرب، وأقول ذلك دون لبس أو غموض وبثقة وشفافية كمثقف يؤمن بقيم التحرر والحرية والسلام والتسامح وحق تقرير المصير. 

*أكاديمي ومفكّر عربي من العراق

جريدة الزمان (العراقية) يوم السبت 30 تشرين الأول / أكتوبر 2021

 

           

 

كورونا والسلام العالمي

 

عبد الحسين شعبان

 

     حين نتحدّث عن التنمية المستدامة، أي التنمية البشرية الشاملة بمعناها الإنساني، فإننا نقصد شمولها للجوانب السياسية والقانونية والإقتصادية والإجتماعية والثقافية والتربوية والبيئية والنفسية والدينية، إذْ لا يمكن إحداث التغيير المنشود دون تحقيق السلام الذي يتطلّب توفير الأمن والأمان والطمأنينة والإستقرار، حيث يعتبر السلام أحد أهم أهداف التنمية التي لايمكن تحقيقها على نحو دائم ووطيد، دون إقامة السلام.

     وبسبب إندلاع الحروب والنزاعات المسلّحة وغياب السلام وما صاحب ذلك من قلق وتوتّر لسكّان المعمورة ، خصوصاً بعد إندلاع حربين عالميتين، فقد حفّز ذلك الأمر الجمعية العامة للأمم المتحدة أن تولي هذه المسألة الحيوية الإهتمام المطلوب، وتأخذ على عاتقها التذكير بمخاطر تهديد السلم والأمن الدوليين، وأن تتبنّى إعلان يوم عالمي للسلام ، وذلك قبل أربعة عقود من الزمن، حيث اتخذت قراراً في العام 1981 للإحتفال بالسلام العالمي، والهدف من ذلك نشر ثقافة السلام وتعزيزها وتعميم قيمها بين البلدان والأمم والشعوب والجماعات والأفراد.

     وفي العام 1991 قررت الجمعية العامة إعتبار يوم 21 سبتمبر/ أيلول من كل عام يوماً للسلام العالمي تحتفل به؛ وذلك بالدعوة إلى إنهاء الحروب ووقف إطلاق النار بالمناطق التي تندلع فيها الحروب، ومناشدة البلدان والمنظمات الدولية والإقليمية الحكومية وغير الحكومية والشخصيات الفاعلة للعمل على تحقيق ذلك، لما له من إنعكاسات إيجابية على الجمهور، وهي دعوة تتضمّن التعاون والتضامن لتحقيق هذه المهمة النبيلة بمّا ينسجم مع ميثاق الأمم المتحدة الذي ينصّ على صيانة السلم والأمن الدوليين، باعتباره مبدأ أساسياً من مبادئها، والعمل على حل الخلافات بالطرق السلمية وتحريم إستخدام القوة أو التهديد بها في العلاقات الدولية.

     وكان شعار المجتمع الدولي هذا العام " التعافي بشكل أفضل من أجل عالم أكثر إنصافاً وتنمية مستدامة"، وذلك تزامناً مع حالة الخروج من الوباء الذي هدّد البشرية جرّاء مداهمة فايروس كورونا العالم أجمع 2020 – 2021 ، وكان الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش قد دعا العالم أجمع إلى وقف إطلاق النار، ولاسيّما في البلدان التي تشهد حروباً أو نزاعات حربية.

      وكان مجلس الأمن الدولي قد أصدر قراراً بالإجماع يدعو فيه جميع الدول الأعضاء البالغ عددهم 193 دولة إلى وقف إنساني مستدام للنزاعات الأهليّة، وإقترح وقفاً لإطلاق النار لتمكين الأشخاص المحاصرين في النزاع المسلّح من الحصول على اللقاحات اللازمة لمواجهة تحدّي كورونا ( كوفيد – 19 ) والحصول على العلاجات الضرورية للبقاء، وذلك بعد اجتياح الفايروس.

     ويمكن القول أن الإحتفال باليوم العالمي للسلام له أكثر من دلالة؛

      فهو إعلان صريح من جانب الدول والمنظمات والجهات والقوى ضدّ الحروب والنزاعات المسلحة؛

       وهو في الوقت نفسه يلتمس الطريق السلميّة لحل النزاعات وعدم اللجوء إلى العنف والسلاح وإستخدام القوّة في العلاقات الدولية أو التهديد بها، علماً بأن بعض النزاعات قديمة أو جديدة أو متجدّدة؛

      كما يعني الإحتفال التمسّك بالقيم والمعاني الإنسانية والتي يتضمّنها السلام العالمي، وكذلك التبشير بالمستقبل الذي تعمل من أجله البشرية، بحيث يتحقّق السلام وتنعم البشرية بالسعادة والرفاه وبالطبع بالتنمية والمساواة والعدالة، وذلك بتعزيز قيم الحرية واحترام حقوق الإنسان.

     ويعني الإحتفال باليوم العالمي للسلام نبذ العدوان والحروب والعنف، وذلك امتثالاً لميثاق الأمم المتحدة الذي يدعو للتسامح، وعلى الشعوب والأمم أن تأخذ بعضها البعض بالتسامح، بعدما شهدت ويلات لا حصر لها، فالسلام ضرورة إنسانية وحاجة ماسّة، بل لاغنى عنها تستوجب تعاون جميع البلدان كبيرها وصغيرها لحمايته.

      إن من مصلحة البلدان والشعوب الصغيرة والمستضعفة أن تتمسّك بالسلام وقيمه، ففيه وحده يمكن تحقيق آمالها وطموحاتها بما ينسجم مع القواعد الآمرة في القانون الدولي المعاصر، تلك التي يتضمنها ميثاق الأمم المتحدة والإتفاقيات والمعاهدات الدولية الجماعية ذات الصفة الإشتراعية أو الإتفاقات الثنائية التي تقّر عدم الإعتداء وحماية السلم والأمن الدوليين، واحترام حق تقرير المصير للأمم والشعوب وإستقلالها وسيادتها على كامل أراضيها وثرواتها الطبيعية، وحل الخلافات بالطرق السلمية وعدم اللجوء إلى القوة والتهديد بها، فضلاً عن التعاون بينها لإنماء العلاقات الإقتصادية والإجتماعية والثقافية وفي مجمل قطاعات التنمية، ومنها ما واجهته البشرية من تهديد خطير إثر مداهمة فايروس كورونا " كوفيد 19 " ، ناهيك عن أوبئة وأمراض خطيرة أخرى ، دون أن ننسى وباء الإرهاب الدولي الذي هدّد البشرية جمعاء، خصوصاً في العقدين المنصرمين، وبعد تفجير برجيّ التجارة العالميّين في 11 سبتمبر/ أيلول 2001  واستمرار خطر تنظيم القاعدة الإرهابي وما أعقبه تنظيم داعش وأخواتها، بحيث تسلل الخوف والهلع إلى العديد من مناطق العالم.

     إن مرور 20 عاماً على اليوم العالمي للسلام فرصة مناسبة للمطالبة بالتوافق على ميثاق دولي ذا بُعد إنساني أو إتفاقية دولية للسلام،  وذلك لمجابهة التعصب ووليده التطرّف وإبنهما العنف والإرهاب، فلن تتحقّق التنمية المنشودة دون سلام وأمن، فهو الوعاء الحامل لها

 

المناخ والنفط

عبد الحسين شعبان

 

هل ثمّة علاقة بين المناخ والنفط؟ سؤال طالما يتردّد على لسان مختصّين وغير مختصّين. وما يهمّنا هنا هو الجانب الصحي والإنساني، خصوصاً ونحن نتابع كلّ يوم تحذيرات شديدة ومقلقة بشأن مستقبل الكرة الأرضيّة في ظلّ  تبدّلات المناخ ومتغيّراته بما يجعل المرء أحياناً يشعر بالخوف، بل ويتملّكه الهلع بشأن مصير البشرية ومستقبلها، بسبب تخصيص الميزانيات الضخمة للتسلّح والعلوم الحربية وأنواع جديدة من السلاح، في حين لم يول الإهتمام الكافي بالصحة والتعليم والبيئة والبحث العلمي عموماً، في ظلّ امتداد التصحّر وتفشّي الأمراض والأوبئة وآخرها مداهمة العالم أجمع فايروس كورونا "كوفيد-19"، إضافة إلى الإحتباس الحراري والتغييرات التي يشهدها المناخ .

ويذكّرنا ذلك بالسنوات الأخيرة للحرب الباردة والصراع الآيديولوجي بين المعسكرين، حيث قررت واشنطن تخصيص تريليوني دولار لحرب النجوم في سباقٍ للتسلّح مع موسكو، وهي ميزانية لم يقدر الإتحاد السوفيتي السابق على مجاراتها فيها. وكان ذلك مؤشراً جديداً على فوز الغرب في سباقه مع  النظام الإشتراكي، يضاف إلى مؤشّرات أخرى تتعلّق بالنظام السياسي وشحّ الحريّات والاختناقات الإقتصادية التي عاشها.

وبدلاً من التوجّه للبحث العلمي والتعاون الدولي في مجالات العلم والبحث والتكنولوجيا والصحة والبيئة لرفاه الإنسان وسعادته، فإن المنافسات السياسية والمصالح الأنانية الضيّقة هي التي كانت تتغلّب باستمرار وهي الآن تأخذ منحىً جديداً يتعلّق بالصراع الأمريكي - الصيني بشكل خاص، والأمريكي الروسي أيضاً، حيث يجري فيه إهمال قضايا حسّاسة ومصيرية مثل تغييرات المناخ دون شعورٍ بالمسؤولية من جانب القوى المتنفّذة. وحين نستعيد ذلك فالأمر متزامنٌ مع حرائق مدمّرة في العديد من البلدان المتقدّمة والنامية، إضافة إلى أعاصير وفياضانات وتغيير في درجات حرارة الكوكب التي ترتفع من سنة إلى أخرى.

في ظلّ هذه الأوضاع صدر تقريران دوليان خطيران: الأول- من لجنة علماء الأمم المتحدة بشأن  تغيّرات المناخ. والثاني- تقرير وكالة الطاقة الدولية تمهيداً لمؤتمر غلاسكو الذي سينعقد في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل 2021. ويؤكّد التقريران ضرورة البحث في مستقبل المناخ، وصولاً للعام 2050 تساوقاً مع قرارات مؤتمر باريس المناخي ولتأكيد إلتزامات الدول بالقرارات التي تمّ التوصّل إليها والتعهدات التي أخذتها على عاتقها.

وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أن الربط المباشر بين التغيّرات المناخية والإرتفاعات في درجات الحرارة، هي جرّاء عمل الإنسان، أي أن التقلّبات المناخية ناجمة عن استعمال مباشر ومكثّف للنفط والمصادر الهيدروكربونية. ولهذه الأسباب حذّر التقريران من انبعاثات غاز الميثان وثاني أوكسيد الكربون على التغيير المناخي، وهو ما يستمرّ سنوياً دون توقّف، بل أخذ بالإزدياد والإرتفاع خلال السنوات الأخيرة، بما يؤثّر سلباً على استيعاب الغابات لثاني أوكسيد الكربون وتقليص انبعاث الأوكسجين من الأشجار، وهو ما يفاقم الأزمة المناخيّة المتعاظمة. وكانت نصف الإنبعاثات التي زادت من حرارة الجو خلال عامي 2019 - 2020 ناجمة عن حرائق الغابات.

 وتعمل شركات الطاقة الكبرى على تقليص انبعاث ثاني أوكسيد الكربون وذلك عبر تدويره بتقنية خاصة، مما يعني سحبه من البترول المنتج ومن ثم تخزينه في آبار فارغة لاستخدامه في وقت لاحق، ويتمّ تطوير هذه التقنية في إنتاج النفط والغاز، ولكن دون انبعاث للكربون أو بانبعاثات ضئيلة جداً. وحتى الآن لم تتوفّر بدائل مقبولة وكافية لتغطية الإستهلاك الواسع والمتعاظم للنفط، علماً بأن نسبة الإنبعاثات من قطاع الطاقة تساوي حوالي 4/3 (ثلاثة أرباع) ما يتمّ انبعاثه من الكربون.

وكانت اتفاقية باريس قد حدّدت هدفاً رئيساً لها وهو التوصّل إلى صفر من الإنبعاثات الكربونية بحلول 2050، الأمر الذي يحتاج إلى إيجاد البدائل منذ الآن، وتأخذ بعض البلدان بتشريعات جديدة وأنظمة وقوانين للبدء بإحلال البدائل، مع الأخذ بنظر الإعتبار الإكتشافات العلميّة الجديدة.

ويبقى دور النفظ والغاز مهمّاً في مرحلة الطاقة المتجدّدة. فمن الناحية التجارية لا بدّ من أخذ الإستثمارات الهائلة في القطاع النفطي الدولي، خصوصاً في مجال الصناعة النفطية فيما إذا تمّ بنجاح تدوير الكربون، الأمر الذي يؤكّد علاقة المناخ بالنفط ، علماً بأن الحملة العالمية لتغيير المناخ هي ضدّ الإنبعاثات وليس ضد استخدامات النفط حيث يمكن أن يلعب النفط الخالي من الإنبعاثات دوراً في مرحلة الطاقة المتجدّدة، وقد يتنافس عبر السوق ومن خلال الأسعار مع الطاقة المستدامة، وبالطبع فإن الأمر له علاقة بالسوق، أي بالعرض والطلب وبالتطوّر العلمي أيضاً.

وتواجه دول العالم الثالث والبلدان الفقيرة عموماً موضوع المناخ بصعوبة كبيرة فيما يتعلّق بالإستثمارات لتحييد الإنبعاثات، لذلك يبقى خيار بدائل الطاقة المستدامة غير متاح لدولها، لأن الحلول المطروحة تلبّي إلى حدٍّ كبير مصالح الدول الصناعية الغنية والمتقدّمة، في حين أن الدول النامية والفقيرة ما تزال خارج دائرة الفعل في هذا الميدان لأسباب تتعلّق بعدم المساواة وغياب التكافؤ في العلاقات الدولية ، ناهيك عن الإستلاب والإستغلال الذي تتعرّض له ثرواتها من جانب القوى الكبرى.

 

 

الشباب نصف

الحاضر وكل المستقبل

 

عبد الحسين شعبان

 

كانت الجمعية العامة للأمم المتحدة  قرّرت في 17 ديسمبر/ كانون الأول العام 1999 اعتبار يوم 12 أغسطس/ آب من كل عام يوماً للشباب العالمي تحتفل به، وذلك لتأكيد دوره في عملية التغيير والتنمية في المجالات كافّة: السياسية والإقتصادية والإجتماعية والثقافية، بوصفه شريكاً لا غنى عنه لكل عملية تقدُّم لدرجة أنه لا يمكنها أن تقوم من دون مساهمته الفاعلة والواعية.

ويواجه الشباب اليوم مصاعب شتّى وتحدّيات جمّة، فضلاً عن عوائق وكوابح غير قليلة، وخصوصاً في ظلّ العولمة بوجهها المتوحّش، حيث تنخفض مستويات المعيشة ويزداد الفقر وتنتشر البطالة والأميّة وترتفع معدّلات الهجرة الشرعية وغير الشرعية، لا سيّما من بلدان الجنوب الفقير إلى بلدان الشمال الغني، كما تتفشّى الأمراض والأوبئة وآخرها فايروس كورونا "كوفيد - 19" ويرتفع مستوى الجريمة المنظّمة والإتجار بالبشر وتستشري تجارة المخدرات والأسلحة وتكثر على نحو مطّرد ومعدّلات العنف والإرهاب، وغير ذلك من الجوانب التي تؤثر سلباً على جيل الشباب وتحول دون استمتاعهم بشبابهم، بل وتحرمهم أحياناً من توسيع معارفهم وشحذ طاقاتهم بالإتجاه الإيجابي. فبالشباب تزدهر الأوطان وهم عماد الوطن والأمّة في الدفاع عنهما، خصوصاً في الأزمات والمحن.

وبما إن الشباب نصف الحاضر وكل المستقبل، فلا بدّ من توفير مستلزمات الإفادة منهم في الحاضر والمستقبل وذلك بتمكينهم من امتلاك ناصية العلم أولاً والمعرفة والثقافة في فضاءات حرّة ورحبة لتحقيق أحلامهم وطموحاتهم وتقديم مبادراتهم ومشاريعهم  وابتكاراتهم إلى المجتمع، وكذلك في إفساح المجال أمامهم والاستماع إلى آرائهم ووجهات نظرهم، كي تتفتّق مواهبهم وتثمر جهودهم للقيام بالدور المنوط بهم في عملية التنمية وفي تنقية وترميم الحياة السياسية والاجتماعية وتطويرها بما ينسجم مع تطلعاتهم لمستقبلٍ أكثر انفتاحاً وتنوّعاً، خصوصاً في البحث عن قواسم مشتركة مع بعضهم البعض بغضّ النظر عن دينهم وقوميتهم وجنسهم ولغتهم ولونهم وأصلهم الإجتماعي، فالشباب أخوة وأحبّة يجمعهم طموح مشترك وحماسةٌ وإرادةٌ وحيويةٌ وعطاءٌ.

ولا يمكن للبلدان والأمم والشعوب أن تتقدّم دون المساهمة الحيوية الفاعلة لجيل الشباب الذي يتمتّع بقدرات بدنية وعقلية وروحيّة عالية قياساً بالأجيال التي تسبقهم أو تعقبهم، ولذلك فإن الرهان عليهم دائماً، لما يتمتعون به من قوة وطاقة ومبادرة وجرأة وإقدامٍ وسلامةٍ جسمية، فلا رياضة دون الشباب ولا فنون وآداب ورقص وموسيقى وشعر ومسرح وسينما دونهم، لأنهم يمثّلون عصب الحياة الحقيقي وينبوعها المتدفّق.

 

ولعلّ الشاعر الجواهري كان على حق حين خاطب الشباب قائلاً:

            نزق الشباب عبدتهُ /  وبرئتُ من حلم المشيبِ

يا من يقايضني ربيع / العمر ذا المرج العشيبِ

بالعبقرية كلّها / بخرافةِ الذهن الخصيبِ

إن الإحتفال بيوم الشباب العالمي هو رسالة إلى جميع الحكومات التي عليها أن تعي دورهم وأن تسهم في رفع كفاءاتهم فبالعلمِ والعلمِ والعلمِ والعيش الكريم يمكن الإرتقاء بهم، خصوصاً بتشجيع حرية التعبير ليتمكّنوا من تفجير طاقاتهم واستخدامها على أحسن وجه، فكلّما ضاقت تلك السُبل فأن طاقاتهم يمكن أن تتوجّه إلى مواقع أخرى خاطئة، وقد تُنذر بشرٍّ مستطير، خارج دوائر الإبداع والإنتاج والعمل، حيث يمكن استغلالهم من جانب القوى المتعصبّة لدفعهم نحو التطرّف، وهذا الأخير إذا ما تحكّم منهم فقد يتحوّل إلى سلوك ويقودهم إلى العنف، والعنف حين يضرب عشوائياً يصبح إرهاباً.

 وإذا كان الشباب هم من حاربوا القوى الإرهابية والعنفيّة، التي تغوّلت على المجتمع واستهانت بمرجعيّة الدولة، فإن هذه الأخيرة حين تمكّنت من عقول بعض الشباب باستغلال أوضاعهم الإقتصادية والإجتماعية والدينية والقومية والثقافية، خصوصاً  في ظلّ أوضاع التخلّف والجهل والفقر والتمييز، حاولت الضرب على الأوتار الحسّاسة التي تحرّكهم موظّفةً ذلك لأغراضها الأنانيّة ومشاريعها السياسيّة  الجهنميّة، وإلاّ كيف لشخص يوعد بالجنّة وبالحور العين، فيندفع لقتل عشرات أو مئات الناس في سوق أو ساحة عامة أو مدرسة أو كنيسة أو مسجد، إن لم يكن قد تمّ تخريب عقله وغسل دماغه والتلاعب بضميره.

وكان الهدف رقم 10 من مشروع التنمية المستدامة 2030 قد أكّد على تعزيز المساواة ودعم النمو في الدخل لفئة الأربعين في المئة من البلدان الأكثر فقراً والأقلّ نماءً لضمان الفرص المتكافئة وإنهاء التمييز والأمر يخصّ الشباب بالدرجة الأساسية والبلدان الفقيرة بشكلٍ خاص، الأمر الذي يحتاج من أصحاب القرار، إضافة إلى المنظمات الإنسانية والمؤسسات الدولية والمراجع الدينيّة والهيئات الثقافيّة، الأمر يحتاج إلى تنمية قدرات الشباب وشحذ طاقاتهم وتوفير الفرص المناسبة لهم للحصول على عمل مناسب وأجرٍ مناسب يتوافق مع قدراتهم إناثاً أو ذكوراً.

ولا بدّ من إشراك الشباب في صنع القرار بما يشعرهم  بالإنتماء الحقيقي لمجتمعهم ويعزّز من هويتهم المشتركة ويجسّر الفجوة بينهم وبين أصحاب القرار، دون أن ننسى الإهتمام بالأنشطة الترفيهية لهم باعتبارها ضرورية للنمو المنسجم نفسياً وجسدياً، خصوصاً والعالم في الطور الرابع من الثورة الصناعية والذكاء الإصطناعي واقتصاد المعرفة.

 

 

 

مئوية الدولة العراقية

عبدالحسين شعبان

 

خصّص ملتقى الرافدين للحوار مؤتمره السنوي لبحث إشكاليات الدولة العراقية ومشكلاتها بعد مرور 100 عام على تأسيسها في 23 أغسطس/ آب 1921، بحضور رئيس الجمهورية ورئيس البرلمان وشخصيات سياسية وازنة ونخبة من الأكاديميين والباحثين والمفكرين، تحت عنوان «العراق في مئة عام: مسارات مضطربة وأزمات متجددة».

وكان المؤتمر فرصة للحوار وتبادل وجهات النظر واستمزاج الآراء والاستئناس بأفكار ذات مشارب مختلفة، ومن شخصيات عراقية وعربية ودولية تمثل اتجاهات متنوّعة، فالحوار لم يعد ترفاً فكرياً، أو نزوة عابرة، بقدر ما أصبح ضرورة وامتيازاً في آن، بعد أن وصلت العملية السياسية التي تأسست بعد الاحتلال الأمريكي للعراق في عام 2003، إلى طريق مسدود، واستمرار ظاهرة انتشار السلاح خارج الدولة، وتغوّل جهات ما دونها لتصبح ما فوقها في ظلّ نظام يقوم على المحاصصة والتقاسم الوظيفي الطائفي والإثني.

وكان المؤتمر أيضاً فرصة لإعادة قراءة التاريخ، خصوصاً فترة العهد الملكي، وحصول العراق على الاستقلال، حتى إن كان شكلياً ودخوله عصبة الأمم، حيث تم تشييد أساسات الدولة العراقية بهياكلها المعروفة، ودواوينها وقوانينها وتطبيقاتها وخططها الاقتصادية ومشاريعها العمرانية، وحتى إن كانت الحريات شحيحة إلا أنه شهد نهوضاً ملحوظاً، وتطلّعاً نحو الحداثة والتقدم.

وعلى الرغم مما حققته ثورة 14 يوليو/ تموز1958 من منجزات سياسية واجتماعية واقتصادية، وفي مقدّمتها الخروج من حلف بغداد، وانتهاج سياسة تحررية وتحرير العملة العراقية من شرنقة الكتلة الاسترلينية وتشريع قانون تقدمي لمصلحة المرأة في عام 1959 (قانون رقم 188)، وآخر لتحرير الثروة النفطية في عام 1961 (قانون رقم 80 )، إلاّ أن العراق عاش أوضاعاً استثنائية وفترة انتقالية، وشهد حرباً ضد الشعب الكردي واندلاع أزمة المطالبة بضم الكويت، ما سهّل الإطاحة بالجمهورية الأولى في عام 1963، وزاد من التضييق على الحريات العامة والخاصة وانتهاج سياسة استبدادية.

وبعد انقلاب 17 يوليو/ تموز 1968 حُكمت البلاد بالحديد والنار لنحو 35 عاماً، وشهدت خلالها حروباً عبثية داخلية وخارجية، أبرزها الحرب العراقية – الإيرانية ( 1980 – 1988)، واحتلال الكويت عام 1990، وما أعقبها من ردود فعل دولية بالحصار الشامل وصولاً إلى الاحتلال عام 2003.

وبعد الإطاحة بالنظام السابق زادت الانقسامات الداخلية الطائفية والإثنية التي جرى اعتمادها منذ مجلس الحكم الانتقالي الذي أسسه بول بريمر الحاكم المدني الأمريكي للعراق، والتي انعكست على قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية والدستور الدائم النافذ لعام 2005، والذي قام على مبدأ المكوّنات، ابتداءً من الديباجة والمواد 9 و 12 و 49 و 125 و 142، وليس ذلك سوى إقرار بالمحاصصة القائمة على الزبائنية السياسية والمغانم والمكاسب، بعيداً عن مستلزمات المواطنة والكفاءة والإخلاص للوطن.

وحسب ماركس، فإن الذي لا يعرف التاريخ محكوم عليه بتكراره، فالتاريخ لا يعيد نفسه، وإن حصل ذلك ففي المرة الأولى كمأساة، وفي المرّة الثانية كملهاة، علماً بأن التاريخ ماكر ومراوغ حسب هيجل، وبالطبع فلكل تاريخ فلسفة، وفلسفة التاريخ تقوم على معرفة الماضي لدراسة الحاضر واستشراف المستقبل، لأن التاريخ هو أبو العلوم، أما الفلسفة فهي أمّها. وكان كيسنجر أجاب أحد طلّابه الذي سأله كيف يمكن أن يصل إلى ما وصل إليه، بأنه حمل معه كتب التاريخ والفلسفة، فمعرفتهما كفيلة بوضع الخطط الصحيحة للحاضر والمستقبل، وهو ما حاولناه منهجاً عند بحثنا للدولة العراقية.

لقد عانت الدولة ثلاث إشكاليات لا تزال تعيش معها لدرجة أنها أصبحت معتقة، وهي المشكلة الكردية التي تفاقمت وأصبحت شبه مستعصيه بفعل الاضطهاد المزمن، والمسألة الطائفية وهشاشة المواطنة بسبب قوانين مجحفة للجنسيّة وممارسات تمييزية.

وحسب الملك فيصل الأول فإن البلاد العراقية تنقصها الوحدة الفكرية والمليّة والدينية، وتعاني اختلافات شيعية وسنية وكردية «وأقليات غير مسلمة» كما أسماها، ما أطلقت العنان له منظومة 9 إبريل/ نيسان 2003 ليصبح معياراً في توزيع المسؤوليات والوظائف، الأمر الذي أضعف هيبة الدولة وعرّضها للتعويم.

وإذا عدنا إلى مذكّرة الملك فيصل الأول 1932 فهي دعوته إلى الوطنية الصادقة (وتجاوز) الكتلات البشرية المشبّعة بتقاليد وأباطيل دينية، وتشكيل شعب سعى لتهذيبه وتدريبه وتعليمه، وذلك أحد دروس التاريخ وفلسفته التي على العراقيين وضعها نصب أعينهم إذا أرادوا إعادة بناء الدولة على أسس موحّدة وسليمة معيارها حكم القانون والمواطنة واستقلال القضاء، والإقرار بالتنوّع والتعددية والحق في الاختلاف.

drhussainshaban21@gmail.com

 

 

الإرهاب الدولي.. قراءة مغايرة

د. عبدالحسين شعبان

 

هل غيّرت أحداث الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول 2001 العالم؟ اعتقاد يكاد يقترب من الإجماع بعد تلك «الجريمة ضد الإنسانية» كما تم وصفها، وهي جريمة بحق تستوجب عملاً دولياً مشتركاً لملاحقة مرتكبيها وسوقهم إلى العدالة؛ فقد خلّفت تداعيات كبرى على الصعيد العالمي، ومن أبرزها إحياء الرئيس جورج دبليو بوش «حرب ريجان على الإرهاب» كما يذهب إلى ذلك المفكر الأمريكي نعّوم تشومسكي، في كتابه «من يحكم العالم؟» وهو ما نجم عنه غزو أفغانستان في العام 2001 ومن ثم احتلال العراق عام 2003، إضافة إلى التهديدات المتواصلة التي تم إطلاقها بالهجوم على «محور الشر».

بعد عقدين من الزمن على جريمة 11 سبتمبر/ أيلول، هل حققت الولايات المتحدة أهدافها من استراتيجية مكافحة الإرهاب الدولي؟ وهل أصبح العالم أكثر أمناً وأماناً بعد تشكيل «التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب»؟ وهل بات العالم العربي والإسلامي أقل تعصّباً وتطرّفاً وبالتالي أقل عنفاً وإرهاباً؟ ويمكن إعادة السؤال على نحو معاكس، هل استدرج أسامة بن لادن الولايات المتحدة لإلحاق هزيمة بها في بلاد المسلمين عبر حروب صغيرة إلاّ أنها مكلفة وستؤدي في نهاية المطاف إلى إفلاسها كما كان يعبّر عن ذلك؟

وحسب تقديرات معهد واتسون للشؤون الدولية والعامة التابع لجامعة براون، فإن الفاتورة النهائية ستصل إلى حدود 3.2 - 4 تريليونات دولار، وربما زادت عن هذا الحدّ في السنوات الأخيرة بعد احتلال «داعش» للموصل، وتمدّدها في ثلث أراضي كل من العراق وسوريا.

باندفاع واشنطن باستراتيجيتها في العالمين العربي والإسلامي زادت وتيرة التعصّب والتطرّف، وهذان أنتجا عنفاً وإرهاباً دولياً، خصوصاً حين استهدف إضعاف ثقة الدولة بنفسها وثقة المجتمع والمواطن بالدولة، لاسيّما إذا كان عابراً للحدود؛ ولعلّ ذلك ما أراده ابن لادن وهو ما قصدته أو لم تقصده واشنطن بشأن «الفوضى الخلّاقة»، فقد أصبح الأمر واقعاً حتى وإن لم يخطر على بال أصحاب القرار في البيت الأبيض من الرؤساء المتعاقبين، بوش وأوباما وترامب وآخرهم بايدن.

فهل هناك من يتصوّر أنه بعد عقدين من الزمن ستتسلّم طالبان مقاليد الأمور في كابول، وستخرج القوات الأمريكية مهزومة في جنح الظلام، بعد أن بشّرت بحلول ربيع الديمقراطية في أفغانستان والعراق، بل وعموم دول المنطقة.

والشيء بالشيء يذكر كما يُقال، فالانقلاب الذي نظّمته وكالة الاستخبارات الأمريكية CIA في سانتياغو (تشيلي) في 11 سبتمبر/ أيلول 1973 للإطاحة بحكومة سلفادور أليندي اليسارية المنتخبة وقاده الجنرال أوغوستو بينوشيه أوقع البلاد في لُجة القمع والإرهاب والتعذيب، بدلاً من التطور الديمقراطي المنشود، وقد وصف الرئيس نيكسون هدف عملية تشيلي بالقضاء على «الفيروس» الذي قد يعمّ أمريكا اللاتينية، الأمر الذي قد يعرّض صدقيّة واشنطن للتصدّع وفقاً لكيسنجر.

وكان من تداعيات 11 سبتمبر الأزمة المالية والاقتصادية التي ضربت العالم، وخصوصاً الولايات المتحدة في العام 2008 ومن نتائجهاٍ الانسحاب من العراق (نهاية العام 2011)، ومؤخراً الانسحاب من أفغانستان (صيف العام 2021)، فهل سيؤدّي ذلك إلى أفول العصر الأمريكي الذي روّج له المفكّر فرانسيس فوكوياما ونظريته حول «نهاية التاريخ» وظفر الليبرالية على المستوى الكوني حسب صموئيل هنتنجتون صاحب نظرية «صدام الحضارات»، بعد انهيار الكتلة الاشتراكية وتفكّك الاتحاد السوفييتي السابق كدولة عظمى ذات ترسانة نووية منافسة للولايات المتحدة حينها.

لقد باتت «اللحظة الأمريكية» أمام امتحان جديد بعد الانتصارات التي حققتها منذ الحرب العالمية الثانية، وخصوصاً بعد انتهاء عهد الحرب الباردة في نهاية الثمانينات وإقامة نظام دولي جديد بقيادتها وهيمنتها الكونية، وذلك بصعود قوى جديدة في مواجهتها تقف الصين في آسيا منافساً قوياً لها، بحيث تشير التقديرات إلى أن الاقتصاد الصيني سيكون الأول في العالم عام 2030، في ظل نظام عالمي يميل إلى التنوّع والتعدّدية، بعد أن أصبح أحادياً وبسيادة أمريكية.

فهل انتهى العصر الذهبي الذي عاشته واشنطن بعد انتهاء الصراع الإيديولوجي مع النظام الاشتراكي العالمي، أم أن قوّتها مستمرة دون أن يعني إمكانيتها على فرض إرادتها بالكامل؟

والأمر له علاقة بالداخل الأمريكي أيضاً، ونظام الصحة والتعليم والخدمات والحريات مثلما له علاقة عالمياً، حيث كانت واشنطن تتفرّد بالزعامة، إلا أن انخراطها في حروب صغيرة ولكنها ذات تكلفة عالية، عمّق من أزمتها البنيوية، بحيث أصبح مجرّد الشعور بوجود «خطر وشيك الوقوع» أو «محتمل» مبرراً كافياً لشن «الحرب الوقائية» أو «الاستباقية» ضد عدو غير محدّد أو حتى موهوم.

drhussainshaban21@gmail.com

 

 

من دروس التجربة المغربية

عبدالحسين شعبان

 

ما الذي حصل بحيث تراجع حزب العدالة والتنمية المغربي الذي كان حصد 125 مقعداً في انتخابات 25 نوفمبر/ تشرين الثاني 2016، إلى 12 مقعداً في انتخابات 8 سبتمبر/ أيلول 2021؟ ولماذا هذا العزوف الشعبي عنه؟ أثمّة علاقة بين فشل مشروع الإسلام السياسي في العالم العربي وبين انحسار نفوذه في المغرب؟ وهل يعني فشل المشروع الإسلامي انخفاض أو ضعف العقيدة الإسلامية التي ظلّت متجذّرة في النفوس على مدى قرون، خصوصاً وقد ارتفع رصيدها خلال العقود الأربعة المنصرمة، بفعل توظيفها سياسياً من جانب الإسلاميين؟

كان هذا الهبوط الانتخابي في شعبيّة حزب العدالة والتنمية بفعل عوامل خارجية وأخرى داخلية.

وبغض النظر عن بعض ممارسات حزب العدالة والتنمية الداخلية، فقد اعترف بالإخفاقات والتراجع بدل المكابرة والهروب من المسؤولية، وأقدم بقيادة الوزير الأول (رئيس الوزراء) سعد الدين العثماني، على تقديم استقالته تسليماً بنتائج صناديق الاقتراع واللعبة الديمقراطية وبالانتخابات ومعاييرها التي سبق أن ارتضاها، وهو ما لم يفعله التيار القومي العربي، باستثناء استقالة جمال عبدالناصر بعد نكسة 5 يونيو/ حزيران عام 1967، وكذلك التيار اليساري الماركسي الذي تعتقت قيادته في مواقعها وهو يخسر الشارع يوماً بعد يوم. وظلّ التياران القومي والماركسي مثقلان بالأخطاء والخطايا، ويصرّان، على الرغم من الإخفاق والتراجع وانحسار تأثيريهما، على أن سياستيهما كانت على صواب دائماً، وأن الحياة زَكّت مواقفهما وأثبتت صحة تقديراتهما. ولم يشذّ التيار الإسلامي عن ذلك التوّجه في مصر وتونس والعراق وسوريا وفلسطين والجزائر ولبنان والأردن، وغيرها من البلاد العربية، بالرغم من تباين درجة الفشل والعوامل الدولية والإقليمية الضاغطة، فضلاً عن الأخطاء والنواقص والعيوب التي عانى منها، والتي قادت إلى نتائج معاكسة لتطلّعاته.

ولنأخذ مثلاً التيار الإسلامي في العراق الذي حظي بدعم دولي وإقليمي بعد الاحتلال الأمريكي عام 2003، لكنه لم يتمكن من إنجاز تجربة مقنعة حتى لمن يدّعي تمثيلهم طوائفياً، والأمر ينطبق على الفريقين المتصارعين باسم تمثيل هذه الطائفة أو تلك، بل كانت الاختلافات والتشظيات داخل كل فريق من الفرقاء المتعاونين-المتخاصمين قائمة، بل الأكثر عدائية وكراهية، خصوصاً التنافس على مراكز النفوذ، فضلاً عن الامتيازات والمكاسب الطائفية والحزبية والسياسية والاقتصادية والشخصية.

لقد أنتج ذلك الصراع غير المبدئي، انحداراً كبيراً في إدارة الدولة، بفعل تغوّل السلطة عليها واستقواء جماعات ما دون الدولة لتكون ما فوقها، بحكم امتلاكها للسلاح، وتفشّي ظواهر المحسوبية والمنسوبية والاستزلام والغنائمية السياسية والزبائنية المصلحية، التي تجسّدت في نظام المحاصصة والفساد المالي والإداري واستشراء التعصّب ووليده التطرّف وابنهما «الشرعي» العنف، وهذا الأخير إذا ما ضرب عشوائيّاً يتحوّل إلى إرهاب، بل إرهاب دولي إذا استهدف خلق حالة من الهلع والرعب والخوف لإضعاف ثقة الدولة بنفسها، وثقة المجتمع والمواطن بالدولة كحامية له وحريصة على ضبط النظام والأمن العام وحماية أرواح الناس وممتلكاتهم.

قد تكون الإطاحة بتجربة حزب العدالة والتنمية في المغرب تعني، فيما تعنيه، الإجهاز على معقل مهم وأساسي من معاقل الإسلام السياسي في العالم العربي، بعد فشل تجربة «الإخوان المسلمين» في مصر، و«حزب النهضة» في تونس، وقبلهما فشل تجربة الإسلام السياسي في السودان، وانحسار دوره في ليبيا وموريتانيا والجزائر، إضافة إلى انقساماته في الأردن، فضلاً عن تعقيدات الوضع اللبناني والحصار الذي يتعرّض له والذي انعكس على تعويم سيادة البلد لعقود من الزمن، فضلاً عن الفراغ الحكومي لأكثر من عام منذ حادث الانفجار الأليم لمرفأ بيروت (4 أغسطس /آب 2020 )، والذي ترافق مع تعاظم الأزمات الخانقة من الكهرباء إلى المازوت والبنزين، وصولاً إلى انهيار العملة وتردّي الحالة المعيشية لدرجة أقرب إلى الارتطام بالقاع.

وقد أحدث الانسحاب الأمريكي من أفغانستان تداعيات جديدة قد تُفضي إلى تغييرات جيوبوليتيكية درامية على المستوى الإقليمي، كما أربك التيار الإسلامي في العديد من الأقطار العربية، فضلاً عن إيران ودول آسيا الوسطى الإسلامية، ما دفع موسكو لإرسال عدة رسائل إلى «طالبان»، ودفع بكّين إلى التعامل بحذر مع هذا المتغيّر الجديد، فهل يعترف أصحاب مشروع الإسلام السياسي بالدرس المغربي، ويسلّموا بفشل سوء إدارتهم، وهل يتحلّوا بشجاعة العثماني وقيادته بالانسحاب من مواقعهم؟

إنه درس للجميع، وعبرة لمن اعتبر.

drhussainshaban21@gmail.com

 

 

الاختفاء القسري

 

عبد الحسين شعبان

 

بعد مغادرتنا مؤتمر في القاهرة بثلاثة أيام في عام 1993 وصلنا خبر اختفاء وزير الخارجية الليبي الأسبق منصور الكيخيا الذي زاد ثقلاً في ملف المختفين قسرياً، وهو ما كنت بدأت الانشغال به منذ مطلع الثمانينات عند اختفاء د. صفاء الحافظ وصباح الدرّة وعايدة ياسين ودارا توفيق وأسعد الشبيبي، وآخرين.

ولعلّ هذا الملف يكبر باستمرار، فمنذ الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003 والآلاف من عوائل المختفين قسرياً تستغيث ولكن من دون جدوى، بمن فيهم آلاف الإيزيديين والإيزيديات، وآخرون من الذين اختفوا على يد «داعش» بعد احتلاله للموصل، فضلاً عن مفارقة الصحفي توفيق التميمي الذي حاورني على كتابي «الاختفاء القسري في القانون الدولي - الكيخيا نموذجاً»، وزميله الناشر مازن لطيف اللذان اختفيا قسرياً بُعيد هبّة تشرين عام 2019.

الاختفاء القسري «اصطلاح» تستخدمه الأمم المتحدة لوصف حالات الاختطاف والاحتجاز والاعتقال غير المعلن عنه، أو أي شكل من أشكال الحرمان من الحرية من جانب جهات مجهولة، أو غير معلومة، سواء على أيدي موظفي الدولة، أو أشخاص، أو جهات أو مجموعات من الأفراد تتصرّف بإذن من الدولة أو بموافقتها مع رفضها الاعتراف بحرمان الشخص من حريته، أو إخفاء مصيره.

وقد اعتمدت الأمم المتحدة إعلاناً في عام 1992 أطلقت عليه اسم «الإعلان العالمي لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري»، وفي عام 2006 تم اعتماد هذا الإعلان. ودخلت الاتفاقية حيّز النفاذ يوم 23 ديسمبر/ كانون الأول عام 2010، بعد أن صادقت عليها 20 دولة ويبلغ عدد الدول المنضمّة إليها 64 دولة من بينها العراق، في حين أن 48 دولة وقّعت عليها ولم تصدّق.

والاتفاقية تتألف من ديباجة و45 مادة مقسّمة إلى 4 أجزاء، وتخشى بعض الدول التصديق عليها لعلاقة ذلك بالمساءلة ومبدأ عدم الإفلات من العقاب، لا سيّما إذا ذهبت المسألة إلى المحاكم الدولية، سواء المحكمة الجنائية الدولية التي دخلت حيّز التنفيذ في عام 2002 أو حتى محكمة العدل الدولية في لاهاي التابعة للأمم المتحدة والتي تختصّ بالشكاوى المدنية، وليست لها ولاية جنائية.

وتحاذر بعض الحكومات، ولا سيّما من الدول النامية والتي فيها تجاوزات وانتهاكات تتعلّق بالاختفاء القسري، من التصديق على الاتفاقية، لأن المادة 5 تعتبر الاختفاء القسري «جريمة ضدّ الإنسانية»، وتذهب المادة 6 لتحميل المسؤولية الجنائية لرئيس البلد والقائد العام للقوات المسلّحة، أو حتى أحد مرؤوسيه العاملين تحت أمرته ورقابته، فيما إذا ارتكبت جرائم ضدّ الإنسانية، حيث يمكن مساءلة من أصدر الأوامر أو قام بالتنفيذ أو تواطأ أو اشترك في ارتكاب جريمة تحمّله المسؤولية الجنائية، بمعنى عدم إعفاء أي شخص ارتكب جريمة الاختفاء القسري، سواء كان مدنياً أو عسكرياً.

إن الاختفاء ممارسة للتعذيب حين تقطع صلة المختطف بالعالم الخارجي، وهو تعذيب آخر للعائلة التي لا تعرف مصير رب الأسرة أو، ابنها، أو مصير الشخص المختفي، أو مكان وجوده.

وعلى الرغم من أن بعض الدول العربية انضمّت إلى الاتفاقية، إلا أنها أبدت تحفّظات على بعض موادها، خصوصاً المادة 42 (الفقرة-أ-) التي تتعلّق بخلاف بين دولتين أو أكثر من الأطراف الموقّعة على الاتفاقية بشأن تطبيقها أو تفسيرها، فإذا لم يجدوا طريقة لحلّ الخلاف بالمفاوضات أو بالتحكيم فيمكن عرض القضية على محكمة العدل الدولية المختصّة بذلك.

كما أن هناك تحفّظات وردت حول المادتين 31 و 32 الخاصتين بتقديم الشكاوى الفردية أو شكاوى دولة ضدّ دولة.

ومثل هذه الشكاوى تنشأ حين تستنفد المحاكم الوطنية جميع الوسائل، ولكنها لم تتوصّل إلى حلول مرضية للأطراف المتنازعة، فيكون من حقّ الشخص التوجّه لإقامة شكاوى فردية أو من دولة على أخرى في القضاء الدولي، بهدف ملاحقة المتورّطين ومعاقبتهم إذا ثبتت إدانتهم.

وإذا ما أعلنت دولة ما انضمامها للاتفاقية فمن المفروض بعد سنتين تقديم تقرير للأمم المتحدة بتنفيذ ما ورد في الاتفاقية، ويقدّم التقرير للجنة الأمم المتحدة المعنية بحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري في جنيف، وهي مكوّنة من خبراء مستقلين على أساس توزيع جغرافي عادل.

drhussainshaban21@gmail.com

 

 

الملك فيصل الأول

والهويات القاتلة

عبدالحسين شعبان

أدرك الملك فيصل الأول (المولود في 20 مايو/أيار 1883) الذي تولى عرش المملكة العراقية في عام 1921، عمق الأزمة العراقية المتعلقة بالهوية الموحدة بعد أن حكم العراق 12 عاماً، ففي مارس/آذار 1932 وقبل وفاته بعام واحد وبضعة أشهر كتب مذكرته الشهيرة والتي تمثّل خلاصة تجربته وقد شخّص فيها «الجهل واختلاف العناصر والأديان والمذاهب والميول والبيئات» وها نحن نستعيد رؤيته بعد 100 عام على تأسيس الدولة العراقية.

وباستعارة من الروائي أمين معلوف فإن تلك الهويات الفرعية تصبح «قاتلة» إذا تحوّلت من «تطلّع مشروع» إلى «أداة حرب» وهو ما انفجر في العراق ما بعد الاحتلال الأمريكي العام 2003، وقاد إلى اقتتال أقرب إلى «الحرب الأهلية» في عام 2006 أثر تفجير مرقدي الإمامين الحسن العسكري وعلي الهادي في سامراء.

إن القراءة الارتجاعية لمذكّرة الملك فيصل الأول تفصح عن عوامل التفتّت والتشتّت والافتراق في الهوية العراقية وانعكاساتها على الوحدة الوطنية رؤية وموقفاً وقراراً. ومن استنتاجاته المهمة والمبكّرة «أن البلاد العراقية... ينقصها... الوحدة الفكرية والملية والدينية...»

ووفقاً لمنظوره لا بد من عدم الانقياد إلى «تأثيرات رجعية أو أفكار متطرفة تستوجب رد الفعل» لذلك دعا الساسة إلى أن يكونوا حكماء مدبرين وفي نفس الوقت أقوياء مادة ومعنى، غير مجبولين لأغراض شخصية أو طائفية أو متطرفة يداومون على سياسة العدل والموازنة والقوة معاً.
ويحدد فيصل الأول الاختلافات السنية- الشيعية - الكردية، وما أسماه «الأقليات غير المسلمة»، وهو ما أطلقت عليه منظومة 9 إبريل/نيسان بعد الاحتلال مصطلح «المكوّنات» التي جرى تكريسها في الدستور النافذ (في المقدمة - مرتان) وفي المادة 9 و 12 و 49 و125 و 142، وليس ذلك سوى نظام للمحاصصة والتقاسم الطائفي- الإثني الذي قام على الزبائنية والمغانم مقتفياً أثر التجربة اللبنانية، في حين كانت مذكرته تريد تجاوز ذلك الواقع البائس، «المستعد لقبول كل فكرة سيئة بدون مناقشة أو محاكمة» على حد تعبيره، لاسيّما من «السواد الأعظم الجاهل».
ويتناول فيصل الأول، آراء المتعصبين وأرباب الأفكار القديمة الذين جبلوا على تفكير يرجع عهده إلى عصور «خوَت» وآراء الحداثيين الذين يريدون سوق البلاد إلى الأمام دون الالتفات إلى أي رأي كان للوصول بالأمة إلى المستوى اللائق طبقاً للقانون والنظام، وفرض هيبة الحكومة (الدولة) على الجميع. ولعل تلك إحدى العقبات التي واجهت الدولة العراقية منذ تأسيسها، وزاد الصراع بعد الاحتلال؛ حيث تم تعويم الدولة من جانب السلطة ومن طرف مجموعات مسلحة خارج سلطة الدولة أو باسمها، إضافة إلى مرجعيات دينية أو عشائرية أو سياسية أو حزبية أو جهوية أو غيرها، وكل ذلك ينبغي أن يخضع للدولة التي من واجبها حماية أرواح وممتلكات الناس وضبط النظام والأمن العام والتمسك بحقها في امتلاك السلاح.
إن ما حذّر منه فيصل الأول لا يزال ماثلاً للعيان، فالحكومة حسب رأيه أضعف من الشعب بكثير ويقصد بذلك امتلاك السلاح، «فلو كانت البلاد خالية من السلاح لهان الأمر، لكن يوجد في المملكة ما يزيد على 100 ألف بندقية، يقابلها 15 ألف بندقية حكومية، ولا يوجد في بلد من بلاد الله حالة حكومية وشعب كهذه». وهو ما ينطبق على حال العراق اليوم.
ويضع فيصل الأول أصبعه على الجرح حين يقول: الاختلافات الكبرى بين الطوائف يثيرها المفسدون بين المسلمين أنفسهم وبين الطوائف والأديان الأخرى، وذلك استناداً إلى «التعصّب للتفرقة بين هؤلاء الجهلاء». ويقترح الحل الذي ظل عائماً منذ تأسيس الدولة العراقية والمقصود به «المواطنة» التي تقوم على مبادئ الحرية والمساواة والشراكة والمشاركة والعدالة، وهي التي لا تزال غائبة أو منقوصة أو مشوّهة.
ويمضي في مذكرته إلى القول «فإذا لم تعالج هذه العوامل بأجمعها وذلك بقوة مادية وحكيمة معاً ردحاً من الزمن حتى تستقر البلاد وتزول الفوارق وتتكوّن الوطنية الصادقة وتحل محل التعصّب المذهبي والديني، فالموقف خطِر». ويعبّر عن ذلك بمرارة بقوله: «في اعتقادي لا يوجد في العراق شعب عراقي بعد؛ بل توجد كتلات بشرية خالية من أي فكرة وطنية مشبعة بتقاليد وأباطيل دينية، لا تجمع بينهم جامعة، سمّاعون للسوء، ميّالون للفوضى».
وحسب استنتاجه فمن المفروض «أن نشكّل من هذه الكتل شعباً نهذّبه وندرّبه ونعلّمه» وهي المهمة التي وضعها على عاتقه، عبر جيش موحّد وقوي لأنه العمود الفقري، وذلك بإعلان الخدمة الوطنية والتعامل مع التقاليد والشعائر الدينية بمنظور واحد «ميزان واحد»، إضافة إلى عدد من الإجراءات الإدارية والتشريعية والإجرائية. فهل نعيد قراءة مذكّرة فيصل الأول؟

drhussainshaban21@gmail.com

 

تونس ومفترق الطرق

عبد الحسين شعبان

 

ربما من السابق لأوانه إصدار حكمٍ نهائي وموضوعي على ما حصل في تونس بعد إصدار الرئيس التونسي قيس سعيّد في 25 يوليو/ تموز 2021، قراراته بإقالة حكومة هشام المشيشي وحلّ البرلمان ورفع الحصانة عن أعضائه، لكن ما هو ماثل للعيان أن ثمّة مرحلة جديدة قد بدأت ولا يمكن تقدير أبعادها أو التكهّن بنتائجها، الأمر الذي قد يثير إشكالات جديدة نظرية وعملية وقانونية وسياسية في المشهد التونسي بشكل خاص إزاء الموقف من الإسلام السياسي وإزاء الموقف من المشروع الإسلامي إقليمياً ودولياً، وهو ما قد يفتح باب المراجعة والنقد بشأن تقييم جديد لما سُميّ ب «الربيع العربي» وموضوع الانتقال الديمقراطي والتحوّلات التي أعقبته سياسياً ودستورياً.

وإذا كان انكسار حاجز الخوف بوصول اللحظة الثورية إلى ذروتها بعد انتفاضة سيدي بو زيد إثر حرق بو عزيزي نفسه وصولاً إلى العاصمة تونس، والتي توّجت بفرار الرئيس زين العابدين بن علي وانتهاء فترة حكمه التي دامت ما يزيد على ثلاثة عقود من الزمن، فإن الشرعية الجديدة التي يُفترض تأسيسها محلّ الشرعية القديمة لم يتمّ استكمالها وواجهتها عقبات جديّة بعضها يتعلّق بمساعي الثورة المضادة لوضع العصي في عجلتها وبعضها الآخر يتعلّق بعدم قدرة وأهلية وكفاءة النخب التي تولّت مقاليد الأمور بعد التغيير على إدارة الحكم بطريقة شفّافة ومقبولة بحيث تحظى  رضا الناس، ناهيك عن هشاشة وضعف المشروعية القانونية والمقصود بذلك حكم القانون في ظلّ محاولات الهيمنة على السلطة والحصول على الامتيازات والمغانم وتفشّي الفساد المالي والإداري على نحو مريع وغياب الحدّ الأدنى من الاتفاق والتوافق على مستقبل التطوّر والوحدة الوطنية.

وبغضّ النظر عن الموقف الدستوري من قرارات الرئيس سعيّد إلاّ أنه لجأ إليها بعد فترة خلافات طويلة تعمّقت بمرور الأيام وقادت إلى أزمة حقيقية بين أركان السلطة التنفيذية (الرئيس) و(رئيس الوزراء) والأخير قريب من حزب النهضة الإخواني، ولم يكن الفشل الذي مُنيت به الحكومة وحده أو الرغبة في احكتار السلطة، بل إن الأزمة الاقتصادية والاجتماعية وارتفاع معدّلات البطالة والفقر والركود الاقتصادي، إضافة إلى ارتفاع منسوب الهجرة غير الشرعية كان وراء اندلاع الأزمة. وفوق كل ذلك جاء انتشار وباء «كوفيد- 19» ليزيد الطين بلّة بحيث أصبحت تونس من الدول العربية الأكثر انتشاراً للوباء، ما كشف فشل المنظومة الطبية والإجراءات القاصرة المتبعة لتطويق المرض، الأمر الذي كان وراء إقالة وزير الصحة تمهيداً لانفجار الأزمة.

ولم تكن المؤسسة القضائية خارج دائرة الصراع، فقد كان الحديث يتصاعد داخل البرلمان وخارجه، وهو ما أدّى إلى أن تطفو الأزمة على السطح على نحو شديد وحاد، دون نسيان دور الأطراف الخارجية الإقليمية والدولية وعلاقتها بالقوى المتصارعة، إضافة إلى قلقٍ عربي بشأن الإسلام السياسي ممثلاً في حزب النهضة، وهو وإن امتلك قدرات تنظيمية إلاّ أنه لم يمتلك عقولاً وكفاءات وقيادات إدارية تستطيع أن تقود الدولة، على الرغم من حصوله على أغلبية برلمانية في جميع الدورات الانتخابية، ناهيك عن مشروعه السياسي.

وقد كان البرلمان الذي ترأسه راشد الغنوشي في الدورة الحالية، وعلى مدى أكثر من عام في صراع دائم داخله ومع مؤسسة الرئاسة أيضاً، الأمر الذي عطّل التنمية وجعل البلاد تدور في دوامة لا مخرج منها، يضاف إلى ذلك تشتّت القوى التي تطلق على نفسها «مدنية» وتوزّعها على محاور بعضها متنافر مع البعض الآخر، ناهيك عن غياب برنامج وطني جامع لها ولو بمعايير الحد الأدنى والذي يمثّل مرحلة الانتقال وصولاً إلى التحوّل الديمقراطي.

وقد انعكس ذلك على خلافات دستورية حول صلاحيات رئيس الجمهورية المنتخب من الشعب بسبب عدم وضوح أو التباس الأمر دستورياً أو أن تفسيرات وتأويلات ظلّت مصدر خلاف بين الفرقاء، فبين من يريد أن يعطيه صلاحيات أعلى ومن يريد اختزالها في الجوانب البروتوكولية، كانت الأزمة الاقتصادية تستفحل وأوضاع الناس المعيشية تزداد تدهوراً، فلم تعد ثورة الياسمين التي بدت واعدة، بل نموذجاً، وإذا بها هي الأخرى عرضة للتجاذب والشدّ والحلّ من جانب قوى مختلفة كلٌ منها يريد أن يقود المركب بنفسه ولصالحه حتى وإن أدى إلى الإخفاق.

فهل سينجح سعيّد في تشكيل حكومة كفوءة وجديرة من تكنوقراط بحيث يحتوي الأزمة السياسية، كما يمهّد الطريق لاحتواء الأزمة الاقتصادية والاجتماعية وتخفيف حدّة الاحتقان المجتمعي، خصوصاً من جانب جيل الشباب؟ وهل ستكون الحركة السياسية بجميع صنوفها وألوانها جديرة باستيعاب هذا الدرس التاريخي، خصوصاً بعدم توظيف الدين لمصالح سياسية ضيقة؟ وهل ستدرك القوى الإقليمية والدولية أهمية الاستقرار في الأوضاع التونسية، خصوصاً وأن جارتها ليبيا لا تزال منذ عقد من الزمن في احترابٍ ونزاع مسلّح حيث تمّ تعويم الدولة وقاد إلى تفشّي مظاهر التعصّب والتطرّف والعنف والإرهاب؟

إنها أسئلة برسم الحاضر فهل تعي النخب الفكرية والسياسية مخاطر الوقوف عند مفترق الطرق؟

drhussainshaban21@gmail.com

 

 

العدالة الانتقالية الدولية

 

عبد الحسين شعبان

لم يتبلور مفهوم "العدالة الانتقاليّة الدوليّة" بعد، ليأخذ مكانه كجزء من قواعد القانون الدولي المعاصر. ولم تفلح جهود ومبادرات الدول المتضررة في إقناع المجتمع الدولي لتبنيّ هذا المفهوم.  كما أن المجتمع المدنيّ في هذه الدول لم يبادر، بما فيه الكفاية، في إطار دبلوماسية شعبية موازية للدبلوماسية الرسمية لينشأ رأياً عاماً ضاغطاً يكون أقرب إلى محكمة ضمير.

وكانت ألمانيا قد اعترفت بماضيها الاستعماري في غزو ناميبيا، وفرنسا بمسؤولياتها عن الإبادة في رواندا 1994. كما أعلن قصر الإليزيه أن الرئيس إيمانويل ماكرون اعترف في 3 مارس/آذار2021 بوجود انتهاكات وتعذيب في الجزائر راح ضحيته المحامي علي بومنجل على يد الجيش الفرنسي وهو جزء من مطالبات جزائرية باعتذار فرنسي، كما اعترفت بلجيكا بجريمة اختطاف آلاف الأطفال مختلطيّ العرق خلال الحقبة الاستعمارية، وكذلك أقرت هولندا بمسؤولياتها عن تجارة الرقيق خلال الحقبة الاستعمارية. كل ذلك يجعل من التحرّك لتقنين فكرة العدالة الانتقالية الدولية ضرورة ملحة لتنقية العلاقات الدولية، وخصوصاً لحلّ المشاكل التاريخية العالقة.

تقوم فلسفة العدالة الانتقالية على خمسة مبادئ رئيسية:

أولها، كشف الحقيقة، فما الذي حصل وكيف ولماذا؟ إضافة إلى معرفة الظروف التي تمت بها تلك الارتكابات.

ثانيها: المساءلة للمرتكبين الذين أصدروا الأوامر أو قاموا بالتنفيذ.

 ثالثها، جبر الضرر المادي والمعنوي لإبقاء الذاكرة حيّة، خصوصاً بإطلاق أسماء الضحايا على الأماكن العامة مثل المدارس والمكتبات والنوادي والساحات والشوارع، وإقامة نصب تذكارية، كي لا تذهب تلك الذكريات الماسأوية إلى دائرة النسيان، بل تبقى في دائرة الضوء والذاكرة.

رابعها، تعويض الضحايا أو عوائلهم عما لحق بهم من أذى وألم وغبن وأضرار.

خامسها، إصلاح الأنظمة القانونية والقضائية والأمنية كي لا يتكرر ما حصل.

ويترّكز الهدف في جانبين، الأول: في عدم إفلات المرتكبين من العقاب لأن مثل تلك الجرائم لا تسقط بالتقادم، والثاني: تحقيق المصالحة بمعناها الشامل عبر إجراءات قانونية وقضائية واجتماعية واقتصادية وثقافية وسياسية وغيرها، وبالطبع فليس هدف العدالة الانتقالية الانتقام، وإلاّ ستكون عدالة انتقامية، وإنما هو الوصول إلى تسويات مجتمعية لتحقيق التعايش السلمي وترميم الحياة السياسية وفقاً لمبادئ التسامح والسلام ونبذ استخدام العنف وسيلة لحل الخلافات واحترام حقوق الإنسان.

وإذا كانت تطبيقات العدالة الانتقالية بدأت بُعيد الحرب العالمية الثانية وتطورّت خلال نصف القرن الماضي حيث اغتنت بتجارب العديد من دول أمريكا اللاتينية وأوروبا الشرقية وجنوب أفريقيا وبعض البلدان العربية ولاسيما المغرب، فإن هذا المفهوم يكتسب بُعداً دوليّاً اليوم، بمعنى أنه لا يشمل الارتكابات التي حصلت داخل دولة ما، بل ارتكابات قامت بها دولة ضد شعب أو مجتمع في دولة أخرى.

المقصود بذلك معالجة آثار الانتهاكات والتجاوزات والجرائم لحقوق الإنسان على المستوى الدولي، والهدف هو ذاته الذي جسدته مبادئ العدالة الانتقالية على المستوى الوطني، ويتلّخص بالوصول إلى المصالحة الشاملة وتنقية الحياة بين الدول وترميم علاقاتها  وتحسينها بحلّ المشاكل الناجمة عن ارتكابات الماضي بسبب الهيمنة الاستعمارية أو الإحتلال أو الحروب أو النزاعات التي سببّت إلحاق الضرر بشعوب البلدان التي تعرّضت للانتهاك.

ويمكن الإشارة إلى مبادرة مغربيّة رائدة جديرة بالتقدير، فمنذ عقد ونيف من الزمن ينشط "مركز الذاكرة المشتركة من أجل الديمقراطية والسلام"، للوصول إلى صيغة تتبنّاها مؤسسات المجتمع المدني في الدولة المنتهَكَة حقوقها وفي الدول المنتهِكَة للحقوق، وذلك ضمن حراك حقوقي وقانوني دولي. تم التعبير عنه في "إعلان طنجة" كخلفيّة تأصيليّة لمدونة بإشراك الفرقاء من الطرفين على قاعدة المشترك الإنساني وحقوق الإنسان.

والمبادرة، التي حظيت اليوم بدعم جهات حقوقيّة مغربية هي "المنظمة المغربية لحقوق الإنسان والمركز المغربي للديمقراطية والأمن" لا تبحث في الماضي، بل هي بحث في المستقبل بهدف إجلاء صورة الماضي الذي شهد تاريخاً مشتركاً لعلاقات غير متكافئة، سواء مع إسبانيا أو فرنسا، وذلك باقتراح وسائل وسُبل جديدة لحلّ الخلافات على أساس حقوقي وإنساني توّفره مبادئ العدالة الانتقالية الدولية. ويتطلّب ذلك الاعتراف بالأخطاء والممارسات السلبية والانتهاكات، والعمل على تحديد المسؤولية وجبر الضرر والتعويض وإصلاح النظام القانوني والعلاقات بين الفرقاء.

ولا يستهدف الأمر مساءلة الشعوب وتحميلها وزر السياسات الاستعمارية أو محاولات الهيمنة والاستعلاء والعنصرية وفرض الاستتباع والخضوع على الآخر، إنما يتطلّب نزع صاعق التفجير بتسوية إنسانية وقانونية عادلة بإنضاج الظروف المواتية لتقبّل حلول طويلة الأمد على أساس المصالحة وليس الانتقام أو الثأر.

ويحتاج ذلك إلى جهد ونشاط واسعين لقطاعات المجتمع المدني كافة والفاعليات الثقافية والأكاديمية والاجتماعية والاقتصادية لخلق رأيّ عام دولي لبلورة مفهوم العدالة الانتقالية الدولية ليأخذ مكانه كجزء من قواعد القانون الدولي.

ويمكن اقتراح مشروع اتفاقية دولية تتبنّاها الجمعية العامة للأمم المتحدة تبادر إليه الدول المتضررة كجزء من تحرّك دبلوماسي وقانوني، يسهم فيه المجتمع المدني، كمُكمّل للدبلوماسيّة الرسمية في إطار مرجعية استباقية ووقائية لترصين القيم الإنسانية والحوكمة الرشيدة على المستوى الكوني.

 

 

 

(الشيوعية).. وروح الصين

 

عبد الحسين شعبان

يقول مثل صيني قديم «ليس مهماً أن يكون القط أسود أو أبيض ما دام يصطاد الفئران». تذكّرتُ ذلك وأنا أتابع خطاب الرئيس الصيني شي جين بينغ في الأول من يوليو/ تموز الجاري الذي يتحدث عن «نهضة الصين التي لا عودة عنها» بمناسبة احتفاليّة مرور 100 عام على تأسيس الحزب الشيوعي الصيني. ولا يعني ذلك سوى ترجمة لرغبة الصين في صعودها إلى منصّات القيادة العالمية. وهي نظرة مختلفة عما كانت تروّج له الصين من أنها «دولة ناميّة» وليست «قوة عظمى» منذ بدء إصلاحاتها في عهد الرئيس دينغ شياو بينغ، والتي استمرت حتى العام 2012.

 وإذا كانت الصين قد تعلّمت الاستفادة من الغرب وتجاربه منذ أواخر السبعينات وانتهاء بالثورة الثقافية 1965-1976 ووفاة الزعيم ماوتسي تونغ، فإنها ظلّت خلال أربعة عقود ونيّف منصرمة، محكومة بعنصرين أساسييّن، هما «حكمة الصين» وحضارتها وفلسفاتها التاريخية ممثّلة بالكونفوشوسية والتاوية، والفلسفة الماركسية-الشيوعيّة برمزّيتها الصينية، مع عنصر جديد هو محاولة إضفاء نزعة إنسانيّة عليها والتخفيف من عبء الماضي.

 وقطعت الصين شوطاً بعيداً في تبنيّ مفهوم «اقتصاد السوق» أو حسبما يُطلق عليه البعض «شيوعية السوق» وكل همّها هو «التخلّص من الفئران»، فلم تعد «الإمبريالية نمراً من ورق»، فالغرب مستودع للحداثة، لا تريد منافسته فحسب، بل مشاركته في التقدّم العالمي بنديّة وكبرياء.

 فهل تخلّت الصين عن اشتراكيتها واختارت السير في طريق واحد مع الرأسمالية؟ أم ثمة وسائل جديدة وأساليب عمل مختلفة عن السابق، وطريق غير مطروق سعت لاتباعه. ولعل ذلك ما أوقع الكثيرين في حيرة من أمرهم.

 حين ندقق في التجربة الصينية للتنمية المستدامة، نرى أن جوهرها يكمن في «روح الصين» المبثوثة في كل مكان، وهي تمثّل الامتداد التاريخي الذي حاولت الزعامة الصينية تجديده وانبعاثه كجزء من الخصوصية الثقافية الصينية.

وعلى الرغم من انغماس القيادة الصينية لسنوات في الشيوعيّة الراديكاليّة ذات النزعة الشعبوية، إلا أن هناك ما كان يجرّها باستمرار نحو تراثها الحضاري. وليس عبثاً أن يقول الرئيس شي جين بينغ، إن من يحاول الوقوف ضد تقدّم الصين سيصطدم بسور من الفولاذ، وهي استعادة مقصودة لسور الصين العظيم، ولكن لبشر من لحم ودم قوامهم مليار و400 مليون إنسان.

إن مصادر القوة الأساسيّة للنهضة الصينية مُهنْدَسة وفقاً للفلسفة والحكمة القديمة والقائمة على العلم والتكنولوجيا والاقتصاد، متشابكة مع استمرار الدور المركزي للحزب وهيمنته على المفاصل الأساسيّة، فضلاً عن انضباط صارم لتوجّهات الدولة، وهي نسخة جديدة من الشيوعية ذات العلامة الصينية التي جمعت بين البعد التاريخي القومي وشكل جديد من رأسمالية الدولة أو شيوعية السوق، وذلك في إطار حيوية نشطة وإدارة رشيدة لتأمين الريادة عالمياً، لاسيّما في عصر العولمة.

وقد وُضعت اللبنَات الأولى لذلك بالانفتاح نحو اقتصاد السوق والتحديث وإجراء إصلاحات وتراكم وتقليص معدلات الفقر، بحيث انتشلت فيه الصين أكثر من 770 مليون إنسان من الفقر، دون تهميش دور الحزب، رائد مسيرة الألف ميل، والمقاوم للاحتلال الياباني، وقائد ثورة العام 1949، مع تفعيل الديناميكية الاقتصادية بتوجيه منه باعتباره قوة دافعة وموّجهة للطموح الاستراتيجي.

 قررت الصين اختيار الطريق الثاني لحجز موقعها الاستراتيجي في سُلم التقدّم العالمي، وليس عبثاً أن التقديرات العالمية المعتمدة تشير إلى أنها في العام 2030 ستتصدر الاقتصاد العالمي، وهي اليوم منافس كبير للولايات المتحدة التي تحاول الضغط عليها بوسائل سياسيّة واقتصادية وغيرها، بل إنها شددت من العقوبات عليها، وخصوصاً في عهد الرئيس دونالد ترامب، وحتى في عهد الرئيس جو بايدن فإن العلاقات ظلّت على فتورها ولم تتحلحل.

 لقد تطوّرت الصين بقفزات هائلة من خلال الانفتاح الاقتصادي، وتوسيع القاعدة الاجتماعية التي انتقلت من الوسط الزراعي إلى الوسط الصناعي، وتعزيز دور الطبقة الوسطى، على الرغم من أن الحاجة تبقى راهنة بشأن حرّية التعبير واحترام حقوق الإنسان وإقرار التعددية والتنوّع والاعتراف بحقوق المجاميع الثقافية، سواء الدينية أو الإثنية أو اللغوية.

 فحتى الآن لم تتخلَّ القيادة الصينية عن فلسفتها التي تستند إلى مفهوم يعتبر الحريات الفردية جزءاً لا يتجزأ من تحرّر المجتمع والحرّيات الجماعية بالضد من الأطروحة الليبرالية التي تعتمد على الحرّية الفردية، كجزء من مقتضيات النسق الاجتماعي.

 ما زال الحبر الصينيّ يكتب حتى الآن بريشة الحكمة القديمة المُغمّسة بالماركسية ذات النكهة الصينية الخاصة المنتِجة لعقول صناعية دقيقة ذات رمز جديد للتنين الصيني في نهضته.

drhussainshaban21@gmail.com

 

الإعدام معنًى ومبنًى

 

عبد الحسين شعبان

           

            أدركُ صعوبة الخوض في مثل هذا الموضوع الإشكالي، بسبب الاصطفافات المسبقة والقيود والتفسيرات الدينية والعقائدية، لكنه لاعتبارات إنسانية وقانونية وأكاديمية لا بدّ من فتح حوار هادئ وعقلاني حول الموضوع ، إذْ لا ينبغي إهماله أو السكوت عنه، طالما يمثّل وجهة نظر موجودة ولها مبرّراتها .

            وإذا كان القاتل يستحق العقاب وهو أمرٌ مفروغ منه، فهل القبول بالقتل هو " العقوبة العادلة"؟ والقتل بغض النظر عن الأسباب يتناقض مع مبدأ " حق الحياة" المحور الأساسي في الشرعة الدولية لحقوق الإنسان، وهو ما وهبه الله للبشر، فكيف يمكن سلبه، فهل قتل القاتل يحقّق العدالة؟ وهل جريمة " القتل اللّاقانوني" يقابلها "القتل القانوني"، وهل يوصل ذلك إلى العدالة؟

            وحسب وليد صليبي المفكّر اللّاعنفي ومؤسس جامعة اللّاعنف "جريمتان لا تولّدان عدالة" وعلى غرار ذلك سبق أن كتبتُ "رذيلتان لا تنجبان فضيلة" و"حربان لا تنتجان سلاماً" و"عنف مقابل عنف، لا يحقّق أمناً". وعلينا البحث عن الأسباب الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية والدينية والعنصرية للجرائم، فضلاً عن منظومة التربية والتعليم والقيم المتوارثة بما فيها من اشتباكات عشائرية وقبلية. إن إنزال عقوبة الإعدام لن تعيد الحياة للمقتول، إذْ لا يمكن ردّ القتل بالقتل، ولعلّ مثل هذا الأمر سيترك تأثيراً اجتماعياً خطيراً بأبعاده الثأرية والانتقامية، فضلاً عن إشاعة أجواء من الحقد والكراهية، ليس بين المتخاصمين وعوائلهم فحسب، بل في إطاره الاجتماعي الأوسع وامتداداته وترابطاته المختلفة.

            وإذا كان حكم الإعدام ليس من السهولة النطق به بشكل عام، وخطيراً إلى درجة كبيرة، فما بالك إذا وقع خطأ في الحكم، فكيف يمكن تصحيحه بعد أن يتم تنفيذه، خصوصاً وإن القضاء، أي قضاء حتى وإن كان نزيهاً ومحايداً ومستقلاً عرضةً للأخطاء التي يذهب ضحيتها الأبرياء. وعلى الرغم من قلّة عدد المطالبين بإلغاء عقوبة الإعدام في عالمنا العربي والإسلامي، إلّا أن ثمّة توجّهات أخذت تتسع تأثراً بالحركة الحقوقية العالمية، المطالبة باستبدال عقوبة الإعدام، حفاظاً على الحق بالحياة والتمييز بين العدالة والانتقام.

            الإعدام قتل عن سابق إصرار وتصميم وهو وضع حد لحياة إنسان بموجب حكم قضائي، ولذلك توجّهت 142 دولة من دول العالم البالغ عددها 193 لإلغاء العقوبة أو وقف تنفيذها، وكانت الجمعية العامة لـ الأمم المتحدة قد أصدرت قراراً برقم 2857 في العام 1977 خاطبت فيه العالم بضرورة تقليل عدد الجرائم التي تفترض اتخاذ عقوبة الإعدام، وأصدرت بعد ثلاثة عقود من الزمان (2007) قراراً يقضي بتعليق عقوبة الإعدام مع متابعة العمل لإلغائها. ويُعتبر الاتحاد الأوروبي منظمة خالية من عقوبة الإعدام Death Penalty Free  بموجب ميثاق الحقوق الأساسية للاتحاد، الذي نصّ على "رفض قبول أي عضو (دولة جديدة) في عضوية الاتحاد، إذا كان الإعدام ضمن نظامه القضائي".

            وإذا كان سجل البلدان العربية والإسلامية حافلاً بإصدار عقوبة الإعدام وتنفيذها، فإن الصراع ما يزال قائماً ومحتدماً  بين دعاة وقف وإلغاء عقوبة الإعدام وبين دعاة التمسك بها، وهو صراع بين تيار ديني محافظ في الغالب وتيار حقوقي ومدني، وإن كان داخله من يبرّر تنفيذ عقوبة الإعدام باعتبارها إجراءً ثورياً رادعاً، وغالباً ما سلكت الأنظمة التي أطلقنا عليها التحررية أو الاشتراكية طريق تنفيذ عقوبة الإعدام على نحو أكثر اتساعاً وبخفّة غير معقولة، راح ضحيتها المئات، بل الآلاف من المعارضين حتى وإن كانوا بالأمس من أركان النظام وأعمدته الأساسية.

            الإعدام عنف. حتى وإن كان وسيلة للعقوبة، وهذا العنف قتلٌ. فهل القتل الثاني هو التعويض عن القتل الأول أم أن الهدف هو العدل والحق وتعويض الضحايا أو عوائلهم وردع الجريمة؟ تلك هي الفلسفة وراء المطالبة بإلغاء عقوبة الإعدام. فهل الموت يمكن أن يكون قصاصاً للموت؟ أي الموت ضد الموت، ومسألة مثل تلك تحتاج إلى تفكير عميق فالوسيلة جزء من الغاية، وحسب المهاتما غاندي، إنها مثل البذرة إلى الشجرة، ولا وسيلة للقتل بحجة عدالة الغاية، وإذا كانت الغاية بعيدة، فالوسيلة ملموسة وآنية، تلك التي لا ينبغي أن تتعارض مع الغاية.

            إن إلغاء عقوبة الإعدام يحتاج إلى وقتٍ طويل. لكن اتخاذ قرار بوقف تنفيذها، هو ما أقدمت عليه عدد من البلدان العربية، مثل المغرب والجزائر وموريتانيا ولبنان وغيرها، وتبقى الحاجة إلى إعادة النظر بالنظام التربوي والتعليمي لنشر ثقافة اللّاعنف كفيل برفع وتعزيز الوعي بالقانون وبالثقافة الحقوقية، انطلاقاً من القيم الإنسانية. فالضمير بهذا المعنى هو "القانون الأسمى" حسب ديفيد ثورو، ولهذا لا بدّ أن يكون يقظاً، وهو ما يمكن أن يولد قناعة فردية ومجتمعية، علماً بأن الإيمان بالدين يساوي عمل الخير بأبعاده الأخلاقية، لا لتبرير القتل، فالأديان هي للسلام وليست للعنف أو للانتقام.

            وكما جاء في كلام كونفوشيوس "نردّ الخير إزاء الخير ونردّ العدالة إزاء الشر، لا الشر إزاء الشر" .

 

باحث ومفكر عربي

 

لبنان.. الارتطام الكبير

عبدالحسين شعبان

    

منذ أواسط عام 2019 يتدهور الوضع الاقتصادي والمعيشي اللبناني على نحو مريع، وإذا ما استمر الحال على ما هو عليه، فستكون النتيجة الحتمية لمثل هذا الانحدار هي الارتطام بالقاع، حيث كان سعر صرف الدولار الواحد رسمياً يساوي 1500 ليرة لبنانية، ووصل اليوم إلى 18 ألف ليرة. ومن يدري فقد يستمر الارتفاع الجنوني لسعر صرف الدولار، فتصبح العملة اللبنانية بلا قيمة في ظل أزمة اقتصادية خانقة أوصلت ما يزيد عن 50% من اللبنانيين إلى حافة الفقر، وكل ذلك يجري دون أن يرف جفن للمسؤولين والمتحكمين في مصير البلد. فهل سيسقط هذا البلد الجميل  الذي تغنّى به الشعراء والفنانون والأدباء والكتاب والعشاق والحالمون والمجانين  في الهاوية، أم ثمة من سيبحث عن حبل نجاة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه؟

الأزمة تكبر والشق يتسع، فالكهرباء تطل على الناس كهلال العيد، والمازوت والبنزين والمحروقات حديث الجميع، حيث الطوابير أمام محطات الوقود لأكثر من كيلومترين، وأحياناً يتم الانتظار على أمل الحصول على بضعة ليترات، لكن دون جدوى، والمخالفات والحوادث المرورية في ذروتها، حيث يستمر عدم تشغيل الإشارات الضوئية بحجة الاقتصاد في الكهرباء، والأوساخ تملأ الشوارع، ودوائر البلدية تكاد تكون عاجزة؛ لأن أجر العاملين انخفض إلى درجة غير معقولة، بحيث أصبح من يتسلم راتباً شهرياً بحدود 800 ألف ليرة، لا يساوي أكثر من 50 دولاراً لشهر كامل، وإذا ما عرفنا الارتفاع الصاروخي لأسعار المواد الغذائية وجميع السلع والبضائع، فهذا يعني أن سُبل العيش أصبحت ضيقة؛ بل تكاد تكون مستحيلة، وطرق الحصول على لقمة عيش شريفة عسير وغير سالك.

وإذا ما رُفع الدعم الحكومي عن بعض السلع والبضائع، فإن الأسعار ستحلق بطريقة «سوبرمانية»، وهي الآن بعيدة عن الواقع المعيش، وخصوصاً في مجالي الأدوية والأغذية بتآكل رواتب الموظفين جراء التضخم في الأسعار، وباستمرار الفرق بين السعر الخاص للصرف 3900 للدولار والسعر الحقيقي غير الثابت والمتصاعد.

ويقول خبراء مطلعون إن المصارف هي المستفيد الأول من هذا الفارق، إضافة إلى كبار التجار، فالمعاملات مع مصرف لبنان المركزي تتم على السعر الرسمي بما فيها رساميلها وشراؤها للدولار وتسديد القروض المتوجبة عليها، والتلاعب بحسابات المودعين بالدولار. وإذا ما تم إقرار البطاقة التمويلية التي يُتوقع أن يُقرها مجلس النواب، فإن الأسعار سترتفع على نحو غير مسبوق، الأمر الذي سيؤدي إلى إلحاق أفدح الأضرار بالناس وحقوقهم ومستقبلهم.
وإذا كان هناك من يعتقد أن العلاج هو بتثبيت سعر الصرف الذي يمكن أن يخفف من غلواء الأزمة، فالأمر أعمق وأعقد من ذلك؛ لأنه يتعلق بالإصلاح الشامل، السياسي والاقتصادي والقانوني والتربوي وبنظام الحكم والانتخابات.
إن استمرار الحال على ما هو عليه، يعني التوغل في المجهول، لاسيما في غياب إرادة سياسية موحدة، وهذه للأسف الشديد ما تزال مُعطلة وغائبة وتتجاذبها أهواء ومصالح شتى: إقليمية ودولية، طائفية وحزبية، في ظل استشراء الفساد المالي والإداري ونظام المحاصصة والتستر على الأتباع والمريدين، طالما أن النظام يقوم على «الزبائنية» السياسية المرتكزة على المغانم والامتيازات.
ومع استمرار خطر جائحة «كورونا» وتردي الحالة المعيشية وغياب خطة للإصلاح، تلوح في الأفق مخاطر تفكك وتفتت وسيناريوهات أقلها مُخيفاً بشأن مستقبل لبنان.
وتستمر التظاهرات والاحتجاجات وقطع الطرقات وإحراق الدواليب إلى درجة أن بيروت تبدو خارجة لتوها من الحرب، وما يزال مشهد انفجار مرفأ بيروت في الرابع من آب/أغسطس الفائت 2020، يقض مضاجع الجميع وهو شاهد على ما وصل إليه سوء الإدارة والفساد، وغياب الشفافية والانغلاق السياسي حد الاستعصاء.
الفساد هو الوجه الآخر للإرهاب، وهما وجهان لعملة واحدة، وإن لم تتم معالجة أسبابه وجذوره، فإن الارتطام الكبير سيحصل  لا سمح الله  وعندها لن يكون أحد في مأمن من الكارثة، ومثل هذه النتيجة عرفها اللبنانيون بعد حرب طاحنة استمرت 15 عاماً، انتهت باتفاق الطائف العام 1989. فهل سيقرأ السياسيون والمتنفذون الدرس الجديد أم سيتركون الحبل على الغارب؟، و«لاتَ ساعة مندم».
ولا بد من القول إن هذه الرؤية مهما بدت متشائمة إلا أنها ليست يائسة، وبقدر تقديمها صورة واقعية دون تجنٍ أو مبالغة، فهي في الوقت نفسه تقطر ألماً على هذا البلد العربي الفريد الذي يتمتع بحيوية ونشاط وإبداع لا حدود له، ومثلما كان واحة حرية لا بد أن يستمر ليصبح مشروع ازدهار، وهي مسؤولية جسيمة.

drhussainshaban21@gmail.com

 

الانتخابات.. الزائر الثقيل

د. عبدالحسين شعبان

    

ما زالت قاطرة الانتخابات في البلدان النامية ومنها العديد من البلدان العربية والإسلامية تثير شكوكاً وعدم ثقة في وصولها إلى المحطة المقصودة، ولذلك تتعرض إلى النقد والاتهام بالتزوير أو التلاعب بالنتائج أحياناً، خصوصاً إذا كانت بعض نتائجها معروفة سلفاً، وهو ما زاد قناعة المواطنين بعدم جدواها طالما يُعاد تدوير الزوايا، فهل يعني هذا تراجع خيار الانتخابات كإحدى آليات التمثيل الديمقراطي؟ وهو ما طالبت به حركة الاحتجاج في ما يسمى«الربيع العربي» الذي أُغرق باحترابات ونزاعات وفوضى وفقد طابعه السلمي المدني، خصوصاً في ظل احتدام الصراع العنفي والتداخل الخارجي الدولي والإقليمي.

 وستكون التجارب الانتخابية المشوّهة والاستقواء على الدولة والتغوّل عليها عاملاً سلبياً في إقناع الناس بالخيار الانتخابي، وقد يدير الجمهور ظهره للزائر الثقيل والضيف الحزين، وهو ما يعطل عملية التحول الديمقراطي التي تحتاج إلى تراكم وتطور طويل الأمد كيما تتحقق الشروط الموضوعية والذاتية للانتخابات الحرة والنزيهة. وربما تحتاج العملية في مجتمعاتنا إلى عقدين أو ثلاثة من الزمان مع توافر ظروف دولية وإقليمية مساعدة.

 في الدول المتقدّمة يكون موسم الانتخابات فرصة للمراجعة والنقد والمباراة بين البرامج والأهداف ومحاولة لاستعراض الأفكار والآراء والخطط المستقبلية لما يهمّ الناس ورفاههم وصحتهم وتعليمهم وعموم الخدمات الضرورية الواجبة، في حين ما يزال يتّخذ الشحن الديني والتمترس الطائفي والتخندق الإثني والجهوي والمناطقي مكاناً أساسياً في التوجهات الانتخابية في مجتمعاتنا. ويصبح الحديث عن التداوليّة والانتخابات مجرد شعارات مُفرغة من محتواها أو يتم تسويفها بحيث تصبح عناوين بلا مضامين.

 إن الانتخابات وحدها ليست الفيصل في الشرعية، ولن تكون في أيّ يوم من الأيام، إنْ لم تقترن بطائفة من التدابير والإجراءات، التي تتطلب وجود مؤسسات وفضاء عام يساهم فيه الفرد بفاعلية في اختيار من يمثّله ويستبدله كلّما شعر أنه لم يعد يعبّر عنه أو يمثّل مصالحه، فضلاً عن إعمال حكم القانون وقضاء مستقل ورقابة ومساءلة ودور للمجتمع المدني.
ولكن ماذا لو لم تتوفّر كل هذه الشروط أو الجزء الأساسي منها؟ فهل ستتم الدعوة للإقلاع عن الانتخابات أو تأجيلها لحين استكمال تلك الشروط؟ وهي لن تكتمل دفعة واحدة، أو تأجيل اللجوء إليها بزعم عدم الاستعداد لإجرائها، لوجود عقبات وعراقيل سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية تقف حائلاً أمامها كوسيلة لاختيار الحكّام، الأمر الذي يتطلّب الانتظار أو عدم التسرّع للسير في هذا الاتجاه.
 
وحسب الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، فإن إرادة الشعب هي مصدر سلطة الحكومة، ويعبّر عن هذه الإرادة بانتخابات نزيهة دورية تجري على أساس الاقتراع السرّي وعلى قدم المساواة بين الجميع أو حسب إجراء مماثل يتضمن حرية التصويت. وسيكون من واجب الفرد، مهما كانت الثغرات والمثالب التي تتضمنها الانتخابات المساهمة فيها بالتصويت على الدستور وعلى القوانين الأساسية وفي اختيار من يمثّله أو يعبّر عن مصالحه ولو بحدّها الأدنى، وذلك يتطلّب بالتدريج والتراكم والممارسة إيجاد آليات ومؤسسات قادرة على حماية الحقوق والحرّيات، وهو ما يذهب إليه جون رولز الفيلسوف الأمريكي في كتابه «الديمقراطية التداولية» «Delibrative Democracy» حين أكّد أهمية التعليم وتعميمه والتربية على مبادئ الديمقراطية وتداولية السلطة في ظل مؤسسات ومعرفة عامة ورغبة لدى الفرد للمشاركة في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وهو الأمر الذي يخلق لديه ما يسميه «حسّ العدالة» ويمنحه القدرة على قبول الاختلاف والتنوّع والتعددية.
 
يعتبر العام 2021 موسماً خصباً للانتخابات العربية، على الرغم من تأجيلها في فلسطين، فقد أجريت في الجزائر/ يونيو، وستجرى في العراق/ أكتوبر، وليبيا/ ديسمبر، فهل ستشهد مشاركة واسعة؟ وهل ستتمكن المؤسسات القائمة على حماية الحقوق والحريات بشفافية؟ وهل سيكون الفضاء العام مساعداً في تجاوز الاصطفافات المسبقة ما دون الدولة أم أن هناك الكثير من القيود لا تزال تشدّ المجتمعات العربية إلى الماضي مثل الطائفية والإثنية والعشائرية وغيرها؟
ويتطلّب ذلك وقفة نقدية أمام ما يستلزم إجراء انتخابات في إطار المعايير الدولية، إضافة إلى اختيار النظام الانتخابي المناسب، وسد النقص الفادح في ثقافة الانتخابات والثقافة الحقوقية، وهو ما يلقي مسؤوليات كبيرة على النخب الفكرية والسياسية والثقافية ومؤسسات المجتمع المدني، التي هي الأخرى بحاجة إلى توعية في إطار رفع درجة الوعي ونشر الثقافة الحقوقية وتعميمها، فضلاً عن الاستفادة من التجربة الخاصة وتراكمها وتطوّرها التدريجي.

drhussainshaban21@gmail.com

 

 

تهذيب السياسة

عبدالحسين شعبان

على الرغم من سعي الإنسان لتحقيق السلام والأمن، إلا أن التناقضات المجتمعية والدولية قادته إلى الانخراط في حروب ونزاعات وصراعات لا حدود لها، وكان التغوّل، ولا يزال عملة متداولة بكثرة في التعامل السياسي، وقد ساهمت وسائل الاتصال الحديثة والثورة العلمية - التقنية، وتكنولوجيا الإعلام والاتصالات والمواصلات في ظل الطور الرابع من الثورة الصناعية في عصر العولمة، في تعميم نماذج مختلفة، وغير مألوفة للذوق السياسي والأخلاقي، في التعبير عن أمور عدة.

 ولعل ما استوقفني على هذا الصعيد مؤخراً، الصفعة التي تلقّاها رئيس جمهورية فرنسا، إيمانويل ماكرون، وردود فعله الهادئة والقانونية والأخلاقية إزاءها. وإعلامياً، كنتُ أتابع بعض رسامي الكاريكاتير، أو بعض محاوري البرامج المتلفزة على استخدام تعابير نابية، أو جمل خرقاء، أو تصرفات حمقاء، بهدف الحصول على أكبر عدد من المتابعين، والأمر لا علاقة له بالسخرية كفنّ من الفنون ووسيلة تحريض وتعبئة، وهي جزء من هدف سام أحياناً، غرضها التبخيس بالعدو، أو الخصم، وإظهار قبح أفعاله وسوء تصرفاته.

 لقد تجدد قاموس الإهانات واكتسب بعداً جديداً منذ أن قذف الصحفي العراقي منتظر الزيدي جورج دبليو بوش بحذائه في بغداد، تعبيراً عن استيائه من احتلال بلده. ليس هذا فحسب، بل إن الرئيس جو بايدن قال عن غريمه الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، قبل لقائه في جنيف إنه «قاتل»، والقائمة تطول بمن استخدم عبارات مقززة أحياناً، وصولاً إلى الرئيس البرازيلي، جايير بولسنارو، الذي ضرب رقماً قياسيّاً مسجلاً سابقة باستخدام الكلمات النابيّة والمُخجلة، مثلما فعل قبل ذلك ضد القوى اليسارية، فذهب إلى السخرية من ماكرون، وزوجته ومظهرها وسنّها، وهي طريقة غير لائقة وغير دبلوماسية، بل خارجة عن أدبيات التخاطب، وذلك في معرض الجدل حول سياسات البرازيل البيئية وعدم الالتزام بالوعود التي قدمتها خلال قمة المناخ العالمية. وفي المقابل، أبدى ماكرون أسفه من أن يكون الشعب البرازيلي تحت قيادة رئاسة بهذا المستوى، على الرغم من أن وصولها كان ترجمة لإرادة صندوق الاقتراع.

 وإذا كان ثمة مشتركات بين الفاشية القديمة والنازية الإيديولوجية، فإن هناك تعارضات بينها وبين الشعبوية العنصرية الاستعلائية الجديدة، فالأولى اعتمدت «الانضباط» حتى إن كان مصطنعاً بزعم الالتزام بتعاليم الكنيسة كمرجعية أخلاقية، وهو ما عبّر عنه بحزم الجنرال فرانكو الذي حكم إسبانيا بالحديد والنار قرابة أربعة عقود من الزمن.
 
قد يستسيغ البعض منّا، لدرجة الاستمتاع، حين يسمع كلاماً بذيئاً، أو جارحاً أو تعريضاً نابياً أو تشهيراً صادماً أو فضيحة مدوّية، أو اتهاماً خارقاً لعدوّه، أو خصمه، ولا يهم إن كان مثل هذا السلوك أو التصرف خارج دائرة القيم التي يدعو إليها والمبادئ التي يروّج لها، من قبيل احترام الرأي والرأي الآخر، والتعددية والتنوع، والحوار الموضوعي، وحتى خارج دائرة الأخلاق والعقلانية التي يتشدّق بها، طالما أنها تستهدف الآخر/الضد بهدف إقصائه من المجال العام عبر شيطنته، وتشويه صورته بحديث غير لائق، وألفاظ محقِّرة، من دون أن يدرك من يقوم بمثل هذا الفعل الشنيع أنه ينتزع جزءاً من إنسانيته، وخمول ضميره.
 
فالسلوك السياسي السوي والأخلاقي غالباً ما يكون منطقياً وموضوعياً ورزيناً، وهو ما يقدّره الجمهور في نهاية المطاف، أما الازدراء والاحتقار والتسقيط والنبّذ بهدف النيل من الآخر، أو الإساءة إليه، أو تزوير الحقائق، أو الدعاية السوداء وأساليب التضليل، فإنها في أيّ دولة يكون القضاء فيها محترماً ومستقلاً نزيهاً وعادلاً، يعرّض أصحابها للمساءلة، بل قد يكون رادعاً لهم.
لقد أصبحت بعض الفظاظات السياسية وانفلات اللسان أو القلم طريقة جذّابة ومُغرية لبعض النخب طالما أنها تستهوي الجماعة المتحزبة، أو مستوياتها الدنيا. ويكفي أن نراقب بعض المحطات التلفزيونية، أو بعض مواقع التواصل الاجتماعي لنرى ما يُبثّ وينشر فيها من غثّ وسمين، حيث يتم التراشق والتنابذ والتفاضل والتفاخر إلى درك تشويه الخصم ونعته بأقذع النعوت، واعتبار كل ما هو جميل وخيّر حكراً على دينه أو طائفته أو قوميته أو حزبه أو جماعته أو دولته.
 
ويصبح لزاماً على المعنيين من صنّاع القرار من تربويين وجامعيين وفعاليات سياسية وثقافية ودينية ومدنية، والمسؤولين عن مواقع التواصل الاجتماعي، أن يضيفوا إلى برامجهم «علم الأخلاق» و«علم الجمال» و«حقوق الإنسان» كي يتم تنزيه السياسة وتهذيبها بالمعنى النبيل الذي قال به أرسطو: «أنها الخير العام»، وهو ما واصله مؤسس علم الاجتماع عبدالرحمن بن خلدون.

drhussainshaban21@gmail.com

بايدن – بوتين

وألغام الحرب الباردة

 

عبد الحسين شعبان

كان الخبر الأبرز في القمة الروسية - الأمريكية التي التأمت في فيلا «لا غرانج» التاريخية في جنيف هو: لا حرب باردة جديدة بين البلدين، وهو ما صرّح به بايدن، مشيراً إلى «أنّ مثل هذه الحرب لا تصّب في مصلحة أحد»، وهذا يعني أنّ آفاقاً جديدة بدأت تأخذ طريقها إلى تحسين العلاقات بين الدولتين العظميين، والتي شهدت «حرباً باردة» متصاعدة و«صراعاً أيديولوجياً» حاداً منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وانفضاض التحالف المعادي للفاشية والنازية، إلى نهاية الثمانينات، حيث تهاوت الأنظمة الاشتراكية بلداً بعد آخر، وانهار الاتحاد السوفييتي السابق في نهاية العام 1991 منشطراً إلى 15 دولة، بعضها أصبحت حليفة للغرب وعضواً في حلف الناتو وعدوّاً شديداً لروسيا. وكان الجانبان قد اتفقا مسبقاً على عدم توقيع أيّة وثائق في ختامها. واكتفيا بمؤتمرين صحفيين منفردين.

 وصرّح بايدن خلال مؤتمره الصحفي أنّ علاقات موسكو مع واشنطن يجب أن تكون مستقرة وقابلة للتنبؤ. وعلى البلدين إيجاد مجالات للتعاون وفقاً لقواعد أساسية يلتزم بها البلدان. وكانت العلاقات الروسية - الأمريكية شهدت توتراً شديداً إثر شنّ بايدن حملة شعواء قبل أسابيع من لقاء قمّة جنيف ضد روسيا، متهماً رئيسها بالقاتل، الأمر الذي أدّى إلى عودة السفير الروسي أناتولي أنطونوف لدى واشنطن إلى موسكو للتشاور في مارس/آذار 2021 في حين غادر السفير الأمريكي جون ساليفان موسكو بعده بشهر واحد، لكن بايدن خلال المباحثات أكدّ لبوتين أنّ أجندة الولايات المتحدة ليست معادية لروسيا، لكن أيّ رئيس أمريكي لن يكون قادراً على الحفاظ على ثقة الناخبين الأمريكيين إن لم يبذل جهوداً للدفاع عن الديمقراطية، وفي جواب لأحد الصحفيين قال: «المسألة تتعلق بالمصالح».

 واتفق الرئيسان على تطبيع العلاقات وإعادة السفيرين إلى كلِّ من واشنطن وموسكو، والبحث في الخطوات اللاحقة في مجال الرقابة على الأسلحة بهدف خفض مخاطر نزاع غير متعمّد، وهذا ما سيتم بحثه في إطار حوار ثنائي، تمهيداً لاتفاق شامل واستراتيجي حول الرقابة على الأسلحة. وقد شملت المباحثات أهمية التمديد الأخير لمعاهدة الحدّ من الأسلحة الهجومية - الاستراتيجية (ستارت 3).

وناقش الرئيسان موضوع الأمن السيبراني والاتهامات الأمريكية القديمة - الجديدة فيما يتعلق بالهجمات السيبرانية، التي تقول واشنطن إنّ هناك من يقف وراءها من داخل روسيا. وأعلن بايدن أنّه سلّم نظيره الروسي 16 قطاعاً حيوياً (الطاقة وإمدادات المياه وغيرها...) التي لا يمكن المساس بها وأنّ الولايات المتحدة لن تتسامح مع محاولات الاعتداء على سيادة الديمقراطية الأمريكية، وستردّ على أيّة محاولة للمساس بمصالحها أو مصالح حلفائها، وهي تمتلك القدرات الضرورية لذلك، ولمّح إلى حقول النفط الروسية وماذا سيكون ردّ فعل بوتين لو هوجمت سيبرانياً؟

وتطرقت المحادثات إلى الملف الأوكراني الذي أكدّ بايدن دعم بلاده لسيادة أوكرانيا، في حين أكد بوتين التزامه باتفاقيات مينسك للتسوية الأوكرانية، كما أبدى بايدن قلقاً بشأن الوضع في بيلاروسيا.

 أمّا بالنسبة للشرق الأوسط، فقد اتفق الرئيسان على فتح ممرات إنسانية في سوريا لنقل المساعدات الغذائية، وعدم تمكين إيران من الحصول على الأسلحة النووية، وبحثا تطورات الوضع في أفغانستان لمنع انتعاش الإرهاب بعد الانسحاب الأمريكي من أفغانستان والاتفاق مع حركة طالبان (فبراير/ شباط 2020) وعرض بوتين المساعدة على بايدن في هذا المجال.

 أمّا بشأن حقوق الإنسان فقد جرى التطرق إلى مصير الروس المعتقلين في السجون الأمريكية، إضافة إلى استثمار منطقة القطب الشمالي ومنع عسكرتها وكذلك احترام حقوق الإنسان في روسيا ومسألة المعارض الروسي أليكسي نافالني، وأيضاً دعا بايدن إلى إطلاق سراح المستثمر الأمريكي مايكل كالفي المحكوم بالسجن في روسيا، وربط ذلك بمصير استثمارات أمريكية واسعة في روسيا.

 وكان الرئيس الأمريكي قد حقق بعض أهدافه قبل لقاء قمة جنيف بانعقاد قمّة الدول السبع الكبرى، حيث وضع المواجهة الصينية في مقدمة أولويات التحالف الغربي، خصوصاً بعد ترميم العلاقات الأمريكية - الأوروبية التي تزعزعت خلال فترة إدارة الرئيس دونالد ترامب. ووضع زعماء الدول السبع مشروع «بناء عالم أفضل» في مواجهة سياسة الصين، لاسيما بمساعدة الدول الفقيرة، وهي خطة قد لا ترتقي إلى خطة «الحزام والطريق» التي قطعت الصين شوطاً غير قليل في تنفيذها.

 وعلى الرغم من أن بايدن وهو يواجه بوتين كان يضع نصب عينه التحالف الصيني - الروسي، فإنه في الوقت نفسه يعرف أنّ الصين أكبر مُصدّر لأوروبا وثاني مستورد منها، فهل سيكون الاتحاد الأوروبي على استعداد للانضمام إلى واشنطن في المواجهة الاقتصادية المحتملة أو حرب باردة جديدة مع الصين بدلاً من روسيا؟

drhussainshaban21@gmail.com

 

 

التنمية وفايروس التمييز

ع. الحسين شعبان

ما تزال مجتمعاتنا تعاني من آفات خطيرة مثل التخلّف والجهل والأمّيّة والفقر والمرض. وهذه تحتاج لمواجهتها إلى المعرفة والعلم والتكنولوجيا والقيم الإنسانية، ولا سيّما قيم الحرية والسلام والتسامح والمساواة والعدالة والمشاركة والشراكة، إذْ لا يمكن بناء المجتمعات وإنجاز مشاريع التنمية بزعم أفضليات هذا الدين أو ذاك، أو أحقّية هذه الطائفة أو تلك، فلن يتحقّق التقدّم المطلوب بالإقصاء أو التهميش الأيديولوجي، سواءً باسم الدين أو القومية أو مصالح الكادحين، خصوصاً بإدعاء امتلاك الحقيقة، بل والحق في احتكارها،  ولعل كلّ جهة أو جماعةٍ أو طائفةٍ تصوّر نفسها، وكأنها الفرقة الناجية "المبشّرة بالجنّة" حسب تعبير المؤمنين، أو الطليعة المقدامة حسب الأيديولوجيا السياسية اليسارية.

لقد صرفت مجتمعاتنا سنوات طويلة، ولا سيّما بعد إحرازها على الاستقلالات في معارك داخلية محتدِمة، تارةً باسم حقوق "الأغلبية" السائدة، وأخرى باسم "الأقلية" المهضومة، وثالثة بدعوى "الأيديولوجيا"، ورابعة تحت عنوان اختيار "طريق التنمية". واحتربت القوى والتيارات السياسية فيما بينها، مرّة بين "الملكيين" و"الجمهوريين"، وأخرى بين القوميين والشيوعيين وثالثة بين الدينيين والعلمانيين. كما شهد العالم العربي صراعاً دينياً وطائفياً، مرّة لإقصاء المسيحيين أو تهميشهم، وشمل الأمر بقية المجموعات الثقافية التي تسمّى مجازاً بـ "الأقليّات"، ومرّة ثانية بين "الشيعة" و"السنّة"، ومرّة ثالثة بين مجموعات إثنية أو لغوية أو سلالية، وجميعها تتعلق بهدر الحقوق وعدم تحقيق المواطنة المتساوية من دون تمييز أو استعلاء.

وفي المجتمعات المتعددة الثقافات، دينياً وقومياً وإثنياً، ولغوياً، ومنها بلداننا العربية وبعض البلدان الإسلامية، أكّدت التجربة أنه لا يمكن تحقيق التنمية المنشودة والنهوض بهذه المجتمعات والبلدان من واقع التخلّف إلى واقع التقدم، إلا بالتعاون بين مختلف التكوينات. فالأوطان تُبنى بالسلام والاستقرار والتعايش. وكان دستور اليونسكو قد أكّد: "لما كانت الحروب تتولّد في عقول البشر، ففي عقولهم يجب أن تُبنى حصون السلام"، والأمر يحتاج إلى حوار وتفاهم لحل المشكلات الوطنية والاجتماعية، وتوافق وطني في ظل سيادة القانون.

ولعلّ بلداً صغيراً نسبياً ومتخلّفاً مثل ماليزيا تمكّن وخلال ثلاثة عقود من الزمان، التحوّل إلى دولة صناعية قادرة على المنافسة في السوق العالمية، بفعل قيم التسامح والسلام والعيش المشترك بين المجموعات الثقافية المختلفة المسلمة والبوذية والمسيحية والهندوسية وأتباع ديانات قديمة أخرى.

لم يكن وصول بلد مثل ماليزيا إلى النجاح المطلوب عبر فتاوى تكفّر هذه المجموعة الدينية على حساب تلك أو تعلّي هذه الطائفة على حساب طائفة أخرى، بل كان بالتوجه - وعلى نحو صارم - لوضع مسافة واحدة من الجميع، ولم يكن ذلك من دون عناء أو أخطاء أو حتى شبهات فساد، لكن المشروعية القانونية كانت هي الضامن للنجاح وللشرعية السياسية.

كما لم تكن لدولة كبرى مثل الصين أن تحقّق القفزة النوعية الهائلة في التقدّم بالكتاب الأحمر لـ ماوتسي تونغ ووصاياه، بل كان الانصراف إلى العلم والتكنولوجيا وتعديل شروط الإنتاج وعلاقاته بالقوى المنتجة، هو الذي ساهم في تحقيق التراكم المطلوب، فضلاً عن نظام إدارة سليم، وإرادة سياسية فاعلة.

وهكذا فإن التساوق مع منجزات العلم والتكنولوجيا وتوظيفها بشكل صحيح وعلمي هو الذي حقق المنجز التنموي.

لقد أكّدت التجارب التنموية أن إحراز التقدّم يتطلب علماء في الفيزياء والكيمياء والهندسة والطب، وليس تكديس أعداد من خريجي المدارس الدينية هم أقرب إلى العاطلين عن العمل منهم إلى منتجين، كما ليست حاجة المجتمع إلى كوادر تتخرّج من المدارس الحزبية لا عمل لها سوى الأوامرية البيروقراطية، وهؤلاء وأولئك دائماً ما يميلون إلى التعصّب ووليدِه التطرّف. والأخير يصبح عنفاً إذا صار سلوكاً وانتقل من التفكير إلى التنفيذ. فما بالك حين تتبنّاه الدولة، سواء باسم "الثورة الثقافية" أو الإيمانية المُؤدلجة، باسم "التكفير والهجرة" أو "ولاية الفقيه" أو "العودة إلى السلف الصالح" حسب داعش وأخواتها، فإن تأثيراته السلبية تكون كبيرة على المجتمع، لا سيّما إذا تم ضخّه عبر التربية والتعليم والإعلام والثقافة السائدة، ناهيك عن القوانين الناظمة للاجتماع السياسي.

يقول مهاتير محمد عن تجربة ماليزيا: "لقد قررنا أن نعبر المستقبل بمباركة كل المكوّنات العرقية والدينية والثقافية من دون الالتفات إلى عذابات ومعارك الماضي، فنحن أبناء اليوم... ومن حقّنا أن نتمتّع بخيرات هذا الوطن".

أما الصينيون فبعد وفاة الزعيم ماوتسي تونغ 1976، وانتهاء "الثورة الثقافية"، ذات البعد الأيديولوجي الدموي، فإنهم توجّهوا إلى بناء القدرات بإرادة قوية وطموح كبير، وخلال أربعة عقود من الزمان نافست الصين الولايات المتحدة القوة الأكبر والأكثر تقدماً في العالم.

وفي الحالتين الماليزية والصينية، لم يكن الاعتبار سوى للعلم والتكنولوجيا وهما ما نحتاج إليه في بلداننا العربية والبلدان الإسلامية، خارج دوائر التزمت والتشدّد والغلو الديني والطائفي، الذي ضرب فايروسه بلادنا بالصميم أكثر من فايروس كورونا، وأحدث تمزّقاً وتفتّتاً في بنية مجتمعاتنا، ونحن لما نكن قد شفينا بعد، من فايروس الأيديولوجيا الذي هيمن علينا وتوغّل فينا لسنوات طويلة.

 

 

العروبة والقومية

عبد الحسين شعبان

هل العروبة "هوّية" أم حركة قومية؟ هو سؤال غالباً ما يُحدث التباساً لدى المتلقّي، بل وفي بعض الأحيان لدى المعنيين، الذين لا يفرّقون بين العروبة والقومية. وإذا كانت اللغة والثقافة والتاريخ والعيش المشترك، الأساس في الهوّية، فإن القومية فعل سياسي له برنامج ذو شحنة أيديولوجية، ويزداد الأمر تكريساً حين تنشئ نظاماً سياسياً. وقد تكوّنت الحركة القومية العربية في نهاية القرن التاسع كرَدّ فعلٍ دفاعي عن الهوّية، ضد سياسات التتريك التي اتبعتها الدولة العثمانية، وفيما بعد وقفت ضد سياسات الاستعمار الغربي.

وبالعودة للتاريخ فإن العروبة ولغتها سبقت الإسلام، حسب المؤرخ عبد العزيز الدوري، وحين جاء الإسلام ترسّخت العروبة لأن لغة القرآن كانت عربية، ويذهب محمد عابد الجابري للقول بثنائية العروبة والإسلام، والعربي هو من يصبح عروبياً بنزوعه إلى الوحدة الثقافية، وبالعودة إلى التاريخ فالعرب العاربة أو العرب المستعربة يجمعهم اللسان. أما العروبة فهي امتداد حضاري تاريخي، ورابطة تتصل بالثقافة المشتركة من تبادل المعرفة والأدب والفن والعلم والتراث، وهي رابطة موضوعية لا يمكن إنكارها وليس لها بعداً أيديولوجياُ، أو أنها برسم السياسة.

ووجهة النظر هذه دعوة لاستنهاض العروبة الثقافية مقابل "العروبة العرقية"، أي المتعصّبة على الطريقة البسماركية، لعدم واقعيتها وتخلّفها، وأخذت تحلّ محلّها فكرة العروبة الجامعة والمنفتحة والمتجدّدة والإنسانية والحضارية، وتتقلّص الأفكار القومية المضادّة لها، حيث اكتسبت فكرة العروبة بُعداً واقعياً بعيداً عن الطوباويات المثالية. وبحسب الياس مرقص فالأمة لغة قومية (أساس الهوّية العربية)، وتاريخها هو تناضد طبقات.

ووفقاً لهذا المنظور، فالعروبة رابطة وجدانية وشعورية وإنسانية جامعة وهي ليست ثابتة بمعنى سُكونية، بل متطوّرة وحركيّة، وهي ليست كاملة أو نهائية، بل هي متفاعلة مع محيطها في الإضافة والحذف والتطوير والتغيير، كونها حيوية ومعاصرة وراهنة ولا يمكنها أن تعزل نفسها عمّا يجري حولها وفي العالم أجمع.

وبهذا المعنى فالعروبة ليست سرمدية وتماميّة ومقفلة، مثل بركة راكدة، بل هي على العكس من ذلك أرخبيل مفتوح تتفاعل مع غيرها وتؤثر فيه وتتأثر به ارتباطاً بالتطورات الكونية، والأمر ينطبق على جميع الهوّيات. وهكذا فإن أمر اختلافها ليس مفتعلاً، وإنّما واقعي، يرتبط بالحداثة والمواطنة والحقوق الإنسانية،  التي هي نتاج تطور منذ أمرؤ القيس، مروراً بالمتنبي وابن خلدون وصولاً إلى جبران خليل جبران وطه حسين ومحمد مهدي الجواهري.

وفي الأندلس كان المعتمد بن عباد وابن طفيل وابن باجة وابن حزم وعباس بن فرناس رمزاً للعروبة في صعودها وانفتاحها على ما حولها، مثلما كانت في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين تأكيداً على خصوصيتها ووجودها الثقافي عبر جورج أنطونيوس وشكيب إرسلان ورشيد رضا وآل البستاني وأمين الريحاني وصولاً إلى ساطع الحُصَري، استمراراً للومضات الأولى لحركة الإصلاح وإرهاصات النهضة التي ابتدأت مع جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وعبد الرحمن الكواكبي ورفاعة الطهطاوي وخير الدين التونسي والشيخ محمد حسين النائيني، حيث ظل سؤال النهضة مطروحاً بركنَيه الأساسيين: الحرية والتنمية، والمطلوب هو إعادة اكتشاف عناصر القوة في العروبة وتجديدها وأنسنتها وتحصينها بالتنوّع وقبول الآخر والإقرار بالتعددية والحق في الاختلاف، وهو ما أخفقت الحركة القومية العربية من بلوغه في مرحلتها الأولى ما بعد الاستقلالات العربية.

ومنذ عصر النهضة حتى يومنا هذا، سادت تيارات فكرية وسياسية عديدة قومية وإسلامية ويسارية، صعوداً وهبوطاً، لكنها لم تستطع إنجاز مشروع يتمتع بأركان هوّية منفتحة ومتماسكة في الآن، ولعلّ ما يحسب لـ مركز دراسات الوحدة العربية ومؤسسه الراحل خير الدين حسيب لما له من عقلية رؤيويّة مستقبلية هو جمعه كوكبة لامعة من المثقفين والباحثين والمتخصصين العرب، لبلورة الخطوط العريضة لــ مشروع نهضوي عربي مستقبلي جديد، أساسه التحرّر السياسي في مواجهة الاستعمار، والتنمية المستقلة في مواجهة التبعية والتخلّف، والوحدة العربية في مواجهة التفتت، والديموقراطية في مواجهة الاستبداد، والعدالة الاجتماعية في مواجهة الاستغلال، والتجدّد الحضاري في مواجهة التغريب وتوظيف التراث إيجابياً.

ومن القضايا الحساسة التي تواجه العروبة موقفها من القوميات الأخرى والتنوع الثقافي في مجتمعاتنا، فخطاب التعصّب الذي حمل شفرة أيديولوجية قاد إلى التطرّف، وحين أصبح الأخير فعلاً وسلوكاً تحوّل إلى عنف، وحين ضرب عشوائياً صار إرهاباً، ومقابل التعصّب والاضطهاد، كان رد الفعل ضيق الأفق والانعزالية القومية. الأمر الذي يحتم الاعتراف بالآخر والإقرار بالشراكة بدلاً من الإقصاء والتهميش، وإعادة النظر بالموقف من المجموعات العرقية والدينية واللغوية على أساس المواطنة وليس العرق، وإلا سيكون الجاحظ وابن المقفع وابن سينا والفارابي وابن رشد وأبو نؤاس وقبل ذلك سيبويه ونفطويه وبشّار بن بُرد وصولاً إلى قامات معاصرة، خارج دائرة العروبة. فليس النسب والعصبية القبلية هي التي تقوم عليها العروبة وإنما اللغة والثقافة والتاريخ والعيش المشترك.

العروبة الحضارية هوّية ثقافية لغوية منفتحة على التنوّع والتفاعل والتجدّد ولذلك فهي مشروع لم ينجز بعد، حسب قسطنطين زريق، وانتاجه يحتاج إلى وعي جديد وحامل اجتماعي جديد يمثل روح الأمة.

 

 

الحزبية والحزبوية

عبد الحسين شعبان

توقف "جون بول سارتر" عند ظاهرة  "افتراق السياسة عن الفكر"، حين عبّر عن ذلك بما معناه، هل يجب أن أقول الحقيقة، فأخون البروليتاريا أم يجب أن أخون الحقيقة بحجة الدفاع عن البروليتاريا؟

وكانت جامعة أكسفورد قد نظّمت ندوةً في العام 2003 في إطار "مشروع دراسات الديمقراطية" حول "الديمقراطية في الأحزاب الثورية"، وفيها قدّمتُ بحثاً بعنوان "حين تزدري السياسةُ الفكرَ"، خلاصاته كيف يتم تبرير التجاوز على المبادىء والأفكار بزعم الضرورات السياسية والحزبوية، وإذا كان هناك من حاجة ماسّة ومستمرة لتكييف الفكر كي ينسجم مع الواقع، وهو ما نُطلق عليه البراكسيس، فإن ذلك لا يعني تعارضهما أو تعاكسهما، بل توافقهما وتقاربهما.

لقد فقدت الأغلبية الساحقة من الأحزاب السياسية في عالمنا العربي ألقها الذي كانت تتمتّع به في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، وتدريجيًا أخذ لونها يبهت وصوتها يتحشرج ووهجها يخفت، وهو ما أظهرَته بشكل صارخ حركة الاحتجاج الواسعة التي أُطلق عليها "الربيع العربي" قبل عقد من الزمان، والأمر يعود لأسباب موضوعية وأخرى ذاتية.

الأولى تتعلّق بانتهاء الصراع الأيديولوجي بشكله القديم وتبدل ظروف الحرب الباردة، التي توجّت بهدم جدار برلين في 9 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989.

الثانية تتعلق بفقدان الحماس الشعبي وعزوف الشباب عن الانخراط في صفوفها، إلى درجة أصبح بعضها منتدًى للمسنين والمتقاعدين الذين يعيشون في الماضي، وتحوّلها إلى أحزاب محافظة وتقليدية.

لعب العاملان الموضوعي والذاتي دورهما في الحال التي وصلت إليها الأحزاب القديمة، القومية والشيوعية، إضافة إلى الأحزاب الدينية، بل أن بعض الانتقادات التي كان يوجهها بعضها إلى الآخر وقع هو فيها، من المحسوبية والمنسوبية والفساد والتسلّط، فهي لا تتورّع من التزوير أو تسكت عنه أو تمالئ أحياناً إذا كان يأتي إليها بمنفعة أو لبعض المحسوبين عليها. فالعلماني أصبح طائفياً والطائفي أخذ يتحدّث بالدولة المدنية والقومي  والأممي لم يجدا ضيراً من قبول التعامل مع قوى خارجية، بل إن العديد منهم انكفأ ليصبح محليّاً، بل متذرّراً في هوّيته الفرعية، فهذا يتحدث عن المظلومية التاريخية، وآخر يتناول حقوق "المكوّن" وثالث يضع انتمائه الإثني فوق الانتماء الوطني، كما دخلت إليها العشائرية والوراثية.

لم تستطع هذه الأحزاب لأسباب القمع المعتق الذي كانت تتعرّض له وعمليات الإلغاء والاستئصال والتهميش وشحّ الحريات بالدرجة الأساسية أن تتنفّس هواءً ديمقراطيّاً، لا سيّما استمرار نهج الاستبداد لعقود من الزمان، ولأسباب فكرية وعملية، لم تتمكّن من تقديم بديل مقبول، بل استخدمت الأساليب نفسها في الكثير من الأحيان، في معادلة ملتبسة، ظلّت تطرح أسئلة عديدة: هل المعارضات وجه آخر للسلطات؟ فإذا كانت رحيمة وسَمِحة، فستراها عقلانية وسلمية، والعكس صحيح. وتلك واحدة من مفارقات السياسة.

ولأن الأحزاب عانت من اختلال العلاقة بين الأعلى والأدنى، والأغلبية والأقلية، وغاب عنها حرية التعبير بزعم المركزية ووحدة القرار، فقد احتجب النقد والنقد الذاتي، وعانت من مركزية بيروقراطية صارمة واتكاليّة وتعويليّة فكرية مهيمنة، الواضح في أحزاب السلطة والمعارضة، حيث تكرّرت الانقسامات والانشقاقات وحركات الاحتجاج  لقمع الرأي الآخر.

والأكثر من ذلك، فإن الحزبوية تقدّمت على الهُويّة الوطنية في الكثير من الأحيان، بزعمها أن الحزب متقدّم على الوطن، وفي الكثير من الأحيان، تمّت التضحية بالعديد من أعضاء الحزب ذاته ومن أخلص الوطنيين بسبب النهج الأُحادي الإطلاقي بتبرير ادعائها امتلاك الحقيقة والأفضليات، علماً بأن أية أيديولوجية مهما كانت إنسانية فإنها لا تمنع من ارتكاب جرائم أو انتهاكات بحجة مصلحة الحزب المتقدمة على مصلحة الوطن والأمة، وفي تاريخنا العربي مثلما في التاريخ العالمي هناك أمثلة على مجازر ارتُكبت بحق قيادات وكوادر، بل وشعوب اقتيدت إلى النحر بحروب ومغامرات، لتحقيق مصلحة الحاكم أو الزعيم أو المسؤول، إما لعنعنات أو لجهل أو لسوء تقدير.

وغالباً ما دخلت حزبويات في صراع تناحري كان الوطن فيها هو الضحية، خصوصاً في ظل شحّ حرية التعبير ونظام الطاعة والهيمنة والأبوية الذي يستمد قاعدته من أيديولوجيات شمولية ظلت تحكم الأحزاب من داخلها، وحكمت المجتمع من خارجه، وأدّت إلى كوارث هائلة.

لقد تربّت النخب الحزبوية في أجواء السرية والحرمان والفاقة وحين اقتربت من السلطة، أية سلطة،  فرّغت الكثير من عقدها للتعويض عن ذلك، مستخدمة أساليب من أشدها قسوة وفظاظة إلى أكثرها مكراً وخبثاً، الأمر الذي يحتاج إلى إجراء مراجعةٍ نقدية للسياسة الحزبية والحزبوية السياسية، والهدف أنسنة الحياة السياسية.

ومن العبث أن نحاول مدّ الوقائع لتكون مطابقة لسرير بروكرست، حسب الميثولوجيا اليونانية، حيث يسعى الحزبوي لجرّ صاحبه حتى يهلك إذا كان السرير طويلاً، أما إذا كان صاحبه أطول فيعمل على اقتطاع أرجله لتأتي تصوّراته ونزعاته الإرادوية متطابقة مع الواقع. وفي كلا الحالين فالخسارة فادحة، ولا بدّ من الإقرار بذلك والتعامل مع الواقع كما هو، لتجنيب البلاد صراعات لا طائل منها، وخصوصاً التنكر للحقيقة. وتلك إحدى المعضلات التي تواجه المثقف الحزبي والسياسة الحزبوية.

 

 

دكتاتورية السوق

عبد الحسين شعبان

شهدت نهاية الثمانينات من القرن الماضي تحوّلاً كبيراً في العلاقات الدولية، توّج بانهيار جدار برلين في 9 نوفمبر/تشرين الثاني 1989، الذي كان إيذاناً بانتهاء عهد الحرب الباردة بين المعسكرين الغربي والشرقي، وولادة ما سُمّي بـ "النظام العالمي الجديد"، بقيادة الولايات المتحدة، وقد تجاوز هذا التغيير الجوانب السياسية والثقافية ليمتدّ إلى الحقل الاقتصادي والاجتماعي في إطار ما أُطلق عليه "نظام العولمة".

والعولمة في أبسط تعريفاتها تعني: تيسير انتقال المعلومات والسلع والأموال والأفكار والعادات الاجتماعية والثقافية من الدول الصناعية المتقدّمة إلى أنحاء العالم، الأمر الذي يترتّب عليه انفتاح الأسواق وزوال الحواجز الجمركية وتقليص نفوذ الدولة الوطنية، لا سيّما في ظل الثورة العلمية - التقنية وتكنولوجيا المعلومات والإعلام والطفرة الرقمية "الديجيتيل"، والتي حقّقت تقدّماً هائلاً وغير مسبوق في مفهومَي الزمان والمكان، بحكم تحوّل العالم إلى "قرية صغيرة" متفاعلة على نحو متشابك، خصوصاً في الطور الرابع من الثورة الصناعية.

وأصبحت النيوليبرالية المرجعية الفكرية للعولمة، التي تقوم على عناصر عديدة أساسها اعتبار السوق الكيان المهيمن للرؤية الاقتصادية على نحو شبه مقدس وحرية تكاد تكون شبه مطلقة، وذلك بتحرير أسعار السلع والخدمات وخصخصة المجالات الحكومية ومشاريع القطاع العام، وإعادة النظر في دور الدولة لجهة إلغاء بعض واجباتها السابقة في رعاية المواطنين وتخلّيها عن دورها الاجتماعي والاقتصادي من جهة، وإلغاء وظيفتها في ضبط السوق، بتوسيع مجالها في حريّة انتقال السلع والخدمات والأفراد بلا مجهود من الداخل والخارج، أي بإغفال البُعد الاجتماعي لمفهوم العدالة واعتماد البقاء للأقوى اقتصادياً، وهكذا يصبح السوق في خطاب العولمة السياسي والثقافي هو الأساس.

والأمر لا يتوقف عند الجوانب الاقتصادية والسلع المادية، ولكن يمتد إلى الأبعاد الثقافية العميقة في التشكيل النفسي والقِيَمي للإنسان والمجتمع. وهكذا فالعولمة لا تستهدف الهيمنة الاقتصادية فقط، بل إنها تسعى لوضع اليد على الأنساق الثقافية المختلفة، وصبغها بلون مجتمع السوق، بحيث يتحدّد كل شيء في المجتمع بسعر السوق، حتى القيم الإنسانية والعلاقات بين البشر، لا سيّما تحت تأثير الإعلام الضخم والمفخِّم، ووسائل التواصل الاجتماعي. وكان فرانسيس فوكوياما المنظّر الأمريكي من أصل ياباني قد بشّر بذلك بكتابه: "نهاية التاريخ والإنسان الأخير"، معتبراً نمو الليبرالية الغربية الشكل النهائي لنظام الحكم.

واستندت ثقافة العولمة على أربع محاور أساسية وهي: نمط الاستهلاك وثقافته،  ونموذجها الأول: في الطعام المكدونالد، وذلك عبر دعاية غير مسبوقة. والثاني: ثقافة دافوس، القائمة على نخب من رجال أعمال وطامحين لبلوغ القِمّة، والثالث: ثقافة العقل أو النادي الثقافي، وأساسه شبكات أكاديمية ومؤسسات غير حكومية أو ما يسمّى بـ "المجتمع المدني"، المتأثر بالأفكار التي تروّج إليها المؤسسات الغربية وأيديولوجياتها غير البريئة، والرابع: الحركات السياسية المتأثّرة بالغرب والانفتاح، والداعية إلى مفاهيم عابرة لـ الوطنية والسيادة والاستقلال وحق تقرير المصير ومفاهيم العدالة الاجتماعية.

واعتمدت  الليبرالية على أدوات استخدمتها بشكل مؤثّر وفاعل مثل: الشركات المتعدّدة الجنسيات أو ما فوق القومية، والمؤسسات الاقتصادية العالمية، كـ البنك الدولي وصندوق النقد الدولي وحكومات الدول الكبرى وأدواتها مثل اتفاقية التبادل التجاري الحرّ والمناطق الحرّة وبرامج إعادة الهيكلة، إلى درجة أن الليبرالية الجديدة فرضت نفسها كفكرة مسيطرة وقوة مهيمنة متجاوزة الهوّة بين الشمال والجنوب، وبين الدول الغنية والفقيرة، وأصبح انتقال اللاجئين من الجنوب الفقير إلى الشمال الغني أحد مظاهر التغيير من دون أن تتهاون في مساعيها لاستتباع الدول والشعوب تحت مزاعم مناهضة الإرهاب الذي هو نتاج للتعصب ووليده التطرّف والعنف، وتحت شعار محاربته، تعمل على تأمين مصالحها، ولا سيّما بالهيمنة على الموارد الطبيعية وتأمين سيطرتها الاستراتيجية وحماية حلفائها.

وتناست الليبرالية شعاراتها التي بشّرت بها في الثلاثينات بالانتقال من دولة الحماية ودولة الرعاية إلى "دولة الرفاه" وفق النموذج الكينيزي، لأنها أصبحت تهدد المستقبل. ولعلها كانت مجرد "تراجع تاكتيكي" أيام الحرب الباردة، ورضوخاً لبعض مطالب الحركة الشعبية والعمالية في البلدان الرأسمالية.

هكذا سيكون غالبية سكان العالم خارج إطار المنافسة، لأن العولمة بطبيعتها تنحاز إلى الأغنياء على حساب باقي فئات المجتمع، فيزداد تركيز الثروة في أيدي الأقلية وتتسع الهوّة بين البشر، تحت عنوان البقاء للأصلح استناداً إلى نظرية داروين وتهميش الأقل قدرة، أي نزع البعد الأخلاقي عن عملية التنمية بحيث تصبح قوى السوق مساوية لقوى الطبيعة، وعلى الجميع الإذعان لها والتكيّف مع قوانينها، فلا مكان للتخلّف والفقر في هذه الغابة اللّاإنسانية، وذلك ما ينعكس اليوم على الصراع الأميركي - الصيني.

وإذا كان هناك وجه آخر للعولمة يقوم على عولمة الثقافة والحقوق والتكنولوجيا، لكن قوى السوق وديكتاتوريته ستشكّل رادعاً لعدم التراكم والتأثير على مسارها، بحكم جبروتها الاقتصادي ووسائل الإعلام الضخمة، التي تملكها، إضافة إلى ترسانة السلاح في إطار تقسيم ظالم وأنماط استهلاكية سريعة وموحّدة. فحتى الأحلام والأماني والأذواق والسلوك وأشكال الحياة ستكون منمذجة.

 

 

 

 

كوبا أمام مفترق طرق

عبد الحسين شعبان

طوى المؤتمر الثامن للحزب الشيوعي الكوبي (أبريل/نيسان 2021) صفحة طويلة من تاريخ كوبا "الثوري" امتدّت لأكثر من ستة عقود من الزمان حكم فيها فيديل كاسترو الزعيم التاريخي من العام 1959 ولغاية العام 2008، وأعقبه شقيقه راؤول كاسترو الذي تولّى منصب الأمين العام للحزب من العام 2011 إلى العام 2021، وقرّر الخلود إلى الراحة والتقاعد السياسي مفسحاً في المجال للجيل الجديد لتولّي المناصب العليا، لا سيّما بعد تعديل الدستور (ديسمبر/ كانون الأول 2018) الذي اعترف بالملكية الخاصة وإدارة مشاريع اقتصادية صغيرة للمواطنين وسمح للاستثمار الأجنبي.

اختار المؤتمر ميجيل دياز كانيل أميناً عاماً للحزب (60 عاماً) وكان قد شغل منصب رئيس الوزراء الذي استحدث في العام 2018. وهكذا يتم الانتقال بصورة سلمية وسلسة من "جيل الثورة" إلى "جيل الدولة"، فهل ستشهد البلاد تطوّرات جذرية أم أن التغيير سيكون عابراً؟

ولكي يُطمئن كانيل "الحرس القديم" غرّد عشية انعقاد المؤتمر قائلاً: "إنه مؤتمر الاستمرارية" مؤكّداً على أن الخطوط التوجيهية لن تتغيّر. وتعتبر كوبا إحدى البلدان الخمسة الشيوعية المتبقية في العالم (الصين، كوريا الشمالية، فيتنام، ولاووس)، وقد عانت من حصار أمريكي ومحاولات اختراق وإطاحة بسبب خيارها الاشتراكي، كما كانت أحد أسباب التوتر خلال فترة الحرب الباردة بين الشرق والغرب، ونجم عنها ما عُرف أزمة الصواريخ (أكتوبر/تشرين الأول 1962)، وظلّت هافانا مصدر قلق لواشنطن في عموم أمريكا اللاتينية.

ومع أن صحيفة "غرانما" الناطقة باسم الحزب، عنونت افتتاحيتها "مؤتمر كوبا ينعقد" مع صورة لفيديل كاسترو حاملاً بندقية، إلّا أن المؤتمر ناقش قضايا عقديّة كثيرة باحثاً عن "حلول انتقالية"، خصوصاً وأنها تعيش أزمة اقتصادية واجتماعية عميقة ومزمنة، تفاقمت خلال تفشي وباء كورونا، إلى درجة أصبحت الشوارع خالية من السيّاح الذين كانوا يتوافدون إليها، وازداد نقص المواد الغذائية شحّة، والطوابير أمام المتاجر طويلة والأسعار مرتفعة ولم ينفع معها زيادة الرواتب، وبدأ نوع من التذمّر شهد احتجاجات لفنانين ومجموعات من المجتمع المدني استغلّتها المعارضة مستفيدة من العقوبات المتفاقمة التي تعاني منها.

وخلال العقد ونيّف الماضي حاولت كوبا أن تتوجّه بحذر وتدرّج باتجاه الانفتاح على الأنترنت والهاتف النقّال والاستثمار الخارجي محاولة الالتفاف على نظام العقوبات الأمريكي، المطعون به من جانب الأمم المتحدة، ومستفيدة من سياسات الرئيس الأمريكي باراك أوباما للتخفيف من الضغوط التي تتعرّض لها، إلاّ أن مجيء الرئيس دونالد ترامب عطّل من مهمة تطبيع العلاقات بل مارس أقسى درجات الضغط عليها، ولا سيّما في العام 2019، حيث باشر بحجب أعداد السفن المتوجّهة إليها لغرض السياحة، وقام بـإغلاق وكالة "ويسترن يونيون" للتبادل المصرفي وتحويل العملات، حيث كان الكوبيون الذين يعملون بالخارج يقومون بإرسال المبالغ إلى أقاربهم.

حين صدر كتابي الموسوم "كوبا الحلم الغامض" (دار الفارابي، 2011) جئت فيه على خمسة حروب عاشتها كوبا وانتصرت فيها، وبقي أمامها "حربان"، أولهما الحرية وثانيهما التكنولوجيا. وما لم تنتصر بهذين الحربين فإن استمرار الوضع على ما هو عليه سيكون صعباً إن لم يكن مستحيلاً. فالعالم متجه إلى الإقرار بالتعددية والتنوّع وتوسيع دائرة الحريات ولا سيّما حريّة التعبير، فلم تعد سياسة "الحزب الواحد" مقبولة أو منطقية، مثلما لا بدّ لها من ولوج عالم التكنولوجيا، إذْ ليس من المعقول بقاء الوضع على ما هو عليه. والتكنولوجيا تحتاج إلى رأسمال وهذا الأخير يحتاج إلى بنية تحتية وهياكل ارتكازية وإمكانات وتسهيلات، خصوصاً وأن سياسات الحصار الظالم جعلتها جميعها متهالكة ومتآكلة.

بعد انتهاء الحرب الأهلية في روسيا 1923 ألقى لينين محاضرة قال فيها: إننا انتصرنا ولكن مَن يبني روسيا؟ أليس الرأسمال؟ وهذا لن يأتي إلا بشروطه وليس بشروطنا ولذلك ابتدع مشروع "رأسمالية الدولة".

ما ينتظر "جزيرة الحرية" ليس تغييراً فوقياً أو استبدالاً شكلياً، فهذا الشعب الذي اجترح عذابات لا حدود لها يحتاج إلى تغييرات جذرية، وإن كانت تدرجية في إطار التوجّه الاشتراكي، فــ كوبا جزء من العالم المتحرك وأرخبيلاته المفتوحة على بعضها، لا سيّما في ظل الطور الرابع من الثورة الصناعية والذكاء الاصطناعي، فقد غاب القادة الكارزميون مثل كاسترو وقبله جيفارا واليوم تقاعد راؤول الذي عاش بجلباب أخيه. ويبقى أمام كارنيل السير بالدولة الاشتراكية بالتدرج ولكن بالضبط، نحو العلم والتكنولوجيا في أجواء أكثر حرية وانفتاحاً، في مراكمة ما هو متحقق في الميادين الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والصحية والرياضية، في إطار مشروع "تجديد الثورة" وفقاً لمبادىء المشروعية الدستورية وحكم القانون وشرعية المنجز السياسي والثقافي، والتخلص من البيروقراطية الحزبية، كيما تكون كوبا أكثر قدرة في مواجهة التحديات "القديمة - الجديدة"، وأكثر ثقة بالمستقبل، خصوصاً بالعلم والتكنولوجيا. وكان بليخانوف الذي يسميه لينين "أبو الماركسية"، هو الذي قال أن حامل التغيير هو الأنتلجنسيا والتكنولوجيا، وذلك قبل قرن ونيّف من الزمان، وأعتقد أن هذا الرأي هو الأكثر انطباقاً على واقع كوبا الراهن.

 

روسيا والسيناريو

الجورجي في أوكرانيا

عبد الحسين شعبان

 

            هل يُعتبر الحشد العسكري الروسي على الحدود الأوكرانية استعراضاً للقوة أمام إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن أم محاولة لتكرار السيناريو الجورجي؟ سؤال ما زالت الدبلوماسية الدولية تبحث عن جواب له لدى الولايات المتحدة والإتّحاد الأوروبي، وهو يأتي في ظلّ استمرار نظام العقوبات ضدّ روسيا بسبب سياساتها في دول الجوار، ولا سيّما بيلاروسيا (روسيا البيضاء) وأوكرانيا، ناهيك عن التعامل مع المعارض الروسي أليكسي نافالني، أو على الصعيد الدولي في ما يتعلّق بـ الجبهة السورية تحديداً، وفي جبهة ليبيا أيضاً، وزاد الطين بلّة تجميع قوات عسكرية في مدينة فورونيغ على الحدود الأوكرانية، الأمر الذي أثار قلقاً كبيراً لدى الأوكرانيين وتساؤلات أمريكية وأوروبية مريبة عن الأهداف التي تسعى إليها موسكو من هذا التحشيد غير المسبوق.

            و ذكرت جين ساكي المتحدّثة بإسم البيت الأبيض أنّ عدد القوات الروسية على الحدود مع أوكرانيا هو أكبر من أي وقت مضى، بما فيها في العام 2014، في إشارة إلى ضمّ روسيا شبه جزيرة القرم إليها، وهي غالبية سكانّها من الروس في استفتاء نظمّته بعد السيطرة عليها، بدعوى تاريخية أنّ خروشوف (الأمين العام للحزب الشيوعي السوفياتي حينها)، هو من قام بإهدائها إلى أوكرانيا لتعزيز الوحدة الروسية - الأوكرانية، علماً بأن شبه جزيرة القرم منطقة استراتيجية بين البحر الأسود وبحر آزوف، وتنافست عليها في أواسط القرن التاسع عشر دولاً مثل بريطانيا وفرنسا للحدّ من طموحات روسيا في بلاد البلقان، واندلعت فيها حرب القرم، مثلما دارت فيها معارك طاحنة في الحرب العالمية الثانية ، ولا سيّما في مدينة سواستابول، ضدّ الغزاة الألمان، وكان الشاعر الجواهري قد نظم قصيدة يُمجّد بسالتها في العام 1943.

            ومع أجواء التوتّر هذه، أعلنت تركيا أنّ واشنطن أرسلت سفينتين حربيتين إلى البحر الأسود عبر البوسفور، وهذا يعني أنّ الأمور تُنذر بما هو أشدّ وأسوأ، لا سيّما وأنّ كييف تتّهم المجموعات الموالية لـ موسكو بخرق وقف إطلاق النار واتفاق السلام بينها وبين هذه المجموعات، والتي تمّ التوقيع عليها في العام 2015.

            وكان الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي قد دعا حلف الناتو إلى وضع خطّة لإنضمام أوكرانيا إليه، وهو ما تعارضه موسكو بشدّة وتعتبره عملاً عدائياً موّجهاً ضدّها، وقام عقب ذلك بيومين (8 نيسان/أبريل الجاري)، بزيارة شرق البلاد لتفقّد قوات الجيش على الجبهة  وقالت موسكو على لسان المتحدّث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف، أنّ الوضع مضطرب وغير مسبوق في إقليم دونباس، وإنّها ستتّخذ خطوات لحماية المدنيّين في حالة نشوب أي قتال شرقي أوكرانيا. وإذا ما اندلعت المواجهة، فهذا يعني إنفجار الأزمة بين موسكو من جهة وواشنطن وحلف الناتو من جهة أخرى، وسيكون الأمر امتحاناً جديداً لمستقبل علاقة روسيا بالغرب.

            إنّ التحركات الروسية الأخيرة هي رسالة شديدة اللهجة إلى كييف، والتاريخ قد يُعيد نفسه، ففي العام 2008 في إقليم أوسيتيا الجنوبية في جورجيا، كان السيناريو ذاته كما تقول روسيا بأنّها اكتشفت استعدادات جورجية لإجتياح أوسيتيا الجنوبية، حيث تتمركز قوات حفظ السلام الروسية، والتبرير ذاته أنّ الرئيس الجورجي حينها ميخائيل ساكاشفيلي لقي وعوداً من واشنطن بدعمه، وهو الأمر ذاته الذي يتكرّر اليوم بشأن دعم الناتو وواشنطن لأوكرانيا، وحيث تحتفظ القوات الروسية بحشد على الحدود في إطار مناورات عسكرية، فإنّها يُمكن استخدامها بصورة عاجلة في حالة حدوث أي اختلال في المستوى الميداني، في سيناريو مشابه للسيناريو الروسي في جورجيا.

            فهل تستمرّ كرة الثلج بالتدحرج مرّة أخرى في أوكرانيا مثلما تدحرجت في جورجيا؟ وما يلفت النظر أنّ العقيد بريتاني ستيورات كان على رأس وفد أمريكي في زيارة لإقليم دونباس، وكان يرتدي بدلة عليها شارة تتضمّن صورة جمجمة وعبارة "أوكرانيا أو الموت"، وهي لأحد ألوية الجيش الأوكراني، الأمر الذي يحمل رسائل عديدة إلى موسكو، فهل ستكون أوكرانيا بؤرة توتّر لحرب كونيّة بين واشنطن وموسكو؟

            إنّ اقتراب كييف من الناتو، كان أحد الأسباب المباشرة لوضع روسيا يدها على شبه جزيرة القرم في العام 2014 ، والتي تعتبرها جزءًا من مجالها الحيوي على الرغم من كونها "دولة مستقلّة" منذ العام 1919، لكنّ موسكو بعد تأسيس الإتحاد السوفياتي في العام 1922، اعتبرت الدول التي انضمّت إليها "محدودة السيادة"، وهي اليوم تعارض إقامة علاقات مع خصومها كي لا تكون خنجراً في خاصرتها.

            فهل ستزيد بروكسل عقوباتها على موسكو أكثر من العام 2014، والتي لم تنفع معها إعادة القديم إلى قدمه في أوكرانيا؟ وقبل ذلك في العام 2008 في السيناريو الجورجي؟ وحتى لو أكّد وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن على دعم الولايات المتحدّة الثّابت لسيادة أوكرانيا ووحدة أراضيها؟ ولكن ماذا ستفعل على الأرض عملياً وكيف سيتمّ ترجمة ذلك في ظلّ الترسانة النووية الروسية؟ هل بإرسال مساعدات وأسلحة لدفع أوكرانيا إلى الحرب؟ أم ستكون النتيجة تكرار السيناريو الجورجي في أوكرانيا؟

 

 

الياس مرقص: مُثقّفٌ قرأ

الماركسية بطريقة غير طقوسية

 

عبد الحسين شعبان

 

 

            حين أعلمني د.حازم نهار أن مجلة "رواق ميسلون" التي ستصدر حديثًا ستخصص العدد الأول منها للذكرى الثلاثين لرحيل المفكر الياس مرقص (26 كانون الثاني / يناير / 1991) ودعاني للانضمام إلى هيئتها الاستشارية التي تضم شخصيات عربية مرموقة، استجبت باعتزاز وتقدير لسببين:

الأول-لأن صديقنا الياس مرقص لم يأخذ حقه من القراءة والنقد، على الرغم من منجزه الفكري والثقافي وما رفد به المكتبة العربية من مؤلفات ودراسات وأبحاث وترجمات جلّها تضمنت اجتهادات وآراء نافذة.
            ولعلّها مناسبة لاستعادة مفكر بحجم الياس مرقص والتعريف به كجزء من العمل على إعادة طبع مؤلفاته وكتبه، سواءً المجموعة الكاملة أم مختارات منها، إذْ نحن اليوم أحوج ما نكون إليها، خصوصًا وأنه سبق مرحلته بربع قرن من الزمان أو ما يزيد، في حين حظي مفكرون أقل شأنًا منه باهتمام أكبر بحكم انتمائهم إلى جهات حزبية وسياسية، حكومية أم غير حكومية، تبنّتهم وقدّمتهم إلى القرّاء بحياتهم أو بعد مماتهم.

والثاني-إنها فرصة شخصية مناسبة للتّوقف ولو سريعًا عند الدور التنويري للياس مرقص، وكنت قد جئت على ذكره في مناسبات عديدة مشيدًا بدوره الذي سبقنا في المراجعة والنقد للماركسية، محاولًا قراءتها على نحو أشد ارتباطًا بالواقع، كما ربطتني علاقة صداقة طيبة بالياس مرقص خلال الثمانينات وتبادلنا وجهات النظر والآراء إزاء مشاكل الحركة الشيوعية والأزمة في حركة التحرّر الوطني العربية، كما جمعتنا مؤتمرات ولقاءات وأنشطة وفاعليات عديدة، وسأحاول في هذه الإطلالة السريعة، وهي أقرب إلى الخواطر والاستذكار، أن ألقي ضوءًا على بعض أفكار وآراء الياس مرقص أحد أبرز روّاد الماركسية بطبعتها "الحرّة" غير الحزبوية، تلك التي حاول تقديمها للقرّاء العرب مع إخضاع ممارستها للنقد والتصويب والاجتهاد.

II

"المثقف الأول" وخالد بكداش

            أسبغ الزعيم الشيوعي الكبير خالد بكداش وصف "المثقف الأول" على الياس مرقص لثقافته الموسوعية وعمقه الفلسفي وتبحّره بدراسة الماركسية من مصادرها الأصلية وقدرته على استنباط الأحكام انطلاقًا من الواقع وليس إسقاطًا عليه، فضلًا عن تمكّنه من إدارة الحوار والنقاش والسجال والجدل وصولًا إلى الحقيقة، بمعنى طرح الأسئلة الشائكة بدلًا من القبول بالأجوبة الجاهزة، وعلى حدّ تعبير الشاعر الكبير سعدي يوسف "النهايات مفتوحة دائمًا والبدايات مغلقة" فقد كان يمتلك باعًا طويلًا وصبرًا غير محدود، وهو ما تعكسه كتبه ومؤلفاته وترجماته وتدقيقاته. وكان بكداش ثاقب البصيرة في اكتشاف الشاب الوسيم والأنيق القادم من بروكسيل مستشرفًا أفقه الفكري ودأبه ومطاولته على القراءة والكتابة والنقد.

            لكن خالد بكداش الذي يُعرف بعميد الشيوعيين العرب، ولاسيّما لدى الدوائر الأممية منذ الثلاثينات غيّر رأيه لمجرد الاختلاف وبروز نزعات استقلالية ورؤية اجتهادية لدى مرقص، فعاد وخلع عنه هذا الوصف، ليتم اتهامه بالعمالة للمخابرات المركزية الأمريكية، ولعلّ مثل هذا الاتهام له علاقة بنمط التفكير الستاليني الذي كان سائدًا ولهيمنة الأفكار الشمولية وادّعاء إحتكار الحقيقة والزعم بالأفضلية على الآخر، فالحزب على حق دائمًا أخطأ أم أصاب، فما قيمة الفرد (العضو الحزبي) واجتهاداته طالما تتعارض مع ما تريده قيادة الحزب (العارفة بكل شيء).

            وهذه هي الحالة السائدة في جميع التنظيمات الشمولية "الكلّانية" التي اقتفت أثر التنظيمات الشيوعية، سواء كانت قوميّة أم إسلامية، حيث يتم معالجة الاجتهادات والاختلافات والخلافات داخل المنظومة الرسمية للحركة الشيوعية بطريقة التهميش والإقصاء مع سيل من الشكوك والاتهامات التي تصل إلى التحريم والتجريم، وبمثلها اتُّهم أمين عام الحزب الشيوعي اللبناني الشهيد جورج حاوي بسبب وجهات نظره وتوجهاته التّجديدية، والتي مثّلت فريقًا من كادر الصّف الثاني الذي ارتقى سلّم القيادة بعد المؤتمر الثاني للحزب (تموز/يوليو 1968) بتوجهات مختلفة عن القيادة التاريخية ممثلة بالرفيق خالد بكداش.

            والمسألة لا تتعلّق بمحاولة النيل من خالد بكداش الذي يتمتّع بمكانة مرموقة في تاريخ الحركة الشيوعية العربية والعالمية، لكن ذلك جزء من الحديث عن نواقصها وثغراتها وعيوبها، ناهيك عن نمط التفكير السائد والعقلية المهيمنة، فضلًا عن ممارسات وانتهاكات لا يجمعها جامع مع الأفكار المُعلنة.

            وثمّة أسباب فكرية وعملية أخرى لمثل هذا السلوك، يعود بعضها إلى ظروف الصراع الإيديولوجي في عهد الحرب الباردة بشكل خاص والمنافسة بين المعسكرين، فكل منهما يخفي عيوبه عن الآخر ويظهر مزاياه، ويستخدم الصالح والطالح والحق والباطل أحيانًا، طالما يقرّبه من هدفه حتى وإن لجأ إلى وسائل غير مشروعة وطرق ميكافيلية أحيانًا، بزعم أن هدفه نبيلٌ وإنسانيٌ على عكس عدوّه وخصمه، الأمر الذي يعطي لنفسه الحق باستخدام جميع الوسائل للوصول إلى الهدف النبيل، خصوصًا وأن العدو يستخدمها قلا بأس من الردّ عليه بالمثل.

            ويخطأ كثيرون بفصل الوسيلة عن الغاية، فمهما كانت الأفكار سامية وإنسانية ونبيلة إلّا أنها ليست معصومة ضد الارتكابات والانتهاكات للحقوق والكرامات الإنسانية، بل إنها ذاتها يمكن أن تصبح أداة حتّى للجريمة بزعم أن الحقائق المطلقة لصالحها مثلما تُقرّر الحتمية المستقبلية للتاريخ، فما قيمة الخطأ أو حتى الانتهاك لحقوق الفرد في ظل هذه التبريرات التي كان الياس مرقص شديد الحساسية إزاءها؟

            هكذا تصبح قرارات الزعيم أو القائد أو الأمين العام "القانون"  الذي يجب أن يخضع له الجميع، فما بالك حين يكون مكتبه السياسي خلفه من المطيعين في الغالب وهو الآخر تصبح قراراته ملزمة تُطبق بطريقة عمياء أحيانًا، علمًا بأن الأنظمة الداخلية للأحزاب الشيوعية وجميع الكيانات الشمولية مُستمدة من كتاب لينين : ما العمل؟ الصادر في العام 1902، والتي تُلزم العضو الحزبي بالخضوع والتنفيذ اللّاشرطي لقرارات الهيئات العليا والأقلية للأكثرية تحت عنوان المركزية الديمقراطية، التي تتحوّل بالواقع العملي إلى مركزية صارمة وشديدة البأس، تحت مبررات العمل السرّي أو مؤامرات العدو أو محاولات الاختراق الخارجية، ولعلّ ذلك ما واجه الياس مرقص وهو في بدايات حياته السياسية؛ وهو يسمع الحديث عن الرواسب الطبقية للبرجوازية الصغيرة، فضلًا عن تأثيرات الدعاية الامبريالية، لينتهي الأمر إلى اتهامه بالعمل لصالحها بعد طرده من الحزب في العام 1957.

            ربّما بسبب الأجواء "الإيمانية" التبشيرية السائدة وقلّة الوعي وشحّ فرص التعبير، يحجم الكثير من الشيوعيين عن رفع لواء النقد أو راية الاختلاف، حتى وإن توصّل بعضهم للحقائق ذاتها، لأنهم يخشون من العقوبات والاتهامات، فضلًا عن الأساليب التي تتّبع للتشهير والتشويه والعزل، وذلك لمنع تكوين نواتات صلبة فكريًا وسياسيًا تكون سابقة خطيرة للمواجهة والمجاهرة بالرأي، وغالبًا ما تنتهي تلك إلى الانشطارات والانقسامات، وهكذا يستمر جيل من الماركسيين بعد جيل يدفع الثمن باهظًا حيث يسود التّعصب والتّزمت والغلو والتهميش والإلغاء وتغييب النقد الصّادق والمراجعة المخلصة.

            من هؤلاء القلّة الذين لم يبالوا في التحدي والمواجهة كان الياس مرقص الذي امتشق سلاح النقد وسيلة مشروعة لتحقيق الأهداف السامية وفقًا لمنهجه الجدلي القائم على البراكسيس وليس المنهج التجريدي، في حين ضاع ماركسيون مجتهدون وناقدون حقيقيون في منظومة البروقراطية الحزبية ولفّهم النسيان بعد الصمت، سواءً بقوا داخلها أم اعتبروا خارجها، وتحملوا صنوفًا من الأذى والهوان بسبب آرائهم واجتهاداتهم. والأمر لا يقتصر على الشيوعيين العرب، بل أن الأنظمة التي حكمت باسم الشيوعية ارتكبت مجازر وأعمال إبادة حقيقية لا تقتصر على الإدارات الحزبية أو الملاكات والكوادر المتقدمة أو النخب الثقافية والفكرية فحسب، بل شملت جميع من يُشك بولائه، ومن الأمثلة على ذلك محاكمات ستالين الشهيرة في الثلاثينات، حيث أطاح برؤوس كبيرة اتُهمت بالعمل لصالح الأجهزة المعادية وفي مقدمتهم بوخارين الذي كان يسميه لينين "محبوب الحزب" فقد أعدم هو وابنه بالتهم الملفقة نفسها، والحال ذاته حصل في البلدان الاشتراكية السابقة، ناهيك عن الثورة الثقافية في الصين 1965-1976 والتي جسّدت ازدراء الفكر والثقافة لصالح السياسة الأنانية الضيقة الأفق.

            لم يكن الياس مرقص حزبيًا مسلكيًا وتقليديًا يتلقى الأوامر والتعليمات الحزبية وينفذها بحذافيرها ويستلم المطبوعات ويوزعها ويسدد الاشتراكات الشهرية ويجمع التبرعات فحسب، بل كان صاحب رأي ومجتهد وله وجهات نظر بما يحصل. وكانت ومضاته الفكرية ولمعاته الاجتهادية قد أخذت تتغلغل إلى المنظمة الحزبية في اللاذقية، حيث كان قد تلقى دروسه الأولى في الشيوعية خلال دراسته في بروكسيل يوم كان طالبًا يدرس علم الاجتماع والتربية، وخلال دراسته ارتبط بعلاقة مع طلبة سوريين شيوعيين يدرسون في بلجيكا، وحين عاد إلى سوريا في العام 1952 وعمل مدرسًا للفلسفة في مدينة اللاذقية (مسقط رأسه) انضم رسميًا إلى الحزب الشيوعي السوري-اللبناني في العام 1955.

            خلال وجوده القصير برز كمثقف متميز وقد تمكن من إحداث جدل ونقاش للتجديد والتغيير في المنظمة الحزبية في اللاذقية، الأمر الذي اعتبرته اللجنة المركزية بقيادة خالد بكداش خروجًا على التقاليد الحزبية وقواعد التنظيم اللينيني وأوامر القيادة "الستالينية"، ولعلّ ظاهرة مثل تلك تعتبر من الكبائر التي قد تؤدي إلى إحداث تصدّع في خط التفكير السائد، لذلك اتُّخذت الإجراءات السريعة والعاجلة ضدّه احترازًا بما يمكن أن يحصل من تفشي واستشراء هذه الظاهرة، فقررت القيادة حل اللجنة المنطقية وتأسيس قيادة جديدة لها تابعة للتوجيهات البيروقراطية والمركزية الصارمة كما أخبرني الياس مرقص بطريقته الفكاهية وابتسامته المحبّبة، وحين سألته والنتيجة ماذا حصل؟ أجاب كان لابدّ من طرد هذا "المشبوه" المتسلّل إلى صفوف الحزب والذي يريد تخريبه، لاسيّما محاولته إضعاف الثقة بالقيادة التاريخية، وهذا ما حصل في العام 1957، وما زاد الطين بلّة كما يقول أن ثمة ملاحظات كانت قد تبلورت لديّ بخصوص المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفييتي 1956، وكنت قد عبّرت عنها على شكل أسئلة انتقاديه، تمّ اعتبارها نوعًا من التشكيك بمكانة بلد لينين وحزبه البلشفي الذي كان خالد بكداش يردّد أن مقياس شيوعية الشيوعي تتحدّد بمدى إخلاصه للإتحاد السوفييتي وحزبه الشيوعي.

           

            III

فرج الله الحلو وقصور النظر الحزبوي

            استعدت ما حصل قبله لفرج الله الحلو (سالم) القائد الشيوعي اللبناني الذي تحفّظ على قرار التقسيم رقم 181 الصادر في 29 تشرين الثاني/ نوفمبر 1947 عن الجمعية العامّة للأمم المتحدة، فاتُخذت عقوبات بحقه وتم تنحيته من جميع مسؤولياته لاحقًا، لاسيّما حين تفاقمت الأمور (حزيران / يونيو / 1951)، وكانت هذه العقوبة تحصيل حاصل لمواقف انتقاديه أخرى في قيادة الحزب الشيوعي السوري-اللبناني، فقد جرى التآمر عليه بإرساله إلى باريس ولندن في مهمة خاصة وتمّ تعيين نيقولا شاوي بدلًا عنه وتحت إشراف خالد بكداش، وهو ما يندم عليه شاوي لاحقًا كما يذكر كريم مروّة.

             جدير بالذكر أن فرج الله الحلو اضطر لاحقًا إلى الإذعان وأجبر على تقديم نقد ذاتي، هو أقرب إلى "الجلد الذاتي" بإدانة نفسه وسلوكه البرجوازي الصغير وغرقه في حمأة الانتهازية وتحدّث بمرارة ووخز الضمير عن وقوعه تحت تأثير الميول الكوسموبوليتية الرجعية الغريبة عن عقلية الطبقة العاملة وموقفه المخزي من الاتحاد السوفييتي من قرار التقسيم كما قال بالنص الذي نشره يوسف الفيصل في كتابه "مواقف وذكريات"، وهو نص أقرب إلى رسالة "النقد الذاتي" التي كتبها زكي خيري القيادي الشيوعي افتراءً على نفسه وتقريعًا لها بعد معاقبته في العام 1962 بتهمة التكتل ضد قيادة السلام عادل ، وهو ما كانت تقتضيه التقاليد الحزبية الثقيلة والّاإنسانية.

            لم يكن موقف فرج وحده ضد التقسيم الذي تحمّل بسببه أعباءً كثيرة، بل إن سكرتير الحزب الشيوعي السوري رشاد عيسى الذي يأتي بمرتبة ثانية بعد خالد بكداش في دمشق ظلّ رافضًا لقرار التقسيم وقد وجّه رسالة يعتذر فيها عن تحمّل المسؤولية الحزبية بعد إعلان معارضته لقرار التقسيم، الأمر الذي تمت محاسبته عليه حيث إتُّخذ قرارًا بفصله لمدة عام لحين أن يقدّم نقدًا ذاتيًا، وحين امتنع عن ذلك، جرى فصله والتشهير به، وقد نشرت صحيفة الحزب " نضال الشعب" قرار الفصل؛ وقد ظل رشاد عيسى على مسافة بينه وبين الحزب لحين وفاته، لكن المؤتمر السادس للحزب صحّح موقفه منه (شباط / فبراير / 1987) واتخذ قرارًا بـإلغاء الفصل، وهو القرار الذي إتُّخذ بحق الياس مرقص أيضًا أي بعد عقود من الزمان، وقد أطلّ كريم مروّة في كتاب بعنوان "الشيوعيون الأربعة الكبار في تاريخ لبنان الحديث" على قضية رشاد عيسى التي تناولها يوسف فيصل بالتفصيل.

IV

المثقّف الراقي والإعتداد بالنفس

            قبل فصله كان الشاب المتحدّر من أسرة لاذقانية عريقة يطرح أسئلة عويصة في وسط مقتنع بطريقة أقرب إلى الإيمانية، وهي أسئلة بحمولة نقدية، لم تلق إجابات شافية في نفسه فقد  كان قد درس كانط ونظريته المعرفية وأعماله الأساسية مثل نقد العقل الخالص "المجرد" ونقد العقل العملي، فضلًا عن كتاباته في التنوير والأخلاق والدين، كما قرأ ديكارت صاحب نظرية الشك المعرفي الذي يعتبر عرّاب الفلسفة العقلانية الحديثة وهو القائل: "أنا أفكر إذًا أنا موجود"، الأمر الذي كانت الأسئلة تتوالد عنده، وبقدر ما كانت الإجابات شحيحة أو غير مقنعة كان يزداد حيرةً، فما بالك حين يتم التشهير به بعد ذلك، وهو المكلّف بالإشراف على منظمات حزبية في جولات تثقيفية طاف فيها على مدن وأحياء عديدة ملاحظًا انخفاض مستوى الوعي وتدني الإلمام بأبسط مبادئ "الماركسية" والافتقار إلى المعلومات الأساسية، فضلًا عن تغليب الأوامرية البيروقراطية على الجدل والمنطق والعقل، بحجة الضبط الحديدي والتنظيم الفولاذي.

            لم يقبل الياس مرقص وهو صاحب الرأي المستقل أن يُستغفل عقله وأن يطيع ما لا يرتضيه من سياسات تلقينية وتعليمات فوقية بعضها بدائية، فما بالك حين يتعلّق الأمر بالفكر والممارسة، وكان بدافع من حسن النية قد اقترح توسيع دائرة الديمقراطية الحزبية على حساب المركزية الشديدة التي كانت تطبع الحياة الحزبية لدرجة أشبه بالتنظيمات العسكرية، كما اقترح وضع نظام داخلي جديد، ملفتًا النظر إلى موضوع عبادة الفرد ، لاسيّما ما تركت القيادة الستالينية من أساليب بوليسية وامتداداتها على الحركة الشيوعية برمتها، كما انتقد الماركسية السوفييتية أو "المسيفتة" على حد تعبيره ، وظلّ يدعو إلى تعريب الماركسية، أي جعلها تبحث في واقع العالم العربي وليس بطريقة مجردة أو اقتباسية لأوضاع لا تشبه أوضاعنا، وكان يدعو إلى عدم تجاهل الشروط الموضوعية لتاريخ الأمم والشعوب.

             وفي حديث مطول مع الياس مرقص ونحن على الطائرة عائدين من طرابلس (ليبيا) إلى الشام قلت له "هل يمكن البحث عن تأسيس فكر اجتماعي عربي ماركسي جديد؟ وهنا تناول موضوع البنية الروحية لموروث الشعوب وبيّن أهمية آليات الفهم والتأويل الفلسفي لها بحيث لا نركن إلى القطيعة العقلية مع موضوع الهُويّات والانتماءات القومية وإلا فإننا سنتحدث عن مجتمعات لا نعرفها، قلت له وكيف السبيل للتوليف بين الهويّات العامة الجامعة والهويّات الفرعية؟ فأردف قائلًا في إطار قوانين عامّة نحتاج إلى الاعتراف بالحقوق التي تترتب وفقًا لاحترام الخصوصيات والتّنوع والتعدّدية، ولا ينبغي أن نأخذ النصوص على علّاتها، بل نُخضع كلّ شيء للنقد، لأن النصوص لابدّ لها أن تتكلم وإلّا ستكون جامدة أي بلا روح، وبالتطبيق والممارسة ستكون لها دلالة ومعنى، لاسيّما إذا كانت متساوقة مع المنهج الجدلي، وبالطّبع فلكل تجربة ظروفها وخصوصيتها.

            وهنا أدون رأيي الـذي تبلور خلال العقود الثلاثة ونيّف الماضية، والـذي مفاده أننا تركنا خزانة الكتب التاريخية والدينية للقوى والأحزاب الإسلامية أو "الإسلاموية" وأدرنا ظهورنا للتراث العربي-الإسلامي، كما أهملنا موضوع الانتماء التاريخي لشعوبنا واعتبرناه من اختصاص قوى وأحزاب قومية في الغالب أو "قوموية" وبعضها لم يكن بعيدًا عن ترسانة الفكر الأوروبي، وقد استطاعت هذه الأحزاب والقوى تجيير مسألة العروبة لصالحها، بل إنها سحبت الشارع أحيانًا إلى صفها، وهي بعيدة كل البعد عن تحقيق مستلزمات العروبة بتعبيراتها الحضارية والثقافية والارتقاء بمتطلباتها كرابطة طبيعية لأبناء الأمّة وليست ايديولوجيا أو نظام، فما بالك حين انفردت بادعاء الوعي التاريخي بأهميتها كهويّة خاصة ومكوّن أساسي هي من يعبّر عنه ويزعم تمثيله.

            كتبت ذلك منطلقًا من ذات الأرضيّة التي وقف عليها الياس مرقص بما مفاده أنني كنت أعجَب أن شيوعيًا كرديًا يعتزّ بكرديته "كراديتي" ولا يقابله شيوعي عربي الاعتزاز ذاته بعروبته، والأمر كان يحصل لي بذات الدهشة حين أقابل شيوعيًا روسيًا أو تركيًا أو إيرانيًا أو فرنسيًا يعتزّ كل منهم بقوميته في حين لم نكن نجد وسيلة إلّا وحاولنا الانتقاص من الانتماء القومي لاسيّما العربي متبرعين له للآخرين، ولذلك كررت في مناسبات عديدة اعتزازي بعروبتي وكأن الأمر جزء من التعويض عن الحرج الذي يسبّبه أصحابنا الشيوعيين "الأقحاح" حين نتكلّم عن العروبة، دون أن يعني ذلك عدم احترام حقوق القوميات الأخرى، لاسيّما حقها في تقرير مصيرها، وتلك كانت الأرضية التي وقف عليها الياس مرقص.

V

اللقاء مع الياس مرقص

            كانت تلك الموضوعات الأولى التي ابتدأت حواري مع الياس مرقص في العام 1981 حين استكمل تعارفنا، وكانت شهرته قد سبقته وقد قرأت له قبل ذلك وتوقفت بإعجاب عن الكثير من الأطروحات التي بلورها، وكان ذلك اللقاء مدعاة لقراءة العديد من كتبه وحواراته فيما بعد، وخصوصًا الحوار الممتع والشيّق والعميق الذي أجراه الصديق جاد كريم الجباعي مع الياس مرقص، وهو حوار استراتيجي بعيد النظر قدّم فيه أطروحاته الفلسفية على نحو ما أفاضت به تجربته، واطلعت كذلك على حوار غير منشور أجراه طلال نعمة مع مرقص صدر بكتاب وللأسف لم يتسنى لي مراجعته مؤخرًا.

            في أواسط الثمانينات سألني عن أوضاعنا، خصوصًا بعد الاختلاف في المواقف بشأن الحرب العراقية-الإيرانية وقضايا سياسية وتنظيميّة أخرى فضلًا عن بعض القضايا الفكرية، فأجبته "الحال من بعض"، فخاطبني قائلًا: كنت أتصور أن الحال لديكم أفضل، فإذا بكم مثلنا، وهكذا "كلّنا في الهمّ عُرب"، يبدو أن أمراضنا مزمنة وعدواها تنتقل من بلد إلى آخر ولو أنكم في المنافي، وذكرني كيف تعرّض بعد فصله إلى الضرب، مرّة في اللاذقية وأخرى في الشام، وحين عرف ما حصل من تجاوزات وانتهاكات قال: الستالينية متأصلة فينا يا رجل، فهل يعقل إن يتم اتهامي بالعمل لصالح  المخابرات المركزية الأمريكية وفي الوقت نفسه لصالح المخابرات المصرية، لأنني كنت معجبًا بقيادة جمال عبد الناصر وخصوصًا أطروحته الوحدوية بعد تأميمه قناة السويس؟

الياس مرقص: الحاجة إلى قراءة جديدة

            بعد قراءة جديدة لآراء الياس مرقص أستطيع أن أقسمها إلى مرحلتين:

الأولى – من أوساط الخمسينات، حيث بدأ بالتأليف والترجمة وتمتد هذه الفترة إلى أوساط السبعينات، ومن أهم مؤلفاته "الستالينية والمسألة القومية" (مع آخرين) و"نقد الفكر القومي عند ساطع الحصري" و"نقد الفكر المقاوم".

الثانية – من أوائل السبعينات وحتى وفاته مطلع العام 1991 حين انكبّ على ترجمات كتب فلسفية قاربت 30 كتابًا شملت :هيغل وماركس وفيورباخ ولينين وجورج لوكاش ومكسيم رودنسون وماوتسي تونغ وروجيه غارودي، وقد أنشأ "دار الحقيقة" للنشر، وأصدر في العام 1981 "مجلة الواقع" في بيروت، وقد دعاني للكتابة فيها، وحين أنجزت بحثًا كانت المجلة قد انقطعت عن الصدور بسبب الغزو الإسرائيلي للبنان العام 1982، كما ساهم في تأسيس "مجلة الوحدة" مع نخبة من المفكرين والمثقفين العرب، في العام وقد دعاني وناجي علّوش للكتابة فيها، 1984 وقد ساهمت فيها بعدّة أبحاث ودراسات، وكانت تصدر من الرباط (المغرب) من "المجلس القومي للثقافة العربية"، كما شاركت في ندوات نظمتها أو تعاونت في تنظيمها مع جهات أخرى وذلك في دمشق وأثينا وطرابلس وبيروت.

 

VI

البراكسيس و"جرد الواقع"

            انشغل الياس مرقص بدراسته الواقع التي يسميها الصديق د.عبد الله التركماني "جرد الواقع"، ولم يهتم بالنظرية فحسب، بل بالتطبيق "البراكسيس" وأي نظرية تبقى "مجردة" دون فحصها بالواقع، وهو معيار صحتها من عدمه وقرب الهدف من الواقع أو بعده عنه، خصوصًا علاقة الغاية بالوسيلة، فلا غايات شريفة دون وسائل شريفة، ولا غايات عادلة دون وسائل عادلة، وإذا كانت الغاية مجردة وبعيدة المدى فإن الوسيلة آنية وملموسة، وأحيانًا تتشابه الغايات، لكن تختلف الوسائل، وهو الأمر الذي يميّز غاية عن أخرى أي بقدر اتساق الوسيلة بالغاية، فذلك سيكون دليل صدقية أخلاقية ومعيارية مبدئية، فالعلاقة بين الغاية والوسيلة ينبغي أن تكون مثل العلاقة بين البذرة والشجرة حسب المهاتما غاندي أي أنها علاقة عضوية وموضوعية وجدلية فلا انفصال بينهما.

            وتوصل مرقص إلى إدراك ذلك ليس عبر النظرية فحسب، بل من ملاحظة الواقع وفي التطبيق العملي (البراكسيس)، فقد درس التاريخ والفلسفة، وكما يُقال أن التاريخ أبو العلوم أمّا الفلسفة فهي أمهم، وبالطبع فلكل علم فلسفة مثلما له تاريخ، كما درس الاقتصاد والاجتماع والمنطق وعلم النفس واللاهوت والفن، ودون أن يهمل الرياضيات، وهو ما جعله مثقفًا موسوعيًا بامتياز دون ادعاء أو حب الظهور.

            لم يهتم الياس مرقص بالمجتمع ويهمل الفرد، وهذا خطل الكثير من النظريات الاشتراكية الماركسية وغير الماركسية، في حين أن الدعوات الليبرالية بالغت بدور الفرد وأهملت المجتمع وهذا خطأ آخر وإنما انشغل بالمجتمع والفرد في آن، والمجتمع مكوّن من أفراد، بينهم مشتركات عامة مثلما بينهم مختلفات خاصة، ولذلك خصّص حيّزًا من دراساته لبحث موضوع "الحق في الاختلاف" باعتباره حقيقة موضوعية، وهو ما عرضه جاد الكريم الجباعي بتطبيقه على الهويّة الجامعة وذلك بالقول " المجتمع الذّي تتحقّق فيه الهويّة القوميّة هو مجتمع التعدّد والاختلاف والتناقض أو التعارض الذّي يصنع التاريخ الداخلي للأمّة" ولذلك فاختلاف الأفراد والجماعات والفئات والطبقات والشعوب والأقاليم هو السمة المميّزة للمجتمع، لأن المجتمع الذي يلغي حرية الفرد يلغي حريته ذاته.

            ويحتاج الأمر حسب مرقص إلى المزيد من الاعتراف والحرية على المستويين الخاص والعام، وقد ميّز بين الفلسفة والأيديولوجيا، فالأولى عنده هي نظرية المعرفة وهذه الأخيرة بالضدّ من الأيديولوجيا، وهي الأخرى ليست حاملة للحق مثلما نقيضها ليست حاملة للباطل (الاشتراكية وعكسها الرأسمالية) وحسب تعبيره "ليس الأيديولوجيا هي التي تنقصنا، بل المعرفة والثقافة والاخلاق والمنطق."

VII

رُكنا المشروع النهضوي لـ الياس مرقص

            يقوم المشروع النهضوي العربي للياس مرقص على ركنين أساسيين هما:

أولهما- الوحدة العربية وهي حسب وجهة نظره ضرورة تاريخية لا غنى عنها للتقدم العربي، ولكنها لوحدها ليست كافية، ولا بدّ من مضمون اجتماعي واقتصادي وسياسي خاص لها، أي أن تكون الوحدة العربية التّي كرّس لها جزءً مهمًا من مشروعه: اجتماعية الأهداف وديمقراطية الوسائل، وثانيهما- العدالة الاجتماعية وتوفير مستلزمات عيش كريم للمواطن للقضاء على الاستغلال وتحقيق الوفرة المادية والرفاه الاجتماعي.

            ولكن ما السبيل للوصول إلى تحقيق ذلك؟ يقول الياس مرقص: إن الأمر يتعلّق ببناء الوعي العربي، وهذا البناء لا بدّ أن يستند إلى ثلاث رافعات هي: الاولى- الإنسانية والثانية- العقلانية والثالثة- الديمقراطية.

            ثم يتساءل من ينجز عملية الوحدة؟ هل الحزب أم الطبقة أم الفئة المعنية؟ يقول مرقص: الوحدة تنجز عبر حركة الأمة وليس حركة طبقات أو فئات أو أحزاب، ويحتاج الأمر إلى مواجهة التخلّف والتجزئة ودون ذلك لا يمكن إحداث التراكم المطلوب، بما فيه مواجهة الإمبريالية والاحتلال الصهيوني.

            إن الوحدة حسب مرقص "عملية مركّبة" لا تُتَّخذْ بقرار لإلغاء الظروف والاختلافات، سواء بالتوحيد "القسري" العسكري أم بعدم الاعتراف بالتمايزات، وإنما تؤسس الوحدة على الاختلاف والتعدّد، وهو اختلاف بين المجتمعات العربية واختلاف بين الأفراد في كل مجتمع.

            لقد انطلق الياس مرقص بمشروعه النهضوي من الفكري وصولًا إلى السياسي، وحسب تعبيره إن بلادنا لن تنهض إلّا إذا تغلّب فيها الفكري"العقلاني" على السياسي أو السياسوي، والسياسة وإن كانت تعني فعل الخير، فإنّها في نهاية المطاف لا بدّ لها أن تنطلق من العقل والعقلانية، ولذلك يصبح الفلسفي شقيق السياسي، والاجتماعي شقيق المنطقي.

            كابد الياس مرقص من هيمنة السياسة على الثقافة، خصوصًا في الفترة الجدانوفية التي رفعت لواء ما سمي بـ"الواقعية الاشتراكية""، وكان ضد حرق المراحل وفي هذا الأمر كان أقرب إلى بليخانوف الذي انتقد "اشتراكية الدولة" وهي الوجه الآخر لرأسمالية الدولة "السياسة الاقتصادية الجديدة NEP" ، واعتبر مرقص أن انهيار الاتحاد السوفييتي لم يكن سببه البريسترويكا وإنما السياسات المتّبعة ونقص الحرّيات.

VIII

على هامش الحوار القومي-الماركسي

            في جلسة مطوّلة امتدت إلى الثالثة صباحًا في منزلي بدمشق (المزّة) حدثني عن علاقته بالمفكر ياسين الحافظ التي بدأت في العام 1953، وذلك استكمالًا للحوار الذي دار بيننا في طرابلس، وقد سألته عن هذا التلاقح بين العروبة والماركسية فأشار إلى ما كان يردده الحافظ عن الثورة من "إنها حفرٌ في العمق في حين أن الانقلاب نقر في السطح" وذلك بالعودة إلى موضوع حرق المراحل وأحيانًا استخدام أساليب قسرية ولاإنسانية لتبرير عملية التحول الثوري المنشود بزعم أن العنف أحيانًا ضرورة لا غنى عنها، وهو الأمر الذي دفع روزا لوكسمبورغ لانتقاد لينين وتروتسكي بقولها: الثورة ليست حمّام دم ولكن شيء آخر مختلف وإن دكتاتورية حفنة من السياسيين ستؤدي إلى الهمجية في الحياة العامة وإلى الإرهاب وإعدام المعارضين".

            كان ذلك الحديث على هامش الحوار القومي-الماركسي الذي التأم في طرابلس الغرب (ليبيا) في أواسط الثمانيات والذي شارك فيه نخبة متميزة من السياسيين والمثقفين من التيارين بينهم على ما أتذكر:جورج حاوي وجورج بطل (لبنان) ود. عمر علي (رئيس الدائرة الأيديولوجية في اليمن ورئيس الجامعة) أديب ديمتري(مصر) عبدلله العياشي(المغرب)، عربي عواد (فلسطين)، الياس مرقص(سوريا) وعبد الحسين شعبان(العراق).

            ومن القوميين والنّاصريين بتوجهاتهم المختلفة شارك كل من: محمد فايق، كامل الزهيري (مصر)، عبد الرحمان النعيمي (الجبهة الشعبية في البحرين)، تيسير قبعة (الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين)، إنعام رعد(الحزب السوري القومي الاجتماعي) ونجاح واكيم (لبنان)، ناجي علوش(فلسطين) وطلال ناجي (الجبهة الشعبية-القيادة العامة) وسمير غوشة وخالد عبد المجيد(فلسطين- جبهة النضال الشعبي)، عوني صادق (فلسطين)، السفير الفلسطيني في طرابلس(فتح) وممثل عن الجبهة الديمقراطية، وأحمد سالم(اليمن).

            كما حدثني عن لقاءات خاصة مع علي صالح السعدي بصحبة ياسين الحافظ في الستينات من القرن الماضي وكيف تم تأسيس "حزب العمّال الثوري العربي" من قبل مجموعة من البعثيين العراقيين ومن تأثّر بهم ممن تمّ طردهم عشية انقلاب 18 تشرين الثاني/نوفمبر1963 في العراق ومنهم محسن الشيخ راضي وهاني الفكيكي وحميد خلخال وحمدي عبد المجيد الذي تحدّث عن بعض مزاياه.

            وكنت قد اصطحبته إلى منزلي بعد أن عرفت أنه سيبقى في الشام إلى اليوم الثاني لعدم وجود سيارة(حافلة) إلى اللاذقية، فقلت له ستبقى في بيتك، وهكذا توجهنا من المطار إلى المنزل، وبعد أن استرحنا قليلًا عرضت عليه الذهاب إلى مطعم أبو صيّاح العجلوني بالربوة وهو مكان تاريخي كان يلتقي فيه القوميون العرب في الخمسينات كما هو معروف، وكنت أتردد عليه أحيانًا، وفعلًا ذهبنا إلى المطعم وأكلنا وشربنا وتحاورنا، وعدنا إلى المنزل لنستكمل الحوار، وقد استيقظ صباحًا ليتوجه إلى كراج السيارات، وبعد ربع ساعة اتصل بي مهدي الحافظ وكان قد وصل الشام يوم وصولنا إليها، فسألني أين كنت فقد حاولت الاتصال بك عدّة مرات يوم أمس فأخبرته بأنني عدت من طرابلس  ومعي الياس مرقص فقال لي كنت أود التعرف عليه، فقلت له لقد غادر إلى اللاذقية قبل قليل، وإذا كنت ستخبرني في المرة القادمة عند مجيئك فيمكننا الذهاب إلى اللاذقية واللقاء به وسنأكل السمك اللّذيذ في مطعم سبيرو الشهير على البحر.

رحيل حزين يختلط بالحزن على بغداد

            وصلني خبر وفاة الصديق مرقص حين كانت الطائرات الأمريكية تقصف بغداد، حيث كانت الحرب قد اندلعت في 17 كانون الثاني/ يناير 1991 لإخراج القوات العراقية من الكويت التي احتلتها قوات النظام السابق في( 2 آب/اغسطس، العام 1990)، وأدّت إلى تدمير العراق وفرض حصار دولي جائر عليه.

            كل شيء كان غائمًا ومضببًا وحزينًا، إلّا أن موت صديق ومفكر بمنزلة الياس مرقص كان له حزن خاص، فهذا الرجل الذي غادرنا سريعًا، وهو لم يتجاوز الستين إلّا بسنتين، وكان في ذروة إنتاجه وعطائه وقمّة تألّقه الفكري والإبداعي، اتّسم بصفات الكبار من العلماء فكان متواضعًا وبسيطًا ومتسامحًا ومحبًا للخير،امتاز بالانفتاح على جميع التيارات متجاوزًا الحساسيات والبلوكات القائمة، بل حاول أن يفتح قناطر بينها من خلال مقارباته وحواراته.

            رحل الياس مرقص وهو نظيف الفكر ونظيف القلب ونظيف اليد ونظيف اللسان ونظيف الهندام، رحل المثقف النظيف وهو نموذج للمثقف العضوي الذي تحدث عنه المفكر الماركسي الإيطالي انطونيو غرامشي. ولعلّ الوفاء لذكراه هو إعادة طبع أعماله وجعلها بيد القارئ العربي وقد يكون لقراءتها الراهنة نكهةٌ جديدة، خصوصًا أنه سبقنا في آرائه واجتهاداته، وتلك فضيلته الأولى وهو الذي استحق لقب "المثقف الأول".

***

 

نُشرت في مجلة ميسلون (العدد الأول - شباط/فبراير - 2021، تحت عنوان: الياس مرقص - المثقف الأول)، وأعيد نشرها في جريدة الزمان العراقية (بغداد - لندن) في 10 نيسان/ أبريل 2021

 

 

المجتمع المدني ...

استلحاق أم استحقاق؟

 

عبد الحسين شعبان

            حين صدر كتابي «المجتمع المدني- الوجه الآخر للسياسة» أهديته إلى ثلاث شخصيات عراقية متميّزة هي: عالم الاجتماع علي الوردي مجدّد المدرسة الخلدونية، لشجاعته الفكرية وأبحاثه الريادية في سبر أغوار المجتمع العراقي والشخصية العراقية، وعبد الفتاح إبراهيم أحد أبرز مؤسسي تيار جماعة الأهالي اليساري لدوره في الدفاع عن قيم المجتمع المدني، وأديب الجادر نقيب المهندسين العراقيين الأقدم وأحد أبرز مؤسسي المنظمة العربية لحقوق الإنسان ورئيسها لاحقاً لدوره القيادي المتميّز والنزيه في حركة المجتمع المدني العربي. والكتاب بقدر ما يدرس المجتمع المدني وسماته ومقوّماته فإنه يسلط الضوء على بعض ألغامه واختراقاته، ولذلك حمل عنواناً فرعياً موسوماً بـ "نوافذ وألغام"

             أخذت فكرة المجتمع المدني العربي بالتداول في ثمانينات القرن الماضي على نحو محدود، وانتشرت واتسعت وتطوّرت، بعد انهيار الكتلة الاشتراكية وانتهاء الحرب الباردة، بصيغتها القديمة بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي، وعلى نحو سريع تأسست عشرات الآلاف من المنظمات على امتداد الوطن العربي مثلما حصل في جميع أنحاء العالم، الأمر الذي طرح أسئلة حول موقع المجتمع المدني وفلسفته ودوره ومصادر قوته وعناصر ضعفه، علماً أن المصطلح ذاته لا يزال يثير التباساً وإبهاماً يتوزّع بين التوقير والتحقير وبين التقديس والتدنيس، وفي أحسن الأحوال ينظر إليه البعض بصفته أقرب إلى الكماليات والترف الفكري منه إلى الحاجة الماسّة في ظل حروب ونزاعات وعنف وإرهاب وتداخلات خارجية إقليمية ودولية، فضلاً عن أزمات اقتصادية واجتماعية وصحية وبيئية طاغية.

            يمكن القول إن فكرة المجتمع المدني حظيت بمكانة خاصة في الدولة الحديثة، والأمر يتعلق بمستويين، أولهما- نشأتها وتطورها، لاسيّما موضوع الحرية الفردية وشرعية نظام الحكم ودرجة تمثيله للناس وآلية اختيار المحكومين للحكام (أي تداولية السلطة). وثانيهما تطور فكرة الحداثة ذاتها كمشروع متطلع للمستقبل، علماً أن العلاقة بين الدولة والمجتمع المدني علاقة معقدة ومركّبة ومتداخلة في الكثير من الأحيان.. فهل هي علاقة استلحاق أم علاقة استحقاق؟ وهل هي علاقة عدائية أم تصالحية؟ وبالتالي هل هي علاقة تصارعية أم تكاملية؟ أي هل هي علاقة استتباعية أم تشاركية؟ وهو ما يتحدّد بطبيعة نظام الحكم ومدى قوة المجتمع المدني ليكون تكميلياً وليس تبعياً.

            وحسب هيغل فإن العقد الاجتماعي ينشئ مجتمعاً مدنياً يتمايز عن الدولة قوامه الأفراد الأحرار، في حين يرفض ماركس الفكرة التي تقول إنه يمثل الحقل الثالث بين الدولة والفرد، انطلاقاً من الحلم الإنساني الذي يتجلى بإزالة الفوارق بين المجتمع والفرد والدولة، وهو ما يجسّد فكرة التحرر الإنساني. أما دو توكفيل فيعتبر مهمة المجتمع المدني المكوّن من جمعيات ومنظمات طوعية هي حماية الدولة من الانزلاق في التجاوز على حقوق الأفراد، وقد سعى غرامشي لإعطاء مفهوم المجتمع المدني نكهة أخرى جديدة ذات أبعاد معيارية، باعتباره الفضاء للتنافس الإيديولوجي من أجل الهيمنة بميله إلى التوسط بين الدولة والفرد.

             وهكذا فليس هناك مطابقة بين المجتمع المدني والدولة، وإنما هو أقرب إلى حالة مفاصلة، في إطار جدلية تمثل سيرورة حيوية يمكن ملاحظتها في التطورات التي حصلت في العديد من البلدان في أمريكا اللاتينية وأوروبا الشرقية وآسيا وإفريقيا في العقود الثلاثة ونيّف المنصرمة.

            لقد كانت لحظة تحرّر المجتمع في أوروبا والغرب عموماً من أسْر الكنيسة ومن تبعات نظرية الحق الإلهي في الحكم، الخطوة الأولى على طريق قيام مجتمع مدني على أساس فكرة التعاقد بين الدولة والمجتمع وفقاً للإرادة الحرّة، وذلك بالسعي إلى تأصيل نظرية الإرادة الاجتماعية القائمة على التعاقد، حيث يتنازل فيه الأفراد عن حرّياتهم الكاملة لصالح الدولة، وهو ما دعا مونتسكيو لتصوّر حالة من التوازن بين الدولة والمنظمات الاجتماعية والسياسية، وهذا التوازن يجعل حكم القانون ممكناً، أي أن المجتمع المدني يتمايز عن السلطة ويكون خارجها في إطار حكم القانون، فهل مثل هذا الدور واقع في ظروف المجتمع المدني العربي؟

            إن المجتمع المدني العربي ما زال ناشئاً وهو في طور التكوّن وفي بعض البلدان لا يزال جنينياً وأقرب إلى الإرهاص، ولا يزال في بداية طريقه يسعى للحصول على الاعتراف والترخيص القانوني، حيث تتبلور مطالبته بالإصلاح والمشاركة في عملية التنمية. وأعتقد أن ذلك جزء من مسار كوني لا يمكن لأي بلد عربي أن يعزل نفسه عنه، فالعالم العربي لا يعيش في جزر معزولة، وإنما يتفاعل مع محيطه.

            ولكي يسلك المجتمع المدني الطريق الصحيح فإنه ينبغي عليه الفصل بينه وبين العمل السياسي واتباع نهج سلمي مدني وعلني نابذ للعنف وخاضع للقوانين والأنظمة المرعية، كما لا بدّ من وضع مسافة بينه وبين السلطات الحاكمة من جهة وبينه وبين المعارضات من جهة أخرى، وللحفاظ على استقلاليته يحتاج إلى حصانة وطنية لعدم اختراقه، لاسيّما بتحديد أولوياته من العلاقة بجهات التمويل الدولية، كي يصبح استحقاقاً وليس استلحاقاً.

drhussainshaban21@gmail.com     

 

 

الحب وخريف البطريك

عبدالحسين شعبان

1

هاهو عيد الحب يطلّ علينا من جديد لكنّه ليس مثل كل عام  يحمل صورا وزهورا وهدايا ، ربما لم نكن نكترث كثيرا بمثل تلك المناسبات الجميلة ، بسبب دوامة الحياة وعجلتها السريعة وتشابكاتها وتعقيداتها ، لكن ما نعيشه منذ عام وبسبب اجتياح كورونا " كوفيد 19 – تجعلنا نتوقف لنتأمل قيمة و رمزية بعض ما يمرّ بنا ، كي نستمتع بما هو جميل وأصيل وإنساني ،بحيث لا ندع لحظة تفلت من بين أصابعنا .

استعدتُ مع نفسي  أعياد الحب ، والذكريات والألوان الزهرية والحمراء وفالانتاين ، خصوصا ونحن نعيش في العالم الافتراضي وفي الحجر الذي حوّل الحياة  المتواصلة المتفاعلة المتداخلة والمتراكبة إلى عزلة وتباعد وفزع وكآبة ، مايزال العالم يقف مذهولاً أمام حدودها  ونهايتها حتى الآن ، بل أن العلم يعيش حالة تكهّن واضطراب وعدم ثقة بشأنها .

العيد هذا العام بلا ورود وقُبل ولقاءات حميمية وأجنحة للسفر ، وعلى العكس شعور طاغٍ  بهيمنة القسوة والظلم والقهر والجزع ، لدرجة  الانهمام  بالبقاء واليومي والطارئ والعابر من الأشياء ، حيث أخذت الكثير من الحواس تتعطّل ويتعرض الجسد إلى الانهاك والمزاج إلى التعكّر ويسود الحزن لمفارقتنا أحبّة وتركنا أخريات وآخرين يرقدون في المستشفيات  أو عانوا من الجائحة ولا نستطيع حتى زيارتهم والاطمئنان عليهم .

2

تعود قصة الاحتفال بعيد الحب إلى نهاية القرن الثامن عشر ، باستعادة ماقام به "القديس فالانتاين" ( القرن الثالث ميلادي )  الذي كان يسعى لزواج الجنود سراً  في الكنيسة ، الذين كانت الإمبراطورية الرومانية تمنع زواجهم حينها ، وكذلك تزويج العشاق ، وهو ما اعتبر حينها انتهاكاً للقوانين السائدة  والمفروضة ،وقد ألقي عليه القبض وقطعت رأسه أمام إحدى بوابات روما القديمة في 14 فبراير ( شباط) العام 269 ميلادية ، وتخليداً  لذكراه بدأ العالم يحتفل بهذا اليوم كرمز للحب .

3

الغريب أن مصر تحتفل مرتين بعيد الحب الأولى هي في اليوم العالمي للحب ، والثانية احتفالية حديثة منذ العام 1974م باقتراح من الصحافي المعروف مصطفى أمين الذي نشر في صحيفة " أخبار اليوم " المصرية  دعوة للاحتفال  بعيد العشاق والمحبّين والأزواج والعوائل والأصدقاء  وأطلق على دعوته " يوم الحب المصري " معللا ذلك بواقعة مسببة لهذه الدعوة " الحبيّة " مفادها أنه شاهد جنازة  في إحدى أحياء القاهرة القديمة لا يسير خلفها سوى 3 أفراد فقط ، وحين "عرف السبب بطُل العجب " ، فالرجل الذي توفاه الله لم يكن يحب أحدا ولا أحد يحبه ، ولذلك عومل بهذا الجفاء على الرغم  من أن الموت جامعُ للناس ومطهر للنفوس  ، يصفي القلوب  مما علق بها من كراهية وحقد ، حتى قيل عند الموت : تذكروا محاسن موتاكم ، لذلك  أراد بدعوته الاحتفاء بالحب بين الناس كقيمة للأحياء يتم التعامل بها على نحو ملموس ويعبّر كل واحد للآخر عن حبّه ، وهكذا كان يوم 4 نوفمبر ( تشرين الثاني ) يوما للاحتفاء ب " عيدالحب المصري " لإعلاء قيمة الحب ورمزيته بين العشاق والأزواج والأهل والأصدقاء ،ويبدو أن دعوة مصطفى أمين لها ما يدعمها بالتاريخ المصري ، فقد كان الفراعنة وملوكهم يقدمون الزهور 

والهدايا ويكتبون قصائد العشق والغزل للحبيبات تعبيرا عن حبهم لهذه المناسبة

4

الحب تعويض عن جميع الحرمانات  ومكافأة معادلة لجميع العذابات ، ومن لا يعرف الحب ، معنىً ومبنىً،تذوّقا وعيشاً لا يعرف الحياة ، وكما يقول أبو الطيب المتنبي :

وعذلت أهل العشق حتى  ذقته      فعجبت كيف يموت من لا يعشقُ

الحب نقيض للسلطة والتسلّط والاستبداد ، وحسب هنري كيسنجر  فإن السلطة عنصر تهييج شبقي ، وشبقيتها تتجسّد في ذكورية تعويضية ، بسبب غياب الحب واستبدالاً له بمحاولات الهيمنة .

ما أعرفه أن الحب عطاء وتضحية وتفانٍ ، وهو بالضد من الإكراه والإرغام والتسيّد ، ولعل ذلك ما دفع روائيا مثل غابريل غارسيا ماركيز الحائز على جائزة نوبل العام 1982عن روايته الأكثر شهرة " مائة عام من العزلة " للقول : السلطة هي تعويض عن الحب أي أن من يسعى إلى السلطة لا يفكر بالحب وليس منشغلا به ، وذلك  في روايته الأكثر جمالا " خريف البطريك " وهذه من وجهة نظري المتواضعة هي أقرب إلى قصيدة نثرية طويلة  بلغة موسيقية آسرة وجاذبية متوهّجة بالشعر ، وشخصيا أعتبرها أهم روايات ماركيز .

5

في الحب نبحث عن الوطن بكبرياء حيث يفتش كل من المرأة والرجل عن ذاته الممزقة وروحه المستنفرة ،عن الثقة التي تمنحها لمن تحب ونرى فيها ما في دواخلنا من دهشة وإثارة وملكوت سرّي وسحر متفجّر ، وفي الحب تتوحّد الأنا مع الآخر والعقل مع القلب والروح مع الجسد والعاطفة مع الأمل والحاضر مع المستقبل والحياة مع الخلود .

يقول محمود درويش  :" لا أتذكر قلبي إلّا إذا شقّه الحب نصفين ، أو جف من عطش الحب".وإذا كان العقل يمنحنا القدرة على التفكير ، فالإرادة تمنحنا القدرة على الاختيار والحب ، أما الوجدان فإنه يمنحنا القدرة على الإحساس بالجمال والعدل وهذه ليست سوى الحياة الإنسانية ، بما فيها من واقع وخيال وفن ، والأخير وسيلة  لمعرفة الحياة ذاتها ، خصوصا وأن إعادة الخلق تعني إظهار  المحتوى الداخلي للواقع والهدف ليس لتقليده أو استنساخه، بل محاولة تصوّره على نحو جديد .

وما الحياة دون فن ؟وعلينا أن  نتصوّر كم ستكون  تلك الحياة مملّة وكئيبة ، لأنها ستكون دون حب تلك المعادلة الجمالية للفن ، وكان الشاعر المكسيكي اكتوفيوباث الحائز على جائزة نوبل للآداب العام 1990 هو الذي قال : إذا خلا رأس السياسي من الشعر تحوّل إلى طاغية ،

لقد حملت رسائل روزا لوكسمبورغ  الملقبة " روزا الحمراء " إلى حبيبها هانز  قيمة أدبية وفكرية متميزة ، فضلا عن ما احتوته من بوح إنساني شفيف وشائق وحر ، عكست طهرية روحية وثقة عالية وحبّا كبيرا وولها واعيا .وقد تسنّى لي مؤخرا ( 2020 ) الاطلاع على رسائل الناقد علي جواد الطاهر إلى زوجته فائقة والموسومة " سَغْبْ  العواطف "  ( دار الرافدين ) التي أعدتها وقدمت لها ( لقاء موسى الساعدي)    وهي رسائل بعثها إليها من بيروت ودمشق والجزائر وصنعاء وبراغ  وغيرها ، وهي تذكرنا برسائل جوليت داروت إلى فيكتور هوغو ورسائل جبران خليل جبران إلى مي زيادة ورسائل غسان كنفاني إلى غادة السمّان . فقد كانت الرسائل إحدى قنوات التعبير المهمة  التصاقا بالروح الإنسانية ، وهي وثائق أدبية وجمالية تشهد على عصر كاتبيها وكتاباتهم وطرائق تفكيرهم ودرجة حبّهم .

وبالعودة إلى رسائل الطاهر إلى زوجته ، فالعنوان مثير وعميق في الوقت نفسه وكلمة سَغْبْ  تعني جوع وهكذا جاء التعبير ليدلّ عن جوع عاطفي كان يعانيه بالابتعاد عن زوجته ، خصوصا حين يكون الأمر اضطرارا بعد إعفائه من وظيفته في جامعة بغداد  إثر انقلاب 8 فبراير ( شباط ) 1963 م واضطراره السفر إلى بيروت ومنها للعمل في الرياض ( المملكة العربية السعودية ) ,وعكست رسائل الطاهر بأسلوبها الباهر وصياغتها المتقنة وسردياتها ووصفياتها  واستهلالاتها حالته النفسية على نحو مبسّط وسلس واحتوت على ما نطلق عليه " السهل الممتنع " وهو في كل ما كتبه كان ينمّ عن حالة صبابة وتولّه وفراق وعشق وحب طاهر مثل طهرية الرجل وعلمه .

إذا كان يوم 14 فبراير ( شباط ) يوم الحب العالمي المعروف لذكرى يوم شنق القديس فلانتين ، فإنه يوم شنق قادة الحزب الشيوعي العراقي فهد وحازم وصارم ( يوسف سلمان يوسف ومحمد زكي بسيم وحسين محمد الشبيبي ويهودا صديق ) في العام 1949م وفي الشهر ذاته استشهد تحت التعذيب عدد من قيادات الحزب في العام 1963م وفي مقدمتهم ( سلام عادل ) وكان الرفيق طلال شاكر " أبو ميلاد " قد اقترح في محلية داود التي كان يديرها صاحب الحكيم في العام 1981م   اعتبار يوم  14 فبراير ( شباط ) يوما للشهيد الشيوعي وهو يوم شهيد الحب فلانتاين ويالها من مفارقة     

 

 

(الأخوّة الإنسانية)

 

عبد الحسين شعبان

احتفل العالم لأول مرة باليوم العالمي للأخوّة الإنسانية، وكانت الجمعية العامة للأمم المتحدة اعتمدت قراراً في 22 ديسمبر/ كانون الأول 2020، أعلنت فيه اعتبار 4 فبراير/ شباط اليوم العالمي للأخوّة الإنسانية،استجابة لمبادرة تقدّمت بها دولة الإمارات العربية المتّحدة والمملكة العربية السعودية وجمهورية مصر العربية ومملكة البحرين، وكانت أبوظبي احتضنت لقاءً تاريخياً جمع قداسة البابا فرنسيس (بابا الكنيسة الكاثوليكية)، وفضيلة الشيخ د. أحمد الطيّب، شيخ الأزهر الشريف، وأسفر اللقاء عن توقيع «وثيقة الأخوّة الإنسانية من أجل السلام العالمي والعيش المشترك» في 4 فبراير/ شباط 2019

 ويكتسب الاحتفال هذا العام أهمية كبرى، لاسيمّا وإن العالم يواجه جائحة كورونا، حيث تزداد الحاجة إلى الوحدة في مواجهة الوباء، وإلى التضامن والتعاون وتقديم المساعدة المختلفة للتصدّي لها، علماً بأن قرار الأمم المتّحدة أكدّ على المساهمات القيّمة للشعوب من جميع الأديان والمعتقدات، وأشار إلى دور التعليم في بناء قيم التسامح وتعزيزها والقضاء على جميع أنواع التمييز القائم على أساس الدين والمعتقد، كما أشاد بأهمية الدعوة للحوار بين أتباع الديانات والثقافات المختلفة.

 جدير بالذكر أن أبوظبي كانت استضافت في 4 فبراير/ شباط 2019 المؤتمر الذي نظمه مجلس حكماء المسلمين بهدف تفعيل الحوار مع الآخر للتعايش والتآخي بين البشر وتعزيزه عالمياً، وهو المؤتمر الذي وضع ضمن أهدافه التصدي للتعصّب ووليده التطرّف، ولا سيّما الفكري، وإذا ما انتقل الأخير إلى الفعل سيصبح عنفاً وحين يضرب عشوائياً يصير إرهاباً، وذلك بتأكيد علاقات الأخوّة الإنسانية التي ينبغي أن تُرسى على أسس جديدة قوامها احترام الاختلاف والتمايز والكرامة الإنسانية من أجل العيش المشترك والسلام العالمي، وهو أمر يقع على عاتق القيادات السياسية والمؤسسات الدينية والمنظمات العالمية والمحلية لكل من المسيحيين والمسلمين، كما جاء في نص الوثيقة.

 وسلطّت الوثيقة الضوء على عدد من الثوابت، من أهمها التمسك بالتعاليم الدينية الصحيحة التي تدعو إلى قيم السلام والتعارف والأخوّة والعيش المشترك، الذي من شأنه أن يعزز قيم الحريّة، ولا سيّما حريّة المعتقد والتعبير والتفكير لكل إنسان، فضلاً عن الإيمان بالتعددية والمواطنة المتساوية والعدل للجميع، والاعتراف بحقوق المرأة والطفل والمسنّين والضعفاء، فضلاً عن رفض الإرهاب والاعتداء على دور العبادة.

 وبقراءة ارتجاعية إلى حيثيّات الوثيقة ارتباطاً بكلمات شيخ الأزهر وبابا الفاتيكان، ندرك الرسائل المهمة التي حاول كل منهما وعلى نحو متكامل توجيهها، وكانت دعوة الأزهر تضمنت أربعة أركان، أولها- الموجّهة إلى المسلمين بالانفتاح على المسيحيين مذكرّةً بالعلاقات التاريخية بينهم منذ فجر الإسلام، وثانيها- إلى مسيحيّي الشرق بالقول: أنتم جزء من هذه الأمة... وأنتم مواطنون كاملو الحقوق والواجبات... ولستم «أقليّة»، وثالثها - إلى أتباع الديانتين بالدعوة إلى الوحدة باعتبارها «الصخرة التي تتحطم عليها المؤامرات»، ورابعها - إلى المسلمين في الغرب، بدعوتهم إلى الاندماج إيجابياً في مجتمعاتهم بالمحافظة على هويّاتهم الدينية من جهة، والحفاظ على قوانين المجتمعات التي يعيشون فيها من جهة أخرى.

 وكانت دعوة البابا فرنسيس للأخوّة الإنسانية بقوله: إن كل الناس متساوون في الكرامة، فلا نستطيع عبادة اللّه من دون احترام كرامة كل إنسان وحقوق كل فرد، لأن اللّه لا ينظر إلينا بعين التفرقة التي تُقصي، بل بعين حاضنة للجميع.

 الوثيقة التي وقعها شيخ الأزهر وبابا الفاتيكان، هي أول وثيقة في التاريخ توقّع بين مسيحيين ومسلمين بهذه الرمزية على نحو متكافئ أساسها الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة والدفاع عن قيم السلام والتسامح؛ وهي رسالة حضارية ضد الكراهية في لحظة حساسة من لحظات التأمل في المصير الإنساني.

 والاحتفال من جانب الأمم المتحدة يُعدّ اعترافاً كونياً بالإنجاز التاريخي الذي حققته الوثيقة بمضامينها الإنسانية، الأمر الذي يستوجب نبذ التصورات النمطية إزاء الآخر والعمل على بناء الجسور للتعاون والتضامن ضد العنصرية والتمييز والاستعلاء والاستتباع وجميع مظاهر عدم المساواة والتنكر لحقوق الإنسان، ولعل منح جائزة زايد للأخوّة الإنسانية للأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غويتريس مناسبة لإعادة تأكيد الفاعلية للمشتركات الإنسانية وتعظيم الجوامع وتقليص الفوارق واحترام الخصوصيات في إطار قيم السلام ونبذ العنف، وهو ما يحتاج العالم إلى تفعيله في جميع الثقافات والمجتمعات ولدى أتباع الأديان المختلفة.

drhussainshaban21@gmail.com

أكاديمي ومفكر وكاتب عراقي، وهو نائب رئيس جامعة اللاّعنف وحقوق الإنسان (أونور) في بيروت. له مساهمات متميّزة في إطار التجديد والتنوير والحداثة والثقافة والنقد. يهتم بقضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان والمجتمع المدني والأديان، والدساتير والقوانين الدولية والنزاعات والحروب. صاحب نحو 70 كتاباً ومؤلفاً.

 

 

ستارت - 3

عبد الحسين شعبان

 

            كان برنارد باروخ مستشار الرئيس الأمريكي هاري ترومان  أول من استخدم مصطلح "الحرب الباردة" في 16 إبريل (نيسان) عام 1947 ، التي تعني المجابهة العالمية الجيوسياسية والإقتصادية والآيدولوجية بما فيها الحرب النفسية ووسائل القوة الناعمة الإعلامية والثقافية والرياضية ضد الإتحاد السوفيتي السابق ، وبعده جاء خطاب ونستون تشرشل  الذي ألقاه في مدينة فولتن بولاية ميسوري الأمريكية ، ومع أنه لم يكن حينها رئيساً لوزراء بريطانيا ، لكن فكرته سرت مثل النار بالهشيم حين طرح تشكيل حلف عسكري للدول الإنكلوساكسونية بهدف "مكافحة الشيوعية" وكان ذلك ترسيخاً لفكرة الحرب الباردة ، حيثُ تأسس حلف الناتو في العام 1949 وبالمقابل أُنشأ حلف وارشو في العام 1955 من جانب الإتحاد السوفيتي وحلفائه .

            وقد دامت الحرب الباردة والصراع الآيديولوجي طيلة فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية ولغاية نهاية الثمانينات ، وشهدت سباقاً محموماً للتسلح على الرغم من محاولات الطرفين البحث عن فرصٍ لتخفيض ترسانة الأسلحة عبر معاهدات واتفاقيات دولية جماعية أو ثنائية دون أن تخلو من عقباتٍ وكوابح تعكّر صفو علاقات "التعايش السلمي" وتزيد من سباق المنافسة التسليحية والتي كان آخرها ما عُرف بـ "مشروع حرب النجوم"الذي خصصت له واشنطن ترليوني دولار ، وكان ذلك أحد أسباب فشل الإتحاد السوفيتي وتفكّكه في تلك المنافسة غير المتكافئة التي جرّته إليها الولايات المتحدة، خصوصاً في عهد الرئيس ريغان، إضافة إلى أسباب إقتصادية وسياسية واجتماعية وغيرها .

            خلال شهر فبراير (شباط) الجاري 2021 سينتهي مفعول إتفاقية ستارت - 3  التي تمّ التوقيع عليها في 18 إبريل (نيسان) 2010  بين الرئيس الأمريكي باراك أوباما والرئيس الروسي السابق ديمتري مدفيديف ،وقد توصّلت واشنطن إلى "إتفاق مبدئي" مع روسيا على تمديدها لخفض ترسانة الأسلحة النووية ، علماً بأنها كانت قد طلبت من الصين الإنضمام إلى المفاوضات التي يشهد برنامجها النووي نموّاً مطرّداً، لكنه لا يقارن من حيث الحجم  بالترسانتين الأمريكية والروسية ، حيث تمتلكان نحو 93 % من القنابل النووية في العالم ، ويدرك الطرفان إن من شأن عدم تمديد المعاهدة رفع جميع القيود المتبقية على نشر رؤوس حربية نووية ، وكذلك الصواريخ والقاذفات القادرة على حملها، مما سيؤدي إلى تأجيج سباق التسلح، ويزيد من حدّة التوتر ويعيد الأجواء إلى مناخ الحرب الباردة .

            ولعلّ فوز جو بايدن الذي كان نائباً للرئيس أوباما حين تم التوقيع على ستارت - 3 إلاّ أنه يعتبر روسيا العدو الرئيس والأول للولايات المتحدة ، أما الصين فيعتبرها منافساً وليس عدواً ، الأمر الذي قد يجعل العلاقات الروسية - الأمريكية تعيش أوقاتاً صعبة، على الرغم من توفّر الفرصة لتمديد إتفاقية نيوستارت - 3 ، وكان قد عبّر عن نيّته في تمديد المعاهدة خلال حملته الإنتخابية .

            تعتبر ستارت - 3 ، واحدة من 9 إتفاقيات نووية وقّعتها موسكو مع واشنطن خلال العقود الماضية ويعود تاريخها إلى ستينات القرن الماضي، ومن أهمها معاهدة منع التجارب النووية وهي معاهدة متعددة الأطراف تمّ التوقيع عليها العام 1963 وما تزال سارية المفعول ، إضافة إلى معاهدة الحدّ من انتشار الأسلحة النووية لعام 1963 وهي معاهدة متعدّدة الأطراف تم تمديدها في العام 1995 وهي مفتوحةٌ وغير محدّدة بزمن .

            ومن المعاهدات الثنائية بين البلدين معاهدة سالت - 1  و ABM و سالت - 2 ، الأولى تم التوقيع عليها في العام 1972 لغرض تجميد عدد قاذفات الصواريخ البالستية العابرة للقارات بين البلدين (لمدة 5 سنوات) في حين أن الثانية منعت إنشاء درع مضاد للصواريخ ، أما الثالثة (سالت - 2) فقد تم التوقيع عليها العام 1979 بشأن الأسلحة النووية ، لكنها لم تدخل حيّز التنفيذ، إضافة إلى معاهدة الصواريخ المتوسطة والقصيرة المدى التي تمّ التوقيع عليها في العام 1987 بين دونالد ريغان وميخائيل غورباتشوف ، وهي المعاهدة التي انسحب منها دونالد ترامب في فبراير (شباط) 2019 ، ومن المعاهدات المهمة ستارت - 1 (1991) و ستارت - 2 (1993) التي لم تدخل حيّز التنفيذ ، وتكمن أهمية ستارت - 3 بتحديد عدد الرؤوس النووية بـ 1550 رأساً ، وهي خاصة بالأسلحة الهجومية ، وقد أبدى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إستعداد بلاده لتمديد المعاهدة ، كما أعلن الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس أهمية تمديد ستارت - 3 ، وذلك خدمة للسلم والأمن الدوليين .

            وسيؤدي تمديد المعاهدة إلى تفعيل نظام الرقابة النووية وتخفيف حدّة التوتر في أوروبا وآسيا ومنطقة المحيط الهادي وإقامة نظام مؤتمن في مجال التكنولوجيات، بما يطمئن واشنطن من إلتزام  موسكو بأحكام المعاهدة ، ويطمئن موسكو من حسّاسيتها بنصب صواريخ نووية في بولونيا وأوكرانيا وتشيكيا وعلى حدود روسيا

 

شجرة الذاكرة

عبد الحسين شعبان

 

لا تترك جائحة «كورونا» شيئاً إلاّ واستفزّته، حتى لكأنها تعيد البديهي من الأشياء، ولأنها لا تستثني أحداً، الغني والفقير والرئيس والمرؤوس والمريض والطبيب، فقد أعادت التفكير بالمساواة والتعاون بين البشر لمواجهة هذا الخطر الغامض والداهم، وكأنها تذكّرنا بقانون الطبيعة، حيث خُلق الناس بأشكالهم وألوانهم وأجناسهم وألسنتهم وأديانهم وعروقهم وانحداراتهم الاجتماعية متساوين ومختلفين في آن، الأمر الذي يقتضي تعاونهم، فالإنسان كائن اجتماعي بطبعه ومدني بفطرته، وهو ما شاع على لسان أرسطو ومن بعده عبد الرحمن بن خلدون الذي أضاف تميزّه بالعقل.

 لم يدع الفيروس لحظة تهرب من بين أصابعنا؛ لأن عكسها سيعني الاستسلام، وهكذا تتحوّل الطاقة الإيجابية التي يحملها الإنسان إلى الضد منها، فكان لا بدّ من الاستعانة بالذاكرة للتدوين والكتابة، على الرغم من أنها أحياناً تمطر وحشةً وغموضاً بقدر ما يفوح منها عطرٌ وأمل، ولكل شخص ذاكرته التي تشبهه، وبقدر ما هي واقعية فأحياناً يدخل عليها عنصر التخيّل لإعادة تأثيثها.

 وكلام الحجر الذي لا يزال يجثم فوق الصدور تتزاحم فيه الأيام والليالي، بل والسويعات، بعضها بحزن شديد وبعضها بلا مبالاة أحياناً حدّ الضجر، أو بأمل مستنفر، حين يبدأ الحوار مع الذات التي تحتاج إلى كشف بعض مكنوناتها في لحظة مصارحةٍ، ليس لماضيها فحسب، بل لحاضرها ومستقبلها أيضاً، فالذاكرة مستودع كبير لكثير من الحكايات والأسرار والمعلومات، فما بالك حين تُقدّم بحبكة درامية لتجارب مريرة ومثيرة تعكس ثقافة صاحبها وعمق أفكاره، وهذه تحتاج بالطبع إلى محفزّات لفكّ ألغازها وفتح أقفال خزائنها.

 في هذه الأجواء قرأت رواية «الشجرة الهلامية» لعبد السلام بو طيب، الحقوقي المغربي ومنظم مهرجان الناضور السينمائي، التي تتحدث عن رجل يتم حجره 100 يوم في باريس، ولم يبقَ أمامه سوى حوار مع الشجرة التي تنتصب أمام بيته، حيث يأتيه صوتها خفيفاً متموجاً يشبه الأثير في مدينة الجن والملائكة، في لغة غامضة لا يفهمها إلاّ هو وصديقته الشجرة التي يغنّجها ب «دولوريس»، والتي تذكرّه بالشجرة الهلامية في منطقة الريف، فيتبادل طرفا الحوار المواقع: هو والشجرة، ويتقاسمان الأصوات لدرجة أنك لا تفرق بينه وبينها أحياناً، حيث تختلط الصور والأصوات والآراء.

 باستعادة ذاكرته السجينة، يقول إن كل شيء هناك يتغير: الزمن والعادات والأشياء؛ لذلك عليك أن تستعيد توازنك، باستذكار نيلسون مانديلا، الذي كان طوال سنوات سجنه التي استمرت 27 عاماً يزرع أشجاراً في قنينات الزيت الفارغة من سعة 5 لترات، ويعتبرها الوحيدة الحرة، أي من صديقاته وأصدقائه الأحرار.

 كان الوطن في الحجر يعني لعبد السلام «وسادته الحبيبة» التي افتقدها، والوطن حسب محمود درويش «هو هذا الاغتراب الذي يفترسك»، وهكذا قدّم بو طيب في سرديته الزمن من خلال وسادته، التي ظلّت خالية ووحيدة تذكّرنا «بالوسادة الخالية» وهي رواية كتبها إحسان عبد القدوس وقدّمها المخرج صلاح أبو سيف في العام 1957 في فيلم من بطولة عبد الحليم حافظ ولبنى عبد العزيز.

 يتعاشق في ذاكرة بو طيب سجن الماضي ورحابة الحاضر، بما فيها فترة الحجر، فالذاكرة يمكن أن تحوّل الإنسان إلى رهينة لها أو حتى ضحية، في حين أن الصفح والغفران والمقصود التسامح يحولها إلى شيء إيجابي دون أن يعني نسيان الماضي، وهو ما يذكّر بالطاهر بن جلّون الذي فتح صندوق خزانته ليعرض في سرديته ألمه النفسي، بعد عقود من الزمان في روايته «تلك العتمة الباهرة»، التي استكملها بروايته «العقاب»، وهي إحدى روائع أدب السجون.

علينا التمييز بين أربعة أنواع من الذاكرة:

النوع الأول- الذاكرة الانفعالية، وهي ذاكرةٌ إرادوية يتم إسقاطها على الواقع.

 الثاني- الذاكرة الحسّية، أي استعادة الأحوال والأهوال كوقائع ومفردات وتفاصيل يمكن تكييفها حسب قراءة الروائي والمؤرخ والشاهد والمشارك.

 الثالث- الذاكرة المنظّمة، وهذه تقوم على استذكار واستخلاص المعاني والدروس والعبر التي تنتظم الذكريات في إطارها، استناداً إلى المادة الأولية (الخام)، وصولاً إلى الدلالة بفعل التحقّق، مع إضافة التفسيرات والتأويلات على النص أو الحدث أو الواقع المعيش.

الرابع- الذاكرة المحفّزة، وتبدأ مع الذاكرة الأولى، وفيها حنين (نستولوجيا) لاستذكار الزمن، وإعادة قراءته على نحو جديد، لا سيّما بعد تجارب عديدة، بما فيها ما هو ناجح وفاشل.

بهذه الصورة أرّخ بو طيب لذاكرته بروح شفيفةٍ وحساسية إنسانيةٍ، ولغةٍ رشيقة، وموسيقى جذّابة، بكتابةٍ وصور سينمائية وبصرية باهرة، كل ذلك لمواجهة فيروس «كورونا».

drhussainshaban21@gmail.com

 

أزمة العراق سيادياً

مشروع معهد العلمين

 وملتقى بحر العلوم للحوار

عبد الحسين شعبان

توطئة

            حسناً فعل معهد العلمين وملتقى بحر العلوم للحوار، حين حاولا استشراف " أزمة العراق سيادياً" وذلك من خلال مناقشة رؤية خمسة رؤساء سابقين لمجلس الوزراء تعاقبوا على دست المسؤولية بعد الاحتلال الأمريكي للعراق، العام 2003، وهم كل من : د. إياد علاوي ود. ابراهيم الاشيقر (الجعفري) وأ. نوري المالكي ود. حيدر العبادي  وأ. عادل عبد المهدي.

            وكان سدى هذه المبادرة ولحمتها هو موضوع السيادة ، سواء بإجاباتهم أو بمشاركة رؤساء مجلس النواب السابقين أيضاً، إضافة إلى  شخصيات أكاديمية وثقافية وسياسية، والهدف من ذلك تقديم رؤية نقدية تحليلية  للإجابات المذكورة، على أن تلتئم ندوة لجميع المشاركين للتوصل إلى استنتاجات وتوصيات ليصار إلى تعميمها على أصحاب القرار، ثم لنشرها كاملة باللغتين العربية والانكليزية.

            المبادرة

            تكتسب هذه المبادرة أهمية بالغة  للأسباب التالية:

أولاً- إنها تعيد طرح القضايا ذات الطبيعة الإشكالية النظرية والعملية في ما يتعلّق بالسيادة ارتباطاً بالنظام السياسي وآفاق العملية السياسية التي تأسست على قاعدته ، خصوصاً بعد حركة الاحتجاج الشعبية التي بدأت في 1 تشرين الأول (أكتوبر) العام 2019، والتي ما تزال مستمرة.

وثانياً- إنها تنشغل بموضوع السيادة ومدى تحققها عملياً بعد أكثر من 17 عاماً من الاحتلال، وهو أمر مهم ومطلوب، خصوصاً بعد تصويت مجلس النواب على إخراج القوات الأجنبية كافة، إثر مقتل قاسم سليماني رئيس فيلق القدس الإيراني وأبو مهدي المهندس أحد أبرز مسؤولي الحشد الشعبي  يوم 3 يناير (كانون الثاني) 2020 على يد القوات الأمريكية ، مع الأخذ بنظر الاعتبار المواقف المتعارضة من وجود القوات الأمريكية وقوات التحالف الدولي بشكل خاص، والقوات الأجنبية بشكل عام، بما فيها توغل القوات العسكرية التركية المستمر والمتكرر، إضافة إلى قواعدها العسكرية التي أقامتها في العراق، ناهيك عن التغلغل والنفوذ الإيرانيين.

وثالثاً- إنها تضع هدفاً لهذه المراجعات يتلخص في إمكانية التوصّل إلى مشتركات واستنتاجات وتوصيات، لاستعادة السيادة العراقية التي ظلّت منقوصة ومجروحة ومعوّمة  منذ غزو قوات النظام السابق للكويت في 2 آب (أغسطس)  1990، وحرب قوات التحالف الدولي في 17 كانون الثاني (يناير) 1991 لتحرير الكويت، وما أعقبها من فرض حصار دولي شامل على العراق، حيث زاد عدد القرارات التي صدرت بحقه  أكثر من 75 قراراً دولياً (نحو 60 قراراً منها  قبل الاحتلال والبقية بعده) ويعدّ بعضها خرقاً سافراً للسيادة وبعضها الآخر تقييداً لها أو انتقاصاً منها أو تعويماً لممارستها.

ورابعاً- إنها تشتبك باتفاقية الإطار الاستراتيجي التي تم توقيعها في الوقت نفسه مع الاتفاقية العراقية - الأمريكية لعام 2008 والتي انتهى مفعولها في 31/12/2011، حيث اضطرّت القوات الأمريكية إلى الانسحاب من العراق لأسباب عديدة، منها ما تكبدّته من خسائر بشرية ومادية ومعنوية ، ناهيك عن ضغط الرأي العام  الأمريكي والعالمي ، إضافة إلى الأزمة المالية والاقتصادية العالمية وانعكاساتها على الولايات المتحدة .

            السيادة والقرارات الدولية

            إذا كان موضوع السيادة وممارستها قد ورد مشوشاً في الإجابات المختلفة، سواءً عدم المجيء على ذكره أو الإتيان عليه بصفته موضوعاً "نظرياً"، وأحياناً اختلط مع مواضيع أخرى أو أنه ارتبط بمفهوم " المكوّنات" وبعض تفسيرات الدستور المختلفة، دون التوقف عند الجوانب العملية التطبيقية (البراكسيس)، فإن مثل تلك الالتباسات القانونية الفقهية والسياسية وردت هي الأخرى في القرارات الدولية التي أصدرها مجلس الأمن الدولي، بدءًا من القرار 1483 الصادر في 22 أيار (مايو) 2003، والذي أعلن انتهاء العمليات الحربية وتعامل مع الولايات المتحدة وبريطانيا بوصفهما دولتين قائمتين بالاحتلال، والقرار 1500 الذي صدر في 14 آب (أغسطس) 2003 الذي اعتبر مجلس الحكم الانتقالي "خطوة مهمة في تشكيل حكومة عراقية معترف بها دولياً وتتولّى ممارسة السيادة "، أو القرارات الأخرى بما فيها القرار الذي سبقه ونعني به القرار 1490 الصادر في 3 تموز (يوليو) 2003، أو القرارات التي تلته ، ولاسيّما القرار  1511 الصادر في 16 تشرين الأول (اكتوبر) أو القرار 1518 الصادر في 24 تشرين الثاني (نوفمبر) 2003 وجميعها صدرت ضمن الفصل السابع.

            كما صدر القرار 1546 في 8 حزيران (يونيو) 2004 ضمن الفصل السابع أيضاً (بعد إلغاء مجلس الحكم الانتقالي ) ودعا إلى حكومة عراقية مؤقتة مستقلة وتامة السيادة لها كامل المسؤولية والسلطة بحلول 30 حزيران (يونيو) 2004، لكن القوات المحتلة استمرت في العراق بامتيازاتها وحصاناتها الكاملة بجيوشها والمتعاقدين معها، علماً بأن القرارات السابقة  تعاملت مع القوات المحتلة نظرياً على أقل تقدير، بوصفها المسؤولة عن إدارة العراق وضمن  الفصل السابع الخاص بالعقوبات (من المادة 39 إلى 42 من ميثاق الأمم المتحدة)، إلّا أن صدور القرار 1546 أعاد وضع الفصل السابع قيداً جديداً في عنق العراق المقيّد أساساً بنحو 60 قراراً كانت قد صدرت قبل الاحتلال كلّها كانت ضمن الفصل السابع، باستثناء القرار 688 الذي صدر في 5 نيسان (أبريل) 1991 وهو القرار اليتيم والتائه والمنسي من سلسلة القرارات التي أصدرها مجلس الأمن الدولي، وهو القرار الخاص بوقف القمع الذي تتعرض له المنطقة الكردية وبقية مناطق العراق وكفالة احترام حقوق الإنسان والحقوق السياسية لجميع المواطنين.

            إذا كان العراق قد استمر في الرضوخ مكرهاً لتنفيذ الالتزامات الدولية، فإن المحتل تحرر من التزاماته بموجب اتفاقيات جنيف لعام 1949 وملحقيها وأصبح حرّاً طليقاً من القيود، بزعم مطاردة الإرهاب الدولي الذي فتحت الحدود أمامه، حيث تم تمديد مهمة القوات الأجنبية بالقرارات 1637 في 18 تشرين الثاني (نوفمبر) 2005  و1723 في 26 تشرين الثاني (نوفمبر) 2006 والقرار 1790 الصادر في 18/12/2007 الذي مدّد بقاء القوات الأجنبية إلى 31 كانون الأول (ديسمبر) 2008.

            وقد تغيّرت الوضعية القانونية للقوات الأمريكية التي ضغطت لتوقيع اتفاقية العام 2008 لتكريس شرعية وجودها، فبعد أن كانت "قوات محتلة" تحولت إلى فريق في قوة متعددة الجنسيات بقيادتها متعاقدة مع الحكومة العراقية ، أي أن "الاحتلال العسكري" تحوّل إلى "احتلال تعاقدي" أو تعاهدي ، وامتلكت القوات الأمريكية حرّية استخدام الأراضي والأجواء والممرات المائية لمواجهة أي خطر يتهدّد السلم والأمن الدوليين، أو يعرض الحكومة العراقية أو دستورها ونظامها الديمقراطي للتهديد ، فضلاً عن مواجهة الإرهاب الدولي.

            وهكذا أنشأت عدداً من القواعد العسكرية وتصرّفت بحرّية بما فيها القيام بارتكابات شنيعة لحقوق الإنسان، سواء في السجون أو من خلال المواجهات المباشرة تحت زعم ملاحقة الإرهابيين دون الحاجة إلى اتباع الإجراءات التي يتطلبها وجود قوات عسكرية في أراضي دولة أجنبية متعاقدة معها، الأمر الذي يتنافى مع قانون المعاهدات والاتفاقيات الدولية ، ولاسيّما اتفاقية فيينا حول قانون المعاهدات لعام 1969 التي تفترض أن يكون الاتفاق بين طرفين متكافئين وعلى أساس الإرادة الحرة دون أن يشوبه أحد عيوب الرضا، وليس كما هو واقع الحال بين طرفين أحدهما قوي ومحتل والآخر ضعيف ومحتلة أراضيه.

            وبالطبع فقد تجاوزت الولايات المتحدة على قواعد القانون الدولي بما فيها المتعلّقة باتفاقيات جنيف لعام 1949 وملحقيها لبروتوكولي جنيف لعام 1977 المتعلقة بالحرب وآثارها؛ الأول- الخاص بحماية ضحايا المنازعات الدولية المسلحة، والثاني- الخاص بحماية ضحايا المنازعات المسلحة غير الدولية ، مستندة بذلك إلى قواعد القانون الدولي التقليدي الذي أصبح من تراث الماضي والذي يقوم على مفهوم "الحرب الوقائية" أو " الحرب الاستباقية" ، علماً بأن القرار 1373 الذي صدر في 28 أيلول (سبتمبر) 2001 عقب أحداث 11 أيلول (سبتمبر) الإرهابية الإجرامية التي حصلت في الولايات المتحدة إثر تفجير برجي التجارة العالميين، قد أعاده إلى الواجهة، بأن أعطى الحق في شن الحرب فيما إذا شعرت الدولة أن ثمة تهديداً إرهابياً وشيك الوقوع أو محتمل.

            واستندت واشنطن إلى ذلك حين احتلت أفغانستان العام 2001 والعراق العام 2003، بزعم العلاقة بالإرهاب الدولي، إضافة إلى امتلاك العراق أسلحة دمار شامل ، بما فيها غاز الانثركس، الذي اتضح زيف تلك الدعاوى، وهو ما كشف عنه الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش  بعد أن مشّطت القوات الأمريكية العراق طولاً وعرضاً.

السيادة الداخلية

            وإذا كان ذلك يشمل مفهوم السيادة الخارجية للدولة العراقية،  فإن من يمتلك السيادة الداخلية في العراق أخضع لتوزيع طائفي وإثني منذ مجلس الحكم الانتقالي وكرّس للأسف قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية الصادر في 8 آذار (مارس) من قبل 2004 والذي ثُبّت في الدستور الدائم المستفتى عليه في 15 تشرين الأول (اكتوبر) العام 2005، والذي تحدث عن ما يسمى بالمكوّنات ، وذلك في المقدمة (مرتان) وفي المواد 9 و12 و49 و125 و142، وليس ذلك سوى نظام سياسي يقوم على مبدأ المحاصصة والتقاسم الوظيفي.

            وأعتقد أن ذلك بدأ يتحسّس منه العديد من القوى والشخصيات، بل إن بعضهم يعلن براءته منه ويحاول البحث عن الممكنات لتغييره أو لوضع حد له ، لأنه في الواقع أوقع البلاد في ورطة حقيقية أنتجت نظاماً مشوّها يقوم على الزبائنية السياسية والحصول على المغانم، لاسيّما في ظلّ ضعف مرجعية الدولة وعدم تطبيق حكم القانون وولّدت هذه المحاصصة:  الفساد المالي والإداري واستشراء العنف والإرهاب، لاسيّما بشيوع ظواهر التعصّب ووليده التطرّف التي لعبت سنوات الاستبداد والدكتاتورية في ظل النظام السابق ، إضافة إلى الحروب والحصار دوراً كبيراً في تغذيتها، خصوصاً بانتشار السلاح والاستقواء به عبر ميليشيات وقوى مسلحة باستخدام أجهزة الدولة أحياناً أو قوى منفلتة من خارجها.

            وبالطبع كلّما كانت الدولة صاحبة سيادة كاملة كلّما تمكنت من اختيار نظامها السياسي والاجتماعي بحرية كاملة بما فيها السيطرة على الموارد الاقتصادية، والعكس صحيح أيضاً كلما كانت الدولة مثلومة السيادة أو منتقصة أو مبتورة، كلّما اضطرّت للرضوخ للقوى المتنفّذة فيها، سواء على المستوى الخارجي الإقليمي أم الدولي أم على المستوى الداخلي، دون أن يعني ذلك الانعزال عن المحيط الدولي والعلاقات الدولية، التي ستترك تأثيراتها سلباً وإيجاباً على سيادة الدولة واستقلالها.

ما السبيل لاستعادة واستكمال السيادة ؟

            لاستعادة السيادة كاملة على المستوى الخارجي يحتاج الأمر إلى إعادة النظر بعلاقتنا الدولية، فعلى الرغم من وجود قوات أمريكية ودولية بطلب من الحكومة العراقية إثر هيمنة تنظيم داعش الإرهابي على الموصل في 10 حزيران (يونيو) 2014، فإنه بانتهاء هذه المهمة ينبغي انتهاء وجود هذه القوات، خصوصاً وأن البرلمان اتخذ قراراً بذلك بتاريخ 5/1/2020 ، ولا بدّ من تحديد سقف زمني لتنفيذه وإلّا بقي الأمر مفتوحاً، علماً بأن القوات الأمريكية مارست منذ العام 2003 وحتى الآن أعمالاً تتنافى والسيادة العراقية، بما فيها القيام ببعض الأعمال العسكرية بالضد من إرادة الدولة العراقية التي لم تحسب لها أي حساب، كما حصل في تحليق طائرات فوق مطار بغداد وتعقب عناصر تعتبرها إرهابية، منهم من له مسؤوليات في أجهزة الدولة العراقية .

            وللأسف فإن الموقف من وجود القوات الأمريكية ليس موحداً، فالتحالف الكردستاني لم يحضر في التصويت على جلاء القوات الأجنبية، وكذلك التحالفات والقوى السنيّة بأسمائها المختلفة، بل على العكس من ذلك، فإنها تعتقد أن وجود القوات الأمريكية ضرورة لمواجهة داعش من جهة وتدريب القوات العراقية من جهة أخرى، فضلاً عن وجودها سيكون عامل تقليص للنفوذ الإيراني في العراق، وغيابها سيعزز من دور ما يسمى بالقوى الشيعية والنفوذ الإيراني المتعاظم ، سواء أعلنت ذلك أم لم تعلن لكن ذلك واقع الحال، في حين أن القوى القريبة من إيران والتي يسمى بعضها بالولائية  تصرّ على خروج هذه القوات، بل ويقوم بعضها بقصف مواقع للقوات الأمريكية بما فيها السفارة الأمريكية في المنطقة الخضراء، خارج إطار القوانين والأعراف الدبلوماسية والتزامات الحكومة العراقية التي يدخلها في حالة حرج وتناقض.

            ومن مظاهر انخرام السيادة العراقية هو زيارات مسؤولين أمريكان بمن فيهم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب للقاعدة العسكرية الأمريكية في عين الأسد شمال بغداد في 24 ديسمبر (كانون الأول) 2018 دون إشعار الحكومة العراقية ، ناهيك عن طلب إذنها، وكما زار وزير الخارجية مارك بومبيو القاعدة يوم 28 ديسمبر (كانون الأول) 2019، والأمر مستمر ومتكرر منذ العام 2003 ولحد الآن.

            ولاستكمال السيادة العراقية على جميع الأراضي العراقية فيتطلب الأمر أيضاً الطلب من تركيا مغادرة الأراضي العراقية وتفكيك قواعدها، وليس حجة وجود قواعد حزب العمال الكردستاني PKK  سوى ذريعة لا يمكن قبولها لأنها تتعارض مع مبادئ السيادة ، ولابدّ من إعادة النظر بجميع الاتفاقيات التي تسمح للقوات التركية بالتسلل داخل الأراضي العراقية منذ العام 1984. كما إن استكمال السيادة يتطلب إعادة بحث الاتفاقيات المائية مع تركيا بما يضمن تأمين حقوق العراق وحصته وفقاً لقواعد القانون الدولي فيما يتعلق بالأنهار الدولية، ومثل هذا الأمر ينطبق على إيران، وبسبب استفراد الدولتين واستغلالهما ضعف العراق وتعويم سيادته قامتا بعدد من الإجراءات التي من شأنها حرمان العراق من موارده المائية بما يلحق ضرراً بالغاً بالسيادة والمصالح الوطنية العراقية.

            أما بشأن التغلغل الإيراني الناعم  والنفوذ السياسي الهادئ ، فلا بدّ من اعتماد استراتيجيات جديدة وفقاً للمصالح العراقية أولاً لكي لا يكون العراق ساحة للصراع الأمريكي - العراقي، وثانياً لكي لا يكون جزءًا من المحاور الإقليمية والدولية المتصارعة، وثالثاً  يستطيع أن يقيم علاقات متوازنة مع دول الجوار غير العربي من جهة ومع الدول الأجنبية الأخرى، فضلاً عن إعادة بناء العلاقات العربية على أساس المصالح المشتركة والمنافع المتبادلة وبروح السلم والأمن والإخاء وعدم الاعتداء وحل المشاكل العالقة بالطرق السلمية والدبلوماسية وفقاً للمصالح المشتركة والمنافع المتبادلة.

            أما بخصوص السيادة الداخلية ، فيتطلب إعادة النظر بالنظام السياسي ككل والخطوة الأولى تبدأ من الدستور، إما بإلغائه وسنّ دستور جديد أو بتعديله جذرياً، علماً بأن ما ورد فيه من حقوق وحريات واعتماد مبادئ المواطنة هي أمور جيدة ومتقدّمة ، لكنها تقدّم بيد لتقيّد في اليد الأخرى، فضلاً عن العديد من القوانين التي شرّعها البرلمان، والجانب الإجرائي في ذلك اعتماد الآليات الواردة فيه، خصوصاً بإجراء مراجعة شاملة كان لا بدّ من القيام بها خلال أربعة أشهر بعد انتخابات العام 2005 .

            والأمر يتعلق أيضاً بعلاقة السلطة الاتحادية بالإقليم من حيث الصلاحيات، بما فيها المواد الخاصة بالنفط وتنازع القوانين على أساس قواعد النظام الفيدرالي المعمول به دولياً في أكثر من 40 بلد، وقد تحتاج هذه الأمور إلى حوار وطني شامل يشارك فيه الجميع من قوى ومنظمات وشخصيات أكاديمية وثقافية وحقوقية ومن مختلف التوجهات الفكرية والاجتماعية، والهدف هو تحقيق السيادة الكاملة وبناء نظام سياسي على أساس المواطنة العابرة للطوائف والإثنيات والحاضنة للتنوّع والقائمة على أساس التكافؤ والمساواة والشراكة والمشاركة والعدل الاجتماعي، وهنا لا بدّ من تحديد الأولويات والتدرج فيهان خصوصاً في ظل إرادة وطنية شاملة .

ــــــــــــــــــــــــ     

* نشرت هذه المساهمة في كتاب من إعداد وتقديم د. إبراهيم محمد بحر العلوم الموسوم "أزمة العراق سيادياً" ، دار العلمين للنشر والعارف للمطبوعات ، إصدار ملتقى بحر العلوم للحوار ، العراق ، الكوفة - النجف الأشرف، 2021 .

            والبحث  جزء من مشروع يناقش 5 رؤساء وزارات هم : إياد علاّوي وابراهيم الجعفري ونوري المالكي وحيدر العبادي وعادل عبد المهدي ومنظورهم للسيادة ، كما يناقش منظور 5 رؤساء برلمان هم : حاجم الحسني و محمود المشهداني و إيّاد السامرّائي و  أسامة النجيفي و  سليم الجبوري ، وشارك في الحوار شخصيات أكاديمية وفكرية وثقافية وسياسية في  5 محاورٍ شملت النظام السياسي والوعي بأهمية العوامل الإقليمية والدولية وإدارتها  والمصالح الوطنية والتّوازن الإقليمي الدولي وكيف تعاطت حكومات ما بعد العام 2003 مع مبادئ السيادة.

باحث ومفكر عربي

 

فريضة التسامح وفرضيّاته

 

عبد الحسين شعبان

 

حين يرتقي التسامح ليصبح فريضة من الفرائض فهذا يعني أنّه راهني وحاجة ماسّة ولا غنى عنها، بل ضرورة ملحّة بقدر ما هو خيار لتيسير حياة الفرد والمجتمع والدولة، وعكسه سيكون اللّاتسامح بمعنى التعصّب ووليده التطرّف والعنف والإرهاب، ناهيك عن العنصريّة والشوفينيّة والاستعلاء والهيمنة وادعاء الأفضليات وامتلاك الحقيقة، والزّعم بالحق في احتكارها.

وإذا كان البشر خطّائين على حدِّ تعبير فولتير، فعلينا أن نأخذ بعضنا البعض بالتسامح، فلا أحد يمتلك الحقيقة كاملة، وليس هناك أفضليّة لبشر على آخر بسبب صفاته البيولوجيّة أو عرقه أو دينه أو جنسه أو لغته أو لونه أو أصله الاجتماعي، والبشر مختلفون باختلاف أشكالهم وصفاتهم وقوميّاتهم وأديانهم ولغاتهم وأجناسهم وانتماءاتهم وأصولهم الاجتماعية وأهوائهم وأمزجتهم وأذواقهم، لذلك يقتضي أن ينظر كلّ منهم إلى الآخر بالاحترام والقبول والتقدير والانفتاح والتواصل وحرّية الفكر والضمير والمعتقد، وهو ما جاء في الإعلان العالمي للتسامح الصادر عن منظّمة اليونسكو التابعة للأمم المتحدة في العام 1995 والذي تقرّر فيه اعتبار يوم 16 نوفمبر (تشرين الثاني) من كل عام يوماً عالميًّا للتسامح.

ولأنّ مجتمعاتنا تعاني نزعات الإقصاء والإلغاء والتهميش، فنحن أشدّ ما نكون إلى التسامح كخيار استراتيجي لقطع الطريق على القوى المتعصّبة والمتطرّفة والعنفيّة والإرهابية التي لا تؤمن بالحوار والتواصل بين الثقافات وأتباع الأديان والمذاهب وصولاً إلى المشترك الإنساني، ليس هذا فحسب، بل إنّ ما نشهده من إساءات لديننا الحنيف ومجتمعاتنا العربية الإسلاميّة، يدفعنا للبحث عن السبل الكفيلة لنشر ثقافة التسامح وتعميمها، والأمر لا يتعلّق بمجتمعاتنا فحسب، بل بامتداداتها للجاليات العربيّة والمسلمة في أوروبا والغرب، ولعلّ ما حصل من عمليات إجراميّة مؤخّراً في باريس ونيس وفيينا خير دليل على ذلك، بما فيها ردود الفعل السلبيّة التي تتّهم العرب والمسلمين بالجملة بالإرهاب، لأنّ دينهم يحضّ على ذلك كما ذهبت إلى ذلك الموجة الشعبويّة العنصريّة الجديدة، التي عبّر عنها خطاب الرئيس الفرنسي ماكرون إثر مقتل المدرّس الفرنسي بالطريقة الفجائعيّة المعروفة.

المقصود من اعتبار التسامح فريضة، لأنّه يعني الوئام في سياق الاختلاف واتّخاذ موقف إيجابي فيه إقرار بحقّ الآخرين من التمتّع بحقوق الإنسان وحرّياته الأساسية المعترف فيها عالميًّا، ولذلك لا ينبغي التذرّع والاحتجاج بالتسامح لتبرير المساس بالقيم الأساسية لحقوق الإنسان، كما لا ينبغي بحجّة مواجهة اللّاتسامح تقليص الحقوق المدنيّة والسياسيّة أو التجاوز على عقائد الآخرين أو دمغ مجموعات ثقافيّة بالإرهاب أو تقييد الحقوق والحرّيات بما فيها الإعلامية.

اعتقادان خاطئان سادا ضدّ فريضة التسامح، الأوّل - الذي يقوم على الإسلامفوبيا (الرهاب من الإسلام) باعتبار تعاليمه تحمل فيروسات العنف والإرهاب، وقد صار مثل هذا الاعتقاد جزء من المتخيّل الجمعي في الغرب، والثاني - الويستفوبيا (الرهاب من الغرب) باعتباره شراً مطلقاً ويتم ازدراؤه من جانب الإسلامويين والمتعصبّين لدينا، ومثل هذين الرأيين يقومان على أيديولوجيا مسبقة تلك التي تشيطن الآخر بنظرة إسقاطيّة أساسها الكراهية والاستعلاء.

وإذا كان عالم التسامح مرتبطاً أيضاً بالحداثة والمدنيّة والعقلانية فكيف السبيل للولوج إليه؟، وفي هذا الصدد نقول هناك 10 فرضيّات أساسية إذا ما أخذت بها المجتمعات والبلدان واعتمدت كقواعد قانونيّة يمكن تهيئة بيئة صالحة لبذر التسامح وإروائه ليصبح شجرة باسقة وهي الإقرار بـ: أولاً - نسبيّة المعرفة، وبالتالي تجربة الخطأ والصواب، وكان أوّل من دعا إلى ذلك سقراط وطوّر الفكرة بعده فولتير؛ وثانياً - لا عصمة من الخطأ، فحتّى العلماء يخطأون، وليس لبشر عصمة طالما هو يعمل فهُ يخطىْ؛ وثالثاً -عدم امتلاك الحقيقة، والكل يحاول مقاربتها من خلال النقاش والجدل، ورابعاً - التعدّدية والتنوّع للأديان والقوميّات والبلدان والمجتمعات والأفراد؛ وخامساً حق الاختلاف باعتباره حقيقة فائقة وسيكون البحث عن التطابق مجرّد وهْم مثلما سيكون كل إجماع مصطنعاً بإلغاء الفروق. وسادساً، الموقف الإيجابي من الآخر، وهو دليل حضاري لقبول فكرة التسامح؛ وسابعاً عدم التمييز الذي ينبغي أن يكون على قاعدة المساواة والعدل في التشريع والقضاء والإدارة أي "حكم القانون" الذي عبّر عنه مونتسكيو بقوله: (القانون مثل الموت لا يستثني أحداً)، أي يسري على الجميع حكّاماً ومحكومين؛ وثامناً -  المساواة صعيد الفرد والأسرة والمجتمع، وقد جاء في القرآن الكريم أن البشر متساوون في الكرامة الإنسانيّة وورد في سورة الإسراء "تكريم بني آدم"؛ وتاسعاً نشر التسامح من خلال التربية والتعليم للمراحل المختلفة كفلسفة وثقافة، إضافة إلى دور الإعلام والمجتمع المدني والفاعلين السياسيين والاجتماعيين.

وأخيراً، وعاشراً - ضرورة إصلاح المجال الديني، ومن خلال إصلاح الفكر الديني يمكن إصلاح الخطاب الديني، وعلى غرار هوبز: كلُّ إصلاح مفتاحه الفكر الديني، وإذا ما سادت هذه الفرضيّات وأصبحت واقعاً يمكن الحديث عن فريضة التسامح من خلال فلسفته وثقافته ووجوده في الحياة اليومية والاجتماعية على صعيد كل من المجتمع والفرد وعلى الصعيد الدولي أيضاً، كقيمة أخلاقيّة مثلما هو قيمة اجتماعيّة وقانونيّة.

 

 

شطحات ماركس

عبد الحسين شعبان

 

في استفتاء أجرته هيئة الإذاعة البريطانية الـBBC في مطلع الألفيّة الثالثة كان ماركس واحداً من بين أهم 100 شخصية مؤثّرة في العالم، ولا أخال أحداً من جيلنا الستّينيّ إلّا وترك ماركس شيئاً عنده، لكن ذلك لا يعني أنّه دون أخطاء أو شطحات، وباستثناء المنهج الذي اعتمده والقوانين التي اكتشفها بشأن الصراع الطبقي وفائض القيمة، فإنّ الكثير من تعاليمه لا ينبغي التعامل معها كنصوص مقدّسة لدرجة اعتبارها أقرب إلى الأسفار التوراتية أو الآيات الإنجيلية أو القرآنية، ويذهب البعض أكثر من ذلك إلى تنزيهه من الأخطاء، بل يضعه خارج دائرة النقد، سابغاً عليه نوعاً من المعصوميّة؛ في حين إنّ تعاليم ماركس واجتهاداته هي مجرّد آراء بعضها تجاوزها الزمن أو أن الحياة لم تزكّها، لكن ذلك لا ينفي عبقريّته ومواهبه وموسوعيّته كفيلسوف ومفكّر وعالم اجتماع واقتصادي وسياسي يسيل من قلمه حبر الأديب وتتدفّق لغته بالشعر.

في العام 1984 كتبتُ في مجلّة "الهدف" خاطرة تأمّلية بعنوان "بروموثيوس هذا الزمان" جئت فيها على منجز ماركس الفكري والثقافي، وذلك بمناسبة وفاته (14 مارس/آذار1883). وإذا كان أعداؤه وخصومه يعتبرونه تهديداً لهم ولمصالحهم لدرجة أنّ شبحه لم يعد يجوب "أوروبا العجوز" فحسب، بل شطر العالم إلى نصفين في القرن العشرين، فإنّ أنصاره ومريديه تعاملوا مع تعاليمه وتفسيراته  كمعتقدات "منزّلة"، مردّدين بعض مقولاته بطريقة أقرب إلى التعاويذ والأدعية والتلقينيّة المدرسية التي لا علاقة لها بجوهر منهجه، ناهيك عن روح العصر.

ثلاث قضايا يمكن التوقّف عندها في هذه المساحة بشأن بعض شطحات ماركس؛

أولاها - موقفه الخاطئ بخصوص الاستعمار الاستيطاني الفرنسي في الجزائر (1830)، ورسالته "التمدينيّة"، ولعلّ الفضل في إطلاعنا على موقفه هذا يعود إلى الصديق جورج طرابيشي الذي ترجم كتاباً عن الفرنسية بعنوان "الماركسية والجزائر" كشف فيه عن قصور وُجهة نظر ماركس، علماً بأن الطبعة الروسية كانت قد حذفت فقرات منه لأنها صادمة ومُحرجة، خصوصاً رؤية ماركس المغلوطة وتقديره المخطوء للإستعمار الفرنسي في الجزائر بوصفه شكلاً من أشكال الهجرات التي تنقل التمدين والتحضّر إلى شعوب شبه بدائيّة أو شعوب متخلّفة" بوصفها: بدوًا، قطّاع طُرق، لصوصًا، وكانت نظرته تلك تقوم على وجهة نظر اقتصادية بحتة، بعيداً عن الجوانب الحضارية والثقافية والإنسانية، بتفسير مبتسر مفاده أنّ الثورة الصناعية أدّت إلى تضخّم رأس المال واحتاجت إلى الموارد والأسواق والأيادي العاملة، فكانت الهجرات. ومثل هذا الرأي يهمل الطابع الإجرامي لتلك المحاولات الاستعمارية الاستيطانيّة وسعيها لقهر شعوب هذه البلدان ونهب ثرواتها وتدمير ثقافاتها وإلغاء هُويّاتها، ومع أنّه لم ينسَ التعاطف مع الضحايا، لكنّ ذلك جاء من زاوية أخلاقية.

بتقديري إن فترة بقاء ماركس في الجزائر للاستشفاء من 20 فبراير/شباط إلى 2 مايو/أيار 1882 لم تكن كافية لمعرفة معمقّة للمجتمع الجزائري، وانطلق في حكمه من "المركزية الأوروبية" التي هيمنت على تفكيره والرأسمالية الصاعدة فيها، حيث قام ماركس بتحليل قوانينها بدقّة كبيرة مشخّصاً عيوبها ومثالبها ونظامها الاستغلالي على نحو عميق وعظيم.

ثانيتها - موقفه المتناقض من تقرير المصير، فعلى الرغم من أنّه هو الذي صاغ فكرة "أن شعباً يضطهد شعباً آخر لا يمكن أن يكون حرًّا" ودعا إلى استقلال بولونيا في حركة قادها الإقطاعيون ضدّ روسيا لأن ذلك سيكون خطوة مهمّة تسمح بإنضاج التناقضات، وهي استنتاج دقيق لكنه وقف ضدّ حقّ تقرير المصير للشعبين التشيكي، والسلوفاكي، اللذين كانا يطالبان بالاستقلال من الامبراطوية النمساوية - المجريّة، والسبب حسب وجهة نظره أنّهما "شعبان رجعيّان" وضعيفان وصغيران ويمكن أن يقعا تحت هيمنة الروس وسيكون نجاحهما في الظّفر بذلك تقوية لدور روسيا بتشجيع من فرنسا، وسيتم توظيفهما ضدّ ألمانيا المتطوّرة صناعيًّا، وهي نظرة خاطئة قامت على فرضيات اقتصادية بعيدة عن الجانب الإنساني التحرّري.

وثالثتها - كان موقفه المُلتبس والخاطئ من ايرلندا، لا سيّما في المرحلة الأولى، ففي رسالة منه إلى إنجلز بتاريخ 23 أيار (مايو) 1856، يقول "لقد تحوّل الإيرلنديون بواسطة القمع المنهجي إلى أُمّة ساقطة"، وهناك رسالة ثانية بهذا الخصوص بتاريخ 24 تشرين الأول (أكتوبر) 1869، ويبني استنتاجاته انطلاقاً من منظور تقدّميّة الطبقة العاملة الإنكليزية تجاه إيرلندا المتخلّفة والمحتلة، التي يعزو إليها سبب سقوط الجمهورية في زمن كرومويل، ويدعو إلى أن تقطع الطبقة العاملة الإنكليزية علاقتها مع ايرلندا بعيداً عن كلّ جملة أُمميّة وإنسانية بشأن العدالة، وحسب رأيه إن لم تنتصر الطبقة العاملة وتتحرّر في إنكلترا فلن يتمّ تغيير الأوضاع في ايرلندا، أيّ أن التحولات الاشتراكية في المركز ستؤدي إلى تحسّن الأمور في البلد الطرفي والمتأخر، لأن رافع التقدم هو لندن، وليس دبلن، لكنه يعود في العام 1870 ليتحدّث عن اضطهاد مركّب رأسمالي متزامن مع اضطهاد قومي ضدّ ايرلندا.

وباستثناء المنهج فجزء كبير من تعاليم ماركس وشطحاته بالطبع يمكن الاحتفاظ به في المكتبات أو المتاحف، حتى وإن بقيت الأحلام واليوتوبيّات ورديّة، فتلك مأثرة أيضاً.

 

جريدة الخليج

الانتخابات العراقية.. تدوير

الزوايا على الطريقة اللبنانية!

عبد الحسين شعبان

يستضيف موقع "جنوبية" الأكاديمي والمفكر العراقي الدكتور عبد الحسين شعبان عبر مقالات تحاكي القضايا الاستراتيجية و التحديات السياسية والإقتصادية ومجالات حقوق الإنسان في المنطقة والعالم.

 أعلن رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي يوم 6 يونيو (حزيران) 2021 موعداً لإجراء الانتخابات التي كانت إحدى المطالب التي رفعتها ساحات الاحتجاج منذ شهر أكتوبر/تشرين الأول العام 2019، وكانت بعض الكتل والكيانات السياسية قد أعلنت عن استعدادها لخوض الانتخابات طارحة “أحقّيتها” في تولّي منصب رئاسة الوزراء، ولا سيّما كتلة سائرون بقيادة مقتدى الصدر باعتبارها تمثّل “الكتلة الأكبر” في البرلمان الحالي، إلّا أنّ هناك أوساطاً شعبيّة بدأت تشكّك في إمكانية إحداث تغيير بواسطة الانتخابات لوحدها دون إجراء إصلاحات جذريّة في بُنية النظام السياسي والقانوني، فهل ستؤدي الانتخابات إلى تحقيق الأهداف المنشودة لحركة الاحتجاج الواسعة التي قدّمت أكثر من 600 شهيد ونحو 20 ألف جريح ومعوّق؟ أم أنها ستعمّق الأزمة بتدوير الزوايا؟ وإذا كان هناك شبه إجماع شعبي على ضرورة التغيير، سواء بالانتخابات أم بغيرها إلّا أنّ هناك طيفاً واسعاً من المجتمع أخذ يتلمّس عدم جدوى التعويل على الانتخابات لوحدها في ظلِّ قانون انتخابي لا يلبّي طموحها، لأنّ ذلك سيؤدّي إلى المزيد من الإخفاق ويمنح “الشرعيّة” للقائمين على الحكم في إطار منظومة 9 نيسان (إبريل)، تلك التي استأثرت بالسلطة ما بعد الاحتلال، والتي مارست نوعاً من الحكم أدّى إلى تشويه الفكرة الديمقراطية، خصوصاً في ظلِّ دستور قام على مبدأ “المكوّنات” التي لا تعني سوى المحاصصة الطائفية الإثنية على حساب المواطنة المتساوية والمتكافئة. هناك طيفاً واسعاً من المجتمع أخذ يتلمّس عدم جدوى التعويل على الانتخابات لوحدها في ظلِّ قانون انتخابي لا يلبّي طموحها وهذا يعني هزيمة عمليّة التغيير عبر “خيار الانتخابات” القادمة بالصورة التي جرت فيها والآليات التي اعتمدتها والتقنيّات التي سارت عليها سابقاً وتبديداً للتضحيات الجسام التي اجترحتها حركة الاحتجاج، حيث سيصاب المواطن بخيبة أمل مريرة تزيد من معاناته، لأنّ البرلمانات التي أنتجتها الانتخابات السابقة توزّعت بين قوائم وحصص للكتل والجماعات السياسيّة ذاتها دون تغيير يُذكر. وظلّت الائتلافات الثلاثة “راسخة” بين الشيعيّة السياسيّة التي لها موقع رئاسة الوزراء والسُنّية السياسية التي لها موقع رئاسة البرلمان والكردية السياسية التي لها موقع رئاسة الجمهورية، وخصوصاً لفريق منها، أمّا الفريق الآخر فله وزارة الخارجية أو وزارة المالية، ناهيك عن التوزيعات الأخرى لبقيّة المواقع التي يُطلق عليها السياديّة. تراجع إنتاج طبقة سياسية جديدة خارج نطاق البلوكات القائمة واستمرار صيغة الائتلافات الحاكمة إنّ ذلك يعني تراجع إنتاج طبقة سياسية جديدة خارج نطاق البلوكات القائمة، واستمرار صيغة الائتلافات الحاكمة بتدوير طاقمها في إطار زوايا مغلقة، وقد ظلّت التجربة اللبنانية لنحو 7 عقود من الزمان تدور داخل الدائرة نفسها، والتي تكرّست بعد انتهاء الحرب الأهلية وتوقيع اتفاق الطائف العام 1989، حيث تكرّر تدوير الزوايا على نحو تستطيع كل زواية منها أن تعطل الزوايا الأخرى لما يسمّى بـ”الثلث المعطّل“.  ويبدو أنّ التجربة العراقية اقتفت أثر التجربة اللبنانية، الأمر الذي سيزيد من الإحباط الشعبي ويضعف من الاندفاع الذي يطالب بالتغيير ويعوّل على الانتخابات كإحدى وسائله بسبب بقاء القديم على قِدمَه، واستمرار الطبقة الحاكمة بمواقعها على الرغم من فشلها المزمن في تحقيق الحدّ الأدنى من حقوق المواطن في ظلّ استمرار الفساد المالي والإداري وانفلات السلاح واستشراء ظواهر العنف والإرهاب والتغوّل على الدولة، بتقديم مرجعيات ما دونها إلى ما فوقها باسم الطائفة أو الدِّين أو العشيرة أو الحزب أو المنطقة أو الجهة، ناهيك عن تدهور الخدمات الصحية والتعليميّة والبلديّة وارتفاع معدلات البطالة وازدياد مستويات الفقر والجريمة، لذلك انحسرت جاذبيّة الانتخابات، حتى أن انتخابات العام 2018 لم يشارك فيها سوى 20% من مجموع الناخبين، فلم يعُد الصندوق الانتخابي أملاً في التغيير، لأنّ ما يخرج عنه بالتزوير أو حسب الاصطفافات التي يوفرها القانون الانتخابي كان يعيد إنتاج الطبقة السياسية ذاتها. التجربة العراقية اقتفت أثر التجربة اللبنانية، الأمر الذي سيزيد من الإحباط الشعبي وإذا كان شعار “الثورة في صندوق الاقتراع” وهو عنوان كتاب لي عرضت فيه تجارب دولية منذ التسعينات في أمريكا اللاتينيّة والبلدان الاشتراكية السابقة، إضافةً إلى نجاح نيلسون مانديلا بالفوز في انتخابات ديمقراطية أدّت إلى وضع حدّ لنظام الفصل العنصري الذي دام ما يقارب ثلاثة قرون من الزمان، فإنّ الأمر يحتاج إلى توفّر مستلزمات ضروريّة سياسيّة وقانونيّة وأمنيّة وإجرائيّة، وفي حالة غيابها سيتم تدوير الزوايا الحادّة، الأمر الذي سيزيد الأزمة العراقيّة السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعية حدّة؟ لقد حكمت الشيعيّة السياسية لثلاث دورات ونيّف في العراق منذ العام 2005، وكذلك حكمت الإثنية الكُردية إقليم كردستان بالتقاسم بين الحزبين منذ العام 1992، فهل تغيّرت الصورة أم ازدادت تعقيداً؟ إنّ نقطة البدء تكمن في إصلاح النظام القانوني والدستوري بإلغاء كلّ ما من شأنه إعاقة تطبيق المعايير الديمقراطية وإزالة الألغام العمليّة التي تعترض ذلك، ولا سيّما العُرف المعتمد تحت عنوان “التوافق” الذي هو في حقيقته نظام للمحاصصة،ولا بدّ أن يعترف الجميع بوجود الأزمة وأن يُبدوا الرغبة في حلّها بالتوصل إلى عقد اجتماعي جديد لتأصيل المواطنة وتعميق الفهم السليم لدور البرلمانيّ باعتباره مشرّعاً ورقيباً لما فيه خدمة المجتمع، وذلك برفع درجة الوعي الحقوقي المجتمعي بأهميّة وظيفة الانتخابات وما ترتّبه من نتائج على صعيد التغيير.

(موقع جنوبية)

 جائحة الدينار

عبد الحسين شعبان

بتفاقم جائحة كوفيد-19 "كورونا" التي شهدت أرقاماً قياسية كبيرة خلال الأسابيع الماضية فقد داهمت العراق جائحة جديدة لا تقلّ خطراً عن جائحة "كورونا" ألا وهي جائحة الدينار؛ وهو ما أخذ يتندّر به العراقيّون، خصوصاً تأثيرها المباشر على الفقراء لأنها تتعلّق بقُوتهم اليومي، فقد تمّ خفض سعر الدينار مقابل الدولار، حيث بدأ البنك المركزي في 20 ديسمبر (كانون الأول) تطبيق السعر المنخفض للدولار البالغ 1450 ديناراً عوضاً عن السعر السابق البالغ 1190 ديناراً عراقيًّا لكل دولار أمريكي، وعمدت الحكومة العراقيّة على اتخاذ هذه الخطوة بعد عجزها لشهرين متتاليين من دفع رواتب الموظفين، إضافة إلى استمرار الأزمة مع إقليم كردستان وتعقيداتها بشأن دفع الرواتب من جهة، وواردات النفط من جهة أخرى، تلك التي استمرّت بالتعتّق منذ سنوات.

وعلى الرغم من أن الحكومة اتخذت هذه "القرارات الصعبة" كما تقول لكنّها من أجل تصحيح الأوضاع بتبرير أنّ التأسيس كان خاطئاً للنظام السياسي والاجتماعي المُهدّد بالانهيار بالكامل، فإمّا الفوضى العارمة وإمّا عمليّة قيصريّة للإصلاح، كما ورد على لسان رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي. ويذهب وزير المالية علي علاوي أكثر من ذلك حين يعتبر "الورقة البيضاء" بمثابة "مانيفستو" الإصلاح، الذي يعني "حكم الضرورة"، إلّا أنّ "تجربته" تفتّقت عن اقتطاع رواتب الموظفين بخفض سعر الدينار الذي أثار موجة عاصفة من ردود الفعل.

أمّا حركة الاحتجاج التشرينيّة فقد ندّدت بتلك الإجراءات وشدّدت على تحقيق مطالبها بمحاسبة الفاسدين ووضع حدٍّ للفساد ومساءلة المتّهمين بارتكاب جرائم أودت بحياة أكثر من 600 إنسان وجرح وإعاقة نحو 20 ألف آخرين، علماً بأنّ هذه الانتهاكات ما تزال مستمرة دون رادع أو حسيب، مثلما يستمر قصف مواقع الهيئات الديبلوماسية وانفلات السلاح وهشاشة الوضع الأمني، وما ضاعف من معاناة الناس هو انحدار الوضع الاقتصادي والمعاشي وتدهور الوضع الخدمي الصحّي والتعليمي وتآكل البُنية التحتيّة، خصوصاً في فترة الشتاء وتساقط الأمطار.

إن قرار خفض سعر الدينار يضيف عبئاً إضافيًّا على الاقتصاد العراقي المتهالك أصلاً، إذْ سيسبّب موجات تضخّم اقتصادي جديدة، بتراجع مستوى الدخل في العراق بنسبة 22.5%، ولأنّ الاقتصاد العراقي في مجمله هو اقتصاد استهلاكي يقوم على الاستيراد، فستكون نتائج خفض سعر العملة المحلية فادحة، وبالأساس على الطبقة الوسطى، التي سينحدر الكثير من أوساطها إلى الطبقات الفقيرة والمسحوقة، بينما يبقى الأغنياء يزدادون غنىً، سواءً من القوى الحاكمة أو القريبة منها باستمرار الفساد المالي والإداري الذي بدّد الموارد الهائلة والتي تُقدّر بما يزيد عن 700 مليار دولار خلال الفترة من العام 2005 إلى العام 2014، فلم يبقَ أمام الحكومة سوى تخفيض سعر الدولار والاقتراض من البنك المركزي واللجوء إلى الاقتراض الخارجي، وهي السياسة التي اتّبعتها وزارة المالية في مشروع قانون الموازنة المقترح للعام 2021.

إنّ تخفيض سعر الدينار يعود إلى أسباب تتعلّق بالسياسة النقدية للحكومة، فضلاً عن جانب موضوعي يتعلّق بالعقوبات المفروضة على سوريا وإيران، حيث يشكّل العراق المنفذ الأساسي لهذين البلدين للحصول على الدولار وإنعاش احتياطيّيهما النقديّين منه، وإذا تركنا جانباً زيادة الطلب على الدولار وهو ما يؤدي إلى ارتفاع سعر الأخير، فإنّ أحد الأسباب المهمّة هو تهريب العملة الصعبة من خلال مبيعات البنك المركزي للدولار يوميًّا لأصحاب المصارف فيما يُسمى المزاد اليومي للدولار تحت عنوان "إنعاش السوق" بالدولار بزعم تثبيت سعر الدينار بحدود معيّنة، علماً بأنّ بعض التجار يقوم بشراء الدولار من البنك المركزي لحساب آخرين، جزء منهم يتبع للقوى السياسية المتنفّذة.

لقد سبّب ارتفاع قيمة الدولار في رفع قيمة المواد الاستهلاكية وغالبيّتها الساحقة مستوردة، لأنّ الدولار يعتبر العمود الفقري للتجارة العراقيّة في ظل النظام الذي اتّبع ما بعد الاحتلال والذي أطلق عليه "الاقتصاد الحر"، ومع ارتفاع سعر الدولار أصبح كل شيء باهظ الثمن في السوق، لا سيّما لأصحاب الدخل المحدود، وبالفعل فقد تأثّر السوق بذلك على الفور وتقلّصت الحركة فيه على الرغم من الاستعداد لاستقبال عيد رأس السنة الميلادية، وغالباً ما ترتفع الحركة خلال هذه الفترة من السنة.

لقد ازدادت معدّلات الفقر إلى مستويات مريعة، وتستمر التوقعات المتشائمة في ظل استمرار "جائحة كورونا"، وانخفاض أسعار النفط وانكماش الاقتصاد، يضاف إلى ذلك استشراء الفساد المالي والإداري وغياب الخطط الاقتصاديّة العقلانيّة البعيدة النظر، ناهيك عن الترهّل الوظيفي في أجهزة الدولة مع وجود موظّفين وهميّين أو موظّفين يستلمون أكثر من راتب، وعدم الشروع بتنمية القطاعات الإنتاجية المحليّة وارتفاع نسبة البطالة. وقد توقّعت ممثلة الأمم المتحدة في بغداد جانين هينس بلاسخارت خلال إحاطتها الأخيرة أمام مجلس الأمن الدولي "انكماش الاقتصاد العراقي بنسبة 9.7% مع ارتفاع معدّلات الفقر إلى نحو 40% في العام الحالي 2020، فضلاً عن توقّعات حدوث انخفاض في الفرص الاقتصادية"، وقد تزيد جائحة الدينار الوضع سوءًا خلال فترة التحضير للانتخابات المقرّرة في شهر يونيو (حزيران) المقبل.

 

نُشرت في جريدة "الخليج" الإماراتية وجريدة "الزمان" العراقية

 

 

عن فلسفة التسامح

عبد الحسين شعبان

 

جمع منتدى الفكر العربي يومَي التسامح والفلسفة في مناسبة واحدة لتقاربهما، ودعاني لإلقاء محاضرة عن "فلسفة التسامح" بمناسبة صدور كتابي الجديد "في الحاجة إلى التسامح"، وكان اليوم العالمي للتسامح قد تقرّر في العام 1995 حين اتّخذت منظمة اليونسكو قراراً للاحتفال بيوم 16 نوفمبر (تشرين الثاني) من كل عام، كما كانت قد قرّرت اعتبار يوم (الخميس الثالث) من شهر نوفمبر (تشرين الثاني) من كل عام يوماً عالميًّا للفلسفة، وقد احتفلتْ لأوّل مرّة بهذا اليوم في العام 2002 وتقرّر اعتماده في العام 2005 اعترافاً بالقيمة الدائمة للفلسفة في تطوير الفكر البشري، لأنّها مجال يشجّع على التفكير والنقد والاستقلاليّة وبواسطتها يمكن فَهم العالم على نحو أفضل، لا سيّما لتعزيز قيم التسامح والسلام واللّاعنف والعدالة والمساواة والحرّية والمشترك الإنساني.

وإذا كانت الفلسفة تحتلّ هذه المكانة على الصعيد العالمي إلّا أنّها ليست كذلك على الصعيد العربي والإسلامي منذ هزيمة العقلانيّة، وهكذا استُهدف فلاسفة كبار مثل الفارابي وابن سينا وابن رشد لاتهّامهم بالهرطقة واللّاتديّن لدرجة أنّ الغزالي نعَتَهم بأقسى النعوت في كتابه الموسوم "تهافت الفلاسفة"، وقد ردّ عليه ابن رشد بكتاب "تهافت التهافت"، علماً بأنّ ابن رشد اضطرَّ إلى الهجرة ومات وحيداً ومكسوراً، وفي آخر أيّامه أحرق بعض كتبه لشعوره باللّاجدوى، وحين سأله أقرب المقرّبين إليه لماذا يفعل ذلك؟ أجابه: لا تحزن يا بُني للأفكار أجنحة، أي إنها ستطير، وبالفعل طار بعض أفكاره إلى أوروبا وتمّت ترجمتها لتصلنا بعد 900 عام، وهكذا تعرَّفنا على فيلسوفنا عبر أوروبا، كما ظلّت كتب ابن سينا في الطب تُدرّس في الجامعات الأوروبية لقرون من الزمان. مجلة كندية تقول إن ترامب قد يهرب إلى الإمارات العربية لهذه الأسباب

إنّ احتفال اليونسكو باليوم العالمي للفلسفة باعتبارها "حب الحكمة" له أكثر من دلالة، ففيه تجديد للالتزام العالمي بدعم الفلسفة وتشجيع الأبحاث والدراسات الفلسفيّة وتوعية الرأي العام بأهميّة ذلك في عصر العولمة والوقوف على تعليمها على المستوى العالمي وتأكيد أهمّية تعميمها، وإذا كان لكل علم فلسفة، فإنّ لكلّ فلسفة وعلم تاريخ أيضاً، لذلك يُقال الفلسفة أُمّ العلوم والتاريخ أبوها.

وتكمن أهميّة الفلسفة نظريًّا بالتأمّل والتفكير وعمليًّا بالوسائل والمعالجات، لا سيّما في فترات الأزمات الكبرى، كما هي جائحة كورونا اليوم (كوفيد-19)، والدهشة أصل الفلسفة كما يُقال، وأوّل الفلسفة سؤال، ولعلّ أسئلة اليوم تتعلّق بالحقائق والفرضيّات والاستنتاجات الجديدة، وهي أحوج ما نكون إليه، وهذا ما يدعونا للقول بضرورة ردّ الاعتبار للعقلانيّة بصيغتها الحديثة، فحتى الدِّين ينبغي أن يكون "دين العقل" وكل ما يتعارض مع العقل ليس من الدِّين، أمّا الفقه فهو "فقه الواقع" انسجاماً مع روح العصر، ولن يحدث ذلك من دون الفلسفة الحديثة والعلوم الحديثة، لأنّ التفكير الفلسفي يمدّ الإنسان بما يحتاج لمناهضة العنصرية والشوفينيّة والتعصّب والتطرّف والعنف والإرهاب والحروب وتدمير البيئة وغير ذلك.

ولعلّ التسامح أحد نتائج الوصول إلى بيئة سليمة وتربة صالحة بقبول الآخر والاعتراف بالتنوّع والتعدّدية والحق في الاختلاف، وفي أوضاعنا الحالية هو مثل "الريح الخفيفة المنعشة التي تسبق المطر"، خصوصاً في ظلّ سيادة الواحديّة والاطلاقيّة وادّعاء الأفضليّة وامتلاك الحقيقة. وإذا كانت فكرة التسامح راهنيّة وضروريّة، فلأنّ حياتنا السياسية والاجتماعية بحاجة إلى نوع من الترميم والإصلاح ليس على الصعيد الداخلي فحسب، بل على الصعيد العالمي، في ظل هيمنة تيّارات عنصريّة قوميّة أو دينيّة أو شموليّة متعصّبة ومتطرّفة ولا تتورّع من استخدام العنف والإرهاب لتحقيق أهدافها وللإستقواء على الآخر لحل خلافاتها.

وحسب إعلان اليونسكو المؤلَّف من ديباجة و6 مواد، فالتسامح يعني الاحترام والقبول والتقدير للتنوّع الثري لثقافات عالمنا لأشكال التعبير وللصفات الإنسانيّة لدينا... ويعني الوئام في سياق الاختلاف.

والتسامح عندي ليس واجباً أخلاقيًّا فحسب، بل هو واجب سياسي واجتماعي وقانوني في الآن يمكن من خلاله معرفة درجة تطوّر المجتمع، وهو الفضيلة التي تيسّر قيم السلام وتُسهم في إحلال ثقافته محل ثقافة العنف والحرب، وهو يعني أيضاً اتخاذ موقف إيجابي فيه إقرار بحق الآخرين من التمتّع بحقوق الإنسان وحرّياته، وذلك عكس "المفهوم النيتشوي" الذي يفترض وجود طرف قويّ وآخر ضعيف، وطرف يسامح والآخر يطلب العفو، وقد بلور فولتير بعد لوك في العام 1763 في "رسالة التسامح" دعوة أخلاقية قائمة على التسامح الديني بين الشعوب والأمم.

ولقراءة واقع التسامح في العالم المعاصر هناك خمس اتجاهات أساسية:

الأول - إنكاري لرفضه فكرة التسامح بزعم امتلاك الحقيقة والأفضليّة؛ والثاني - انعزالي بزعم الرياديّة، حيث يعتقد أن ثقافته هي التي تمتلك التميّز والحق والعدل؛ والثالث - تغريبي على الرغم من تأييده الفكرة، لكنّه يدعو إلى قطع الصلة بالتراث؛ والرابع - توافقي يقبل بعض أفكار التسامح بانتقائيّة لانشداده إلى الماضي؛ والخامس - حضاري يعتبر التسامح قيمة إنسانية عُليا.

وهنا لا بدّ من التفريق بين فلسفة التسامح والنظرة الابتذاليّة التي تريد باسمه تبرير العدوان أو الاحتلال، لا سيّما "الإسرائيلي" لفلسطين أو التهاون إزاء انتهاك الحقوق والحريّات.

 

"الخليج" الإماراتية

 

 

اللحظة الصينية:

أهي واقع أو يوتوبيا؟

مقدمة بقلم أ.م.د. عبد الحسين شعبان[1]

 

I

 

            حين طلب مني البروفسور طه جزّاع برسالة رقيقة وكرم أخلاقي أن أقدّم كتابه بقوله "... سيزداد قيمة وأهمية بالمقدمة التي ننتظرها بشغف..." توقفت بمسؤولية عند طلبه، فالكتاب جهد أكاديمي رصين كُتب بلغة أنيقة وجملة رشيقة وفكرة عميقة، وكان جزّاع حرّاً طليقاً في استنتاجاته واجتهاداته، خصوصاً بالمعطيات التي عرضها والمعلومات الغنية التي وفّرها والمصادر المعتمدة التي استند إليها والمقارنات الضرورية التي أجراها، وتلك إحدى ميزات الكتاب المهمة.

            وميزته الثانية  أنه حاول جمع ثلاثة أقمار في فضاء واحد: الفلسفة والتاريخ والأدب، فهو صاحب فلسفة دراسة وتدريساً، ويعرف أن لا فلسفة بلا تاريخ وهو الذي انشغل بالفلسفة اليونانية والإسلامية والمسيحية؛ ولأنه صحافي متمرّس ويمتلك ناصية الحرف معنىً ومبنىً، فقد جاء بحثه مكثفاً وحيوياً ومشوّقاً خالٍ من الحشو والجفاف والرتابة التي كثيراً ما تتضمنها الدراسات الأكاديمية؛  وثالث تلك الميزات أنه ربط الفلسفة والتاريخ

بعلم الاجتماع السياسي والعلاقات الدولية المعاصرة في هارموني وثيق توزّعت بعض مفرداته على الميثولوجيات والفلسفات القديمة وعلاقتها بالفلسفة الحديثة ، وخصوصاً الماركسية " المادية الجدلية" وتطبيقاتها الصينية من جهة أخرى، سواء في عهد الزعيم الراحل ماوتسي تونغ أو بعد انتهاء الثورة الثقافية (1965-1976)، أي مرحلة الصعود الصينية الجديدة، التي بدأت منذ الثمانينات، والتي ما تزال مستمرة إلى اليوم وهي مرحلة تحدٍّ جديدة حيث انتقلت الصين بسرعة خارقة من بلد متخلف، إلى أن يكون البلد الثاني اقتصادياً في العالم المنافِس للولايات المتحدة، وحسب المعطيات المتوفرة فإنه سيكون البلد الأول عالمياً في العام 2030، وهو ما آثار مشكلات وإشكاليات النظام الدولي القائم ، وخصوصاً مع الولايات المتحدة، وقد يفتح صراعاً على المستوى الكوني لا يعرف أحد أبعاده.

            فهل ستحل اليوم اللحظة الآسيوية - الصينية؟ وهل سيكون القرن الحالي "قرن التنين الأكبر" كما يطلق طه جزاع في عنوان كتابه، الذي يتضمن 18 عنواناً أساسياً، سال منها حبر الأديب نقياً ورقراقاً، فاحتوته 78 كأساً فرعياً مترعة بألق خاص، لتسدّ ظمأ أو بعض ظمأ المتعطشين إلى المعرفة ، خصوصاً وقد جاء في تناسق بالحجوم والأذواق والآفاق.

            وقد اختلطت في قلمه البهي صور متداخلة ومتشابكة ومتراكبة على نحو أليف ومتفاعل وجاذب، جوهره "التاريخ المتفلسف" أو "الفلسفة المتأرخنة"، فالتاريخ أبو العلوم والفلسفة أمها، وهناك علاقة عضوية مترابطة بين الأم والأب.

II

            سأل أحد الطلاب هنري كيسنجر وزير الخارجية الأمريكي ومستشار الأمن القومي الأسبق حين عاد إلى جامعة هارفرد بعد انقطاع نحو أربعة عقود من الزمان، عمّا يمكن أن يدرسه شخص ما يأمل في الحصول على وظيفة مثل وظيفة كيسنجر، فأجابه على الفور "التاريخ والفلسفة"، فهما ضروريان لفهم الحاضر واستشراف المستقبل.

            لقد ارتبطت الفلسفة بالتاريخ، والأمر لا يتعلق بتاريخ الفلسفة أي متابعة ورصد تاريخ الفكر الإنساني، بل من حيث هو فلسفة التاريخ ، أي التفكير في تطوره وحركته ومحاولة البحث عن قانون يحكم هذا التطور ويصف ديناميته، لأن تاريخ الفلسفة هو تاريخ الروح البشرية في مواجهة الواقع الإنساني والطبيعة معاً، أي الذهاب إلى ما وراء الأفكار والتجارب ودلالاتهما الاجتماعية، لأن الفلسفة حين ترتبط بالتاريخ تنمو وتزدهر وتحيا، وحين تنفصل عنه تخبو وتذبل وتتلاشى،  فالفلسفة هي حركة التاريخ بما فيه من حكمة وحياة، وحسب كونفوشيوس: الحكمة هي معرفة الناس، أما الفضيلة فهي حب الناس؛ وبهذا المعنى فلم يكن أرسطو فيلسوفاً فحسب، بل كان مؤرخاً، وعن طريقه كان انبعاث التاريخ اليوناني، وعبد الرحمن بن خلدون لم ينشغل بالمجتمع فحسب، بل كان مؤرخاً أيضاً، وعلي الوردي ليس عالم اجتماع، بل هو مؤرخ أيضاً، وكل هؤلاء لهم علاقة بعلم الاجتماع السياسي أو بعلم السياسة الاجتماعي.

            يقول كيسنجر الذي عمل في "تروست الأدمغة" أو ما يسمى "مجمّع العقول"، قبل أن ينتقل إلى العمل الرسمي أنه حين دخل مكتبه أدخل معه كتب الفلسفة التي اعتمدت دراسة التاريخ، ولا ينظر كيسنجر إلى مقولة الفيلسوف الألماني هيغل من " أن التاريخ ماكر ومراوغ" ، إلّا من زاوية البحث عن الأخطاء لعدم تكرارها، استناداً إلى نيتشه صاحب كتاب " محاسن التاريخ ومساوئه" وإلّا فإن التاريخ لا يعيد نفسه، وإذا حصل ذلك  ففي المرّة الأولى على شكل مأساة وفي المرة الثانية سيكون على شكل ملهاة حسب عبارة ماركس الشهيرة.

            من هذه الزاوية حاول كيسنجر استخدام موقعه كجزء من خيال في رسم خطط وخرائط بعضها ما يتعلق بالعلاقات الصينية - الأمريكية، التي هي اليوم أكثر ما تكون تحدياً على المستوى العالمي، فقد حاول كسر الجليد بين بكين وواشنطن وكأنه يعبر سور الصين العظيم الذي هو من عجائب الدنيا السبع، محاولاً تطبيق نظريته الموسومة "بناء الجسور"، و"الخطوة خطوة" مقابل الضغط على الاتحاد السوفييتي العدو اللدود.

            التاريخ ليس كتاب طبخ لتقديم وصفات سابقة من الطعام ليتم تذوّقها، بل فيه فلسفة مثلما لكل علم فلسفة، ففي كل فلسفة تاريخ أيضاً، ويمكن الإضاءة عليها لدراسة حالات مماثلة وأخذ العبر والدروس والتجارب وخلاصاتها منها، ولذلك لا ينبغي أن نكون "صرعى مرض التاريخ" وفقاً لنيتشه، بحيث ندفن رؤوسنا فيه، فمن شأن تخمته أن تميتنا وتحيل كل معرفة حيّة ونضرة إلى معرفة تاريخية ذاوية وآفلة؛ فلا بدّ من عقل ورؤية وفلسفة جديدة للجيل الجديد لأنه لا يعيش بفلسفة الماضي، لذلك لم يكن من السهولة بمكان أن تعترف واشنطن بالصين في العام 1964، لتقرّر فتح ملف العلاقات معها، ذلك الذي رعاه كيسنجر، فالتاريخ يحتاج إلى معرفة مثلما يحتاج إلى فلسفة لمعرفة ما هو راهن من سياسات ومواقف وما يمكن التنبؤ به على صعيد المستقبل، إنه هو اللغز المحيّر الذي يصعب حلّه اعتباطياً حسب ماركس.

III

            يأتي كتاب جزّاع في فترة تصاعد حدّة التوتر بين الولايات المتحدة وجمهورية الصين الشعبية، والتي ارتفع منسوبها خلال تفشي وباء كورونا (كوفيد -19) التي اجتاحت العالم منذ مطلع العام 2020 والتي ما تزال مستمرة ومتصاعدة  حيث الاتهامات المتبادلة بين الطرفين، ليقدّم قراءة جديدة ومعمّقة لتاريخ العلاقات بين البلدين، في ظلّ تغييرات النظام الدولي الجديد الذي كرّس الولايات المتحدة كمتحكّم في العلاقات الدولية بعد انهيار جدار برلين في 9 تشرين الثاني (نوفمبر) 1989 وانحلال الكتلة الاشتراكية، ومن ثم انقسام وتحلل الاتحاد السوفييتي في نهاية العام 1991.

            كل ذلك جعل من الولايات المتحدة قوة عظمى بلا منازع، خصوصاً وكان باكورة تتويجها إعلان حربها على العراق (17 كانون الثاني /يناير/1991) باسم "قوات التحالف الدولي"، لكن العصر الأمريكي أخذ بالتراجع، بعد غزو أفغانستان 2001 والعراق 2003 ومن ثم بالانحسار ، مع تعافي دور روسيا نسبياً وصعود الصين المتعاظم والهند وجنوب أفريقيا والبرازيل التي شكّلت مجموعة اقتصادية مهمة ومؤثرة عرفت باسم  بريكس BRICS  في العام 2010، دون نسيان المنافسة المعولمة بين الضفة الأمريكية - الأوروبية وبين الضفة الآسيوية الصينية - الهندية، اليابانية ، الكورية ، الأندونيسية.

VI

            يلقي الباحث ضوءًا كاشفاً على الشخصية الصينية والتطور الجديد في ظلّ المتغيّرات التي حصلت بعد انتهاء الثورة الثقافية وانبعاث الثقافة والفلسفة الصينية القديمة ودورها في تكوين الهوّية الصينية الجديدة، بما يتداخل فيها من فلسفات وأديان مثل الكونفوشيوسية والتاوية، إضافة إلى البوذية، ويتوقف عند قضية البوذيين في التيبت وزعيمهم الدالاي لاما (الرابع عشر) ، مثلما يعرض إشكالية ومشكلة المسلمين في الصين بما له علاقة بقضايا حقوق الإنسان، كما هي مشكلة تركمستان الشرقية المعروفة باسم "شينغيانغ" وغالبية سكانها من قومية الإيغور المسلمة؛ ويخصص فقرة مستقلة عن" العلاقات الصينية- السوفييتية في بداياتها ونهاياتها"، أي حتى تفكك الاتحاد السوفييتي، ليختتم الكتاب في مبحث خاص عن عالم ما بعد كورونا في رؤية استشرافية.

            يمكنني القول إن كتاب طه جزّاع هو عمل متكامل  استمرت موسيقاه الداخلية تتصاعد مع حبكة درامية مشغولة بطريقة فنية ساحرة، وبقدر ما يدرك ذبول مرحلة الآيديولوجيا في الصين على الرغم من أن الحزب الشيوعي الصيني ما يزال حاكماً ومهيمناً وأن سياسة الحزب الواحد هي المستمرة، بما فيها في العمل السياسي والنقابي والمهني، وهو ما عكسه المؤتمر الأخير للحزب في آب (أغسطس) 2019، إلّا أنه يتابع فاعلية العقل الصيني التجاري، وهذه المرّة أيضاً استناداً إلى فلسفات الصين وتاريخها ، حيث يتم ملاقحتها مع التراث الفلسفي والثقافي، خصوصاً بمحاولة إحياء كونفوشيوس ولاوتسه، بعد أن شهدت الصين قطيعة أبستمولوجية (معرفية) مع التاريخ والفلسفة القديمة أيام الثورة الثقافية.

            إن هذه السياسة الجديدة التي تنطلق من تاريخ الفلسفة الصينية وفلسفة التاريخ الصيني تعني تطليق مرحلة التزمّت الآيديولوجي والشعارات اليسارية الرنانة، حيث لم تعد شعارات "الكفاح المسلح" و"الإمبريالية نمر من ورق" و"كل شيء ينبت من فوهة البندقية" هي السائدة دليلاً على الثورية والزعم بامتلاك الحقيقة وإدعاء الأفضلية، بل صارت ثقافة السوق والعرض والطلب والمنافسة الاقتصادية والتمدّد التجاري ومنطق المصالح الذي يتقدّم على لغة العقائد، دون نسيان مبادئ العدالة الاجتماعية.

             لقد تغيّر العالم وإذا لم تتغيّر الدول فستظلّ في مكانها، علماً بأن  الثورة الصناعية في طورها الخامس ستتجاوزها بسرعة خارقة، وقد أخذت الصين ذلك على عاتقها في ديناميكية حركية داخلية للتحديث والعصرنة والتجديد والتساوق مع منجزات الثورة العلمية التقنية وتكنولوجيا الإعلام والمعلومات والطفرة الرقمية " الديجيتل"، وكل ما له علاقة بالذكاء الاصطناعي في سباق محموم مع الزمن والآخر، وهو سباق طريق الحرير والحزام بالتنين الأكبر، سواءً كان أصفراً أم أحمراً، فقد استيقظ ولا يمكن تنويمه مغناطيسياً أو بالقوة وإعادته إلى عزلته، أراد الأبيض أم لم يرد؟

  

جريدة "الزمان" العراقية


 

[1]   أكاديمي ومفكر عربي (من العراق) – نائب رئيس جامعة اللاّعنف وحقوق الإنسان (أونور)، بيروت. له أكثر من 70 مؤلفاً في قضايا الفكر والقانون والسياسة الدولية والأديان والثقافة والأدب والمجتمع المدني، وحائز على جائزة أبرز مناضل لحقوق الإنسان في العالم العربي، القاهرة، 2003.

 

في فلسفة المطالبة

بإلغاء عقوبة الإعدام

 

عبد الحسين شعبان*

 

            "إنني أترك بعد موتي أمّاً وزوجة وطفلة... واحدة منهن بغير ابن، والثانية      

بلا زوج، والثالثة دون أب... ثلاث يتيمات، ثلاث أرامل باسم القانون،

إني أرضى أن أعاقب عقاباً عادلاً، لكن هؤلاء البريئات ماذا جنين؟..."

فيكتور هوغو

من مرافعته في مناهضة عقوبة الإعدام

            توطئة

            أدركُ صعوبة الخوض في مثل هذا الموضوع الإشكالي، بسبب الاصطفافات المسبقة والقيود والاعتبارات الدينية والعقائدية، كما أعرف أن دعاة المطالبين بإلغاء عقوبة الإعدام قليلون في مجتمعاتنا العربية والمسلمة، ولكن هذه القلّة كبيرة جداً في قيمها، لاسيّما تمييزها بين العدالة والانتقام، فهل القبول بالقتل يكون "عقوبة عادلة"؟ الأمر الذي يتناقض مع مبدأ " حق الحياة" المحور الأساسي لمنظومة حقوق الإنسان الكونية،  وهل قتل القاتل يحقق العدالة؟ وهل "جريمة" القتل القانوني  مقابل جريمة القتل اللّا قانوني  يوصل إلى العدالة، وحسب وليد وصليبي المفكر اللّاعنفي ومؤسس جامعة اللّاعنف "جريمتان لا تصنعان عدالة"، وعلى غرار ذلك سبق لي أن قلت "رذيلتان لا تنجبان فضيلة"، و"حربان لا تولدان سلاماً" و" عنفان لا يحققان أمناً" و"انتهاكان لا يوفّران كرامة"، وعلينا البحث عن أسباب الجرائم والمسؤولين عن وقوعها اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً وثقافياً وقانونياً، ومن خلال الثقافة السائدة بأبعادها الفكرية والدينية والطائفية، فضلاً عن منظومة التربية والتعليم والقيم المتوارثة.

            إن إنزال عقوبة الإعدام لن يعيد الحياة للمقتول ولا يمكن ردّ القتل بالقتل، ولعلّ مثل هذا الأمر سيترك تأثيراً اجتماعياً خطيراً بأبعاده الثأرية والانتقامية ، فضلاً عن إشاعة أجواء من الحقد والكراهية، ليس بين المتخاصمين وعوائلهم فحسب، بل في إطاره الاجتماعي الأوسع وامتداداته وترابطاته المختلفة.

            وإذا كان حكم الإعدام خطيراً وليس من السهولة النطق به بشكل عام، فما بالك إذا وقع خطأ في الحكم، فمن سيتمكّن من تصحيحه بعد أن يتم تنفيذه، خصوصاً وإن القضاء، أي قضاء حتى وإن كان نزيهاً ومحايداً ومستقلاً معرّض للخطأ؟ وهكذا يمكن للأبرياء أن يكونوا ضحية هذه الأخطاء.

            ولهذا السبب فإن قرار إنهاء حياة إنسان سيكون قراراً بمنتهى الخطورة، حتى وإن تذرّع البعض به لأسباب دينية أو عقائدية، الأمر الذي يحتاج إلى حوار مجتمعي قانوني وحقوقي وثقافي وفكري وتربوي، حول مدى الفائدة من استمرار حكم الإعدام، وجدوى اللجوء إليه.

            وإذا كان "الله" قد منح حق الحياة، فكيف لإنسان أن يسلبها؟ وحسب بعض المعطيات فإن إلغاء العقوبة أدى إلى تخفيف الجرائم، مثلما حصل في فرنسا وكندا وإيطاليا، فما الفرق بين أن تقتل باسم القانون وباسم المجتمع أو بين أن يقتل القاتل تحت تأثير عوامل مختلفة، ولعلّ هذا واحد من أسباب انحيازنا لإلغاء عقوبة الإعدام باعتبارها مطلباً حقوقياً واجتماعياً ببعد إنساني .

            في تعريف الإعدام

            "الإعدام" كتعريف قانوني هو إنهاء حياة إنسان بموجب حكم قضائي، ولكن ألا يتضمن مثل هذا الحكم القضائي جانباً من الانتقام وليس العدالة؟ في حين يفترض فيه أن يكون حكماً للعدل وليس للثأر. وسوف تكون عملية القتل لا منعاً للجريمة ولا ردعاً بقدر ما ستؤدي إلى القتل. وقد كانت الأنظمة القضائية في العهود السابقة والعصور القديمة تبالغ في أحكام الإعدام إلّا أنها بدأت تخفّف منها حتى لجأت الدول مؤخّرا إلى إلغائها لافتقادها للجانب الإنساني. ولا يختلف الأمر لدولة متقدمة مثل الولايات المتحدة الأمريكية  ودولة عالمثالثية مثل الباكستان، فكلاهما يطبّقان عقوبة الإعدام (الأولى في 35 ولاية) والثانية وفقاً لأحكام الشريعة الإسلامية.

            وكانت الجمعية العامة لـ الأمم المتحدة قد أصدرت قراراً برقم 2857 في العام 1977 خاطبت فيه العالم بضرورة تقليل عدد الجرائم التي تفترض اتخاذ عقوبة الإعدام ، وأصدرت بعد ثلاثة عقود من الزمان (2007) قراراً يقضي بتعليق عقوبة الإعدام مع متابعة العمل لإلغائها. ويعتبر الاتحاد الأوروبي منظمة خالية من عقوبة الإعدام Death Penalty Free  بموجب ميثاق الحقوق الأساسية للاتحاد، الذي نصّ على "رفض قبول أي عضو (دولة جديدة) في عضوية الاتحاد، إذا كان الإعدام ضمن نظامه القضائي".

            الإعدام قتل عن سابق إصرار وتصميم ، ولذلك توجّهت 142 دولة من دول العالم البالغ عددها 193 لإلغاء العقوبة أو وقف تنفيذها، ومن الدول العربية التي تندرج ضمن القائمة الأخيرة هو لبنان، حيث اعتمد نظام الموراتوريوم (الأمر بتأجيل الوفاء- تأجيل أو  تعليق أي نشاط أو  قانون)، حيث أوقف عملياً تنفيذ العقوبة ، على الرغم من بقائها في 20 مادة من قانون العقوبات و19 مادة من قانون العقوبات العسكري و9 مواد من قانون أصول المحاكمات الجزائية، كما ذهب إلى ذلك نقيب المحامين السابق جورج جريج في الندوة التي نظمتها " الهيئة الوطنية للحقوق المدنية" في " بيت المحامي" (بيروت) من أجل دعم إلغاء عقوبة الإعدام في لبنان، في 27 يناير (كانون الثاني) 2014.

            وكان قد ورد في تقرير دولي أن نحو 174 دولة لم تقدم على عقوبة الإعدام في العام 2012، لكن ما هو مثير للقلق أن دولاً كبرى مثل الصين والولايات المتحدة والهند وإندونيسيا ما زالت تطبق عقوبة الإعدام، كما أن العديد من البلدان العربية ما تزال تنفذ عقوبة الإعدام على نحو واسع.

            فهل الموت: أي الإعدام الذي يساوي القتل سيكون عاملاً رادعاً للجريمة بالقصاص من الجاني وردعاً للغير؟ وهل هو العلاج الفعّال أم ثمة علاجات أكثر نجاعة وإنسانية؟ وكان وليد صليبي قد قدّم منذ 24/1/2004 مشروع قانون إلى مجلس النواب لإلغاء عقوبة الإعدام، استند فيه إلى "الشرعة الدولية لحقوق الإنسان" و"الدستور اللبناني"، إضافة إلى قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 2857 لعام 1977 ورد فيه الهدف من هذا القرار هو " إلغاء عقوبة الإعدام إلغاء كاملاً في جميع البلدان...".

            وبالطبع فإن مقاصد هذا الهدف هي منع الجريمة والحيلولة دون استمرارها وليس إلغاء المجرم ، وأسباب الجريمة تتمثّل في الفقر والجهل والأمية، فضلاً عن جوانب أخرى من الحياة الاجتماعية والحرمان والغبن وغيرها مثل: الحروب والنزاعات وأيديولوجيات الكراهية، وخصوصاً الطائفية والدينية والعنصرية.

            وبهذا المعنى لا تقع على الفرد المرتكب وحده مسؤولية الجريمة،لأن فيها جوانب مجتمعية بحكم الثقافة والتربية السائدتين ، الأمر الذي يعتبر عاملاً مخففاً  لا بدّ من أخذه بنظر الاعتبار في تقرير الحكم بحق المرتكب وهو موجود في كل الجرائم، وقد يذهب ذلك إلى تحديد مسؤولية المجتمع في تعويض أهالي الضحايا وإعادة تأهيل المرتكب وبالتالي وضع الخطط اللازمة لإصلاح الأوضاع الاجتماعية التي تؤدي إلى تفقيس بيض الجرائم بحكم انتشار فايروسات الفقر والأمية والجهل ، ناهيك عن الأسباب الأخرى كالحروب والنزاعات والإرهاب.

            ومما ورد في اقتراح صليبي " أنه لا يجوز أن نشرّع الثأر في القانون، بل نعمل على إزالته من النفوس ومن تقاليد المجتمع" أي أن الدولة لا تثأر، بل تعمل على الحدّ من الثأر، الأمر الذي اقتضى استبدال العقوبة إلى عقوبة أدنى مثل حكم المؤبد.

            سجلٌ عربي مثير  

            لكي نرى خطورة حكم الإعدام فعلينا متابعة سجل البلدان العربية، ففي عام 2016 أصدرت المحاكم في البلدان العربية 700 حكم إعدام. وتعتبر جيبوتي الدولة الوحيدة التي ألغت عقوبة الإعدام منذ العام 1995، ولم تنفّذ هذه الدولة منذ استقلالها عن فرنسا في العام 1977، ولا مرّة واحدة عقوبة الإعدام ، وهو ما ذكره رئيس جيبوتي  اسماعيل عمر جيلي في حواره مع كاتب السطور العام 2004،  في حين أن هناك دولاً جمّدت التنفيذ وبعضها عاد إليه.

            وذهبت دول المغرب العربي باستثناء ليبيا ( المغرب والجزائر وتونس وموريتانيا ) إلى التجميد الفعلي لعقوبة الإعدام، على الرغم من استمرار صدور أحكام بالإعدام، وكان لنشاطات المجتمع المدني وهيئات ومنظمات حقوق الإنسان الدور الكبير في ذلك.

            وعلى الرغم من وجود أحكام قضائية في المحاكم المغربية فإن وزير العدل السابق محمد أوجار كان قد تعهّد بتقليص عدد الجنايات التي تصل عقوبتها إلى الإعدام من 31 جريمة إلى 11 في إطار المسطرة الجنائية المنشودة. وأوقفت المغرب العقوبة منذ العام (1993).

             أما تونس فقد سبقت المغرب  بعامين (1991)، وفي الجزائر كان آخر تنفيذ حكم الإعدام هو العام (1993) (إعدام أربعة من الجبهة الإسلامية للانقاذ لاتهامهم بتفجير مطار العاصمة الجزائر في العام 1992) وكان آخر تنفيذ لحكم الإعدام في موريتانيا هو العام (1987)، لكنه لم يلغ من القوانين النافذة.

            وتعتبر ليبيا من الدول المغاربية والعربية الأكثر تنفيذاً لأحكام الإعدام ، سواء في عهد الزعيم الليبي معمر القذافي، أو بعد انفلات العنف والنزاع الأهلي منذ العام 2011 ولحد الآن.

            وكانت الأردن قد جمّدت عقوبة الإعدام لنحو عقد من الزمان 2006-2014 لكنها أعادت العقوبة في أواخر ديسمبر /كانون الأول 2014 بحق مدانين في جرائم قتل (عددهم 11)، وفي فبراير (شباط) 2015 نفذت حكم الإعدام بحق ساجدة الريشاوي  وزياد الكربولي  وهما من تنظيم القاعدة  (المتهمان بتفجير فنادق في عمان )، وذلك بعد إعدام داعش الطيار الأردني معاذ الكساسبة. وفي العام 2016 نفذ الأردن 16 حكماً بالإعدام حسب منظمة العفو الدولية. جدير بالذكر أن الملك حسين بن طلال الذي حكم الأردن من العام 1952 ولغاية 1999 لم ينفذ حكم إعدام واحد، وكانت البحرين قد جمّدت عقوبة الإعدام  لنحو عقد كامل، لكنها عادت لتنفيذها العام 2006 .

            ويعتبر العراق  من أكثر البلدان العربية تنفيذاً لحكم الإعدام، ففي العام 1941 تم تنفيذ حكم الإعدام بالعقداء الأربعة الذين قاموا بانقلاب عسكري، وفي العام 1949 تم تنفيذ حكم الإعدام بخمسة من كبار الشيوعيين بينهم " فهد - يوسف سلمان يوسف" الأمين العام للحزب ، وبعد ثورة 14 يوليو (تموز) 1958 بدأ مسلسل الإعدام بحق أعمدة العهد الملكي، ثم حلفاء الأمس من القوميين والبعثيين، وتضخّم ملف الإعدام بعد انقلاب 8 فبراير (شباط) 1963 واستمرّ دون توقّف إلّا في فترة محدودة، ولكن أكثر الفترات اتساعاً وعسفاً كانت بعد انقلاب 17-30 يوليو(تموز) 1968، حيث حكمت "محكمة الثورة" وحدها نحو 1700 حكماً بالإعدام نفّذ الكثير منها، ناهيك عن الأحكام خارج القضاء، وقد تم إلغاء المحكمة في مطلع التسعينات.

            وفي فترة ما بعد الاحتلال الأمريكي للعراق العام 2003 ومع انتشار العنف والإرهاب في العراق، عادت ماكنة الإعدام إلى العمل بوتيرة سريعة، سواءً  بمحاكمة أركان النظام السابق، أم بعد الفوضى والانفلات الأمني وتصدّر الميليشيات، وزاد الأمر في فترة احتلال داعش للموصل وما بعدها (10 يونيو/حزيران 2014 إلى نهاية 2017)  وهكذا ازداد صدور وتنفيذ أحكام الإعدام، فضلاً عن أن بعض  أحكام الإعدام تم تنفيذها خارج القضاء في ظروف المواجهات والاحتقان الطائفي.

            أما في سوريا فقد كان لظروف الحرب الأهلية التي تستمر منذ العام 2011 دوراً  في توسيع عقوبات الإعدام، سواء باسم القانون أو خارج القضاء، وهناك تقارير عديدة توثق بعض الحالات حسب منظمة العفو الدولية، ناهيك عمّا قامت به الجماعات الإرهابية مثل داعش و"جبهة النصرة" ( جبهة تحرير الشام) وغيرها.

            وشهدت مصر منذ الإطاحة بحكم الأخوان والرئيس محمد مرسي في العام 2013  أكبر نسبة قرارات بتنفيذ حكم الإعدام قياساً بالفترات التي سبقتها. وتعتبر المملكة العربية السعودية  في مقدمة بلدان المنطقة في تنفيذ أحكام الإعدام ، ويتم تنفيذ عقوبة الإعدام كذلك  في دول الخليج الأخرى وإن بدرجة محدودة، إضافة إلى اليمن، وخصوصاً بعد الحرب الأهلية منذ العام 2015.

            وكانت أنظمة مثل السودان  وباكستان وإيران لا تتورع من إنزال القصاص  بخصومها أو أعدائها، باسم الشريعة  الإسلامية وتحت عناوين مختلفة، حيث استمرت عقوبة الإعدام، وفي بعض الأحيان لا تراعى في تطبيق هذه العقوبة القاسية إزاء الأحداث الذين تقل أعمارهم عن 18 عاماً وتتم معاملتهم كبالغين، وفي ذلك مخالفة لقواعد القانون الدولي الاتفاقي (التعاهدي) والعرفي، بل إن ذلك من القواعد الآمرة Jus Cogens  في أوقات السلم والحرب على حد سواء، وهو ما تحظره اتفاقية حقوق الطفل لعام 1989 ، إضافة إلى العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية لعام 1966 والذي دخل حيّز التنفيذ في العام 1976 والدول الأطراف فيه تزيد عن 160 دولة.

            أما "إسرائيل" فقد قنّنت  عقوبة الإعدام بموجب تشريعات صادرة في العام 1954 باستثناء الجرائم الخطيرة التي ارتكبت خلال الحرب العالمية الثانية، وكان آخر إعدام رسمي هو لأدولف إيخمان في العام 1962، الذي كان مسؤولاً في جهاز الـ SS المتهم بارتكاب مجازر ضد اليهود فيما سمّي بـ"المحرقة" ، وقد تم اختطافه من الأرجنتين  في 11 مايو (أيار) العام 1960من جانب "جهاز الموساد الإسرائيلي" في عملية استخبارية طويلة استمرت لنحو 15 عاماً، حتى تم اكتشافه بعد هربه من ألمانيا في نهاية الحرب. وأثارت عملية الاختطاف جدلاً قانونياً وسياسياً لمخالفتها لقواعد القانون الدولي ، إذ لا بدّ للوصول إلى العدالة سلوك طريق شرعي وقانوني وعادل أيضاً، فثمة علاقة عضوية بين الوسيلة والغاية.

            وقد صادق البرلمان "الإسرائيلي" (الكنيسيت ) في مطلع العام 2018 على مشروع قانون يجيز تنفيذ عقوبة الإعدام بحق ما سمّي بـ" الإرهابيين" وصوت عليه 52 نائباً، مقابل 49 عارضوه من أصل 120 نائباً. وكان حزب "إسرائيل بيتنا" الذي يتزعمه وزير الدفاع الأسبق أفيغدور ليبرمان اليميني المتطرّف هو من تقدّم بمشروع القانون، وأحيل إلى لجنة حكومية لدراسته قبل أن يعاد للتصويت عليه بعد 3 قراءات ليصبح جزءًا من " القوانين الأساسية".

            جدير بالذكر إن "إسرائيل" هي بلا دستور حتى الآن، لأن ذلك يتطلّب منها إقرار مبادئ المساواة وهي غائبة، لاسيّما وهي تمارس التمييز عن تخطيط وإصرار بحق عرب فلسطين، كما يفترض بها تحديد الحدود، وهي ما تزال تتوسع على حساب البلدان العربية في إطار مشروعها الاستيطاني الإجلائي الإحلالي "من النيل إلى الفرات" ، وقد حظي مشروع قانون تنفيذ عقوبة الإعدام بدعم رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو.

            وبغض النظر عن النصوص القانونية فإن "إسرائيل" تمارس أشكالاً مختلفة ومتنوّعة من الاغتيال والقتل العمد إزاء السكان الفلسطينيين الأبرياء العزل بسبب انتقامي وثأري، انطلاقاً من آيديولوجية وممارسة عنصرية، وأحياناً تقوم بذلك بزعم " الحرب الوقائية" أو "الاستباقية"، سواء ضد شخصيات تعتبرها "خطرة"، أم بهدف إحداث الرعب في الوسط الفلسطيني والعربي، إذ غالباً ما يمتد إجرامها إلى دول عربية أخرى في لبنان وسوريا والعراق والأردن وتونس ، إضافة إلى فلسطين ، بل وإن ساحة حركتها الإرهابية هو العالم كلّه.

            اختلاف ومحاولة للفهم

            لا زال الصراع قائماً بين دعاة وقف وإلغاء عقوبة الإعدام وبين دعاة التمسك بها، وهو صراع بين تيار محافظ يتشبث باسم الدين وتيار حقوقي في الغالب، وإن كان داخل التيار المدني من يبرّر تنفيذ عقوبة الإعدام باعتبارها إجراءً ثورياً رادعاً ، وغالباً ما سلكت الأنظمة التي أطلقنا عليها التحررية أو الاشتراكية طريق تنفيذ عقوبة الإعدام على نحو أكثر اتساعاً وبخفّة غير معقولة، راح ضحيتها المئات، بل الآلاف من المعارضين حتى وإن كانوا بالأمس من أركان النظام وأعمدته الأساسية.

            وما تزال العقبات السياسية الثقافية والاجتماعية والدينية تحول دون إلغاء عقوبة الإعدام، الأمر الذي يحتاج إلى جهد مدني لنشر ثقافة اللّاعنف والذي بالنتيجة يؤدي إلى مناهضة الإعدام ، ولا بدّ من البدء من المدارس والجامعات وبالتعاون مع قطاعات المجتمع المدني والإعلام لتوسيع خيارات الناس وتلبية حاجاتهم، خصوصاً بالسير في طريق التنمية المستدامة بجميع جوانبها. والأمر يحتاج إلى مراجعة دقيقة للأنظمة والقوانين النافذة لوضعها بانسجام مع اللوائح الدولية لحقوق الإنسان التي وقعت عليها البلدان العربية أو تشريع قوانين جديدة تتلاءم مع التطور الدولي في هذا المجال، خصوصاً وإن دساتير بعضها أعطى للمعاهدات والاتفاقيات الدولية وقواعد القانون الدولي السمة العلوية.

            وعلينا في الختام الاعتراف أن ثمة التباس غالباً ما يحصل فيثير تعارضاً شديداً وسوء فهم واتهام أحياناً حول المراد  من مغزى وفلسفة المطالبة بإلغاء عقوبة الإعدام ، وكأنه دفاع عن القاتل،  لكن مثل هذا الفهم سطحي ، فالذين يرتكبون جرماً ينبغي إنزال العقاب بهم لأنهم يستحقونه، وهذا أمر مفروغ منه، لكن لا بدّ من أن يكون هذا العقاب إنسانياً، ولا ينبغي للدولة أن تشارك في عملية القتل، بقدر ما تبحث في الأسباب والوسائل التي دفعت بالمجرم لارتكاب جريمته، أي لا ينبغي معالجة الجريمة بجريمة أخرى، والقتل حتى وإن كان قانونياً لا يلغي الجريمة، بل يلغي القاتل فقط، والمطلوب إلغاء الجريمة.

            الإعدام عنف، وهو وسيلة عنفية للعقوبة، وهذا العنف قتلٌ، فهل القتل الثاني هو التعويض عن القتل الأول أم أن الهدف هو العدل والحق وتعويض الضحايا أو عوائلهم وردع الجريمة؟ تلك هي الفلسفة وراء المطالبة بإلغاء عقوبة الإعدام.

            ولعل مثل هذه المسألة جديرة بأن تجعلنا نعيد التفكير بإنسانيتنا ولأجلها، إذْ لا يمكن للموت أن يكون قصاصاً للموت: أي الموت ضد الموت، ومسألة مثل تلك تحتاج إلى تفكير عميق فالوسيلة جزء من الغاية، وحسب المهاتما غاندي، إنها مثل البذرة إلى الشجرة ، ولا وسيلة للقتل بحجة عدالة الغاية ، وإذا كانت الغاية بعيدة، فالوسيلة ملموسة وآنية، تلك التي لا ينبغي أن تتعارض مع الغاية.

            قد تطول مسألة اتخاذ قرار بإلغاء عقوبة الإعدام، لكن الحاجة إلى إعادة النظر بالنظام التربوي والتعليمي لنشر ثقافة اللّاعنف كفيل برفع وتعزيز الوعي بالقانون وبالثقافة الحقوقية، انطلاقاً من القيم الإنسانية، والضمير بهذا المعنى هو "القانون الأسمى" حسب ديفيد ثورو، ولهذا لا بدّ أن يكون الضمير يقظاً، وهذا يمكن أن يولد قناعة فردية وأخرى مجتمعية ، حتى لعوائل الضحايا الذين يمكن أن ينخرطوا ضد عقوبة الإعدام، علماً بأن الإيمان بالدين ينبغي أن يكون أخلاقياً ولعمل الخير لا لتبرير القتل، فالأديان هي للسلام وليست للعنف أو لمباركة القتل .

            وأختم بنصوص من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لعام 1948:

المادة 3- " لكل فرد الحق في الحياة والحرية وفي الأمان على شخصه"

المادة 5- "  لا يجوز إخضاعُ أحد للتعذيب ولا للمعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو الحاطَّة بالكرامة."

            وإذا كان الإعلان العالمي لحقوق الإنسان قد ورد ذكره في معظم الدساتير العربية، فينبغي والحالة هذه أن يكون ملزماً لها. وكان البروتوكول الاختياري الثاني الذي صدر في العام 1989 والذي دخل حيّز التنفيذ في العام 1991، قد نصّ على إلغاء عقوبة الإعدام، علماً بأن هذا البروتوكول هو ملحق بالعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الصادر في العام 1966 والداخل حيّز التنفيذ في العام 1976، ذلك لأن عقوبة الإعدام لا تعيد الضحية.

             أما عن جوهر الدين فحسب الإسلام هو العفو والتسامح وما  "الدين سوى الحب" وفقاً للإمام جعفر الصادق، وفي المسيحية: المحبة وعدم القتل. وكما يقول ابن عربي:      " أدين بدين الحب أنّى توجهت / ركائبه فالحب ديني وإيماني".

            ولذلك، فإن مبدأ "العين بالعين" يجعل البشرية بأسرها "عمياء" حسب غاندي ، وكما جاء في كلام كونفوشيوس " نردّ الخير إزاء الخير ونردّ العدالة إزاء الشر، لا الشر إزاء الشر" .

*****    

* – أكاديمي ومفكر عربي (من العراق) – نائب رئيس جامعة اللاّعنف وحقوق الإنسان (أونور)، بيروت. له أكثر من 70 مؤلفاً في قضايا الفكر والقانون والسياسة الدولية والأديان والثقافة والأدب والمجتمع المدني، وحائز على جائزة أبرز مناضل لحقوق الإنسان في العالم العربي، القاهرة، 2003.

نشرت في مجلة تسامح التي يصدرها مركز رام الله لدراسات حقوق الإنسان ، /11/2019.

 

 

(البايدنية) وكلمة السر

عبد الحسين شعبان

 

أربعة معطيات أساسية أفرزتها المعركة الانتخابية الأمريكية مؤخراً:

أولها - أن دونالد ترامب ليس شخصاً عابراً أو لحظة مفارِقة في التاريخ الأمريكي، فالشعارات الشعبوية التي رفعها كانت تعبيراً عن أوساط أمريكية نافذة ومؤثرة في المجتمع الأمريكي، والدليل على ذلك هو نسبة الأصوات التي حصل عليها والتي زادت على 72 مليون صوت.

وثانيها - أن فوز جو بايدن كان بسبب ترامب نفسه، لأنه رد الفعل الوحيد الممكن والمتاح أمام الناخبين الذين أخذوا ينصرفون عنه بسبب مواقفه من أصحاب البشرة السوداء، ومن اللاجئين، أو المهاجرين من أصل لاتيني، الأمر الذي أضعف من نسبة التصويت له، حتى في ولايات كانت تعتبر تاريخياً على ملاك الحزب الجمهوري، بالرغم من النمو الاقتصادي الذي شهدته الولايات المتحدة خلال السنوات الثلاث الأولى لتوليه إدارة البيت الأبيض قبل مداهمة جائحة كورونا «كوفيد - 19».

وثالثها - أن السياسة الشعبوية لإدارة ترامب دفعت البلاد إلى حافة الانقسام بفعل الاستقطاب الذي ساد في المجتمع الأمريكي.

ورابعها - الاستهزاء الذي أبداه ترامب بالديمقراطية الأمريكية العريقة، واتهامه النظام الانتخابي بالفساد، بزعم أن ملايين البطاقات الانتخابية وصلت إلى لجنة عدّ الأصوات يدوياً بعد انتهاء يوم الانتخاب 3 نوفمبر/ تشرين الثاني، وحسب وجهة نظره، تُعتبر بطاقات باطلة، أو لاغية، وقد استبق الأمر بالتصريح بأنه لا يعترف بنتائج الانتخابات المزورة في حالة عدم فوزه، لذلك قرر الذهاب إلى المحاكم المحلية، ومن ثم إلى المحكمة الاتحادية العليا للبت في الأمر، وإصدار حكم قضائي بشأن حدوث تزوير من عدمه، لتحديد من هو الفائز.

فهل سيكون مجرد وصول بايدن إلى البيت الأبيض نهاية للظاهرة الترامبية، أم أن وجودها نتاج طبيعي لصعود الشعبوية، وازدياد الشعور بالتفرد والهيمنة للعصر الأمريكي الذي كثُر الحديث عنه مع انتهاء عهد الحرب الباردة؟ خصوصاً فترة الرئيس جورج بوش الأب، ومن بعده جورج بوش الإبن، الأمر الذي خاضت فيه الولايات المتحدة حروباً ونزاعات غير قليلة، لكن نجاح الحزب الديمقراطي، ووصول الرئيس باراك أوباما، ونائبه جو بايدن، لدورتين انتخابيتين خفض من حِدَة هذا التوجه الذي توج بسحب القوات الأمريكية من العراق، ولكن بفوز رئيس شعبوي أعاد التوجهات السابقة للغة السوق، والتجارة، والمضاربات، وحسابات الربح، والخسارة.

والنتيجة هي المأزق الأمريكي الذي أخذ يتعمق، فهل يُعقل أن ديمقراطية عريقة مثل ديمقراطية الولايات المتحدة تشوبها عيوب تجارب انتخابية هشة مثل بعض بلدان العالم الثالث، حيث يجري الحديث عن تزوير الانتخابات والتداخلات الخارجية، وغير ذلك؟

وإذا كانت الترامبية بدت لحظة صِدامية في التاريخ الأمريكي على المستوى الداخلي، بالاصطفافات العنيفة للتيارات الشعبوية لذوي البشرة البيضاء، وبين الجماعات والفئات من أصول أفريقية، أو لاتينية، فإن البايدنية برزت في لحظة رد فعل غير منهجي، أو مبرمج للحظة الترامبية، فما قرره ترامب عارضه بايدن، ولهذا السبب فقط أحرز النجاح، أو الفوز، أي أنه لم يفز بسبب برنامجه أو شعبيته، بل بسبب معارضته ترامب، وهكذا وضع الناخب الأمريكي أمام خيارَين كلاهما صعب، فاختار الأقل ضرراً، فهل هذه هي صورة أمريكا؟ وهل سيكون الفوز البايدني مثقلاً بالماضي الترامبي؟ والسؤال هل البايدنية حل للمأزق الحالي، أم أنها مجرد رد فعل باهت لما قام به ترامب؟

سيكون أمام البايدنية تحديات أساسية تتلخص في إعادة الثقة على المستويين الداخلي، والدولي، والأمر يتعلق بالضمان الصحي الذي كان تقرر في عهد أوباما، والمعروف ب«أوباما كير»، والنفقات المخصصة للتعليم، والموقف من العمالة الأجنبية واللاجئين والمهاجرين، ومواجهة كوفيد-19، إضافة إلى العلاقة مع الصين، وروسيا، والعقوبات المتخذة ضدهما، فضلاً عن الموقف من «حل الدولتين» بالنسبة للقضية الفلسطينية.

وحتى الآن، ليس ثمة نظرية واتجاه يمكن أن نطلق عليه اليوم «البايدنية»، وإنما هناك كلمة السر التي اجتمع تحت لوائها كل مَنْ ناهض سياسات ترامب، ولهذا لا يمكن قراءة الظاهرة البايدنية إلا من خلال الظاهرة الترامبية، ولكن فقط، في حالة تمكن بايدن من بناء الجسور وترميم ما تصدع من علاقات، وإجراء ما يمكن من مصالحات فإنه يمكن أن يعيد رسم الخريطة السياسية «من أجل روح أمريكا»، وهو الشعار الذي رفعه في معركته الانتخابية، وإذا ما نجح في ذلك يمكن أن تنشأ ملامح «هُوية بايدنية» ليست ظلًا لأوباما، بل في خط مواز له، ومتراكم عليه، ما بعد المرحلة الترامبية.

drhussainshaban21@gmail.com

 

 

حول انتفاضتي لبنان والعراق

 

عبد الحسين شعبان

 

لم تكن الرومانسية القديمة كافية لإشعال حماسة الشباب، بما فيها الوعود، والآمال الكبيرة، والشعارات البرّاقة بعيدة المنال؛ لقد حلت محلها الواقعيّة السياسيّة بلا شعارات كبرى، ولا وعود معسولة أقرب إلى السراب، حيث انتظمت الملايين بشعارات مبسطة: الحرية، العدالة، تعديل الدستور، القضاء على الفساد، واحترام حقوق الإنسان.

هكذا سدّت الجماهير التي تذكّر بعصر المداخن، باستعارة من كارل ماركس، الساحات والشوارع، بل زلزلت الأرض تحت أقدام الحكام، في حين فقد المثقف الأيديولوجي صوته وهو يبرر خطاب الحاكم بالقمع السياسي، أو بالقمع الفكري، ويحرق البُخور بالدعاية والتزويق بحجج ومزاعم شتى، أو المُعارض الذي كان بعيداً، أو غائباً، أو مخادعاً، فقد كانوا بعيدين عن ساحة المشاركة الفاعلة، وإنْ التحقوا بعد حين وسط جوّ من الدهشة، والارتباك، والحيرة.

لقد تجاوزت المعركة الحقيقية التي أرادها الناس المعارك الوهمية الصغرى حول أفضليات هذه المجموعة أو تلك، أو هذه الطائفة أو تلك، خصوصاً حين تقدّم جيل الشباب بكل فئاته جاعلاً من انتفاضته، ولأوّل مرة في الوطن العربي، ثورة شعبية سُداها ولُحمتها الشباب، الجميل، الحالم بقدر واقعيته وبراغماتيته، فقد كان ثوريّاً بامتياز، ولكن ضمن مفاهيم جديدة، فلم تعُد مقولة إن الثورة لا يمكن لها أن تتحقق ما لم تتوفر لها قيادة مُلهمة، أو أن تكون تحت إشراف وتنظيم حزب قائد «طليعة»، أو أن قوى الداخل ليس بإمكانها إنجاز التغيير من دون التعويل على الخارج ومساعداته، وما سمّي تلطيفاً «العامل الدولي» الذي أوصل بلداً مثل العراق، بعد حصار دولي جائر دام ثلاثة عشر عاماً، إلى الاحتلال البغيض، وإنْ كان ثمّة جزعٍ ويأسٍ من التغيير الداخلي في ظلّ هيمنة إقليمية ودولية أحياناً، لذلك ترى بعض الأصوات حتى إن كانت خافتة، أو هامسة، تدعو لإعادة الانتداب مجدّداً، وهو ما نمّ عن هواجس هنا، وهناك، في لبنان، والعراق.

وأثبت جيل الشباب أنه الأقدر على تحقيق خياراته كما يريد هو، لا كما يُراد له، فقد أخطأ من ظنّ أن الشارع العربي قد أصابته الشيخوخة فدخل في سُبات عميق، أو أن الحكومات الشمولية والطائفية دجنت الشعوب بعوامل الجوع، والخوف، فضمنت خضوعها اللامحدود بمكان، أو زمان. وها هو يخرج من قمقمه ليخترق الميادين والساحات مُحطّماً حواجز الخوف، ومنتصراً على جوعه، وقهره في أولى خطواته نحو الوجود، والكرامة.

لم يكن للانتفاضتين رمز قائد، أو زعيم مخلّد، أو مُلهم مخلّص يصبح لاحقاً «معبوداً»، ومقدّساً، وفوق حدود النقد، ولم يكن لهما أيضاً نصوص مقدّسة أو مقولات خالدة؛ فقد كانتا تواجهان الواقع المعقّد بشعارات واضحة، ورمزية، وواقعية، في آن واحد، ومثلما كانتا ضد الصنميّة، فإنهما كانتا ضد النصوصية، أي أنهما ضد المسلّمات، واليقينيات، والقدسيات، والسلفيات المشوّهة، والوعود الزائفة، وعابرتين للطوائف، والطبقات الاجتماعية، والمجموعات القبلية، والعشائرية، واضحتين في مطالبهما، وحاسمتين برفضهما للمساومة وأنصاف الحلول، ومؤكدتين إخلاصهما، ونزاهتهما، والتزامهما بمطالب شعبيهما.

 

 لقد وضعت الانتفاضات التي انتصرت، سواء في العالم العربي، أو في أوروبا الشرقيّة، أو في أمريكا اللاتينيّة، بإسقاطها الدكتاتوريات، سؤالاً محرجاً أمام أحزاب المعارضة والأحزاب الكلاسيكيّة: أين دورها، وما هو موقعها من الخريطة السياسية الجديدة؟

حقّاً لقد أفرزت الانتفاضات العربية، رغم منعرجاتها ووعورة طريقها، نمطاً جديداً من التفكير والممارسة، متقدّماً، وشجاعاً، مثلما ساهمت في تعميق الوعي الثقافي الجديد المتفاعل مع الوعي العالمي، حيث بدأ الشباب بكل حيويّته، وطاقاته، ومبادراته، وأصبح على الجميع اليوم الاستماع إليه، والوقوف خلفه ليصل إلى طريق المشروعية القانونية، أي حكم القانون، والشرعية السياسية، أي رضا الناس، وتحقيق المنجز التنموي الذي يلبّي طموحاتهم، وليتمكّن من حماية عملية التغيير قبل أن يتم الالتفاف عليها، أو سرقة منجزاتها، أو اللعب بمستقبلها.

كما أثبتت حركة الاحتجاج الجديدة ضمور دور الدُعاة الحزبيّين الأيديولوجيّين، العقائديّين، الذين بشّروا الناس بالجنّة، أو بعالم يحقّق الوحدة العربية، أو تحرير فلسطين، (الآن وليس غداً)، أو ينجز حلم الاشتراكية والعدالة الاجتماعيّة الأخّاذ، حيث ظلّ الصراع بين القوميين والشيوعيين، ومع الإسلاميين في ما بعد، لا على الحاضر، بل على المستقبل، وأحياناً ليس في مملكة الأرض، بل على قيم السماء.

drhussainshaban21@gmail.com

جريدة الخليج "الإماراتية"

 

عُسر «الديمقراطية» عربياً

عبد الحسين شعبان

«العربي يُعجب بماضيه، وأسلافه، وهو في أشد الغفلة عن حاضره ومستقبله». هذا ما كتبه جمال الدين الأفغاني، قبل قرن ونيف من الزمان، فماذا يمكن أن نقول الآن، والعديد من البلدان العربية تواجه تحديات مختلفة تعيق انتقالها إلى فضاء المشروعية القانونية والدستورية ومناخ الشرعية السياسية المقترنة برضا الناس والمنجز التنموي الذي يلبي حاجاتهم الأساسية المادية، والروحية.

 وخلال العقد الماضي شهدت العديد من البلدان العربية أحداثاً كبرى وضعت نُظمها السياسية في موقف حرِج للغاية، فترنح بعضها بين التشبث بالبقاء، وبين الانتقال والتغيير، خصوصاً أنه لم يكن هناك حامل اجتماعي جاهز، ولا وجود لبرنامج سياسي متفق عليه للتطبيق لمرحلة الانتقال، وكل ما حصل هو إنهاء شكل من الاستبداد، لكن ثمة أنواع جديدة منه بدأت تتصادم مع تطلعات الناس للتغيير الجذري، فالثورة ليست شعارات وأحلاماً وردية وتمنيات، وإنما هي «حَفر في العُمق، وليس نقراً في السطح»، على حد تعبير المفكر السوري ياسين الحافظ.

 ومع بدايات ما يسمى ب«الربيع العربي» تدفقت بعض المصطلحات إلى ساحة العمل السياسي مثل «التحول الديمقراطي»، و«مرحلة الانتقال إلى الديمقراطية»، و«التغيير الديمقراطي» لدرجة فاض بها المشهد حد الطوفان، وعلى الرغم من أنها لا تزال متداولة وسارية، إلا أن بريقها بدأ يخفت بالتدرج، فصخرة الواقع كانت صلدة جداً، فليس مجرد الإطاحة بالأنظمة الفردية، أو التسلطية، أو الاستبدادية، سيفتح الباب أوتوماتيكياً أمام التطور الديمقراطي، فثمة عقبات وعراقيل جمة حالت، وتحول دون إنجاز، أو استكمال عملية التغيير المنشودة؛ منها أن القوى المخلوعة لا تزال قوية ومؤثرة لدرجة يمكنها إعاقة عملية التغيير؛ كما أن المحيط الذي يتم التحرك فيه لم يكن مؤهلًا لاستيعاب عملية التغيير، داخلياً، أو خارجياً، إقليمياً ودولياً، بسبب استقطابات دينية وصراعات طائفية، ومذهبية، وإثنية، فضلاً عن علاقات عشائرية، وعادات وتقاليد ثقيلة وبالية تحول دون ذلك، وبعد ذلك فالانتقال الديمقراطي يحتاج إلى بيئة ديمقراطية، وتُربة خصبة لبذر بذورها، ووعي ديمقراطي، وثقافة أولية ديمقراطية، وهذا يحتاج إلى إعادة النظر بأنظمة التعليم والمناهج الدراسية، للقضاء على الأمية والتخلف، وهو غير المناخ والبيئة التي شهدت تحولاً سريعاً نحو الديمقراطية كما حصل في أوروبا الشرقية.

 وهكذا ظلت صورة الديمقراطية ضبابية، لا سيما حين يتم اختزالها بإجراء الانتخابات، أو بعض هوامش حرية التعبير، أو غيرها، حتى أن القوى الراغبة في التغيير واجهت خلافات حادة عند أول منعطف يصادفها، يتعلق بعضها بالدستور، وصياغاته، ولا سيما علاقة الدِين بالدولة، حيث لعبت حركات الإسلام السياسي دوراً مؤثراً في فرض رؤيتها المحافظة بخصوص عدد من القضايا، منها قضايا الحريات، وحقوق المرأة، والموقف من التنوع والتعددية الثقافية الدينية، والإثنية، وغيرها.

 ولأن حركة الاحتجاج مفاجئة وعفوية، ولم تتوفر لها مستلزمات التغيير، فقد تصدر المشهد على نحو سريع تيار الإسلام السياسي الوحيد الذي كان الأكثر تنظيماً وحضوراً، وتمكن بشعارات عامة، وعاطفية، وشعبوية، التأثير في صناديق الاقتراع، والإمساك بالسلطة، كما حدث في تونس، ومصر، وقبل ذلك في العراق بعد الاحتلال، وفاز في انتخابات المغرب، وحاز على مواقع في الكويت، إضافة إلى الأردن، كما حاول أن يلعب دوراً مؤثراً في سوريا، وليبيا، واليمن، إثر اندلاع حركات الاحتجاج والانقسامات الداخلية.

 يقول محمد عبده «حين ذهبت إلى الغرب وجدتُ إسلاماً ولم أرَ مسلمين، ولما عدت إلى الشرق وجدت مسلمين ولم أجد إسلاماً». كتب ذلك في عام 1881، وقبله عاش في باريس رفاعة الطهطاوي أربع سنوات، من عام 1826 - 1830 وكان شيخاً أزهرياً، فأدهشه ما رآه من تطور في فرنسا عزاه إلى نظامها السياسي، والقانوني المنفتح على الحريات، وموقع المرأة، إضافة إلى نظام التعليم والتثقف بالعلوم، فدعا إلى إصلاح المعاهد الدينية على طريقة هوبز الذي كان قال: «أي إصلاح مفتاحه بإصلاح الفكر الديني»، وحذا حذوهما أحمد أمين، وعلي عبد الرازق، وطه حسين، وخير الدين التونسي، وعبد القادر الجزائري، وعبد الحميد بن باديس، ومحمد حسين النائيني.

 الديمقراطية نتاج تطور تاريخي طويل الأمد، فما زالت بلادنا العربية تعاني صدمة الاستعمار، وتأثيراتها مستمرة في الوعي، والثقافة، وما نحتاج إليه هو تهيئة البيئة المناسبة والبُنية التحتية من دستور، وقوانين، وقضاء، وتعليم، وفاعلين سياسيين ومجتمع مدني في إطار مواطنة متكافئة تقوم على قاعدة الحرية، وأساسها المساواة، والعدالة، والشراكة، ومثل هذا يحتاج إلى تراكم تدرجي طويل الأمد، وليس مجرد تغيير نظام بنظام، لأن طريق الديمقراطية لا يأتي دفعة واحدة، بل هو شائك، وتدرّجي، وعسير.

 drhussainshaban21@gmail.com

جريدة "الخليج"

 

اللاعنف..المستحيل والممكن

 

عبد الحسين شعبان

 

في لقاء حواري مع «مؤسسة أديان»، بالتعاون مع الشراكة الدنماركية وتحت عنوان «الخطاب القيمي الإسلامي: من هوّية الجماعة إلى خير المجتمع»، كان السؤال الأبرز الذي شغل المشاركين واستحوذ على مجريات النقاش، هو: هل العنف ظاهرة إسلامية وعربية، أم أنه عنف كوني عابر للحدود، والبلدان، والأديان، واللغات، والقوميات؟ وهو جزء من ظاهرة لها أسبابها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، والفكرية، والدينية، والتربوية، والنفسية.

 العنف وليد التعصّب الذي ينجب التطرّف، والتطرف إذا ما تحوّل إلى سلوك ودخل مرحلة التنفيذ يصير عنفاً، والعنف إذا ضرب عشوائياً يتحول إلى إرهاب، ولعلّ بعض من يمارس العنف للانتصار على الآخر، أو لتحطيم معنوياته، أو لإجباره على الخضوع، إنما يمارسه ضد نفسه أيضاً حين يسعى لتدمير الآخر فيكون قد لوّث ما تبقى من إنسانيته أيضاً.

 وإذا كان التاريخ يخبرنا أن القاعدة فيه هي للعنف، والاستثناء هي للّاعنف، لذلك فإن ثقافة اللّاعنف لا تزال محدودة، بل مشكوك فيها أحياناً، باعتبارها خياراً غير مقبول، أو غير واقعي، أو مهادنة، أو مساومة مريبة، وفي أحسن الأحوال خياراً متعالياً على الواقع، حيث يسود العنف، ويطغى على العقول والسلوك.

 والسؤال المحوري المطروح: هل تجدي مواجهة العنف بالعنف، والحقد بالحقد، والكراهية بالكراهية؟ وإلى أي حدود ستتوقّف مثل هذه المواجهة المفتوحة، بالفعل ورد الفعل ؟ وهكذا ستستمر اللعبة إلى ما لا نهاية وحسب جوتاما بوذا: إذا رددنا على الحقد بالحقد فمتى سينتهي الحقد؟ واللّاعنف هو مقاومة بوسائل ناعمة، ويمكنني القول: رذيلتان لا تنجبان فضيلة، وحربان لا تولدان سلاماً، وجريمتان لا تصنعان عدالة، مع معرفتي إن الدعوة للّاعنف تحمل استثناءات تقرّها القوانين الوضعية والسماوية، والمقصود بها «الدفاع عن النفس»، وهو عمل مشروع بكل المعايير.

 لقد أدلج ميكافيلي قبل خمسة قرون من الزمان «فلسفة العنف»، معتبراً «الغاية تبرّر الوسيلة»، وكان العنف لدى بعض التوجهات الأيديولوجية الشمولية نظرية عمل، ومنهج حياة. وإذا كنّا لا نستطيع التحكم في الغايات، لكننا يمكن أن نتحكّم في الوسائل، فالوسيلة هي مرآة الغاية التي تعكس صورتها الحقيقية، وجوهرها، ومحتواها، لأن الأخيرة مجردة، في حين أن الوسيلة ملموسة، والغاية تخص المستقبل، أما الوسيلة فتعني الحاضر، ويمكنني القول إن الوسيلة تمثل شرف الغاية.

 وعلى العموم، فالغايات متشابهة أحياناً، لكن طريق الوصول إليها والوسائل التي نعتمدها مختلفة، وأن مقياس اختبار شرف الغاية يتم عبر شرف الوسيلة، وهذه الأخيرة هي التي تعبّر عن الغايات، والأفكار، والمبادئ، الأمر الذي ينبغي أن يكون هناك تلازم عضوي بين الوسائل والغايات، أي أن الوسيلة تتوحّد بالغاية، ولا يوجد انفصال بينهما.

 إن الانتصار الحقيقي ليس بممارسة العنف للإطاحة بالخصم، أو العدو، بل في تحقيق الغايات النبيلة والشريفة بوسائل نبيلة وشريفة، أيضاً، وهكذا يصبح بديل العنف هو اللّاعنف، لأن العنف هادم وإقصائي، أما اللّاعنف فهو بناء ومقاومة بوسائل سلمية، وحسب مارتن لوثر كينج: «اللّاعنف هو قوة المحبة»، ووفقاً لغاندي فهو «القدرة على المقاومة وقوة الحق والتسامح»، ويرى نيلسون مانديلا أن «اللّاعنف يعتمد على الحرية، والعدالة، والمصالحة»، وكان تولستوي، وهو من روّاد اللّاعنف، يعتبره مساواة، وتسامحاً.

وكثيراً ما قيل أن فكرة اللّاعنف هي منتج غربي، ومستورد، غير أنها ليست حكراً على أحد، بل هي منتج حضاري وعصري ومنجز إنساني يحتاجه البشر بغض النظر عن انتماءاتهم، وروّادها هم من المضطهدين بشكل عام، الذين يسعون لكسر جدران العزلة والانطلاق إلى فضاء التنوّع ومساحة الالتقاء، حيث تتلاقح أفكارهم في الدفاع عن الحق بقيم إنسانية مثل السلام، والتسامح. والعنف بقدر ما هو قضية فردية فهو قضية جماعية أيضاً، ودولية في الوقت نفسه.

 وتزداد حاجة مجتمعاتنا العربية والإسلامية إلى عقد اجتماعي جديد يتعهد فيه الجميع بعدم اللجوء إلى العنف، خصوصاً وقد استفحلت هذه الظاهرة في العقود الأربعة الماضية لأسباب دينية، أو طائفية، أو إثنية، داخليا، أو خارجياً، وذلك بمحاولة الاستقواء على الآخر وفرض الاستتباع، كما تعاني بلداننا تفاقم ثقافة الكراهية وعدم الاعتراف بالآخر أو حقه في التعبير وحروباَ أهلية وصراعات دينية، وطائفية، فضلاً عن تخلّف، وفقر، وأمية، من دون أن ننسى دور العامل الخارجي والتدخلات الإقليمية، والدولية، وما زالت النخب الفكرية والسياسية تعيش على تراث الحرب الباردة القائم على الإقصاء، والإلغاء، والتهميش، لذلك نحن الأشد حاجة إلى اللّاعنف.

drhussainshaban21@gmail.com

(الخليج) الاماراتية

العدل والعقل

عبد الحسين شعبان

 

«سوّر مدينتك بالعدل» هذا ما خاطب به الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز أحد ولاته الذي طلب منه بناء سور لحماية مدينته من مداهمة بعض المتمردين أو المعارضين أو ما يسمى الخارجين على القانون بالمصطلحات الحديثة، لأن العدل صمام الأمان لضمان سلم وأمن الوطن والمواطن.

 وقد ظلّ سؤال العدل يراود المشتغلين بالحقل العام، سواء بمعناه الفلسفي أو الاجتماعي أو القانوني، أقول ذلك وأنا أدرك حجم الاختلاف في التفسيرات والتأويلات لمفهوم العدل وشروطه، علماً أنه لا يوجد دين أو فلسفة أو إيديولوجية أو نبي أو مفكر أو فيلسوف أو مصلح، إلّا وخصّ العدل بموقع متميز من منظومته. وعندي أن شرط تحقق العدل يرتبط بالمساواة، فلا عدل دون مساواة، وهما أس السلام والاستقرار والتقدم والتنمية، وحسب عبد الرحمن بن خلدون، العدل بالعمران والظلم بالخراب، ولكن مفهوم العدل يختلف بين مفكر وآخر وبين مدرسة فكرية وأخرى وبين تيار سياسي وآخر، وفقاً للخلفيات الاجتماعية والنظرة الفلسفية للحياة والكون.

 يقول ابن رشد «العدل معروف في نفسه، إنه خيرٌ وإن الجور شرٌ» وحسب معجم لسان العرب أن «العدل ما قام في النفوس، أنه مستقيم وهو ضد الجور»، وهو يعني في كتب اللغة العربية «القسط والإنصاف وعدم الجور وأصله التوسط بين مرتبتي الإفراط والتفريط»، أي أنه الاعتدال في الأمور ويقابله الظلم والجور، كما ورد في القرآن الكريم بمعنى القسط والأمر بالعدل والإحسان (سورتا النساء، الآية 135 والنحل الآية 90).

وحسب الإمام علي «العدل إنصاف والإحسان تفضيل»، وفي كتاب تهذيب الأخلاق للجاحظ «العدل هو استعمال الأمور في مواطنها وأوقاتها ووجوهها ومقاديرها من غير سرف ولا تقصير ولا تقديم ولا تأخير، وسيكون العدل ضمانة لتأمين احترام حقوق الإنسان أفراداً أو جماعات، تلك التي يمكن تأطيرها بقوانين ودساتير ولوائح وشرائع وأنظمة، لأن جوهر العدل ومبتغاه ينبغي أن يكون الإنسان، فهو مقياس كل شيء حسب الفيلسوف الإغريقي بروتوغوراس، ولا يتحقّق ذلك إلّا بإسناد الحق إلى صاحبه وتمكينه من الحصول عليه وحيازته على نحو يؤمن سياقاته،    فتحقيق العدل فضيلة من فضائل الروح الإنسانية والقلب الرقيق، لأنه سبب في تقدّم البشر والأمم والأقوام والدول ورفاهها ومشروعية في حكمها (المقصود قانوناً) وشرعية لحكامها (المقصود سياسية)، لأنه سيضمن الأمن والسلام للمجتمع وللفرد، بحيث لا تفريط بحقوقهم ولا إفراط تحت أي حجة أو ذريعة.

وكما ورد في الحديث النبوي عن الرسول محمد «عدل ساعة خير من عبادة ستين سنة، وجور ساعة أشد معصية من ستين سنة»، وكما يقال «حوار سنة أفضل من حرب ساعة»، لأن الحرب دمار وخراب ومآس وآلام، في حين أن الحوار والنقاش والسجال والجدل يمكن أن يوصل إلى حلول تجنب كل ذلك، ويستحصل كل حقه بالعدل.

ولذلك يرمز للعدل بالميزان وهو شعار القضاء ونقابات المحامين وهدف الحقوقيين والنشطاء في كل مكان، ويشكّل العدل جوهر الدراسات القانونية والسياسية والفلسفية والاجتماعية والأخلاقية والاقتصادية والإدارية والدينية والنفسية وغيرها، لاسيّما التي تنظم علاقة الفرد بأقرانه وبالمجتمع والدولة.

وقيمة العدالة الحقيقية هي بالمساواة والشراكة والمشاركة، وبالطبع بالحرّية وتلك هي أركان المواطنة السليمة والمتكافئة، التي تعرفها المجتمعات الحيوية والتي تحقق جزء كبير منها بفعل كفاح طويل الأمد، خصوصاً بإلغاء التمييز بين البشر لأسباب دينية أو عرقية أو لغوية أو لونية أو اجتماعية أو جنسية أو لأي سبب كان يخلّ بمبادئ العدالة وبفكرة تكافؤ الفرص، وهي المرآة الحقيقية العاكسة لحسن سير المجتمع معتمداً على جدوى تطبيق المبادئ.

 والعدل بالعقل أيضاً، فهي بالبرهان العقلي والقياس المنطقي، فإذا كان الإنسان أخا الإنسان، فلا بدّ لهما أن يتساويا في الكرامة، وتلك الحكمة أساساً تستند إلى العقل، وحسب أبو الوليد بن رشد فإن العدل خير بذاته وهو ينسحب على جميع الأوجه وعلى كل المستويات، وذلك لارتباط العلّة بالمعلول، والخير لا يأتي إلّا بالخير، على الصعيدين الفردي والجماعي.

 ولئن العدل خيرٌ مطلق، فإن من يعارضه ويحول دون تحقيقه على مستوى الذات والآخر والفرد والجماعة، هو شرٌ بالضرورة أو على سبيل الشر ومدعاة للجور، ولا يمكن تحقيق إنسانية الإنسان دون العدل، وهو شرط لحوار فكري للدفاع عن الحقيقة، وهكذا هي سلطة العقل التي ستكون موشّاة بالعدل.

drshaban21@hotmail.com

 

غاندي وروح الحقيقة

عبد الحسين شعبان

 

            " الرجل الذي يطمح إلى معرفة روح الحقيقة لا يستطيع أن يعتزل الحياة..." هذا ما قاله غاندي، وروح الحقيقة التي كان يطمح إليها هي " تغيير رأي الشعب البريطاني من خلال اللّاعنف لأجعلهم يرون الخطأ الذي ارتكبوه تجاه الهند" كما يقول في رسالة وجهها إلى نائب الملك البريطاني اللورد إيروين، وذلك بعد مسيرة الساتياغراها التي تعني المقاومة السلمية لنيل الحقوق بلا مهادنة أو مساومة، كما يعتقد البعض خطأ، فقد بدأ مسيرة الملح  مع مجموعة صغيرة من أتباعه يوم أطلق ذلك النداء السحري للعصيان المدني الذي سرعان ما عمّ الهند من أقصاها إلى أقصاها في العام 1930، فتوجهت الجموع مشياً على الأقدام مسافة 390 كم، وقد جعلته تلك الحادثة شخصية عالمية حيث اختارته مجلة التايم Time 1930 شخصية العام .

            وكان غاندي قد خاطب البريطانيين " أخرجوا من الهند" وذلك في العام 1942 ودعاهم فيها إلى الانسحاب الفوري من البلاد، لكن السلطات البريطانية اعتقلته لمدة 19 شهراً، ثم أطلقت سراحه بعد وفاة زوجته العام 1944، إلا أنها اضطرت إلى الرضوخ لمطالب حركة غاندي اللّاعنفية التي كانت وراء استقلال الهند.

            وكانت نقطة التحوّل في حياة غاندي ، هي اعتراض رجل أبيض على وجوده في مقصورة الدرجة الأولى من القطار المتوجه من ديربان إلى بريتوريا على الرغم من حمله تذكرة سفر، وعندما رفض غاندي النزول من القطار والانتقال إلى قطار آخر، سُحب بالقوة وألقي من القطار في محطة أخرى، وكانت تلك اللحظة قد أيقظت في نفسه فكرة العصيان المدني، ورفعت من عزيمته لمحاربة ما أسماه " مرض التحيّز اللوني المستعصي" علماً بأنه عاش وعمل محامياً في جنوب أفريقيا نحو 20 عاماً، حيث وصلها في العام 1893.

             ومنذ تلك الليلة قطع عهداً على نفسه بأن "يبذل قصارى جهده لاستئصال هذا المرض واحتمال الصعاب في سبيل ذلك"، وهكذا نمت تلك القوة العملاقة الناعمة في داخله لتصبح قوة مادية يصعب اقتلاعها بفعل إيمان ملايين الهنود بها، ومن ثم لتغدو فلسفة للمقاومة السلمية المدنية اللّاعنفية على الصعيد الكوني، تلك التي تربط الوسيلة الشريفة والعادلة بالغاية الشريفة والعادلة، حيث لا انفصال بينهما ، لأن شرف الغاية هو من شرف الوسيلة، والعكس صحيح أيضاً، فهما مثل البذرة إلى الشجرة، وهناك علاقة عضوية بين الوسيلة والغاية، وإذا كانت الغاية بعيدة وغير ملموسة، فالوسيلة راهنة وملموسة، لأنها الأكثر تعبيراً عن الغاية.

            لقد استمدّ غاندي أفكاره من الجانتية، التي هي ديانة هندية قديمة، والجانتي هو "القاهر" لا بمعنى المنتصر على الملّذات حسب المعلم بوذا، بل عدم إيذاء أي كائن حي، والتأكيد على نسبية الحق لعدم وجود حق مطلق، وعدم أخذ حق الغير وعدم الكذب وممارسة العفة بإلغاء جميع اللذائذ الخارجية، من مأكل وملبس ونزوات.

            وإذا كان غاندي قد نشأ عابداً للإله الهندوسي فيشنو، وأصبح مع مرور الأيام شعلة أمل للمضطهدين والمهمشين في جميع أنحاء العالم، لذلك لم يعد غريباً أن يرشح لجائزة نوبل 5 مرات وأن تطلق بريطانيا طابعاً رمزياً تكريمياً له بمناسبة مرور 21 عاماً على وفاته، وأن تتخذ الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها الـ 61 قراراً برقم 271 وفي 15 يونيو (حزيران) 2007، يقضي إحياء ذكرى عيد ميلاده في 2 أكتوبر (تشرين الأول) 1869 من كل عام، باعتبارها يوماً عالمياً للّاعنف، و"مناسبة لنشر رسالة اللّاعنف عن طريق التعليم وتوعية الجمهور"، وأكّد القرار على الأهمية العالمية لمبدأ اللّاعنف والرغبة في تأمين ثقافة السلام والتسامح والتفاهم واللّاعنف.

            إن كلمة "اللّا" لها أكثر من دلالة، فإذا كان المذموم مرفوضاً، أي العنف، فما بالك إذا وضعت أمامه "لا"، حيث يكون النفي مركّباً ومضاعفاً والمذموم أكثر ذمّاً، واللّاعنف سلاح ماض في متناول المظلومين ويستطيع أن يواجه جميع الأسلحة التدميرية ، وذلك إبداع إنساني ضد القاعدة السائدة على مرّ التاريخ، حيث كان العنف عنوانها، خصوصاً بنبذ العنف بجميع أشكاله وصوره، سواء كان مادياً أم معنوياً، قولاً أم فعلاً، واللجوء إلى الحلول السلمية لفض النزاعات والخلافات، وذلك طموح البشرية في تجسيد وحدة الإرادة والعمل لصالح السلام والتسامح و"الأخوة الإنسانية" التي تؤمن بها الأديان والفلسفات المختلفة.

            إن ما تواجهه البشرية اليوم من كوارث صحية مثل كوفيد -19 " الكورونا" وحالات الطوارئ المناخية وانتشار الحروب والنزاعات المسلحة والفقر والجهل والأمية والتخلف، كلّها تتطلّب إشاعة ثقافة السلام والعدل ومنع استغلال الشعوب وإذلالها ونهب ثرواتها والبحث عن المشترك الإنساني، وذلك من خلال مواجهة خطاب الكراهية والتعصّب ووليده التطرف ونتاجها العنف والإرهاب، تجنباً لأي عنف جسدي أو معنوي، اجتماعي أو سياسي أو اقتصادي أو جندري أو ضد المجموعات الثقافية أو الشعوب الضعيفة، لأن العنف سيضاعف من المشكلات ويفاقم من تعقيداتها، وسيكون  أكثر كارثياً على الأطفال والنساء والشيوخ.

باحث ومفكر عربي

صحيفة الخليج (الإماراتية)

 

عن الفلسفة والدين

عبد الحسين شعبان

            يوم صدر كتاب شكيب إرسلان " لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟" أجاب فيه على سؤالين الأول: عن أسباب الضعف والانحطاط التي يعانيها المسلمون؛ والثاني: عن أسباب ارتقاء الأوروبيين والأمريكيين واليابانيين ارتقاء هائلاً. وعند التفصيل أشار إلى "العلم الناقص" الذي هو أشد خطراً من "الجهل البسيط"، لأن الابتلاء بجاهل خير من الابتلاء بشبه عالم، فالإيمان صار سطحياً والإسلام مجرد قول دون فعل، والقرآن ترنيماً وترتيلاً وليس العمل بالأوامر واجتناب النواهي، مشيراً إلى خذلان المسلمين لبعضهم البعض وفساد الأخلاق، فليس المسلم من وجهة نظره هو من يؤدي الصلاة والصيام ويسبّح بحمدالله.

            لقد أعاد إرسلان نقاشاً كان قد بدأه سبينوزا عن علاقة اللاهوت بالسياسة، في محاولة تفكيك فتاوى اللّاهوتيين، من خلال علاقة الدين بالفلسفة، وعلاقة العقل بالدين، فحسب اللاهوتيين ينبغي أن تطيع الفلسفة علم اللاهوت، بل أن تكون تابعة له لأنه أشرف العلوم وأرقاها.

            وأشار سبينوزا إلى أن حرّية الفلسفة والتفلسف ليست ضد الدولة وأمنها مثلما ليست ضد الورع والتقى، وهدفها تفسير النص الديني (الكتاب المقدس) معترفاً بدور الدين وقيمه الأخلاقية السامية، ولكنه ينفي عنه الغيبيات والطقوس والخرافات والمعجزات؛ فالأديان بعيداً عن العصبيات ينبغي أن تعلّم الحكمة والموعظة والقيم الإنسانية، وليس غير العقل من يقوم بذلك، وهكذا فالفلسفة ليست ضد الدين ، لكنها ضد التعصّب الديني والتمترس الطائفي.

            ومنذ أكثر من ثمانية قرون كان هناك من انتقد الفلسفة والتفلسف، وقد كفّر الغزالي التفسير العقلاني للدين الذي اجتهد فيه ابن سينا والفارابي، وذلك حين كتب كتابه الموسوم "تهافت الفلسفة" الذي ردّ عليه ابن رشد بكتاب عنوان " تهافت التهافت"، لكن ابن رشد الذي شدّد على أن القرآن والدين يدعوان إلى إعمال العقل بالمعنى البرهاني قُمع وأحرقت كتبه وجرت محاولات للانتقام منه وطمس صوته وتشويه سمعته،علماً بأنه أعلى من شأن  الحرّية والروح، وهما أساس الدين والإيمان، لاسيّما الجوهر الصافي العرفاني النقي والإنساني.

            إن جوهر تفسير ابن رشد يستند إلى أن الدين لا يمكن فهمه إلّا على ضوء الفلسفة، وهما رفيقان حميمان لا انفصال بينهما، ذلك هو الدين الروحاني العقلاني القيمي المستنير الحر، فالفلسفة حق والدين حق، والحق لا يضاد الحق، بل يوافقه ويشهد عليه.

            لقد عاد ابن رشد إلينا من النافذة الأوروبية في القرن العشرين، وكان مثل هذا الغياب يفسّر لنا لماذا انحدر المسلمون في دهاليز الظلم في حين أخذ غيرهم بعلومهم ليتقدم، لاسيّما بإحكام العقل والعلم؟ وقد تنبّه إلى ذلك دعاة الإصلاح الديني من أمثال جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ورفاعة الطهطاوي وعبد الرحمن الكواكبي والتونسي وغيرهم الذين تأملوا في السؤال الكبير: لماذا تأخرنا وتقدّم غيرنا؟

            ومع أن دعاة الاصلاح والنهضة طرحوا السؤال إعجاباً بتقدّم أوروبا في ذلك الوقت، لكن ثقل الماضي ومخزونه السلبي ما يزال يحكمنا ويتحكّم فينا، فلم نتخلص بعد من صدمة الاستعمار التي حكمتنا لسنوات، وأعدنا ميراث الماضي في دول مركزية شديدة الصرامة، فلم نستطع أن نواكب التطور والحداثة، خصوصاً بتعظيمنا نسق العلوم الدينية على حساب نسق العلوم العقلية، فالأولى تعتبر العقل نسبي في حين أن النص مطلق، ولهذا ينبغي إخضاع الثاني للأول، بل ينبغي أن يكون تابعاً له.       ويعتقد أصحاب المدرسة اللاهوتية في الفقه أن العقل محدود بحدود " الشرع" ومهمته تطبيق النصوص الدينية ، الأمر الذي يجعل العقل محدود القيمة لأنه لا يستطيع المغامرة بحثاً عن المعرفة خارج المنظور الديني.

            إن مثل هذه النظرة الاستباقية لدور العقل تجعله محصوراً في إدراك ما يقوله الشرع وفي تفسير النصوص الدينية والسير لتطبيقها، وهو ما أدى ويؤدي إلى التخلف المعرفي أولاً والعقلي ثانيا والعلمي ثالثاً، وتلك معضلاتنا الأساسية، التي جعلتنا " نتحصّن" بالتخلف ونمتنع عن أي محاولة لنقد الماضي باتجاه التحديث والعصرنة التي أخذنا قشورها وتركنا لبّها، حيث حافظنا على بنية الوعي التقليدية، وحتى لو اعتمدنا التكنولوجيا الحديثة وأسسها العلمية ، لكننا بقينا نغرق في الآيديولوجيا، إذْ أننا لم ننتج المعرفة ولا تقدّم دون معرفة ، وما زلنا نرى أن العلم النافع هو نسق علوم الشريعة مستصغرين من نسق العلوم العقلية، دليلنا على ذلك ما نخصّصه من واردات من الناتج المحلي الإجمالي لشؤون البحث العلمي.

            ونستطيع القول أنه لا يمكن إحراز نهضة حقيقية دون الإقرار بالحق في الفلسفة والتفلسف، وبالتالي الحق في الاختلاف والاجتهاد والحرّية خارج دوائر الإجماع المصطنع، لأن ما يحرك التاريخ هو الصراع والحوار والجدل والاختلاف والتبادل والتفاعل، وإلّا فإن مجتمعاً ساكناً سيكون مجتمعاً ميتاً، والأساس هو حركيته وديناميته وتنوعه وتعدديته واختلافه، وتلك قيم إنسانية باعتمادها يمكن أن نواجه التحدّيات الخارجية والداخلية، في محاولات فرض الهيمنة والاستتباع الأجنبي من جهة والطغيان والاستبداد الداخلي من جهة أخرى، وذلك باستخدام العقل الذي هو أساس فلسفة الدين.

باحث ومفكر عربي

 صحيفة الخليج الإماراتية

المواطنة الحاضنة للتنوع

 

عبد الحسين شعبان

 

لا يكفي تسطير المبادئ للمواطنة الحاضنة في الدساتير، بل لا بدّ من نشر ثقافة التسامح ونبذ التعصب ووليده التطرف ونتاجهما الإرهاب.

حسناً فعل منتدى الفكر العربي حين نظم ندوة بعنوان «المواطنة الحاضنة للتنوّع» كونها مسألة راهنية وحيوية أولاً، وثانياً: لأنها تثير اختلافات بحاجة إلى حوار ونقاش حولها يساهم فيهما مثقفون وباحثون وناشطون من مختلف التيارات الفكرية: اليسارية والقومية والدينية، خصوصاً علاقة ذلك بمفهوم الدولة: هل هي دولة مدنية وأين موقع الدين فيها؟ خصوصاً أن المواطنة العابرة للهويّات الفرعية تشتبك معها.

ويعود سبب النقاش واحتدامه إلى أن الدولة العربية المعاصرة في كثير من الحالات لم تستطع بعد الوصول إلى شاطئ السلام ببناء دولة المواطنة على أساس التعددية والتنوّع واحترام المواطنة الحاضنة للتنوّع والاختلاف والهويّات الفرعية.

هناك من يحاول خلط مصطلح العلمانية بالدولة المدنية، الأمر الذي يثير حساسية والتباساً بسبب تجارب بعض البلدان الاشتراكية السابقة، مثلما هناك من يحاول أن يقحم الدين بالدولة لدرجة اعتبار كل أمر خارجه إنما هو صناعة غربية واختراع مشبوه بزعم مخالفة فكرة الدولة المدنية للتراث والتاريخ والدين والإيمان، في حين أن المواطن الفرد هو الأساس، وأي مواطن لا يمكن حصره بهويّة واحدة واختزاله إلى حقل واحد.

مثلما هناك من يريد قطع الصلة بالتراث، بزعم أن الأخير عائق أمام تقدّم الدولة واندماجها بعالم الحداثة والمدنية والعلمانية، وينسى هؤلاء أن المفهوم التغريبي الذي يدعون إليه إنما يتنكّر لمساهمة تراثنا الفكري القانوني العربي في التراث العالمي منذ قيام دولة المدينة التي أسسها الرسول وهو دستور محمدي اعترف بالآخر ووضع قواعد أولية للبنة المواطنة بمعناها الجنيني.

ثلاث إشكالات تتعلّق ببعض القضايا الخلافية ذات الخصوصية في كل مجتمع، الأمر الذي بحاجة إلى إعادة قراءة وتفسير وتأويل بما ينسجم مع روح العصر:

أولها- الموقف من المجاميع الثقافية الدينية والإثنية والسلالية واللغوية.

وثانيها - الموقف من حقوق المرأة ومساواتها مع الرجل، علماً أن الدول العربية كانت وقعت على اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة، أي اتفاقية سيداو لعام 1979، لكنها لا تزال تتحفظ على بعض موادها.

وثالثها - نظام العقوبات والحدود الذي يتعارض في بعض قواعده مع اللوائح الدولية بهذا الخصوص.

وتلك جميعها تندرج في إطار منظومة حقوق الإنسان، فكيف السبيل للتواؤم معها بما يجعل الخصوصية رفداً للفكرة الشمولية، من خلال التفاعل بينهما؟ فثمة من يوقّر فكرة المواطنة الحاضنة، وهناك من يحقّرها، والأخير ينظر إليها نظرة أحادية وليست واحدية، في حين أن الأول يعتبر التنوّع عامل إثراء وإخصاب وليس عامل إفقار وإجداب، وهو أساس فلسفة المستقبل للمجتمعات الآمنة - السلمية.

فالمجتمعات الأحادية تتراجع في حين أن المجتمعات الموحّدة المتعددة الثقافات تتلاقح وتتقدّم، ولهذا يقتضي منّا فهم العالم المعاصر المتعدد المتنوّع المتسامح المتشارك المفتوح المتواصل الذي يتّسع للحوار؛ وسيكون مثل هذا المجتمع حاضناً للتنوّع ومشجعاً على التفاعل، على أساس الشراكة والمشاركة في الوطن الواحد في ظلّ حكم القانون، والعدالة، خصوصاً العدالة الاجتماعية، ولذلك فهي ضد الاستعلاء والتمييز والهيمنة وادعاء الأفضليات واحتكار الحقيقة.

ولا بدّ من مصالحة حقيقية بين المواطن العربي ودولته، فلا تشعر هذه الدولة أن المواطن عدوّها بل وإنها تعي أن السلطة تأتي وتذهب لخدمة هذا المواطن، علماً أن هناك خلطاً بين الدولة والسلطة، وأحياناً تتغوّل الأخيرة على الأولى وتحاول ابتلاعها لأغراض سياسية أو دينية أو قومية أو فكرية أو اجتماعية أو اقتصادية أو عسكرية أو شخصية أو غيرها، وقد حكمت المجتمعات منذ فجر التاريخ بواسطة قواعد مدنية واجتماعية ودينية ذات بُعد إيماني وأخلاقي وقانوني، وذلك جزء من منظومة حياتية تعكس درجة تطور المجتمع، علماً أن القانون هو الذي ينظم علاقة الفرد والمجتمع بالدولة ويقوم بالفصل في النزاعات بينها بواسطة القضاء، الذي سيترتب جزاءً لمن يمتثل أو يخالف قواعد القانون بواسطة جهاز تنفيذي (حكومة).

ولا يكفي تسطير المبادئ للمواطنة الحاضنة في الدساتير، بل لا بدّ من نشر ثقافة التسامح والتربية عليها ونبذ التعصب ووليده التطرف ونتاجهما العنف والإرهاب، ويمكن للدولة الحقيقية أن تلعب دوراً جامعاً في تأمين الحق في التعليم المتوازن القائم على أساس قبول التنوّع والتعددية ومبادئ المواطنة المتساوية.

drshaban21@hotmail.com

 

في معنى اللّاعنف

عبد الحسين شعبان

إذ أخذ رصيد ثقافة اللّاعنف بالارتفاع على المستوى العالمي، فإنها ظلّت غائبة عن مجتمعاتنا العربية والإسلامية إلا باستثناءات محدودة

«إذا رددنا على الحقد بالحقد فمتى ينتهي الحقد؟»، هذا ما قاله جوتاما بوذا مؤسس الديانة، أو الفلسفة البوذية التي تقوم على التجرّد، والزهد، والتخلّص من الشهوات والألم. ولعلّ مثل هذا المدخل يعكس بعضاً من جوانب حقيقة فلسفة اللّاعنف التي تبنّاها المهاتما غاندي لاحقاً، والمقصود بذلك المقاومة بوسائل مدنية، بمعنى عدم استخدام العنف كوسيلة للتصدي للعنف، ونيل الحقوق.

وقد دفع غاندي حياته ثمناً لذلك على الرغم من الانتصار الذي حقّقه على بريطانيا أعظم إمبراطورية في العالم وأقواها حينها، حيث تقدّم منه أحد الهندوس المتطرفين ليطلق النار عليه ويرديه قتيلاً، وهو في ذروة مسعاه للحيلولة دون انفصال الهند من خلال التفاهم والتعاون والرغبة في العيش المشترك، والاعتراف المتبادل، ما دفع الأمم المتحدة لاعتماد يوم 2 أكتوبر/ تشرين الأول، من كل عام، وهو يوم عيد ميلاد غاندي باعتباره يوماً للتسامح.

وإذ أخذ رصيد ثقافة اللّاعنف بالارتفاع على المستوى العالمي، خصوصاً بصعود حركة الحقوق المدنية بقيادة مارتن لوثر كينج، والمصالحة والحقوق المتساوية بقيادة نيلسون مانديلا، فإنها ظلّت غائبة عن مجتمعاتنا العربية والإسلامية، إلا باستثناءات محدودة، وبتقديري فإن الأمر يعود في جزء كبير منه إلى قراءات خاطئة، ومبتسرة للنصوص الدينية، بما فيها للقرآن الكريم، إضافة إلى تفسيرات وتأويلات ماضوية لا تنسجم مع روح الإسلام وجوهر رسالته الإنسانية، فضلاً عن سمة العصر والتطور التاريخي، وهي ما تُعرف بأسباب النزول، كما أن بعض النصوص بما فيها المتعلقة بالسنّة النبوية قيلت لزمانها ولأحداث وأوضاع استوجبتها، وانتهت بانتهائها، وما بقي من النصوص المقدسة وأحاديث الرسول الكريم هو القيم والمثل الإنسانية الخالدة، التي استهدفت تغيير حياة الناس من أجل سعادتهم ورفاههم فكيف نقرأ ثقافة العنف واللّاعنف في مجتمعاتنا؟

خمسة اتجاهات يمكن بواسطتها اقتفاء أثر الفكرة اللّاعنفية:

الاتجاه الأول - الرافض والإنكاري، الذي يعتبر فكرة اللّاعنف صناعة غربية خالصة، وهي بدعة لتحقيق مآرب سياسية وهدفها تثبيط عزائم العرب والمسلمين من استعادة حقوقهم المغتصبة.

ومثل هذا التفسير لا علاقة له بفلسفة اللّاعنف التي تتمسك بالحق والمقاومة المدنية لتحقيقه، وأعتقد أن العرب والمسلمين معنيون مثل غيرهم بثقافة اللّاعنف، ولاسيّما العيش بسلام واختيار طريق تطورهم الحر الاقتصادي والاجتماعي.

الاتجاه الثاني- الريادي والانعزالي، يرفض فكرة اللّاعنف لأنها غير موجودة في الشريعة حسب تقديره، لأن اعتماد فلسفة اللّاعنف سيقود إلى التحلّل وانعدام الغيرة على الإسلام، وأن في الشريعة إجابة على كل شيء، وهي صالحة لكل زمان ومكان، ففيها الريادة والأفضلية والتميّز على جميع القوانين الوضعية. وهكذا يحاول أصحاب هذا الاتجاه إرجاع كل شيء إلى الماضي من دون الأخذ في الاعتبار التطوّر الكوني استناداً إلى قاعدة «تغيّر الأحكام بتغيّر الأزمان».

الاتجاه الثالث- الانتقائي والتوفيقي، ويحاول أصحابه التوليف بين مفاهيم متعارضة أحياناً، لاسيّما بإهمال نقاط حساسة وساخنة، ومع رغبته الإصلاحية في انتقاء بعض الأفكار اللّاعنفية أو وضعها «منزلة بين المنزلتين».

الاتجاه الرابع- الاغترابي وينطلق من نقد الاتجاهات الإنكارية الرافضة والريادية الانعزالية والتوفيقية الانتقائية، ولكن بالمقلوب حين يعتبر التراث كلّه خارج سياق الحداثة ومناقضاً لها، وأن أي تفكير خارج نطاق الحداثة هو محاولة عقيمة ويائسة؛ وعلى العرب والمسلمين إن أرادوا السير في طريق التطوّر الإقرار كلياً بالمفاهيم الحداثوية من دون زيادة، أو نقصان.

الاتجاه الخامس- الواقعي والحضاري، الذي يزاوج بين الحداثة والتراث والمعاصرة والخصوصية والشمولية، مع الأخذ في الاعتبار التطور التاريخي الكوني والانفتاح والتفاعل معه للارتقاء بفكرة اللّاعنف لتصبح فلسفة عمل ومنهج حياة، والبحث في تراثنا عن تجارب لاعنفية ينبغي تعميمها وإعادة قراءتها برؤية جديدة.

إن التلاقي الحضاري والتفاعل الإنساني والتطور التاريخي للأمم والشعوب والجماعات لا يحصر الفكر في أمة، أو شعب، أو قارة، أو تيار فكري، مثلما هي فلسفة اللّاعنف، بل هي حصيلة مزاوجة وتطور طويل الأمد يمدّ جذوره عميقاً في التراث الإنساني ويجد صورته في الحداثة وفي خلفياته لفلسفة الأديان والأيديولوجيات والأفكار المختلفة.

drhussainshaban21@gmail.com

الخليج (الإماراتية)

 

ستة أنساق لثقافة اللاعنف

 

عبد الحسين شعبان

 

يعتبر المتعصبون والمتطرفون من دعاة الإيديولوجيات والأديان والطوائف، أن الحق معهم دائماً،وحيثما يميلون يميل معهم، لأن لديهم أفضليات على الآخر بزعم امتلاك الحقيقة، ومثل تلك الأطروحات تقود إلى تسميم العيش المشترك لأنها تحمل في ثناياها الإلغاء، والإقصاء، والتهميش، وغالباً ما تقود إلى ممارسة العنف ضد الآخر، سواء على المستويين الفردي، أو الجماعي.
فهل هناك ديانة سيئة وأخرى حسنة، وديانة حق وأخرى باطل؟ والأمر ينطبق على الطوائف والأيديولوجيات، فكيف السبيل إلى قبول الآخر على قدم المساواة في العيش المشترك، وما هي الأنساق الكفيلة لحل تلك الإشكاليات؟
أولها- النسق القانوني- أي حكم القانون، فالكل ينبغي أن يكون متساوياً أمام القانون من دون تمييز بسبب الدين، أو العنصر، أو اللغة، أو الجنس، أو اللون، أو الأصل الاجتماعي، أو لأي سبب كان، وهو ما توفّره منظومة حقوق الإنسان الكونية. والقانون، حسب مونتسكيو، ينبغي أن يكون مثل الموت ينطبق على الجميع من دون استثناء، وهو في نهاية المطاف الضامن للعيش المشترك، والمرجع الذي يمكن الاحتكام إليه لتنظيم علاقة الفرد والمجتمع بالدولة.
وثانيها - النسق السياسي، الذي يتعلّق بطبيعة النظام، فهل هو نظام ديمقراطي، أم استبدادي، أم دكتاتوري، أم أوليغارشي، أم ثيوقراطي؟ بغض النظر عما إذا كان النظام ملكياً، أو جمهورياً، برلمانياً أو رئاسياً، ولكن لا بدّ من توفر قدر معقول من مبادئ الحرية والمساواة، وأن تقوم الدولة بواجبها الأساسي، وهو حماية أرواح وممتلكات المواطنين، وحفظ النظام العام.
وثالثها - النسق الاجتماعي، فكل نظام سياسي يستند إلى خلفية اجتماعية، فإلى أي مدى يمكن تحقيق تكافؤ الفرص وتقديم الخدمات العمومية، ولا سيّما الصحية، والتعليمية، والبلدية، بقدر معقول من العدالة، وإذا ما حصلت ثمة اختلالات في هذا الميدان، فإنك سترى العنف ينفلت ويتوالد، ويتراكب، ويسبب ردود أفعال تجرّ إلى عنف مضاد، وهكذا.
ورابعها- النسق الثقافي، فالبيئة التي ينشأ فيها العنف لا شك هي بيئة ثقافية، فالبيئات التي تقر بحق الاختلاف، وتعترف بالتعددية، وتحترم التنوّع، فإن العيش المشترك فيها يعتبر مصدر إغناء، وإثراء، وواقعية، وتلاقح، وتطور، وعلى العكس فإن المجتمعات الآحادية، أو التي تريد أن تتصرف فيها القوى المهيمنة على هذا الأساس فإن العنف يتعاظم فيها، لاسيّما في ظل الثقافة الشمولية وخطابات الهويّة القصوى، أو التي يسميها أمين معلوف «الهويّات القاتلة»، وأية هويّة ينبغي أن تتسم بالعقلانية والنسبية والإنسانية، فكل شيء في الحياة وفقاً لعالم الفيزياء نسبي، والهويّة الجامعة بقدر استيعابها الهويّات الفرعية وتنميتها، تتجنب الانزلاق في الإقصاء، والتهميش، اللذين يدفعان إلى العنف.
وخامسها- النسق التربوي، إن سلوك العنف هو سلوك مكتسب خلال التنشئة الاجتماعية والتربية والتعليم، حيث تساهم النظم التعليمية والتربوية في بناء عقول تنتج سلوكاً عنيفاً، حيث تتم صناعة الشخص العنيف، وهو ليس صفة طبيعية حتى وإن كان لدى كل إنسان شحنة عنفية، فالغالب الإنساني هو اللّاعنف والعيش المشترك، لأن الإنسان كائن اجتماعي، أو حيوان اجتماعي، لا يستطيع أن يعيش خارج المجتمع.
وسادسها - النسق الإعلامي، حيث يلعب الإعلام دوراً مهماً، سواء في نشر ثقافة الكراهية والعنف والإرهاب وبث قيم التعصب والتطرّف، أو على العكس من ذلك حين يقوم بنشر قيم السلام والتسامح والعيش معاً.
وهناك النسق الديني، حيث تلعب المؤسسة الدينية دوراً في قضية العنف واللّاعنف، وإذا ما هيمن عليها المتعصّبون ساد الخطاب العنفي، والعكس صحيح أيضاً، حين يكون للمتسامحين دور كبير في توجهها يمكن للدين أن يلعب الدور الإيجابي في التنشئة على ثقافة العيش المشترك، فالتدين الحقيقي هو أقرب إلى ثقافة السلام والتسامح، والاقتراب من الله، في حين أن التدين الشكلي المظهري هو محاولة لفرض التدين على الآخرين، واعتبار المختلفين كفاراً، أو مارقين.
إن الإكراه يتنافى مع الإيمان، وبالتالي مع الدين ومع الحرية، فلا دين حقيقي من دون حرية، وبهذا المعنى فالعنف يحدث قطيعة، أو تغييراً في مسار الحياة وتشوهات نفسية، لاسيّما ما يثيره من حقد، وكراهية، وانتقام. وهنا لا بدّ من تغيير في منظومة الأفكار، فالفروسية والشجاعة والحرب العادلة لها معان مختلفة من منظور اللّاعنف، لاسيّما بما تخلقه من ضحايا بشرية بحق الأبرياء.
drshaban21@hotmail.com

(الخليج) الاماراتية

عن الإرهاب وضحاياه

 

عبد الحسين شعبان

«ما زال الإرهاب بجميع أشكاله ومظاهره يمثّل تحدّياً عالمياً، فهو يلحق أذى باقياً بالأفراد والأسر والمجتمعات المحلية، ويخلّف ندوباً عميقة قد تفتر مع مرور الوقت، لكنها لا تختفي أبداً». هذا ما قاله أنطونيو جوتيريس الأمين العام للأمم المتحدة بمناسبة اليوم العالمي لإحياء ذكرى ضحايا الإرهاب وإجلالهم المصادف في 21 أغسطس /آب والذي قررته الجمعية العامة للأمم المتحدة في قرارها 72/165 العام 2017، حيث يتم كل عام استذكار الضحايا الذين يحرمون من مقومات الحياة الطبيعية والإنسانية، من أمن واستقرار وطمأنينة، وذلك بسبب ما تعرّضوا له من أعمال إرهابية، الأمر الذي يستدعي الوقوف معهم للتخفيف من معاناتهم وتلبية احتياجاتهم وإسماع أصواتهم إلى العالم أجمع.
يمكن القول إن كل عنف إرهاب، وهذا الأخير ناجم عن التطرّف لأسباب اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية أو دينية أو عنصرية أو فكرية أو لأسباب أخرى، والتطرف هو ابن التعصّب، فكلّ متطرّف بالضرورة هو متعصّب، وإذا ما صار التعصّب سلوكاً فإنه يصبح تطرّفاً، والتطرّف إذا ما انتقل إلى الفعل بهدف إلغاء الآخر أو إقصائه أو تهميشه أصبح عنفاً، وهذا الأخير يستهدف الضحية بذاتها ولذاتها، في حين إذا ضرب العنف عشوائياً ينتقل إلى دائرة الإرهاب، خصوصاً إذا كان عابراً للحدود، فسيصبح إرهاباً دولياً.
وإذا كانت القوانين الجنائية (الوطنية) تعاقب على أعمال العنف التي تستهدف الضحية المعلومة بالنسبة لمن يمارس العنف، فإن القوانين الدولية معنية بمحاسبة الأفراد أو الجهات أو المنظمات التي تقوم بممارسة الإرهاب، بما فيها الحكومات، لأن الأفعال التي تنجم عن الإرهاب الدولي تندرج في إطار الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الإبادة الجماعية وجرائم الحروب، بما فيها جرائم العدوان التي تهدّد السلم والأمن الدوليين.
ومنذ العام 1963 والأمم المتحدة تتخذ العديد من القرارات والتوصيات الخاصة بالإرهاب والإرهاب الدولي، وقد صدر نحو 13 قراراً وإعلاناً لما قبل 11 سبتمبر (أيلول) العام 2001، وبعد جريمة تفجير برجي التجارة العالمية في الولايات المتحدة بعمل إرهابي راح ضحيته نحو 3000 إنسان، أصدرت الأمم المتحدة 3 قرارات دولية مهمة، لعل أخطرها القرار 1373 الصادر في 28 سبتمبر (أيلول) العام 2001، لأن ما تضمنه يعتبر عودة إلى قواعد القانون الدولي التقليدي، خصوصاً إلى مفهوم «الحرب الاستباقية» أو «الوقائية» لمنع أي عمل إرهابي، بسبب احتمال وشيك الوقوع ضد دولة ما أو منشأة ما، وهو الأمر الذي أثار التباسات وزاد من موضوع تعريف الإرهاب تعقيداً، لاسيّما تحديد ماهيته وأشكاله وخلفياته الاجتماعية.
كما صدرت 4 قرارات دولية بعد احتلال تنظيم داعش الموصل وتمدّده في نحو ثلث الأراضي العراقية (2014) إضافة إلى اعتبار الرقة السورية عاصمة لدولة الخلافة. وإذا كانت هذه القرارات تصب في إطار «الاستراتيجية الدولية لمكافحة الإرهاب»، إلّا أنها من جهة أخرى تثير أسئلة ما زالت لم تحسم حول مفهوم الإرهاب وتعريفه وأشكاله واستخداماته، كما أنها تغض النظر عما يجري للفلسطينيين وعن عمليات الاستيطان في الضفة الغربية.
ولذلك فإن الاحتفال بذكرى ضحايا الإرهاب أمرٌ في غاية الأهمية، إذْ إنهم غالباً ما يشعرون بالإهمال لمجرد تلاشي التأثير المباشر للهجمات الإرهابية، الأمر يستوجب من المجتمع الدولي والدول المتقدّمة والغنية بشكل خاص تخصيص الموارد والقدرات اللازمة لمساعدة الضحايا لكي يتعافوا بشكل كامل من آثار العمليات الإرهابية، ولكي يتم إعادة تأهيلهم ودمجهم بالمجتمع (بالطبع من بقي منهم على قيد الحياة وكذلك أسرهم).
وإذا كانت الأمم المتحدة قد قامت ببعض المبادرات، فأصدرت قراراً برقم 68/276 في 13 يونيو (حزيران) 2014 أي بعد احتلال «داعش» للموصل واستكملته بعد تحريرها نهاية العام 2017 بإصدار قرار برقم 72/284 بتاريخ 26/6/2018، بتدقيق واستعراض إستراتيجيتها، فإن من واجب كل دولة، إضافة إلى المجتمع الدولي أن يضع برنامجاً خاصاً طويل الأمد لمساعدة الضحايا، مثلما يقتضي توفير سبل الوقاية والحماية والتأهيل بالنسبة للضحايا، وقبل كل شيء توفير مستلزمات عيش كريم، خصوصاً لبلدان الجنوب، وذلك بإصلاح نظام العلاقات الدولية ليكون أقرب إلى العدالة.
drhussainshaban21@gmail.com

 

صحيفة الخليج (الإماراتية)

 

لبنان.. هل

يمكن بقاء القديم؟

 

عبد الحسين شعبان

أعاد الانفجار المروّع الذي حصل في مرفأ بيروت في 4 أغسطس/ آب الجاري، أزمة الدولة اللبنانية إلى الواجهة، وإن كانت هذه الأزمة قديمة، ومعتّقة منذ التأسيس قبل نحو 100 عام، إلا أنها تفاقمت على نحو متسارع خلال العقود المنصرمة، خصوصاً بعد مقتل رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري، إلّا أنها ترافقت هذه المرّة مع ثلاثة أحداث كبرى مهمة:
أولها- استمرار وباء «كورونا» منذ فبراير/ شباط الماضي، وارتفاع نسبة الإصابات في الأسبوعين الأخيرين ما قبل الانفجار.
وثانيها- استمرار معاناة اللبنانيين بتهديد وجود الدولة اللبنانية، والمسألة تتعلّق بالعقد الاجتماعي، وشرعية نظام الحكم، سواء بدستور عام 1943، أو بميثاق الطائف عام 1989 الذي جاء بعد حرب أهلية دامت نحو 15 عاماً.
وقد عاظمت كارثة مرفأ بيروت من معاناة اللبنانيين، إضافة إلى أزمات النفايات، والمازوت، والبنزين، والكهرباء، وتلوث المياه، وعجز المصارف، وانهيار سعر الليرة اللبنانية، لدرجة أصبح نصف اللبنانيين في خط الفقر، ودونه، وقد اضطرت محال تجارية وخدمية وسياحية إلى الإغلاق، كما تم الاستغناء عن خدمات 400 ألف عامل، فضلاً عن أن 300 ألف إنسان أصبحوا بلا مأوى.
وثالثها - استمرار انتفاضة 17 أكتوبر/ تشرين الأول 2019، ولعلّ أهم مطالبها تنحية الطبقة السياسية الحاكمة منذ عقود بسبب فشلها، وفسادها، والتوجه صوب عقد اجتماعي جديد يتجاوز الطائفية، ويؤسس لدولة المواطنة، وهذا يتطلب تعديل الدستور، وسن قانون انتخابي جديد على أساس النسبية.
وإذا كانت مثل هذه المطالب صعبة، وبعيدة المنال، بل تكاد تكون مستحيلة، خصوصاً إعادة الاعتبار للدولة، وهيبتها التي ينبغي أن تعلو على الجميع، فإنه بعد التطورات الأخيرة واستقالة الحكومة أصبحت مطروحة على بساط البحث، وإنْ لم تتحقق هذه المطالب كلها دفعة واحدة، لكنها أصبحت في برامج أوساط وقوى سياسية، وطيف واسع من اللبنانيين، وقد يمهّد ذلك لتغييرات تدرّجية، وعلى مراحل، إذْ لم يعد يحتمل استمرار الوضع على ما هو عليه.
ولا يمكن للبنان الخروج من عنق الزجاجة ووصوله إلى المعافاة الحقيقية، لاسيّما كسب ثقة المجتمع الدولي من دون إجراء إصلاحات جذرية، وجوهرية، ومحاربة الفساد، والمفسدين، واستعادة الأموال المنهوبة، والمساءلة على التقصير وسوء الإدارة، والعبث بحياة وممتلكات الناس وحقوقهم، وهو ما لمّح إليه الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، خلال زيارته لبيروت ومن المفترض عودته أوائل سبتمبر/ أيلول المقبل.
وقبل أن يكون التغيير مطلباً للقوى الخارجية فإنه حاجة لبنانية ماسة، وهو بيد اللبنانيين أولاً، لاسيما إذا بادروا إلى عقد اجتماعي جديد، فإن الدول الشقيقة، والصديقة، والمجتمع الدولي، يمكنها حينذاك أن تقدّم لهم الدعم المطلوب. وبالطبع، ثمة عقبات وضغوط كبيرة على هذا الصعيد، منها التهديدات «الإسرائيلية» المستمرة، وتحديات القوى الإقليمية، والدولية، التي تريد أن يكون لها حصة مؤثرة في التوافقات السياسية، سواء إبقاء القديم على قدمه، أو إجراء تغيير يصب في مصلحتها.
وبتقديري، فإن لبنان بالمواطنة والتنمية المستدامة وعلى أساس الهويّة الجامعة، مع الإقرار بالتنوّع واحترام الخصوصيات والهويّات الفرعية، يمكنه تجاوز محنته الراهنة، وسينهض كطائر الفينيق من الرماد، مزدهراً، معافى في محيطه العربي ودوره الثقافي والحضاري كجسر للقاء الثقافات، وامتداداتها، واعداً بسلام حقيقي وعادل، لما يملكه شعبه من نشاط وإبداع، وحيوية، وطاقة، ومبادرة.
إن المدخل الأول لحل الأزمة اللبنانية، وإنهاء الانقسامات المجتمعية هو التمسّك بالمواطنة العابرة للطائفية لتحقيق التنمية المستدامة بجميع جوانبها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية والقانونية والتربوية والتعليمية، وغيرها، وضمان عيش المواطن وحقوقه الإنسانية، في ظل دولة تعلو مرجعيتها جميع المرجعيات الدينية، أو الإثنية، أو المناطقية، أو السياسية، أو الحزبية، أو العشائرية، أو غيرها.
والطريق نحو هذه الدولة لا بدّ أن يمرّ بمصالحة تاريخية بين الدولة، والمواطن، بحيث يشعر الأخير بأن الدولة هي دولته، وراعية لمصالحه، والحكومات تأتي وتذهب لخدمته، وليس لسرقته، ويحتاج الأمر إلى عمل طويل الأمد لتحسين الأوضاع الصحية، والمعيشية، والخدمية، وتوفير فرص عمل وضمانات اجتماعية وتقاعدية، وضمان للشيخوخة، بما يعزّز من وعي المواطن وثقته بالدولة من جهة، ويُشعِر المسؤول الحكومي بأنه جاء لخدمة الناس، وليس لتنفيذ مصالحه الخاصة، أو المذهبية، أو الفئوية، على حساب مصالح الشعب.

drhussainshaban21@gmail.com

صحيفة الخليج (الإماراتية)

 

 

لبنان.. الوجه الآخر

 

عبد الحسين شعبان

الانفجار المرعب الذي دمر مرفأ بيروت 4 أغسطس/ آب الجاري، والذي راح ضحيته أكثر من 150 قتيلاً، وأكثر من 5 آلاف جريح، ولا يزال العشرات والمئات تحت الأنقاض، أو في عداد المفقودين، كان كارثة حقيقية، تضاف إلى معاناة اللبنانيين منذ سنوات التي شملت جميع مناحي الحياة السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، وغيرها، ابتداء من أزمة النفايات، ومروراً بأزمة الدولار، وانهيار سعر الليرة اللبنانية، والتي توّجت بأزمة المصارف، وأزمة البنزين والمازوت، إضافة إلى أزمة الكهرباء المعتّقة التي تبدو بلا أفق منذ ثلاثة عقود ونيف من الزمان، وأزمة الماء الصالح للشرب، مروراً بجائحة «كورونا»، وصولاً إلى الانفجار الرهيب الذي ألحق خسائر فادحة في الأرواح والممتلكات العامة، والخاصة، والتي تقدّر بنحو 15 مليار دولار في بلد يعاني شحّ الموارد، وبطالة، وفرص عمل قليلة، خصوصاً إغلاق محال تجارية وخدمية وسياحية، والاستغناء عن خدمات أكثر من 400 ألف عامل، يضاف إليهم أن 300 ألف إنسان أصبحوا بلا مأوى بعد الانفجار.
أقول بغض النظر عن كل هذه المشاهد المأساوية، وفساد الطبقة السياسية، وصراعاتها المبدئية وغير المبدئية، واستقواء بعضها على الآخر بالسلاح، أو بالخارج، مع تهديدات واختراقات العدو «الإسرائيلي» المتكرّرة، والمستمرة، فإن هناك وجهاً آخر للبنان عرفناه خلال هذه المحنة، ومن ملامحه أنه يحظى باهتمام عالمي قلّ نظيره من فرقاء مختلفين على كل شيء، إلّا على أن يكون لهم نفوذ في لبنان ومصالح متضاربة، أو متوافقة أحياناً مع الفرقاء الدوليين، والإقليميين، وبالطبع مع القوى اللبنانية المتصارعة والمؤتلفة - المختلفة في إطار حكم يقوم على الطائفية السياسية والزبائنية للحصول على المغانم والمكاسب والمواقع، تلك التي قام عليها دستور لبنان، وتكرست بفعل الأمر الواقع على نحو أشد في اتفاق الطائف عام 1990 بعد حرب أهلية دامت أكثر من 15 عاماً.
المظهر الإيجابي في لبنان - الوجه الآخر، هو التضامن المجتمعي الذي شهده خلال الكارثة الأخيرة والذي تم التعبير عنه بوسائل مختلفة، سواء من المجتمع المدني، أو المجتمع الأهلي، أو المؤسسات الثقافية والإعلامية والأكاديمية والدينية، وهو ما خفف إلى حد ما من آثار المأساة التي وصفت بأنها أقرب إلى هيروشيما لضخامة الانفجار، واتساع أضراره المادية والبشرية، وشموله لأحياء بيروتية كاملة دمّرت بشكل تام، أو شبه تام، أو تعطلت إمكانية الحياة فيها والتي قد تحتاج إلى وقت طويل لمعالجتها.
وأظهر اللبنانيون مثل هذا التعاضد والتساند ونكران الذات على نحو رائع، والتكافل الاجتماعي خارج الطائفية السياسية السائدة، فنزلوا نساءً ورجالاً، شباباً وشيوخاً، إلى الشوارع والساحات العامة كل حسب قدرته، ليجلوا آثار المأساة الكارثية، وليساعدوا الجهات والهيئات المختصة الطبية والإنقاذية والفرق الخاصة بإطفاء الحرائق وانتشال الضحايا وإسعاف من هم على قيد الحياة، حتى أن المستشفيات امتلأت بأعداد كبيرة من الجرحى، وبعضهم في حال خطرة، في حين أنها بالأساس كانت تعاني نقصاً في الخدمات الصحية، وهو ما تم التعبير عنه خلال أزمة «كورونا» منذ فبراير/ شباط الماضي، والتي لا تزال مستمرة إلى الآن.
وأثبتت الأحداث حيوية وطاقة وتضامن اللبنانيين لدرجة أعجبت العالم، الذي هو الآخر سارع للتضامن معهم في هذه الكارثة الإنسانية، بإرسال فرق طبية وخدمية ومساعدات، إضافة إلى طواقم فنية لإجلاء آثار الكارثة والتي قد تحتاج إلى فترة غير قصيرة لإعادة الإعمار، والأمر يحتاج إلى دعم ومساعدة دولية، سواء من الهيئات والمنظمات الدولية، مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، أو من دول يرتبط لبنان معها بعلاقات تاريخية، فضلاً عن المجتمع الدولي والأمم المتحدة التي لا بدّ أن تضطلع بمسؤولياتها إزاء لبنان بمساعدته في اجتياز هذه المحنة، ولا شك في أن الأمر يحتاج إلى مزيد من الوحدة الوطنية، والشروع في إصلاحات حقيقية، ومحاربة الفساد، وإعلاء مرجعية الدولة ووحدة قرارها، بما يصب في مصلحة جميع اللبنانيين، ويعزز علاقتهم مع أشقائهم العرب ومع مختلف دول العالم على أساس سيادتهم وتعزيز صمودهم للدفاع عن حقهم العادل والمشروع في اختيار نظامهم الاجتماعي، وفي دعم النضال الفلسطيني.
ولعل جميع تلك الأحداث، أو المطالب كانت شعارات عامة لانتفاضة 17 أكتوبر/ تشرين الأول 2019 التي لا تزال مستمرة، وعلى أساسها تشكلت الحكومة الحالية (المستقيلة)، وإذا لم تتمكن من تحقيق ذلك، فإن رحيلها يصبح تحصيل حاصل، وهو ما بدأ الحديث عنه بصوت عال بعد الانفجارات الأخيرة.

drhussainshaban21@gmail.com

صحيفة الخليج (الإماراتية)

غزو الكويت..

«الزمن العابس»

 

عبد الحسين شعبان

 

في 2 آب / أغسطس 1990، استفاق العالم على مفاجأة كاد ألّا يصدقها لولا ما نقلته الأقمار الصناعية من صور عن اجتياح الدبابات العراقية الحدود الكويتية؛ وكانت العلاقات العراقية - الكويتية قد تدهورت قبل أسابيع قليلة من الغزو، علماً بأن أمير دولة الكويت الشيخ جابر الأحمد الصباح كان قد زار بغداد قبل ثلاثة أشهر من الغزو، وقد منحه الرئيس العراقي وسام الرافدين من الدرجة الأولى، لوقوف الكويت إلى جانبه في الحرب ضد إيران التي دامت ثماني سنوات (1980-1988).
وكانت مغامرة الغزو في رأس صدام حسين وحده، ولم يشاركه فيها حتى وزير دفاعه ورئيس أركان جيشه، ولم يكن أحد يعلم بما يخطط له لحين الساعات القليلة قبيل التنفيذ؛ وفي الوقت الذي كانت المفاوضات بين الشيخ سعد ولي عهد الكويت ونائب الرئيس العراقي عزت الدوري، تم إعداد المسرحية "الكوموتراجيدية " للغزو التي أشعلت المنطقة، وحسب تقديري أن السبب الأول للغزو كانت الضائقة الاقتصادية، حيث كان العراق قد بدّد فوائضه المالية التي تقدّر ب 37 مليار دولار قبل الحرب، إضافة إلى ديون جديدة زادت على 60 مليار دولار، وزاد الطين بلة انخفاض أسعار النفط.
كما أن تضخم الجيش العراقي الذي بلغ نحو مليون جندي، عاظم من حجم المشكلة الاقتصادية، ولم يكن بوسع سوق العمل احتواء الجنود الذين سيتم تسريحهم، خصوصاً بعد توقّف المساعدات الخليجية، وهذا هو السبب الأساسي الثاني، أما السبب الثالث، فيعود إلى ضيق أفق الرئيس العراقي وقصر نظره وعدم معرفته بقواعد العلاقات الدولية وما سمّي بالنظام الدولي الجديد بعد انهيار جدار برلين في 9 تشرين الثاني / نوفمبر 1989، وبداية تفكك الكتلة الاشتراكية ودولها والاتحاد السوفييتي، دون استبعاد اعتقاده، أن واشنطن قد لا تتدخل عسكرياً إذا ما وقع غزو الكويت، خاصة بعد لقائه بالسفيرة الأمريكية ابريل جلاسبي قبل الغزو والقائم بالأعمال جو ويلسون وفهمه منهما أن بغداد هي الأجدر بتطمين مصالح واشنطن في المنطقة، دون أن ننسى طموحه في أن يصبح «زعيماً» على المنطقة.
وكان المفكر والدبلوماسي الكويتي عبدالله بشارة قد أصدر كتاباً مهماً بعنوان «الغزو في الزمن العابس- الكويت قبل الغزو وبعده» (منشورات ذات السلاسل، الكويت، 2019) تناول فيه العلاقات العراقية - الكويتية، ولا سيّما مقدمات الغزو وما بعده، علماً بأن بشارة عمل مندوباً دائماً لدولة الكويت في الأمم المتحدة منذ عام 1971، ومثّل الكويت في مجلس الأمن الدولي 1978-1979 وكان رئيساً للمجلس في شباط / فبراير 1979، وهو أول أمين عام لمجلس التعاون الخليجي 1981، واستمر في موقعه 12 عاماً. ولذلك تأتي تجربته متميزة وشهادته جديرة بالقراءة، ولا سيّما أنها من قلب الحدث.
يقول بشارة في مقدمة كتابه: إن صدام حسين أراد أن يدخل أبواب التاريخ كزعيم حقق أحلامه في ضم الكويت باعتبارها المحافظة التاسعة عشرة، وتكشف وثائق الغزو هوسه بالتاريخ من جهة، إضافة إلى شهيته في التوسع، فضلاً عن ضياع المنطق وغياب النصيحة كما يقول، وقد احتوى الكتاب على ثمانية فصول.
ويثني مؤلف الكتاب على تسامح القيادة الكويتية في معالجتها للأزمة مع العراق، وتعاملها بشجاعة وحكمة من دون حقد أو كراهية، ولا سيّما دعوتها إلى علاقات خالية من الاشتياق إلى مفردات الماضي، وإن كان «ماضٍ لم يمضِ» على حد تعبير الكاتب د. حامد الحمود العجلان، الذي عاش فترة الغزو بكل تفاصيلها المأسوية من دون أن تترك في نفسه كراهية أو ثأراً أو انتقاماً من العراقيين، لأنهم أيضاً كانوا ضحايا، ويدعو عبدالله بشارة إلى تحويل الأولوية إلى تعاون شامل في اعتراف عراقي أبدي في قبول الواقع الذي أفرزته عملية الغزو في خريطة العلاقات بين البلدين بكل جوانبها.
ومثلما كان الغزو مأساة حقيقية على الكويتيين، فقد كان كارثة مدمّرة على العراقيين أيضاً، الذين كانوا بين نارين، فلم يكن الغزو باسمهم مثلما لم تكن الحرب باسمهم أيضاً، وإن تمكّنت نخبة وطنية خارج البلاد من التعبير عن ذلك، بدعوتها إلى سحب القوات العراقية ونزع فتيل الحرب وتفويت الفرصة على القوى المتربصة بالعرب إقليمياً ودولياً، لكن المحذور قد حصل ولا يزال العراق منذ 30 عاماً ينزف دماً.

(الخليج) الاماراتية

 

" الحزب الشيوعي

 العراقي في صعوده ونزوله"

الإخلاص للمعرفة والهوى الصعب

 

عبد الحسين شعبان*

 

"وتبقى النظرية رمادية بالية وأما شجرة الحياة فيافعة خضراء"

الشاعر الألماني غوته

I

وفرة المصادر التي اطّلع عليها البروفسور طارق يوسف اسماعيل والتفاصيل التي  اقتفى أثرها والمعلومات التي اختزنها والمقابلات المباشرة التي أجراها مع عدد من القياديين والدقة والأمانة التي تحلّى بها،  كوّنت لديه صورة تكاد تكون شبه متكاملة عن تاريخ الحزب الشيوعي العراقي، بكل تضاريسها ومنعرجاتها وتموّجاتها وألوانها المشرقة والغائمة بما فيها بعض نقاطها المعتمة.

وعلى غرار حنّا بطاطو أدرك طارق اسماعيل  مثله مثل العديد من الباحثين الأكاديميين الجادين، أنه لا يمكن الحديث عن الحزب الشيوعي دون الحديث عن الدولة العراقية والعكس صحيح تماماً، فقد ترافق تاريخ اليسار عموماً والحركة الشيوعية خصوصاً، مع تاريخ الدولة التي تأسست في العام 1921 بتنصيب الأمير فيصل الأول بن الحسين شريف مكة ملكاً عليها في 23 آب (أغسطس) وسنّت دستورها الدائم (الأول) في 21 آذار (مارس) العام 1925، وانضمت إلى عصبة الأمم العام 1932، وكانت عضواً مؤسساً وفاعلاً في جامعة الدول العربية عند تأسيسها في 22 آذار (مارس) العام 1945، وعضواً مؤسساً في هيأة الأمم المتحدة التي تأسست في سان فرانسيسكو في 24 تشرين الأول (أكتوبر) العام 1945.

الميزة الأولى لكتاب طارق اسماعيل " الحزب الشيوعي العراقي في صعوده ونزوله" هي الكثافة والعمق الذي تجلى بالإدهاش والمفاجأة في الآن، فحين يأتي طارق اسماعيل على تفصيل أو رأي أو يقتبس قولاً يبدو لك متكاملاً ويحاول أن يقنعك وكأنه صاحبه وليس اقتباساً، ثم يأتي على رأي آخر أو جزئية أخرى أو اقتباس ثان وإن كان عكس الأول ، لكنه يمضي به إلى النهاية ليستكمله ويحاول إقناع القارئ بمبرّراته، وهكذا يحاول مع النظائر المختلفة، لدرجة يضعك حائراً وعليك أن تستخدم عقلك ومخزونك الفكري والثقافي، لكي تميّز بين هذا وذاك، وتلك ميزته الأكاديمية الثانية.

فهو لا ينقل رأياً أو وجهة نظر أو قولاً دون أن يمحّصه ويتابعه ويبحث في أسانيده، وحين ينقل رأياً معاكساً ويأتي على وجهة نظر مخالفة أو يقتبس قولاً آخر يفعل الشيء ذاته بعدالة كاملة ودون انحياز مسبق، ولا يعني هذا أنه لا يمتلك وجهة نظر خاصة أو رأياً متبلوراً، لكنه لا يقدّمه للقارئ لكي لا يؤثر على وجهة نظره ويستحوذ على تفكيره، إنما يقلّب الآراء أمامه ويخضعها لمختبره ويجري عليها تحليلات لتخرج في نهاية المطاف طازجة تعبّر عن حقيقة ما حدث وقادرة على الإقناع، وتلك وظيفة البحث العلمي  وهي ميزته الثالثة.

ومثل تلك الطريقة وهذا الأسلوب يجنّباه الجمود والجفاف الذي تمتاز به بعض الأبحاث الأكاديمية ، بل إنه بتعريضه الآراء جميعها للنقد والرأي والرأي الآخر، يمنح القارئ فرصة الاختيار مثلما يجعل من سرديته تتمتّع بجاذبية جديدة فوق ما فيها من قيمة علمية، فتراه أحياناً يسعى لإشراك القارئ لينظر إلى ما هو هامشي أو عابر أحياناً من منظور جوهري وثابت، لأن الكتابة عن الحزب الشيوعي وتاريخه أقرب إلى المغامرة وهناك العديد من الباحثين تجنّب الاقتراب منها، في حين سلك طارق اسماعيل دروبها الوعرة بشجاعة وتجرّد، واقتحم ميدانها وهو مسلّح بمعرفة وعلم وضمير يقظ، لاسيّما بعد أن تكدّس لديه كمٌ هائل من المعلومات والكتب والدراسات عن تاريخ الحركة الشيوعية وقياداتها في العالم العربي، كما امتاز بصداقاته لعدد منها ولقاءاته المتكرّرة لاستكمال مهمته، فضلاً عن معرفته بالخريطة السياسية والفكرية العراقية والعربية بمدارسها المختلفة ، ليس هذا فحسب، بل إن بقاءه في المحافل الأكاديمية في الغرب أعطاه فسحة أكثر حرية وانفتاحاً، خصوصاً وهو غير محازب أو منحاز وتلك ميزته الرابعة.

ويعرف طارق اسماعيل أن مغامرته تهدف إلى البحث عن الحقيقة، فتقدّم إليها مؤمناً بما يكتب وبما توصّل إليه من استنتاجات يحاول وضعها مخلصاً أمام القارئ، ولاسيّما المعني بشكل خاص، وهو إذْ يفعل ذلك فإنه يضع عصارة تجربته الحياتية والأكاديمية ورحلته الطويلة مع البحث العلمي الذي زاد على نصف قرن في خدمة القارئ وفي عهدة التاريخ ،أميناً عليها جاعلاً الحرف والحق والمعرفة فسيفساء متداخلة في مشغله لا يمكن أن ينفكّ أحدها عن الآخر، لأنها مترابطة عضوياً ومتفاعلة جدلياً.

أقول إن الكتابة عن الحزب الشيوعي مغامرة  لأنها قد لا ترضي أحداً، فلمجرد ذكر حسناته وإيجابياته وهي كثيرة سيضعه "الكارهون" و"القادحون" وأصحاب المواقف العدائية، في خانة "المؤيدين" للحزب وسياساته، بل سيضيفون على ذلك أنه "مروّج" للأفكار الشيوعية، وما "انتقاداته" سوى  الغطاء لإمرار ما يريد، وهكذا يمكن أن يصنفونه، خصوصاً وأن علاقته مع الزعيم عبد الكريم قاسم، إضافة إلى أن بعض كتاباته ودوره الإعلامي بعد 14 تموز (يوليو) 1958، تعطي مثل هذا الانطباع، علماً بأنه استمر في مركزه المهني هذا قريباً من موقع القرار لغاية سفره إلى الولايات المتحدة للدراسة العليا العام 1960 بعد أن كان قد تخرّج من جامعة بغداد (كلية الآداب) العام 1958، ولكنه ظلّ مستقلاً ومحافظاً على استقلاليته ومهنيته.

أما "المغالون" في المدح و"المتعصبون" في الولاء، فسيعتبرون أي نقد لممارسة أو انتهاك أو تجاوز، إنما يصبّ في طاحونة الأعداء، وفي أحسن الأحوال يصنفون تلك الكتابة بالتأثر بالدعاية السوداء، وفي كل الأحوال فهي تلقي الزيت على النار التي يحاول أولئك الذين ينسبون المساوئ للحزب إبقاء جذوتها متقدة في مسعى لتشويه سمعته وتضخيم أخطائه، فما بالك إذا كان بعض انتقاداته أقرب إلى الجماعات المنشقة عنه، وخصوصاً بعد العام 1967 التي حاول أن ينقل وجهة نظرها من أدبياتها، فإن الأمر سيزيد الصورة تشوّشاً والتباساً، ويلقي ظلالاً من الشك على محتوى الكتاب ومضمونه، بل مشروع الكتابة ككل وأهدافها وأغراضها وتوقيتها وبماذا تفيد وفي هذا الظرف بالذات؟ وكأن هناك زمناً مبرمجاً للنقد ينبغي تشغيله حسب هوى أصحابه وتوقيتاتهم.

            وأيّا كان بعض التقييمات "المعلّبة" أو "الجاهزة" التي تواجه الأكاديمي والناقد، فتلك ضريبة لا بدّ أن يدفعها وهو برضا كامل، لأن وظيفته تختلف عن وظيفة المبشّر أو الداعية، اليقينية - الإيمانية، أما لغة الأكاديمي والباحث فتكون نقدية- تساؤلية، وفي حين تكون الأولى مغلقة، فإن الثانية مفتوحة، وهكذا هي لغة الكاتب والكتاب المصبوب بمنهجية علمية مائزة، دون أن يعني ذلك عدم إخضاعه هو الآخر للنقد والتدقيق والملاحظة، ولعلّ قيمة أي عمل جاد وأي فعل مؤثر هو بنقده.

            فتح طارق اسماعيل باباً مهماً لمعرفة تاريخ الحزب الشيوعي العراقي وسلّط ضوءًا جديداً عليه ومن منظور جديد لصعوده ونزوله ، خارج دائرة التبشير والتبرير، بل عمل جهده من خلال التفسير والتنوير بما له وهو كثير ولا يمكن إخفاؤه وما عليه وهو ليس بقليل ولا يمكن إهماله، الأمر الذي يعني وهذا ما أتوقعه من نجاح الكتاب والكاتب، خصوصاً حين تناله طائفة من النقد والمراجعة والتصويب، لأنه يستحق ذلك، وأظن أن ذلك سيفتح النقاش الذي لم ينقطع أساساً حول تاريخ الحركة الشيوعية وهو نقاش مطلوب بصوت عال دون تقديس أو تدنيس.

            وحتى كتاب حنّا بطاطو " العراق - الطبقات الاجتماعية القديمة والحركات الثورية في العراق" الذي صدرت عنه طبعة جديدة عن دار بابل (بغداد) في ثلاثة أجزاء العام 2018 ترجمة سعد الحسيني (وهي ترجمة ثانية بعد ترجمة عفيف الرزاز التي صدرت في العام 1996 عن مؤسسة الأبحاث العربية وللأسف فكلاهما لم تسلما من الأخطاء) والذي امتاز بعلمية جديرة، حيث بحث في صلب الاجتماع السياسي العراقي، فهناك من يقتبس منه بحسب هواه ويعتبر اقتباسات الآخر الخصم أو العدو افتئاتاً وهكذا.

            وقد اختلف منهج طارق اسماعيل عن منهج حنا بطاطو حيث توقّف أكثر وعلى نحو مباشر عند الأدبيات والتجارب الشخصية وأخضعها لتحليل تاريخي وسياسي واجتماعي في إطار تشابكاتها الدولية، ليكون أساساً لمنهجه النقدي والذي يقول عنه  "بعيداً عن أية مفاهيم مسبقة قد تكوّنت لديّ"، لأنه حسب اعتقاده إن بطاطو قبل 30 عاماً حين ألّف كتابه كان من غير الممكن الوصول إلى المعلومات الشخصية، ناهيك عن الوثيقة، وهو إذ يقدر جهده الضخم، لكنه اتّبع منهجاً آخر بما عرفه عن الشيوعيين وصراعاتهم على نحو مباشر أيضاً، وكان ذلك ضمن مشروعه الخماسي عن الحركة الشيوعية التي يختتمها بمؤلفه عن الحزب الشيوعي السوداني (2013) وقبلها كان قد نشر سفراً مهماً عن الحركة الشيوعية المصرية (1990) والحركة الشيوعية السورية - اللبنانية (1998) والحركة الشيوعية في العالم العربي (2005) والحزب الشيوعي العراقي (7200).

            وثمة ميزة خامسة لكتاب طارق اسماعيل هي أنه بحث موضوع الحزب من الداخل العراقي، بل كان قريباً من الحزب نفسه وقيادته في فترة شبه علنية أو علنية بعد العام 1958، وهو ما حاول أن يأتي عليه في مذكراته الشائقة والمفيدة والتي تلقي ضوءًا على تاريخ العراق المعاصر والموسومة " من زوايا الذاكرة - على هامش ثورة 14 تموز عام 1958 " والتي أعتبرها استكمالاً وتتويجاً لكتابه موضوع البحث والخاص بتاريخ الحزب الشيوعي، ومثل هذا التداخل طبع جيل الخمسينات والستينات بشكل عام في صعود الفكر اليساري والماركسي تحديداً، علماً بأن الهزائم العديدة والانكسارات المعنوية المختلفة التي مُني بها الجيل الستيني أثارت أسئلة جديدة ودفعت الشباب المتطلّع للتجديد والتغيير للتمرّد على بعض الأطر والأنماط السائدة في الرأسمالية (حركة الاحتجاج الفرنسية 1968) والاشتراكية (ربيع براغ والدعوة إلى اشتراكية ذات وجه إنساني) والرغبة في التحلّل من الالتزامات الثقيلة على صعيد الحياة والوجود.

            وترافق ذلك كلّه مع حركة تجديد في الفن والأدب والسينما والمسرح والشعر والموسيقى واللغة والسلوك والأخلاق وغيرها، وهذه إضافة إلى حركة الحقوق المدنية في الولايات المتحدة والتضامن الدولي مع فيتنام وضد الحرب الأمريكية عليه وصدمة 5 حزيران (يونيو) العام 1967 كلّها انعكست على وضع اليسار عموماً واليسار العربي بشكل خاص.

 

II

ويرصد طارق اسماعيل العديد من ملفات الحزب وتاريخه العويص، ويتوغّل في مراحله الشائكة والمعقّدة ويتناول المراحل القاسية والشاقة في حياته ودور مناضليه الأوائل وميزاته الوافرة، وخصوصاً في استقطاب المثقفين العراقيين، الذين مرّوا في الأربعينات والخمسينات من بواباته أو نوافذه أو بالقرب منها، متأثرين به ومتفاعلين معه، إضافة إلى الدور الذي اضلع به في التحضير لثورة 14 تموز (يوليو) 1958 موضوعياً أو حتى ذاتياً.

ولا ينسى اسماعيل أن يتوقّف عند انشطارات الحزب وأخطائه واندفاعاته ويبحث في ثغرات بعض سياساته وصولاً إلى الردّة الشباطية في العام 1963 والتي أطاحت بغالبية قياداته بضربة خاطفة وبشعارات صاخبة امتحنها الناس خلال الأشهر التسعة فسقطت مضرجة بالدماء والدموع وعشرات الآلاف من الضحايا وسجون مكتظّة ومحاكمات صورية ، وذلك في غفلة من الزمن وبطريقة أقرب إلى المباغتة والحيلة، لاسيّما بضعف اليقظة وعدم تبلور مشروع استراتيجي ناضج .

ويعتني الكتاب بالحياة الداخلية للحزب ويرصد على نحو دقيق مظاهر التراجع والشيخوخة والعزلة التي عاشها ويتابع ذلك بشكل خاص في أجواء المنافي وما صاحبها من انتهاكات وتجاوزات مسّت القيم التي كانت الأبرز في تاريخه، ناهيك عن تقهقر سياساته وتذبذباتها، من الجهة الوطنية مع حزب البعث العام 1973 إلى المشاركة في مجلس الحكم الانتقالي بعد الاحتلال الأمريكي للعراق العام 2003.

ويعتبر ذلك امتداداً وتدرجاً إلى ما وصل إليه الحزب، حين أدار ظهر المجن وقلب صفحة الماضي المأساوية على نحو مثير ودون مقابل كما يُقال، ورضخ لشروط حزب البعث "الحليف" وقام بتمجيد دوره والترويج لسياساته على المستوى العربي والعالمي، وهو ما تكرّس في المؤتمر الثالث للحزب العام 1976، في حين كانت المؤشرات واضحة ولا تحتاج إلى عناء كبير لفهم أسباب الارتداد الموجودة في جوف النظام، بل وتعيش في أحشائه، إذْ سرعان ما أدّت بالحزب الحاكم وبعد تصفية الحركة الكردية إلى فضّ التحالف بمجمله وليس قص أجنحته بحلّ المنظمات الجماهيرية التابعة للحزب مثل اتحاد الطلبة ورابطة المرأة ومنظمة الشبيبة الديمقراطية وغيرها، بل استبعاد كل لون أو طيف من خارج " الحزب القائد" ومن يدور في فلكه ، بما فيها المنظمات التي ارتضى فيها الحزب الشيوعي العمل فيها تحت هيمنة حزب البعث وتوجيهاته، مثل مجلس السلم ونقابة الصحفيين واتحاد الأدباء وغيرها من المنظمات التي كان للحزب الشيوعي نفوذ كبير فيها.

وكانت صيغة الجبهة الوطنية قد اشترطت قيادة البعث للجبهة والسلطة باعتباره يلعب دوراً متميزاً، وهو الذي قاد "ثورة" 17-30 تموز (يوليو) 1968 "التقدمية"، مثلما اشترط حلّ تنظيمات الحزب بالجيش واعتُبِر لاحقاً من يُكتشف بالعمل في القوات المسلحة أو القوات الأمنية بجميع صنوفها، يكون مصيره الإعدام، بل إن من لم يبلّغ عن انتماءات سابقة له يندرج ضمن مواد عقابية غليظة شرّعت لهذا الغرض دون اعتراض يُذكر، وهو أقرب إلى إصدار حكم مسبق بحق أعضاء في القاعدة  أو أصدقاء الحزب غامرت بقبوله قيادة الحزب، وقد أقدمت الحكومة العراقية على تفعليه بإحالة العديد من المتهمين من أصدقاء الحزب إلى "محكمة الثورة" التي أصدرت حكمها بإعدام نحو 30 عسكرياً بتهمة انتماءاتهم  الشيوعية وتم تنفيذ الحكم بهم في ربيع العام 1978.

ويتناول اسماعيل كيف مرّت عاصفة التصفيات للحركة السياسية العراقية في ظل وجود الجبهة الوطنية، سواء ضد رفاق الأمس " القيادة المركزية" أو ضد القوى القومية العربية وبعضها من حلفاء الحزب، ولاحقاً ضد الحركة الكردية، لدرجة أن الحزب حمل السلاح مع البعث لملاحقة "الجيب العميل"، وهو ما كان يروّج له الإعلام الرسمي، حيث ازداد التوتر بين البعث والحركة الكردية ، ودفع الشيوعيون الثمن أيضاً  حين أقدم عيسى سوار، وليس بمعزل عن توجيهات قيادة الحزب الديمقراطي الكردستاني (حدك) آنذاك، باختطاف 12 شيوعياً كانوا قادمين من الخارج وقتلهم، وهو الأمر الذي تكرّر في الصراعات الكردية- الكردية، والتي ما كان للحزب الشيوعي الانخراط فيها، إلّا أن أوضاعه الداخلية وانحيازات بعض قياداته الكردية لهذه المجموعة أو تلك حمّلته المزيد من الكوارث، وكان من أبرزها مجزرة بشتاشان ضد الأنصار الشيوعيين التي راح ضحيتها عشرات منهم في أيار (مايو) العام 1983، على يد الاتحاد الوطني الكردستاني (أوك) .

ويتناول اسماعيل مرحلة ما بعد اندلاع الحرب العراقية – الإيرانية 1980-1988 والموقف المتخبّط للحزب الشيوعي منها وممالئة لإيران ويسلّط الضوء على وثائق وتفاصيل مهمة، فيما يتعلّق بالموقف من الحرب وتطوراتها وفيما بعد في الموقف من الحصار الدولي عقب غزو القوات العراقية للكويت في 2 آب (أغسطس) 1990 وما بعدها ولغاية العام 2003.

وقد تكون تلك المرحلة جزءًا من التصدّع الأيديولوجي والتيه السياسي التي مرّ بها الحزب والذي تحوّل إلى نوع التخبّط والغبش الفكري بعد الاحتلال الأمريكي ، خصوصاً مشاركته بمجلس الحكم الانتقالي، والتي مثّلت ضياعاً حقيقياً وتبدلاً في استراتيجيات الحزب "المناضل الأكثر جذرية" ضد الإمبريالية وضد أحلافها العسكرية العدوانية ومعاهداتها الاسترقاقية المذلّة، وإذا به يقبل بدستور طائفي - إثني ويروّج له ويعتبر اتفاقية التعاون الاستراتيجي مع الولايات المتحدة الأمريكية " أحسن الحلول السيئة" في تعبيرات ملطّفة ومخففة عن عمق ما أصاب العراق من دمار وخراب هدّم أركاناً أساسية من الدولة العراقية، خصوصاً بحلّ الجيش والقوى الأمنية وتعريض البلاد للفوضى والإرهاب، وهو ما يدعو إلى السخرية السوداء أو المرّة، تلك التي وصفها الشاعر أكتافيو باث بأنها " تنحدر بالآلهة من عليائها السماوي إلى الأرض وتنتقل بالنص المقدس إلى خارج المعبد"، وهو بتقديري المشهد الأكثر درامية في الوضع العراقي برمته، والذي كان على الحزب الشيوعي وتاريخه عدم  الانخراط فيه.

III

حين صدر كتاب طارق اسماعيل The raise and fall of the communist party of Iraq" في العام 2007 عن مطبعة كامبريدج في نيويورك لم أطّلع عليه إلّا  في العام 2010 حيث أهداني نسخة منه، ولم أستطع قراءته في حينها لأنه يحتاج إلى تفرّغ لبضعة أسابيع لم يكن لديّ الوقت لأخصّصها له، لأنني كنت أقضي ما تبقى لي من خدمة جامعية في جامعة صلاح الدين (كلية القانون والسياسة- إربيل)، لكنني قرأت عنه ملخصاً باللغة الإنكليزية، واكتفيت حينها بقراءة بعض الفقرات من الكتاب تلك التي كنت أودّ الاطلاع على رأيه فيها، وبعد حين عثرت على تقريظ له باللغة العربية قدّمه الصديق حسقيل قوجمان ونشره في موقع الحوار المتمدن، ويعيد طارق اسماعيل نشره كملحق لهذا الكتاب.

وقد أراد "قوجمان" من الكاتب تدوين ما حدث دون أن ينظر إلى رأي الكاتب بما حدث، وهو أمر لا يمكن للكاتب ألّا  يكون له رأي بعد أن ينشر بأمانة ما حدث ، ثم يعطي تقييمه فهو ليس مُدوِّن للوقائع فحسب، بل يحاول تحليلها من منظور سسيولوجي وثقافي بإخضاعها لسياقها التاريخي مشخصاً إيجابياتها وسلبياتها، علماً بأن الموضوعية لا تعني الابتعاد عن تقديم رؤية وتحليل، لأنه حتى اختيار ما حدث سيكون انتقائياً، حيث سيدخل رأي الكاتب في هذا الاختيار ويمكن ذكر حوادث مهمة ببضعة أسطر، وتضخيم حوادث عابرة بنشر عشرات الصفحات عنها، بما يتعلّق بمزاج الكاتب ومنهجه والغرض من النشر ، وبعض هذا الميل والهوى قاد "مؤرخاً" في تاريخ الحزب لتناول ذلك حسب ارتياحاته ووجهات نظره ومواقفه فعظّم بعضها وهمّش بعضها الآخر.

IV

يمكن القول إنه لا يمكن لتاريخ الحزب الشيوعي العراقي أن يدونه شخص واحد ولا حتى مجموعة أو مجاميع من الباحثين، لأنه سيكون تاريخاً مفتوحاً وتتعدّد وتتنوّع القراءات وزوايا النظر إليها، إضافة إلى اختلاف المرجعيات والمناهج ودرجة الوعي والثقافة والمعرفة بين هذا وذاك.

 وبهذا المعنى ليس للتاريخ قول فصل لا يقبل الجدل أو التفسير أو التأويل، لأن ذلك ضد منهج النقد التاريخي الجدلي وضد منطق الحياة، وتلك المهمة  ستكون فوق قدرات أي إنسان، ناهيك عن أنها فوق مهمة البحث العلمي التي لا تقبل إلّا بالتعدّد والتنوّع والتمايز والتميّز والاختلاف، ومع ذلك يمكنني القول إن كتاب طارق اسماعيل هو الكتاب الأكثر شمولية وعمقاً من غيره والأبعد عن الهوى والانحياز ، خصوصاً بما امتاز به من منهج أكاديمي ومصادر غنية ومعرفة معمّقة بطبيعة المجتمع العراقي، ولعل مقاومة الانحياز والرأي المسبق مهمة في غاية الصعوبة، لكن اسماعيل حاول خوض غمارها وأعتقد أنه نجح في تسجيله للكثير من الأهداف وإن ظلّت بعض المحاولات تحتاج إلى استكمال.

وكاتب التاريخ ليس بالضرورة أن يكون عضواً في الحزب أو قيادياً فيه، يمكن لذلك العضو أو القيادي أن يدون شهادته وهي وجهة نظر شخصية لإعادة القراءة التاريخية لما حصل وما كان مشاركاً فيه أو شاهداً عليه أو سمع عنه أو تابعه، فتلك مسألة تختلف عن كتابة التاريخ.

كاتب التاريخ يقرأ ويحلل ويدرس ويقارن ويطلع ويسأل ويحاور بعض من كان على قيد الحياة ممن لعبوا أدواراً، أو من كتبوا في هذا المجال، وقد حاول ذلك طارق على نحو كبير ودون كلل أو ملل على مدى ربع قرن من الزمان.

يوم صدر الكتاب كانت رغبتي شديدة في أن يجد من يقوم بترجمته إلى العربية، وأبديت له ملاحظات خاصة بفترة الحرب العراقية- الإيرانية، والتي من تداعياتها قيام حركة المنبر الشيوعية، ووعد بكتابة فقرة خاصة عنها، وفعل ذلك، وقد نشر بحثاً مطوّلاً باللغة الإنكليزية عن حركة المنبر ومواقفها وتوجهاتها الفكرية والسياسية وأسباب خلافاتها مع قيادة الحزب الشيوعي، واستعان بعدد من الوثائق، ثم قام بكتابة نص عربي نشره في مجلة المستقبل العربي في عددها رقم 439 (أيلول/سبتمبر) 2015 بعنوان "جماعة المنبر والحركة الشيوعية العراقية: قراءة تاريخية – راهنة لبعض أجنحة الحركة الشيوعية"، وقرّر حسب مقدمته ضمّ هذا البحث إلى الكتاب كملحق أساسي من ملاحقه.

وهنا بودي أن أسجل للصديق حسقيل قوجمان ملاحظته التي سبقني إليها وهي أنه كان يمكن تخصيص فقرة عن "حزب التحرّر الوطني" و"عصبة مكافحة الصهيونية" اللذان أنشئا العام  1946 لأنهما يمثّلان جزءًا من تاريخ الحركة الشيوعية، خصوصاً ملابسات عدم إجازة الحزب ونشاطات العصبة المهمة في مكافحة الصهيونية وفضح أساليبها، وقد جئت على بعض تلك الإشكالات في كتابي الموسوم " سعد صالح - الضوء والظل: الوسطية والفرصة الضائعة" الصادر في بيروت عن الدار العربية للعلوم - 2009 وفي طبعة ثانية عن دار الشؤون الثقافية، بغداد ، 2012 .

وإذا كانت كتابات زكي وسعاد خيري تمثل رؤيتهما الخاصة لتاريخ الحزب وخصوصاً "دراسات في تاريخ الحزب الشيوعي العراقي" (1984)  وكتابات عزيز سباهي المكلف من قيادة الحزب في العام 1999  تمثل هي الأخرى جزءًا من تاريخ الحزب والموسومة " عقود من تاريخ الحزب الشيوعي العراقي "، فإنها وإن كانت قريبة من التوجهات الرسمية للحزب، لكنها تمثل رؤية خاصة تمثل أصحابها وتبقى القراءة مفتوحة ومتعددة من روافد مختلفة لتحمل تفسيرات وتأويلات واستنتاجات مختلفة أيضاً، بما فيها رؤية القيادة المركزية لتاريخ الحزب ورؤية حركة المنبر الشيوعية له، إضافة إلى كتل وتجمعات أخرى .

وإذا كانت هذه الرؤية من ذات الإطار، فهناك رؤى أخرى بعضها حاول تقديم قراءة لتاريخ الحزب من منظورها السلبي ومن داخل الأجهزة الأمنية الأيديولوجية للأنظمة الحاكمة في صراعها مع تاريخ الحركة الشيوعية، منها مديرية التحقيقات الجنائية (موسوعة سرية خاصة بالحزب الشيوعي العراقي) العام 1950، و"أضواء على تاريخ الحركة الشيوعية في العراق"  (5 أجزاء) لمؤلفه المجهول سمير عبد الكريم الصادر عن دار "المرصاد" الوهمية، قبرص، 1979.

V

في الختام أقول لقد قرأ طارق اسماعيل مذكرات الشيوعيين وسردياتهم التاريخية واختلافاتهم وخصوماتهم، لكن تقييمه جاء لبرنامجهم الذي يمتازون به عن غيرهم بدفاعهم عن الغالبية العظمى من الشعب، بما يملكوه من طاقة والتزام وبما حاولوا وضعه من حلول ومعالجات، الأمر الذي أثّر على جميع التشكيلات التي أعقبتهم، وهو ما دعاه ليقول عنهم أنهم كانوا طليعة النضال، لكن الوقائع التي لديه والاستنتاجات التي توصل إليها دعته للقول أنهم أصبحوا في مؤخرة الانتهازية والمقصود بذلك بعد تقهقرهم، فبعد أن كان لهم الدور الأبرز في وثبة كانون العام 1948 والدور المحوري في انتفاضة تشرين الثاني العام 1952 والدور الأكثر تميّزاً في انتفاضة العام 1956 انتصاراً للشقيقة مصر وضد العدوان الثلاثي والدور الفعّال في التحضير لثورة تموز (يوليو) العام 1958،  إلا أن أخطاء السياسة وتذبذباتها وخصوصاً إثر الضربة الموجعة التي تعرّضوا لها في العام 1963 جعلتهم يتراجعون على نحو ملفت في مسلسل للتدهور انتهى بتقسيم الحزب قومياً إلى حزبين عراقي وكردستاني، في حين يتغنى برفعه راية الأممية عالياً.

ويُرجع اسماعيل تراجع دور الحزب الشيوعي إلى " اعتماده الكبير على الاتحاد السوفييتي  وفقدانه المماثل لهويّته كحزب عراقي " وحسبما يقول " أصبح تأثير كلاً من المصالح السوفييتية الأيديولوجية والسياسية على حد سواء، واضحاً في سياسة الحزب وممارساته" ويعتقد أن هذه المواقف تعاظمت بعد مجزرة العام 1963، وفي نهاية المطاف أدت إلى ظهور، جناحين أيديولوجيين متنافسين في العام 1967، وينقل رأياً لعزيز الحاج أمين عام حزب القيادة الذي تخلّى عن معتقداته وأطروحاته بُعيد اعتقاله، مفاده أن فشل تجربة القيادة المركزية بسبب أخطائها من جهة وتوحّد خصومها الذين نجحوا في القضاء عليها من جهة ثانية.

ومن استنتاجاته فشل الحزب في تطوير ثقافة سياسية مستقلة على المستويين الفكري والتنظيمي وخضوعه للأجهزة الخارجية السوفييتية وتمركز السلطة بيد السكرتير العام والمكتب السياسي واعتماد السياسة من القمة إلى القاع تلك التي أنتجت إحباطات وانشقاقات.

ويتابع طارق الانقسامات فيعتبر القسم المتبقي من الحزب "خاضعاً للقسم الكردي" في جزء من " المظاهر العرقية والطائفية والقبلية" وكأنها انعكاسات للمجتمع العراقي.

إن كتاب طارق اسماعيل جهد أكاديمي متميّز وإضافة نوعية جديدة إلى المكتبة الماركسية العربية وإلى الدراسات التاريخية السسيولوجية الثقافية للفكر السياسي العراقي ولتاريخ الدولة العراقية، وأجد في قراءته جدوى مهمة لكل باحث وطالب معرفة لتاريخ الحركة الشيوعية .

بيروت في 7/8/2019

 

الزمان العراقية

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* أكاديمي ومفكر عربي من العراق.

 

مايكل لينك و«إسرائيل»

عبد الحسين شعبان

 

"إن عقوبات "إسرائيل" الجماعية بحق الفلسطينيين غير قانونية وإهانة للعدالة ولسيادة القانون (الدولي) وتنطوي على انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان" هذا ما قاله البروفيسور مايكل لينك المقرر الخاص للأمم المتحدة المعني بحالة حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة ؛ جاء ذلك في تقريره السنوي الذي قدّمه في 16 يوليو(تموز) 2020 بخصوص سياسة " العقاب الجماعي" التي تتبعها "إسرائيل" بحق الشعب العربي الفلسطيني.

            وكان لينك  الخبير القانوني الكندي قد اختير في ربيع العام 2016 ليكون المقرر الدولي السابع لمراقبة حالة حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ إنشاء هذه الهيئة العام 1993، بعد 3 أشهر على استقالة سلفه الإندونيسي أستاذ القانون مكارم ويبيسوتو بسبب عرقلة "إسرائيل" لمهمته ومنعه من دخول الأراضي الفلسطينية المحتلة؛  وصعّدت "إسرائيل" الهجوم  على لينك  بعد تعيينه مستثيرة اللوبي الصهيوني داخل كندا وأوروبا بهدف الضغط على أعضاء مجلس حقوق الإنسان الدولي، لإعادة النظر في اختياره، وقالت أنه صاحب نضال طويل ضد "إسرائيل"، وهو مؤيد لجماعات الضغط العربية، وذلك في محاولة للتشكيك بنزاهته وصدقية توجّهه الإنساني.

            جدير بالذكر أن لينك اختتم تقريره السنوي بطائفة من التوصيات القانونية والحقوقية منها دعوة " إسرائيل" باعتبارها قوة الاحتلال الفعلية إلى إنهاء جميع تدابير العقوبات الجماعية بما فيها الحصار على غزة منذ 13 عاماً ورفع جميع القيود المفروضة على حرية التنقّل في جميع أنحاء الأراضي الفلسطينية المحتلة، والتوقّف عند هدم المنازل كإجراء عقابي ووقف جميع ممارسات سحب "الإقامة الدائمة في القدس" وقطع الإعانات وإغلاق البلدات كإجراءات عقابية ووضع حدّ للتأخر في تسليم جثامين الفلسطينيين تمهيداً لدفنها، كما حصل مؤخراً في تسليم جثمان أحمد عريقات الذي استشهد برصاص حرس الحدود (قرب أبو ديس) يوم 23 يونيو (حزيران)  2020.

            وتتبع "إسرائيل" منذ احتلالها نهجاً يستند إلى سياسة ذات وجهين  متداخلين : الأول - الاستعمار الاستيطاني، والثاني- نظام الفصل العنصري "الأبرتايد"، وكلاهما  يهدفان فرض عقوبات جماعية، وكان تقرير مايكل لينك قد قدّم تحليلاً قانونياً موسعاً أكّد فيه على عدم شرعية الممارسات التي تنتهجها "إسرائيل" بحق الشعب العربي الفلسطيني، وذلك في محاولة شرعنة اللّا قانوني، من خلال المحاكم "الإسرائيلية" والقضاء "الإسرائيلي" الذي ذهب في العديد من المرات إلى إضفاء "شرعية" على إجراءات السلطات "الإسرائيلية" في هدم المنازل واحتجاز الجثامين وغيرها من أساليب العقوبات الجماعية.

            العقوبات الجماعية أياً كانت مبرراتها  تعتبر محظورة بموجب القانون الدولي ويحرّم استخدامها تحت أية ذريعة، ولا توجد استثناءات مسموح بها ، حسبما تذهب إلى ذلك اتفاقيات جنيف الأربعة لعام 1949 وملحقيها لعام 1977 وقواعد القانون الدولي العام المعاصر بشكل عام والقانون الإنساني الدولي بشكل خاص، سواء وقت السلم أم في وقت الحرب، لأنها تمثّل انتهاكاً صارخاً لنظام العدالة ولحقوق الإنسان، ناهيك عن كونها اعتداء سافر على إنسانية الإنسان وكرامته ولنظام الأخلاق العامة.

            وحثّ مايكل لينك في توصياته لمجلس حقوق الإنسان اتخاذ إجراءات سريعة وعاجلة لوضع حد للجرائم "الإسرائيلية" ، وإنهاء كامل وسريع لاحتلالها للأراضي الفلسطينية (المقصود بعد العام 1967)، وناشد المجتمع الدولي "بضرورة اتخاذ التدابير بما فيها التدابير المضادة للعقوبات" ، تماشياً مع التزامات ومسؤوليات المجتمع الدولي القانونية.

            وإذا كانت الأمم المتحدة كثيراً ما أدانت "إسرائيل" وأصدرت قرارات واجبة الأداء والتنفيذ، وخصوصاً من جانب مجلس الأمن الدولي  بما فيها القرارين 242 و 338 وهما على التوالي في العام 1967 والعام 1973، بشأن الانسحاب "الإسرائيلي" من الأراضي المحتلة، باعتبار أن أي عملية ضم أو إلحاق للأراضي أو استيلاء بالقوة أو الحصول على مكاسب سياسية جراء الاحتلال تتعارض مع القانون الدولي المعاصر، فإن الواجب الدولي والإنساني يتطلب اليوم  اتخاذ إجراءات أكثر حزماً تتجاوز عبارات التنديد الكلامي والإدانة اللفظية،  لما هو عملي وضاغط على "إسرائيل" بما فيها فرض " عقوبات"، لثنيها عن الاستمرار في مشروعها التدميري بحق الشعب العربي الفلسطيني والامتثال إلى  قواعد القانون الدولي وما يسمى بـ الشرعة الدولية، خصوصاً حين يتم تأمين مستلزمات الاعتراف بحق تقرير مصيره وعودته إلى دياره، وإقامة دولته الوطنية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف.

            وإذا كانت "إسرائيل" قد تمادت في سياسة العقاب الجماعي، فإن قواعد العدالة الدولية تقتضي عدم إفلات الجناة والمرتكبين من المساءلة ، خصوصاً أولئك الذين ارتكبوا جرائم ضد الإنسانية، وهو ما تؤكده المحكمة الجنائية الدولية ونظام روما الذي تأسس في العام 1998والذي دخل حيّز التنفيذ العام 2002، حتى وإن كانت "إسرائيل" قد انسحبت منه، لكن الأمر يتعلق بمخالفة قواعد عامة ذات صفة إلزامية آمرة ، وهو أمر لا يمكن لأي كان التملّص منه وتحت أية حجة أو مسوّغ، ولذلك فإن يد العدالة سوف تلاحق "إسرائيل" التي لن تجد لها مفرًّا من العقاب وهو ما حاول لينك أن يلفت النظر إليه في تقريره.

باحث ومفكر عربي

 

الخليج (الإماراتية)

 

 

إسرائيل

 بين (الضم والضم)

عبد الحسين شعبان

 

             اضطرّ رئيس الوزراء "الإسرائيلي" بنيامين نتنياهو إلى تجميد قرار ضم المستوطنات وغور الأردن وشمال البحر الميت إلى "إسرائيل" (1/7/2020)، والتجميد أو التأجيل لا يعني  تراجعاً، فالتوجه ظلّ كما هو ، ولكن ثمة أسباب تحول دون تحقيقه في الوقت الحاضر، وفي مقدمتها الخلافات الشديدة بين الحكومة والجيش وأجهزة المخابرات الثلاث (الشين بيت- المخابرات الداخلية) و(الموساد- المخابرات الخارجية) و(أمان - استخبارات الجيش)، حيث ترى هذه الجهات المخالفة لقرار نتنياهو أن قرار الضم قائم فعلياً بتوسيع الاستيطان  وقضم الأراضي، وهو لا يحتاج إلى إعلان قانوني، يثير ردود فعل ضده  فلسطينياً وعربياً، ولاسيّما أردنياً (حكومة وشعباً)، وعالمياً، من جانب الاتحاد الأوروبي وروسيا والصين ودول إسلامية عديدة، وتململات أمريكية جديدة بالرغم من تأييد الرئيس دونالد ترامب لقرار الضم.

            إن القرار "الإسرائيلي" بتجميد أو تأجيل الضم لا يعني وقف الاستيطان، فمصادرة الأراضي الفلسطينية وتجريفها وتمزيقها قائم على قدم وساق، بقرارات عسكرية وإجراءات إدارية تقوم "السلطات"  بتنفيذها دون ضجيج بما فيها هدم المنازل وتدمير إمكانية الاستقرار وجعل البيئة طاردة للبقاء، ولعل إصرار نتنياهو على عملية الضمّ فلأنه يريد اختتام حياته السياسية بعمل تاريخي كما يعتقد، دون أن ننسى غرضه الخاص وهو التهرّب من دخوله السجن بسبب تهم فساد كبرى.

ومن هنا كان الاختلاف شاسعاً وعميقاً بين فريق نتنياهو وبين الفريق المعارض، خصوصاً وأن هناك خشية حقيقية من الإقدام على مثل هذه الخطوة، التي أثارت جدلاً واسعاً وتداخلات إعلامية وسياسية مختلفة داخل المجتمع "الإسرائيلي" ، ليس فيما يتعلق بالتوقيت وحجم الأراضي أو الطريقة التي ستتم فيها، بل حول الهدف والوسيلة والتحديات التي ستواجهه، لاسيّما إذا كان الضم "قانونياً"، علماً بأن ليس كل ما هو قانوني "شرعي"؛ لأن فرض القوانين "الإسرائيلية" على الأراضي الفلسطينية المحتلة، يتعارض مع قواعد القانون الدولي واتفاقيات جنيف لعام 1949 وملحقيها لعام 1977، ناهيك عن الشرعة الدولية لحقوق الإنسان وبشكل خاص ميثاق الأمم المتحدة الذي لا يقرّ بمبدأ الضم والإلحاق والحصول على مكاسب سياسية جراء الاحتلال، وهو ما يتعارض مع قراري مجلس الأمن الدولي  242 لعام 1967 و338 لعام 1973، مثلما يتعارض مع القرار 181 الصادر عن الجمعية العامة لعام 1947 وللقرار 194 الخاص بحق العودة لعام 1949.

ويعتقد الفريق المعارض لنتنياهو أن قرار الضم سيعود بالضرر الكبير على "إسرائيل"، ولهذا دعا  إلى التأمل والتفكير والحذر قبل الشروع بتنفيذه، وهو يفضل الضم الواقعي على الضم القانوني، فالأول يعني إقدام "إسرائيل" على قضم الأراضي بالتدرّج وبالتراكم ودون إعلان قانوني في الوقت الحاضر ، لكي يصبح الأمر الواقع واقعاً بعد حين، وذلك بتحقيق الأهداف وتلبية الطموحات "الإسرائيلية" على نحو هادئ ودون استفزاز المجتمع الدولي، وفي الوقت نفسه فإن هذا الإجراء يساهم في تقليل حجم الأعباء والمسؤوليات؛ وقد سارت "إسرائيل" على هذا النهج منذ احتلالها العام 1967، حيث ضمت تحت عنوان الأمر الواقع مساحات كبيرة من الأراضي الفلسطينية بما فيها القدس والضفة الغربية دون إعلان في البداية .

وخلال سنوات راكمت قضمها للأراضي وأقدمت على بناء المستوطنات ، وحين جاءت المفاوضات الفلسطينية - "الإسرائيلية" (مدريد- أوسلو 1991-1993) كانت قضية المستوطنات وتبادل الأراضي والحدود، مادة أساسية في المفاوضات، الأمر الذي جعل "مبدأ الضم" يخضع من وجهة النظر "الإسرائيلية" للاتفاق ويتم على طريق الحوار لا عبر القوة والإكراه، ولهذا يعتقد فريق من "الإسرائيليين" اليوم أن هذا الأسلوب هو الأنجع والأسلم والأقل كلفة والأكثر أمناً.

أما الثاني وهو الضم القانوني  فهو إعلان مباشر من جانب " إسرائيل" على إخضاع أراضي فلسطينية لسيادتها ، الذي سيلقى رفضاً فلسطينياً وعربياً وممانعة واعتراضاً دولياً وبالتالي سيثير مواجهات وانتفاضات، كما حصل في انتفاضة الحجارة العام 1987 وانتفاضة العام 2000، بعد انقضاء الفترة الأولى من اتفاقية أوسلو  دون حل للقضية الفلسطينية .

وسيكون من تبعات الضم القانوني إنهاء التنسيق الأمني مع السلطة الوطنية الفلسطينية ، والقضاء على أي إمكانية لتسوية مقبولة في المستقبل، خصوصاً بطي خيار  "حل الدولتين" ، وهو ما يمكن أن يخلق وضعاً جديداً "لإسرائيل" بمساحتها الجديدة وحدودها الواسعة ومستوطناتها المبعثرة وجدارها الأمني المتعرج، إضافة إلى الكلفة المادية والجهود الأمنية والاحتكاكات والاشتباكات المحتملة مع الفلسطينيين، بما سيعيد الصراع إلى المربع الأول، أي المواجهة العسكرية وخيار المقاومة المسلحة، ناهيك عن تداعياته على الحدود الشرقية،  برد الفعل الأردني الحازم ، والذي قد يضع اتفاقية وادي عربة أمام تحدّيات جديدة.

وإذا ما أخذنا بنظر الاعتبار تراجع المساعدات الدولية وتفشي وباء كورونا، فإن هذا سيخلق مجتمعاً فلسطينياً غارقاً في الفقر والعوز والمرض، لاسيّما في ظلّ حصار غزة الذي يستمر منذ 13 عاماً، وستكون تلك  الأوضاع بمثابة قنابل غير موقوتة ومفخخات  جاهزة للإنفجار في أي وقت في الداخل "الإسرائيلي".

باحث ومفكر عربي

الخليج (الإماراتية) والزمان (العراقية)

 

 

"عدالة" فوق العدالة ! ! !

عبد الحسين شعبان

 

"فرضنا عقوبات على أعضاء المحكمة الجنائية الدولية، وسوف تُتخذ الإجراءات المناسبة في حال إقدامها على إصدار قرارات بشأن الجنود الأمريكيين... ونرفض قرارات المحكمة التي تتعلّق بإسرائيل ، ولن نقبل أن يمس أحد أفرادنا وحلفاءنا..." هذا ما قاله مايك بومبيو وزير الخارجية الأمريكي في مؤتمر صحفي عقده نائب الرئيس الأمريكي مايك بنس ، ضمّه إلى وزير العدل ويليام بار ووزير الدفاع مارك أسبر ومستشار الأمن القومي روبرت أوبراين.

وإذا ما عرفنا أن هذا الكلام يقال بمناسبة صدور أمر تنفيذي  من الرئيس دونالد ترامب تحت عنوان "حماية الأمن القومي الأمريكي" ، سندرك أهمية ، بل خطورة ، مثل هذا الكلام الذي يأتي عقب اتخاذ المدعي العام  في المحكمة الجنائية الدولية قراراً في شهر مارس (آذار ) المنصرم، قضى بالمضي بتحقيقات بخصوص الجرائم التي ارتكبها الجنود الأمريكان في أفغانستان ، حيث خدم  فيها نحو 800 ألف جندي منذ غزوها العام 2001 ولغاية العام الجاري 2020 ، وكانت واشنطن قد قررت الانسحاب من أفغانستان بعد توقيع اتفاقية مع تنظيم طالبان في فبراير (شباط) الماضي 2020.

أما روبرت أوبراين فقد أضاف على كلام بومبيو بأن واشنطن ستفرض عقوبات على مسؤولي المحكمة وعائلاتهم في حال اتخاذها إجراءات ضد جنود الجيش الأمريكي وأفراده، وزاد على ذلك وليام بار اتهام المحكمة بالفساد مؤكداً أن النظام القضائي الأمريكي هو أفضل من أي نظام، وقال إن القرار يهدف إلى الدفاع عن "السيادة الأمريكية" وأن المحكمة تستهدف "العدالة الأمريكية".

وقارب مارك أسبر المسألة من زاوية أخرى حين قال: لن نسمح بمحاكمة مواطنين أمريكيين بقضايا " غير شرعية"، وأن رجال ونساء الجيش الأمريكي لن يمثلوا بأي حال من الأحوال أمام المحكمة الجنائية الدولية، وإننا نعمل على دعم القانون وحقوق الإنسان.

وتطرح هذه المعطيات ثلاث قضايا قانونية دولية أمام الباحث:

أولها-  لمن العلوية للقانون الوطني أم للقانون الدولي؟ وهي إشكالية قديمة- جديدة، وإذا كان هناك في واشنطن من يقول سمو القوانين الأمريكية على جميع القوانين، لأنها الأفضل والأرقى، فلماذا تطالب الولايات المتحدة دول العالم وشعوبها بالخضوع للقانون الدولي؟  ولعلها لا تتحرّج عن مثل هذا التناقض الصارخ الذي لا يقبله المنطق القانوني ولا ترتضيه الدول مهما كانت صغيرة أم كبيرة.

 وثانيها- فكرة السيادة، التي لم تعد "مطلقة" ، بل إن واشنطن هي من أوائل الدول التي بشّرت بهدم مبدأ السيادة التقليدي واعتبار قاعدة حقوق الإنسان ذات سمة أرقى من بقية قواعد القانون الدولي المعاصر، وكانت تصرّ خلال صراعها الآيديولوجي مع المعسكر الاشتراكي على ذلك، ونجحت في تثبيت هذه القاعدة العلوية كقاعدة مستقلة في مؤتمر هلسنكي للأمن والتعاون الأوروبي العام 1975 الذي حضرته مع كندا، إضافة إلى 33 دولة أوروبية ، فكيف لها أن تقول بتقدّم السيادة على حقوق الإنسان؟

وثالثها- موضوع العدالة الدولية وعلاقتها بالعدالة الأمريكية ،  فكيف تهمل واشنطن ما تراكم من قواعد قانونية دولية ذات صفة إنسانية فيما يسمى بالقانون الإنساني الدولي، وخصوصاً اتفاقيات لاهاي لعام 1899 و1907 واتفاقيات جنيف لعام 1949 وملحقيها لعام 1977، وتضع نظامها القضائي فوق النظام القضائي الدولي، بل تهدّد  الأخير بالعقوبات ، ضاربة عرض الحائط التراكم الدولي التاريخي على هذا الصعيد.

والسؤال اليوم إذا كانت واشنطن ترفض إخضاع جنودها للمحكمة الجنائية الدولية التي تأسست في روما العام 1998 وسبق لها أن انضمت إليها ومعها "إسرائيل"، ولكنها حين دخلت حيّز التنفيذ العام 2002 انسحبت منها ومعها حليفتها ، فكيف تسمح لنفسها اليوم أن تلاحق قادة دول ومنظمات وحركات تحرّر شعبية وفقاً لقوانينها في حين أنها ترفض مثول أفرادها للقضاء الدولي عن جرائم ارتكبوها بحق شعوب ودول مستقلة بموجب مواثيق واتفاقيات دولية، من جانب محكمة تتلقّى ملفات يحيلها إليها مجلس الأمن الدولي في الكثير من الأحيان؟

ومن المفارقة أن واشنطن حين تتحلّل من القوانين الدولية وتزدري القضاء الدولي، تسمح لنفسها بفرض قوانينها الخاصة على الآخرين، كما هو "قانون قيصر" الذي دخل حيّز التنفيذ ضد سوريا بفرض حصار مشدّد عليها وعقوبات على من يتعامل معها، باعتبارها صاحبة " حق" يميل معها حيثما تميل ، مثلما قامت بقصف مدينتي هيروشيما ونكازاكي اليابانيتين بالقنابل الذرية في العام 1945 عشية انتهاء العمليات الحربية، واستخدمت " سياسة الأرض المحروقة" في حربها ضد فيتنام ومارست حصاراً ضد كوبا لمدة 6 عقود من الزمان، واحتلت أفغانستان بزعم القضاء على الإرهاب الدولي، وكانت قد فرضت حصاراً شاملاً ضد العراق لأكثر من 12 عاماً استهدفت منه تجويع وإذلال شعب كامل ، ثم قامت باحتلاله وتدمير الدولة العراقية بجعلها عرضة للعنف والإرهاب وفرضت عليها نظاماً طائفياً إثنياً؛

فعن أي عدالة نتحدث وكيف يمكن مساءلة المرتكبين عن جرائم دولية حسب القانون الدولي؟!

باحث ومفكر عربي

الخليج (الإماراتية) والزمان (العراقية)

 

 

كلام في التعذيب

عبد الحسين شعبان

            " التعذيب محاولة خبيثة لكسر إرادة الإنسان" ذلك ما نطق به انطونيو غوتيريس الأمين العام للأمم المتحدة لمناسبة اليوم العالمي لمناهضة التعذيب، حيث يتجدد الرفض الدولي، ولاسيّما من جانب الهيئات والمنظمات الحقوقية والإنسانية والدينية لرفض جميع أنواع التعذيب وغيره من ضروب المعاملة القاسية واللّا إنسانية أو المهينة للكرامة . وكانت الاتفاقية الدولية لمنع التعذيب قد أبرمت في الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها الـ39 (46) في 10 ديسمبر/ كانون الأول 1984، ودخلت حيّز التنفيذ في 26 يونيو/حزيران/1987.

            جدير بالذكر أن التعذيب يعتبر "جريمة ضد الإنسانية" بموجب اتفاقيات جنيف لعام 1949 وملحقيها لعام 1977، وكذلك وفقاً للنظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، وهو محظور تماماً في جميع المواثيق والاتفاقيات الدولية في فترات السلم والحرب أيضاً، ولا يمكن تبريره تحت أي عنوان، كما أنه "جريمة لا تسقط بالتقادم" ، ولذلك يقتضي الالتزام بحظره، سواء كانت الدولة قد انضمت إلى الاتفاقية الدولية لمناهضة التعذيب أو لم تنضم، لأنه يعتبر قاعدة آمرة ملزمة من قواعد القانون الدولي لا يمكن مخالفتها؛

            وعلى الرغم من تحريم ظاهرة التعذيب إلّا أنها ما تزال متفشية في العديد من البلدان، لاسيّما في  البلدان النامية ومنها البلدان العربية والإسلامية، لكن الغرب ليس بريئاً منها كذلك ، والأمر لا يتعلّق بتورّطه بممارسته  للتعذيب أيام الحقبة الاستعمارية أو في حروبه الخارجية  واحتلاله لبلدان أجنبية، بل باستخدامه في سجونه أيضاً، خصوصاً بعد أحداث 11 سبتمبر/ أيلول/2001 الإرهابية، التي اتخذ منها ذريعة للتجاوز على الحقوق والحريّات، سواء في الولايات المتحدة أو في أوروبا، ولم يقتصر الأمر على بعض التشريعات والقوانين والإجراءات التي تتعارض مع المواثيق واللوائح الدولية لحقوق الإنسان، بل قام بفضائح صارخة كما حدث في سجن غوانتانامو وسجن أبو غريب والسجون السرّية الطائرة والسجون العائمة .

            وإذا كان التعذيب انتهاكاً للكرامة الإنسانية، فإنه بقدر ما يستهدف اقتلاع "إنسانية الإنسان" وإجبار الضحية على الرضوخ، فإنه بالقدر نفسه ينزع أية صفة إنسانية عن الجلاد والمرتكب ذاته، لأن الحق في الأمان وعدم التعرّض للتعذيب هو حق أساسي ينبغي حمايته في جميع الظروف والأحوال، حيث وجدت تلك الثقافة الحقوقية طريقها إلى الفقه الدولي حديثاً وتجلّت بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عام 1948 واتفاقيات جنيف، وبشكل خاص  بالاتفاقية الدولية لمناهضة التعذيب، وجميعها تشكّل منظومة من صلب قواعد القانون الإنساني الدولي، الذي يعتبر التعذيب "جريمة حرب" كذلك، الأمر الذي يتطلّب اتخاذ إجراءات وقائية للحد منه من جهة، وإجراءات حمائية لمنعه وشفائية لمعالجة آثاره من جهة أخرى، حيث يطغى على ضحايا التعذيب شعور بالإحباط والإنكسار ، مما  يجعل أمر التعافي من آثاره يتطلّب برامج متخصصة للمعالجة وصولاً للشفاء التام.

            ولا تقتصر ممارسة التعذيب على الحكومات وحدها ضد معارضيها، بل إن المنظمات الإرهابية هي الأخرى لا تقصّر في ممارسة التعذيب حين تتاح لها الفرصة إزاء خصومها، وليس بعيداً عن ذلك أن بعض "منظمات المعارضة" وبحجة "الثورية" تمارس التعذيب أحياناً هي الأخرى، تحت عناوين محاربة الاختراقات في صفوفها، حيث يتم تبادل المواقع بين الضحية والجلاد، الأمر الذي يحتاج إلى تطوير النصوص القانونية لمنع ممارسة التعذيب بجميع صوره وأشكاله، وعدم  السماح لمرتكبي التعذيب وتحت أي مبرر لـ"الإفلات من العقاب"، وهو أمر يحتاج إلى فتح حوارات متنوعة بين الفاعليات والأنشطة السياسية والمدنية والدينية والحقوقية بشأن مناهضة التعذيب واستنكار واستهجان هذه الممارسة  اللّا إنسانية وتجريمها، خصوصاً بنشر وتعميم الثقافة الحقوقية والعقوبات القانونية التي تترتب على من يمارسه.

            استعدت وأنا أكتب هذه المادة الندوة التي التأمت في لندن في العام 1992 ونظمتها "المنظمة العربية لحقوق الإنسان" تحدّث فيها عدد من ضحايا التعذيب في فلسطين وليبيا والعراق والسودان والبحرين من النساء والرجال واستعرضوا أعمالاً شنيعة مورست بحقهم دون اعتبار لضمير أو وجدان، واستحضرت ذلك مؤخراً وأنا أقرأ ما كتبه محمد السعدي أحد الشيوعيين الأنصار عن تعرّضه لأنواع متعدّدة من محق الكرامة الإنسانية والإذلال المعنوي والامتهان الجسدي.

             ولم تكن محاولة خروجه من دائرة الإنكسار والانسحاق هيّنة، بل جاءت بعد معاناة قاسية وألم ووجع شديدين ظلّا يلازمانه مثل ظلّه، وكان لزوجته الدور الأكبر في التخفيف من معاناته، إضافة إلى تدوين  تلك التجربة المريرة في كتابه الموسوم "سجين/ نزيل الشعبة الخامسة"، حيث اعترف بشجاعة عن انهياره وتنازله واضطراره لتقديم معلومات، لكنه بذكاء تمكّن من خداع الجلادين بإيهامهم الاستعداد للعمل معهم والاتفاق على لعب دور مزدوج، وحين عاد إلى الجبل أخبر رفاقه بكل ما حصل،  وهو ما حاول التوقف عنده  بتفاصيل رواية مذهلة ومرعبة ومخيفة عن  دهاليز الشعبة الخامسة ، ومع ذلك فما تزال الكوابيس تقضّ مضجعه، فكأن ما حصل أشبه بعالم اللامعقول، فتعذيب الإنسان شرٌ لا يوصف على تعبير هنري ميللر.

باحث ومفكر عربي

 

صحيفة الخليج (الإماراتية)

 

"يساريتنا الطفولية"

من بغداد إلى بكين

الآيديولوجيا والواقع !؟

 عبد الحسين شعبان

 

« الحكمة معرفة الناس »

« الفضيلة  حب الناس »

كونفوشيوس

             في غمرة الصراع القومي- الشيوعي في العراق بعد ثورة 14 يوليو (تموز) العام 1958 وما أعقبها، سادت النزعات الإقصائية والإلغائية وهيمن الخطاب العاطفي والشحن العدائي والرغبة في التسيّد وفرض الاستتباع على الآخر، في حين غاب خطاب العقل والعقلانية والاعتراف بالتنوّع والتعددية. وهكذا تصدّعت الوحدة الوطنية المجتمعية بفعل الخلافات السياسية، بعد أن كانت متينة وقوية في مواجهة النظام الملكي، وانقسم المجتمع بين موالاة ومعارضة، الأولى تمجّد الحاكم الجديد وتتغنّى بالزعيم الأوحد والثانية تندّد به، بل وتعتبره أكثر سوءًا من العهد الذي سبقه.

            وبسرعة خارقة وبغفلة من الزمن تحوّل حلفاء الأمس إلى خصوم وأعداء متناحرين في  الأزقة والحارات والساحات والمدارس والكليات  والدوائر الحكومية والثكنات العسكرية، وأحياناً في العائلة الواحدة والبيت الواحد، وكان كل طرف يتشبّث بمواقفه ويزداد تمترساً بمواقعه ويدّعي أفضلياته، بل وامتلاكه للحقيقة لاغياً كل إيجابية أو دور للآخر، محاولاً عزله واستعداء الشارع عليه .

            ففي حين كان القوميون يردّدون شعارات مدوّية مثل: "فلسطين عربية، فلتسقط الشيوعية"  بعد أن كان الشعار فلتسقط الصهيونية و"وحدة وحدة فورية... لا شرقية ولا غربية..."،وترتفع الشعارات  المندّدة بالشعوبية، كان الشيوعيون، ولاسيّما في المهرجانات الكبيرة التي أقاموها يرفعون شعار: اتحاد فيدرالي... صداقة سوفييتية... ومع الصين الشعبية،  و"عاش السلام العالمي هو وحماماته... يسقط الاستعمار هو وعصاباته" وأتذكّر إحدى اللافتات التي ظلّت عالقة بذهني طيلة أكثر من ستة عقود من الزمن، وهي التي كُتب عليها " تايوان جزء لا يتجزأ من البرّ الصيني "، وكنت أشعر بالحيرة فما علاقتنا بمثل تلك الشعارات الغريبة، خصوصاً لمن كان بعمري وفي بدايات وعيه الأول؟

            وأستطيع القول اليوم بقراءة ارتجاعية للماضي، أن تلك الشعارات والتناحرات  كانت تعبّر عن قلّة وعي القيادات والنخب السياسية، التي بدت ناضجة حين قررت التعاون في إطار "جبهة الاتحاد الوطني" التي هيّأت للثورة ولكنها حسبما يبدو فوجئت بنتائجها، لاسيّما في اندفاع حشود شعبية للمشاركة في عالم السياسة، بل وفي طرح الشعارات أحياناً وبلورة التوجهات، ساحبة القيادات خلفها، بدلاً من أن تسير هذه الأخيرة أمامها.

            وإذا كانت الحركة الوطنية بأطرافها المختلفة  تُحسن المعارضة، لكنها لم تُحسن إدارة التنوّع والصراع في الوضع الجديد، خصوصاً بالزخم الشعبي الذي انفتح على الأحزاب والحياة العامة، فوقعت كل الأطراف صرعى قصر نظرها وذاتيتها، وكان ذلك على حساب تطوّر البلاد نحو التنمية والاستقرار والحياة المدنية الدستورية، ولعلّ مثل تلك الاندفاعات والشطحات والانزلاقات كانت تتعاظم لدى جميع القوى، الأمر الذي يعكس ضعف الشعور بالمسؤولية الوطنية من جهة، ومن جهة أخرى الاغتراب عن الواقع الحقيقي والابتعاد عن الهموم اليومية للناس، خصوصاً وأن الصراع القائم في إحدى تجلّياته كان انعكاساً للصراع الأيديولوجي الدولي والإقليمي، لاسيّما الواقع تحت تأثيرات موسكو من جهة والقاهرة من جهة أخرى، فضلاً عن التداخلات المباشرة وغير المباشرة للقوى الامبريالية التي حاولت تسخين الصراع بصبّ الزيت على النار بأساليب الدعاية السوداء وعمليات التضليل والقوة الناعمة والوسائل الثقافية والحرب النفسية.

            واللافت للمراقب والباحث أن ليس ثمّة ما يتصدّر تلك الشعارات والاحترابات، ولاسيّما الشرارات الأولى التي فجّرت الصراع من مشكلات عراقية مباشرة تتعلّق بأهداف الثورة ومبادئ جبهة الاتحاد الوطني التي تشكّلت في العام 1957 واختيار طريق التنمية والانتقال بالبلاد إلى إجراء انتخابات في ظل دستور دائم بتحديد فترة الانتقال، وكان دور العسكر في الهيمنة على مقاليد الأمور يتعزّز باحتراب الأحزاب الوطنية، التي فقدت بوصلتها، وإنْ ظلّ البعض متمسّكاً، لكن مثل ذلك كان على نحو محدود وضاع في زحمة الصخب السياسي والديماغوجيا الدعائية ومحاولات تأثيم الآخر وتحريمه وتجريمه وإدعاء امتلاك الحقيقة والأفضليات، ناهيك عن مسعى احتكار العمل السياسي والنقابي والسيطرة على الشارع بجميع الوسائل المشروعة وغير المشروعة.

في بكين: استذكارات ومراجعات نقدية

            لا أدري كيف خطرت ببالي تلك الاستذكارات  والاستعادات المصحوبة بمراجعات أولية نقدية وأنا في الصين ضمن وفد عربي رفيع المستوى لشخصيات فكرية وثقافية وممارسين سياسيين سابقين  في إطار دعوة من معهد العلاقات الدولية  التابع  لوزارة الخارجية للمشاركة في الحوار العربي - الصيني ،علماً بأن المعهد  يقع على عاتقه تقديم  أفكار ورؤى وتصوّرات بخصوص السياسة الخارجية الصينية  لأعلى مراتب الدولة والحزب الشيوعي الصيني، وضمّ الوفد شخصيات من اليمن (رئيس الوزراء الأسبق  عبد الكريم الإيرياني) ومن الأردن (الوزيران السابقان سمير الحباشنة وجواد العناني ) ومن المغرب (السفير علي أومليل) ومن مصر  سفيرها السابق في الصين (محمد نعمان جلال) ومن الكويت أول رئيس لمجلس التعاون الخليجي (عبدالله بشارة) ومن الإمارات  العربية المتحدة  رئيس المعهد الدبلوماسي (السفير يوسف الحسن) ومن فلسطين المفكر والباحث الأكاديمي (محمد عبد العزيز ربيع) ومن العراق (كاتب السطور).

            ومع أنني قدّمت بحثاً بشأن " الفلسفة التاوية- الصينية وصنوها الفلسفة الصوفية العربية - الإسلامية"، أثار اهتماماً صينياً كبيراً وتم  نشره باللغة الصينية، كما تم نشره في أكثر من مجال في العالم العربي والعراق، إلّا أن معظم جوانب الحوار ركّزت على ما هو راهني وسياسي أكثر مما هو فلسفي وتاريخي، ولم يأخذ الجانب الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والتاريخي والعلمي والتكنولوجي الأهمية التي يستحقها، حيث انصبّت معظم المناقشات من جانب الوفد العربي مع الجانب الصيني على طبيعة العلاقات التي بدأت بعض خيوطها تنسجُ مع نجاح الثورة الصينية في العام 1949 وهي الثورة التي عرفت بـ"مسيرة الألف ميل تبدأ بخطوة واحدة"، فضلاً عن تأثّر اليسار العربي أو بعض أجنحته بأطروحاتها، ولاسيّما تقسيم المجتمع إلى أربع طبقات وهي الفكرة التي نظّر لها ماوتسي تونغ، والتي وجد فيها بعض الشيوعيين واليساريين أقرب إلى مجتمعاتنا من التقسيم الطبقي الكلاسيكي: برجوازية وبروليتاريا أي عمال ومالكين أو مستغلين وأجراء.

            لقد حاول الشيوعيون بشكل خاص واليساريون بشكل عام في تلك الفترة على أقل تقدير "أسطرة" أو "عبقرة" الزعيم الصيني ماوتسي تونغ ونظرنا إليه بخيلاء وفخر، فهو فيلسوف وشاعر وقائد وثوري ورائد ومفكر ومعلّم ومُلهم، تتحرّك الملايين لمجرد أن يرفع يده في ظل نظام طاعة عمياء كنّا معجبين به أيّما إعجاب، وتلك واحدة من مساوئ  الأفكار الشمولية والأنظمة التي تتأسس عليها والتي اقترنت باسم " الاشتراكية المطبقة"  والتي كانت قد غرقت فيها التيارات القومية والإسلامية لاحقاً، ولعلّ  كل فكر منغلق سيقود إلى الدكتاتورية شئنا أم أبينا، وتعكس جميع التجارب الكونية بطبعتها الماركسية أو القومية أو الإسلامية تلك الحقيقة بوضوح شديد.

            وعلى الرغم من قراءتي النقدية لتلك المرحلة وما تركته من عذابات كبيرة على الشعب الصيني ، لكنني وقفت أمام ضريح ماوتسي تونغ  في المكان المهيب الذي يقبع به في ساحة تيان أنميمن أو " ميدان السماء"  الذي يقع في وسط بكين والذي تبلغ مساحته 440 الف متر مربع، وقد شهد بين 15 أبريل (نيسان) و4 يونيو (حزيران) العام 1989 تظاهرات واحتجاجات مطالبة بالإصلاح والديمقراطية سقط فيها بضعة آلاف من الضحايا، أقول نعم وقفت بكل دهشة وذهول أمام حشود الذين كانوا يتوافدون لزيارة ضريحه بغض النظر عن ما ارتبط باسمه من انتهاكات ومجازر وتدمير الآثار والمواقع الثقافية والدينية ، خصوصاً في فترة الثورة الثقافية (1965-1976) .

            وقد اشتهرت الآيديولوجية الاشتراكية بطبعتها الصينية التي حاولت تطبيقها في السياسة والاقتصاد والاستراتيجيات العسكرية التي اتبعها ما بات يُعرف بالماوية أو "تصيين الماركسية"، مثلما عُرفت الطبعة  السوفيتيية بـ "لنينة الماركسية"، نسبة إلى لينين، والتي أطلق عليها " اللينينية" وعمّم السوفييت لاحقاً هذا المصطلح لتصبح المادية الجدلية "بالماركسية اللينينية" حيث أضيف اسم لينين إلى اسم ماركس الذي مثل الحلقة الذهبية الأولى للمادية الجدلية، والطبعتان تم استنساخهما كبراديغم "نموذج" من جانب أحزاب وقوى شيوعية ومن بعض تجارب حركة التحرر الوطني.

            وكانت معظم  وجهات النظر العربية في الحوار العربي- الصيني تحاول الضغط على الجانب الصيني، الذي ضمّ خبراء على درجة عالية من الخبرة والمعرفة ليس في شؤون العلاقات الدولية فحسب، بل في ظروف كل بلد عربي وظروف المنطقة بشكل عام، وبالصراع العربي- الإسرائيلي بشكل خاص وقسم غير قليل منهم تخرّج من جامعات عربية واكتشفت أن مدير وكالة شينخوا السابق كان قد تخرّج من كلية الآداب قسم اللغة العربية (جامعة بغداد)، وحدّثني كيف أنه كان يستذوق "العرق العراقي" (المسيّح والعصرية) ومازات الباقلاء واللبلبي والجاجيك، وكانت غالبية المشاركين من الجانب الصيني يعرفون اللغة العربية.

هل الصين دولة عظمى؟

            وأفاض أعضاء الوفد العربي في إطروحات حول جدوى وفاعلية التعاون العربي- الصيني ومزاياه وفوائده، وذهب بعضنا أكثر من ذلك إلى القول أن على الصين أن تملأ الفراغ الذي تركه الاتحاد السوفييتي، بل عليها دعم الشعب العربي الفلسطيني باعتبار قضيته تمثّل قضية العرب المركزية، وأن المستقبل هو للعلاقة مع العرب وغير ذلك من الأطروحات، حول الجدوى الاقتصادية والفوائد التجارية ، إضافة إلى التذكير بالعلاقات التاريخية.

            وكان رأي الصينيين وكأنهم يتحدثون بلسان واحد هو: أننا "دولة نامية" ولسنا "دولة عظمى"، وأن لدينا مشاكلنا، فهناك أكثر من 150 مليون إنسان دون خط الفقر، ثم إننا لا نريد أن نلعب دوراً آيديولوجياً، فنحن غير قادرين عليه، بل لا نفضله ولا نرغب فيه، ولا نريد السير في سباق التسلّح المدمّر، ونريد التجارة مع الجميع، وبالقدر الذي نؤيد حق الشعب العربي الفلسطيني في تقرير المصير وإقامة دولته الوطنية، فإننا مع حلّ الدولتين ومع قرارات الأمم المتحدة، ونتعامل مع الطرفين، وإنْ كان لنا علاقة متميزة وخصوصية مع  م. ت.ف. والسلطة الوطنية الفلسطينية، لكننا نحرص على العلاقة مع "إسرائيل" أيضاً، وباعتقادهم أن هذه العلاقة قد تساعد على التوصل إلى حلّ سلمي مُرضي للطرفين.

            ولم يكن الجواب مقنعاً لغالبية الشخصيات العربية حتى أن بعضهم تناوب على الكلام أكثر من مرّة لشرح وجهات النظر العربية، ولكن الصينيين كانوا يردّونه مرّة أخرى بذات المنهجية، مؤكدين أن من الخطأ مقارنتهم بالولايات المتحدة أو بالاتحاد الأوروبي أو حتى بالاتحاد السوفييتي السابق، وإذا كانوا قد حققوا آنذاك قفزة اقتصادية بُعيد رحيل الزعيم الصيني ماوتسي تونغ وانتهاء الثورة الثقافية  فإنهم لا يرغبون تبديدها على سباق التسلح والصراع الآيديولوجي، وهم ما زالوا لم يدخلوا " نادي الكبار" ، بل ويضعون أنفسهم في "منتدى دول عدم الانحياز". وقد يكون الأمر تواضعاً من جهة ومن جهة أخرى تخلصاً من التزامات الدول الكبرى إزاء الغير.

قراءات وانطباعات

            كنت قد قرأت في أواخر سنوات الخمسينات والستينات بعض ما كتبه ماوتسي تونغ وليوشاوشي بشأن حرب التحرير والثورة الصينية وبعض الإطروحات التي تتعلّق بالحزب، (وهي عبارة عن كراريس وكُتيبات نشرت في العام 1959 وما بعده)  وما زاد اهتمامي بالصين في فترة لاحقة هو صداقتي لثلاث شخصيات ذات مكانة ثقافية وفنية وإن كان في فترات متفاوتة، فقد سمعت منها آراءً ووجهات نظر وملاحظات أثارت فضولي أكثر بكثير مما كنتُ أعرفه ، أولها - الشاعر كاظم السماوي ، وثانيها- الباحث والمفكر التراثي هادي العلوي،لاسيّما كتابيه " المستطرف الصيني" وقبله "كتاب التاو"  وثالثها- الفنان رافع الناصري الذي درس الغرافيك في الأكاديمية المركزية في بكين وأقام معارضة في هونغ كونغ في العام 1963 وأصدر كتاباً بعنوان " رحلتي إلى الصين " وقد أهداني إياه قبل وفاته العام 2013 ، وجميعهم عاشوا في الصين وتعمّقوا في تجربتها الفكرية والفلسفية والسياسية والفنية، وعاصر هؤلاء فترات مختلفة من حياة الصين في ظل حكم ماو تسي تونغ.

            وكنت قد أدرت حوارات مع القيادي الشيوعي عامر عبدالله  عن زيارته الصين ولقائه مع ماوتسي تونغ العام 1975 وتأثّره بالتجربة الصينية المعاصرة وبفلسفتها القديمة، وسألته عمّا قيل عن أننا بين عامي 1958 و 1960 لم نحسم موقفنا من الخلاف الصيني - السوفييتي، وكنت قد قرأت كتاباً للدكتور فيصل السامر (وزير الإرشاد الأسبق في العراق) والموسوم "الأصول التاريخية للحضارة العربية- الإسلامية في الشرق الأقصى" مثلما اطلعت في وقت لاحق على بعض ما كتبه الشيخ العلامة جلال الدين الحنفي والشيخ محمد حسن الصوري (صاحب جريدة الحضارة) عن الصين، وكان قد درّسا اللغة العربية في بكين في ستينات القرن الماضي،

كما تابعت ما كتبه عبد المعين الملوّح  الذي قام بترجمة كتاب "تاريخ الشعر الصيني المعاصر" وفؤاد محمد شبل وكتابه " حكمة الصين"، وهو دراسة تحليلية لمعالم الفكر الصيني منذ أقدم العصور ولعلّ الكتابات الأولى ، التي اطلعت عليها رغم ما فيها من عنصر الإبهار إلّا أنها لا تسرّ كثيراً لشاب مثلي يتطلّع  إلى الحداثة وتتكوّن لديه إرهاصات تساؤلية أكثر فأكثر خلال احتدام الخلاف الصيني- السوفييتي .

            ظلّ السماوي والعلوي يقيّمان  إيجابياً ما حققه ماوتسي تونغ ويعتبران فترته "ذهبية" لما حصل بعده في إطار نظرة كلاسيكية للماركسية ذاتها، لاسيّما ما يتعلّق بالرؤية الخاصة بالتطبيقات المبالغة في التشدّد والقسوة لعملية التغيير، التي اتبعتها ، مثلما ينظران بعدم ارتياح لسياسات الانفتاح الجديدة، وأحياناً يضعان علامات استفهام حولها.

البراديغم الماوي والستاليني

            لعلّ مثل تلك الممارسات التي سادت في الصين والبراديغم Paradigm  (النموذج الفكري) الذي اعتمده أثار تساؤلات كبيرة وعميقة عن مدى علاقته بالمادية الجدلية وطورها الذهبي الأول والمقصود أفكار ماركس ورفيقه إنجلز، وهل هناك " ماركسية" أخرى ، إذا كانت المادية الجدلية قد ظلّت في المتحف وكان أتباع كل ماركسية يتندّرون على الماركسية الأخرى، فهذه الماركسية الصينية مثل البضاعة الصينية أيام زمان، أي المقلّدة أو غير الأصلية ، حتى أصبح الحديث  عنها أقرب إلى " ماركسية من صنع الصين" Made in China.

            ومقابل ذلك هناك وجه آخر لممارسات مماثلة كانت تمثّل النموذج الأول على المستوى العالمي، وهي تلك التي جرت في الاتحاد السوفييتي والبلدان الاشتراكية الأخرى من "تجارب الأصل" التي انتقلت عدواها إلى " تجارب الفرع" في البلدان النامية والعديد من تجارب العالم الثالث وحركات التحرر الوطني بما فيها التجارب العربية، حيث ساد النموذج الشمولي " التوتاليتاري" الستاليني ، دون النظر في عيوبه التي شوّهت المجتمعات والشعوب وأحدثت تصدّعات نفسية في شخصية الفرد لدرجة مريعة.

            وإذا طالت التندرات التجربة الصينية في ظل الخلاف الصيني - السوفييتي ، فثمة تندّرات صينية للبراديغم السوفييتي، حيث كانت تسخر من " اشتراكية الكولاج" وهي أكلة شعبية مجرية مشهورة جاءت في خطاب نيكيتا خروشوف الزعيم السوفييتي الذي خاطب المجريين: أنتم بفضل الاشتراكية تأكلون الكولاج، وذلك بعد مجازر قمع حركة الاحتجاج المجرية الهنغارية ، بالدبابات السوفييتية العام 1956.

            والبراديغم كمصطلح استخدم لأول مرة من المفكر الأمريكي توماس هان (1922-1996) المختص بالتاريخ وفلسفة العلوم، وهو يعني مجموعة قوانين وتقنيات وأدوات مرتبطة بنظرية معينة ومسترشدة بها، بهدف تطبيقها بجميع الوسائل على الواقع الاجتماعي، وهو ما حاولت النماذج الاشتراكية اعتماده وتطبيقه لإحداث التغيير المنشود دون مراعاة للوسائل المستخدمة.

            هوسٌ ثوري وعمى ألوان

            كان الهوس الثوري في أواسط الستينات على أشدّه في العراق والعالم العربي بعد هزائم ومرارات وتصدعات فكرية وسياسية، لاسيّما بعد صدمة 5 يونيو (حزيران) العام 1967، وكقاعدة عامة، وإن كان هناك استثناءات، ففي كل انكسار أو تراجع أو عزلة وابتعاد واحتجاز تتصاعد الموجة المتطرّفة ويزداد التعصّب ووليده التطرّف، وهكذا بدأنا نعيد قراءة كتابات ماوتسي تونغ، لاسيّما بعد انقلاب 8 شباط (فبراير) 1963 الدموي والخسائر والانكسارات التي مُنينا بها،  وكان المركز الثقافي الصيني في بغداد يقوم بتوزيع الكراريس والأدبيات الملوّنة والمطبوعة بأناقة تثير الإعجاب، إضافة إلى " الكتاب الأحمر".

            لم أتأثّر إلّا قليلاً بتلك الأطروحات، لأن ميلي بشكل عام كان يحمل بذرة لا عنفية ، ولذلك فإن شعارات مثل " الإمبريالية نمر من ورق" و" كل شيء ينبت من فوهة البندقية" لم تكن مقنعة لي، وأنا أقرأ وأتابع ما كان يجري في العالم، حتى وإن كانت بوادر هزيمة الولايات المتحدة في فييتنام وانتصار حركة الحقوق المدنية بقيادة مارتن لوثر كنغ، ونجاحات بعض حركات التحرر الوطني  وإحراز العديد من شعوب آسيا وأفريقيا استقلالها، لكن بالمقابل هناك موجة من الارتدادات شهدتها الكتلة الاشتراكية أخذت تتكشّف على الرغم من أجواء التكتم والستار الحديدي المفروض عليها لقطعها عن العالم الخارجي وإن كنّا لا نراها أحياناً أو نعتبرها مجرد دعاية سوداء ومغرضة من جانب القوى الإمبريالية، فقد كانت الإصابات بعمى الألوان بالغة وشديدة.

            ولعلّ أهم الأحداث:  انتفاضة برلين (1953) - المانيا الديمقراطية، حيث أضرب عمّال البناء احتجاجاً على زيادة ساعات العمل  فتحوّلت انتفاضتهم  إلى احتجاج سياسي ضد الستالينية وصنيعتها حكومتهم، بسبب الأوضاع المعاشية التي عبّروا عنها بأنها لا تطاق وقد انضم إليهم طلاب وشباب ومزارعون وقد تواصلت حركة الاحتجاج في عموم "ألمانيا الديمقراطية" على نحو متفاوت، الأمر الذي جوبه بالقمع وبتقديم عدد من المشاركين إلى محاكمات دريسدن الشهيرة، ولعلّها كانت أولى حركات الاحتجاج الواسعة ضد الهيمنة السوفييتية، وقد اضطر السوفييت بعد ذلك وبسبب عمليات الهروب الجماعي من "نعيم" الاشتراكية إلى "جحيم" الرأسمالية إلى بناء جدار برلين 1961 والذي تم هدمه 1989، وكان إيذاناً بانهيار الكتلة الاشتراكية.

            كما كانت احتجاجات بوزنان العمالية - بولونيا (1956)، هي الأخرى تحدياً جديداً لنظام يزعم أنه يدافع عن مصالح العمال، حيث تظاهر العمال مطالبين بظروف عمل أفضل وتم قمعهم بشكل وحشي بالدبابات، وكان عدد القتلى بالعشرات، وهو ما استمعت إليه في العام 2014 بشكل مفصّل خلال دعوتي لإلقاء محاضرة في جامعة بوزنان .

            أما انتفاضة المجر - هنغاريا فقد قادت إلى تدخل عسكري سوفييتي صارخ  (1956) وقد دامت من 23 تشرين الأول (أكتوبر ) ولغاية 4 تشرين الثاني (نوفمبر) احتجاجاً على  سوء الأوضاع الاقتصادية، فتم قمعها بوحشية، وسقط عشرات الآلاف من المحتجّين  خلال المواجهات الدامية وفي الإعدامات التي طالت لاحقاً عدداً منهم  بمن فيهم بعض قادة الحزب الهنغاري (الشيوعي) وفي مقدمتهم الأمين العام أمري ناج الذي لجأ إلى السفارة اليوغسلافية ، لكنه سلّم نفسه لاحقاً وأعدم بعد سنتين بتهمة " الخيانة  العظمى".

نجدة أممية ولكن بالمقلوب

            وجاء ربيع براغ باجتياح دبابات حلف وارشو البلاد (1968) للقضاء على حركة وليدة مطالبة بالإصلاح وبإضفاء وجه إنساني على الاشتراكية وإعطائها بُعداً ديمقراطياً، وهو ما كان يدعو له الكسندر دوبتشيك الأمين العام للحزب الشيوعي والذي أقصي من منصبه وعُزل من الحياة العامة عقوبة له ، لكنه عاد في العام 1989 ليصبح لاحقاً رئيساً للبرلمان بعد الإطاحة بالنظام الشيوعي، حيث أصبح فاتسلاف هافل رئيساً للبلاد.

            وكنت قد توقفت عند ربيع براغ في أكثر من مناسبة ، حين قدّر لي زيارة تشيكوسلوفاكيا العام 1969 في الذهاب والإياب إلى بولونيا (كراكوف) لحضور اجتماع تحضيري لمناسبة ميلاد لينين، وقد شاهدت آثار ذلك وتلمّست مشاعر الناس في البلدين، وهو أدهشني كثيراً وأثار تساؤلات وحيرة في نفسي.

            وأتذكّر أن الصديق لؤي أبو التمن كان قد أخبرني بعد زيارته لسفارة تشيكوسلوفاكيا إلى بغداد على رأس وفد لتهنئة المسؤولين على " النجدة الأممية" والمقصود بذلك "التدخل السوفييتي"(21 آب/أغسطس/1968) لقمع ربيع براغ، إلّا أنه فوجئ بردّ عنيف من الدبلوماسيين التشيكوسلوفاكيين في بغداد، بأن هذا ليس سوى "احتلال" أو "تدخل" بالضد من إرادة الشعب التشيكوسلوفاكي، وبقينا لفترة نعلّق على ذلك ونتبادل أطراف الحديث بيننا مشكّكين في بعض الروايات الرسمية التي تصلنا من جانب الدعاية الاشتراكية وصداها دعايتنا وبعض مصادر معلوماتنا، وبقينا نثير الأسئلة التي يسميها البعض الشغب المستمر والاعتراض الدائم.

            وكم أحرجنا حين أعلن الرئيس أحمد حسن البكر تأييده لخطوة "التدخل الأممي" وذلك بقوله " المهم أن تبقى تشيكوسلوفاكيا اشتراكية" وهو تبرير استساغه من يريد الرد على بعض تململاتنا ، ناهيك عن الاحتجاجات التي ارتفعت لمثقفين كبار من فرنسا وإيطاليا وغيرها للتنديد بالتدخل السوفييتي لقمع ربيع براغ.

            أما نشاط حركة تضامن (اتحاد نقابة العمال البولونية) لاحقاً في بولونيا في الثمانينات بقيادة ليخ فاليستيا فقد كانت الأطول عمراً والأكثر تأثيراً، حيث شهدت بولونيا اضرابات متكرّرة إلى أن تم تغيير النظام في العام 1989، وذلك عن طريق لا عنفي، ابتدأ في مدينة غدانسك ولم تنفع معها الإجراءات القاسية التي اتخذتها الحكومة، حتى تم فرض إجراء انتخابات (شبه حرّة) وتشكيل حكومة ائتلافية بقيادة تضامن وهكذا انتصر " فقه التواصل" على نزعات الانتقام والثأر، وهو ما حصل في هنغاريا أيضاً، في حين اتجهت ألمانيا الديمقراطية إلى " فقه القطيعة" باتحادها لاحقاً بألمانيا الاتحادية.

الأوروشيوعية

            كان موقف الحركة الشيوعية في أوروبا الغربية إبان ربيع براغ قد اختلف عن موقفها من انتفاضة المجر، ففي الأخيرة لم تستنكر ما حصل من اجتياح سوفييتي، أما في العام 1968 فقد استثيرت على نحو شديد، وأعلن الكثير من قياداتها وملاكاتها رفضهم الشديد للتدخل السوفييتي وإدانتهم له، وقد كان ذلك بوادر انشقاق جديد في الحركة الشيوعية العالمية تحت عنوان فكرة الأوروشيوعية التي بدأت تلقى صدىً أكبر في أوساط الأحزاب الشيوعية الثلاث الإيطالي والفرنسي والإسباني تمايزاً لنفسها عن الموقف السوفييتي وما يسمّى بالمركز الأممي أو التبعية الأممية، بل إن انقسامات وانسحابات قد حصلت داخل هذه الأحزاب بسبب " التدخل السوفييتي" لسحق حركة الاحتجاج في تشيكوسلوفاكيا.

            وللأسف لم يتم التوقف عن الأوروشيوعية ودراستها ونقدها من جانبنا، بل اتخذنا الموقف ذاته الذي اتخذ الحزب الشيوعي السوفييتي فشككنا بها واتهمناها بأبشع التهم وهي الطريقة السائدة في التعاطي مع الخلافات الفكرية في الأحزاب الشمولية، وبالقراءة الاستعادية لفكرة الأوروشيوعية فإنها تقوم على ركنين أساسيين:

            الركن الأول - الالتزام بالديمقراطية البرلمانية وسيلة للوصول إلى السلطة وطريقاً سالكاً للنشاط والمشاركة السياسية، ولهذا لا بدّ من احترام هذه المؤسسة والحرص على تطويرها لتأتي بنتائج أفضل وتعبر عن مصالح الفئات الفقيرة والكادحة.

            والركن الثاني- الاهتمام بالمصالح الأوروبية، وما يقرّب بينها ويساعد في تلبية طموحات شعوبها في السياسة الداخلية والخارجية وفي ما يتبعونه من برامج وستراتيجيات وممارسات، أي التخلي عن الانشغال بالمصالح السوفيتيية وهكذا وضع القادة الشيوعيون الثلاثة جورج مارشيه وبرينغوير (إيطاليا)  وسانتياغو كاريّو (إسبانيا) فكرة الأوروشيوعية أواخر السبعينات، لكن انهيار الكتلة الاشتراكية وانحلالها فيما بعد، ساهم في تخفيض رصيد هذه الفكرة من جهة وانصراف جمهور الناخبين عن المرشحين الشيوعيين في هذه البلدان من جهة أخرى.

            إذا كانت الارهاصات الأولية قد أثارت تساؤلات لديّ بخصوص حقيقة أو عدم حقيقة ما يحصل، وفيما إذا كانت تلك الأحداث من صنع الخارج أم أنها شأن داخلي دون نسيان تأثيرات الصراع الآيديولوجي، إلا أن بعد معرفتي ودراستي وزياراتي لجميع البلدان الاشتراكية، كنت أتلمّس الأخطاء والارتكابات وحتى الجرائم بحق العمال والشغيلة قبل غيرهم دون إهمال بعض المنجزات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي حققتها هذه الأنظمة، لاسيّما في ميادين التعليم والصحة والعمل والضمان الاجتماعي وغيرها، وإن اختلفت زاوية النظر لدّي لاحقاً، بشأن الحرّية القيمة الأساسية العليا للإنسان، ولا تختلف التجربة الصينية عن التجارب الاشتراكية الأخرى في هذا الميدان: حزب حاكم وآيديولوجيا واحدة وجهاز مخابرات متحكّم وأعلام موحد وغياب أي مظهر من مظاهر النقد أو حرّية التعبير.

تململات ونقد

            ومع تلك التململات الجنينية الأولى، بدأت الانتقال بالتدرّج وليس دون معاناة وألم من الإيمانية التبشيرية الدعائية إلى التساؤلية العقلية المنطقية، ومن هذه الأخيرة إلى النقدية الحقوقية الإنسانية، في إطار جدل مع النفس ومع الآخر، مع نقد ذاتي ومحاولة للفهم أولاً ثم للإقناع والتغيير ثانياً ، وهكذا استمرّ المونولوج الداخلي بنبرة أعلى  لينتقل تدرجياً من الجوّانية إلى البرانية ومن الأنا إلى الآخر، ومن الآخر إلى النحن، في منهج قرائي جديد للمادية الجدلية ومحورها الماركسية العقلانية غير الشعاراتية وربط ذلك بالواقع العربي والعراقي ومشكلاته وهمومه ومعاناته وتطلعاته، أي الانطلاق من الواقع وليس من النظرية، وتكييفها في ضوء البراكسيس وليس محاولة تكييف الواقع للافتراضات النظرية غير المختَبِرة أو المُمتحِنَة، لأنها ظلّت مجرد وعود وردية تجريدية لغايات نبيلة، لكنها كانت أقرب إلى الأحلام وأحياناً الأوهام قُدّم بعضها بصيغة مفصولة عن الواقع وغريبة عنه، بل ومسقطة عليه؛

            حاول البعض الآخر ضمن قراءاته المبتسرة والدعووية  وفهمه المبسّط  والمحدود تقديم الماركسية بنكهة قروية أو ريفية أو بدوية خارج منطلقاتها الأساسية، ناهيك عن التطبيقات المشوّهة التي عرفتها الأنظمة الاشتراكية التي أفسدت محتواها المدني والإنساني والجمالي المتحضر والراقي.

            ولعلّ هناك دائماً علاقة عضوية بين الوسيلة والغاية، فلا غاية شريفة وعادلة يمكن الوصول إليها بوسائل غير شريفة أو غير عادلة، فالوسيلة جزء من الغاية مثل البذرة من الشجرة على حد تعبير المهاتما غاندي، وإذا كانت الوسيلة منظورة وملموسة، فالغاية بعيدة المدى، ولا يمكن إدراكها إلّا بوسائل إنسانية أولاً وقبل كل شيء.

            وإذا كانت محاولة يوسف سلمان يوسف (فهد) أمين عام الحزب الشيوعي العراقي الذي أعدم العام 1949 مهمة، لجهة قراءة الواقع وتقديم بعض الاجتهادات  الأولية انطلاقاً منه على الرغم من هيمنة العقلية الستالينية الإيمانية، إلّا أنه لم تجرِ محاولات لاحقة  ومعمّقة أكثر شمولية وانفتاحاً لتراكم عليها، بل على العكس ساد نوع من الركود والكسل اللذان أصبحا مهيمنين بشكل عام على القيادات الحزبية باستثناءات محدودة، وكانت غالبية الأنشطة  تدور في فلك المسلكية الحزبية والعمل الروتيني والإداري اليومي، أما التنظيرات فيتم ضخّها  عبر المركز الأممي وإلحاقاته للأحزاب الشقيقة في مرحلة الكومنترن أو بعده، سواء فيما يتعلّق بفكرة التعايش السلمي والتطوّر اللّارأسمالي  ودور "الديمقراطيين الثوريين" والتحالفات الطبقية والسياسية والموقف من القضايا القومية، ولاسيّما القضية الفلسطينية، في قراءة بعيدة في الكثير من الأحيان عن الواقع، وعن نبض الناس وانشغالاتهم.

            يضاف إلى ذلك التعويلية والاتكالية التي اعتادت عليها الغالبية الساحقة من الإدارات الحزبية ، التي عاشت حالة ترهل وتقليد  ومحاكاة للسائد، حفاظاً على مواقعها  الحزبية، لاسيّما والمنافسات المشروعة وغير المشروعة بين القيادات كانت سائدة ومحمومة، حيث كان البعض يبالغ بولائه وتبعيته "للخارج الأممي" للاستقواء على الداخل الحزبي" بتوصيات من الأول هي الأقرب إلى التعليمات وتحديداً بالتعويل  على موسكو أو الصين بالنسبة لبعض الجماعات المحسوبة عليه وتوجهاتها.

            ولم يقتصر هذا الأمر على الحركة الشيوعية بل أن إدارات الحركة القومية العربية هي الأخرى لم تكن بعيدة عنه بجناحيها الأساسيين:  الأول - الحركة الناصرية التي بلغت أوجها في مطلع الستينات، لكنها بدأت بالانكماش والجمود والتشتت بعد رحيل الزعيم جمال عبد الناصر العام 1970، بل إن بعضها لم يرتق إلى المرحلة المتقدمة الأخيرة من حياة عبد الناصر وتوجهاته التي ينبغي أن تؤخذ في سياقها التاريخي، ولم يعد الاكتفاء اليوم بشعارات عمومية لمواجهة مشكلات مستحدثة وعميقة. والثاني - حركة البعث التي تحوّلت في العراق من شعارات تحرير فلسطين والوحدة العربية والحرية إلى تمجيد وتقديس وتأليه "القائد الضرورة" التي أطلق عليه ميشيل عفلق وهو مؤسس الحزب "هبة السماء إلى الأمة وهبة  البعث إلى الشعب "  ومثل هذا الوصف لم يأتِ حين اتخذ قراراً جريئاً بتأميم النفط العام 1972، وفي ظلّ حماسة رومانسية مثلاً، وإنما جاء بعد إعدام نخبة من قيادات حزب البعث في العام 1979 دون محاكمة أصولية، وفي مقدمتهم عبد الخالق السامرائي، وحرب ضروس مع إيران دامت 8 سنوات دفع العراق ثمنها باهظاً1980-1988 ووحدانية إطلاقية في الحكم لم يعرف العراق لها مثيلاً.

            وقد سألت القيادي البعثي السابق الصديق صلاح عمر العلي عن تفسيره لذلك، فروى لي خلفيات ذلك بقوله: زرت ميشيل عفلق في باريس العام 1989، برفقة طلال شرارة وهو أحد القيادات البعثية  اللبنانية سابقاً أيضاً، والتمسته  البقاء في باريس وعدم زيارة بغداد وإعطاء تصريحات يستغلها الحاكم  ويجيّرها لصالح مغامراته وارتكاباته، الأمر سيعطي انطباعاً بعدم رضائك عن سياسات الرئيس صدام حسين ، ويضيف العلي: لقد وعدني ميشيل عفلق بذلك ، لكنه بعد شهرين عاد إلى بغداد وأدلى بذلك التصريح (عن سابق إصرار) ويكاد يكون تصريحه الأخير الذي ختم به حياته السياسية، كاشفاً ضعفه المستمر.

            أسوق هذه الأمثلة بهدف المراجعة الشاملة والنقد الذاتي للأفكار والممارسات الشمولية التي سادت لدى جميع القوى والقيادات، بعناوين معظمها مستمدة من كتاب لينين: ما العمل؟ أو ما سمّي بالمركزية الديمقراطية، ونظام الطاعة الفولاذي وخضوع الأقلية للأكثرية والهيئات الدنيا للهيئات العليا تحت عناوين وحدة الإرادة والعمل، وعدم التبشير بالآراء خارج نطاق التنظيم، ناهيك عن عقوبات غليظة، وهو الأمر الذي ساد لدى جميع الأحزاب الشيوعية التي كانت الطبعة الستالينية مهيمنة عليها.

            وفي الأحزاب القومية والبعثية ، كان شعار "نفذ ثم ناقش" الأساس الذي اعتمدت عليها، وهو مستوحى من ذات المنهج الشمولي الشيوعي وقد اتبعته الأحزاب الإسلامية أيضاً، بما فيها "حركة الأخوان المسلمين والأحزاب الإسلامية الشيعية"، للتبريرات نفسها، ولاسيّما في ظروف العمل السرّي والخشية من اختراقات العدو، ولكن هذه العناوين ذاتها تحمل في طياتها توجّهات تسلطية وتسمح للقيادات باتخاذ قرارات نابعة من اجتهاداتها التي  قد تكون مدمّرة، فما بالك حين تكون تلك القيادات لا تتمتّع بالحد الأدنى من التفكير السليم والثقافة العامة والمعرفة بمجتمعاتها، ناهيك عن نزاهة أخلاقية وشعور عال بالمسؤولية، وهكذا تم التفريط بالكثير من الكفاءات المخلصة والمواهب الواعدة بادعاء فهم خاص للآيديولوجيا وتطبيقاتها التي شهدت جرائم كبرى وأعمال إبادة لا حدود لها.

 

بين بكين وموسكو وهافانا

            لم تثرني الشعارات الصينية ، خصوصاً تلك التي ارتفعت موجتها في حمّى الثورة الثقافية والتي لوحق فيها المثقفون وأحرقت كتبهم واقتيدوا إلى معسكرات الاعتقال وجرى تشويه سمعتهم، بل كنت أقرب إلى فكرة التطور والتراكم ، خصوصاً السرعة الهائلة التي استطاع فيها الاتحاد السوفييتي إعادة بناء ما خربته الحرب والآمال التي عوّلت عليه بشأن التقدم العلمي والتكنولوجي، ووجدت في كلمة نيكيتا خروشوف (1960) من أن الاتحاد السوفييتي سيدخل مرحلة الشيوعية العام 1980 شيئاً كبيراً وعظيماً في السباق التاريخي بين الرأسمالية والاشتراكية، وهو ما كنت أميل إليه وشكل ركناً مهماً من تفكيري في تلك المرحلة، التي لا تخلو من رومانسية شبابية.

             وكنّا نردّد حينها أن السمة الأساسية لعصرنا هي " الانتقال من الرأسمالية للاشتراكية"، لاسيّما بالتحالف مع "حركات التحرر الوطني" التي تقترب من معسكر الاشتراكية، وهو الذي سيتم عبره وبنضال الطبقة العاملة في البلدان الرأسمالية هزيمة الامبريالية باعتبارها حسب كتاب لينين "أعلى مراحل الرأسمالية" وذلك بالتعايش السلمي والصراع الفكري والمباراة الاقتصادية والمكاسب التي يمكن أن تتحقق للشعوب.

            كما لم أستسغ حينها الشعارات التي اجتاحت الوسط الشيوعي واليساري خلال الموجة الجيفارية مع أنني من أشد المعجبين بجيفارا كأحد أبرز ثوريي القرن العشرين ، وقد دونت ذلك في كتاب " كوبا- الحلم الغامض"، الصادر عن دار الفارابي، بيروت، 2011، بعد زيارتي لكوبا، مقدّماً قراءة جديدة بعيدة عن التمجيد لتجربة تستحق الدراسة ولشعب عانى الحصار ومحاولات الإذلال، لأكثر من نصف قرن من الزمان، ويبقى أمامه اليوم اجتياز معركتي الحرّيات والتعدّدية من جهة، والحصول على التكنولوجيا، التي بدونهما لا يمكن لكوبا الاستمرار إلى ما لا نهاية في أوضاعها الحالية.

            وإنْ كنتُ قد عقدت صداقات حميمية مع العديد من الذين تأثّروا بالتوجه الجيفاري الثوري من العراقيين والعرب والفلسطينيين بشكل خاص في بغداد وعدد من البلدان العربية، وكنت أدخل بنقاشات طويلة مع العديد منهم، وقد ذكرت ذلك في أكثر من مناسبة، لكنه من الجهة الأخرى، كانت الآمال التي عقدتها على هذا التوجه الآخر تتبدّد ويطير بعضها، فقد كانت تراجعات الاشتراكية أمام الرأسمالية واضحة وصريحة حيث عانت الأولى من البيروقراطية والترهّل وشحّ الحرّيات وانتهاكات حقوق الإنسان ووصلت التنمية إلى طريق مسدود، خصوصاً وأن الكثير من الأرقام والمعطيات لم تكن صحيحة، بل مشوّهة وغير دقيقة وهو ما كانت تقدّمه أجهزة الدعاية الاشتراكية ووكالاتها الإعلامية وتقوم بنشره وكالة نوفوستي  وأنباء موسكو وغيرها.

             وبنوع من المبالغة وسوء التقدير كنّا نتبنّى تلك المعلومات باعتبارها حقائق غير قابلة للشك، والهدف من ترويجها هو إثبات أفضلية وتفوق النظام الاشتراكي على النظام الرأسمالي، وكان البعض يغالي في نقد وتفنيد واتهام أي وجهات نظر أو معلومات مغايرة تحاول النيل من صحة أو دقة المعطيات المقدّمة من الدول الإشتراكية، ولاسيّما تلك التي تأخذ طريقها إلى الإعلام الغربي. وقد فوجئ جمهور الشيوعيين في بلادنا والعالم بأن التقرير الذي ألقاه خروتشوف بالمؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفييتي العام 1956، وهو المؤتمر الذي أدان الحقبة الستالينية وكشف بعض الارتكابات والجرائم التي قام بها الزعيم الذي كنّا نعتبره " أبو البروليتاريا" العالمية و"محرر الشعوب" والقائد الفذ، العبقري، وبطل الحرب العالمية الثانية.

            وكم كانت الصدمة كبيرة حين اكتشفنا أن التقرير كان صحيحاً، بل هو أقل من الواقع بكثير؟ ولم يكن التقرير نسيجاً حيكَ من خيوط خارجية صنعت في المصانع الغربية، بل هو حقيقة ما كان يجري في الستار الحديدي ومعسكرات الاعتقال تلك التي تحدّث عنها لاحقاً المنشق سولجنستين  في رواية " أرخبيل كولاغ" حيث قضى فيها نحو 8 سنوات . يضاف إلى كل ذلك نهج الواحدية والإطلاقية وعدم الإقرار بالتنوّع والتعددية والرأي الآخر وحجب الأصوات المعارضة ومصادرة حق النقد وملاحقة المنتقدين واتهامهم، وقد دفع المثقفون قسطاً وافراً من ذلك.

            ولعلّ ذلك وغيره وبمرور الأيام ما أخذ يطرح أسئلة داخلنا وتململات مباشرة أو غير مباشرة يجري التعبير عنها بأشكال مختلفة، لكن انشغالاتنا الداخلية طغت عليها وإن كانت قد استمرت معنا وارتفعت وتيرتها مع بعض حركات الاحتجاج التي بدأت في البلدان الاشتراكية، وأتذكر ميثاق العام 1977- Charter 77 الذي أصدرته مجموعة المثقفين التشيكوسلوفاك منتقدة الأوضاع السائدة  وشحّ الحريات، وقد كان ذلك شرارة أولى لحركة الاحتجاج الواسعة التي وصلت ذروتها بانهيار جدار برلين العام 1989، وتفكّك وتحلّل الكتلة الاشتراكية التي بدت هشّة وخاوية من الداخل، في حين كانت للناظر من الخارج تبدو قلاعاً محصنة على حد تعبير جون بول سارتر الذي سبقنا بنحو ثلاث عقود في رؤية هذه الحقيقة.

 

غورباتشوف : البريسترويكا في الوقت الضائع

            لا شكّ أن سباق التسلح وتخصيص الولايات المتحدة تريلوني دولار له خلال ما سمّي بـ  حرب النجوم في مطلع الثمانينات ، ساهم في الانهيار السوفييتي وعدم القدرة في مجاراتها، وقاد هذا إلى التراجع غير المنظم ولم تفلح محاولات غورباتشوف بشأن البريسترويكا والغلاسنوست لإعادة البناء والعلانية ، فقد جاءت متأخّرة وغير متدرّجة ودون تهيئة واستعداد، ولم تكن مدروسة، بل كانت فوقية، في ظل غياب قناعات  للتغيير وفقاً لتراكم طويل الأمد ومستلزمات  مادية ومعنوية، وخصوصاً لشبكة الكوادر الحكومية والإدارية والحزبية والجماهيرية ووضع معالجات اقتصادية واجتماعية وثقافية وقانونية وتربوية ونفسية لتحقيق ذلك، علماً بأن الخراب كان قد انتشر والانسداد الاقتصادي والتنموي أصبح حقيقة ظاهرة والترهل الحزبي والحكومي والفساد المالي والإداري صار جزءًا من الروتين اليومي، فضلاً عن شح الحرّيات وقلّة الأجور وعدم تلبية حاجات الناس المتعاظمة تماشياً مع التطور الكوني، بحيث أصبح الإصلاح عسيراً، لاسيّما بوسائل قديمة.

            يضاف إلى ذلك الاختراقات الكبيرة التي جرت من جانب القوى المعادية للإمبريالية في "حرب ناعمة" مدّت جسوراً عبرتها البضائع والسلع والأفكار والسيّاح على حد توصيفات المجتمع الصناعي - الحربي، الذي استخلص ذلك من "مجمّع العقول" أو "تروست الأدمغة" الذي عمل بمعيّة الرئيس كيندي والذي عبّر عنها الرئيس جونسون بحرب الجسور لتهيئة التغيير المنشود دون بزّات قتال واشتباكات عسكرية، بل بواسطة وسائل الحرب النفسية والآيديولوجية والدعائية، حتى سقطت التفاحة الناضجة بالأحضان.

 

طريق الحرير والحزام وفلسطين

            كثير منّا بسبب حالات القنوط واليأس والتشاؤم من إصلاح الأوضاع،  وخصوصاً في ربع القرن الماضي عوّل على الصين التي ستربح المعركة وتتفوّق في مشروع التنمية المستدامة 2030 اقتصادياً على واشنطن وستبني طريق الحرير  الجديد " الحرير والحزام" الذي سيغيّر وجه العالم، وذلك في إطار تعويضية نفسية لفقدان القدرة على التأثير المتوازن بفعل اختلال المعادلة الدولية ومعاناتنا من صدمة الاستعمار وصدمات النكبة 1948 والهزيمة 1967 وضياع فلسطين  والانحياز الكامل من جانب الغرب وبشكل خاص الولايات المتحدة لـ"إسرائيل".

            وقليل منّا من أخذ ينظر إلى الصين من منظور مختلف، فهي في نهاية المطاف ليست الصين التي في رومانسيتنا اليسارية الطفولية السابقة أو التي ظلّت تدور في مخيّلتنا الحالمة بالتغيير ونظامها ليس هو الذي كنّا نعوّل عليه في مطلع الخمسينات ، خصوصاً بدعم القضية الفلسطينية وقضايا الحقوق العربية، وهو حتى وإنْ تفوّق على الولايات المتحدة فما الذي سيفيدنا وإنْ كانت الفائدة غير مباشرة بإضعاف أعدائنا، لكنه من الجهة الأخرى  سيضعنا حين يعزز علاقاته مع عدونا  الأساسي "إسرائيل"، وهذا سيكون على حسابنا أراد أو لم يرد ذلك .

            لم تتم مراجعة الكثير منّا للتجربة الصينية، فكيف يمكن غضّ النظر عن ارتكابات وإن أصبحت شائعة، واعتبارها مجرد مبالغات كثيرة ، بل هي جزء من الدعاية السوداء للامبريالية، وهي ليست بعيدة عن الصراع الأيديولوجي، حيث يبقى "الإنسان مقياس كل شيء" على حد تعبير  الفيلسوف الإغريقي بروتوغوراس  والحرّية هي القيمة العليا ومن يقرأ رواية "بجعات بريّة- دراما الصين في حياة نساء ثلاث - 1909-1978 " لمؤلفته يونغ تشانغ، يدرك حقيقة المعاناة الإنسانية والواقع المرير الذي عانى منه الصينيون الذي تعرضوا لمحق إنساني حقيقي.

            وإذا كان ذلك ماضياً ، فبكين تنافس اليوم واشنطن وتتربّع على قمة الاقتصاد العالمي كثاني دولة  في العالم وفي سباق محموم معها إلى العام 2030، ولكن علينا أولاً وقبل كل شيء البحث عن موقعنا في هذا التقدم وكيف يمكن توظيفه في الكفاح الوطني العربي من أجل استعادة حقوقنا، ولاسيّما ارتباطاً مع بؤرة التوتر ومشروع الحرب المستمرة في المنطقة وأقصد بذلك "إسرائيل"؟

            ما يلفت انتباهي اليوم هو التحوّل الكبير الذي طرأ على السياسة الصينية ، وخصوصاً في موضوع العلاقة مع "إسرائيل"، فقد كانت الصين تعتبر "إسرائيل" قوة احتلال وسلطة اغتصاب وقاعدة متقدّمة للإمبريالية، كما تصفها، إلّا أن التغييرات التي حصلت على النطاق العالمي واختلال موازين القوى الدولية والتحوّلات الداخلية في الصين، ناهيك عن النكوص العربي وغياب الحد الأدنى من التضامن العربي، شجّع الصين وغيرها على المضي في هذا الاتجاه، علماً بأن للعلاقات العربية- الصينية تاريخ طويل ، ولا أتحدث عن الماضي السحيق وطريق الحرير ووصول العرب والمسلمين إلى الصين، بل العلاقات المعاصرة.

            يكفي أن نلقي نظرة سريعة على ذلك منذ نجاح الثورة الصينية في العام 1949، التي لقيت حماسة عربية شعبية ، لاسيّما بعد لقاء الرئيس الرئيس المصري جمال عبد الناصر مع الرئيس الصيني شوان لاي في مؤتمر باندونغ الأفرو آسيوي، والذي كان نواة لتأسيس حركة عدم الانحياز العام 1961 ومجموعة الـ 77 لاحقاً ، وقد أقيمت العلاقات الدبلوماسية المصرية- الصينية الرسمية في 30 مايو (أيار) 1956، أما العلاقات الدبلوماسية  السورية - الصينية فقد بدأت في 1 أغسطس (آب) 1956 وتطوّرت بوتيرة عالية . وكانت  العلاقات العراقية - الصينية قد بدأت باعتراف الصين يوم 16/7/1958 بالنظام الجمهوري في العراق وبعدها بيوم واحد اعترف العراق بجمهورية الصين الشعبية ، علماً بأن الصين من بين الدول الأولى التي دعمت الثورة الجزائرية واعترفت بالحكومة المؤقتة بعد إعلانها في سبتمبر 1958 حيث أقيمت لاحقاً العلاقات الدبلوماسية الجزائرية - الصينية، كما وقفت إلى جانب الثورة في الجنوب اليمني، حيث أقيمت العلاقات الدبلوماسية اليمنية - الصينية في 24 سبتمبر (أيلول) 1956 مع الشطر الشمالي (جمهورية اليمن العربية) وبعد تحرير الجنوب تأسست العلاقات بين جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية وجمهورية الصين الشعبية في يوم 1 يناير(كانون الثاني) 1968 .

            وقبل ذلك كانت الصين قد ساندت مصر ضد العدوان الثلاثي الأنكلو فرنسي "الإسرائيلي"، واتّخذت مواقف مؤيدة للحقوق العربية في مؤتمر باندونغ لعدم الانحياز العام 1955 واعترفت في العام 1965 بمنظمة التحرير الفلسطينية كممثل وحيد وشرعي للشعب العربي الفلسطيني وافتتحت مكتباً لها، ووقفت إلى جانب العرب ضد العدوان الإسرائيلي العام 1967.

 

وماذا عن "إسرائيل"؟

            فما الذي يدفع الصين لتوثيق علاقاتها مع "إسرائيل"؟ والتي ستكون على حساب حقوق الشعب العربي الفلسطيني، حيث ستتمادى "إسرائيل" في تعنتها وعدم استجابتها إلى حل سلمي وعادل أساسه حق تقرير المصير وإقامة الدولة الوطنية وعاصمتها القدس الشريف. ولعلّ هذا السؤال المحوري بحاجة إلى تفصيل وتفكيك.

            وحسبما يبدو إن الصين تريد عن طريق علاقتها مع " إسرائيل" اختراق منطقة النفوذ الأمريكي من خلال أسواق تعويضية ، خصوصاً حين استخدمت واشنطن العقوبات ضدها بفرض رسوم جمركية ثقيلة على البضائع والمنتجات الصينية للحيلولة دون انتشارها في السوق الأمريكية . وعن طريقها تريد بيع الروبوت " الإنسان الآلي"، إضافة إلى بعض تكنولوجيا الفضاء والأقمار الصناعية وتوظيفها في قضايا التجسّس.

            وبالعودة إلى تاريخ العلاقات "الإسرائيلية"- الصينية  فإن "إسرائيل" بادرت  إلى الاعتراف بالصين  في يناير(كانون الثاني)  1950 ، لكن الصين اكتفت بإرسال رسالة شكر باردة حتى وإن اعترفت بها ، لكن العلاقات الدبلوماسية لم تنشأ إلّا في التسعينات، وهو الأمر الذي سارت عليه العلاقات الإسرائيلية- الهندية أيضاً، حيث حصل الاعتراف في الخمسينات، لكن العلاقات لم تقم إلّا في التسعينات أيضاً ويمكن القول أن العلاقات الصينية- "الإسرائيلية" مرّت بعدّة مراحل وهي:

المرحلة الأولى - الخمسينات والستينات والتي شهدت إحجاماً من جانب الصين على التعاطي مع "إسرائيل" الذي وصل ذروة تشدّده ضدها في الستينات.

المرحلة الثانية - السبعينات فقد بدأت بمدّ الجسور لتهيئة الأجواء لإقامة العلاقات الدبلوماسية لاحقاً وبدأت بعد قبول الصين عضواً في الأمم المتحدة التي استعادت موقعها في مجلس الأمن الدولي كعضو دائم العضوية.

المرحلة الثالثة - التسعينات ، وهي مرحلة التطبيع الكامل وقد أقيمت العلاقات الدبلوماسية في يناير (كانون الثاني) 1992 كما سنأتي على ذكره. وبقدر ما كانت تتعزّز علاقة الصين بـ"إسرائيل" فإن الموقف من القضية الفلسطينية كان يأخذ بالفتور، بعد أن مدّت الصين الثورة الفلسطينية والعديد من قوى التحرر العربية بالسلاح والمساندة، وأتذكّر تصريح رئيس الوزراء الصيني والشخصية المؤثرة حينها بعد ماوتسي تونغ، شوان لاي على هامش مؤتمر حركة عدم الانحياز في الجزائر العام 1964 مخاطباً الفلسطينيين والعرب بالطبع: "فجرّوها ولو بعود كبريت، فقضيتكم عادلة" وهو ما كنّا نتغنّى به، لكن هذا الموقف تغيّر ارتباطاً بتغيّر الأوضاع.

            جدير بالذكر أن الاستثمارات الصينية الكبرى في " إسرائيل" تعود إلى العام 2015، علماً بأنه في العام 2000 قام الرئيس الصيني جيانغ زيمين  بزيارة لـ "إسرائيل" ورداً عليها كلّفت "إسرائيل" إيهود أولمرت  وزير التجارة والصناعة "الإسرائيلي" الأسبق (قبل أن يصبح رئيساً للوزراء) بزيارة الصين  في العام 2004 على رأس وفد ضخم لم يسبق لـها أن أوفدت مثله إلى أي دولة في العالم، وضم الوفد أكثر من 200 شخصية قيادية للقطاعات كافة وبضمنه رجال أعمال معروفين ، وحين أصبح أولمرت رئيساً للوزراء عاد وزار الصين في العام 2007.

            وأود التنويه هنا إلى أن بنيامين نتنياهو كان قد زار الصين في العام 1998 أي قبل أن يصبح رئيساً للوزراء، وقد كانت زيارته المهمة إلى بكين في العام 2013 بدعوة من الرئيس الصيني شي جين بينغ  الذي دعا في المدة ذاتها الرئيس الفلسطيني محمود عباس (أيار/مايو/2013) وطرح عليهما مشروعاً للتسوية السياسية وإعادة المفاوضات تألف من أربعة مقترحات، أولها - إقامة دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة كاملة وعاصمتها القدس، ثانيها - احترام حق "إسرائيل" في الوجود وضمان الاحترام الكامل لأمنها واعتبار المفاوضات الطريق الوحيد لتحقيق السلام بين الطرفين ، وثالثها- اتباع مبدأ الأرض مقابل السلام وفقاً لمقررات الأمم المتحدة ورابعها- حث المجتمع الدولي على تقديم ضمانات ضرورية لدفع عملية السلام، وأبرمت خلال تلك الزيارة العديد من الاتفاقيات العسكرية والاقتصادية الإسرائيلية - الصينية ، وكان ذلك بعد أن رفع العرب الحرج عن مثل هذه العلاقات مع تل أبيب وبدأ الأمر تدريجياً منذ اتفاقيات  كامب ديفيد 1978-1979 واتفاق أوسلو العام 1993.

            وقد بدأ التقارب "الإسرائيلي" - الصيني العملي في العام 1971 حين صوتت "إسرائيل" لصالح قبول الصين في الأمم المتحدة، وفي عقد الثمانينات شهدت العلاقات خطوات تمهيدية لإقامة التمثيل الدبلوماسي، لاسيّما بعد لقاء شمعون بيريز مع نظيره الصيني تشيان تشي تشن (أيلول/سبتمبر/ 1988) في نيويورك على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة. وكانت التسعينات هي مرحلة الانفتاح الدبلوماسي والاقتصادي على "إسرائيل" التي حصلت على اعتراف أكبر دولة في العالم من حيث عدد النفوس بعد أن بدأت علاقاتها تعود بالتدرّج مع الدول الاشتراكية السابقة (منذ منتصف الثمانينات) واستعادت " إسرائيل" علاقاتها مع عدد كبير من الدول الأفريقية التي تم قطعها إثر عدوان العام 1967 وحرب العام 1973 (حوالي 30 دولة)، وحصل ذلك في ظل التراجع العربي وبعد اجتماعات مدريد تمهيداً لاتفاق أوسلو 1993.

            وهكذا بدأت تتعمّق العلاقات الصينية - "الإسرائيلية"  في مجالات علمية وتكنولوجية واقتصادية وعسكرية وأمنية وتجارية، حيث تبرعت الصين ببرنامجيات حديثة وتقنيات الكومبيوتر إلى " إسرائيل" وتطمح إلى الاستفادة من تطوير وتجهيز الطائرات المسيّرة التي تستخدم في الرصد والمتابعة والمراقبة والتصوير.

            ولا يعني هذا أن الصين تهمل العلاقة مع العرب، حيث كانت الزيارة الأولى للملك السعودي عبدالله في  العام 2006 وقعت خلالها خمس اتفاقيات حول الطاقة وتعتبر فتحاً كبيراً في العلاقات الصينية - السعودية  التي احتفت بها كثيراً علماً بأن العلاقات الصينية - السعودية أقيمت في العام 1990، وبدأت زيارات عربية عديدة مصرية وعراقية ، لكنها لم تستكمل أو لم تكن بمستوى العلاقات مع تل أبيب، ولقيت معارضة أمريكية، وهو ما بحاجة إلى منظور استراتيجي متوازن للعلاقات العربية مع الدول الكبرى وأساساً تعاون وتنسيق عربي لما فيه فائدة الجميع، لاسيّما إذا اتسم برؤية موحدة على أساس المصالح المشتركة والمنافع المتبادلة.

آيديولوجيا التجارة

            علينا أن ندرك أن مرحلة  الآيديولوجيا في الصين قد انتهت ، على الرغم من أن الحزب الشيوعي الصيني ما يزال حاكماً ومهيمناً، بل مستأثراً بحق العمل السياسي والنقابي والمهني ، وقد عقد مؤتمره الأخير في آب /أغسطس 2019، إلا أن العقل الصيني التجاري بالتلاقح مع التراث الفلسفي والثقافي غلب على الفكر الشيوعي، خصوصاً بإحياء تراث لاوتسه وكونفوشيوس وغيرهما، لاسيّما العودة الحميمة إلى الثقافة والتاريخ الصيني القديم، باعتباره ذخيرة فكرية وإنسانية محفّزة لأوضاع الحاضر، بعد أن شهدت الصين قطيعة أبستمولوجية (معرفية) معه  خلال الثورة الثقافية، وعاد الاعتزاز بالتراث والتاريخ الصيني كونه إثراءً للحاضر واستشرافاً للمستقبل، بعد أن تم تطليق مرحلة التزمت الآيديولوجي وأمراض اليسارية الطفولية، واستبدالها بمرحلة الانفتاح الاقتصادي والانتشار التجاري، والحديث بلغة المصالح وليس بلغة العقائد.

            وإذا كان جيلنا  برومانسيته العالية ما زال يتذكّر الشعارات الصينية "الثورية" والتي تأثر بها العديد من تجارب الكفاح المسلح والحركات التحررية العربية والعالمثالثية، إلّا  أن علينا الإقرار بأن تلك المرحلة قد طويت تماماً ولم وتبقَ إلّا في كتب التاريخ وذاكرتنا المتعبة، فلم تعد القيادات الصينية ترتدي طواقم الملابس الخشنة والموحّدة والصالحة لكل المناسبات باعتبارها دليل "ثورية" مفرطة وطفولية يسارية ومساواة شكلية ، فإنها اليوم في ظلّ ثقافة السوق والعرض والطلب والمنافسة الاقتصادية والتمدّد التجاري ومنطق المصالح الذي يتقدم على كل شيء، أخذت تضاهي الغرب وأنظمته الرأسمالية بآخر صيحات الموضة العالمية وبحبوحة العيش والبذخ المفرط .

            وإذا كان الماضي قد أصبح خلفنا بما فيه من مراهقة سياسية، فعلينا أن ندرك اليوم أن العالم لا يُدار بالعقائد والعواطف والتمنيّات، بل وفقاً للمصالح والمنافع والمنافسة ، وهو ما ينبغي أن يكون ماثلاً أمامنا، فالسياسة كانت وما تزال وستبقى " صراع واتفاق مصالح" في أبسط تعريفاتها، أي علينا الاستفادة من دروس الماضي، فلم يعد ثمة مكان لذلك ، حيث  تغيّر العالم كثيراً وتشابكت علاقاته وتداخلت مصالحه وانشطرت محاوره وتشكّلت كتل جديدة، فالماضي مضى ولا يمكن استعادته. وعلينا كعرب أن نعي ذلك وندرك الواقع ونتفهم مستجداته وتبعاته وبالتالي التعامل منه.

            علينا أيضاً أن نشخّص نقاط ضعفنا ونعالج أسباب تشتت مواقفنا وغياب الحد الأدنى من التضامن بيننا، ناهيك عن التعاون والتنسيق، وليس بإمكاننا اليوم استخدام سلاح النفط مثلما فعلنا بُعيد حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973 والذي كان تأثيره فعّالاً، وما تزال أصداؤه حتى الآن، وقد أحدثت تلك الصدمة، إضافة إلى انهيار سوق الأوراق المالية 1973-1974 أزمة كبيرة على المستوى الكوني، لاسيّما حالة الكساد والانكماش الاقتصادي التي أصابت العالم. وإذا أدركنا أن العالم تغيّر فعلينا أن نتغيّر أيضاً، وذلك باعترافنا أولاً وقبل كل شيء أننا نعيش في أزمة مستفحلة وأن بعض الأوراق التي كان بإمكاننا استخدامها في السابق لم يعد ممكناً استخدامها حالياً، وعلينا بعد ذلك تشخيص أسبابها وسبل الخروج منها، وتلك طريق لا يتسع لوهم جديد، بل ينطلق من الواقع.

باحث ومفكر عربي

 بولتون في الغرفة ذاتها

عبد الحسين شعبان

 

أعادتني الضجة التي أثارها الإعلان عن موعد صدور كتاب  "الغرفة التي شهدت الأحداث The room where it happened " لجون بولتون المستشار  السابق للأمن القومي الأمريكي إلى الفيلم الملحمي الفرنسي - الجزائري " Z" الذي تصدّر شاشات السينما في العام 1969 والمأخوذ عن رواية بنفس الاسم لمؤلفها فاسيليس فاسيليكوس ، والذي يتحدث فيها شهود رئيسيون عن أوضاع حكومية وظروف غامضة ومريبة، مثلما أعربت بعض الأوساط الأمريكية والدولية عن استغرابها ودهشتها إزاء تسريب أسرار ومعلومات وخفايا تتعلق بإدارة الرئيس دونالد ترامب .

جدير بالذكر، أن جون بولتون هو أحد طباخي " السياسة الأمريكية" ، ومقرب من الرئيس ترامب، ولذلك فإن نشر الأسرار والمعلومات على الملأ أزعجته وأثارت غضبه فأطلق طائفة من الاتهامات والعبارات النابية بحقه، بل إنه طلب منع نشره بزعم مساسه بالأمن القومي وإفشاء الأسرار، لكن القضاء الأمريكي رفض هذا الطلب .

لعلّها ليست المرّة الأولى أن يعمد أحد كبار الموظفين السابقين في البيت الأبيض على نشر مذكراته عن الفترة التي قضاها بالقرب من الرئيس ومن صناعة القرار، ولكن ذلك عادة ما يحدث بعد انقضاء ولاية الرئيس وبدء رئاسة جديدة، غير أن ما حدث هو أن بولتون حاول نشر "الغسيل الوسخ"  كما يقال والرئيس ترامب ذاته ما يزال متربعاً على دست الحكم في البيت الأبيض، وتلك سابقة خطيرة، لاسيّما بنشر أسرار ما تزال طي الكتمان أو تسريب معلومات يفترض أن تبقى في الأدراج أو فضح قضايا لم يتم حسم الموقف بشأنها ، والأمر لا يتعلق ببعض الأمور الشخصية، بل إنها تصب في صميم مهمات الرئيس ومسؤولياته وخططه وبرامجه وعلاقاته وصفقاته واتفاقاته، ومن هنا تأتي أهمية هذا الكتاب وخطورته.

وبولتون مثل غيره من مستشاري الأمن القومي جاء من "مجمّع العقول" أو "تروست" الأدمغة مثل كيسنجر وبريجنسكي وأولبرايت  وستيفن هادلي وكونداليزا رايس، وهؤلاء عادة من المتفوقين الذين تأخذهم الإدارة الأمريكية للاستفادة من إمكاناتهم ، وقد عيّن سفيراً لبلاده في الأمم المتحدة في العام 2005 بعد أن برز كأحد صقور الحزب الجمهوري ومن المحافظين الجدد New Conservative  ، وترأس في الفترة من 2013 - 2018 معهد جيستون وهو معهد معادي للإسلام، وقد التحق بإدارة الرئيس ترامب كمستشار للأمن القومي خلفاً لـ هربرت ماكماستر وكان إعلان ترشيحه لهذا المنصب يعني أن إدارة ترامب تتجه إلى التشدد في سياستها الخارجية لما هو معروف من التوجهات المتصلبة لبولتون وقناعته باللجوء إلى القوة في العلاقات الدولية كحل لفرض هيمنة واشنطن.

لقد وقف بولتون إلى جانب ترامب حين شنّ الديمقراطيون ضدّه حملة شعواء لعزله، ولكن الأخير كافأه بالعزل بعد ذلك، كجزء من مزاجه المتقلب، وقد يكون الإسراع في إصدار مذكراته رغبة في قطع الطريق على الرئيس ترامب من الحصول على ولاية ثانية ، لاسيّما بنشر ما لديه من معلومات وأسرار لا تصب في صالحه، بل تنتقص من إدارته غير المنظمة والتي يتحكم فيها صهره كوشنير وابنته إيفانكا.

وأبرز بولتون الجانب العصابي في شخصية ترامب ونرجسيته وانتهاكاته لمعيار الوطنية الأمريكية، ليس فيما يتعلق بالعلاقة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وما أشيع عن دعمه في الانتخابات، بل تدخله لدى الصين لفتح تحقيق مع ابن جون بايدن منافسه الديمقراطي في الانتخابات القادمة، إضافة إلى تخبطاته على المستوى الدولي، فهو غير معني بالقيم الديمقراطية الليبرالية أو الجوانب الإنسانية والحقوقية والقانونية الدولية، وإلّا كيف تنسحب واشنطن من اتفاقية المناخ ومن منظمة الصحة العالمية ، ويصرّ ترامب على رفع ميزانية حلف الناتو إلى 2%، إضافة إلى وقف مساعداته لوكالة غوث اللاجئين وإعلانه عن الرغبة في التخلي عن عضوية لجنة حقوق الإنسان الدولية ، ويتعامل مع العالم العربي والقضية الفلسطينية من موقع تجاري، بل ويخضع كل شيء للتجارة والقوة الاقتصادية.

وبالعكس من ذلك ، يرى بولتون أن القوة العسكرية هي الأساس الذي ينبغي التعامل به مع عدد من القضايا والملفات مثل الملف النووي الإيراني والملف النووي الكوري الشمالي، مثلما كان مع تدمير المفاعل النووي السوري الذي قصفته إسرائيل العام 2007 ويتهم كوريا ببيع أسلحة نووية لسوريا وبتمويل من إيران. وقد وقف ضد مجموعة خان الباكستانية التي تعاونت مع إيران وكوريا الشمالية في مجال الأسلحة النووية، وخصوصاً تخصيب اليورانيوم  التي  سرقها خان من أوروبا ، حسب ادعاء بولتون.

عرف جون بولتون كل ما كان يجري في غرفة الرئيس، لذلك أراد أن يفتح أبوابها ونوافذها ويظهر خباياها وخفاياها للجميع بحيث يبان الرئيس عارياً ومجرداً من كل ما يستره،لذلك سارع لقطع الطريق على ولايته الثانية بالتوقيع على عقد  نشر كتاب الغرفة التي شهدت الأحداث مقابل مبلغ مليوني دولار، ولعلّ ذلك جزء من القوة الناعمة التي استخدمها بولتون بوجه ترامب الذي يقود حروباً ناعمة ضد العديد من الدول والشعوب.

باحث ومفكر عربي

صحيفة الخليج الإماراتية

 

«الأوليغارشية»

وروح الديمقراطية

 

عبد الحسين شعبان

 

الديمقراطيات الغربية تمرّ اليوم بتغييرات جذرية أقرب إلى الانقلاب على بعض أسس الديمقراطية، خصوصاً الاستثمار في «عولمة اليد العاملة».

زعزع صعود التيارات والأحزاب الشعبوية في الغرب «الديمقراطية» فكرة وممارسة، وخصوصاً من جانب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، ورئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون، ناهيك عن ارتقائها سدة الحكم في بولونيا وهنغاريا وتشيكيا وسلوفاكيا والنمسا وتعزّز نفوذها ومواقعها في فرنسا وهولندا وألمانيا وإيطاليا وشمال أوروبا في الدول الاسكندنافية.

وتبدو الحقيقة أكثر تعقيداً؛ حيث تتآكل الديمقراطيات الغربية؛ بسبب أوضاعها الداخلية وصعود موجات من التعصّب والتطرّف والعنف ضد الأجانب بشكل عام وضد المهاجرين واللاجئين المسلمين والعرب بشكل خاص، وتدريجياً وعلى مدى العقود الأربعة ونيّف الماضية، ولاسيّما بعد انهيار الكتلة الاشتراكية وتحوّل الصراع الأيديولوجي إلى شكل جديد، اتّخذ أبعاداً مختلفة، اعتبر الإسلام عدواً لا بدّ من استئصال شأفته تحت عنوان «القضاء على الإرهاب»، خصوصاً وقد صوِّر الصراع بأنه «صراع تاريخي» تناحري بين الحضارات المختلفة حسب صموئيل هنتنغتون، وكان فرانسيس فوكوياما قد أطلق عليه «نهاية التاريخ».

لقد تهدّدت «الديمقراطية» بانتقال السلطة إلى مؤسسات هيمنت عليها الطبقات العليا والشركات واللوبيات المتنفّذة ووسائل الإعلام وبعض الهيئات الأكاديمية والجامعية ومراكز الأبحاث الاستراتيجية التي تعمل في خدمة الجهات والمجموعات المتنفذة، أو ما يسمّى ب«مجمّع العقول» أو «تروست الأدمغة» والذي عمل فيه وتخرّج منه كبار المسؤولين الأمريكان مثل: هنري كيسنجر وبريجنسكي ومادلين أولبرايت وكونداليزا رايس وغيرهم.

إن الديمقراطيات الغربية تمرّ اليوم بتغييرات جذرية أقرب إلى الانقلاب على بعض أسس الديمقراطية، خصوصاً الاستثمار في «عولمة اليد العاملة» والاعتماد على عمال من الصين ودول أخرى، مقابل أجور أقل بما لا يقاس للأجور التي يتقاضاها العاملون في الغرب، الأمر الذي انعكس سلباً على أوضاع الطبقة العاملة، إضافة إلى أوضاع الطبقة الوسطى؛ حيث بات سوق العمل لهاتين الطبقتين يواجه صعوبات متزايدة للحصول على فرص وظيفية تمكّنهم من تحقيق مستوى معيشي أفضل.

وقد فوجئت «الديمقراطيات الغربية» مؤخراً باندلاع انتفاضة عارمة ضد «العنصرية والتمييز العنصري»؛ إثر حادث اغتيال جورج فلويد الذي أشعلت استغاثته الضمير الإنساني حين كانت جزمة الشرطي فوق رقبته «لا أستطيع أن أتنفس» وامتدت من الولايات المتحدة إلى بريطانيا وفرنسا وإسبانيا والمانيا وبلجيكا وهولندا والعديد من الدول الأوروبية؛ حيث حطّم المحتجون تماثيل في الساحات العامة، ولطخوا رموزاً اتهمت بالعنصرية وبيع الرقيق وجرائم ضد الإنسانية.

ولعلّ هذه التغييرات خلقت مجتمعات جديدة ومختلفة، خصوصاً بعد انتهاء عهد الحرب الباردة، وتراجع دور النقابات العمالية والمؤسسات الدينية، على الرغم من الترويج لعدم جدارة ما سمّي بالصراع الطبقي، لاسيّما بصعود الأوليغارشية أو «الأقليّة الحاكمة» في ظل إثارة مخاوف وفوبيا «البيض» إزاء الهجرة والمهاجرين واللاجئين والملوّنين، مع إثارة فوبيا الإسلام المعروفة باسم «الإسلامفوبيا»؛ (الرهاب من الإسلام ).

ويعارض بعض دعاة «النيوليبرالية» كل من يعارض أسلوبهم في إدارة الشأن العام ويعتبرون أي شخص بأنه مختلّ نفسياً أو عقلياً، ولا يتورع هؤلاء من إعلان نيتهم لحجز معارضيهم في المستشفيات قسرياً، بما في ذلك معارضو دونالد ترامب إضافة إلى المصوتين بعدم خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وباقي أنصار الحركة الشعبوية، وهو ما انكشف على نحو مريع خلال مداهمة وباء كورونا مؤخراً.

وبالطبع فإن النخب الأوليغارشية في دوائر المال والسياسة والإعلام تحاول التحكّم في أذهان الناس وعقولهم وثقافتهم بما فيها خطابها إزاء البلدان النامية، بالترويج لفكرة إن الحاضر أفضل من الماضي، والمستقبل أفضل من الحاضر، في محاولة لإشعار الناس بالخجل تجاه تراثهم وهويّتهم، ليكونوا على استعداد للتخلّي عنها أمام أساليب الدعاية الديماغوجية وسطوة الإعلام والصراع الأيديولوجي، ولاسيّما بهيمنتها على المؤسسات الثقافية الكبرى ومحاولة ضخّ أفكارها وأساليبها لفرض قواعد جديدة مفادها أن كل من يتصدّى للأوليغارشية، يعدّ إنساناً رجعياً ومثيراً للخجل؛ بل ويحمّلون هؤلاء ما يعانيه العالم من خيبات ومرارات وآلام، الأمر الذي يستوجب إنهاء المعارضة وتحقيق الانسجام؛ لضمان العدالة.

وقد كانت هذه الأطروحات جزءاً من حوار مستمر في الغرب، وأخيراً صدر كتاب بعنوان: «The New Class War» «حرب طبقية جديدة» لمؤلفه مايكل لاند، مع عنوان فرعي «إنقاذ الديمقراطية من النخبة الإدارية»، وهو أمر يحتاج إلى «تفكّر وقراءة» ليس على الصعيد الغربي فحسب؛ بل على صعيد العالم الثالث بشكل خاص، لاسيّما وأن الطبقة الوسطى تكاد تكون غائبة في ظل صعود شعبوية دينية وطائفية وقومية، ذات توجهات شمولية وعنفية وبعضها إرهابية.

drhussainshaban21@gmail.com

الطفولة الضائعة

عبد الحسين شعبان

 

            لمجرد أن تسمع أن أكثر من ربع مليار طفل (250 مليون) يعيشون في حالة خطر وخوف وقلق ووضع نفسي وصحي وغذائي وبيئي في أسوء أحواله، تشعر أن جزءًا من إنسانيتك يجري استلابها، لاسيّما في منطقة الحروب والنزاعات الأهلية والصدامات المسلحة وحيث ينعدم حكم القانون والعدل.

            ولعلّ  الرقم المخيف، هو في حالة تزايد في ظل تفشي فايروس كورونا واستمرار الجائحة في جميع أنحاء العالم، ناهيك عن فقدان ملايين البشر لأعمالهم ومصادر رزقهم ونفاذ مدّخراتهم، وخصوصاً من الفئات الفقيرة الأكثر تضرّراً   في ظلّ الأوضاع الاستثنائية وغير الطبيعية، تلك التي ترافقت معها تصاعد واحتدام ظواهر العنصرية  والتمييز والتعصّب والتطرّف والعنف والإرهاب.

            إن مرحلة الطفولة هي الأخطر في حياة البشر، لأنها تحدد حياة الإنسان ومستقبله، فما بالك حين تعلم أن الملايين من الأطفال اليوم يعيشون في أوضاع البؤس والشقاء والأحلام المرعبة، ويعتبر عالمنا العربي أحد المناطق االأسوأ حالاً والأكثر أذى في العالم ، حيث يتعرض أطفال فلسطين وسوريا واليمن وليبيا والصومال والعراق وغيرها من البلدان العربية مثل البالغين للعسف  وعدم الأمن والأمان بسبب الحروب والنزاعاتمن جهة ونشاط المنظمات الإرهابية من جهة أخرى، ودائماً ما يكون الأطفال وقوداً لها، وهم أكثر ضحاياها قتلاً وإعاقة وتشوّهاً وحرقاً ويُتماً وانفصالاً عن أسرهم واضطرابات نفسية وعقلية وصدمات في التفكير والسلوك والعواطف، ناهيك عن تحويلهم إلى سلعة أحياناً للبيع والشراء والإتجار والمخدرات والإرهاب.

            وبقدر ما تكون صورة الطفولة  معتمة وقاسية، فإنها تشمل عوائل الأطفال، وخصوصاً من هم دون خط الفقر والذي يتجاوز عددهم على المليار و200 مليون إنسان، يعيشون في ظل التخلّف والجهل وتفشي الأمراض والأوبئة ، ولاسيّما في البلدان النامية  إضافة إلى شحّ فرص العمل والتعليم وانتشار الأمية واستفحال ظواهر التعصّب ووليده التطرّف ونتاجهما العنف والإرهاب.

            وإذا كان الأمر يتعلق بالضمائر والجانب الإنساني،فإن العالم يستذكر كل عام في شهر يونيو (حزيران) مناسبة أليمة تتعلق بضحايا الحروب من الأطفال الأبرياء، وذلك بقرار اتخذته الجمعية العامة للأمم المتحدة بتاريخ 19 أغسطس (آب) العام 1982 ، إثر العدوان "الإسرائيلي" على لبنان في العام  1982 واجتياح العاصمة بيروت، وكان من  الأسباب الموجبة لهذا القرار هو " العدد الكبير من الأطفال الفلسطينيين واللبنانيين الأبرياء ضحايا أعمال العدوان التي ترتكبها إسرائيل"،  والهدف منه هو درء المعاناة التي يتعرّض لها الأطفال وسوء المعاملة البدنية والنفسية والعقلية في جميع أنحاء العالم، فالأطفال هم أكثر الفئات في المجتمع ضعفاً مما يجعلهم الأكثر تضرراً من عواقب الحروب.

            من الظواهر الخطيرة التي لا بدّ من إلفات النظر لها هو محاولة تجنيد الأطفال واستخدامهم في الحروب وأعمال القتل والإرهاب والعنف الجنسي والاختطاف التي يتعرضون لها، إضافة إلى الهجمات على المدارس والمستشفيات والحرمان من المساعدات الإنسانية، لاسيّما في مناطق الصراع، وتلك أمور تتعلق بإنسانية الإنسان الذي سعى منذ القدم لوضع قواعد قانونية عرفية أو تعاقدية (تعاهدية ومكتوبة) للحدّ من الآلام الناجمة عن الحروب والنزاعات المسلحة، ولكن تطور وسائل القتال واتساع تأثيرات الأسلحة المتطورة قلّص إلى حدود كبيرة من إمكانية استبعاد الأطفال من دائرة الخطر والرعب والآثار الأخرى المعنوية والمادية والتي تسببها الحروب.

            والمطلوب تفعيل قواعد القانون الدولي الإنساني واتفاقيات جنيف لعام 1949 وملحقيها لعام 1977 (البروتوكولان الخاصان بحماية ضحايا المنازعات الدولية المسلحة، وحماية ضحايا المنازعات المسلحة غير الدولية ) وذلك بعدم ترك الجناة يفلتون من العقاب ومساءلتهم وتقديمهم للعدالة، علماً بأن مثل هذه الجرائم لا تسقط بالتقادم، ويحتاج الأمر إلى التوقيع على ميثاق روما  لعام 1998 " المحكمة الجنائية الدولية" واعتماده كأداة لتطوير قواعد القانون الدولي الجنائي، وهو الذي دخل حيّز النفاذ العام 2002، ودعوة جميع البلدان للانضمام إليه، إذْ لا تزال العديد من الدول الكبرى لم تنظم إليه أو لم تصادق على انضمامها مثل الولايات المتحدة التي انظمت إليه ثم أعلنت عن انسحابها، وروسيا والصين، إضافة إلى " إسرائيل" والعديد من البلدان العربية، وقد اعتمدت الأمم المتحدة في العام 2000 بروتوكولاً اختيارياً لمنع تجنيد الأطفال برفع سقف الطفولة من سن 15 إلى 18، وذلك بإلزام لدول الأطراف بعدم قبول التطوع في قواتها المسلحة دون سن الثامنة عشرة ، وأي تجنيد للأطفال يعتبر من جرائم الحرب.

            ولعلّها مناسبة للتوجّه إلى كل من تهمه قضايا حقوق الإنسان دولاً وحكومات ومنظمات إنسانية ومؤسسات دولية وأفراداً ، تلك التي تعمل لتحقيق أهداف التنمية المستدامة 2030 أن تضع في حسابها مخططاً دولياً لضمان مستقبل أفضل للطفولة والأطفال، سواء بإنهاء جميع أشكال العنف ضدهم وإنهاء أي إساءة لهم وإهمالهم وتطبيق اتفاقية حماية حقوق الطفل الدولية لعام 1989 بحيث تتوفّر بيئة سليمة ومعافاة لتوفير أسباب نجاح التنمية التي يقع الأطفال في صميمها وجوهرها.

باحث ومفكر عربي

صحيفة الخليج (الإماراتية)

 

وجوه العنصرية

عبد الحسين شعبان

 

هل اكتوت أمريكا بنار العنصرية من جديد؟ سؤال أخذ يرتفع بصوت عال بعد مقتل جورج فلويد الذي أثار حركة احتجاج واسعة في عدد من المدن الأمريكية وأعمال عنف وتخريب وردود فعل حكومية قاسية،  وهو أمرٌ تكرّر في السنوات الأخيرة التي شهدت حوادث عنصرية وأعمال قتل قصدية وتجاوزات وانتهاكات بحق أصحاب البشرة السمراء، ترابطاً مع سياسات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ذات التوجه الشعبوي. وتعيد هذه الحوادث والممارسات موضوع العنصرية مجتمعياً إلى الواجهة بعد أن تم تجاوزها قانونياً، بفعل نجاح "حركة الحقوق المدنية" بقيادة مارتن لوثر كنغ، بإلغاء القوانين العنصرية، حيث ما تزال ذيولها في الواقع قائمة وقويّة بفعل التفاوت الاجتماعي ومجمّعات الفقر وغيرها من مستويات التمييز.

ولعلّ ملف العنصرية بوجوهها المختلفة ما يزال حاضراً على المستوى العالمي ولهذه الأسباب كانت الجمعية العامة للأمم المتحدة  قد قررت تحديد يوم عالمي لمناهضة العنصرية، وذلك تخليداً لذكرى 69 إنساناً قتلوا لمشاركتهم بتظاهرة سلمية ضد قوانين المرور التمييزية في جنوب أفريقيا.

وتنشأ العنصرية بسبب التعصّب، وهذا الأخير ينجم عن إدعاء الأفضليات وامتلاك الحقائق ومحاولة احتكارها، وكل عنصري هو متعصّب بالضرورة، ولكن ليس كل متعصّب هو عنصري، إلّا إذا انتقلت الفكرة من الرأي أو الاعتقاد  إلى الممارسة والتطبيق، فعندها يتطابق الأمر، لأن المتعصّب لفكرة أو آيديولوجية أو دين أو طائفة أو قومية أو لغة أو جنس أو لون أو أصل اجتماعي، يمكن أن يتحوّل إلى عنصري بالسلوك والممارسة، لاسيّما إذا اتسمت بالفعل الاستعلائي على الآخر أو محاولة التسيّد عليه، بقدر تضخيم ذاته واستصغار الآخر أو إنكار حقه في المساواة وعدم التمييز.

والعنصري لا يقرّ بالتعددية ولا  يعترف بالتنوّع، وإذا ما اضطرّ إليهما، فإنه سيضع نفسه أو قومه أو دينه أو طائفته، وباختصار " خاصته" فوق الآخرين، وهكذا ستكون الجماعة التي ينتمي إليها ويتشارك معها المشاعر ذاتها بما يعبّر عنه الشعور بالهويّة الخاصة متفوقة على غيرها، فهو إما يعتبر نفسه صاحب حق تاريخي أو ديني أو قومي، أو يزعم " التفوق" العرقي أو السلالي أو اللغوي أو الجنسي أو البيولوجي ، أو يدّعي كونه من "الأغلبية" التي تفترض أن تخضع لها "الأقلية" وتتبعها، أو أن له مكانة اجتماعية واقتصادية أرفع من الآخر بسبب  الثروة والمال والأصل الاجتماعي أو غير ذلك .

ويقود التعصّب إلى التطرّف، وكلّ متطرّف لا بدّ أن يكون متعصّباً، وحين ينتقل إلى الفعل يصبح عنفاً ، وهذا الأخير حين يصير سلوكاً فإن جناحيه هما التعصّب والتطرّف. وإذا ما ضرب العنف عشوائياً سيتحوّل إلى إرهاب، بهدف إحداث رعب في المجتمع وإضعاف ثقة الفرد والمجتمع بالدولة وبالنظام العام، وحيث يكون عابراً للحدود يصبح "إرهاباً دولياً".

ولعلّ الذكرى الأخيرة للتضامن مع ضحايا التمييز العنصري تكريماً للإنسان وحقوقه، جاءت متزامنة مع انقضاء نصف العقد الدولي المخصّص للتضامن مع المتحدّرين من أصل أفريقي، وبعض هؤلاء ممن يطلق عليهم سكان الشعوب الأصلية، حيث كانت الأمم المتحدة قد أصدرت قراراً في العام 2007 أكّدت على حقوقهم الأساسية . وكانت قد قرّرت  العقد الدولي في العام 2015، حيث يستمر هذا العقد حتى نهاية العام 2024، تأكيداً لقيم الاعتراف والإقرار بالمعاناة الفائقة التي تعرّض لها المضطهدون من جهة ولقيم العدالة والتنمية من جهة أخرى.

وكانت الأمم المتحدة قد خصصت قبل ذلك عقداً كاملاً للقضاء على العنصرية وجميع أشكال التمييز العنصري، بما فيه التمييز ضد الأجانب، وحينها طالبت العديد من المنظمات الأفريقية والدولية تعويض الشعوب الأفريقية عمّا لحق بها من غبن وأضرار بسبب "استعمارها" الطويل من جانب الغرب، حيث تبدأ الخطوة الأولى بتقديم الاعتذار الرسمي. وقد عقدت مؤتمرين دوليين ضد العنصرية في العام 1978 و1983، وبعد القضاء على نظام الابرتايد في جنوب أفريقيا إلتأم مؤتمر ديربن التاريخي تتويجاً للعقد الدولي ضد العنصرية والتمييز العنصري. وتمكّنت مؤسسات المجتمع المدني العربية وبالتعاون مع نحو ثلاثة آلاف منظمة حقوقية دولية من إدانة الممارسات " الإسرائيلية" ضد الشعب العربي الفلسطيني واعتبارها شكلاً من أشكال العنصرية والتمييز العنصري.

وعلى الرغم من كل هذه الجهود الدولية وازدياد رصيد فكرة حقوق الإنسان، فإن موجة عنصرية جديدة مصحوبة بالعداء للأجانب واللاجئين والمهاجرين ترتفع في الغرب والولايات المتحدة، سواء ضد العرب والمسلمين أو ضد المتحدرين من أصول أفريقية، في إطار نزعة كراهية وفوبيا من الآخر. وإذا كان هذا وجه من وجوه العنصرية يخصّ الغير، فإن مجتمعاتنا هي الأخرى تعاني من بعض مظاهر العنصرية والاستعلاء، سواء إزاء الهويّات الفرعية، لاعتبارات قومية أو إثنية أو دينية أو لغوية أو جنسية أو بسبب الأصل الاجتماعي، الأمر الذي يتطلب تنقيتها وتخليصها منها، لتستطيع أن تواجه محاولات الانتقاص من هويّاتها وخصوصياتها من جانب القوى العنصرية الكبرى.

باحث ومفكر عربي

صحيفة الخليج (الإماراتية)

 

يوم الأسرة و«قناع 19»

عبد الحسين شعبان

 

تحتفل البشرية في شهر مايو (أيار) من كل عام باليوم العالمي للأسرة، الذي قرّرته الجمعية العامة للأمم المتحدة في العام 1993 ، ويتلخّص الهدف من هذا الاحتفال في رفع الوعي بأهمية الأسرة باعتبارها اللبنة الأولى للمجتمع الإنساني، ناهيك عن أن التنمية المستدامة لا تستقيم  دون مشاركتها بما يحقق الرفاه والسلام والأمن والتقدم، فهي " الملاذ الآمن" و"المأوى الدافئ" والمتكأ الذي يمكن الاستناد إليه، بما تمثّله من اطمئنان ومودة ورحمة وتآلف وتآزر.

ولعلّ من المصادفات السيئة هذا العام أن تمرّ هذه الذكرى والغالبية الساحقة من العوائل محجورة ومنطوية على نفسها في حالة قلق ورعب، بسبب اجتياح وباء كورونا  العالم، حيث راح ضحيته حتى كتابة هذه السطور أكثر من 300 ألف إنسان ، وإصابة ما يزيد عن 3 ملايين، وما زالت الأجواء المكفهرة والكئيبة مخيّمة، ناهيك عمّا ستتركه من انكماش على الاقتصاد العالمي، والقيود التي ستفرضها على حركة الأشخاص والأنشطة الاقتصادية في الدول الكبرى، فضلاً عن التراجع الخطير في قطاع السياحة العالمي، الأمر الذي يحتاج إلى معالجات وتدابير عاجلة وجريئة وتعاون دولي ضروري وفعّال، ليس لاحتواء الجائحة وإنقاذ أرواح الملايين من البشر، بل لحماية الفئات الأكثر فقراً والأكثر حاجة من الأسر من تأثيرات الدمار الاقتصادي وانعكاساته اللاحقة، من تعصّب وتطرّف وعنف وإرهاب.

وإذا كانت السنوات السابقة مناسبة لمراجعة نقدية لما تحقق وما لم يتحقق في إطار منظومة التشريعات الدولية لحقوق الإنسان ، وخصوصاً حقوق المرأة والطفل وكبار السن وذوي الاحتياجات الخاصة وغيرها، فإن هذا اليوم يمرّ ثقيلاً وحزيناً هذا العام، لاسيّما بمراجعة الملفات الأساسية التي تخصّ دور الأسرة في المجتمع وقضايا الصحة والمساواة الفعلية بين الرجل والمرأة، إضافة إلى التنمية والتكامل والتضامن والتكافل الاجتماعي بين الأجيال، والتوازن في العمل والإدارة والقيادة والأجور، وفي مواجهة سياسات الفقر والإقصاء الاجتماعي والتهميش والهجرة واللجوء، بما يضع مسؤوليات وتحدّيات جديدة أمام المجتمع الدولي، حكومات وهيئات مدنية وقوى سياسية ومراكز أبحاث علمية ومؤسسات دينية، وفي كل دولة أيضاً لتوفير الفرص والإمكانات، بما يعزّز مواجهة الأمراض كالجهل والأمية والأوبئة التي اجتاحت البشرية في السنوات الأخيرة ، وآخرها وباء كورونا.

والاحتفال بيوم الأسرة، ولاسيّما في تنفيذ أهداف التنمية المستدامة 2030، يأتي هذا العام والعديد من بلداننا العربية تستمر في معاناتها الشديدة، حيث تعيش ملايين الأسر العربية أوضاعاً في غاية السوء في ظلّ استمرار النزاعات والحروب الأهلية وأعمال العنف والإرهاب والتداخلات الخارجية من جهة، كما هي سوريا واليمن وليبيا ، فضلاً عن استشراء النعرات الطائفية والمذهبية والدينية والإثنية بسبب نهج التعصّب ووليده التطرّف، كما هي في العراق ولبنان وذلك بسبب نظام المحاصصة  ، كما تستمر معاناة الفلسطينيين بسبب استمرار الاحتلال  "الإسرائيلي" وهدر حقوق الشعب العربي الفلسطيني الجماعية والفردية.

وعموماً تعاني المرأة في منطقتنا بشكل خاص والأسرة بشكل عام من العنف بأشكاله المختلفة، بما فيه العنف الأسري، الذي ارتفعت وتيرته خلال فترة الحجر الصحي، الأمر الذي يتطلّب تغليظ العقوبات التي تعالجها القوانين النافذة أو سن قوانين جديدة لحماية المرأة من العنف الأسري ومن جميع أشكال العنف والتمييز، تلك التي اعتمدها المجتمع الدولي باتفاقية العام 1979.

ولعلّ هذه مناسبة للتذكير بأن القوانين بقدر ما هي انعكاس للواقع، فإنها في الوقت نفسه يمكن أن تلعب دوراً تغييرياً مثلما هو دور رادع في الآن ذاته، لاسيّما إذا صاحبها حملة إعلامية وتثقيفية لرفع درجة الوعي الحقوقي والقانوني، لتعميق التوجهات الإيجابية التي تعلي من شأن المرأة  ومكانة الأسرة، بإشاعة قيم المحبة والسلام والتسامح واحترام الآخر وقبول التنوّع والتعددية وحق الاختلاف والتعبير والحق في الخصوصية والشراكة في الآن، حيث تتميّز  مجتمعاتنا وثقافتنا بحق إنساني متفوّق لا يوجد في اللوائح الدولية وهو " البر بالوالدين" .

 وإذا كانت حقوق الأسرة قد ورد ذكرها في الشرعة الدولية لحقوق الإنسان، وخصوصاً في العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ، فإن الواقع الراهن يعكس الهوة السحيقة بين ما تقرّر وبين التنفيذ، فإن هناك حقوقاً أساسية مثل الحق في الصحة والحق في العمل والحق في التعليم والحق في السكن والحق في الضمان الاجتماعي، ما تزال غائبة أو ناقصة ومبتورة في العديد من البلدان، حيث تعيش ملايين الأسر دون توفير الحدّ الأدنى من هذه الحقوق، التي  لا يمكن تنشئة الجيل الجديد تنشئة سليمة وعقلانية وحرّة بغيابها، وهو ما يضاعف مسؤوليات الحكومات والمجتمعات في تأمينها، ناهيك عن مسؤوليات الدول الأكثر غنًى إزاء البلدان الفقيرة.

وإذا جاء الاحتفال بيوم الأسرة هذا العام حزيناً بسبب اجتياح وباء كورونا فإن ارتفاع ضحايا العنف الأسري الجسدي والمعنوي جعله أكثر حزناً، وهو ما دفع ناشطات في فرنسا لإطلاق حملة قناع 19 تأكيداً للترابط بين كورونا والعنف الأسري.

drhussainshaban21@gmail.com

صحيفة الخليج (الإماراتية)

 

 

 

 

 هيروشيما :

الذاكرة والاستعبار

عبد الحسين شعبان

 

            يوم زرتُ مدينة هيروشيما هتفت من أعماقي: يا الله إنها " مدينة الألم والجمال"، ففي يوم واحد ذهب ضحية تلك الشراسة الساديّة نحو 70 ألف إنسان ومثلهم فيما بعد، على الرغم من وصول الحرب العالمية الثانية (1939-1945) إلى نهاياتها، لكن الرئيس الأمريكي هاري ترومان قرر إلقاء قنبلة ذرية  على هيروشيما ومن بعدها على ناكازاكي اليابانيتين، لتجريب ذلك السلاح الفتّاك واكتشاف تأثيراته التدميرية.

            شعرتُ حينها بمرارة لا حدود لها وأنا أتنقّل مذهولاً في متحف المدينة وأشاهد صوراً وأفلاماً وثائقية وأستمع إلى أصوات الرعب في تلك الفاجعة المجنونة، والتي ما تزال آثارها السلبية قائمة حتى اليوم، ولكن بقدر ما تُعتصر القلوب لمشاهدة وسماع قصص العذاب الفظيع، فإن النفوس تتفتّح حين تبعد قليلاً عن تلك الأجواء الكئيبة والمكفهرّة، لتطالعك أشجار الكرز المورقة، بأزاهيرها المضيئة في الربيع الذي صادف زيارتنا للمدينة، لترى مشاهد آخّاذة حين يتفيأ اليابانيون تحت ظلال تلك الأشجار ويتنشقون رائحتها الزكية، لتزيدهم تأمّلاً وهدوءًا نفسياً فوق ما هم عليه، وهكذا ترى الوجه الآخر لتلك المدينة الفضية الضاحكة العذبة والمتغنّجة، جامعة كل مفاتن الجمال: النور والنظارة والبحيرات والخلجان .

            استعدتُ ذلك بمناسبة مرور75 عاماً على انتهاء الحرب، حيث شهد العالم أهوالاً لا حدود لها راح ضحيتها أكثر من 60 مليون إنسان، وتدمير الممتلكات والمرافق الحيوية والخسائر المادية الهائلة، تلك التي ليس من السهل نسيانها، إذْ لا بدّ أن تبقى في دائرة الضوء، للاستفادة من دروسها وعِبرِها، وهو ما حدا بالجمعية العامة للأمم المتحدة، الإعلان عن أن يومي 8 و9 مايو (أيار) هو يوم للاستعبار، وذلك بالقرار رقم 5922 الذي اتخذته في 26 نوفمبر (تشرين الثاني) 2004، محاولة استخلاص الايجابي من هذا الحدث التاريخي الذي هيّأ لتأسيس الأمم المتحدة، والتي وضعت هدف " حماية السلم والأمن الدوليين" في صدارة أهدافها، مؤكدة في ديباجة ميثاقها إلى : إنقاذ الأجيال المقبلة من الويلات والحروب، مهيبة بالدول الأعضاء أن تأخذ بعضها البعض بالتسامح وأن تبذل الجهود لتسوية نزاعاتها وحلّ خلافاتها بالوسائل السلمية.

            وحين نتوقّف اليوم دولاً وشعوباً ومنظمات للسلم والتضامن وحقوق الإنسان وحتى الأفراد، للاحتفال بهذه الذكرى الأليمة ، فالأمر يتطلّب إعمال التفكير بصورة جماعية بمآلات البشرية ونتائج الحروب لصيانة السلام العالمي وتعزيز التعاون الدولي وتنمية روح المصالحة على المستويات العالمية والإقليمية والوطنية، فضلاً عن تعميق القيم الإنسانية المشتركة والمبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان والحرّيات الأساسية، لاسيّما الاعتراف بالآخر والإقرار بالتنوّع والتعددية وقبول حق الاختلاف.

            ليس القصد من الاحتفال بذكرى الحرب استعادة المشاهد الحربية أو النجاحات التي حققها هذا الجيش أو ذاك أو تمجيد هذا النظام أو ذاك، بل لتعلّم الدرس جيداً، " فحوار سنة أفضل من حرب ساعة"، علماً بأن حروب ونزاعات ما بعد الحرب العالمية الثانية كانت بالمئات وقد جرت بالوكالة وتركت  هي الأخرى آثاراً مؤلمة، لاسيّما في فترة الحرب الباردة (1947-1989) والصراع الآيديولوجي والحرب  الإعلامية والدعائية والنفسية  بين المعسكرين الشيوعي والرأسمالي، والتي استخدمت فيها جميع وسائل القوة الناعمة الأكثر إيلاماً وخبثاً من الحروب الفعلية، وهو ما استمر بعد انهيار الكتلة الاشتراكية مثل الحصارات الدولية واستخدام العقوبات الاقتصادية وخنق بعض المجتمعات من داخلها ، لكي تسقط مثل التفاحة الناضجة بالأحضان، والعقوبات سلاح سبق للولايات المتحدة أن استخدمته ضد البلدان الاشتراكية والعديد من البلدان العربية والعالمثالثية .

            لعلّ في الاستذكار فرصة للتأمّل أيضاً، في الأضرار الفادحة التي حلّت بالبشرية والكوارث اللاحقة التي أعقبتها والتي دفع أكثر من جيل ثمنها باهظاً، فانتشار فايروس كورونا اليوم لا بدّ أن يدفع العالم إلى إعادة حساباته، حيث أصبح الجميع دولاً وشعوباً، أغنياء وفقراء، مؤمنون وغير مؤمنين مستهدفاً، فقد تزهق الروح بأية لحظة، الأمر وضع البشرية كلّها في حالة حزن وذهول وعدم طمأنينة وتحدٍّ، وهو ما يحتاج إلى تعاون دولي على جميع الصُعد ، فبدلاً من الانشغال بتطوير وتصنيع الأسلحة وتخصيص الميزانيات الهائلة لها، ينبغي توجيهها للصحة والتعليم والبحث العلمي وعلوم الفضاء، فضلاً عن الاستفادة المتكافئة للبشر جميعاً من نتائج الثورة الصناعية بطورها الرابع والذكاء الاصطناعي، والعمل على إطفاء الحروب وردم بؤر النزاع، والعمل على تنمية العلاقات بروح الإخاء والتعاون والسلام والتسامح لتوفير الاستقرار والأمن وضمان المصالح المشتركة والمنافع المتبادلة.

            إن ما يجمع البشر هو الكثير الذي علينا تعظيمه ، أما ما يفرّقهم فهو القليل الذي ينبغي تقليصه، لاسيّما لمواجهة العدو المشترك للإنسانية جمعاء وهو الأمراض والأوبئة، والفقر والجهل، هذا الثلاثي المرعب، لكي تنعم البشرية بالعدل والسلام والاستقرار وصولاً إلى إزالة أسباب اندلاع الحروب والنزاعات ووضع حدٍّ للاستغلال واحترام الحقوق والحرّيات، والتوجّه صوب التنمية، وتلكم إحدى أمنيات البشرية على مرّ التاريخ.

باحث ومفكر عربي

صحيفة الخليج (الإماراتية )

 

سولجنيتسين

 وهلسنكي والأيديولوجيا

عبد الحسين شعبان

مفهوم «حقوق الإنسان» أصبح له رنين عالٍ، ومسألة حساسة تحاول كل دولة أو جماعة أن تُظهر مدى الالتزام بها.

ترافق نفي المنشق السوفييتي ألكسندر سولجنيتسين الكاتب والروائي والمسرحي والمؤرخ عام 1974، مع انعقاد مؤتمر هلسنكي للأمن والتعاون الأوروبي عام 1975، خصوصاً باحتدام الجدل حول مفهوم حقوق الإنسان في إطار الصراع المتفاقم بين الشرق الاشتراكي، والغرب الرأسمالي.

وقد استخدم الغرب كل ما لديه من طاقات وإمكانات مادية ومعنوية، في صراعه مع الشرق لإظهار جانبه المظلم، لاسيما ما يتعلق بانتهاكات حقوق الإنسان المدنية والسياسية، وهو كلام حق يُراد به باطل، في ظل حملة دعائية كبرى استخدمت فيها الحرب النفسية والقوة الناعمة، وأساليب التضليل والخداع.

وكان لرواية أرخبيل جولاج دور كبير في تلك الحملة التي كشفت على نحو مثير ومؤلم ما كان يجري في معسكرات الاعتقال والأعمال القسرية للسجناء، وكان سولجنيتسين نفسه قد قضى فيها 8 سنوات، وقد أطلق سراحه إثر خطاب ألقاه الزعيم السوفييتي نيكيتا خروشوف في 1956 ندد فيه بالمجازر التي ارتُكبت في الحقبة الستالينية، علماً بأن سولجنيتسين مُنِح جائزة نوبل للآداب عام 1970.

ويعتبر مؤتمر هلسنكي الذي حضرته 33 دولة أوروبية، إضافة إلى الولايات المتحدة وكندا، محطة مهمة للصراع الأيديولوجي، الذي اكتسب سحراً خاصاً في ما سُمي سياسة الوفاق و«نظرية بناء الجسور» التي عبر عنها الرئيس جونسون بقوله: «إنها جسور ستعبرها بشكل دائم كميات كبيرة من البضائع والأفكار والزائرين والسياح»، فقد أدرك الغرب نقاط ضعف الاتحاد السوفييتي على الرغم من جبروته وقدراته الحربية، بسبب شح الحريات ونظامه الشمولي، وقد سبق لجون بول سارتر أن قال عن الدول الاشتراكية: «إنها قلاع متينة هكذا تبدو من الخارج، لكنها هشة وخاوية من الداخل».

وإذا كان الاختلاف بين الشرق والغرب حول مفهوم حقوق الإنسان ناجماً عن خلفية فلسفية، فإن الغرب نجح في ما وفره من حزمة حقوق مدنية وسياسية في أوطانه، لشن هجوم ضد المنظومة الاشتراكية التي انشغلت بالحقوق الجماعية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، لكنه عزل الكتلة الاشتراكية عن العالم في إطار ما سمي ب«الستار الحديدي»، وهو ما حاول الغرب توظيفه عبر المنشق سولجنيتسين الذي أسهم في تلك الحملة من داخل روسيا ومن خارجها فيما بعد، في ظرف بدأت فيه رقعة الحقوق والحريات تتسع، والمطالبة بها تكبر وتتعاظم، منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، وفي ظل الحرب الباردة والصراع الأيديولوجي الجديد الذي امتد من عام 1947 لغاية 1989.

جدير بالذكر أن مفهوم «حقوق الإنسان» أصبح ذا رنين عالٍ، ومسألة حساسة تحاول كل دولة أو جماعة أن تظهر مدى الالتزام بها، والأمر لا يقتصر على الشرق؛ بل إن الغرب ذاته يعاني انتهاكات صارخة وسافرة للحقوق والحريات، ويمارس أنواعاً مختلفة من وسائل التدخل في حق أمم وشعوب أخرى؛ بل ويحيك المؤامرات ضدها.

وبالعودة إلى مفهوم الحقوق فيمكن القول إنها بدأت تتطور منذ قرنين ونيف من الزمن، وقد لعبت الثورة الفرنسية 1789 دوراً كبيراً في تعزيزه، لاسيما «بإعلان حقوق الإنسان والمواطن» الذي يعتبر وثيقة أساسية لتأكيد الحقوق الفردية والجماعية، وذلك تأثراً بالفكر التنويري ونظريات الحقوق الطبيعية، والعقد الاجتماعي التي جاء بها جون لوك، وجان جاك روسو، وفولتير، ومونتسكيو، وقد نصت المادة 4 من الإعلان أن «كل الناس أحرار، والحرية هي إباحة كل عمل لا يضر أحداً، وبناء عليه، لا حد لحقوق الإنسان الواحد غير حقوق الإنسان الثاني، ووضع هذه الحدود منوط بالقانون دون سواه».

ولكن مفهوم حقوق الإنسان لم يبلغ أوجه إلا بعد نحو قرنين من الزمن، حيث تجلى في إصدار الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1948.

وإذا كان الغرب قد أثار ضجة كبرى بسبب طرد المنشق سولجنيتسين عام 1974، بعد انتقاله للعيش في سويسرا، ثم للولايات المتحدة، فإنه نُسي تماماً بعد انهيار الكتلة الاشتراكية، وعاش في عزلة كبيرة واضطر للعودة إلى موسكو عام 1994، وعلى الرغم من أن الرئيس فلاديمير بوتين منحه جائزة الدولة للغة، فإنه تم إهماله في روسيا أيضاً، حتى إن وفاته عام 2008 لم تُثر أي اهتمام يذكر، لا في الغرب ولا في بلاده، فالصراع لم يعد أيديولوجياً بين موسكو وواشنطن، بقدر ما هو صراع مصالح ونفوذ في إطار منظومة الاستغلال العالمي.

drhussainshaban21@gmail.com

صحيفة الخليج (الإماراتية)

ثقافة وحداثة

عبد الحسين شعبان

 

الثقافة فضاء رحب للتعاطي مع الحقول الأخرى الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والدينية والصحية والنفسية والبيئية وغيرها.

ليس تعالياً على الواقع حين يُقال إن مفهوم الوطن يتأسس على الثقافة، فهي الوعاء الذي يستوعب الهوية ويجسدها على نحو حي وواعٍ بتعبيرها عن الشعور بالانتماء، فحين يولد الإنسان فإن أجواء ثقافية فطرية يتربى فيها، وهذه عصارة تطور تاريخي ولغات وأديان وتقاليد وسلوك وفنون وميثولوجيات، وبالطبع فتلك ليست معطى ساكناً أو سرمدياً؛ بل هي مفتوحة وخاضعة للتغيير، حتى لو بقيت الأصول قائمة، فإن العديد من عناصرها ستتطور وتكون عرضة هي الأخرى لتغييرات جديدة، حذفاً أو إضافة، لاسيما علاقاتها مع الثقافات الأخرى تأصيلاً أو استعارة، تأثراً وتأثيراً، حتى وإن لم تأت دفعة واحدة، لكن عملية تراكم وتطور تدرجي طويل الأمد ستطالها، خصوصاً بالتأثيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية على مستوى كل بلد أو على المستوى العالمي.

في عام 1992 قال الروائي الإسباني انطونيو جالا وفي حفل عشاء في مدريد على شرف مائدة وزيرة الثقافة السورية حينها نجاح العطار، هناك سيدة وخادمتان، أما السيدة فهي «الثقافة» في حين أن الخادمتين هما السياسة والاقتصاد، لكن الخادمتين استطاعتا أن تسرقا مكان «السيدة» وتجلسا محلها، ومهمتنا كمثقفين هي: إعادة السيدة إلى مكانها الطبيعي والخادمتين إلى عملهما الاعتيادي.

هناك من يغالي في هذه النظرة بجعل الثقافة نقيضاً للسياسة والاقتصاد أو عدواً لهما، في حين هناك من يرى أنها بالتوازي معهما يمكن أن تسهم في إعلاء شأن الاقتصاد وتعزيز العلاقات التجارية بين الأمم والشعوب، كما لعبت مثل هذا الدور منذ الحضارات الأولى لوادي الرافدين ووادي النيل والحضارتين الصينية والهندية وما بعدها، وإذا كان الحديث اليوم عن طريق الحرير الجديد «الحزام والطريق» فإنه تأكيد لدور العلاقات الثقافية في تعزيز العلاقات التجارية والسياسية السلمية، والتي بدونها لا يمكن أن تنتعش الثقافة أو التجارة أو السياسة.

وإذا كانت ثمة حساسيات ومنافسات في الكثير من الأحيان بين السلطتين السياسية والعسكرية والسلطة الثقافية، فلأن هذه الأخيرة لها قوة معنوية نافذة، لأنها

تمثل قوة المعرفة، أو «سلطة المعرفة» على حد تعبير الفيلسوف البريطاني فرانسيس بيكون، وإذا ما حظيت هذه السلطة باعتراف المجتمع بما فيها السلطتان السياسية والعسكرية اللتان بحاجة إليها؛ بل لا يمكنهما الاستغناء عنها، مثلما هي سلطة المال والاقتصاد، لأن هذه السلطات ستبدو عارية ودون غطاء مقنع وإنساني، وحين يتحقق مثل هذا التوافق يمكن للثقافة أن تنجز مهمتها الإبداعية مثلما للسلطات الأخرى أن تؤدي وظيفتها على أحسن وجه وبالتكامل.

ولهذه الأسباب سعى الطغاة والمتسلطون للهيمنة على الثقافة وتوظيفها لصالح سياساتهم الأنانية الضيقة، سواء باستخدام المثقفين في تزيين إجراءاتهم وتجميل سلوكهم أو «أدلجة» نهجهم، ناهيك عن حرق البخور لهم وإضفاء

نوع من «القدسية» فوق البشرية عليهم، وكان إدوارد سعيد قد أثار جدلاً كبيراً لم ينقطع بالأساس حول معنى ودور المثقف ووظيفته الإبداعية وذلك في كتابه «صور المثقف».

الثقافة بهذا المعنى مثل الحب؛ بل مثل فعل الحياة لا يمكن تجزئتها أو اقتطاع قسم منها، وهي بكل حقولها علوم وتكنولوجيا وعمران ورواية وقصة وشعر ومقالة ونقد ورسم ونحت ومسرح وسينما وموسيقى وغناء وكل أنواع الكتابة والإبداع، هي فضاء رحب للتعاطي مع الحقول الأخرى الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والدينية والصحية والنفسية والبيئية وغيرها.

لقد شكلت الستينات من القرن الماضي وعياً ثقافياً جديداً وعبّرت عن روح جديدة ولغة جديدة، في المضمون أولاً، ثم في الشكل، مثلما اقترنت التسعينات بحداثة جديدة وغير مشهودة من قبل، خصوصاً بالتخلص من الكثير من الأوهام الإيديولوجية وما ارتبط بها من أنظمة ومؤسسات ويقينيات، في إطار حساسية إنسانية جديدة ورؤية إبداعية مغايرة، بالارتباط مع نتائج الثورة العلمية- التقنية والثورة الصناعية في طورها الرابع، والذكاء الاصطناعي والطفرة الرقمية «الديجيتل» وتكنولوجيا الاتصالات والمواصلات والإعلام.

إذا كان التجديد سمة بشرية للعصور المختلفة، فإن الحداثة هي السمة الأكثر حضوراً لعصرنا الذي شهد لحظات انعطاف «ثورية» تاريخية هائلة وفائقة السرعة على صعيد العلم والتكنولوجيا بتوفر الشروط الداخلية والخارجية، والعوامل الموضوعية والذاتية، في إطار سلسلة من التراكمات والتحولات التي قادت إلى تغييرات نوعية، لأن الحداثة عملية كونية تاريخية مرتبطة بنضوج شروط وعيها وليست بشكلها فحسب، وبالتالي فهي ليست فضيلة أو رذيلة بقدر ما هي استكمال لفهم جديد للعالم وفاء للعصر المتميز الذي نعيش فيه.

يمكن القول إن الثقافة تعني خير الناس، وهي صيرورة حياتنا بكل معنى الكلمة لأنها تمثل عاداتنا وتقاليدنا وأفكارنا وتراثنا وآدابنا وأمزجتنا وسلوكنا وطريقة مأكلنا ومشربنا وملبسنا وعمارتنا وأساطيرنا وتفسير لكل ما نحن عليه.

drhussainshaban21@gmail.com

صحيفة الخليج (الإماراتية)

 

«كورونا» وقلم أينشتاين

عبد الحسين شعبان

استعدت حكاية «قلم أينشتاين» في ظلّ التداعيات الخطرة التي سببّها وباء كورونا «كوفيد 19»؛ وذلك لسببين: الأول، الاستنفار العلمي لاكتشاف لقاح أو دواء للوباء؛ والثاني، ما تردّد لدى أوساط متدينة في مجتمعاتنا من أعمال جهل وخرافات للاستهانة بالوباء، تحت عناوين دينية، لا علاقة لها بالدين من قريب أو بعيد.
يشهد العالم أزمة من أخطر الأزمات الكونية التي عرفتها البشرية، ولاسيّما بعد الحرب العالمية الثانية، وقد شملت جميع مناحي الحياة لدرجة استحالة إيقافها عند حدود أو مطارات أو موانئ أو حواجز برّية أو نهرية أو بحرّية، وكذلك تعذّر إيقافها بجهد خاص لدولة مهما كبُرت أو امتلكت من وسائل، الأمر الذي يتطلب عملاً جماعياً دولياً وتعاوناً علمياً وتكنولوجياً وتفاهماً سياسياً واقتصادياً، وقبل كلّ شيء إرادة حقيقية لوضع حد للجائحة تمهيداً لإيجاد حلول ومعالجات للقضاء عليها.
ويعتبر «كوفيد -19» أشدّ خطراً وأسرع انتشاراً من جميع الأمراض والأوبئة التي سبقته مثل مرض نقص المناعة «الإيدز» وإنفلونزا «الطيور» و«الخنازير» وقبل ذلك «جنون البقر» وغيرها من الأمراض التي اجتاحت البشرية في السنوات الأخيرة، في حين هيمن كورونا على كل شيء في حياتنا وتحوّل إلى هاجس مقلق للجنس البشري بسبب انتقاله المرعب متخطياً سرعة الضوء والصوت بالتعبيرات المجازية وغير المجازية، فمن الصين وطريق الحرير القديم إلى إيران ومنها إلى إيطاليا مروراً بالمنطقة العربية ووصولاً إلى أوروبا إحدى أهم محطاته، ومنها انطلق إلى القارة الأمريكية وأستراليا ونيوزيلندا.
ولعل هنري كيسنجر على حق حين يقول: إن كورونا سيغيّر النظام العالمي، والأمر لا يتعلق بالأضرار الصحية، وهي ليست قليلة ولا يستهان بها، لكن الأضرار التي تتعلق بالاقتصاد ستستمر لأجيال. ومعنى ذلك أن الجميع أصبح في دائرة الاستهداف على نحو عشوائي ومدمّر، وقد يؤدي ذلك إلى ضعضعة أركان بعض الدول العظمى بما فيها الولايات المتحدة، بسبب تداعياته الاقتصادية والمالية والتجارية والصناعية والزراعية والبيئية والقانونية والتربوية والتعليمية والثقافية والدينية وغيرها.
فلم تعد الحدود حاجزاً، فالوباء لا يفرق بين نظام وآخر وبين غني وفقير ومؤمن وغير مؤمن وأسود وأبيض، فبطشه وقسوته تطال الجميع، الأمر الذي يتطلّب تعاوناً دولياً لإطلاق مشاريع تتجاوز الإيديولوجيات والأديان والقوميات، وتأخذ مصالح البشر، شعوباً وأفراداً بنظر الاعتبار، لأن ليس بإمكان دولة مهما عظمت أن تتقي شرور الوباء بحكم كون العالم «قرية صغيرة» متواصلة ومتّصلة لدرجة التشابك.
وهكذا يصبح التعاون الدولي في المجالات كافة «فرض عين وليس فرض كفاية»؛ بل ضرورة من ضرورات مرحلة ما بعد كورونا، بتجاوز جميع أنواع الانغلاق والتعصّب والتطرّف والكراهية للآخر، لأن تعزيز القدرة العالمية على المواجهة تعني رفع درجة القدرة على الوقاية أولاً، ثم المعالجة، وأخيراً الرعاية والحماية اللّاحقة.
ويتطلّب ذلك تطوير مناهج البحث العلمي للأغراض السلمية والتخلّي عن الميزانيات الضخمة المخصصة للتصنيع العسكري والأغراض الحربية، وتوجيهها للصحة والتنمية والتعليم والبيئة وعلوم الفضاء وكل ما له علاقة بتحسين حياة الناس ورفاههم وضمان حد أدنى من العدالة الاجتماعية، على صعيد كل بلد وعلى صعيد نظام العلاقات الدولية، بما فيه نظام إدارة المجتمع الدولي وتطوير الأمم المتحدة والمنظمات التابعة لها.
وكشفت الأزمة هشاشة العديد من الأنظمة السياسية التي لم تُولِ اهتماماً كافياً بالإنسان وحقوقه بما فيها «الحق في الصحة» الذي هو حق أساس بغض النظر عن الفوارق الطبقية والتفاوت الاجتماعي، مثلما أظهرت أهمية وضرورة «التدخل الإيجابي» للدولة ومساهماتها في تأمين الرعاية الصحية والضمان الصحي للجميع، حتى إن أنظمة تعاني شحّ الحريات كانت أكثر جاهزية وانضباطاً وقدرة على مواجهة الأزمة، بل إن بعضها أرسل دعماً لدول أكثر تقدماً، وتلك إحدى المفارقات التي أكدت أهمية التعاون الدولي لحماية الإنسان لأنه «مقياس كل شيء» على حد تعبير الفيلسوف الإغريقي بروتوجوراس.
وبالعودة إلى قلم أينشتاين، فقد أهداه إلى أحد تلامذته النابغين وأصبح هذا رئيساً لجامعة بغداد (1958-1963) وظلّ يحتفظ بالقلم الثمين الذي خصّصه للتوقيع على شهادات الخريجين، لكنه فقده يوم اعتقل وأهين إثر انقلاب دموي (8 فبراير/‏شباط 1963)، واضطرّ بعدها إلى الهجرة إلى الولايات المتحدة ليتوفى فيها العام 1969، إنه عبدالجبار عبد الله عالم الفيزياء النووية.
ما أحوجنا إلى قلم أينشتاين، بمعنى إلى العلم وإعلاء شأن العلماء لتحقيق مستلزمات النهضة في مواجهة المرض والجهل والتخلف، ففي ذلك يكمن سرّ الجواب على سؤال شكيب أرسلان (مفكر لبناني) «لما تأخر المسلمون وتقدّم غيرهم؟».

drshaban21@hotmail.com

صحيفة الخليج (الإماراتية)

 

من دفتر الاختفاء القسري

 

عبد الحسين شعبان

 

قلّة من الذين اختفوا قسرياً عُرف مصيرهم، فقد ظلّ المرتكبون حريصين على إخفاء كل أثر لهم.

إن خبر اختفاء الناشر والإعلامي مازن لطيف، صاحب دار ميزوبوتيميا، والإعلامي والكاتب توفيق التميمي في بغداد، يعيد إلى الأذهان ملف الاختفاء القسري الذي ظل يتضخم باستمرار، حيث يعاني 88 بلداً منه، وامتد خلال العقود الأربعة الماضية إلى معظم القارات والبلدان، منها العراق ولبنان وسوريا وليبيا والجزائر والمغرب وإيران وتشيلي والأرجنتين والعديد من دول أمريكا اللاتينية وبعض دول آسيا وإفريقيا، ولم تسلم منه بلدان متقدمة مثل فرنسا، ولعل جيلي يتذكر حادث الاختفاء القسري للمهدي بن بركة من مقهى ليب في باريس.

وأستطيع القول: إن قلّة من الذين اختفوا قسرياً عُرف مصيرهم، فقد ظلّ المرتكبون حريصين على إخفاء كل أثر لهم، وباستعادة أسماء لامعة اختفت قسرياً منذ سنوات طويلة نذكر المهدي بن بركة 1965، موسى الصدر 1978، صفاء الحافظ وصباح الدرة وعايدة ياسين 1980، عزيز السيد جاسم 1991، عز الدين بحر العلوم وعدد من عائلته وعائلة آل الحكيم 1991، شبلي العيسمي 2011، والاستثناء في ذلك هو معرفة مصير منصور الكيخيا الذي اختفى منذ عام 1993 في القاهرة، حين كنّا في اجتماع للمنظمة العربية لحقوق الإنسان، ومنها نُقل إلى طرابلس بصورة سرّية حسبما انكشفت القصة لاحقاً، ومكث في معتقل سرّي لغاية عام 1997 وتوفي بعدها.

الكيخيا لم يُدفن حينها، وإنما استبقي في ثلاجة (برّاد) لغاية عام 2011، وكُشفت ملابسات اختفائه بعد أن أدلى عبدالله السنوسي مدير المخابرات السابق باعترافاته. وقامت الدولة - الثورة بتكريمه في حفل مهيب (ديسمبر / كانون الأول عام 2012)، ووجه حينها رئيس الوزراء علي زيدان ورئيس المؤتمر الوطني محمد المقريف دعوة إلى كاتب السطور لحضور الاحتفال الرسمي الذي أقيم تكريماً له، وسبق لي أن أصدرت كتاباً عنه (1998)، بعنوان «الاختفاء القسري في القانون الدولي - الكيخيا نموذجاً».

وفي كل عام بين ديسمبر / كانون الأول وشباط / فبراير، وما بعده أستعيد ظاهرة الاختفاء القسري وملابسات العديد من الحالات التي اشتغلت عليها، من زاوية حقوقية وفلسفية واجتماعية وأخلاقية وقانونية، فالمرتكبون في السابق والحاضر يراهنون على النسيان وذبول الذاكرة، ولا سيما بمرور الزمن، فتضعف المطالبة بتبيين مصير المختفين قسرياً، وتتلاشى القضية تدريجياً، بل ويصبح الأمر مجرد ذكرى، ولهذا فهم يعمدون على التعتيم، ويثيرون غباراً من الشك لإبعاد الموضوع عن دائرة الضوء وإبقائه في دائرة الظلّ، ولعلهم يأملون أن تتآكل القضية مع مرور الأيام، وذلك في إطار دورة الزمن وازدحام الأحداث.

وكنتُ أتساءل مع نفسي عند كل حالة اختفاء قسري، لماذا تمارس سلطة رسمية أو جهات تابعة لها أو بمعرفتها مهمات أبعد ما تكون عن وظائف الدولة، وكأنها أقرب إلى مهمات «عصابة»، فتخفي أثر مواطنة أو مواطن أعزل، وتضيّع سبل الاهتداء إليه، أو الاستدلال على مكانه، ومن ثم معرفة مصيره، وبإمكانها إلقاء القبض عليه، وتقديمه إلى القضاء إذا كان «متهماً» بارتكاب «جريمة» ما، أو اقترف مخالفة ما، عوضاً عن إخفائه قسرياً في جنح الظلام، علماً بأنه لا يملك إلا الامتثال للإجراءات القانونية.

ويسأل الرأي العام: لماذا تستبدل الدولة بوظيفتها، وهي حفظ وتنظيم حياة الناس وضمان أمنهم وممتلكاتهم وتطبيق النظام العام، وظيفة جماعة خارجة على القانون، في حين أن مسؤولياتها تأمين التطبيق السليم للقانون على الجميع؟ وهل تستطيع الدولة أن تتذرع بعدم معرفتها؟ وهل بإمكان المسؤولين فيها إعفاء أنفسهم من المساءلة؟ وأين هي التحقيقات اللازمة؟ فتلك أسئلة برسم الدولة والقانون والقضاء.

إن ارتكاب جريمة «الاختفاء القسري» تعني انتهاك قواعد الشرعة الدولية لحقوق الإنسان في أكثر من محور، سواء لحقوقه الفردية أو لحقوقه الجماعية المنصوص عليها في الاتفاقيات والمعاهدات الدولية، ويمكننا مقاربة ذلك من خلال:

1- حق الحياة والحرية والأمان الشخصي.

2- الحق في ظروف احتجاز إنسانية، أي عدم التعرّض للتعذيب أو المعاملة القاسية أو الحاطّة من الكرامة.

3- الحق في الاعتراف بالإنسان شخصية قانونية، فالاختفاء القسري يحجب عن الإنسان الحق في إعلان شخصيته، لأنه مجهول المصير والمكان.

4- الحق في محاكمة عادلة.

5- الحق في حياة أسرية طبيعية.

وكانت الأمم المتحدة قد أولت قضية الاختفاء القسري اهتماماً متزايداً، ففي عام 1979 أصدرت قراراً بعنوان «الأشخاص المختفون» وفي عام 1980 أنشئ الفريق العامل المعني بمتابعة حالات الاختفاء القسري، وفي عام 1992 أصدرت إعلاناً أطلقت عليه «إعلان بشأن حماية الأشخاص من الاختفاء القسري أو غير الطوعي»، معتبرة ذلك جريمة مستمرة باستمرار مرتكبيها في التكتم على مصير الضحايا، وهي جريمة ضد الإنسانية لا تسقط بالتقادم، ولا يستفيد مرتكبوها من أي قانون عفو خاص. واعتمدت اتفاقية دولية في عام 2006 نصت على منع الجريمة والتحقيق في معاقبتها تماشياً مع قرارها رقم 39 الصادر في عام 1994، والذي عبّرت فيه عن قلق المجتمع الدولي إزاء استمرار هذه الظاهرة.

 

صحيفة الخليج (الإماراتية)

 

 

اليوم العالمي لمعرفة الحقيقة

 

عبد الحسين شعبان

 

أحقاً هناك يوم عالمي لمعرفة الحقيقة؟ ولماذا لا تكون جميع أيام السنة مناسبة لإجلاء الحقيقة وكشفها وليس يوماً واحداً يتم الاحتفال به؟ ولعل ذلك ما أرادت الجمعية العامة للأمم المتحدة قوله حين قرّرت في 21 ديسمبر/كانون الأول عام 2010 الاحتفال بيوم 24 مارس/آذار؛ باعتباره يوماً عالمياً لمعرفة الحقيقة.
والاحتفال بهذا اليوم يعني ثبوت «شرعية» الحق كجزء أصيل من منظومة حقوق الإنسان التي كفلها القانون الدولي المعاصر والقانون الإنساني الدولي، بمعنى أنها مكفولة وقت السلم ووقت الحرب، لاسيّما وأن الضحايا أو ذويهم، فضلاً عن الرأي العام التوّاق لمعرفة الحقيقة، ظلّوا يفتشون عن المعلومات التي استمرّت في رحم الغيب، خصوصاً حين لا يتم توثيقها وكشفها، وتنهمر الأسئلة: ما الذي حصل؟ ولماذا؟ وكيف؟ وأين؟ ومتى؟ وهي أسئلة تتعلق بانتهاكات سافرة، وتجاوزات صارخة لحقوق الإنسان، فهناك ضحايا أُعدموا من دون محاكمة، وآخرون عذبوا أو سجنوا أو احتجزوا أو اختفوا قسرياً، فكيف السبيل إلى إحقاق الحق وتطبيق العدالة؛ كي لا يفلت الجناة أو المرتكبون من العقاب؟
والسؤال يجرّ إلى أسئلة أخرى، فمن هم الفاعلون؟ ومن أصدر الأوامر؟ وما الظروف؟ وكيف وأين ومتى حصلت الانتهاكات؟ علماً بأن مثل هذه الجرائم لا تسقط بالتقادم، ويبقى حق الضحايا أو أسرهم غير قابل للتصرّف، مثلما يصبح الحق في معرفة الحقيقة «حقاً مستقلاً» يضاف إلى الحقوق الأساسية للإنسان، وهو يرتبط بأحد أهم الواجبات الأساسية للدولة، ونعني به «حماية أرواح الناس وممتلكاتهم»، وضمان أمنهم وسلامتهم وحقوقهم بغض النظر عن دينهم وقوميتهم ولغتهم وجنسهم ولونهم وانحدارهم الاجتماعي، الأمر الذي يستوجب من الدولة إجراء تحقيقات فاعلة؛ لضمان تطبيق العدالة، وإنصاف الضحايا، وتعويضهم، وكشف الحقيقة كاملة.
ويزداد موضوع الحق في معرفة الحقيقة في فترات «العدالة الانتقالية»، خصوصاً حين تنهار سلطة القانون، ولاسيّما في فترات الحروب والنزاعات الأهلية أو عند التحوّل من نظام دكتاتوري واستبدادي تسلطي إلى نظام آخر يسعى إلى التوجه للديمقراطية، أو حين يحصل انتقال من سلطة محتل إلى سلطة وطنية جديدة، وكل هذه الأمور تحتاج إلى فترة انتقالية وهي فترة تمرّ بها البلاد متحوّلة من شرعية قديمة انتهى مفعولها إلى شرعية جديدة لم تستكمل قوامها.
وحين نقول كشف الحقيقة، فالمقصود تحديد الجهة المسؤولة لمساءلتها، ويفترض أن يكون ذلك دون انتقام أو كراهية أو كيدية؛ لكي لا يتم خلق ردود فعل حادة ضد التوجهات الجديدة، وينبغي أخذ كل ذلك بسياقه التاريخي، وبروح التسامح والبناء؛ كي يتم جبر الضرر؛ وإحياء الذاكرة لتبقى يقظة ولا يذهبها النسيان، لاسيّما بإطلاق أسماء ساحات ومدارس ومكتبات وشوارع وأماكن عامة، ووضع نصب وتماثيل للضحايا؛ ليستمروا في ذاكرة الناس، مثلما يفترض تعويضهم أو تعويض أسرهم مادياً ومعنوياً، والهدف هو إصلاح النظام القانوني والقضائي والأمني؛ لكي لا يتكرر ما حصل وصولاً لتحقيق المصالحة المجتمعية.
لقد تم اختيار اليوم العالمي لمعرفة الحقيقة (24 مارس/آذار)؛ لمصادفته يوم اغتيال رئيس الأساقفة أوسكار آورنولفو روميرو من السلفادور في عام 1980؛ بعد إدانته لانتهاكات حقوق الإنسان، وكتابته رسائل عدة يستنكر فيها هذه الانتهاكات التي تعرّض لها الفقراء والفئات الفلاحية الأشد ضعفاً في المجتمع، وكان اغتياله بداية حرب أهلية استمرت 12 عاماً قتل فيها 75 ألف إنسان.
لقد توسعت وتنوعت وتشعبت الحقوق الإنسانية، ولم تعد تتعلق بالحقوق المدنية والسياسية فحسب، فتلك كانت تمثل الجيل الأول من الحقوق التي جرى التعبير عنها في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في 10 ديسمبر/كانون الأول 1948، واتخذت بعداً جديداً بإقرار العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في عام 1966، وكان هذا التطور يعبّر عن الجيل الثاني.
أما جيل الحقوق الثالث فكان من الثمانينات حين تقرر: «الحق في التنمية» باعتباره حقاً جماعياً وفردياً، وكذلك «الحق في السلام» و«الحق في بيئة نظيفة» و«الحق في الاستفادة من منجزات الثورة العلمية - التقنية» وكان هذا الجيل الثالث.
أما الجيل الرابع، فإنه يتعلق بالحق في التنوّع والتعددية والهوية والحق في معرفة الحقيقة كاملة، بما فيها الاطلاع على المحفوظات والسجلات، ومعرفة أسباب وظروف الانتهاكات التي حصلت في السابق؛ وذلك يعد أمراً لا غنى عنه؛ للوصول إلى العدالة؛ وإنصافاً للضحايا.
وبخصوص معرفة الحقيقة في قضايا «الاختفاء القسري» فقد تابعتُ منذ أربعة عقود من الزمان حالات عدد من الشخصيات المعروفة بينها رجل السلم صفاء الحافظ، وعالم الاقتصاد صباح الدرّة، والقائدة النسائية عايدة ياسين، والمفكّر والكاتب عزيز السيد جاسم، والقائد الكردي دارا توفيق، ورجل الدين اللبناني موسى الصدر، والدبلوماسي الليبي منصور الكيخيا، والسياسي السوري شبلي العيسمي، وكان هذا الملف يتضخّم وشمل مؤخّراً الإعلاميين توفيق التميمي ومازن لطيف.
فهل ستنجلي الحقيقة؟ ومتى؟ .

drhussainshaban21@gmail.com

(الخليج) الاماراتية

هل «الوطنية»

من إرث الحرب الباردة؟


عبد الحسين شعبان

في حركة الاحتجاج العربية بطورها الثاني في الجزائر والعراق ولبنان والسودان برز صراع خفي ومعلن بين مجموعتين كلاهما يتشبّث بالوطنية، وهو امتداد لصراع قديم في الخمسينات والستينات من القرن الماضي. وبغض النظر عن الاتهامات المتبادلة بالولاء الإقليمي أو الدولي، فالوطنية ستكون ناقصة ومبتورة، بل مشوّهة إذا كانت بلا حرّيات ولا حقوق، وكذلك إذا كانت تتحرّك تلبية لمصالح إقليمية أو دولية أو توظف بعيداً عن المصالح العليا للبلاد.
لقد كان صراع «الوطنية» عنواناً حاداً أيام الحرب الباردة، حين كانت الحكومات والمعارضات تتأرجح أحياناً بين معسكرين متناحرين يحاول أحدهما إلغاء الآخر، فاليساري لا يجد ضيراً في ولائه الأممي، والناصري والبعثي يجدان في ولائهما «القومي» الأساس في هوّيتهما العربيّة، في حين يتشكل ولاء الإسلامي بالانتماء إلى «الأمة الإسلامية»؛ وهكذا تكون الأممية والقومية والإسلامية عابرة للحدود الوطنية وأحياناً بتعارض مع المعيار الوطني.
إن صراع الماضي يستجد حاضراً بأشكال مختلفة، فأصحاب الولاء الإقليمي يتهمون أصحاب الولاء «الدولي»، ويغمزون التحرك للمطالبة بالحقوق والحريات باعتباره استجابة لإشارة أجنبية، والعكس الصحيح أيضاً، حين يصبح الولاء الدولي «مبرّراً» والولاء الإقليمي اتهاماً، ولعلّ مثل هذه النظرة الإسقاطية هي امتداد لإرث الحرب الباردة، فما قيمة الوطنية دون حقوق وحريّات؟ وما قيمة الحقوق والحريات حين يكون الوطن مرتهناً للأجنبي؟
وتتوزع الاتهامات بين من يحاول التقليل من قيمة الحقوق والحريات بزعم التهديد الخارجي، ولا يعني ذلك سوى الاستكانة والرضوخ والقبول بحكم الاستبداد، كما إن الاستهانة بضغط الخارج ومحاولات إملاء الإرادة والاستسلام، إنما تعرّض البلاد والحرّيات والحقوق ذاتها إلى مخاطر تتعلّق بالوجود، فهناك ترابط وثيق ومحكم بين الحقوق والحريات الذي بهما يمكن مجابهة التحدّي الخارجي وحماية الاستقلال وتحقيق التنمية المستدامة، إذْ إنّ شحّ الحقوق والحريّات يؤدي إلى إضعاف إمكانية المقاومة والتصدي للخطر الخارجي أياً كان مصدره إقليمياً أم دولياً، وتلك معادلة أثبتت التجارب التاريخية أهمية الحفاظ على توازنها ودقتها، وأي اختلال في موازينها يؤدي إلى اختلال في معيار الوطنية ذاتها.
وعلى الرغم من مضي أكثر من ثلاثة عقود على انتهاء الحرب الباردة والصراع الإيديولوجي بين الشرق والغرب إلّا أن الكثير من بقاياهما ما يزال يهيمن على المشهد السياسي الراهن وإن اتخذ أبعاداً جديدة، في حين أن الدرس الأول في الوطنية يعلّم أن لا إفراط ولا تفريط، ولا بدّ من مراعاة المصالح العليا في إطار التطور الكوني، وشرط ذلك الحقوق والحرّيات، فالعالم العربي ليس جزيرة معزولة، وإنما هو أرخبيل مفتوح على كل الاتجاهات، ولابدّ أن يتفاعل مع العالم والإقليم في إطار من التوازن وحماية المصالح وتبادل المنافع.
استعدتُ ذلك في براغ حين إلقائي محاضرة بدعوة من النادي الثقافي العراقي ارتباطاً بالتطورات التي يشهدها العالم العربي، فقد ظل الاعتقاد السائد أن مجتمعاتنا أصيبت بالشيخوخة والسبات العميق، وأن الروح الوطنية فيها خبت أو انطفأت، وأن الأنظمة الشمولية التي تحكّمت بمصائرها تمكّنت من تدجينها، وإذا بها تفاجئ الجميع، حين خرج المارد من القمقم، بشعارات بسيطة لكنها عميقة: «نريد وطناً» وحرّية وكرامة وعدالة، وتلك كانت شعارات الموجة الثانية للتغيير على المستوى العالمي التي شهدتها أوروبا الشرقية في أواخر الثمانينات من القرن الماضي.
وكانت الموجة الأولى قد بدأت بالتحوّل الديمقراطي في أوروبا الغربية، حيث شهدت السبعينات الانعطاف نحو الديمقراطية في اليونان بعد الإطاحة بحكم الجنرالات وفي البرتغال بإسقاط دكتاتورية سالازار وفي إسبانيا بعد وفاة فرانكو.
ولم يكن لحركة التغيير العربية في طورها الأول الذي بدأ في تونس ومصر وامتدّ إلى عدد من البلدان العربية (2011)، رمز قيادي أو زعيم مخلد أو قائد ملهم وفوق حدود النقد، مثلما لم يكن لها نصوص مقدسة، ولم تقم على يقينيات أو سلفيات أو وعود، فقد كانت عابرة للإيديولوجيات والاصطفافات القومية والدينية والطائفية، وتجاوزت الأحزاب الكلاسيكية ولغتها الخشبية، من خلال فعل ثوري وطني جديد ونمط مختلف من التفكير والممارسة، لاسيّما بتعمّق الوعي الثقافي والإصرار على سلمية حركتها، وهكذا بدأت تنمو في جوف المجتمع اتجاهات جديدة ترفض الوصاية والأبوية والانصياع الإيديولوجي والتاريخي بعناوينه المختلفة، فقد كان يكفي شرارة واحدة ليندلع اللهب في السهل كلّه حسب ماوتسي تونج.
ودون تفاؤل مفرط أو تشاؤم محبط، بتضخيم الذاتي على الموضوعي أو بالعكس، فإن ثمة أوضاعاً استثنائية تحتاج إلى معالجات استثنائية، وتلك تتطلّب قراءة ونقداً للواقع، لاسيّما بعد فشل المشاريع الكبرى الاشتراكية والقومية والإسلامية، وذلك من خلال توجّه وطني ذي هويّة جامعة.

drhussainshaban21@gmail.com

صحيفة الخليج (الاماراتية)

 

 

 

 

 

الرئيسية || من نحن || الاذاعة الكندية || الصحافة الكندية || اتصل بنا