لحظة الانفجار باتت وشيكة…
والعرب أول ضحايا سياسة
الاضطهاد الإسرائيلية
جواد بولس
يشعر كل
مواطن عربي في إسرائيل بارتفاع حاد في حدة التوتر القائم بين المجتمعين
وبأن لحظة الانفجار باتت وشيكة، رغم درجة المسؤولية العالية التي
رافقت، طيلة الأسابيع الفائتة، ردود فعل المواطنين العرب وقياداتهم
وجميع مؤسساتهم الاجتماعية والسياسية، حيث اختاروا طريق الانضباط
الطوعي وتحييد تأثير عواطفهم عن تداعيات الأحداث المأساوية الجارية.
لا أعتقد أن المجتمع العربي في إسرائيل منشغل، كما كان يجب أن يكون، في
قضية ماذا يمكن أن يحصل لنا في هذه المرحلة، والأخطر من هذه «الغفوة»
حالة التنكر لما سنواجهه مباشرة بعد انتهاء هذه المرحلة/الحرب، وخروج
الجيوش من غزة ومن سكرتها، وعودتها إلى إسرائيل الكسيرة، وإلى واقعها
الحقيقي، الذي ستشكل معالمه الجديدة أصداء وتذبذبات صدمة السابع من
أكتوبر، وما سببته من انهيارات فيما كان يعدّ تابوهات حصينة داخل
إسرائيل العظمى.
لقد لفت انتباهي استطلاع جديد نشره معهد «اكورد» الإسرائيلي قبل يومين،
كنت أتمنى لو تقرأ قياداتنا خلاصاته وتستعين بما جاء فيه من معطيات
ونتائج. فمع كل الحذر الذي يجب أن نتوخاه عندما نقرأ مضامين أبحاث
واستطلاعات رأي تجريها المعاهد الإسرائيلية، لاسيما في هذه الأوقات
الدقيقة والحساسة، سنجده معدا بمهنية واضحة وبالموضوعية المطلوبة ويعكس
واقعا نعيشه، ويشعر بعضنا بخطورته التي يؤكدها البحث بأدوات مهنية.
وللتوضيح، فمعهد «اكورد»، هو مؤسسة اجتماعية – أكاديمية تعمل في كنف
«الجامعة العبرية» عكفت، في السنوات الأخيرة، على إجراء عدد من
الاستطلاعات، التي مكنت طواقمه من مقارنة المعطيات الواردة، ومن رصد
التغيرات الحاصلة داخل المجتمعات المختلفة في إسرائيل. وقد توصل
الباحثون في استطلاعهم الأخير إلى أن «نسبة دعم اليهود لاستعمال العنف
ضد العرب، ارتفعت بدرجة حادة جدا بعد السابع من أكتوبر»، وكذلك
استنتجوا أن «الصدمة الجماعية التي أصابت المواطنين اليهود ستبقى
بمثابة العامل الأساسي في هندسة شكل العلاقات بين المجموعتين لسنين
عديدة». ووفقا لنتائج الاستطلاع فإن 90% من مواطني إسرائيل اليهود
يتوقعون أن المواجهات العنيفة، كالتي حصلت في شهر مايو عام 2021، أو
أشد منها، سوف تنفجر قريبا داخل الدولة، بينما توقع ذلك 70% من
المواطنين العرب الذين استُطلعت آراؤهم. كما أكد الاستطلاع، أن منسوب
الكراهية بين اليهود تجاه العرب، يزداد بشكل مطرد ومقلق، «وأن مشاعر
الخوف الحقيقي، الجمعي والشخصي، تفاقمت داخل المجتمعين، وهي مشاعر
تغذيها صدمات الماضي، الكارثة والنكبة». كما حذر معدو الاستطلاع من أن
المجتمع اليهودي في إسرائيل يشعر بأنه يمتلك «تصريحا أخلاقيا» قد يجيز
لهم قريبا في حالة وجود ما سموه «مواجهة الشر المطلق» إلى عدم التقيد
بأي حدود أخلاقية، لاسيما بعد «أن تبنى المجتمعان في إسرائيل حالة
الضحية، وصار الانزلاق بعدها نحو العنف سهلا». إنها رؤية آخروية مقلقة
للغاية. لم نكن، نحن المواطنين العرب، ربما بحاجة إلى مثل هذا
الاستطلاع كي نتعرف على حقيقة واقعنا، فيكفي لو استحضرنا موجات
الملاحقات، التي طالت في الأسابيع المنصرمة العشرات من الموظفين
والعمال والطلاب العرب بحجج واهية؛ ولكن، هكذا يبدو، كانت تلك البدايات
وحسب، وسوف يكون الآتي أعظم وأخطر وأعنف.
سوف نبقى،
نحن المواطنين العرب، كما كنا، أول ضحايا سياسة الانتقام والاضطهاد
الإسرائيلية، لكننا لن نكون الوحيدين؛ فقد رأينا خلال الشهر الفائت كيف
لاحقت قوات الأمن الإسرائيلية عددا من اليهود معارضي سياسة الحكومة.
لقد برزت من بين هذه الملاحقات حادثة اعتقال أستاذ التاريخ الدكتور
مئير بروخين، المعارض للاحتلال الإسرائيلي وللحرب على غزة. فبعد
اعتقاله وجهت إليه تهمة تفيد بأنه «كشف عن قراره بالخيانة»، وتعد هذه
مخالفة جنائية تصل عقوبتها إلى عشرة أعوام بالسجن الفعلي. لقد أبقت
الشرطة الدكتور بروخين رهن الاعتقال مدة خمسة أيام، ثم أفرجت المحكمة
عنه بعدها بشروط مقيدة، من دون تقديم لائحة اتهام بحقه. وخصصت صحيفة
«هآرتس» العبرية افتتاحيتها عن قضيته يوم الثلاثاء الفائت فجاء فيها
أنه: «لا يجوز أن نخطئ. لقد استعمل بروخين أداة سياسية لنقل رسالة
سياسية. إن دافع اعتقاله كان الردع وإسكات كل انتقاد أو حركة احتجاج ضد
السياسة الإسرائيلية. لقد دفع بروخين ثمنا شخصيا: فصله من وظيفة
التدريس وخمسة أيام في السجن، دون أن يكون لذلك أي مبرر». لقد تزامنت
قضية اعتقال الدكتور بروخين مع اعتقال دكتورة علم الآثار يعيل عبادي
رييس بتهمة «تشويه ممتلكات» عن طريق رشها الأصباغ على بوابة وسور عضو
الكنيست شالوم دنينو في مدينة عومر بالنقب، وكتابتها الرقم 1400 في
إشارة إلى عدد الضحايا الإسرائيليين الذين سقطوا في السابع من أكتوبر.
أخضعت الدكتورة يعيل إلى التحقيق والترهيب سئلت خلاله عن ميولها
السياسية ولمن صوتت في الانتخابات الأخيرة، ثم أفرج عنها بشروط مقيدة،
اشتملت على إبقائها رهن الاعتقال المنزلي. لن استعرض في هذه العجالة
تفاصيل ملاحقات المواطنين العرب، التي تفوق بكثير حالات ملاحقة
المواطنين اليهود، لكن تناولي للمشهد بشقيه، العربي واليهودي، يعكس ما
كنا نعرفه قبل أكتوبر، وهو أننا كمواطنين فلسطينيين سوف نبقى عنوان
سياسة اضطهاد الفاشية والكراهية العرقية الأول؛ لكن بعض اليهود
سيجتمعون معنا في الزنازين نفسها. وقد نلحظ ذلك فيما أشار اليه
الباحثون في معهد «اكورد» على أن تاريخ السابع من اكتوبر هو «حدث مؤسس
مع قوة تأثير نفسي كبيرة جدا»، وأضافوا: «أن السردية المتشكلة في هذا
الوقت حيال نسيج العلاقات بين اليهود والعرب داخل المجتمع الإسرائيلي
قد تأخذنا إلى اتجاهين مختلفين: مواجهة داخلية شاملة أو بناء رواية
جديدة مع أمل». فكيف سنجد الطريق إلى ذلك الأمل؟ بعض الجواب قد نجده في
تجربتنا السياسية وبعضه في الاستطلاع المذكور؛ فبعد السابع من أكتوبر
بدأوا في معهد «اكورد»، بفحص سلم العوامل التي من شأنها أن تؤدي إلى
خفض دوافع اليهود في تعميم مشاعرهم العدائية تجاه كل العرب، ووجدوا أن
العمل اليهودي العربي المشترك هو من أهم تلك العوامل.
لا أعرف في هذا الزمن المجنون كيف يمكن أن ننجح في بناء مثل هذه
الشراكة! ربما قد نهتدي إليها بداية في مواقف أقارب بعض الضحايا الذين
سقطوا في اعتداء السابع من أكتوبر الدموي، فمن المعروف أن بعض هؤلاء
كانوا ناشطين من أجل السلام وضد الاحتلال، وروت قصص بعضهم الصحافية
شاني ليطمان في جريدة «هآرتس» (يوم 26/10 ثم مترجمة للعربية يوم 12/11)
تحت عنوان «كثيرون أخطأوا، نحن لم نخطئ». تروي الصحافية قصة يعقوبي
وبيلها ينون اللذين قتلا بعد أن قصف بيتهم في كيبوتس «نتيف هعسرة»
بصاروخ أدى إلى احتراق البيت وإحراقهما داخله، لقد أجاب ابنهما معوز
ينون عندما سئل إذا لم يكن غاضبا، وإذا لا يريد معاقبة الذين فعلوا هذا
الأمر قائلا: «أنا أفهم الغضب والإحباط، وأفهم الرغبة في الانتقام،
لكنني أرى أيضا إلى أين أوصلنا هذا الانتقام خلال المئة سنه الأخيرة.
لو جلس هنا الآن مسلح حماس الذي اطلق الصاروخ على منزل والديّ لتحدثت
معه. كنت أود أن افهم، كنت أريد أن يراني أبكي». فرغم مصيبته كان معوز
الثاكل مقتنعا على أن الحديث مع العدو أجدى من الرصاص، وأن الدموع هي
مطر المستقبل الآمن. أما نيطع هايمن الناشطة في «حركة نساء يصنعن
السلام» وهي من كيبوتس نير عوز، فأجابت، بعد اختطاف والدتها إلى غزة،
وسؤالها إذا كانت تشعر بأنها وناشطين آخرين قد اخطأوا بشأن سكان غزة «
كلا كلا على الإطلاق. لقد أخطأ من اعتقد أنهم لا يستحقون الحياة
الكريمة، وبأنه يمكننا مواصلة السيطرة على شعب آخر كل هذه السنوات
العديدة، دون أن يرتد هذا إلى نحورنا. أشخاص كثيرون أخطأوا نحن لم
نخطئ، لو أصغوا لنساء يصنعن السلام عندما صرخن أنه حان الوقت لوضع حد
نهائي لهذه المعاناة، وأن الأمر ممكن، لما وصلنا إلى هذا الوضع الذي
تجلس فيه والدتي الآن لدى اشخاص هم من الوحوش! لا من بني البشر». هاتان
عينتان من تقرير كبير.
أعرف أن أمثال هؤلاء هم قلة في المجتمع اليهودي، لكنني أعرف أيضا أننا
معهم سنكون أقوى في وجه من يريدون إحراقنا؛ فنحن في زمن لن ينقذنا فيه
«أشقاؤنا» العرب ولن يشفع لنا لا غرب ولا شرق. فمع هؤلاء قد نجد الحل؛
ومن لديه حل آخر فلينطق به الآن، في زمن الخوف. خوفنا اليوم هو حالة
إنسانية طبيعية لكنه إذا طال لن يوصلنا إلى نجاتنا، وشعورنا بالمسؤولية
هو واجب وحكمة، لكنها قد تصير، إذا استمرت دون عمل، وجه عجزنا الآخر.
فلنفتش عن خلاصنا مع من يؤثرون أن يرى عدوهم دمعهم، وبين من عرفوا أن
مواصلة السيطرة على شعب آخر سترتد نيرانا إلى نحورهم. قد ننجح.
كاتب
فلسطيني |