الرئيسية || من نحن || || اتصل بنا

 

  

 

حكاية ونَص...

أفولُ الصَنَمِ.. وبزوغُ فَجرِ الأصنامِ!

 

محمود حمد

 

لم انقطع عن الإصغاء لدقات قلب الزمن المضطرم بالآلام، ونبض الأرض المستباحة باليباب، وصراخ الملايين المحاصرة المكبوت خلف كابوس الاستبداد...دون أن اغفل ما يدور في أقبية الطامعين الدوليين وبائعي الوطن المحليين!

لأني ادرك أن استراتيجيو الغزاة...قبل أن تدور محركات آلة الحرب لغزو بلادنا، يعرفون أن وعاء (اللاوعي) الفردي والجمعي المتوارث في بلاد النهرين... (وعاء وحداني!) مجوفٌ ومهيئ لإشغاله بعبادة (الواحد!) الذي يسجدون له خاشعين... سواء كان ذلك إلهً لا يُرى، أم وَثَناً في الغيب، أم صنماً مُجَسَّداً، أم حاكماً مستبدا أم رئيس قبيلة مُستكبراً، أم زعيم "معارضة" متفرداً، أم رئيس عصابة متوحشاً، أم أباً طاغية!

ولان للغزاة أصنامهم التي يقدمون لها ولاء الطاعة في بلادهم، ويسجدون لها...لذلك فهم عندما يستبيحون أرض بلد يفرضون على أهله (أصناماً محلية!) ذليلة لهم ومعدومة الإرادة، ساجدة لأصنامهِم، ويملؤون (وعاء إرادتها) بنوايا ومصالح الغزاة، لتكون (كلباً وفياً مطيعاً لهم!) رهن إشارتهم...و(صنمهم) هو:

الاستحواذ على(النفط) والتبادل السوقي بـ(الدولار)!

وهم دائماً...عندما يستبيحون بلداً يستخرجون من مكب نفايات التاريخ أكثر الشخصيات غموضاً وتناقضاً وتعقيداً لإعادة انتاجها كأصنام محلية (تدار مباشرة، أو يجري التحكم بها عن بُعد) لخدمة مصالحهم!

يقول (جون نيكسون)، مسؤول المخابرات المركزية «سي.آى. إيه» السابق... الذي كان أول مسؤول يقابل «صدام» بعد القبض عليه في ديسمبر2003، واستجوبه طوال أسابيع، والذي سجل شهادته هذه في كتابه بعوان: (استجواب الرئيس):

كان صدام حسين (كتلة من التناقضات) فهو (من أكثر الشخصيات المؤثرة التي قابلتها في حياتي، وكانت لديه القدرة على أن يكون مُبهراً، ولطيفاً، ومضحكاً، ومهذباً عندما يريد ذلك)، و(كان يتحول إلى شخص وقحٍ، ومتغطرسٍ، وبذيءٍ، ووضيعٍ، ومرعبٍ عندما يفقد السيطرة على أعصابه)!

ويقول عميل ألـ CIA في القاهرة Allen Dulles في مقابلة تلفزيونية:

(معظمكم يعلم أن صدام حسين تم تجنيده من زمن بعيد جداً...ربما تتذكرون "عبد الكريم قاسم رئيس العراق في بداية الستينيات...

"قاسم" طرح مشروع متميز قال إن النفط العراقي يجب أن يكون لفائدة الشعب العراقي...كم كان نبيل...

لذلك قررنا أن نطيح بـ “قاسم" فأرسل جهاز المخابرات الامريكية مجموعة اغتيال يترأسها شاب عراقي، وأمطروا سيارة قاسم بالرصاص في بغداد، ولكنهم أخطأوه وتمكن قائد المجموعة الذي أصيب من الهرب إلى سوريا...واسمه "صدام حسين"، وكان عميل للمخابرات الامريكية في عمليات الاغتيال وقد فشل...كان ابننا ومن رجالنا)!

بعد أن استنفذ (صدام) قدرته على الاستمرار بالخدمة...أسقطوه وقتلوه، واستبدلوه بقطيع من (الأصنام!) الهَشَّة والقلقة والفاسدة، الذين وصفهم باحترافية من شارك في صنعهم (بول بريمر) في وصيته إلى خَلَفِهِ (نيغرو بونتي)، وطلب منه أن يدوّن في مفكرته الشخصية كيفية التعاطي مع هؤلاء الذين أوكلت إليهم واشنطن إدارة (العملية السياسية!) في العراق...

جاء في وصية (بول بريمر) لـ(نيغرو بونتي):

"(إياك أن تثق بأيّ من هؤلاء الذين آويناهم وأطعمناهم، نصفهم كذابون، والنصف الآخر لصوص..

مخاتلون لا يفصحون عما يريدون ويختبؤون وراء أقنعة مُضَلِّلة!

يتظاهرون بالطيبة واللياقة والبساطة، والورع والتقوى، وهم في الحقيقة على النقيض من ذلك تماما، فالصفات الغالبة هي:

الوضاعة والوقاحة وانعدام الحياء!

احذر أن تغرك قشرة الوداعة الناعمة، فتَحْتَ جلد هذا الحَمْل الذي يبدو حميميا وأليفا ستكتشف ذئبا مسعوراً، لا يتردد من قضم عظام أمه وأبيه، ووطنه الذي يأويه، وتذكر دائما أن هؤلاء جميعا سواء الذين تهافتوا على الفُتات منهم أو الذين التقطناهم من شوارع وطرقات العالم هم من المرتزقة، ولاؤهم الأول والأوحد لأنفسهم!

حاذقون في فن الاحتيال وماكرون كما هي الثعالب، لأننا أيضا دربناهم على أن يكونوا مهرجين بألف وجه ووجه!

يريدون منا ألا نرحل عن العراق ويتمنون أن يتواجد جنودنا في كل شارع وحي وزقاق وأن نقيم القواعد العسكرية في كل مدينة، وهم مستعدون أن يحولوا قصورهم ومزارعهم التي اغتصبوها إلى ثكنات دائميه لقواتنا، لأنها الضمانة العملية الوحيدة لاستمرارهم على رأس السلطة، وهي الوسيلة المتوفرة لبقائهم على قيد الحياة، لذلك تجد أن هذه الوجوه تمتلئ رعبا ويسكنها الخوف المميت لأنها تعيش هاجسا مرضيا هو (فوبيا انسحاب القوات الامريكية!) الذي لا ينفك عنها ليلاً ونهاراً، وقد أصبح التشبث ببقاء قواتنا أحد أبرز محاور السياسة الخارجية لـ “جمهورية المنطقة الخضراء"!

يجيدون صناعة الكلام المُزَوَّق وضروب الثرثرة الجوفاء مما يجعل المتلقي في حيرة من أمره، وهم في الأحوال كلها بلداء وثقلاء، ليس بوسع أحد منهم أن يحقق حضوراً حتى بين أوساط زملائه وأصحابه المقربين!

فارغون فكرياً وفاشلون سياسياً، لن تجد بين هؤلاء من يمتلك تصوراً مقبولاً عن حل لمشكلة أو بيان رأي يُعتد به، إلا أن يضع مزاجه الشخصي في المقام الأول تعبيراً مَرضياً عن أنانية مفرطة أو حزبية بصرف النظر عن أي اعتبار وطني أو موضوعي!

يعلمون علم اليقين بأنهم معزولون عن الشعب لا يحظون بأي تقدير أو اعتبار من المواطنين لأنهم منذ الأيام الأولى التي تولوا فيها السلطة في مجلس الحكم الانتقالي المؤقت أثبتوا أنهم ليسوا أكثر من مادة استعمالية وضيعة في سوق المراهنات الشخصية الرخيصة!

يؤمنون بأن الاحتيال على الناس ذكاء، وأن تسويف الوعود شطارة، والاستحواذ على أموال الغير واغتصاب ممتلكات المواطنين غنائم حرب، لذلك هم شرهون بإفراط تقودهم غرائزية وضيعة، وستجد أن كبيرهم كما صغيرهم دجالون ومنافقون، المعمم الصعلوك والعلماني المتبختر سواء بسواء، وشهيتهم مفتوحة على كل شيء:

الأموال العامة والأطيان، واقتناء القصور، والعربدة المجنونة، يتهالكون على الصغائر والفتات بكل دناءة وامتهان، وعلى الرغم من المحاذير والمخاوف كلها فإياك أن تُفَرِّط بأي منهم لأنهم الأقرب إلى مشروعنا فكراً وسلوكاً، وضمانةً مؤكدة، لإنجاز مهماتنا في المرحلة الراهنة، وإن حاجتنا لخدماتهم طبقا لاستراتيجية الولايات المتحدة، مازالت قائمة وقد تمتد إلى سنوات أخرى قبل أن يحين تاريخ انتهاء صلاحيتهم الافتراضية، بوصفهم "مادة استعمالية مؤقتة" لم يحن وقت رميها أو إهمالها)!!!

حَدَّقت بالسماء منقبض الروح...وكتبت:

أفولُ الصَنَمِ.. وبزوغُ فَجرِ الأصنامِ!

(صَنَمٌ) من قيحٍ يتداعى...

بَعدَ وَعيدٍ بالوَيلِ لـ “ثعبانِ"* المُحْتلِ...

يِطفحُ أوبئةً في أحشاءِ الوطنِ المنخور...

يَتناثرُ موتا في أزمنةِ المنفيينَ...

يتكاثرُ أصناماً آكلةً وصديداً في كُلِ زقاقٍ!

*****

(صَنَمٌ) من هَزْلٍ دامٍ:

يَعبدهُ الفقرُ الباحثُ عن بَيْدَر...

عَلَّ "اللطم" يَصيرُ سبيلاً للجَنَّةِ...

أو يفتحَ بابَ الرِزقِ لأفواهٍ جَفَّتْ من فرطِ الجوعِ المتوارثِ!

****

(صَنَمٌ) من جثثٍ مارقةٍ:

يطفو فوقَ صريرِ الزمنِ الآفلِ...

يَحرِق نَخلَ القريةَ والأرحام...

خوفَ زوالِ النزواتِ الوحشيةِ!

****

(صنَمٌ) من خشبٍ:

يَنسجُ عُشاً لربيعٍ واهمٍ من أشلاءِ المدنِ المحروقةِ...

يبني وطناً للإذعانِ...

عرشَ رفاهٍ فوقَ صتيت المقبورين!

****

(صَنَمٌ) من يأسٍ ظامئٍ:

يُفقِئُ عينَ البدرِ أوانَ الحصدِ...

يَنعقُ دهراً في الحجراتِ المحروسةِ بالدباباتِ...

بديلاً للمدنِ المغمورةِ بالبهجةِ!

****

(صَنَمٌ) من غِلِّ متفاقم:

يَحرقُ أبوابَ الكتُبِ المنشورةِ للفقراءِ...

يُزَمْجِرُ...

يَبتاعُ اللحيةَ جهراً برؤوسِ الفتيانِ المرميينَ على أرصفةِ الطرقاتِ المهجورةِ!

****

(صَنَمٌ) من ذعرٍ عارم:

مُرْتَعِدٌ...

مختبئٌ خلفَ عمودِ العرشِ يوَلْوِلْ...

رُبَّ زمانٍ يأتيهِ من الغيبِ فَيَغْنَمْ!

****

(صَنَمٌ) ذو أنيابٍ صفرٍ:

يُمَزِقُ أستارَ المدنِ المنكوبةِ...

...يَعْوي ويُكَبِّرْ بين النهرين...

...يَشُمُ دماءَ النهرِ الثالثِ!

****

(صَنَمٌ) من أكفانٍ سُحْتٍ:

يَنبُشُ أدرانَ التاريخِ المُتَعَفِنِ في ذاكرةِ الإفناءِ الأزليِّ...

يَعْرِضُ موتانا للبيعِ بأسواقِ الخُردَةِ...

يَجعلُ من (دارِ الحكمةِ) عرشاً للقَتَلَةِ!

****

(صَنَمٌ) من قِشٍ متعفن:

يَزأرُ...

يَشهَرُ سيفا في وجهِ الإعصارِ العارمِ...

يَتِبَخْتَرُ في دائرةِ النارِ!

****

(صَنَمٌ) سكرانٌ راعشٌ:

يَتَقَلَبُ بين المحرابِ وباب الملهى الناسكِ...

عَرياناً كالنزوةِ في ساعاتِ الروحِ الخضراءِ...

يَلبسُ زُهْداً عند قدومِ الأجرِ ببيتِ المالِ المُشْرَعِ للأحبابِ!

****

(صَنَمٌ) من قارٍ ساخنٍ:

يُسْكَبُ فوقَ شفاهِ الأطفالِ المشغوفينَ بِدَرسِ الـ “دارِ"...

يَقطعُ دَربَ المهزومينَ من التفخيخِ إلى الغربةِ...

يَنفُثُ ناراً في أحشاءَ الأدعيةِ الصَمّاءِ!

****

(صَنَمٌ) من وحلٍ لزجٍ:

يُطْبِقُ أجفانَ الفجرِ...

يَكبتُ صوتَ العصفورِ بِقَيحِ السُلطةِ...

يُقْحِمُ أهواءَ الناسِ إلى أغوارِ القَسوةِ!

****

(صَنَمٌ) من دَجَلٍ فاقعٍ:

يَحشو هاماتَ الناسِ بأحجارِ القَبْرِ...

ويمضي...

سِمسارٌ في سوقِ الأوراقِ الماليةِ...

نَصّابٌ في ميدانِ الأسلحةِ الخُنْثى!

****

(صنمٌ) من زيفٍ يَتَبَخْتَرُ بين قطيعِ الأصنامِ:

رَغمَ قيودِ القَفَصِ البارقِ تحت ضجيجِ الاعلامِ...

وجنود الجيش المُحتَّلِ...

تُمَزِّقُ أهلي...

تَمْحَقُ وطني...

وتُعَظِّمُ جُثمانَ الزمن المُختَّلِ الأول والآخر!

*"ثعبان": المصطلح الذي أطلقه "محمد سعيد الصحاف" على جيوش الغزاة للعراق!

 

 

 

 

*محمود حمد

 فنان تشكيلي عراقي من جيل الرواد

 صحفي وكاتب صدرت له رواية (ذاكرة التراب)

(مقالات سابقة)

الرئيسية || من نحن || الاذاعة الكندية || الصحافة الكندية || اتصل بنا