الرئيسية || من نحن || || اتصل بنا

 

  

عن "لعبة الكلمات المتقاطعة"

في العراق

عبد اللطيف السعدون

 

ثمّة ما هو جديد في "لعبة الكلمات المتقاطعة" التي يجرى تداولها بين رجال السياسة وزعماء المليشيات في العراق منذ ما يقرب من عقدين، وجديدها هذه المرّة دخول القضاة عنصرا فاعلا في إدارتها والتدخل في مسارها، إذ أفتت المحكمة الاتحادية بوجوب حل البرلمان، لأنه لم يقم بواجباته الدستورية، وتجاوز عن المدد التي حدّدها الدستور في مسألة تشكيل الحكومة، (لماذا لم تتصدّ المحكمة إياها لهذا التجاوز في حينه؟). وأضافت المحكمة أن أعضاء البرلمان لم يراعوا مصلحة الشعب، وكانوا السبب في تعطيل مصالح البلاد وفي تهديد سلامتها!.

هكذا برّرت المحكمة "الخائفة والمستسلمة"، بتعبير مقتدى الصدر، وجوب الحل، لكنها عادت لتقرّر أن الحل يجب أن تكون له مبرّراته، وكأنها تريد أن تقول إن ما طرحته ليس كافيا ولا يرقى إلى تبرير الحل. وفي التفاتة ثالثة، رأت أنه لا يحق لها دستوريا اتخاذ قرار الحل، وإنما هناك "جهة مختصة" لها سلطة اتخاذ قرار كهذا "إن توفرت المبرّرات!". وبذلك نزعت المحكمة عن نفسها مسؤولية اتخاذ القرار المطلوب، لتعيد بذلك المسألة إلى نقطة الصفر، وتضع الكرة بين أقدام رجال السياسة وزعماء المليشيات يتقاذفونها حيث يشاؤون.

يزيد من قوة موقف المالكي أن طروحاته تحظى بمباركة طهران، وإن كانت تزعم أنها تقف على مسافة واحدة من طرفي الخصومة

في هذه المرّة، بدت المحكمة مروّجة مطلب أحد طرفي الخصومة، وهو "الإطار التنسيقي"، أو قل متواطئة معه، لأجل تمرير "صفقة" سياسية، يستطيع من خلالها نوري المالكي أن يعود "رجلا أول" في المشهد السياسي، بعد أن فقد كثيرا من عناصر قوته إثر "التسريبات" الأخيرة لأحاديثه. وهدف المالكي إعادة إنتاج "العملية السياسية" الماثلة، بعد أن أوشكت على السقوط، عبر عقد جلسة للبرلمان لانتخاب رئيس الجمهورية، ومن ثم تشكيل حكومة خاضعة لـ"الإطار"، تأخذ على عاتقها إجراء انتخابات برلمانية مبكّرة. هذا على خلاف مطلب خصمه اللدود مقتدى الصدر، الذي يريد حل البرلمان فورا بقرارٍ من رئيسي الجمهورية والحكومة، وتمديد عمر حكومة مصطفى الكاظمي من أجل أن تشرف على الانتخابات المبكّرة. وبالتالي، استثمار الشعبية التي حصل عليها عند نزول أنصاره إلى الشارع، لكن تراجع حلفائه، الديمقراطي الكردستاني وتحالف السيادة السنّي، عن دعمه وتبنّيهم موقف المالكي، وجّها له ضربة قاصمة، ووضعاه من جديد في الزاوية الحرجة.

يزيد من قوة موقف المالكي أن طروحاته تحظى بمباركة طهران، وإن كانت تزعم أنها تقف على مسافة واحدة من طرفي الخصومة. أما واشنطن، وهي الداعمة الأخرى للعملية السياسية، فإنها تسعى إلى دفع العراق إلى موقعٍ أقل انحيازا لإيران، وتراهن على "تغيير" محدود يسمح بنقلة نوعية في إدارة السلطة في بغداد، من دون خسائر كبيرة لنفوذها. وهذا، في رأيها، يمكن لحكومة من الصدريين و"التشرينيين" والعناصر المستقلة أن تنهض به، لكن فرصة تحقيق هذا السيناريو تظلّ ضئيلة. وأيضا، العودة إلى الشارع غير ممكنة في الوقت الحاضر، لأسباب كثيرة.

وعلى أية حال، يسجل على المحكمة الاتحادية أنها، كما فعلت في مرّة سابقة عندما اتخذت قرارا منحازا بخصوص "الكتلة الأكبر"، فإنها، في هذه المرّة أيضا، تكون قد غادرت موقعها القانوني، وأخذت "تشتغل" سياسةً لمصلحة أطرافٍ معينة، متخلية عن صفة "الاستقلالية" التي ينبغي أن تتصف بها كي تقيم العدل، وتحكُم وفق ما يقرّره الدستور.

تكبر "لعبة الكلمات المتقاطعة"، وتزداد عقدة الاستعصاء، ويبتعد الحل، ويستمرّ تعطيل مصالح الناس

وهكذا يصبح رجال القضاء كمن يرون ضوءا في آخر النفق، ثم يسارعون إلى بناء نفق أطول، وتكبر "لعبة الكلمات المتقاطعة"، وتزداد عقدة الاستعصاء، ويبتعد الحل، ويستمرّ تعطيل مصالح الناس التي تزعم المحكمة حرصها عليها، كما يصبح التهديد بسلامة البلد الذي وضعته المحكمة على كفّ عفريت أمرا مقدّرا ولا مفر منه.

ما العمل إذن؟ مع تعدّد "السيناريوهات" المحتملة، واختلاط بعضها ببعضها الآخر، يصبح من الصعب القول إن العراق مقبلٌ على مرحلة استقرار وهدوء، بل قد يستمرّ الصدام بين القوى الفاعلة اليوم في المشهد السياسي، وقد يتطوّر الصدام إلى ما هو أعنف وأكثر حدّة، إلى درجة أن يغري ذلك قوى خارجية بالتدخل لحماية مصالحها. وثمّة تقارير تؤكد أن إيران جاهزة للتدخل في حالة حدوث فراغ في السلطة، وأنها، كما تقول تلك التقارير، أدخلت إلى العراق في الآونة الأخيرة، لهذه المهمة، فرقة خاصة من الحرس الثوري، تحت ستار تأمين حماية زوار أربعينية الحسين.

هذا يعني أن لعبة الكلمات المتقاطعة لن تمرّ بسهولة، والرابح هو الذي سوف يرفع يده في النهاية، أما الخاسر الأكبر في كل الأحوال فهو العراق.

 

 

عبداللطيف السعدون

  *كاتب وصحفي عراقي

 ماجستير علاقات دولية من جامعة كالجري – كندا،

 يكتب مقالا اسبوعيا في (العربي الجديد) لندن

(مقالات سابقة)

الرئيسية || من نحن || الاذاعة الكندية || الصحافة الكندية || اتصل بنا