الرئيسية || من نحن || || اتصل بنا

 

  

متى تخرج الموصل

من شرنقة المعترضين؟

أ.د. سيّار الجميل

تابعت باهتمام كبير ما يدور الان من مجادلات في الموصل التي خرجت من اطوار تاريخ مضمخ بالدماء والقتل والانسحاق ، ولم تخرج بعد من حالات التهميش والاقصاء ويطمح كل محب ومخلص لها ان تبدأ فيها اية بادرة حثيثة للاخذ بيدها نحو الحياة وافادة اهلها ومستقبلهم .. والموصل ليست منقسمة اليوم على اية موضوعات مستقبلية او معرفية ، بل اعيد وأكرر انها منقسمة على ذاتها اجتماعيا وسياسيا وتاريخيا منذ ازمنة طوال ، وقد خسرت على مدى تلك الأزمنة مئات الالاف من أبنائها واطيافها سواء من المهاجرين عنها او الهاربين منها .. ان مشكلتها الأساسية داخلية معقدّة قبل ان تكون خارجية ، فهي متشظية في مجتمعها قبل ان يفرض عليها الآخرون اجندتهم اللئيمة ..

أتمنى مخلصا ان يتواضع قليلا كل من نفخ نفسه من أبنائها اذ يشعر هؤلاء انهم اكبر من هذا العالم ، وهم لا تجدهم الا معترضين ومناكفين وساخطين ولا يعجبهم العجب ، ولا يرضون بغيرهم، ولكن ليس بمقدورهم ان يقدموا شيئا ذي بال . ومنذ بدايات القرن العشرين ، لا تجد البعض من أهل الموصل يتفق على اية خطة او مشروع أو بادرة ، بل ولا يتسامح مع نفسه قبل ان يسامح الاخرين .. بل ولا يدعوا أحدا يشتغل بقوة وامانة وذكاء وإخلاص ، اذ يحاربه حربا شعواء ويؤذيه ويقف ضده ويشوّه سمعته حتى يهجّ الجمع الكبير من بلده وينفي نفسه قسرا ..

ان الكلّ بدا عاشقا للمدينة لأن كل ابنائها هم من المحظوظين كونهم من جذرها الحضاري ، ولكن كل واحد منهم يريد ان يحتكر كل شيئ لنفسه ، وان يفرض رأيه على الاخرين مهما كان ذلك الرأي سخيفا او ضعيفا باسم واجهات شتى دينية او حزبية او جهوية أو طبقية .. ان مشكلة الموصل الاجتماعية في بعض أهلها الذين عبروا عن تناقضاتهم في عدة حوادث دامية منذ عشرات السنين .. وعليه ، نجد شاعرا موصليا معروفا مثل شاذل طاقة يكتب قصيدة مؤلمة وهو في بغداد ويسمي الموصل ببيت العنكبوت تشبيها بالعناكب ، كون احدهم يأكل الاخر ! وبالرغم من تشبيهه القاسي الذي لا ينطبق على المجتمع باسره ، الا ان التاريخ المحلي منذ مائة سنة يخبرنا ان اضطهاد المدينة يأتي على ايدي أبنائها من دون أي إحساس بالذنب او العفو عند المقدرة او الاعتذار عن الأخطاء أو التواضع قليلا !

منذ ستين سنة والموصل تفقد جمالياتها ومعالمها الجميلة ولا احد يعترض ! منذ ستين سنة مضت ، والمدينة بالذات تشهد صراعات اجتماعية خفية بانقسامها الى محافظين ومجددين ، قوميين وشيوعيين ، اسلاميين وعلمانيين ، تراثيين وحداثيين ! منذ ستين سنة ، والبلدية ترتكب جرائم في فتح الشوارع وهدم الأبنية القديمة وترك ساحات الدواخل مواقف للسيارات او جعلها سوقا للبالات ، او مكبات نفايات ، او مثوى للاغنام والبهائم ! هدمت معالم باب الجسر وكانت من اجمل المعالم ولا احد يعترض ! ازيل قصر استراجيان من الوجود ولا احد يعترض ! اهملت باشطابيا بحيث تساقطت وهوت الى القاع ! قلعت بلدية الموصل القديمة وحديقتها الغناء ! وازيل البريد القديم وذهبت معالمه الجميلة ! اهمل قصر المطران .. ومبنى القنصلية البريطانية .. وازيلت المقاهي القديمة كلها .. الخ

لو يعرف أهلنا في الموصل كيف كانت مدينتهم قبل مائة سنة مرت ؟ كيف كانت مدينة كئيبة خرجت للتو من الأزمنة البدائية ، وقد وجدت لها من اخيار الناس من يعمّرها ويخطط لها ،ويفتتح الحدائق فيها والتي شبهت بعضها بحدائق لوكسمبورغ ، وتعمّر بناية المحاكم وتبني عمارة الأوقاف المستديرة ، وتؤسس مجموعتها الثقافية ، وتّطور غابات الحدباء النموذجية لتكون رئة الموصل .. ومرورا باحياء سور نينوى العظيم .. وصولا الى تعمير جامع النبي يونس بشكل قلعة مثيرة للاعجاب على العهد السابق .

دعوني أوجه كلمة حق الى المتشدّقين بالتراث ، أقول : ما الذي تقصدون بهذا التعبير او المفهوم ؟ اين ينحصر هذا التراث ؟ هل ينحصر بمئذنة الجامع النوري فقط ؟ الم نجده في بيوت الموصل القديمة ؟ وبقناطر الأزقة الموروثة ؟ وفي قلاع الموصل المتساقطة ؟ وفي مساجدها الكبيرة التي سحقت ولم يجرؤ احد ان ينتقد من الذي سحقها ؟ وصولا الى قبل أيام حيث تم إزالة أجزاء من سور نينوى !! ام الحقيقة ، اننا نتشدق بالتراث فقط ، ونحن نهجر المدينة القديمة منذ سبعين سنة لنسكن في بيوت حديثة ؟ وأحياء حديثة ؟ وشوارع حديثة ؟ هل التراث بعوجات ( = ازقة ) تجري في وسطها مياه آسنة آناء الليل واطراف النهار لتمضي تلك النتانة الى الشوارع الرئيسية ثم تسيل نحو دجلة بكل قذارتها ؟ هل التراث بما هو كان وكائن من ترك الأطفال يتغوطون هنا وهناك في الازقة ؟ او برمي الاوساخ في المقابر والمقابر الحديثة حدائق غناء في العالم ؟ هل التراث عندما تهب روائح الجاموس النتنة على الناس ؟ هل التراث في كثرة زوايا المباول هنا وهناك حتى يضطر السكان لكتابة " البول للحمير " ؟ دعوكم من شعار التراث الذي يحمل كل التناقضات وفكروا في تحديث مدينتكم اسوة بكل مدن العالم .

لم يبق من أبناء المدينة القديمة الا قلة قليلة جدا من العوائل القديمة ، وقد سكنتها أصناف جديدة من البشر الدخلاء ، والكل يعرف ذلك .. لمن يعارض من متزعمي حملة التراث اليوم ، أسأل : هل كان باستطاعتكم ان تعارضوا نقل محراب الجامع النوري منذ اكثر من سبعين سنة الى بغداد ؟ هل كان باستطاعتكم ان تعارضوا من قام بهتك تراث المدينة ومعالمها الحضارية ؟ وخرّب بنيتها الاجتماعية ؟ هل كان باستطاعتكم ان تعارضوا من هدم قصر استراجيان ، ومدرسة الصنائع والمسماة متوسطة المثنى التاريخية ومقاهي باب الجسر والقيصريات القديمة وغيرها كثير ؟ هل كان باستطاعتكم معارضة من فجرّ جوامع النبي يونس والنبي شيت والنبي جرجيس وغيرها ؟

ما لمسته من الحملة المضادة لمشروع إعادة اعمار الجامع النوري الكبير امر محزن للغاية .. وبدل ان تشكر الموصل ما قدمته اليونسكو ودولة الامارات العربية المتحدة شكرا جزيلا ،راحوا يعارضون هذا " المشروع " تحت حجج واهية ويتهمون مستشاريه ، وكل معارضتهم لا تصمد امام حقائق الأشياء كونها بلا اية اسانيد ولا اية حجج ، ولكن باسم حرية الرأي .. فلا يمكنكم الدفاع عن هوية الجامع كونه نال من التجديدات في كل عصر من العصور وعلى امتداد قرابة 900 سنة ، ولم يبق منه الا منارته التي لا يمكن ابدا ارجاعها ثانية بنفس ما كانت عليه ابدا .. اما ان تقولوا بأنكم الأولى بالمشروع ، فليست قدراتكم اكبر من قدرات الاخرين الذين دخلوا المسابقة دوليا من خلال اليونسكو بحضور مستشارين من الموصل ، وهم من ابرع المهندسين المعماريين ، فان كنتم كما تقولون ، فلم لم تظهر الى حد الان ابداعاتكم دوليا ووطنيا ؟ ! ان اهل الموصل ان بقوا يسمعون اعتراضاتكم، فسوف لن يجنوا شيئا منكم ابدا ، وستبقى الأمور في جدل عقيم ، وستطوى صفحة الموصل . وستبقى الموصل القديمة خربة او تظهر مشوهة تماما.

وعليه ، فان " مشروع إعادة بناء الجامع النوري " خطوة مباركة مهما كانت درجة الاعتراضات عليها ، لأنها ستفتح الأبواب للموصل على مصراعيها امام العالم بقفزة الموصل نحو الحداثة أولا ، وان هذا المشروع النهضوي هو الأول الذي سيبدأ من قلب المدينة التي هي بأمس الحاجة الى التحديث .. ولنأخذ بيروت مثلا عندما عّمرها مشروع الحريري الذي سمي بالسوليدير وحافظ على سماتها التراثية ومنها قبر الامام الاوزاعي في قلب بيروت ، ولكنه مشروع حداثوي متقدم بالرغم من شراسة الذين عارضوه وانتقدوه ..

عودوا الى رشدكم أيها الاخوة من المعارضين وتواضعوا قليلا امام العالم ، فالاعتراض اراه جناية تاريخية بحق الموصل واجيالها القادمة .. كونوا صوتا واحدا تعبرون فيه عن مدى حرصكم على المستقبل قبل الماضي ، اذ لم يكن الماضي زاهيا كما تعتقدون .. كفى استعراضا للعضلات والاهم من هذا وذاك ان يقفز هذا من هنا وذاك من هناك وهم لا معرفة ولا خبرة ولا قراءة ولا تاريخ له ليدلي بارائه ونقداته باسم حرية الرأي ، ولا ادري اين كانت هذه الحرية قبل عقود من الزمن ؟ ان الانوية الطاغية لا تنفع ابدا ، فليس ما يملكه غيرك من قدرات تمتلكه انت بالرغم من هذا العالم الذي بات يعرف قدرات اي انسان ! وعليه ، فاحرص على ان تكون إيجابيا ما دمت تؤمن بما سيتحقق من نفع للأجيال القادمة .. وكن على ثقة ان الموصل ستحملكم المسؤولية كاملة في حال فشل هذا " المشروع " الدولي ، ذلك لأن ليس بمقدوركم ان تأتوا بمثله يا سدنة التراث .. لقد خسرت الموصل مشروعات كبرى وفي مقدمتها المطار الدولي قبل سنوات ، فلا تدعوا الفرصة تضيع من بين ايديكم .

الشكر كله لدولة الامارات العربية المتحدة على منحتها الكريمة والمشروع الذي ادارته اليونسكو بكل جدارة ، وشكرا لمن كان جنديا عراقيا مجهولا وهو يعمل من اجل تنفيذ هذا " المشروع " ، وشكرا لكل المتسابقين في هذا العالم .. وشكرا لمن قدّم استشارته ورأيه من أبناء الموصل الرائعين . أتمنى مخلصا ان يبدأ تنفيذ " المشروع " لانطلاق بداية حقيقية نحو اعمار الموصل واخراجها من شرانقها لتغدو مدينة عصرية متطورة في عالم القرن الحادي والعشرين ، وآخر ما يمكنني تسجيله هنا ، ان الموصل القديمة لا يمكن ان تحيا من جديد الامن خلال مبادرات دولية كهذه ، والا فستبقى صورتها مشوهة ومخربة باسم الحفاظ على التراث .

 

 

 

 

 

د. سيّار الجميل

اكاديمي واستاذ جامعي وكاتب عراقي

(مقالات سابقة)

 

الرئيسية || من نحن || الاذاعة الكندية || الصحافة الكندية || اتصل بنا