الرئيسية || من نحن || || اتصل بنا

 

  

ليس بالقائمة

المشتركة وحدها يحيا الكفاح

جواد بولس

تتوقع معظم استطلاعات الرأي مؤخراً، تراجع شعبية القائمة المشتركة وخسارتها لثلث عدد مقاعدها الحالية، البالغة خمسة عشر مقعدًا. ستكون هذه النتيجة حتمية، خاصةً اذا لم يصحُ قادة القائمة، اليوم قبل غد، ويقنعوا الناس، بالأفعال وبالبراهين، على أنهم جديرون، هذه المرة أيضاً، بثقة الناخبين وبدعمهم في الصناديق. ويبقى الغد لناظره قريب.
لقد جاء تشكيل القائمة المشتركة منذ البداية كمخرج وحيد وكفرصة نادرة، أتاحتها لهم بقايا واقع سياسي هرم، كان على حافة الاندثار؛ فجاء، تشكيلها، كضربة استباقية لموجبات، أفرزتها سياسات القمع الحكومية الرسمية الجديدة، وكاستجابة لغريزة البقاء، التي يتقنها السياسيون بعفوية وبانتهازية فطريتين.
لم تخفَ عيوب المولود الجديد عن الكثيرين من المتابعين والمراقبين والناشطين السياسيين؛ وبعضهم كان يتمنى أن تتصرّف الأحزاب بنضوج وبمسؤولية لتصبح القائمة أداة سياسية عصرية، قادرة على تصميم وهندسة مفاهيم وجودية جديدة، وتتلاءم مع جميع المتغيّرات، التي طرأت على مجتمعي الدولة الأساسيين، اليهودي والعربي؛ وأن تكون معنية بالعمل، برفقة سائر المؤسسات السياسية والمدنية الناشطة بيننا، وأن تتحرك، بواسطة وقود جديد، من خلال اجتراح آليات النضال المستقبلي، وأن تتحول إلى عنوان يستنهض طاقات مجتمعاتنا ويضخّها في قوالب حديثة، ووفق أولويات وأهداف متفق عليها تحت درع هويتنا الوطنية الجامعة. لم يحصل هذا، وأعتقد أنه لن يحصل؛ فالقائمة ولدت وبقيت في غرفة الإنعاش؛ ولا يعكس تردّد أزماتها الداخلية، رغم قصر حياتها، حقيقة كونها وعاءً سياسيًا غير ملائم لواقعنا المستجد، أو وسيلة تنظيمية، غير كافية لمواجهة سياسات الدولة من جهة، وأمراضنا الاجتماعية الذاتية، من جهة أخرى، فحسب، بل هو مؤشر جديد قديم، ودليل صارخ على بؤس وعقم الحالة السياسية التي يعيشها المواطنون العرب في إسرائيل؛ وهو ناقوس يدعونا إلى ضرورة إعادة النظر في مجموعة المسلّمات والافتراضات والسياسات، التي حكمت وتحكم أداء معظم الأحزاب والحركات السياسية والدينية والمؤسسات المدنية، التي مازالت تهتدي بقوالب الأولين وتعتمر مفاهيم صارت مُنبتّة عن الواقع الجديد.

بدون مناقشة ما آلت إليه أوضاع واقعنا السياسي والاجتماعي بشفافية ومسؤولية؛ سنبقى عرضة للريح وللضياع

يعرف الكثيرون أن أزمة القائمة المشتركة هي من علامات إفلاس الحالة السياسية الحزبية وتأثيرها السلبي في قناعات ونوازع المواطنين العرب؛ وهي دليل على اختراق الأسافين لمبنى هويتهم الجامعة؛ فمن المؤسف ألا يشعر بعض قادتها بما سببته وتسببه مناكفاتهم الكيدية من نشر لأجواء العدمية، وخلقهم لمحفزات خطيرة وسامة، ساعدت على تنامي مظاهر التطاول والتحدي، التي بتنا نراها وهي تعبث بأمن مواقعنا وسلامة قلاعنا، وتفسد ما كنا نعتبره محرمًا سياسياً ومرفوضاً اجتماعيا. كثيرون يعرفون، كذلك، أن أزمة القائمة المشتركة هي أحد أعراض الأمراض الخبيثة، التي تتغلغل في جسد مجتمعاتنا، ومثلها سنجد أعراضا أخرى؛ فغياب «مؤسسة القيادة» الوازنة، الراجحة الرأي، صاحبة التجربة والأثر، المستوثقة من قبل الناس، والمتفانية في تقديم المصلحة العامة على المصالح الشخصية والفئوية، هي من أخطر ما يؤثر في حياتنا؛ وهي الحالة التي أدّت، في نهاية المطاف، إلى تقزيم مكانة «لجنة المتابعة العليا» وإلى تشويه وتحييد دور «اللجنة القطرية لرؤساء البلديات والمجالس العربية». لن يختلف اثنان على أن السياسات العنصرية الاسرائيلية حاربت منذ البدايات جميع محاولات إنشاء المؤسسات القيادية العربية الوطنية؛ وسعى أصحاب تلك السياسات بالتالي، إلى إفشال تلك المؤسسات، أو لنزع الشرعية عنها، أو لخلخلتها من الداخل؛ ورغم ما استثمروه عبر التاريخ من مجهود ومغريات، فقد فشلوا؛ ونجح القادة الآباء، في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، في إنشاء «لجنة المتابعة العليا» و»اللجنة القطرية لرؤساء البلديات والمجالس العربية» اللتين تحوّلتا، إلى جانب الاحزاب والحركات الوطنية الأخرى، إلى بوصلات هادية وسقوف يحتكم الجميع تحت راياتها، ويلتزمون بحدودها. لقد خلقت تلك القيادات فضاءات وطنية صحية ومطعّمة بمضادات قوية، كانت تصدّ كل جسم غريب وتوقفه عند حده. واليوم، كما نرى، فقد خسرنا هذه الفضاءات وأضعنا اليواطر، حتى أمست لجنة المتابعة العليا مجرد جسم يحاول أن يقاتل بآخر أنفاسه، ويقف، وهو شبه مشلول، عاجزًا في هذه الغابة الهائجة. لقد حصل ذلك نتيجة لعبث بعض الجهات التي تستغل وجودها في اللجنة، وتستظل تحت شرعيتها لتنفيذ مآرب فئوية تخص الأطر التي انتدبتها هناك، ولا تخص المصالح العامة، ولا القضايا التي لا خلاف عليها بين المواطنين؛ فنجد، مثلًا، من يسحج، غير آبه بموقعه في اللجنة، للسلطان أردوغان، ويصفق منتشيًا عندما يلاقي تسعون جنديا روسيا حتفهم في حادثة طائرة مؤسف، ولا ينام قبل أن يذكرنا بفظائع الطاغية بشار؛ بينما يجلس إلى جانبه من يُقسم بطلّة البطل بوتين وبسلاح جنوده الذين يذودون عن سوريا بشار، صانع المعجزات. ويبقى هذا بالطبع عيّنة صغيرة لما يجري تحت ذلك السقف الضعيف.
قد يكون من الجدير تخصيص مقال أو أكثر لرصد كمية الصراعات الداخلية التي تجند لها أطراف لجنة المتابعة، كل في موقعه ومن خندقه؛ ومن المفيد أن تُرصد المواضيع التي اختلفوا حولها وعليها، واستنزفت من دهشة الناس ساعات؛ لكننا، قبل ذلك ومن دونه، رأينا نتائج تلك المعارك؛ فعندما أتت ساعات الامتحان والمواجهات الحقيقية مع أعداء أهلنا، الخارجيين والمحليين، كانت الساحات خالية إلّا ممن يجيدون إطلاق الرصاص، أو من حماتهم، وكان أكثرية الناس يفتشون عن خيمة وقبيلة وعصا ليحتموا، أو عن قوقعة يأكلون في بطنها ويصلون.
لقد بدأت أوائل الانهيارت الكبرى في ساحات المعارك على رئاسة ومجالس السلطات البلدية والمحلية؛ فحينها حذرنا من نشوء ظاهرة أذناب الأحزاب «الكبرى» وراء المنافسين المحليين، من دون الاكتراث لما يمثله بعض هؤلاء من قيم اجتماعية ساقطة، أو من ولاءات سياسية مهزوزة، في مشهد قلب جميع المسلَّمات التي عرفناها، منذ أن أطاحت جبهة الناصرة الديمقراطية بعصر كامل، هيمنت فيه الحمائل، وتسيّدت فيه بعض عكاكيز الحكومات الإسرائيلية، فتصدّرت الجاهات والواجهات. كانت الأحزاب أضعف من أن تقف في وجه هذه الظاهره الخطيرة وتمنعها، بل رأينا كيف أرغمها عجزها على التعايش مع ذلك الواقع المستفز، وتجنيده، بانتهازية مقيتة وبديماغوجية خبيثة «لصالحها» حين اضطرت مؤسساتها القطرية والمحلية، إلى دعم بعض هؤلاء المرشحين بهدف احتسابهم، إذا نجحوا، قيادات في صفوف أحزابهم، أو من أجل إسقاط المرشح الآخر الذي يدعمه الحزب الغريم.
لن نسترسل في تاريخ هذه الفاجعة، فقد وصلنا اليوم إلى وضع حصلت فيه اللجنة القطرية للرؤساء على «استقلالها» الإسرائيلي، وتحررت من تبعيتها للسقف الذي أعلاه، فوق الجميع، نضالُ الكادحين في ساحات أيار وكفاح الثائرين في يوم الأرض وغيره، فنحن نرى اليوم كيف صار كل رئيس سيّد بيدره ومفتيًا بما يفيد بلده، ويخدم مصلحتهم.. والآتيات أفظع. وعلى ضفة أخرى، بدأنا نسمع عن ترشح عدة رؤساء مجالس وبلديات سابقين في قوائم لأحزاب صهيونية جديدة أو قديمة، على الرغم من كونهم أعضاء في أحزاب عربية وطنية، أو كانوا مرشحين من قبل تلك الأحزاب في حينه، وأعضاء في مؤسساتها القيادية. هؤلاء لا يعنونا اليوم إذا ما اختاروا مواقعهم الجديدة؛ لكنني أتساءل، ونحن نقف على قارعة التيه السياسي، هل سنسمع يومًا موقف الأحزاب إزاء تلك الظاهرة التي كانوا جزءاً منها؟ وهل سيعترفون بالخطأ وبأضراره، إذا فعلًا يعتبرون اليوم ما اقترفت أيمانهم خطأً؟ بعيدا عما ستفضي إليه المحاولات لإعادة القائمة المشتركة، ومن أجل مستقبل آمن وواضح، علينا مناقشة هذه المسائل بشفافية وبمسؤولية، ونناقش أيضًا دور الجمعيات الأهلية، وما يسمّى بمؤسسات المجتمع المدني في ما آلت إليه أوضاع واقعنا السياسي والاجتماعي؛ فبدون ذلك النقاش سنبقى عرضة للريح وللضياع.
كاتب فلسطيني

 

 

جواد بولس

كاتب فلسطيني محامي

   ناشط في مجال حقوق الانسان  (من كتاب البلاد)

(مقالات سابقة)

الرئيسية || من نحن || الاذاعة الكندية || الصحافة الكندية || اتصل بنا