الرئيسية || من نحن || || اتصل بنا

 

  

عثمان الموصلي

 

ابراهيم أحمد في رواية

 "عثمان الموصلي":

عودك رنّان يا شيخ

شاكر الأنباري *


بين الشيخ عثمان الموصلي التاريخي "1854 - 1923" وعثمان رواية(*) أبراهيم أحمد، مساحة شاسعة من الخيال. يفترقان ويندمجان. يتطابقان في نقطة وهمية أو يسيران متوازيين، لتعود المدن، والموسيقى، والفقه، والتصوف، لحظة تاريخية فارقة. متمثلة باستدارة القرن العشرين. يندمج الاثنان بلمسة الفن الساحر. يفتتح ابراهيم أحمد الحكاية في حانة "إلياس" على نهر دجلة. والحكاية يرويها صديقه بهاء القزاز التاجر الموصلي المعروف. مرة يتأملها وحده، ومرة مع جليسه الدائم الموسيقار جرجس. نديمان بين ذراعي بنت الحان، وعصارة كروم الجبال، يتتبعان أخبار الشيخ عثمان، وتحولاته الغريبة. سفراته، تقلبات روحه بين اللحن والقدود والموشحات والتراتيل القرآنية. فإذا هو واحد من رموز عصره المثقفين موسيقياً وفقهياً بتسامح لا بتزمت، يبحث كأي إنسان مرهف عن هدف مفتقد في حياته. هو بومضة ما، يكاد أن يشبه عصره المائج بالأحداث السياسية والأفكار، وثمار الحداثة الوافدة من الغرب. ومنها حداثته الفنية الموسّقة على أصوات المدافع، والبنادق والصحف واسطوانات كبار موسيقيي أوربا.

دور تنويري
للموصلي دور تنويري عبر تكريس الموسيقى في مدينته، وعبر وحواراته ووجهات نظره الفقهية والدينية إزاء المتشددين المغالين في النصوص وتفسيراتها. نشأ مع الفقراء والمهملين من طحانين، وسقّائين، وحوذيين. فأبوه سقاء هرب من مدينة الرمادي ليستقر في الموصل خادماً في بيت واحد من وجهائها. إنه من طبقة رثة، في مدينة تضم العرب والأكراد والتركمان. وتعج بالأديان والمذاهب. فضّل الغياب عن حفل ختان ابن الوالي العثماني والبقاء في المطحنة لينشد لحن "المنصوري" على الطحان جابر شقيق حبيبته مهجة، حيث تصطاده شرطة الوالي ليحمل على فرس إلى حفل الختان. والموصل في بدايات القرن العشرين شهدت تنحية السلطان عبد الحميد، وصعود جمعية الاتحاد والترقي.

الموصل هي حانة على نهر دجلة، وطاحونة للقمح، وسقّاء ماء في الأزقة، ودراويش يلتهمون الزجاج. إنها قصور الولاة والوجهاء، وطقوس الأعراس والختان، وعربات النقل، والولائم، والموشحات الدينية. الموسيقى، وآلة العود، والتجارة مع حلب وإسطنبول وماردين وديار بكر، ونهوض لصناعات حديثة واحتكاك مع الغرب. كل ذلك ليس بعيداً عن سور المدينة التاريخي حيث تحطمت ذات سنة أحلام نادر شاه الصفوي في احتلالها. هناك سجل تفصيلي نستشفه في ثنايا الأحداث لنهوض هوية الموصل خارج الكنف التركي. كل ذلك عبر سلاسة تقدمها الرواية التي تتوغل بحذر في حياة ملا عثمان الموصلي، والظروف التي أحاطت بنشأته، وبلوغه، ودراسته في جامع عبد القادر الكيلاني وأبي حنيفة النعمان بمقتبل عمره، على يد محمد شكري الآلوسي فقيه بغداد وقتها. ثم ما جرى له من رحلات ليصبح مقربا من السلطان عبد الحميد، ثم موفدا إلى ليبيا ومصر ودمشق وبغداد، حتى استقراره شيخا في الموصل ليصبح متصوفا على هدي جلال الدين الرومي في مزجه للموسيقى والرقص مع التصوف.

سيد درويش وسليمة مراد
في تلك الحانة نرافق صديقه بهاء القزاز ليروي حياة عثمان، الملا عثمان الموصلي كما عرفته كتب التاريخ. الموسيقي الفقيه الذي تأثر بألحانه سيد درويش وعبدة الحامولي وأحمد زيدان ورشيد القندرجي، مرورا بالشاب القادم إلى عالم المقام محمد القبانجي، والمطربة الصاعدة وقتها من بيئة يهودية، المعروفة بسليمة مراد. وكان في مدينته كثيراً ما يستظل بحدباء جامع النوري، مزاوجاً بين الفقه والتصوف ليصبح لاحقاً، حين عاش في اسطنبول، مريدا لشيخ الطريقة القادرية، ثم من أتباع المولوي جلال الدين الرومي المدفون في مدينة قونية. روح وخلاصة التراث الموسيقي الموصلي، والحلبي، والتركي، عرفه الزمان بما لديه من الموشحات والأغاني ومن أشهرها، "فوق النخل، لغة العرب اذكرينا، وغناها يوسف عمر، ويا أم العيون السود، التي غناها ناظم الغزالي، وآه يا حلو يا مسليني، وقدك المياس يا عمري، وزوروني كل السنة مرة حرام".

ألحان زرياب
وثّق عثمان عمله الموسيقي، كما يخبرنا راوي حياته وصديقه، وحافظ أسراره، بهاء القزاز، بالتعاون مع الموسيقار جرجس رغم إنه يصغره بحوالي عشرة أعوام. مضى معه ببحث أشبه بالمغامرة، أو الرحلة النغمية العجيبة. أرادا الوصول إلى ألحان زرياب، وإبراهيم الموصلي، وابنه إسحاق. استعان عثمان بإلهامه وخياله وتوقعاته، واستعان جرجس بدأبه وتقصّيه من مختصين في كنائس وأديرة الموصل، وآخرين كان يراسلهم في بغداد ودمشق والمغرب العربي، حتّى حققا بذلك حصيلة طيبة، راسمين خارطة لأغان وألحان عديدة، كانت مدهشة ومفرحة. ألحان تغيض المتزمتين الذين كانوا ينظرون إلى هذا الشيخ بريبة التخلف والحس البليد. استدعيا بذلك المشروع الرائد، السابق لزمانه المضطرب، هواء العصر البغدادي والأندلسي البعيد، والتقطا منه ألحان أولئك الموسيقيين، القديمة الشجية الضائعة. وكان الموسيقار جرجس يجمع التراث الموسيقي للموصل من الأديرة والكنائس، ويزوّد عثمان باسطوانات يجلبها من القسس والرهبان ليسمعها الموسيقار الفقيه. اسطوانات لبيتهوفن وشوبان وباخ وموزارت. يسمع الشيخ ويتأمل. يفتتن بهذا الفن الوافد على الذائقة الشرقية.

شخصية أسطورية
جاءت شخصية عثمان الموصلي في رواية ابراهيم أحمد وكأنها شخصية أسطورية، أو مقطوعة موسيقية مفصّلة على جسد عثمان المغني، الفقيه العازف على أوتار عوده. وهي مقطوعة تهيم في اسطنبول الباب العالي، وقونية جلال الدين الرومي، وتصطخب في جامع الحيدرخانة عند شارع خليل باشا البغدادي، وتخشع في ضريح أبي حنيفة النعمان المطل على النهر، وترقص مع عشق الشيخ في صباه للفتاة مهجة. تسافر مع المكارية إلى حلب، ودمشق، وقاهرة المعز، واسكندرية الماضي. تدخل الجامع الأموي لتتروحن وتنثال من الأناشيد والأذكار وهي تغادر الجامع لتنساب بين بيوت الموصل وأزقتها بأديرتها وبساتينها وخمورها، جالبة معها أمجاد مملكة آشور التي حكمت نصف الشرق من ضفتي نهر دجلة، وأسست مكتبة العالم القديم للملك آشور بانيبال.

ولعثمان الموصلي جوانب عديدة، متناقضة أحيانا، خاصة في علاقته مع الباب العالي والخلافة الحميدية، مثل بلورة كريمة. خطيب لجامع الحيدرخانة في بغداد، والخفافين حين صار شيخا. ثائر على ظلم السلطنة في خطبه شابا، وهو ما أدى إلى اعتقاله ونفيه إلى تركيا، وجليس للسلطان عبد الحميد الثاني في عز مجده. درس على يد الملا العديد من أعلام الموسيقي في العالم العربي مثل عبدة الحامولى، ومحمد كامل الخلعي، وعلى محمود، وسيد درويش، وعمر البطش، وعبد الرازق القبانجي، والملا أبا خليل القباني. هؤلاء الأعلام تتلمذوا على يديه فعبرت الموشحات الشامية والتركية والعراقية من خلاله إلى مصر والشام، وهي مقامات لم تكن معروفة في مصر على سبيل المثال، كالنهاود والحجاز كار والنصراوي. كان دائرة معارف في الشعر والمقامات الموسيقية، والضرب على العود، والعزف على القانون. وله العديد من القصائد والموشحات والألحان، وقد كرم من قبل الدولة العثمانية أكثر من مرة.

رحلة شاقة
كانت الرحلة مع بهاء القزاز، وهو يسرد حياة عثمان الموصلي عبر قلم ابراهيم أحمد، رحلة شاقة، ومعرفية، في سنوات مفصلية في تاريخ الشرق الأوسط. إذ نعيش عبر المغني والملحن والمنشد والفقيه، في إسطنبول، وبغداد، والقاهرة، وحلب، ودمشق، والإسكندرية. ونصبح شهوداً على الصراع المحتدم بين دعاة العروبة ودعاة التتريك من أنصار جمعية الاتحاد والترقي. بين الاسلام المتنور والاسلام الجامد المسخّر من قبل السلاطين والولاة. كما نقرأ عن تهاوي أسس الامبراطورية العثمانية واحتدام الصراع على تركتها من قبل الدول الأوربية كبريطانيا، وألمانيا، وفرنسا، وقيصر روسيا. ونقرأ أسباب كل ذلك ونقتنع. تلك الرحلة تحملنا إلى التصوف والرقص في ملاهي القاهرة مع عبدة الحامولي وليالي الموصل مع جرجس الذي أسس فرقة باسم الشيخ عثمان الموصلي لتحافظ على تراثه وألحانه. استغرقت رحلة الملا عثمان متغربا عن الموصل ثلاثين سنة، جعل منها ابراهيم أحمد نافذة واسعة على عصر، ومدن، وأفكار، وصراعات ظلت تتفاعل حتى اشتعلت الحرب العالمية الأولى وبلغ عثمان شيخوخته، حيث رافقناه في بغداد وهو يقطن غرفة في مسجد الخفّافين. أصبح شيخا يدب على عكازه في الأسواق، وشهد سقوط بغداد على يد الجيش الانكليزي، ولكنه ظل كعهده موسيقياً بارعاً ومتصوفاً يبحث عن شعاع الذات الإلهية والتسامح عبر اللحن، والعود، والشطحات الصوفية. حكمة الحياة في الزواج والحب الروحي وجوهر الدين. وبقي على قناعته بأن الموسيقى هي روح هذا العالم التي توحّد الشعوب وتؤاخي بينها.

الجسد ينتج إشاراته النثرية
مات عثمان الموصلي وحيدا أثناء زيارة لبيت ابنه، بعد أيام من زيارة الملك فيصل الأول له في غرفته المنزوية في الجامع. تلك الرحلة الطويلة لشيخ الموسيقى سكبها الكاتب عبر السرد الملون الخال من الحذلقات اللغوية، سواء في الحوارات أو بناء الجملة السردية. إذ من متطلبات العمل الفني للرواية هو الصدق. وهو ما شكّل الرافعة لتسلسل الحكاية وانتقاء مقاطعها، مع الابتعاد المهني، المدروس، عن الانشاء والاستفاضات. أي أن الحركة القصصية المتواترة أنتجت لغتها، وتفسيرها أو قراءتها الأدبية والروحية، وهو التساوق المطلوب في أي نص مبدع. نعم فالجسد ينتج إشاراته النثرية وجمله المعبرة، والقصد هنا هو جسد الحكاية ذاته بكل تفاصيله.

وخبرة ابراهيم النثرية لمسها القارئ في نسج نص ينتمي إلى عصره. حوارات غنية، وصف أخاذ وفاتن، إدارة ذكية لترميم صورة جلية ملونة للشيخ عثمان، وذلك عبر استحضار الهموم الاجتماعية، ومصطلحات أهل المدينة، وحفلاتها، وعلاقاتها بالسلطة العثمانية الآيلة إلى الزوال. أو الرجل المريض كما وصفها الغرب في تلك الفترة. فترة ما قبل الحرب العالمية الأولى بقليل، وما بعدها، وبروز العراق كبلد يمتلك هويته الوطنية بعد أن اجتمعت فيها الولايات الرئيسية، وهي البصرة وبغداد والموصل، لتشكل عراق اليوم الذي نعرفه. مهمة شاقة بلا شك، أي استحضار عصر كامل تناءى عنا منذ أكثر من قرن، وتقمصه الكاتب روائيا بلغته، وهمومه، وموسيقاه، وأمكنته، وأطعمته، وأزيائه، ومؤامراته. ولا يستطيع انجاز ذلك دون شك، سوى كاتب موسوعي لغة، وثقافة، ومهارة، وكان كل ذلك حاضرا في هذه الرواية الشيقة المسبوكة معرفياً، وتنويرياً.

(*)
مدونة نشرها الروائي العراقي شاكر الأنباري في صفحته الفايسبوكية
(**)"
عثمان الموصلي/ اوتار العكاز"، رواية لابراهيم أحمد، صدرت عن دار الشؤون الثقافية العامة(بغداد- العراق)

 

 

غلاف الرواية

الرئيسية || من نحن || الاذاعة الكندية || الصحافة الكندية || اتصل بنا