الرئيسية || من نحن ||| اتصل بنا
 

د. ضرغام الدباغ استاذ جامعي باحث وكاتب عراقي مقيم في المانيا مؤسس المركز العربي الألماني برلين

 

 

 

حركة الخوارج (الجماعة المؤمنة)

 

رومانسية ثورية، أم رؤية مبكرة

 

د. ضرغام الدباغ

 

مقدمة :

تطلق كلمة خارجي على كل من يخرج من (الإجماع) أو من الرأي السائد شرعاً، أو على الحاكم الشرعي، أو من هو بهذا الحكم معنى وفعلاً.

حركة الخوارج التي يتناولها هذا البحث، هي تلك الحركة التي انبثقت وتأسست على الخارجين على الخليفة الراشدي الرابع علي بن أبي طالب، والذين جادلوه بدء حركة الخروج، ثم عصوا أمره وتوجيهه، ثم غادروا معسكره، ثم قاتلوه في نهاية المطاف، بل وبعثوا أحد رجالهم (عبد الرحمن بن ملجم) ليغتال الخليفة في مسجد الكوفة وهو يهم بالصلاة.

وحركة الخوارج في طور نموها، أطلقوا على أنفسهم (الجماعة المؤمنة) ، بيد أن التسمية التي شاعت عنهم، وهي التي أستخدمها المرخون والباحثون العرب والأجانب والمستشرقين الأوربيين، تواصلت طيلة العهد الراشدي، ثم الأموي، والعباسي، وربما أن هناك ما يزال من يعتبر نفسه منتمياً للخوارج بفكره أو سلوكه. 

 

أولاً :  النشأة والتأسيس

مضت فكرة الخلافة لآل البيت تتحدد أكثر فأكثر أبان النزاعات التي نشيت بين الخليفة ألراشدي الرابع وتحالف الزبير ــ طلحة، من جهة، وتحالف معاوية بن أبي سفيان(حاكم الشام) ـــ وعمرو بن العاص (حاكم مصر) من جهة أخرى. وفي خضم النزاعات والصراعات العسكرية والسياسية انبثقت لأول مرة جماعة أطلقت عليهم اسم الخوارج، وسموا كذلك لأنهم خرجوا من صفوف معسكر الخليفة ألراشدي علي بن أبي طالب، احتجاجاً على أساليب العمل السياسي العسكري، وأعلنوا رفض التضحية بالمبادئ في سبيل العمل السياسي ورفضوا قبول مبدأ التحكيم الذي جرى في صفين بين الخليفة ومعاوية بن أبي سفيان. ثم رفضوا لاحقاً نتائج تحكيم مؤتمر دومة الجندل، ورفعوا شعار "لا حكم إلا لله". ثم مضوا يكرسون مواقفهم الأيديولوجية والسياسية الخاصة بهم التي لا تخلو من الدوغماتية، أما الجماعات التي استمرت متمسكة بالخليفة ألراشدي الرابع فقد أطلق عليهم شيعة أمير المؤمنين، أي جماعة أمير المؤمنين، ثم اقتصرت على كلمة الشيعة، وهو كناية لموقف سياسي بالدرجة الأولى، مؤيد للخليفة علي بن أبي طالب. (1)

تأسست حركة الخوارج في عهد الخليفة الراشدي الرابع علي بن أبي طالب (رض)، (655 م ـ 35 هج/ 661 م ـ 40 هج)، وتواصلت في العصر الأموي والعباسي، حتى تلاشت تدريجياً في العصر العباسي الوسيط (833 م ـ  218هج / 861 م ـ 247هج )، ولكن دائماً مع بقاء شرائح من فئات الخوارج تحت مسميات شتى في شبه الجزيرة العربية، وشمال أفريقيا. وسموا بالخوارج رغم أنهم أطلقوا على أنفسهم (الجماعة المؤمنة)، بيد أن تسمية الخوارج طغت لدى المؤرخين العرب والمسلمين والأجانب.ويعتبرهم الأستاذ البرت حوراني :" أول حركة احتجاج على التضحية بالمبادئ في سبيل الغايات " (2)

وأعتبر الخوارج من الفرق الإسلامية المتشددة، إذ تأسس موقفهم بناء على قبول الخليفة ألراشدي الرابع التحكيم في قضية مبدأية. فهم يرون أن "الخلافة يجب أن تكون باختيار حر من المسلمين، وإذا اختير، فليس يصح أن يتنازل أو يحّكم (يعرض على التحكيم)، وليس بضروري أن يكون الخليفة قريشياً، بل يصح أن يكون من قريش ومن غيرهم، ولو كان عبداً حبشياً(نزولاً عند حديث للرسول)، وإذا تم الاختيار كان رئيساً للمسلمين ويجب أن يخضع له خضوعاً تاماً لما أمر الله وإلا وجب عزله.(3)

ويكتب أبن خلدون  عن تأسيس حركة الخوارج، وهو مؤرخ له منهج علمي محكم : أن المحتجين على قبول الخليفة علي أبن أبي طال التحكيم، ورفضهم قبول المفاوضة مع معسكر حاكم الشام معاوية بن أبي سفيان، غادروا معسكر الخليفة الشرعي، وقد حاول الخليفة على بن أبي طالب محاورتهم ومجادلتهم، فأبوا العودة، وقالوا أن قبول الخليفة الشرعي للتحكيم خطيئة كبيرة، وأن لا حكم إلا لله، ثم وقعت بينهم ومعسكر الخليفة معارك عديدة أهمهما معركة النهروان، وشهرزور، ورغم أنهم خسروا معظم معاركهم، إلا أنهم واصلوا وجودهم كحركة سياسية مؤثرة في الدولة العربية الإسلامية. (4)

وتوجه الخليفة الراشدي بعد معركة الجمل  إلى فض إشكالية ولاية الشام المتمردة، فدخل في مفاوضات مع حاكمها لحل ألازمة سلمياً.  ويرى مركز الاستشراق الألماني في جامعة لايبزغ / ألمانيا، أن النزاع كان في جوهره يدور على السلطة، متخذاً صيغاً قانونية : إذا كان عثمان قد قتل بدون حق فيكون لأقربائه الحق بأخذ ثأره. أما إذا كان قد اغتيل بحق فلا يحق لأحد أن يأخذ بثأره. وكان معاوية من أنصار الرأي الأول، بينما قرر على معارضة أخذ الثأر.

بيد أن المفاوضات لم تفض إلى نتيجة بين الاثنين، فتحرك كل منهما وجرت مناوشات صغيرة، تطورت إلى اشتباك عنيف، وأشارت معطيات الموقف في المعركة أن موقف معاوية قد أصبح في خطر شديد. وهنا نصح عمرو بن العاص حليف معاوية وحاكم مصر المقاتلين برفع نسخ من المصحف على رؤوس الحراب إشارة لإيقاف القتال وجعل الكتاب المقدس(القرآن) حكماً، وهكذا أرغم علي على قبول هذا الحل وتم تسمية الحكام الذين ينبغي عليهم التحكيم بأستخدام أدلة الشريعة لحل المسألة.

وقد حاول الخليفة علي إزالة ومكافحة الخلافات الناشبة داخل صفوفه، فجعل ذلك موضع اهتمامه الأول فحاول بكافة الوسائل أن يزيلها. وإذ فشلت الدبلوماسية في ذلك، فنشبت  صراعات وحروب(مع الخوارج) أهمها في النهروان عام 658 الذي تسبب في توجيه النقد له حتى من أتباعه. وتواصلت الاضطرابات حتى عام 661، إذ سقط الخليفة الراشدي ضحية مؤامرة وأغتيال قام بها أحد الخوارج، في عاصمته الكوفة. ولكن الخوارج واصلوا خوض النضال  السلطة الأموية بالكلمة والسلاح. وقد مثلت هذه الأوضاع في العراق بمجملها مصدر قلق لسلطة الأمويين. وكان العراق في نفس الوقت يعد بموارده، من أكثر الولايات ثراء.(5)

وفي معسكر الخليفة الشرعي، لم يقبل الكثير من أنصاره هذا القرار، فغادروا معسكره وبذلك حملوا اسم الخوارج، وبذلك أصبح للخليفة معارضون جدد من المتزمتين الذين يعتبرون أن المصحف هو المدافع عن حقوق المقاتلين البسطاء ضد سلطة الأرستقراطيين والمواقف المخالفة للدين والخليفة الراشدي علي بن أبي طالب. وأستغل معاوية نقطة الضعف الأخيرة هذه في حزب علي، فقوى نفوذه في مصر.

وخلال عودة جيش الخليفة إلى الكوفة / العراق، تنادى جمع من معسكر الخليفة الرافضين لوقف القتال والتحكيم، تفاوتت المصادر بتقدير أعدادهم بين 6 ألاف و 12 ألف رجل.  منتدباً كبار الصحابة كأبن عباس ، وبنفسه أحياناً، وحجتهم في ذلك أن كتاب الله قد "حكم" في أمر هؤلاء "البغاة" (يقصدون معاوية وأنصاره) ومن ثم فلا يجوز توكيل أمر الله لتحكيم الرجال (أبو موسى الاشعري وعمرو بن العاص) هاتفين : لا حكم إلا لله ". وهو شعار عقب عليه الخليفة الشرعي بكلمة ذهبت مثلاً  : إنها كلمة حق يراد بها باطل . (6)

وقد تحدد في المفاوضات الابتدائية في موقعة صفين، موعد في شهر رمضان المقبل، ومكان التحكيم واتفق الطرفان على واحة دومة الجندل، لكونها موقعاً بنفس البعد بين دمشق والكوفة شمال شبه الجزيرة. وحضر التحكيم عدد من الشهود ممن لهم المكانة : كعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، والمغيرة بن شعبة، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي. وعبد الرحمن بن عبد يغوث الزهري، وأبي جهم بن حذيفة.

وقد أعتبر اجتماع مندوبي التحكيم في دومة الجندل فاشلاً، لم ينتج سوى " تضعيف لشرعية الخليفة الراشدي " و " تعزيز لموقف حاكم ولاية الشام "، وهو ما عزز رأي الخوارج، وموقفهم من التحكيم والخليفة الشرعي، فضاعفوا مطالبهم على الخليفة (رض) :

* رفض التحكيم جملة وتفصيلاً، نتائجاً ومواقفاً.

* الاستعداد لقتال حاكم الشام المتمرد.

بيد أن الخليفة لم يشأ أن ينهي ما بدأه سلماً، وينقض عهوداً قطعها، وهنا تفاقم الموقف داخل معسكر الخليفة وبلور الخوارج أوضاعهم وأنتخبوا أميراً لهم هو عبد الله بن وهب الراسي.

وبما أن مفاوضات التحكيم لم تؤد إلى إزالة العقدة، ومن المؤكد أن فشلها (مفاوضات التحكيم) في دومة الجندل، قد أدت إلى إلحاق الضعف بمعسكر الخليفة، مما زاد في قوة موقف الخوارج، وإلى تواصل وجودهم كياناً سياسياً مهماً في الحياة السياسية للدولة سواء في عصرها الراشدي، أو الأموي، أو العباسي.

وجاءت تسميتهم بالخوارج، لأنهم خرجوا على الأمر الشرعي، فيقول عنهم أبو الحسن الأشعري أنهم :  أولئك النفر الذين خرجوا على عليٍّ بن أبي طالب (رض) بعد قبوله التحكيم في موقعة صفين، ولهم ألقاب أخرى عرفوا بها غير لقب الخوارج، ومن تلك الألقاب الحرورية والشراة والمارقة والمحكمة وهم يرضون بهذه الألقاب كلها إلا بالمارقة، فإنهم ينكرون أن يكونوا مارقين من الدين كما يمرق السهم من الرمية .(7)

كما هو ملاحظ من الاسم، فالخوارج : هم طائفة أبت إلاّ تمزيق صفّ المسلمين وتشتيت شمل الموحّدين، فخرجت على الخليفة الذي تمّت بيعته من أهل الحلّ والعقد وتمّت له الإمامة على المسلمين.  فقد قال الشهرستاني في كتابه الملل والنحل أن : كل من خرج على الإمام الحق الذي اتفقت الجماعة عليه يسمى خارجياً سواء كان الخروج في أيام الصحابة على الأئمة الراشدين أو من كان بعدهم على التابعين لهم بإحسان والأئمة في كل زمان. (8)

واعتبرت معركة النهروان مهمة في تاريخ الصراع السياسي / العسكري بين الخليفة والخوارج، فقد اعتبرت ذروة في الخلاف السياسي وتطوره إلى درجة الصراع المسلح، وهو ناجم عن تطرف وتمسك بالرأي أودى إلى تصعيد لم تكن دولة الخلافة ولا الخليفة يودان بلوغه، فقد مال الخليفة (بإجماع المصادر) إلى المواقف الداعية للحوار وحل الخلافات بالعقل والتحكيم بالوسائل الشرعية.

 

ثانياً : الصراع السياسي والعسكري

وقد عامل أمير المؤمنين علي (رض)الخوارج قبل الحرب وبعدها معاملة المسلمين، فما إن انتهت المعركة حتى أصدر أمره في جنده ألاّ يتبعوا مُدبِرًا أو يجهزوا على جريح أو يمثِلوا بجثة قتيل، يقول شقيق بن سلمة المعروف بأبي وائل وهو  أحد فقهاء التابعين وممن شهد مع عليٍّ حروبه : أن الخليفة على (رض) لم يسب لا في يوم الجمل ولا يوم النهروان .(9)

ولكن هذا التطرف والغلو من جانب الخوارج لم يكن ليخرج الخليفة الشرعي عن أهداب ونص وروح الشريعة التي ظل متمسكاً بها حتى حادثة اغتياله التي أقدم عليها أحد الخوارج (عبد الرحمن أبن ملجم)، فالخليفة الذي بقي بعد المحاولة على قيد الحياة ثلاثة أيام، لم يقبل أن يخرق العرف الدستوري الراشدي الإسلامي في البيعة والشورى ورأي أهل الحل والعقد. فيسأل من نولي بعدك يا أمير المؤمنين، فقال : لم يول رسول الله (ص)  لأولي أنا من بعدي، أنتم بشؤونكم أدرى. وأكثر من ذلك،. فالخليفة الذي حارب الخوارج يوصى الناس بأن لا يقاتلوا الخوارج بعده، ويعلل ذلك بقواعد سياسية رائعة بقوله : ليس من طلب الحق فأخطأه كمن طلب الباطل فأدركه. كما ذكر عنه (رض) قوله : إن خرجوا على إمام عادل أو جماعة فقاتلوهم، وإن خرجوا على إمام جائر فلا تقاتلوهم، فإن لهم في ذلك مقالاً.(10)

وعلى أية حال، فإن الخليفة الرابع عندما اغتيل في مسجد الكوفة، كان ذلك فصلاً مؤلماً آخر من فصول الصراع الدموي الذي أودى بحياة واحد من كبار رجال الصحابة، وقائد من كبار قادة الجماعة الإسلامية، وإن اغتياله سوف لن يحل شيء من التعقيدات السياسية، بل سوف تزيد منها، مع أن الخليفة الذي عاش ثلاثة أيام قبل وفاته متأثراً بجراحه لم يستخلف أحداً بعده للخلافة، قائلاً أن هذا هو شأن المسلمين والجماعة الإسلامية. (11)

وبوفاة الخليفة الرابع يقول أحد المؤرخين:" وهكذا أنتهي الحكم الشعبي الذي كان قوامه البساطة المشيخية، ولم يقدر له من بعد، أن يظهر في أي دولة إسلامية، ولم يبق بعد زوال نظام الحكم الانتخابي سوى الفقه والأحكام المستندة إلى القرآن"(12)

ومع أن الخوارج هزموا عسكرياً في الكثير من المعارك كما كسبوا غيرها، غير أن وجودهم السياسي تواصل بهذه الدرجة أو تلك من القوة في أمصار الدولة الإسلامية حتى في العهود اللاحقة. وهذا مؤشر على أن حركتهم ذات فحوى ومحتوى سياسي / ثقافي كان له صداه بين الناس، وهو دليل حيويتهم حتى عهود متقدمة.

 

ثالثاً : الفكر السياسي / الثقافي  للخوارج

لم يتشكل الفكر الخارجي دفعة واحدة، كما لم يكن من نتاج عالم واحد من علمائهم، بل تكون خلال سنوات الصراع السياسي والعسكري في العهود اللاحقة سواء في عصور الخلافة الأموية أو العباسية.

وكانت حركة الخوارج في البدء حركة سياسية/ أيديولوجية تهدف إلى التمسك بالمبادئ وبعدم التفريط بها، بيد أنها وباعتراضها على عملية التحكيم، أسبابه ونتائجه، أتسع إطارها النظري السياسي ليشتمل نظرية الخلافة حيث طوروا أسس نظريتهم للخلافة، وهي أن الخلافة يجب أن تكون باختيار حر من المسلمين. وإذا اختير كخليفة فلا يصح أن يتنازل أو يعرض أمره للتحكيم، وليس من الضرورة أن يكون الخليفة قريشياً، بل يجوز أن يكون غير ذلك أيضاً ولو كان عبداً حبشياً(استناداً لحديث للرسول منقول عن البخاري: أسمعوا وأطيعوا ولو استعمل عليكم عبد حبشي كان رأسه زبيبة ما أقام فيكم كتاب الله تبارك وتعالى) (13) وإذا تم الاختيار، أصبح رئيساً للمسلمين وعليه أن يخضع خضوعاً تاماً لما أمر به الله والرسول(ص)، وإلا وجب عزله، أي عزل الخليفة ممكن برأي الخوارج.(14)

والخوارج الذين لم يكونوا على جانب من الثراء على الصعيد النظري، طبع التطرف والتعصب مواقفهم وسياساتهم إذ كانوا يقولون: أن مرتكب الصغيرة والكبيرة في النار وهو كافر، في حين كان موقف المرجئة أكثر مرونة بقولهم: أن مرتكب الكبيرة مع فسقه وفجوره فهو مؤمن. أما المعتزلة فقد قرروا: أن مرتكب الكبيرة ليس بمؤمن بزوال أحكام الكفر عنه، ووجب أنه ليس منافق في زوال أحكام المنافقين عنه في سنة رسول الله (ص)، ووجب أنه فاسق فاجر لإجماع الأمة على تسميته بذلك لتسمية الله له في كتابه "  بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون" 11ـ الحجرات).(15).

بل لم يكن للخوارج في بداية ظهورهم أفكار فارقوا به أهل السنة، فقد كانت مفارقتهم للمسلمين في البدء متعلقة باعتراضهم على مسألة التحكيم، إلا أن مذهب الخوارج اتسع ليدخل في بدعِ ومخالفات، وتطرف في المواقف السياسية أستدعى تماثلاً في التنظير لتلك البدع والمخالفات، وتشعبت مذاهبهم وتأويلاتهم في الشريعة، حتى غدوا أسرى التطرف والمغالاة. وشططهم في تأويل فقرات من الشريعة .

والخوارج وإن تقدموا بطروحات دينية، إلا أنها فئة سياسية قبل أي شيء آخر، انشقت عن معسكر الخليفة الشرعي، وبذلك كانت فرقة الخوارج فعلاً " أول حركة احتجاج على التضحية بالمبادئ في سبيل الغايات"(16) وبذلك كانت في بادئ الأمر حركة ذات صبغة سياسية محضة(الاحتجاج على التحكيم ونتائجه)، غير أنهم مزجوا لاحقاً في عهد الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان تعاليمهم السياسية بأبحاث دينية شرعية، وأهم ما توصلوا غليه في هذا المجال هو ليس الاعتقاد بالإيمان وحده، ولكن بعدم ارتكاب الكبائر. إذن فهناك مسألتين مهمتين:

1 . نظرية الخلافة.

2 . نظرية أن العمل هو جزء من الإيمان.

ونجد من المبكر الاسترسال في عرض الآراء الشرعية والفقهية لنظرية الخلافة في الإسلام أكثر مما فعلنا، ذلك أن الموضوع وصل إلى نقطة متفجرة في خلافة على بن أبي طالب، بل في ختام الخلافة الراشدية ومطلع الخلافة الأموية حيث حصل المزيد من التبلور والوضوح في مواقف وأراء الجهات والفرق الإسلامية.

وفي خلال مسيرتهم السياسية والنضالية، طور الخوارج أفكارهم من خلال ردودهم على سواء على خصومهم، أو الأطراف السياسية الأخرى في الساحة كالمعتزلة(بدرجة أساسية) والمرجئة والفقهاء وعلماء الدين بصفة عامة. لذلك نجد أن أفكار مهمة للخوارج هي في الواقع عبارة عن تحديد موقفهم حيال موضوعات اعتبرت في زمانها ووقتها موضعات مهمة كانت تشغل أهل العلم والفقه والسياسة على حد السواء، كالمنزلة بين المنزلتين في إطار تحديد مرتكب الكبيرة، والعدل والتوحيد، وسواها.

والخوارج الذين تفاعلوا تأثراً وتأثيراً مع أراء غيرهم من الفرق والجماعات، كان بعضها يمثل ردود فعل على التطرف، أو تطرف كرد فعل على التساهل في المبادئ من أجل الأهداف السياسية، وعلى سبيل المثال، فإن الفكرة البسيطة للأرجاء تطورت بتطور المواقف السياسية واكتسابها طابع الحدة والتطرف، فالمرجئة الذين عرفناهم كحزب سياسي ظهروا في العقود الأخيرة من القرن الهجري الأول، وربما قبل ظهور المعتزلة بفترة بسيطة،  تطور موقفهم السياسي والنظري كرد فعل على تطرف الخوارج.

وكان الخوارج، الذين غادروا معسكر الخليفة الراشدي علي بن أبي طالب احتجاجاً على قبوله التحكيم أولاً، ومن ثم طوروا مواقفهم السياسية والنظرية، ولكنهم مثلوا على الدوام الطرف الأكثر غلواً. ومن جملة ما تطرفوا فيه بصفة خاصة، أنهم كانوا يكفرون بسهولة ويدعون أن مرتكب الكبائر ليس بمؤمن، وأنهم بذلك أجازوا قتل خصومهم، بل وتعدوا ذلك إلى عوائلهم من النساء والأطفال.

وفي حمى هذا التطرف كان بديهياً أن يبرز طرف آخر يدعو إلى العقلانية، وكان المرجئة هم الحزب الأكثر مرشحاً لهذه المهمة. فالمرجئة أساساً طرحوا عكس أراء الخوارج وقالوا " إن الإيمان هو المعرفة بالله والخضوع له والمحبة بالقلب، وما سوى ذلك من الطاعة ليس من الإيمان، ولا يضر تركها حقيقة الإيمان، ولا يعذب إذا كان الإيمان خالصاً واليقين صادقاً " ثم صاغوا قاعدتهم الشهيرة : " أنه لا يضر مع الإيمان معصية، كما لا يضر مع الكفر طاعة ".(17)

 

رابعاً : فقرات أساسية في الفكر الخارجي

والفكر السياسي الخارجي الذي أنبثق كما أسلفنا كردود أفعال على أفكار ومواقف قوى سياسية أخرى معاصرة لها، ويلاحظ غالبية المؤرخين أن تلك المواقف كانت متطرفة، إذ طبعت الرومانسية الثورية، والغلو تلك المواقف حتى غدت الحركة أسيرة لها، فالتطرف يقود إلى مبالغة في التطرف، والحركات الانشقاقية التي شهدتها الحركة تؤكد هذا المنحى الذي لا يقتصر على حركة الخوارج كحركة سياسية، بل وكذلك مسار الحركات والأحزاب التي تنهج التطرف والمبالغة عامة في طرح الآفاق المثالية للأهداف السياسي / الاجتماعية مما لا نصيب لها على أرض الواقع. ومن أكثر الأمثلة سطوعاً هو انشقاق حركة الازارقة عن الخوارج، وهي فرقة ذهبت مذهباً بعيداً في الغلو والتطرف.

وفي جرد وتحليل المعطيات حول فكر الخوارج ومواقفهم النظرية / السياسية يمكننا أن نثبت الفقرات الأساسية في فكر الخوارج وكما يلي :

1. في نظام الحكم : كان الخوارج من المجاهرين بجواز إمارة المسلم للإمامة بصرف النظر عن نسبه ولونه وجنسه إذا توفرت فيه الصفات الرئيسية: الصدق والأمانة، والالتزام بالدين الحنيف التزاماً صارم، وأن يكون وعادلاً، ونعتقد أن هذه النظرية صالحة لتداول السلطة ديمقراطياً، ولكن بعضهم أجاز ولاية المرأة، وهو ما أعتبر ابتعاداً عن الفكرة السائدة. كما أكدوا أن الامارة لا يمكن أن تورث.

2.  كان موقف الخوارج في حياتهم الداخلية، ذا طابع ديمقراطي. فالخليفة لديهم هو منتخب، يحوز على ثقة المنتخبين، لا يعيَّن ولا يورَّث، ولا يورِّث. وهذا تقليد ديمقراطي إيجابي هام في تاريخ الفكر الديمقراطي العربي الإسلامي. ولكن هذه الأفكار ظلت محصورة في إطار الخوارج دون أن يتعداه.

3. خاض الخوارج في موضوعة مثيرة للجدل في الفكر السياسي الإسلامي، حين أجازوا الثورة على الإمام الفاسق والجائر .

4. كان للخوارج رؤيتهم الخاصة في الخلافة من الرسول (ص) بقبولهم ولاية أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وبعض من ولاية عثمان بن عفان، ولكنهم يوجهون الإدانة لولاية علي بن أبي طالب، وناهضوا خلافة معاوية بن أبي سفيان وقاتلوه.

5. أكد الخوارج على نظرية الاختيار والبيعة في انتخاب الأمير، واعتبروا أن اختيار الأمير هو من (فروع الشريعة)، أي من شؤون الحياة والسياسة وليس من أصول الدين، وإن مصدرها هو الرأي وليس الكتاب أو السنة(18). . وإن كل مسلم هو صالح للخلافة ما دام قد توافرت فيه شروطها من إيمان وعلم واستقامة، مع شرط أن ينال البيعة فالمعنى العصبي الأرستقراطي بعيد عن تفكيرهم، بل عدو لمنهجهم ومسلكهم. (19)

6. في إطار الجدل الذي نشب حول مرتكبي الكبائر والمظالم من الحكام والولاة، وساهم فيه المعتزلة بالنصيب الأكبر حول مرتكب الكبائر، فكفروا مرتكب الكبيرة الذي مات عليها ولم يتب، فيما قال المعتزلة أن الفاسق هو في منزلة بين المنزلتين.

وقد أدت المناقشات في موضوعة المنزلة بين المنزلتين، بالإضافة إلى الفقه الديني، أدت إلى الخوض في قضايا سياسية، بل أن هناك من يعتقد أن جذر (المنزلة بين المنزلتين) في الفكر المعتزلي هو سياسي، قاد إليه الموقف من النزاعات والصراعات السياسية، أو الموقف من الحكام والولاة الفاسقين الذين يرتكبون الكبائر. كما كانت ثورات الخوارج عاملاً ضاغطاً مثيراً للجدل والمناقشات في الحياة السياسية العربية الإسلامية. نعم، كان للمسألة وجه ديني، ولكن إذا شئنا النظر إلى الموضوع بصورة شاملة، فأن المضمون السياسي لها سيبرز بصورة واضحة، ثم استطردوا في هذا المبحث، فتداولوا في قضية الإمامة، وكانت واحدة من أشد الموضوعات حرارة في الحياة السياسية، بل أشدها على الإطلاق، وفي مسألة خلع الإمام الجائر في حال ثبوت فسقه إذ يفقده ذلك أهليته لهذا المنصب.(20) 

7. وفي إطار الأفكار التي كانت مدار المناقشات هي فكرة العدل، وفيها أتفق الخوارج مع غيرهم في نفي الظلم والجور عن الذات الإلهية (الله سبحانه) بأن الله قد منح البشر العقل والإرادة في الأفعال والأعمال.

8. أجمعت كافة فصائل الخوارج على تنزيه الذات الإلهية عن المحدثات.

9. أكد الخوارج صدق وعد الله للمؤمن المطيع، وصدق وعيده للعاصي، والله صادق في وعدة ولا يخلف وعيده.

10. أعتبر الخوارج أن الدعوة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من صلب واجباتهم، ومن ذلك الثورة المسلحة على الحاكم الفاسد الجائر.

11. كان الزهد في الحياة والقتال إحدى تعاليم الخوارج الأساسية، وانتصارهم للمظلومين، والثورة على الطغاة، ونصرة الحق والعدل، وفي ذلك كانوا يشترطون في أمرائهم وقادتهم التقوى والشجاعة والنزاهة . وقد عرف عن الخوارج تقاليدهم التي  اشتهروا بها في القتال، وعفة زهد اتصفوا به في الثروة، فحررهم ذلك من قيود الحرص على الاقتناء، وأعانهم على الانخراط في الثورات والرحيل الأسرع في ركاب الجيوش الثائرة(21).

12. الشورى. أكد الخوارج على مبدأ الشورى(أي بانتخاب الخليفة)، شأنهم شأن معظم الاتجاهات السياسية الإسلامية، ولكنهم باستبعادهم الوراثة في الحكم، والميل إلى دمقرطة الحياة السياسية يمنح هذا التوجه مصداقية أكبر مما لدى غيرهم. وبذلك كرسوا مبدأً ديمقراطياً في شؤونهم الداخلية.

13.  إن الفكر الخارجي كان فكراً محدوداً. بمعنى أنه في علاقته مع المجتمع، رفض رفضاً باتاً التنوع. وعدَّ من يخالفه، أو لا يشاركه الرأي، عدواً له. وهذا ما أدى إلى تقليص القاعدة الاجتماعية لهذه الحركة، وتقليص إمكانيتها فيما يتعلق بإقامة تحالفات، أو بوجود حلفاء لها. وهذا أدى بنتيجة المطاف، إلى تسهيل توجيه ضربة قاصمة لها، وإلحاق الهزيمة بها.

14.  نتيجة بنيتهم الفكرية تلك، التي تكلمنا عنها، لم يكن أيضاً لدى الخوارج إمكانية تحديد من يجب توجيه الجهود ضده في مرحلة محدودة، والتعاون معه في مرحلة أخرى. كان الجميع ممن يخالفهم الرأي أعداء. وهذا أدى إلى أن قوى المعارضة الإسلامية السياسية المتعددة، القائمة آنذاك، لم تكن موحدة، فاستطاعت السلطة استدراج كل قوة على حدة، وتصفيتها.

15. كان الخوارج مشبعين بحلم بناء دولة العدالة التي لم تكن هناك إمكانية لنجاحها مطلقاً. بيد أن هذا الحلم، كان يعبر عن رغبة عميقة لدى الجماهير الفقيرة بالعدالة الاجتماعية، وخصوصاً الجماهير الشعبية المهمشة الأكثر فقراً وعمادها الفلاحون الفقراء، الذين كانوا يخضعون لعملية استغلال لا حدود لها. إلا أن موقف الخوارج من مسألة الملكية، لم يكن حاسمًا كما كان الأمر مثلاً، بالنسبة للقرامطة. أي أنهم لم يتخذوا موقفاً معادياً للملكية الخاصة. وهذا أيضًا كان يعكس طموح الفلاح المعدم إلى تملك الأرض، لأنه كان يرى في تملكه للأرض، خلاصاً من استثمار المالك، وحريةً يمكن أن يمتلكها أيضاً.

 

خامساً : ثورات الخوارج

في العصر الأموي:

بعد معركة النهروان ومقتل خليفتهم ابن وهب، استطاع الخوارج أن يقوموا بعدد من الانتفاضات في مختلف أنحاء الدولة الأموية. وقد استطاعوا أيضاً إحراز العديد من الانتصارات على الجيوش الأموية. ونتيجة هذه الانتصارات، بدأت أعدادهم تكبر وتزيد. إلا أن الدولة الأموية، استطاعت فيما بعد أن تقمع هذه الانتفاضات بقسوة بالغة، وألحقت بهم هزائم مريرة. وقد كان لفشل الخوارج في هذه الانتفاضات، الأثر السلبي الكبير على تطور حركتهم، إذ أدى ذلك إلى حدوث انقسامات في صفوفهم، وبدأ يتطور اتجاه معتدل لديهم، إذ توجهوا لاحقاً باتجاه القيام بتسوية سياسية مع السلطات القائمة آنذاك.

* وبعد مصرع الخليفة الراشدي علي بن أبي طالب (رض) وتنازل ابنه الحسن لمعاوية بدأت حرب الخوارج للنظام الأموي، بل وكادوا أن يحرزوا انتصاراً حاسماً ويهزموا الجيش الأموي في أول تماس بين الطرفين، لولا نجدة أهل الكوفة لجيش معاوية. 

* في سنة 41هـ قاد سهم بن غالب التميمي والخطيم الباهلي تمردًا داخليًّا ضد بني أمية استمر حتى قضى عليه زياد بن أبيه قرب البصرة سنة 46هـ، أي بعد خمس سنوات(22)

*  واستمرت ثوراتهم ضد الأمويين، ففي آخر شوال سنة 64هـ بدأت ثورتهم الكبرى بقيادة نافع بن الأزرق، وهي الثورة التي بدأت بكسر أبواب سجون البصرة، ثم خرجوا يريدون الأهواز. 

* وفي سنة 76هـ وسنة 77هـ تمكّنوا بقيادة شبيب بن يزيد بن نعيم من إيقاع عدة هزائم بجيوش الحجاج بن يوسف الثقفي.

وغير ذلك من الثوارات التي استمرت حتى أواخر الدولة الأموية .

 وبالرغم من أن هذه الثورات الخارجية لم تنجح في إقامة دولة مستقرة  يحكمها الخوارج، طويلاً إلا أنها قد أصابت الدولة الأموية بالإعياء، حتى انهيارها السريع تحت ضربات الثورة العباسية في سنة 132هـ ، فالعباسيون قد قعدوا عن الثورة قُرابة قرن بينما قضى الخوارج هذا القرن في ثورة مستمرة، " ثم جاء القَعَدَةُ فقطفوا ثمار ما زرعه الثوّار "(23).

 

الخوارج في العهد العباسي:

واصل الخوارج نضالهم في العصر العباسي في مراحل عديدة، وفي مناسبات كثيرة، ولكن بفعالية أقل مما كانت عليه في العصر الأموي.، إذ كانت جذوتهم قد بدأت تخبوا، وخطرهم بدأ ينحسر.

ولكن لابد من الإشارة إلى أن حركة ذات سمات وشعارات خارجية، الخوارج كانت قد ظهرت في أواخر العهد الأموي في الشمال الإفريقي بين القبائل البربرية، وقوى أمرهم، وحاربوا حكام تلك البلاد، حتى سيطروا على القيروان حتى أخرجها منهم يزيد بن حاتم بن قبيصة، الذي أرسله المنصور العباسي.

كما أن بعض أسر الخوارج قد حكمت تاهرت لأكثر من 130 عاماً (وإن كانت تفتقد الاستقرار) حتى أزالهم عنها الفاطميون. ولعل سر انتشار هذه الحركة بين البربر هو ميلهم للصراع العسكري مع السلطات، ثم انجذابهم إلى الشعارات التي تنطوي على الكثير من شعارات المساواة، بالإضافة إلى الظروف الخاصة التي كان يعاني منها البربر.

 

سادساً : دول الخوارج

قلنا في هذا البحث أن الخوارج لم ينجحوا بتأسيس دول مستقرة، في سلم مع من حولها من الدول  الكبرى في عصرها، أو مع الكيانات الصغيرة القريبة منها. بل أن وجودهم السياسي كان مرافقاً للحروب والمعارك، لذلك لم يتمكنوا من تقديم مثال لما ينبغي أن تكون عليه الدولة وفق مفاهيمهم.

وقد شهد مشرق الوطن العربي خاصة تأسيس كيانات سياسية عديدة للخوارج، كان لها في بعض الحقب شأن سياسي وعسكري مهم .

 ــ دولة الخوارج الإباضية في المغرب الأدنى والأوسط، وأخضعت أجزاء واسعة لنفوذها.(24) 

ــ دولة للخوارج الصفرية في سجلماسة وتدعى دولة بني مدرار (25).

ــ دولة للخوارج الإباضية في (تاهرت)، إذ أسسوا هذه المدينة عام 161هـ، وأصبح عبد الرحمن بن رستم إمامًا لهذه الدولة  ( الدولة الرستمية)، التي استمرت من سنة 160هـ حتى سنة 296هـ . (26)

 أما كياناتهم السياسية في المشرق العربي، فكان أبرزها، في عمان على ساحل الخليج العربي، فقد كانت ظلت منذ فجر الإسلام مستقرًّا للمذهب الإباضي، وكان من الأمور الطبيعية أن يسيطر أبناء المذهب على نظام الحكم فيه في شكل إمامة تستمد نظام حكمها وأحكامها من المذهب الشائع بين أهل البلاد، لكنها لم تتمكن أن تشع بتأثيرها فبقيت محدودة التأثير.

 ــ الإمامة الأولى (إمامة الجلندى):

بدأت الإمامة الأولى في عمان المستقلة سنة 132هـ على وجه التحديد، وهي السنة التي سقطت فيها دولة بني أمية وقامت دولة بني العباس، وكان أول إمام هو الجلندَى بن مسعود بن جلندَى الجلنداني.

ــ إمامة الخروصيين:

ظلت أمور عمان مضطربة حتى قيض الله لتلك البلاد إمامًا من بني خروص هو الوارث بن كعب الذي بويع له سنة 179هـ، وقد عاشت دولة بني خروص حتى بعد سنة 400هـ بقليل.

 ثم انتهت إمامة الخروصيين وآلت من بعدهم إلى النباهنة الذين لم تكن حال عمان في عصرهم من حيث الأمن والاستقرار بأفضل من عهد سابقيهم، الأمر الذي هيأ لإمامة جديدة في أسرة جديدة.

 ــ إمامة اليعاربة: كان ناصر بن مرشد بن سلطان اليعربي الحميري الأزدي أول إمام يعربي ولي الإمامة سنة 1034هـ.

ــ إمامة البوسعيدية:

انتقل ملك اليعاربة إلى أحمد بن سعيد البوسعيدي سنة 1154هـ، وهو جَدُّ الأسرة الحاكمة في عمان في الوقت الحالي(27).

 

سابعاً : خلافات وانقسامات الخوارج

الخوارج مثلهم كمثل سائر الفرق الإسلامية لم يمنعهم الاتفاق في الأصول من الاختلاف في الفروع والمسائل، فشهد تاريخهم عددًا من الانقسامات قادها عدد من أعلامهم وأئمتهم، ولقد ظل الخوارج بعيدين عن الانقسام حتى عهد إمامهم نافع بن الأزرق (65هـ)، الذي مثّلت الفرقة التي قادها "الأزارقة" أول انقسام داخل تيار الخوارج العام.

وفي مجرى الزمن والأحداث، أنشق الخوراج إلى عدة فئات، حدد المعتدلون منهم انفصالهم في مدن المعسكرات بخوض مناقشات دينية، فيما وضع المتطرفون منهم مبادئهم القائمة على العنف موضع التنفيذ وشكلوا تهديداً مستمراً للعراق، إذ كونوا مجاميع مقاتلة صغيرة نسبياً وخاضوا معاركهم وفق الأسلوب العربي القديم في بلاد الرافدين، أسلوب الإغارات السريعة. وكانوا يقاتلون أعدائهم(وهم مسلمون أيضاً) بدون رحمة، ينسحبون بعدها إلى الأراضي الجبلية المرتفعة في إيران. وقاموا بأعمال إرهابية، ومنهم فئات تعتبر كل من هو ليس خارجياً فهو كافر مع عائلته. وقد أرعبت هذه الأفكار حلفائهم الطبيعيين وهم فلاحوا العراق الذين لم يكونوا جميعاً مسلمين(بينهم من أهل الذمة) الأمر الذي لم يكن له أهمية عند الخوارج. ولم تتح التناقضات الداخلية الحادة بين مجاميع الخوارج، إقامة قيادة موحدة لهم، بل مكنت الحكومة الحكومة المركزية من ألحاق الهزائم بهم باستخدام قوات صغيرة مع أن القوات الحكومية المركزية كانت قوية. وتمثل النجاح الأكبر للخوارج بمنجزات الأباضية المعتدلين بين بدو وسط شبه الجزيرة ووسط وشمال أفريقيا.(28)

وبعد أن استشرت الانقسامات والاختلافات في المسائل والفروع ظلت الجماعات الرئيسية في حركة الخوارج هي: 

1. الأباضية : وهي الفرقة التي أسسها عبد الله بن إباض.

2.  الأزارقة: وهي الفرقة التي أسسها نافع بن الأزرق. 

3. النجدات: وهي الفرقة التي أسسها نجدة بن عامر الحنفي. 

4. الصفرية: وهي الفرقة التي أسسها زياد الأصفر، أو النعمان بن الأصفر، أو عبد الله بن صفّار على خلاف في ذلك.

 

 الأباضية :

ولقد انقرضت هذه الفروع الخارجية ولم يبقَ من الخوارج سوى الإباضية الذين لا تزال لهم بقايا حتى الآن في أجزاء من الوطن العربي (عمان) وشرقي إفريقيا، وفي أنحاء من المغرب العربي (تونس والجزائر)، وفي الجنوب الشرقي للقارة الإفريقية (زنجبار)(29).

وقد سميت هذه الفرقة بالاباضية نسبة إلى مؤسسها (عبد الله بن إباض) وفي منتصف القرن الثامن ميلادي، قام الإباضيون بانتفاضة في قلب شبه الجزيرة العربية، ولكنهم تقهقروا تحت ضغط جيوش عبد الملك بن مروان باتجاه الجنوب، وخصوصاً إلى منطقة عُمان. فأقاموا دولتهم هناك (سكان سلطنة عُمان حالياً هم من الخوارج الإباضيين). وخلال فترة طويلة من الزمن، كان الأباضيون ينتخبون خليفتهم انتخاباً، وقد فشلت جميع المحاولات التي كانت تجري من أجل إحداث تغيير في هذا النهج، بهدف تثبيت التوريث. أما التوريث الحالي في سلطنة عُمان، فهو حديث العهد وليس قديما جداً.

وقد أضطرت الحملات الحكومية بعض الأباضيين بالهجرة  إلى شمال إفريقيا (المغرب العربي) حيث أنشؤا لهم أمامة هناك في أواخر القرن الثامن. وقد سقطت هذه الإمامية في عام 900 ميلادي، على يد الجيوش الفاطمية التي كانت تتجه لإنشاء دولتها الخاصة في سياق زحفها إلى مصر. ولا يزال أنصار الإباضيين الخوارج إلى الآن، يتواجدون كأقليات دينية مؤثرة في عدد من بلدان المغرب العربي.

 

الأزارقة :

هي فرقة من غلاة الخوارج، سموا بهذه التسمية نسبة إلى مؤسسها نافع بن الأزرق، أتصفوا بالغلو والتطرف، ومنها نظريتهم : إن جميع مخالفيهم من المسلمين مشركون، وإن من لا يسارع إلى دعوتهم واعتناق مذهبهم فإن دمه ودم نسائه وأطفاله حلال، وقد كفّروا علي بن أبي طالب (رض)واعتبروا قاتله عبد الرحمن بن ملجم شهيدًا بطلاً(30).

 أستطاع الازارقة في مجرى نضالهم ضد الأمويين من تحقيق أنتصارات مهمة، إلا أنهم ولأسباب ذاتية  أهمها أن الغلو في طرح مواقفهم أبعد عنهم الكثير من التعاطف الشعبي، وحرمهم من التأييد، فـنافع بن الأزرق كان يعتقد هو ومن معه أن المسلمين جميعاً كفار، وأن الأمة بأجمعها كافرة إلا نافعاً ومن كان معه، حتى من كان على مذهب نافع ولكنه لم يهاجر إليه فهو عندهم كافر، فلو أن إنساناً محبوس، ولا يستطيع أن يتخلص من ظلم الحجاج أو من سيطرته مثلاً فلم يخرج ولم يهاجر إلى نافع ويلتحق بجيشه، فهذا عندهم كافر وإن كان على مذهبهم، وهؤلاء يسمونهم القعدة، فكان نافع يكفر القعدة، ويرى أن ديارهم كلها دار كفر، فكل الأمة الإسلامية دار كفر إلا معسكره فقط.

وموضوعية، تمثلت بعزم السلطات على محاربتهم بعد أن تصاعدت شراستهم وإلحاقهم الأذى بأموال الناس وأرواحهم مما سهل على السلطة الحاكمة آنذاك، توجيه ضربة قاصمة لهم، وبالتالي انتهاء هذا التيار واختفائه عن الساحة. 

 

النجدات :

وإن (النجدات) من الخوارج يرون أنه لا حاجة إلى إمامٍ إذا أمكن الناس أن يتناصفوا فيما بينهم، فإن رأوا أن التناصف لا يتم إلا بإمام يحملهم على الحق فأقاموه جاز، فإقامة الإمام في نظرهم ليست واجبة بإيجاب الشرع، بل جائزة، وإذا وجبت فإنما تجب بحكم المصلحة والحاجة(31).

 

الأصافرة :

تأسست هذه الفرقة في القرن السابع الميلادي، وسميت بالأصافرة نسبة لآل الأصفر الذين أسسوها. وكان الأصافرة أكثر اعتدالاً من الأزارقة، فهي أجازت المناورة إذا تطلب الأمر ذلك. وقد تراجعوا مؤقتاً عن تكتيك الجهاد من أجل إسقاط السلطة، ورأوا أن الجهاد، يجب أن تتوفر له المقومات كي يسيروا بخطا ناجحة. كما أنهم لم يكونوا ضد إخفاء الاعتقاد إذا اقتضت الضرورة ذلك، متبعين في هذا ما أطلق عليه اسم التقيّة. وقاد هذا النهج المعتدل لهذه الفرقة، إلى التقارب أكثر فأكثر مع فرقة الإباضيين. وقد هاجر القسم الأكبر من هذه الفرقة، إلى شمال إفريقيا، وعملوا بنشاط مع شركائهم الإباضيين، لبناء مجتمعهم الخاص بهم هناك. 

 

ثامناً : انحسار دعوة الخوارج وأسبابه

قد تقدم ما يوضح بعض أسباب انحسار دعوة الخوارج عن مناطق الحركة العلمية، والنشاط الثقافي، والنفوذ والقوة والازدهار ليعيشوا في مناطق نائية وعرة بعيداً عن سلطة الدولة، في حياة فيها الكثير من مظاهر الجهل والقسوة والبداوة، وحرمهم إلى حد كبير من المساهمة في المد الثقافي والعلمي الذي كان يزداد قوة يوماً عن يوم، وضاعفت قسوة الحياة البدوية النائية، فوق تطرفهم وقسوتهم خيال من لا يتفق معهم في الرأي.

ونؤكد على أن مما ساهم في إنحسار دعوتهم، وتحجيم نشاطهم سرعة تفرقهم، وتشعبهم فرقاً وأحزاباً، لتطرفهم مما كان يبعد عنهم عامة الناس، ويفيد السلطات في تأليب الناس ضدهم، وإثارة محاولات الانشقاق فيما بينهم.

وساهمت طبيعة تعاليمهم، التي كانت تنعكس على مواقفهم، وعلى تحركهم السياسي والعسكري، في منح الحركة طابعها المميز، بالقسوة والغلو،ولا تساعد مثل هذه الظروف على تصاعد نضال حركة تواجه في الدولة خصماً قوياً، كما لا تساعد ظروفها الداخلية على النمو وبلورة مواقف ناضجة، وتطوير فكري لنظرياتهم. بالإضافة إلى عدم وضوح كثير من الأمور الدينية لهم، حيث لم يكونوا قادرين على التمييز بين الإيمان والكفر وموجباتهما.

لكننا، لا نستطيع أن نلوم حركة الخوارج على ما قدمته من أفكار، لأن من يدرس خصائص التطور المجتمعي في ذلك العصر الذي نشئوا فيه، فلا بد أن يصل إلى قناعة عميقة بأن الصراع الاجتماعي الذي كان قائماً آنذاك، كان من الحدة بشكل، أنه لم يكن ليسمح إلا بأفكار حادة على هذا الشكل. وهذا يعطي الخوارج التبريرات التاريخية لهم. ومع ذلك، يبقى للخوارج مأثرة تاريخية أيضاً. فهم من الأوائل الذين طرحوا فكرة الانتخاب للحاكم. وبالتالي وضعوا لبنة جنينية لتطور الفكر الديمقراطي للحركة الإسلامية، ورفضوا توريث الحاكم. مكرسين بذلك التقاليد الشعبية للحركة الإسلامية التي كان عمادها في الأساس، ليس أثرياء المسلمين إطلاقاً، وإنما فقراؤهم، مثل بلال الحبشي وأبو ذر الغفاري وغيرهما. وتبقى صفحة الخوارج جزءاً من الكثير من صفحات التاريخ الإسلامي التي يجب إضاءتها بكثير من الموضوعية، في سياق الفهم التاريخي لها. وليس من خلال إعطاء أحكام جاهزة عليها، كما أراد بذلك أعداؤها اللاحقون.

 

وبالإضافة إلى هذه العناصر المحلية، غدت الولايات الشرقية ميداناً للفعاليات المعادية للدولة الأموية أو العباسية على حد السواء، فقد لاحظنا أن الخوارج الذين كانوا يلجأون إلى المناطق الجبلية في الولايات الشرقية ويقيمون هناك مناطق عصيات أو تمرد أو ثورة، خارجة كلياً أو جزئياً عن سيطرة حكام الولايات، ويسعون لفرض هيمنتهم بالقوة، ولكن لا بد أنه قد ضمنوا بهذا القدر أو ذاك عناصر من أبناء تلك المناطق، وهو ما قامت به فئات من العلويين أو المحسوبين عليه التجأت إلى تلك المناطق تخلصاً من السلطات، ثم استغلال الأجواء المعادية أصلاً للخلافة هناك، وكان أبناء تلك الرجاء يجدون في الانتماء إلى هذه التيارات تنفيساً لعدائهم لسلطات الخلافة المركزية.(32)

وهكذا اجتمعت في تلك الأرجاء أسباب ذاتية داخلية تمثلت بعناصر الثورة ضد النظام لظروف ومعطيات داخلية، قومية، ودينية، وثقافية، وظروف وعناصر خارجية موضوعية تمثلت بحركات ودعايات الخوارج والعلويين، ولكن لم يتمكن غير العباسيين من توظيف واستثمار هذه المتناقضات في أطار عملية سياسية / عسكرية سليمة، فاشتغلوا في سياسة إقامة التحالفات والائتلافات وأداروا بذكاء عملية المعارضة للعهد الأموي، وانتهجوا في ذلك منهجاً منطقياً معقولاً، فلم يبالغوا ولم يتطرفوا أو يسرفوا في إطلاق الشعارات الخلابة والوعود التي تنطوي على التناقض في دعاياتهم، لاسيما أنهم كانوا القاسم المشترك بين أطراف عديدة متناقضة فيما بينها، وبذلك فأنهم ضمنوا حياد هو أقرب للتشجيع من الخوارج الذين كانوا بنفس الوقت خصوماً للعلويين، كما أنهم(العباسيون) كسبوا دعماً ومساندة فعالة من العلويين على أمل أن ينالوا من العباسيين مكسباً يستحيل عليهم اقتطافه من الأمويين، أما حركات الموالي على اختلافها، فقد اعتقدت أنها بدعمها للعباسيين قد ترخي قبضة الخلافة العربية، وإن النظام القبلي(العباسي) قد يفتح الأبواب ولو جزئياً أمام طموحاتهم في تحقيق مكتسبات سياسية، من خلال تغلغل عناصرهم في أجهزة الدولة، وصولاً للمراتب القيادية.(33)

وفي الواقع فأن حسابات هذه القوى المتناقضة فيما بينها والتي أستطاع العباسيون بذكاء ودهاء أن يجمعوا بينها ويؤطروها في إطار نضالهم السري والعلني ضد الأمويين، لم تجد تحقيقاً تاماً لها على ارض الواقع بعد أن أستلم العباسيون الخلافة. وقد أثبتت التجربة أن تحالفات العمل السياسي في المعارضة والنضال هي غير التزامات السلطة ومسؤولياتها، وفي استحقاقاتها التطبيقية. فالخوارج ظلوا على ثوريتهم الرومانسية واستمروا بطرح مواقف مثالية تعجيزية يصعب على العباسيين القبول بها، إما لأنها تعني مواجهة الجميع، أو تجاهل معطيات كثيرة كان الواقع المادي الموضوعي قد أفرزها طيلة الحقبة الأموية، ولم تعد مفردات الموقف السياسي / الأيديولوجي، أو الاجتماعي/الاقتصادي، تحمل ذات الملامح والسمات التي كانت عليها يوم طرح الخوارج مواقفهم السياسية من مسألة الإمامة والخلافة تحديداً.(34)

 

تاسعاً : هوامش البحث

1 . الدباغ، د. ضرغام : نظام الخلافة العربي الإسلامي، ص 121، مخطوطة تحت الطبع.

2 . حوراني، ألبرت: الفكر العربي في عصر النهضة، ص14، بيروت/1977

3.  أمين، أحمد : فجر الإسلام ، ص258 ، طبعة 10،  بيروت/1969

4. أبن خلدون : تاريخ أبن خلدون العبر وديوان المبتدأ والخبر، ص 678، صادر عن بيت الأفكار الدولية / ــــــ

5. Rathmann, L. : Geschichte der Araber, S. 109- 116, Teil 1, Leipzig 1972  

6.  ابن كثير: البداية والنهاية، ج 7 / ص 280 ، 281، القاهرة / 1998

7. الأشعري،  أبو الحسن : مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين ج 1 / ص207.

8. الشهرستاني، أبي الفتح : الملل والنحل،   ج1/ص114 ، بيروت / ــــــ

9. البيهقي: السنن الكبرى، مجلد  8، ص /18 (من الأنترنيت).

10. مصادر في الانترنيت

11. الدباغ، د. ضرغام : تطور أنظمة الحكم والسياسة العربية، ج2، مخطوطة قيد الطبع.

12. علي، سيد أمير: مختصر تاريخ العرب، ص 6 ،  طبعة4 ، بيروت/1981

13. قطب، محمد: شبهات حول الإسلام،       ص50

14. أمين، أحمد: نفس المصدر،                ص258

15. عمارة، محمد : المعتزلة ومشكلة الحريات، ص 67 ، بيروت/9721

16. حوراني، ألبرت: نفس المصدر،          ص14

17. الريس، د. محمد ضياء الدين : النظريات السياسية ، ص70

18 . عمارة، د. محمد : تيارات الفكر الإسلامي، ص 23 ، .

19. الشكعة، د. مصطفى: إسلام بلا مذاهب، ص130، الدار المصرية اللبنانية / 2004

20. الدباغ، د. ضرغام : تطور أنظمة الحكم والسياسة العربية، ص 108، مخطوطة تحت الطبع 

21. عمارة،  د. محمد : تيارات الفكر الإسلامي ص23السابق نفسه،

22. عمارة،  د. محمد : تيارات الفكر الإسلامي ص27، 28.

23. عمارة،  د. محمد : تيارات الفكر الإسلامي ، ص29، 30.

24. شاكر،  محمود : الدولة العباسية ج5، الطبعة 6 ، ص 87. دمشق ـ بيروت / 2000

25.  شاكر،  محمود : الدولة العباسية ج5، الطبعة 6 ، ص 161. دمشق ـ بيروت / 2000

26.  شاكر،  محمود : الدولة العباسية ج5، الطبعة 6 ، ص 134. دمشق ـ بيروت / 2000

27.  الشكعة، د. مصطفى: إسلام بلا مذاهب، ص 151 ـ 159، الدار المصرية اللبنانية / 2004

28. Rahtmann, L. : Geschichte der Araber, S. 129- 130, Teil 1, Leipzig 1972 

29. د. محمد عمارة: تيارات الفكر الإسلامي ص31-33.

30. الشكعة، د. مصطفى: إسلام بلا مذاهب، ص133، الدار المصرية اللبنانية / 2004

31.  الإمام أبو زهرة: تاريخ المذاهب الإسلامية، ص88  القاهرة / 1996.

32. الدباغ، د. ضرغام : نظام الخلافة العربي الإسلامي، ص 155، مخطوطة قيد الطبع

33. الدباغ، د. ضرغام : نظام الخلافة العربي الإسلامي، ص 155، مخطوطة قيد الطبع.

34. الدباغ، د. ضرغام : نظام الخلافة العربي الإسلامي، ص156

*******************

عاشراً : مصادر البحث

1 . الدباغ، د. ضرغام : نظام الخلافة العربي الإسلامي، مخطوطة تحت الطبع.

2 .الدباغ، د. ضرغام : تطور أنظمة الحكم والسياسة العربية، مخطوطة تحت الطبع. 

3.  أمين، أحمد : فجر الإسلام ، ص258 ،  بيروت/1969

4. أبن خلدون : تاريخ أبن خلدون، عن بيت الأفكار الدولية/ ــــــ

5. ابن كثير: البداية والنهاية، ج 7 / القاهرة / 1998.

6. الأشعري،  أبو الحسن : مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين ج 1 .

7. الشهرستاني، أبي الفتح : الملل والنحل،  ج1/  بيروت / ــــــ

8. البيهقي: السنن الكبرى، مجلد  8. (من الانترنيت)

9. حوراني، ألبرت: الفكر العربي في عصر النهضة،  بيروت/1977

10. مصادر في الانترنيت

11. قطب، محمد: شبهات حول الإسلام، بيروت / 1978

12. عمارة، محمد : المعتزلة ومشكلة الحريات، بيروت/9721

13. عمارة، د. محمد : تيارات الفكر الإسلامي، القاهرة / 1991.

14. علي، سيد أمير: مختصر تاريخ العرب،  طبعة4 ، بيروت/1981

15. الريس، د. محمد ضياء الدين : النظريات السياسية الإسلامية، طبعة 3، القاهرة / 1960

16. الشكعة، د. مصطفى: إسلام بلا مذاهب، الدار المصرية اللبنانية / 2004

17. شاكر،  محمود : الدولة العباسية ج5، الطبعة 6 ، دمشق ـ بيروت / 2000

18.  الإمام أبو زهرة: تاريخ المذاهب الإسلامية،  القاهرة / 1996.

19. Rathmann, L. : Geschichte der Araber, S. 109- 116, Teil 1, Leipzig 1972 

 

المركز العربي الألماني

برلين

المراسلات :

Dr. Dergham Al Dabak : E-Mail: drdurgham@yahoo.de

 

 

ستة قصائد

لـ"برتولد بريشت"

Bertolt Brecht

 


 د. ضرغام الدباغ

 


برتولد بريشت 1898 ـ 1956، شاعر ومسرحي ألماني كبير، عاش حياة شخصية وفنية وسياسية مثيرة، ناهض النظام النازي، مما اضطره عام 1933 إلى مغادرة بلاده والعيش في المهجر، ثم عاد إلى ألمانيا بعد نهاية الحرب عام 1947، وأختار العيش في الجزء الاشتراكي من ألمانيا. أسس في برلين مع زوجته هيلينا فايغل المسرح الشهير " برلين أنسامبل "
Berlin Ensemble كتب أعمالاً شعرية ومسرحية ترجمت وعرضت في كافة أرجاء العالم كما لم يحظى به أي كاتب مسرحي، ومن أشهر أعماله: " أوبرا القروش الثلاثة 1928 " و "الأم الطيبة وأطفالها 1939 " غاليلو غاليلي 1938 " ومن أعماله التي حظيت بشهرة خاصة في الوطن العربي " بونتلا وتابعه ماتي ".


ولكن برشت شاعر كبير كما هو في المسرح والدراما، وقد أخترنا وترجمنا ثلاث من أجمل اعماله، وأكثرها عمقاً ومغزى على الصعيد السياسي والاجتماعي.


ثلاث قصائد


ترجمة د. ضرغام الدباغ

 

1
شقيقي الطيار


(شارك الجيش الألماني في الحرب الأهلية الأسبانية إلى جانب فرانكو)

شقيقي كان طياراً
أستلم ذات يوم رسالة
حزم حقيبته
والسفر كان .... تقدم نحو الجنوب
شقيقي كان غازياً
التوسع : هو ما يحتاجه شعبنا
هو عندنا حلم قديم
وأرض لنحارب عليها
التوسع وأخي الصغير
يرقدان بنقاء في محيط كوادر ..........................(مدينة في اسبانيا)
بطول متر وثمانين
وعمق متر وعشرين.


------------------------

 

 

 

 

 

2


غلطة جنرال

يا جنرال، دبابتك عربة قوية
أنها تستطيع أن تحطم غابة، وأن تسحق مئة إنسان
ولكن لها غلطة واحدة :
أنها تحتاج إلى سائق

* * * *

يا جنرال، قاصفتك قوية
إنها تطير أسرع من العاصفة وتحمل أكثر مما يحمل الفيل
ولكن لها غلطة واحدة :
أنها تحتاج إلى طيار

* * * *

يا جنرال، الإنسان ضروري جداً
إنه يستطيع أن يطير، ويستطيع أن يقتل
ولكن لديه غلطة واحدة :
إنه يستطيع التفكير


 

 

3

أسئلة أبني الصغير

يسألني ابني الصغير : هل أدرس الرياضيات ؟
ولماذا، أردت أن أقول له. قطعتان من الخبز أكثر من واحدة
وبوسعك أن تدرك ذلك.
ابني الصغير يسألني : هل أتعلم الفرنسية ؟
ولماذا ، أردت أن أجيبه. هذه الإمبراطورية آيلة إلى الأسفل. مسدّ على بطنك وتأوه، و سيفهم المرء ما بك.
أبني الصغير يسألني : هل أدرس التاريخ ؟
ولماذا، أردت أن أقول له. تعلم كيف تدس رأسك في الأرض
وربما بذلك ستنجو.

نعم، تعلم الرياضيات، قلت له. تعلم الفرنسية، تعلم التاريخ !




 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

4

 

كومونة باريس : آذار ــ مارس / 1871

 

هي انتفاضة وطنية في المقام الأول، ضد الاحتلال البروسي / الألماني لأجزاء كبيرة من فرنسا، وصولاً إلى ضواحي باريس، عندما أنتفض الشعب رافضاً الاحتلال والهزيمة، أصطفت السلطة المهزومة من المحتلين وبدأوا بإبادة عشرات الألوف من جماهير الانتفاظة والشعب،  وكان وقود الانتفاضة الرئيسي بالطبع الكادحين والثوريين.

 

عن الثورة ودروسها كتب الشاعر الألماني التقدمي قصيدة ضمن مسرحية كتبها بأسم (يوميات كومونة باريس) إليكم نص القصيدة من ترجمتي.

 

لا أحد أو الكل

 

برتولد برشت : يوميات كومونة باريس

 

ترجمة : ضرغام الدباغ

 

(1)

أيها العبد ... من سيحطم لك قيودك  ويحررك ..؟

أنت يا من تقبع في عمق الأعماق

هم الرفاق قادمون ليحررونك

هم من يسمعون صرخاتك ..

العبيد سيحررونكم

الكل او لا احد

الكل او لا شيئ

الفرد هنا ليس بوسعه إنقاذ نفسه

الكل أو لا احد ........  الكل أو لا شيئ

 

(2)

أيها الجياع ... من سيطعمكم ..؟

هل تريد أن تأخذ كسرة خبز ..؟

تعال إلينا .. الجوع عذاب ..!

دعنا نؤشر لك الطريق

الجياع سيطعمونك

الكل أو لا احد ........  الكل أو لا شيئ

الفرد هنا ليس بوسعه إنقاذ نفسه

إما البنادق أو القيود ..

الكل أو لا احد ........  الكل أو لا شيئ

 

(3)

أيها المعذبون ... سيثأرون لكم ..

وأنت من سيرد لهم الضربة ..

أنتظم في صفوف المقموعين ..

ونحن بكل ما يعترينا من ضعف ...

نحن أيها الرفيق من يثأر لك ..

الكل أو لا احد ........  الكل أو لا شيئ

الفرد هنا ليس بوسعه إنقاذ نفسه

إما البنادق أو القيود ..

الكل أو لا احد ........  الكل أو لا شيئ

 

 

(4)

الخاسرون، سيجازفون

الذين لم يعد يحتملوا شقائهم ..

أن ينهضوا ويوجهوا ضرباتهم

لابد عليهم أن يفعلوا ... ما ينبغي أن يكون

اليوم ....وليس الغد

الكل أو لا احد ........  الكل أو لا شيئ

الفرد هنا ليس بوسعه إنقاذ نفسه

إما البنادق أو القيود ..

إما لا شي أو الكل ... الكل أو لاشيئ

 

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

Bertold Brecht : Die Tage der Kommune: Verlag Philipp Reclam jun. Leipzig 1883 , S. 71

 

 

 

5


إلى مواطني بلادي

 

شعر : برتولد برشت ـــ 1949

 

ترجمة : ضرغام الدباغ

 

إليكم .. أنتم يا من تعيشون في مدن ميتة ..

ها أنتم ترحمون أخيراً بعضكم .. وفقرائكم لن يسحبوا إلى حروب جديدة ..

المسنون منكم لم يبلغوه ليعيشوه .. لذا

إنني أرجوكم أن تكونوا رحماء بينكم

رجالكم يلجئون اليوم أدوات البناء وليس للسكاكين ...

من أجل أن تسكنوا أخيراً تحت سقوف تحميكم ...

سوف لن تجلسوا على السكاكين ..

فالعيش تحت سقوف آمنة أفضل ..!

إنني أرجوكم أن تلجأوا إلى للبناء وليس للسكاكين ..

أطفالكم .. يترحمون عليكم من الحرب قاسيتموها..

أطفالكم ينبغي عليهم أن يربوا تحت أنظار آباءهم ..

هيا .. قولوا بصوت عال ..انكم لا تريدون العيش بين الأطلال

من أجل أن لا يعانوا ما أنتم قاسيتموه ..

أطفالكم .. الذين يترحمون عليكم من الحرب

أمهاتكم ... اللاتي عدتم إليهن ..

اللاتي صبرن على الحرب وتلك اللاتي لم يصبرن ..

إنني أرجوكم ... دعوا أطفالكم يعيشون ..

أنتم مدينون لهم بالحياة وليس بالموت ..

أيتها الأمهات ... دعوا أولادكم يعيشوا بسلام ...!

 

____________________________________________

Bertolt Brecht

Hundert Gedichte

1918 – 1950

 

 

 

6

 

قصيدة للسلام

 

برتولد برشت

ترجمة : ضرغام الدباغ

 

سلاماً على عالمنا ....

سلاماً على حقولنا

وإلى كل من يقف

بثبات لا يعرف الوجل ....

 

********

سلاماً على بلادنا

سلاماً على مدننا

على الذين آووا بأمان إلى بيوتهم

سلاماً على بناة البيوت

 

 

********

سلاماً على بيوتنا

سلاماً على الساكن جوارنا

سلاماً على الجيرة المسالمة

لمن يشاركونك كل شيئ

 

****************

سلاماً على الساحة الحمراء

وعلى نصب لنكولن ...................................... 1

سلاماً على بوابة براندنبرغ .......................... 2

سلاماً على الراية التي ترفرف فوقها ..

 

**************

 

سلاماً لأطفال كوريا

وللرفاق في النايسة والروهر ..............................3

سلاماً إلى كادحي نيويورك

سلاماً إلى حمالي سنغافورة ............................... 4

 

****************

سلاماً للفلاحين الألمان

سلاماً للفلاحين في كل مكان

سلاماً للمعلم العظيم

وعلى مدينتك لينينغراد

*************

سلاماً للنساء والرجال

سلاماً للشيوخ والأطفال

سلاماً للبحيرات وللبر

ولكل شيئ رائع لنا

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

هوامش:

لينكولن: الرئيس 16 للولايات المتحدة ومحرر العبيد (1809 ــ 1865).

 

براندنبرغ: بوابة تنتصب في شارع تحت الزيزفون كنصب عملاق في مدينة برلين

 

النايسة: نهر يفصل بين ألمانيا وبولونيا، وعلى ضفتيه تقوم صناعات ألمانية وبولونية.

 

الروهر: منطقة مناجم الفحم الحجري في غرب ألمانيا، وفيها تقوم صناعات ثقيلة بكثافة.

 

 

 

المركز العربي الألماني -  برلين

 

المراسلات :

Dr. Dergham Al Dabak : E-Mail: drdurgham@yahoo.de

 

دراسات ـ إعلام ـ معلومات

معركة أنوال من

معارك العرب الكبرى

ضرغام الدباغ

 

" يوم أنوال " من أيام العرب المجيدة : ذي قار، القادسية، حديقة الموت، اليرموك، أجنادين، نهاوند، حطين، عين جالوت، بلاط الشهداء، أبطال المرابطون، معركة أنوال، واحة الكفرة، الجبل الأخضر، معركة التل/مصر، أوراس، حي القصبة/ الجزائر، عبور قناة السويس 1973، تحرير الفاو 1988، ثورة الحجارة، الأبطال الاستشهاديون / فلسطين، بيروت1982، أبطال قلعة الشقيف، بورسعيد 1956، التجريدة المغربية 1973/ الجولان، حصار صنعاء 1966، إنزال كفر نفاخ 1973، معركة الكرامة 1968، الجيش المصري في القنطرة 1967، جزيرة شدوان، عملية إيلات 1969، إنزال جبل الشيخ 1973، إنزال تل الفرس 1973، معركة الخفاجية/ 1981.

المعطيات الاساسية :

تاريخ المعركة : 17 تموز إلى 9 / آب / 1921

الموقع : المغرب ـــ أنوال

المتحاربون : جمهورية الريف ــــ أسبانيا

القادة : محمد عبد الكريم الخطابي / المغرب : مانويل سلفستر نافارو

القوة : المغرب : 3 ألاف مقاتل مغربي، الخسائر : 1 ألف شهيد.

اسبانيا 25 ألف جندي أسباني، الخسائر : 13363 قتيل وجريح.

ومن أهم نتائجها: غنائم 200 مدفع، وأكثر من 20000 بندقية، وكميات لا تحصى من القذائف وملايين الطلقات وسيارات وشاحنات، وأدوية وأجهزة التخييم. وبالإضافة إلى المعدات العسكرية، كما تم أسر 700 أسير وفقد الإسبان 15000 جندي ما بين قتيل وجريح.

نتيجة المعركة : نصر حاسم للمغرب

يوم أنوال وبه تحقق للقوات العربية المغربية نصر مبين، فوز تاريخي لا يقل عن أيام يوم القادسية، واليرموك، وحطين، وعين جالوت، والفاو، والنصر تحقق في انوال شمال شرق المغرب الاقصى.، فيما أطلقت عليه اسبانيا " كارثة أنوال " وتسببت في أزمات سياسية، فيما مثلت للثورة المغربية دافعا معنويا كبيراُ، باعتبار أن الثورة كانت تقاتل بأسلحة بدائية، وبعدد قليل من المقاتلين، مقابل جيش أوربي متطور مجهز بأسلحة متطورة،

معركة أنوال هي معركة وقعت في 17 يوليو / تموز 1921 في المغرب الإسباني بين الجيش الإسباني في أفريقيا ومقاتلين مغاربة منطقة الريف الآمازيغية، شمال شرق المغرب الأقصى خلال حرب الريف. عرفت هزيمة عسكرية كبيرة للجيش الإسباني، لدرجة تسميتها من قبل الإسبان بكارثة أنوال (بالإسبانيةDesastre de Annual)‏، تسببت نتائج المعركة في أزمات سياسية كبرى في الداخل الإسباني. وكان انتصار المقاومين الريفيين بقيادة الأمير محمد عبد الكريم الخطابي رغم كونهم فئة قليلة وبوسائل بسيطة مقابل جيش عتيد وأسلحة متطورة فتاكة. وكان لمعركة أنوال نتائج كثيرة لصالح المقاومين المغاربة بقيادة الأمير محمد عبد الكريم الخطابي، ومن أهم نتائجها: غنائم 200 مدفع، وأكثر من 20000 بندقية، ومقادير لا تحصى من القذائف وملايين الخراطيش وسيارات وشاحنات، وتموين كثير يزيد عن الحاجة، وأدوية وأجهزة التخييم. وبالإضافة إلى المعدات العسكرية تم أسر 700 أسير وفقد الإسبان 15000 جندي ما بين قتيل وجريح.

المعركة

وتعد معركة أنوال من أهم المعارك التي شهدها العالم الحديث في القرن العشرين. وقد خاضها القائد محمد عبد الكريم الخطابي ضد الاستعمار الإسباني معتمدا في ذلك على حرب شعبية كان لها صيت عالمي كبير. وكان مؤتمر الجزيرة الخضراء سنة 1906 قد خرج بقرار يضع المغرب تحت الحماية الاجنبية، فأسنهدفت أسبانيا شكال المغرب، بينما ركزت فرنسا على وسطه، فيما أعتبرت طنجو منطقة دولية.

 واجهت إسبانيا أثناء تغلغلها في منطقة الريف الشرقي مقاومة شرسة وحركة جهادية قادها محمد الشريف أمزيان من سنة 1906 إلى 1912. وكانت حملة الشريف الدفاعية منصبة على عرقلة تغلغل الإسبان في أزغنغان بعد مده للسكة الحديدية لاستغلال مناجم الحديد في منطقتي أفرا وجبل إكسان. وقد كبد الشريف الإسبان خسائر مادية وبشرية، كما قضى على ثورة الجيلالي الزرهوني والذي يلقب في المغرب ببو حمارة أو الروكي.

وبعد موت الشريف أمزيان في 15 مايو / أيار 1912 واصلت أسرة عبد الكريم الخطابي النضال المستميت ضد التكالب الإستعماري الإسباني-الفرنسي. ووقفت في وجه أطماع الحكام الإسبان والطبقة الأرستقراطية المناصرة لسياسة الحرب وأطماع الحزب الحاكم. ولما أحس محمد عبد الكريم الخطابي بأطماع إسبانيا في الريف الشرقي التي تتمثل في احتلال الحسيمة والحصول على خيرات الريف واستغلال معادنها بعد استيلائها على الناظور وتطوان والاستعداد للانقضاض على ثورة الريسوني لاحتلال شفشاون، قرر أن يؤسس إمارة جهادية؛ وذلك بتوحيد قبائل الريف مثل: كزناية وبني ورياغل وبني توزين وتمسمان. وأسس إمارته على أحكام شريعة الله وأنظمة الإدارة الحديثة، وأبعد الريفيين عن الفوضى والثأر، وأجبرهم على الاحتكام إلى عدالة الشرع والقضاء الإسلامي. هذا وقد أحدث عهد عبد الكريم قطيعة بين عهدين:

عهد السيبة والفوضى الذي يمتد من أواخر القرن 19 إلى أوائل العقد الثاني من القرن العشرين بكل ما شهده من سخائم ونعرات عشائرية. أما عهد الثورة التحريرية الممتدة من 1921 إلى 1926، إذ عرف الريف عدة إصلاحات وفي مقدمتها القضاء على حدة الفوضى والثأر.

ولما عرف عبد الكريم بنوايا حكومة إسبانيا الإستعمارية نظم جيشه أحسن تنظيم على الرغم من نقص العدد والعتاد. وكان عبد الكريم مثالا في الشجاعة والبطولة والعدل والتشبع بالقيم الإسلامية، لذلك اتخذه الريفيون بطلا جماهيريا يقود ثورة شعبية من الجبليين والفلاحين للدفاع عن أغراضهم وأعراضهم باسم الجهاد والحق المبين. ولا يعني هذا أن إمارة الريف مستقلة عن السلطة المركزية؛ بل كانت موالية لها أتم الولاء والخضوع والاحترام. فرضتها الظروف المرحلية والعسكرية. وقد أثبت جرمان عياش في كتابه «أصول حرب الريف» هذه التبعية والولاء عندما أقام المؤلف لائحة بأسماء عمال مخزنيين تمتد من 1835 إلى 1900 وتشهد على استمرار حضور ممثلين عن المخزن في الإقليم، كما كشف عن وجود ست قصبات في مختلف أنحاء الريف ترابط بها حاميات مخزنية. وكل هذا يدل على أن الريف كان خاضعا للسلطة المركزية على عكس ما تدعيه الروايات الأجنبية. ولم تكن ثورة الريف التحريرية لعبد الكريم بدافع إقليمي ضيق، بل كانت بدافع وطني ضد الاستعمار ككل، وبدافع قومي لتحرير الشعوب الإسلامية من ربقة الإستعمار والجهل والتخلف.

 

أحداث المعركة

بدأت إسبانيا تعقد الآمال على احتلال خليج الحسيمة بعد أن عقد المقيم العام الجنرال بيرينغير صلحا مع قبائل الريف، واستقبل بحفاوة من قبائل الأعيان وبعض الرؤساء من بني ورياغل وبني سعيد وبنطيب. وعاد المقيم العام إلى تطوان متفائلا مسرورا ومشيدا بعمل سلبستري القائد العام للجيوش الغازية المعتدية. كما اطمأن وزير الحرب الإسباني " إيزا " إلى هذا الوضع المريح عسكريا وسياسيا. وعلى الرغم من هذا التفاؤل الزائد، كان الريفيون وخاصة رجال بني سعيد وبني وليشك وأهل كرت على أهبة للانقضاض على عدوهم سلبستري الذي أحرق غلتهم ومنازلهم، وصادر أغنامهم دون أن يدفع لهم تعويضا مقابل ذلك، ودفعهم إلى الهجرة نحو الجزائر إتقاء لبطشه والفقر والجفاف. هذا، وقد اتفق الجنرال بيرينغير مع رئيس الشرطة الأهلية بمليلية الكولونيل غبرييل موراليس على التوجه نحو الريف للتفاوض مع عبد الكريم، وذلك بإغرائه بـ7 ملايين دولار، عدا كمية وافرة من الأسلحة حديثة وجميع أنواع الذخيرة التي تمكنه من مقاومة الجيش الفرنسي مقابل التنازل عن خليج الحسيمة. لكن عبد الكريم رفض هذه المساومات، وأصدر أمرا يقضي بفرض غرامات على كل من يتفاوض مع الإسبان في هذه القضية المصيرية، كما هدد الإسبان بعدم اجتيازهم «وادي أمقران» وإلا سيتصدى لهم الأبطال الأشاوس من تمسمان وبني توزين. وقد أثار هذا التهديد حفيظة سلبستري، وقرر غزو المنطقة ساخرا من تهديدات عبد الكريم ومستصغرا من شأنه ومن عدته الحربية. وبعد ذلك، بدأ سلبستري في بناء الثكنات والحاميات العسكرية لتسهيل الإمدادات الحربية وتأمين وجود قواته وتمركزها بشكل أفضل ومقبول في كل المناطق الريفية الإستراتيجية، فاقترب الجنرال من ضواحي أبران أواخر أيار 1921 لمحاصرة الموقع، وجس النبض،بيد أن الريفيين تصدوا للجيش الغازي وألحقوا به هزيمة شنعاء ما زال يتذكرها الشعر الأمازيغي: قديما وحديثا.

 

وعليه، فقد توجه الثوار بهجوم ضد مركز أبران فاقتحموه، وقتلوا جميع من كان به من ضباط وجنود إلا عددا قليلا استطاع الهروب، فالتحقوا إما بأنوال وإما بسيدي إدريس.

 

وأصدر الجنرال برينغير أوامره لسلبستري بعدم التقدم إلى الأمام، لكن هذا لم يعر أدنى اهتمام لهذه الأوامر، وتوجه مباشرة نحو أنوال للسيطرة على الموقع. وهناك نشبت معركة حامية الوطيس دامت خمسة أيام شارك فيها العدو بـ25 ألف جندي، ولم يحضر إلى أنوال من مجاهدي عبد الكريم سوى ألفي مجاهد، أما الجنود الآخرون فكانوا ينتظرون الفرصة السانحة، ويترقبون الأوضاع مع زعيمهم عبد الكريم بأغادير. وفي الساعة السادسة مساء من 20 يوليو/ تموز 1921، وصل عبد الكريم مع 1500 جندي إلى موقع أنوال؛ لتشتعل الحرب حتى صباح 21 يوليو من نفس السنة، وانتهت الحرب بانتحار سلفستري وموت الكولونيل موراليس الذي أرسل عبد الكريم جثته إلى مليلية، لأنه كان رئيسه في إدارة الشؤون الأهلية سابقا.

 

وقد اتبع عبد الكريم في هذه المعركة خطة التخندق حول «إغريبن»، ومنع كل الإمدادات والتموينات التي تحاول فك الحصار على جيش العدو. وكانت الضربة القاضية لمركز «إغريبن» عندما أدرك المجاهدون نقطة ضعف الجنود الإسبان المحاصرين المتمثلة في اعتمادهم على استهلاك مياه «عين عبد الرحمن» بـ«وادي الحمام» الفاصل بين «إغريبن» وأنوال، فركزوا حصارهم حول هذا النبع المائي، وبذلك حرم الجنود الإسبان من الماء، واشتد عطشهم إلى درجة اضطرارهم إلى شرب عصير التوابل وماء العطر والمداد، ولعق الأحجار، بل وصل بهم الأمر إلى شرب بولهم مع تطعيمه بالسكر كما جاء في المصادر الإسبانية.

 

وقد تتبعت جيوش عبد الكريم فلول الجيش الإسباني، وألحقت به عدة هزائم في عدة مواقع ومناطق مثل: دريوش وجبل العروي وسلوان فأوصله حتى عقر داره بمليلية. وبعد ذلك أصدر عبد الكريم أمره بالتوقف وعدم الدخول إلى مليلية المحصنة لاعتبارات دولية وسياسية وعسكرية. وفي هذا يقول أزرقان مساعده الأيمن في السياسة الخارجية:

 

" نحن (الريفيين) لم يكن غرضنا التشويش على المخزن من أول أمرنا، ولا الخوض في الفتن كيفما كانت، ولكن قصدنا الأهم، هو الدفاع عن وطننا العزيز الذي كان أسلافنا مدافعين عنه، واقتفينا أثرهم في رد الهجومات العدوانية التي قام بها الإسبان منذ زمان، وكنا نكتفي بالدفاع عن الهجوم عليه فيما احتله من العدو البلدان مثل مليلية التي كان في وسعنا أخذها بمن فيها، دون تضحيات جهادية كبيرة، لكنا لم نفعل ذلك لما كنا نراه في ذلك من عاقبة وخيمة، فانه ليس عندنا جند نظامي يكفي للدفاع عن الحدود التي يصلها "..

ومع ذلك يعترف عبد الكريم بغلطته الكبرى بعدم استرجاعه لمليلية في مذكراته:

" على إثر معركة جبل العروي، التي بلغت أسوار مليلية، وتوقفت، وكان جهازنا العسكري ما يزال في طور النشوء. فكان لابد من السير بحكمة، وعلمت أن الحكومة الإسبانية وجهت نداء عاليا إلى مجموع سكان البلاد، وتدعو للأستعداد التوجه إلى المغرب زعبأت كل ما لديها من إمدادات، فاهتممت أنا، من جهتي بمضاعفة قواي وإعادة تنظيمها، فوجهت نداء إلى كل سكان الريف الغربي، وألححت على جنودي وعلى الكتائب الجديدة التي التحقت مؤخرا، وشددت عليهم، على ألا يفتكوا بالأسرى ولا يسيئوا معاملتهم، ولكني أوصيتهم في نفس الوقت وبنفس التأكيد، على ألا يحتلوا مليلية، اجتنابا لإثارة تعقيدات دولية وأنا نادم على ذلك بمرارة وكانت هذه غلطتي الكبرى ".

نتائج المعركة

ومن نتائج معركة أنوال الكم الوفار من السلاح والعتاد الذي غنمه المجاهدون الريفيون من عتاد عسكري حديث. وفي هذا الصدد يقول عبد الكريم في مذكراته أيضا:

" عادت علينا هزيمة العدو في  أنوال 200 مدفع من عيار 75 أو 65 أو 77، وأكثر من 20000 بندقية ومقادير لا تحصى من القذائف وملايين الخراطيش، وسيارات وشاحنات، وتموينا كثيرا يتجاوز الحاجة، وأدوية، وأجهزة للتخييم، وبكميات وافرة، وبين عشية وضحاها غنمنا ما كان يعوزنا لنجهز جيشا ونشن حربا كبيرة، وأسرنا 700 أسير، وفقد الإسبان 15000 جندي ما بين قتيل وجريح ".

وكان لهذا الانتصار في معركة أنوال صدى طيب على المستوى الوطني والعربي، وقيل الكثير من الشعر للإشادة بهذه المنازلة العظيمة، وقد شاع بعد ذلك أن بعض الأدباء جمع اما قيل في موضوع الحرب في ديوان أسموه " الريفيات ".

وعلى المستوى الإعلامي، وقف الرأي العالمي من الحركة التحريرية الريفية موقفين متقابلين بين مؤيد ومعارض. فالتيار المعارض هو بطبيعة الحال، التيار الإستعماري الذي له مصالح كثيرة ومشاريع لها علاقة بالمستعمرات، حيث كان من الطبيعي أن يقف مدافعا ومؤيدا لكل السياسات التي كانت ترمي إلى تقوية النفوذ الإستعماري وخدمة أطماعه، ولكن بأقل التضحيات، وكان هذا التيار يتكون من اليمين الأوربي بمفهومه الواسع، ومن النخبة الأرستقراطية بصفة خاصة. وقد انضافت إليه، ومن تلقاء نفسها، أصوات يهودية كانت تعتبر نجاح الثورة الريفية بمثابة القضاء الأكيد على تواجد الجاليات اليهودية بالشمال الإفريقي. أما التيار المؤيد، فقد كان يشكله أساسا الرأي العام الشيوعي.

 

أما في أمريكا اللاتينية، فكان ينظر إلى عبد الكريم بمثابة بطل ثوري عالمي يشبه عندهم سيمون بوليفار أحد رواد الحركة التحريرية هناك. أما الرأي العام الإسلامي، فقد كان يعلق آمالا كثيرة على نجاح الثورة الريفية، وعبر عن استنكاره في أكثر من مناسبة تضامنا مع المسلمين في الريف، لكنه كان مغلوبا على أمره.

 

ولقد اتخذت خطة عبد الكريم الحربية تكتيكا عسكريا لدى الكثير من الزعماء والمقاومين في حركاتهم التحريرية عبر بقاع العالم لمواجهة الإمبريالية المتغطرسة مثل: هوشي منه وماوتسي تونغ وعمر المختار وتشي جيفارا وفيديل كاسترو، ولا ننسى كذلك الثورتين: الجزائرية والفلسطينية. وكانت لهذه الحرب انعكاسات سياسية وعسكرية خطيرة على إسبانيا وفرنسا بالخصوص، مما أجبر هاتين الدولتين للتحالف مع الولايات المتحدة الأمريكية للقضاء على الثورة الريفية قبل أن تستفحل شوكة عبد الكريم الذي بدأ يهدد كيان فرنسا ويقض مضجعها. فشن التحالف الإستعماري هجوما عنيفا وكاسحا بريا وبحريا وجويا، واستعملت في هذه الحملة العدائية المحمومة أبشع الأسلحة المتطورة الخطيرة السامة لأول مرة، وتم تجريبها على الريفيين الأبرياء من أجل مطامع إستعمارية دنيئة.

ولقد انتهت هذه الهجمات المركزة على معاقل المقاومة الريفية باستسلام مجاهد السلام البطل عبد الكريم الخطابي يوم 26 مايو 1926، ونفيه إلى جزيرة لاريونيون "la réunion" حتى سنة 1947؛ ليستقر بعد ذلك في مصر.

 

المركز العربي الألماني - برلين

المراسلات

Dr. Dergham Aldabak : drdurgham@yahoo.de

نظرية المؤامرة

Conspiracy Theory

 

ترجمة : ضرغام الدباغ

الموسوعة الألمانية   /  WIKIPEDIA

 

 نظرية المؤامرة Conspiracy Theory)) :  ‏ هو مصطلح انتقاصي يشير إلى شرح لحدث أو موقف اعتماداً على فرضية مؤامرة لا مبرر لها، وعموماً تؤسس المؤامرة في مضمونها على أفعال غير قانونية أو مؤذية تنفذها حكومة أو منظمة أو أفرادتنتج نظريات المؤامرة في أغلب الحالات افتراضات تتناقض مع الفهم التاريخي السائد للحقائق البسيطة.

ووفقاً للعالم السياسي مايكل باركون، تعتمد نظريات المؤامرة على نظرة أن الكون محكوم بتصميم ما، وتتجسد في ثلاث مبادئ:

لا شيء يحدث بالصدفة،

ولا شيء يكون كما يبدو عليه،

وكل شيء مرتبط ببعضه.

 أحد الصفات الشائعة هي تطور نظريات المؤامرة هذه لتدمج في تفاصيلها أي دليل موجود ضدهم، ليصبحوا بذلك جملة مغلقة غير قابلة للدحض وعليه تصبح نظرية المؤامرة "مسألة إيمان بدلاً من دليل".

تاريخ استخدام مصطلح نظرية المؤامرة

ورد هذا المصطلح لأول مرة في مقالة اقتصادية عام 1920، ولكن جرى تداوله بكثافة بعد عام 1960، وتمت بعد ذلك إضافته إلى قاموس أكسفورد عام 1997.

تختلف تعريفات مصطلح نظرية المؤامرة باختلاف وجهات نظر أصحابها، يمكن القول بأن المؤامرة بها طرفين رئيسين، هما المتآمر (وهم الحكومات عادة) والمُتآمر عليه (وهو الشعب / الرأي العام عادة) لإخفاء الحقيقة، وهي (مثلما واضح من التسمية) مقتبسة من الفعل تآمر والذي يعني صياغة حزمة أكاذيب بشكل منظم، فقد تحدث في المنزل وقد تحدث في العمل وقد تحدث في الدولة وقد تحدث على مستوى عالمي، وغير محدود  على المستوى المكان، وعلى مستوى الزمان، ولا بد فيها من وجود طرف متآمر (والذي يفعلها عن قصد) وطرف متآمر عليه، وقد يكون أطراف هذه المؤامرة أو أحدهم على علم بها، وقد تتم المؤامرة دون علم المستهدفين بها، ودائماً تأخذ شكل التهمة، نظراً للشكوك التي يشعر بها المتهِم، وقد يذهب أنصار نظرية المؤامرة إلى تعاريف أوسع من مجرد مصطلح ومثلاً:

 

قيام طرف ما معلوم أو غير معلوم بعمل منظم سواء بوعي أو بدون وعي، سراً أو علناً، بالتخطيط للوصول لهدف ما مع طرف آخر ويتمثل الهدف غالباً في تحقيق مصلحةٍ ما أو السيطرة على تلك الجهة، ومن ثم تنفيذ خطوات تحقيق الهدف من خلال عناصر معروفة أو غير معروفة.

أمثلة على بعض نظريات المؤامرة

اغتيال الرئيس الأمريكي جون كينيدي

كان اغتيال الرئيس جون كينيدي بتاريخ 22 نوفمبر عام 1963 وما تبعه من اغتيال المتهم الرئيسي في قتله لي هارفي أوزوالد بعد يومين على يد جاك روبي مناسبة ممتازة لعدد كبير من نظريات المؤامرة والإدعاءات ولكن غير المعززة بالأدلةفذهبت هذه النظريات لإلقاء اللوم وراء اغتيال كينيدي على وكالة المخابرات المركزية أو المافيا أو نائب الرئيس حينها ليندون جونسون أو حتى رئيس الوزراء الكوبي آنذاك فيدل كاسترو أو الاستخبارات السوفيتية أو مزيج فيما بينها. وتشير أحد التقديرات إلى كتابة أكثر من ألف كتاب حول اغتيال كينيدي، ونحو 90% من هذه الكتب (على الأقل) كانت تتبنى رواية تدعي وجود مؤامرة وراء حادثة الاغتيالولذلك فقد أصبح اغتيال كينيدي أحد أبرز نظريات المؤامرة على الإطلاق.

كيمتريل

كيمتريل هو السحاب الأبيض الذي ينتشر في السماء والشبيه بالخطوط المتكثفة التي تطلقها  الطائرات  ولكنه يتركب من مواد كيميائية أو ضبوب ولا يحتوي على بخار الماء.  يرش هذا الغاز عمدا من على ارتفاع عال، وقد تزايدت الشكوك حول الغرض من استخدامه من قبل الكثير من اتباع نظريات المؤامرة.

أحداث 11 سبتمبر 2001

أنطلقت مجموعة نظريات حول حادث الحادي عشر من سبتمبر / 2001 وهي نظريات تفترض وجود صلات وعلاقات مؤامرة توراء هجمات 11 سبتمبر التي وقعت عام 2001 في الولايات المتحدة وغالبيتها تذهب إلى أنها إما عمليات سطو تم السماح بحدوثها من قبل مسؤولين في الإدارة الأمريكية، أو أنها عمليات منسقة من قبل عناصر لا صلة لها بالقاعدة بل أفراد في الحكومة الأمريكية أو بلد آخر.

 

جمعيات الأرض المجوفة

يؤمنون أنه أن الأطباق الطائرة مصدرها جوف الأرض وأن هذه مؤامرة دولية عالمية لتستر على موقعهم الحقيقي الأصلي ألا وهو العالم الداخلي. ويستشهدون لما حصل في حادثة روزويل، وبما حدث في أنفاق دولسي وتصريحات المهندس المشرف عليها (فيليب شنايدر)، وبوقائع تاريخية حدثت خلال الحرب العالمية الثانية. 

فقد قال إيرنست تسوندل ((Ernst Zündelفي كتابه المسمى (called ufos) : أن الزعيم الألماني هتلر كان يؤمن أن  جوف الأرض هو عالم مليء بالحياة وأن هناك بشر عمالقة جداً في جوف الأرض وكان هتلر يعتقد  أن جنسه الألماني الذي يرجع للأصول الآرية كانوا عمالقة طوال جداً في قديم الزمان ولكنهم مع مرور الوقت والزمن ومصاهرتهم للناس فقدوا أطولهم ويقول هتلر الان يمكن أن يتزاوجوا مع العمالقة الذين في العالم الداخلي ويكتسبوا ويسترجعوا قامة أجدادهم الآريين العمالقة.

 

هجرة هتلر لبوابة القطب الجنوبي إبان انتهاء الحرب

صرح رئيس جمعية ثول إيفان بوييز: أن اكتشفوا الحلفاء بعد الحرب العالمية الثانية  أن ألفي عالم وبروفيسور ألماني وإيطالي قد اختفوا تماماً، بالإضافة إلى مليون من السكان. وهناك دلائل قوية تشير إلى أنهم توجهوا للمناطق القطبية للدخول لعالم جوف الكرة الأرضية من خلال فتحة القطب الجنوبي.

وقد بعثت الأمم المتحدة والحلفاء البعثات والجيوش بقيادة الأدميرالريتشارد بيرد " في عملية هاي جامب العسكرية الامركية عام 1947 وقد سجل التاريخ ذلك. وهذه العملية الحربية المسماة هاي جامب للقضاء على هتلر والألمان في القطب الجنوبي، ويؤمن اصحاب نظرية الأرض المجوفة، أن الزعيم النازي هتلر، لم يمت،، بل هاجر إلى القطب الجنوبي وأرسلت له الولايات المتحدة الأساطيل للتفتيش عنه والقبض عليه ولكنهم تم ردعهم من قبل أصحاب الأطباق الطائرة المجهولة المصدر لهم في ذاك الزمان، وكان القصد من حملة الأدميرال ريتشارد بيرد هو تحديد مكانهم والقبض عليهم.

وقد ذكر في مذكراته كيف دخل إلى بلاد الأرياني وأجبرته طائرات الفلغلارد Flugelrads (أطباق طائرة) على الهبوط، ثم حملوه رسالة إلى قادة بلاده وأطلقوا سبيله. عاد الأدميرال من مغامرته الغريبة ليخبر البنتاغون والرئيس بما رآه ولكنهم أمروه بأن يبقى صامتاً.

وهنالك مئات الوثائق والأدلة التاريخية التي تؤكد مشاركة الأطباق الطائرة بجانب هتلر بالحرب العالمية الثانية، وليس هذا فقط بل وأمر البنتاغون الأمريكي الأمم المتحدة أن تعتزم نظرية تجويف كوكب الأرض بـ"النظرية الزائفة والعلوم المغشوشة " للتعتيم على الحقيقة لكي لا يعرف الناس ما يجري حولها.

 

الرد على نظرية المؤامرة الكبرى

إن الاتهامات التي يوجهها أنصار هذه النظرية إلى البنتاغون لا ترتقي لدرجة أنها تمثل دليلاً على أن هناك عالم تحت الأرض يسكنه مخلوقات فضائية، وذلك للأسباب التالية:

أن كل الدراسات حتى اليوم الحاضر تؤكد عدم وجود مخلوقات فضائية داخل دهاليز الأرض، والقول بأنه من غير المعقول أن يكون داخل الارض هو براكين فقط، فأنه من غير المعقول أيضاً أن يكون هنالك سكان فيها

من جهة أخرى، كثرت الأفلام التي تتناول الموضوع ليس دليلاً على وجودها، وقد كانت هنالك في العصور الغابرة أساطير عن الآلهة وكانت منتشرة في ذلك الوقت وكثرتها لا يعني وجودها.

أن كثرة أفلام هوليوود يعني عدم تكتم على الموضوع، وأن القصة تنال أكبر من حجمها أصلاً.

أن النظرية ظهرت من مذكرات وقصص أفراد وهذا يجعلها فرضية أقل منها نظرية، ولا يوجد ما يحولها إلى حقيقة.

 

الشعبية

الشعبية بعض المدارس تقول إن نظريات المؤامرة كانت تقتصر في السابق على جماهير بسيطة، ولكنها أصبحت فيما بعد  شائعة في وسائل الإعلام، مما ساهم في بروز نظريات المؤامرة كظاهرة ثقافية في الولايات المتحدة في أواخر القرن العشرين وأوائل القرن الحادي والعشرين

 

ووفقًا لعلماء الأنثروبولوجيا تود ساندرز(Todd Sanders) وهاري غ. ويست (Harry G. West)، فإن الأدلة تشير إلى أن المقطع العرضي الواسع (الكمي) للأميركيين اليوم يعطي المصداقية لبعض نظريات المؤامرة على الأقل، ونظريات المؤامرة والاعتقاد بها كان أمراً متواجدا قبل أن يتسع ويصبح موضوعاً يجلب الأهتمام لعلماء الاجتماع وعلماء النفس والخبراء في الفولكلور.

 

 

أنواع نظرية المؤامرة

واليوم تتسع نظريات المؤامرة على نطاق واسع على شبكات الإنترنت في المواقع والمدونات ومقاطع الفيديو على يوتيوب، وكذلك على وسائل الإعلام الاجتماعية، وما إذا كان الانترنيت قد زاد من انتشار نظريات المؤامرة أم لا هو سؤال بحث مفتوح، فقد تم رصد العديد من الدراسات حول نظريات المؤامرة في نتائج محرك البحث التي أشارت إلى التفاوت في جودة البحوث وفي نتائجها.

 

أنماط نظرية المؤامرة

حدد جيسي ووكر (2013) خمسة أنواع من نظريات المؤامرة:

"العدو الخارجي" مصطلح يشير إلى نظريات تستند إلى شخصيات ييفترض أنها تقوم بالتخطيط ضد مجتمع ما من الخارج.

"العدو الداخلي" المتآمرين داخل الأمة ولا يمكن تمييزهم عن المواطنين العاديين.

" العدو الأعلى" وهم أشخاص أقوياء يتلاعبون بالأحداث من أجل مكاسبهم الخاصة.

" العدو الأدنى" الطبقات الأدنى تعمل على قلب النظام الاجتماعي.

" المؤامرات الخيّرة" هي قوى ملائكية تعمل خلف الكواليس لتحسين العالم ومساعدة الناس

 

أنماط باركون الثلاث

حدد باركون ثلاثة تصنيفات لنظرية المؤامرة:

نظريات المؤامرة للأحداث: وهذا يشير إلى أحداث محددة ومعرّفة بشكل جيد، وتشمل الأمثلة نظريات مؤامرة مثل تلك التي تتعلق باغتيال كينيدي، وأحداث الحادي عشر من سبتمبر، وانتشار مرض الإيدز.

نظريات المؤامرة المنظمة: ويعتقد فيها أن المؤامرة لديها أهداف واسعة، وعادة ما تكون حول إحكام السيطرة على بلد أو منطقة ما أو حتى على العالم بأسره، وتكون الآلية التآمرية بسيطة بشكل عام: منظمة واحدة شريرة تنفذ خطة للتسلل وتخريب المؤسسات القائمة، وهذا هو السيناريو الشائع في نظريات المؤامرة التي تركز على مكائد مزعومة من قبل اليهود، أو الماسونيون الأحرار، أو الشيوعيون، أو الكنيسة الكاثوليكية...إلخ.

نظريات المؤامرة الفائقة: يربط باركون تفي هذه النظريات بين مؤامرات مزعومة متعددة التسلسل الهرمي، وفي القمة قوة شريرة بعيدة ولكن قوية، واعتمد في الأمثلة التي ذكرها على أفكار ديفيد إيك وميلتون وليام كوبر.

 

روثبارد: السطحي مقابل العميق

يجادل موراي روثبارد نموذجا يقارن به بين نظريات المؤامرة "العميقة" ونظريات المؤامرة "السطحية"، ووفقًا لروثبارد فإن مخترع أو مصدق النظريات السطحية يلاحظ أن حدثا ما ويتسائل السؤال التقليدي : "من المستفيد .؟" ثم يقفز إلى استنتاج مفاده أن المستفيد المفترض هو مسؤول عن التأثير في الأحداث بشكل خفي وسري، ومن ناحية أخرى، يبدأ مخترع أو مصدق نظريات المؤامرة العميقة يعمل بحدسه ثم يبحث عن أدلة، ويصف روثبارد هذا النشاط الأخير كمسألة للتأكيد مع حقائق تابعة لأوهام الشك الخاصة بالشخص.

 

الدليل مقابل نظريات المؤامرة

عادة ما يشار إلى النظريات التي تتضمن العديد من المتآمرين، والتي ثبت أنها صحيحة مثل فضيحة ووترغيت (الأنتخابات الرئاسية الأمريكية)، على أنها "صحافة استقصائية" أو "تحليل تاريخي" بدلاً من مضطلح  نظرية المؤامرة، وعلى النقيض من ذلك يستخدم مصطلح "نظرية مؤامرة ووترغيت" للإشارة إلى مجموعة متنوعة من الفرضيات التي كان فيها المدانون في المؤامرة هم في الواقع ضحايا مؤامرة أعمق.

يقارن المفكر  نعوم تشومسكيبين  نظرية المؤامرة والتحليل المؤسسي الذي يركز في الغالب على الجمهور، والسلوك طويل الأمد للمؤسسات المعروفة علنا، كما هو مسجل في، على سبيل المثال، الوثائق العلمية أو التقارير الإعلامية السائدة، بينما نظرية المؤامرة على العكس من ذلك تفترض وجود تحالفات سرية لبعض الأفراد وتتكهن بأنشطتهم المزعومة.

 

المؤامرة كفكرة عالمية

تم تعميم مصطلح "المؤامرة" من قبل الأكاديمي فرانك ب. مينتز في الثمانينيات، ووفقًا لمينتز تشير المؤامرة إلى "الاعتقاد في أسبقية المؤامرات في كشف التاريخ":

«تخدم المؤامرة احتياجات المجموعات السياسية والاجتماعية المتنوعة في أمريكا والأماكن الأخرى، إنها تحدد النخب وتلقي باللوم عليها في الكوارث الاقتصادية والاجتماعية، وتفترض أن الأمور ستكون أفضل عندما يتمكن العمل الشعبي من إزالتها من مواقع السلطة، وعلى ذلك لا تميز نظريات المؤامرة حقبة معينة أو أيديولوجية معينة

 

في الشرق الأوسط

لاحظ ماثيو غراي أن نظريات المؤامرة هي سمة سائدة في الثقافة والسياسة العربية، وتتنوع المؤامرات لتشمل الاستعمار والصهيونية والقوى العظمى والنفط والحرب على الإرهاب التي قد يشار إليها على أنها حرب ضد الإسلام، وقد اقترح الصحفي روجر كوهن أن شعبية نظريات المؤامرة في العالم العربي هي الملاذ الأخير للضعفاء من البسطاء وعامة الشعب، كما لاحظ الكاتب عبد المؤمن سعيد خطر مثل هذه النظريات لأنها "لا تبعدنا عن الحقيقة فقط، وإنما عن مواجهة أخطائنا ومشاكلنا أيضًا."

 

عوامل الجذب لنظرية المؤامرة

وفقًا لباركون فإن تفسير جاذبية نظريات المؤامرة يتضمن الثالوث التالي:

ـــ أولاً: تدعي نظريات المؤامرة تفسير ما لا يمكن للتحليل المؤسسي تفسيره، وتبدو أنها تجعل العالم المربك أكثر منطقية.

ـــ ثانيًا: تفعل ذلك بطريقة بسيطة بشكل جذاب بتقسيم العالم لقوى النور وقوى الظلام، بحيث تعيد كل الشرور إلى مصدر واحد هم المتآمرين ووكلائهم.

ـــ ثالثًا: غالبًا ما تعرض نظريات المؤامرة على أنها معرفة سرية خاصة غير معروفة أو لا يقدرها أي شخص آخر، وبالنسبة لمنظري المؤامرة، فإن الجماهير عبارة عن قطيع مغسول الدماغ، في حين أن منظري المؤامرة يملكون المعرفة ويمكنهم أن يهنئوا أنفسهم على اختراق خداع المتآمرين. "

 

الأصول النفسية

يعتقد بعض علماء النفس أن البحث عن معنى شائع في المؤامرة، وبمجرد معرفتها قد يؤدي تحيز التأكيد وتجنب التنافر المعرفي إلى تعزيز الاعتقاد، وفي سياق تصبح فيه نظرية المؤامرة تحظى بشعبية داخل مجموعة اجتماعية، فقد تلعب التعزيزات المجتمعية دورًا مساويًا

 

الإسقاط النفسي

أشار بعض المؤرخين أن هناك عنصر من الإسقاط النفسي في المؤامرة، وهذا الإسقاط وفقًا للحجة يتجلى في شكل إسناد خصائص غير مرغوب فيها من الذات إلى المتآمرين.

 

التفسيرات الاجتماعية

شبَّه الصحفي والكاتب كريستوفر هيتشنز نظريات المؤامرة بــ"أدخنة عوادم الديمقراطية"، معتبراً أنها النتيجة التي لا يمكن تجنبها حين تتوافر كمية كبيرة من المعلومات المتداولة بين عدد كبير من الناس.

قد تُعطي نظريات المؤامرة شعورًا بالرضا من الناحية العاطفية، فمن خلال إلقاء اللوم على مجموعة لا ينتمي إليها مُدَّعي ومصدق هذه النظرية، وهو بالتالي ما يعفيه من المسؤولية الأخلاقية أو السياسية في المجتمع، وكمثال: كتب الصحفي روجر كوهن في النيويورك تايمز بأن "العقول الأسيرة تلجأ إلى نظرية المؤامرة لأنها الملاذ الأخير للضعفاء، إذا لم تستطع تغيير حياتك الخاصة، فلا بد من وجود قوة كبرى تسيطر على العالم."

وجد مؤرخ علم الاجتماع هولغر هيرويغ عند دراسته التفسيرات الألمانية وراء أصول اندلاع الحرب العالمية الأولى بأن الأحداث الأكثر أهمية في التاريخ هي فعليًا أكثرها صعوبة للفهم لأنها ستلاقي اهتمامًا غير منقطع النظير من حابكي الأساطير ومزوري التاريخ.

 

تأثير النظرية النقدية

يقترح عالم الاجتماع الفرنسي برونو لاتور أن الشعبية الكبيرة لنظريات المؤامرة تكمن في الثقافة الجماهيرية قد تكون عائدة جزئيًا إلى الانتشار الواسع للنظرية النقدية المستوحاة من الماركسيين والأفكار المماثلة في الأوساط الأكاديمية منذ سبعينيات القرن العشرين.

 

مدى استمرار نظريات المؤامرة

نشر الفيزيائي وباحث السرطان الأيرلندي ديفيد روبرت غرايمز تقديرا للوقت الذي ستستغرقه نظريات المؤامرة المزعومة قبل أن تُفضَح بناءً على عدد الأشخاص المعنيين.

تتطلب نظرية مؤامرة خدعة الهبوط على القمر مشاركة 411,000 شخص حتى تكتشف في غضون 3.68 سنة.

تتطلب نظرية مؤامرة نكران التغير المناخي 450,000 شخص لتكتشف في غضون 3.70 سنة.

تتطلب مؤامرة اللقاح المزعومة ما لا يقل عن 22,000 شخص (بدون شركات أدوية) لتتكشف في غضون 3.15 سنة على الأقل ونحو 34.78 سنة على الأكثر اعتمادا على العدد المعني.

تتطلب نظرية مؤامرة لمنع اكتشاف علاج للسرطان 714,000 شخص لتتكشف في غضون 3.17 سنة.

 

المركز العربي الألماني- برلين

  المراسلات

 

Dr. Dergham Aldabak : drdurgham@yahoo.de

 

نوع جديد من الحروب

 

ضرغام الدباغ

 

عرف العالم  في مرحلة الحرب الباردة نوعاً من الحروب اصطلحوا على تسميته بحروب الوكالة (proxy war) وهذا النوع من الحروب جرت أحداثه في قارات العالم الخمس، بعد عام 1949، وهو العام الذي توصل فيه السوفيت إلى كسر الاحتكار النووي للولايات المتحدة، فصارت المواجهات تدار (بعد إخفاق الدبلوماسية) بين المعسكرين : الاشتراكي والرأسمالي، تدار (بالتصعيد / escalation) أو (نزع التوتر / relaxation) أو (التعايش/ coexistence)، فهذه  مراحل ومستويات للأزمات التي تحمل بذور يمكن أن تتطور لحروب فعلية أو حروب أعتبرها علماء السياسة بأنها حروب بالوكالة كنا قد كتبنا عنه في تقارير السابقة.

والحرب التي نكتب عنها اليوم (الحرب في أوكرانيا) تدور منذ نحو سنة ونصف، وما تزال ساخنة وحافلة بكل ما هو جديد في دروس السياسة أو العسكرية، أو تكنولوجيا السلاح، الأمر الذي نرجح أن أفكار كثيرة ستنبثق عنها، ومقدماتها الحالية توفر وتنطوي على إمكانية كهذه.، تطور ملموس في نظريات الصراع المسلح (الحرب) وفي تكنولوجيا السلاح.

الحرب في أوكرانيا، لم تنشب بالصدفة، وكان ميشايل غورباتشوف قد ارتكب خطأ قاتلاً في محادثات مالطا مع الرئيس بوش الأب، (2 ـ 3 / ديسمبر / 1989)  حين اكتفى بتعهد شفهي من الرئيس بوش، بعدم توسع الناتو شرقاً في أراضي البلدان الاشتراكية السابقة، وأكثر تحديداُ، في البلدان المتاخمة لروسيا الاتحادية، ولكن الولايات المتحدة نكلت بتعهدها وكانت هذه بالطبع خطيئة كبيرة، يدفع الروس اليوم ثمنها باهضاً. فمنذ تفكك الاتحاد السوفيتي، والغرب لا يفوت أي سانحة مهما بدت بسيطة، أو تافهة يستطيع أن ينال فيها من روسيا قضمة أو عضة، ومن مناعة موقفها السياسي والاقتصادي والعسكري قيد أنملة، والوقائع تكشف الأهداف الداخلية الغير معلنة. وما لم يكن مفهوماً بدقة، أصبح اليوم واضحاً وضوح الشمس في رابعة النهار. الهدف البعيد وهو تقسيم روسيا، وإضعافها لدرجة أن تصبح دولة عادية في المجتمع الدولي.

خلال حرب كوزوفو (نهاية التسعينات)، أجاب وزير الخارجية الأمريكية وقتذاك الكسندر هيغ (Alexander Haig‏) ساخطاً غاضباً على سؤال لصحفي ألماني من مجلة فوكوس الألمانية (Focus)، عن مبرر وجود حلف الناتو، وقد تفكك الاتحاد السوفيتي، وحل حلف وارسو نفسه، والإجابة كانت غير مفهومة وقتها، ولكن بعد محاولات الولايات المتحدة العبث بخاصرة روسيا (جورجيا) ومن ثم أرمينيا، وانتهاء بضم دول البلطيق وأوربا الشرقية، وإحداث وإسقاط حكومة اوكرانية منتخبة (الثورة البرتقالية) من سيناريو وإخراج الولايات المتحدة، بدا واضحا حتى لمن له عين واحدة، أن هذه ما هي إلا مقدمات للقمة الدسمة الكبيرة أوكرانيا ...! وهو يدركون تماماً أن هذا تصعيد خطير سترد عليه روسيا (الفعل ورد الفعل) ، فالأمر إذن مدروس بعناية ودقة بالغة.

 

النتائج العسكرية، وهنا نستبق الأحداث اللاحقة، فهناك أجيال من التكنولوجيا انتهى مفعولها وباتت خارج الحسابات الواقعية وبالتالي خارج الخدمة الفعلية فلا مجال للحديث عن الجيل الرابع، وربما حتى الخامس، وحديث يدور عن أسلحة غير معلن عنها هي من الجيل السادس. وهناك شبه إجماع أن استخدام أسلحة الدمار الشامل هو في الواقع انتحار ليس إلا ..!  لذلك نلاحظ القدرات التدميرية الكبيرة في أسلحة المدفعية، لذلك فالخسائر في الأفراد والمعدات والمرافق باتت عالية جداً، واستخدام واسع النطاق للصواريخ المتوسطة والبعيدة المدى، واستخدام متصاعد بوتائر سريعة للمسيرات من الطائرات، وأسلحة البحر (زوارق وسفن مسيرة)، والقدرات على الاستشعار البعيد(الاقمار الفضائية)، وهنا ستبرز إشكالية جديدة أن التسلح سيلتهم نسبة كبيرة من الدخل القومي وميزانيات الحكومات، وأن الأنظمة الدفاعية والهجومية ستكون مكلفة ؟ وضرورة أن تصيغ الدول نظريات أمنها القومي ضمن تصور واسع عريض إقليمي أو قاري.

الولايات المتحدة  خططت للصراع :

بأن يتولى قيادة الطرف الأوكراني، فئة مغامرة يمنية متطرفة، وهناك قوى نازية ضمن القيادات الأوكرانية، قبلت أميركا ببراغماتية التحالف معها، وهي لا ترى أفقاً للسلام،

الرهان على معركة دولية تشارك فيها أطراف دولية، وفي المقام الأول أعضاء حلف الناتو من الدول الكبيرة : بريطانيا، فرنسا، ألمانيا،

عولت على تأثير الولايات المتحدة على مسرح السياسة الدولية، لإحداث تأثيرات جذرية في أوربا على غرار الشرق الأوسط، تسعى الولايات المتحدة لوضع أسس هيمنة عالمية جديدة، هناك دول مركزية أساسية في أوربا : بريطانيا، فرنسا، ألمانيا، ودول قريبة من هذا المستوى : إيطاليا، أسبانيا .

النتائج السياسية للحرب الأوكرانية، كأي صراع دولي واسع ساهمت أطراف دولية عديدة فيه،  سيكون هناك  تقسيم نفوذ دولي، وهناك إعادة حقوق مستلبة، واصطفافات جديدة

 

إذن بعد أن ضمت الولايات المتحدة ، (التحالف الغربي بقيادة الولايات المتحدة) بلداناً عديدة لحلف الناتو في شرق أوربا تنشد التطور على النمط الرأسمالي، ولكنها  شكلت بنفس الوقت حلقة في مخططات الناتو، ولكن حين أقترب التهديد من خاصرة روسيا (أوكرانيا)، التي لا يعرف تاريخها قيام دولة أوكرانية، بل كانت جزءاً لا يتجزأ من الامبراطورية الروسية / السوفيتية، حتى أصبح التغافل عن الخطر الداهم لا ينم عن حكمة، والإدارة الامريكية لا يهمها بأي قدر الخسائر، إذ خسر الجيش الأوكراني ترسانته قواته من الأسلحة السوفيتية، وفوقها بأضعاف من الأسلحة الغربية أيضاً، فأصبحت أوكرانيا محرقة بلا قعر للأسلحة الغربية، إذ احترقت فيها ترسانة الأسلحة الشرقية دول أوربا الشرقية (بالطبع ستحل محلها مشتروات من الأسلحة الأمريكية) وهناك من دول غرب أوربا من دفع للمحرقة الأوكرانية أنظمة الأسلحة الغربية القديمة، ولكن الحاسبة تقيد الحسابات وأثمان الأسلحة واوكرانيا غرقت بديون يصعب تسديدها ... هذا إن انتهت الحفلة الدموية ببقاء أوكرانيا في عداد الدول الحياة ....!

 

الإدارة الأمريكية كانت تعلم علم اليقين أن الساحة الاوكرانية ستشهد صراعاً مسلحاً، لأن طابع التناقض فيها حاد وتناحري، وبسبب الطابع المستعر للصراع فالمعركة ستكلف الطرفين : الروسي والأوكراني الكثير جداً في الأرواح والممتلكات، وأعداد هائلة من المعوقين، والمهاجرين وأن أتساع رقعة الصراع سيضاعف من حجم النتائج السياسية والاقتصادية والعسكري، وأن المعركة ستسحب إلى لهيبها أعداد من الدول، وبروز تكتلات جديدة، وربما إلى تغيرات في الخارطة السياسية الأوربية. ولكن الولايات المتحدة كانت قد وضعت تقديرات، أعتقد أنها فاقت حجم ما كان في مخططها، ولكن بعض النتائج التي كانت تتأملها ومنها، أن أي صراع شامل وكبير سيزيد من لحمة أعضاء الناتو، وهو أمر لم يتحقق بالقدر الذي كانت الولايات المتحدة تتوقعه، بل أن الصراع في حافة أوربا (أوكرانيا) سيترك آثاره السلبية على العلاقات بين أطراف الناتو وبدرجة ليست بسيطة.

 

واليوم السمة الجديدة للحرب، أنها تدور بين روسيا الأتحادية، والولايات الأمريكية ولكن على أرض طرف ثالث "اوكرانيا ". ومعسكر الولايات المتحدة يتفاوت في إنجرافه للحرب، ففي الوقت الذي ينكرون على روسيا اللجوء للقوة المسلحة (دول أوربا الغربية)، لا يقبلون أيضاً الانجرار لحرب شاملة، تقع فيها العواصم الأوربية تحت مطرقة التدمير الشامل. والعواصم الأوربية تتحرك وتحاول أن تتجنب الاسوء، المواقف تتفاوت مع طول المنازلة : فمن العواصم من يعبر بوضوح تام عن موقفه وينأى بنفسه عن التصعيد، ويبلغ درجة مبدأ الاكتفاء بتقديم المساعدات لأوكرانيا (بولونيا، فرنسا، ألمانيا، سويسرا). وهناك من يبلغ (بدرجات متفاوتة) درجة مساندة روسيا (سلوفاكيا، المجر، اليونان، الصرب، بلغاريا، رومانيا)، ومواقف من دول مترددة، وهكذا فإن المواقف ليست متماثلة، أو حتى متقاربة، بل تقترب من التناقض ...!

 

ينبثق من هذا التراكم في المواقف والآراء تساؤل : " ماذا تريد الولايات المتحدة ...؟ " هل هو إشعال حروب من أجل الحروب،أم تدمير روسيا وتجزئها، تعزيز هيمنتها العالمية واستنزاف اقتصادها العملاق، قطعاً هناك أهداف معلنة وأخرى خفية تستحق منا بحثاً خاصاً، ولكن ما نؤكد ه أن هناك عالم جديد يخرج ويتكون ونمط جديد في العلاقات الدولية. بعيداً عن الهيمنة الأمريكية المطلقة. وخطوة كبيرة نحو عالم متعدد الأقطاب.

 

هذا نوع جديد من الحروب، المناورة على حافة الحرب المجازفة بكل شيئ من أجل تجارة السلاح، حرب النصر فيها زعم بائس، البشرية عرفت في تاريخها 12,000 ألف حرب، كلها شنتها النظم الاقطاعية والدينية والقيصرية، والرأسمالية . وحرب أوكرانيا هي الحرب الانتحارية التي تشنها الولايات المتحدة للحفاظ على هيمنتها وسطوتها وديكتاتوريتها . الغرب وأوربا تتنصلان من مسؤوليتها عن هذا الجنون الغبي ... هناك الولايات المتحدة الأميركية فقط، وانقلبت لديهم كافة المقاييس السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وأخيراً العسكرية ....!

 

المركز العربي الالماني  برلين

المراسلات

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

Dr. Dergham Aldabak: drdurgham@yahoo.de

 

نبوءة دقيقة

 

ضرغام الدباغ

 

وجدت هذا المقطع الفيديوي على صفحات الانترنيت، هو خطاب ألقاه الشخصية السياسية الإيطالية " جوليبتو كيبزا " الكاتب والصحفي والنائب في البرلمان الأوربي للدورة (  2004  ــ 2009 )، وهذا خطاب يبدو أنه كان قد ألقاه في إيطاليا عام 2015، ويبدو أنه كان قد أطلع على معلومات خطيرة، أعلنها في خطابه هذا، وقد وجد الخطاب طريقه للنشر صورة وصوت، وفيها معلومات، أو تنبؤات مثيرة .

 لم يكن تربص الولايات المتحدة بروسيا سراً بصفة تامة، بل كان لاتفاق جورج بوش ــ غورباتشوف في مالطا ديسمبر عام 1989، أثره في نزع التوتر الذي كان من المحتمل أنه سيفضي لصراع مسلح. التي أنهت مرحلة الحرب الباردة، المدخل الفعلي لحرب باردة جديدة، ولكن بمواصفات ملائمة لطبيعة المرحلة، ولم توفر الولايات المتحدة فرصة مهما بدت ضئيلة دون أن تضيفها كنقطة في السجال الاستراتيجي مع روسيا الاتحادية، التي أنهت مرحلة الحرب الباردة، المدخل الفعلي لحرب باردة جديدة، ولكن بمواصفات ملائمة، تصعيداً متواصلاً مع روسيا التي أخذت تلتقط أنفاسها وتستعيد جاهزيتها لكافة الاحتمالات.

 ليس سراً بالمطلق، أن الولايات المتحدة كانت تعد العدة لتشن صراعاً ضد روسيا، (بما في ذلك الصراع العسكري) تنتهي بهزيمة روسيا وتقسيمها إلى دويلات، وروسيا تحصي خطوات الولايات المتحدة وتحصيها بدقة، ومن المؤشرات الدقيقة على النوايا والخطط الأمريكية :

الحفاظ على حلف الناتو السياسي / العسكري برغم أنتفاء الحاجة إليه (منطقياً) بسبب تفكك الاتحاد السوفيتي ومنظومة البلدان الاشتراكية، ومنظمة حلف وارسو.

لم يكن الحفاظ على حلف الناتو لأغراض تذكارية رومانسية، بل والعمل دون هوادة على تطويره وصولاً إلى الأحشاء الداخلية لروسيا (جمهوريات البلطيق : لاتفيا، أستونيا، مولدافيا)، وأخيرا أوكرانيا، وسوف لن تكون استفزازاً بلا رد فعل.

منذ أكثر من عقدين، تضغط الولايات المتحدة بإلحاح على الدول الأوربية بزيادة الأنفاق على الجيوش، ولا سيما فرنسا وألمانيا وإيطاليا، وفق تصور الولايات المتحدة، أن في إشاعة أجواء التوتر في أوربا وغيرها، عوامل تشد من أواصر بلدان الناتو، تحت قيادتها. في حروب تصب في مصلحتها ( الأمن القومي الأمريكي ).

الولايات المتحدة تقود البلدان الغربية في سياسة تحيق بها المخاطر، بما في ذلك الحرب النووية، وفي هذا الإطار تهدف الهيمنة على مقدرات البلدان، وزجها في معسكر منتظم منضبط بقيادتها، للأنتصار في معركتها ضد معظم بلدان العالم.

 في خطاب الشخصية السياسية الإيطالية الكثير من المغازي. نرجو الاستفادة.

نبوءة السياسي الايطالي ”جولييتو كييزا“* في محاضرة مدهشة له في عام ٢٠١٥.  (رحل عن عالمنا عام ٢٠٢٠)، أعلن فيها : -أوكرانيا ستقودها النازية بدعم أمريكي ـــ أوكرانيا المسلوبة الإرادة سيجعلها الامريكان مخلبهم لمهاجمة روسيا ـــ  سيجعلون دونباس ومذابح النازيين فيها شرارة لحرب عالمية ثالثة.  الموضوع أبداً ليس أوكرانيا، الموضوع هو تدمير أوربا كلها في حرب روسية أوربية.

 

*****************************

  سأقول الحقيقة وأموت .. هذا ما ينتظركم في 2023 ….

 أريد أن أخبركم بشيئ ....أنا مرتبك جداً.... لأني أعتقد أننا على حافة حرب، إنها حرب كبرى، هذا ما يحدث أمام أعيننا، وكما قال أحدهم أنها بداية الحرب العالمية الثالثة،  

 في بداية المواجهات في أوكرانيا سألت نفسي على الفور ، مالداعي لها فقد كان من الواضح أن أوكرانيا بالفعل بين يدي الولايات المتحدة، يتفق الجميع على ذلك، ليس العام الماضي فقط بل منذ وقت طويل، كانت الولايات المتحدة وكندا بيدهما السلطة عملياً الأمن السري وأغلب الحكومة والجيش، لتدمير القوى المؤيدة لروسيا،

 ثم سألت نفسي مالحاجة لتغير حكومة يانكوفيتش،  وبدلً من الانتظار عام ونصف العام، وأستبداله بشكل سلمي، ولكنهم قاموا بضربتهم بأستخدام الدولة النازية، أريد التشديد على كلمة نازية، القوات التي أطاحت بيانكوفيتش وسيطرت على ساحة ميدان الأوربية كان قد تم تجهيزها قبل وقت طويل في أقاليم أوكرانية وغاليسا، وخاصة في بولندا، والتحضيرات جارية في الجبهة الشمالية، على الحدود بين جمهوريات البلطيق وروسيا من أجل الحرب والاستفزاز

 قد يكون الأمر بعد أسابيع ، أور بما لعد أشهر، ولكن التحضيرات خطيرة جداً على الحدود وذلك لإقناع الأوربيين بأنه يجب ضرب روسيا، وذلك عبر العقوبات بتخفيض اصطناعي لسعر النفط والذي سيخدم سحق الصادرات الروسية إلى أوربا وبقية العالم ويخلق ظرفا لأزمة اقتصادية واجتماعية في روسيا، والذي يفترض أن يؤدي إلى ثورة ملونة حتمية علينا أن نفهم أن نشبت حرب فلن تكون حربا صغيرة، بل حربا مدمرة. علينا أن نجيب على سؤال، لماذا هم في عجلة من أمرهم ..؟ لأن السادة المحافظين الجدد في الولايات المتحدة يعلمون أن القرن الثاني والعشرين لن يكون أمريكيا، إلا عبر انتصارهم عسكرياً،

 أوكرانيا ستقودها النازية بدعم أمريكي ـــ أوكرانيا المسلوبة الإرادة سيجعلها الامريكان مخلبهم لمهاجمة روسيا ـــ  سيجعلون دونباس ومذابح النازيين فيها شرارة لحرب عالمية ثالثة.  الموضوع أبداً ليس أوكرانيا، الموضوع هو تدمير أوربا كلها في حرب روسية أوربية

 إنهم أذكياء يفهمون أن عليهم قيادة 7 مليارا إنسان كأنهم يقودون واحداً لكن هناك دولة واحدة قادرة على الدفاع عن 7 مليار إنسان، فقط دولة واحدة قادرة على الدفاع عن نفسها وعنا في هذه اللحظة ولهذا السبب أميركا خائفة، إنها روسيا ...

 لا أعتقد بأن علينا الاستخفاف بالفريق الذي يقود أميركا، لا أتحدث عن أوباما الذي فقد السلطة منذ زمن بعيد، فهم يدركون أنه بعد روسيا، بعد أن ينجحوا بهزيمة روسيا، سيكون أمامهم عدو من الصعب تخطيه، يدعى الصين، بمليار و400 مليون إنسان، لن يتم حكمهم من قبل 300 مليون أمريكي من بين الأقل ثقافة والأقل تحضراً الهجوم على روسيا هو ايضاً كما قلنا : هجوم على أوربا، ضدنا نحن ضدنا بشكل مباشر نحن الحلفاء، إنهم يهاجموننا بشكل منهجي، ولأكون واضحا، يمكن استعادة سيادتنا إن خرجنا من الناتو، ولنعود ونكون دولة ذات سيادة وحيادية،

 أعتقد أن هذه ستكون كلمة السر التي ستوحد جزءاً كبيرا من إيطاليا، فالإيطاليون يعلمون بأن الناتو ودفاعاته سيكونون بلا نفع، في حالة الحرب التي أتحدث عنها التي ستكلفنا 8 مليون يورو يومياً،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

جولييتو كييزا أستاذ جامعي إيطالي، كاتب وصحفي، عضو البرلمان الاوربي (٢٠٠٤ - ٢٠٠٩)، ومؤلف لكتب عديدة حول السياسات العالمية.

 

https://www.facebook.com/hassan.akif.7/videos/735852561372369

 

 

 

الولايات المتحدة منزعجة

من السياسة المصرية ...!

ضرغام الدباغ

 

في إحدى اجتماعات مجلس الوزراء المصري (في أواخر الستينات)، أراد أحد الوزراء أن يزف بشرى للرئيس الراحل جمال عبد الناصر، فقال للرئيس، " سيادة الرئيس لدي تقرير من إحدى المنظمات الدولية تشيد بأداء الاقتصاد المصري وهذا هو التقرير تفضل ".فأجابه الرئيس الراحل،" لا أعتقد أن التقرير هذا يقصد الثناء على أدائنا، بل حتماً هناك خلل ما يقصدون إلهائنا عنه، وعلينا أن نجد هذا الخلل هذه المنظمات تعمل تحت سيطرة الإمبريالية التي تحاربنا ليل نهار، بأعلى الأساليب وأكثرها انحطاطاً، فتش عن الخطأ في عملنا سيادة الوزير ".

قلت أن هذا حدث في نهاية الستينات، في مرحلة كانت تجارب الرئيس الراحل قد بلغت درجة عالية من النضج ليتبين الخيط الأبيض من الخيط الرمادي ناهيك عن الخط الأسود الحالك السواد. والسياسة السوداء الحالة السواد هي ما تمارسه الولايات المتحدة حيال كل نظام وطني تبدر منه مؤشرات التقدم والقوة والمنعة ... وخصوصا النظام المصري الذي لا ينبغي أن يخرج عن السيطرة مطلقاً، والأمريكان لا يفهمون شيئاً عدا مفاهيم القوة والسيطرة وسياسة الإذعان، وإبقاء الأنظمة في خدمة مخططاتها المحلية والعالمية.

القيادة المصرية رفضت أن تستجيب كليا للمطالب الأمريكية ومنها :

أرسلوا أسلحة جيشكم إلى أوكرانيا،

إلقاء الشبهات حول مكانة الجيش المصري، فنحن نريدكم أن تبقوا ضعاف تحت هيمنتنا،

لماذا تطورون البنى الأرتكازية في مصر (Infrastructure)، (البنى الأرتكازية هي الخطوة الأولى نحو النهضة الاقتصادية الشاملة)،

لا ينبغي لكم أن تكون لكم علاقات خارجية متوازنة مع روسيا والصين مثلاً،

لماذا تضايقون أثيوبيا بشأن مياه نهر النيل وسد النهضة،

لماذا تحاولون لعب دور مهم في القارة الأفريقية، فنحن من يوزع الأدوار ..!,

من هذه المؤشرات الواضحة تماماً، أن هذا ضرب من الاستعمار هو  أسوء من الأنظمة الكولونيالية القديمة، فهو يتدخل في كل شيئ، ويحول الدول إلى مجرد كيانات بخدمتها،  ونفهم أن الإدارة الأمريكية يزعجها أن يتمتع حلفاؤها بصحة جيدة، وإن تمتعوا بالصحة الجيدة، فيجب أن يكونوا تحت إمرتنا وقادتنا بصورة تامة  100% وأقل من هذا بمليمتر واحد لا نقبله حتى من بريطانيا، وفرنسا وألمانيا حلفاؤنا المقربين في أوربا، والرضوخ التام يعني دعوا إسرائيل تقود المنطقة بالوكالة، وتحت الهيمنة الكلية للولايات المتحدة، فهي (الولايات المتحدة) وهذا عجيب، لم تتعظ بهزائمها المرة، وبخسائرها للمنازلات السياسية والاقتصادية والعسكرية، ومساحة حلفائها تتقلص يوما بعد يوم، ولكنها لا ترعوي ..ولا تتمعن في معطيات الواقع الموضوعي بدقة ... مصر اليوم تناهز 110 مليون نسمة، وهؤلاء بشر تتضاعف حاجاتهم الانسانية، وإنتاجهم على كافة المستويات، وكبلد كبير (أكبر بلد في افريقييا) له همومه الأمنية (المياه في مقدمتها) وهي موضع تآمر من قبل أمريكا، والكيان الصهيوني يتمادي في غيه وعدوانه، وأميركا لا تريد لجمه، بل تشجعه على العدوان، ورغم ذلك تريد من الجميع القبول بهذا التسع والتساهل مع المعتدي ..!

 

بأختصار شديد ... حين نجد الولايات المتحدة، تناهض النظام المصري، وتتآمر عليه بكافة الأساليب، فهذا يعني أن النظام المصري يدخل في عمق وظائفه، ويتصدى للمشكلات الأساسية، ويجد الحلول لها، وهو في طريقه لأستخدام أمثل للقدرات والثروات الطبيعية، وتعبئة جيدة للقدرات البشرية. ومواقف صائبة حيال المواقف المحلية والعربية والأفريقية والعالمية ..

تثير الولايات المتحدة لغطا شديداً للبنى الأرتكازية (Infrastructure) في أن اقتصادات التنمية، تشترط أن البنى الارتكازية هي الشرط الأساسي للإقلاع بعملية تنمية حقيقية، وحلول جذرية وليس ترقيع للمشكلات، ومصر بخطوط سكك حديدية حديثة، وجسور، وقنوات، ومعالجة طموحة لمشكلات المياه، والإسكان، وتلبية لحاجات الإنسان الأساسية، تضع مصر على الطريق الصحيح، والبنى الارتكازية ليس لها مردود مالي مباشر، ولكنها تفتح الطريق لنهوض اقتصادي عام، وهذا هو ما يزعج الولايات المتحدة، أن تجد مصر تلعب دوراً مهماً وهي تتطور بعلمية وتتقدم بخطى ثابتة، وهو ما يستدعي أن تتحرك أمريكا ضدها .

 

 

لماذا أنهار الغرب

 

ضرغام الدباغ

 

 

هناك مصدران مهمان، يبحثان في سقوط الإمبراطوريات العظمى في التاريخ: الأول وهو الأهم هو كتاب العلامة العربي الكبير أبن خلدون والذي لا غنى مطلقا عن دراسته وهو " المقدمة " والكتاب الآخر وهو حديث نسبياً وهو للعالم البريطاني / الأمريكي باول كنيدي (  Paul Kennedyصعود وسقوط القوى العظمى

 

لنتأمل ونتخيل، وفاة الاتحاد الأوربي، وأعتقد أنه قد توفي، ولكن إصدار شهادة الوفاة سيستغرق وقتاُ لا أستطيع تقديره ..! وسوف لن يكون هناك بيان يصدر فيه هتاف وصراخ .... كلا .. الناس هناك لا يحتفلون ولا يحزنون بالصراخ والضجيج ..! بل سيتم الأمر بهدوء، وبطريقة توحي لك أنهم استبدلوه بصيغ أخرى ... ولكنه في جميع الأحوال توفي ولا قيام بعده ولا ينفع نطس النطاسون مهما برعوا، في إعادته للحياة ..

 

الحلم الذي حلم به الرئيس الفرنسي ديغول والمستشار الألماني أديناور، والذي أستغرق بناؤه منذ بداية خمسينات القرن الماضي، ثم توالت عملية الطبخ على نار هادئة على يد خلفاؤهما بهدوء لكي لا يثيروا هواجس الآخرين .. الآخرون الذين يرمقون قيام أتحاد كبير، ستشكل كتلة كبيرة في توازنات القوى السياسية / الاقتصادية / العسكرية في العالم، فأن تتقاسم العالم بين طرفين شيئ، وبين ثلاثة أو أربعة أطراف شيئ آخر، وهو أمر غير مستحب للولايات المتحدة، التي ستتهم الأوربيين بقلة الضمير والوفاء، أما (الأطراف) القوة العظمى الأخرى فهي الاتحاد السوفيتي والروس فهم يتقنون العزف على أوتار السياسة الأوربية فسترى أن التناقضات والصراعات ستعم الحلفاء الرأسماليون اليوم أو غداً بينهم، فالتاريخ العالمي لا يعرف حروبا إلا تلك التي كان التوسع وإعادة التقسيم وكسب المزيد من النفوذ والمكاسب ديدنها، دعهم يشعرون بالأمان، فسترى أن الصراع سينشب بعد وقت قصير، وقصير جداً.

 

لماذا توفي الاتحاد الأوربي، وكان يمنح صورة وردية، حين بلغ اليورو في بعض أيامه، دولاراً ونصف الدولار، ولكن تلك كانت في مرحلة انغماس (انحطاط) الولايات المتحدة في حروبها الدون كيشوتية في أفغانستان ثم في العراق، حيث كانت تحرق يوميا مئات الملايين من الدولارات لحروب عبثية لا معنى لها .. حينها انحط الدولار أسوء انحطاطه، وبلغت أوربا قمة ازدهارها، فكان رد فعل الولايات المتحدة، أن القارة الأوربية قد تمثل ثقلاً في التحالف الغربي / المسيحي العريض، وبالتالي فإن نفوذ الولايات المتحدة ماض في التقلص ضمن محيطها، إضافة للتقلص البطئ على الصعيد العالمي بتعاظم  قوة الصين، ومساعي الروس في استعادة هيبة وسطوة الاتحاد السوفيتي، عبر هيمنتها على أسواق الطاقة في أوربا.

 

بغباء مثير للدهشة، راحت الولايات المتحدة تدمر علاقاتها مع دول وكتل كان يفترض أن تحرص عليها اشد الحرص، فخسرت كتلة كبيرة في العالم تربو اليوم على مليار ونصف من البشر المسلمين منتشرين في جميع قارات العالم، وخسرت بسبب جموحها الشديد نحو الهيمنة في أوربا حلفاء وأصدقاء، وتسببت الاعتداءات والحروب التي شنتها على أمم وشعوب كثيرة، وميلها الشديد نحو النهب والسطو،  فالأطماع و السعي نحو السيطرة، ما أفقد العالم الغربي وحدته، ولم ينجم عن استخدامها القوة المفرطة إلا أسوء العواقب بنتيجة إجمالية ملحقة الضرر بالمصالح الأمريكية الاستراتيجية.

 

والغريب أن لا تستفيد الولايات المتحدة من تجاربها ونكساتها، الولايات المتحدة لا تقبل بعلاقات صداقة، تحالف، بشروط متكافئة، وحين حاولت بريطانيا وفرنسا أن تتصرفا كقوتين عظميين عام 1956، وشنتا بالتحالف مع العدو الصهيوني العدوان على مصر، بدون استلام الأذن والموافقة من الولايات المتحدة، تلقيا عقابا صارماً قاسياً قذف بهما إلى الوراء كدرجة ثانية من القوى العظمى.

 

الولايات المتحدة كانت هي الساعي من إضعاف الاتحاد الأوربي بدرجة لا تقوى على امتلاك إرادتها، بل وقامت الولايات المتحدة بقيادة تكتلان ضمن الاتحاد الأوربي ضد محاولات ألمانيا وفرنسا في جعل وتطوير الاتحاد الأوربي إلى كيان سياسي / اقتصادي / عسكري قادر على المواجهات. وأسست الولايات المتحدة لها أكثر من رأس جسر في أوربا لهذا الغرض : بريطانيا، النرويج، بولونيا، وربما فلندة أيضاً، بدرجة دعت مؤسسات وشخصيات فرنسية وألمانية، التصريح أن معركة أوكرانيا هدفها هو إركاع ألمانيا وفرنسا ..!

 

ما هي ملامح الموقف الحالي (النصف الأول من عام 2022) في الاتحاد الأوربي ...؟

 

1. انسحاب بريطاني رسمي.

2. الاتحاد يوجه عقوبات لخروج المجر (هنغاريا) وإيطاليا من موقف الاتحاد حيال الأحداث الأوكرانية.

3. مظاهرات في العديد من البلدان تطالب بالانسحاب من أوربا (ألمانيا، فرنسا، جيكيا.

4. تلميحات تصل لدرجة التصريح، في شخصيات ومصادر في فرنسا وألمانيا، أن الحرب في أوكرانيا الهدف الأساسي منها تدمير فرنسا وألمانيا ...!

5. إحياء سياسات العسكرة والتسليح،

 

ولنتأمل كيف وماذا وبأي احتمالات وأي سيناريو، ومفردات سيتم هذا الأمر ..

 

تفسخ الاتحاد الأوربي بشكل تام، بعد أن ستقاتل الولايات المتحدة في أوكرانيا على حساب الأوكرانيين، وستحسب ما تمكنت من ذلك، دولاً أوربية، المتروبولات الرأسمالية الصغيرة تقاتل رغماً عنها من أجل المتروبول الأكبر.

تبقى ألمانيا وفرنسا (مؤقتاً) والنمسا، وهولندة وجيكيا وسلوفينيا ضمن الاتحاد الأوربي (كتلة البلدان الألمانية).

أن تنجح قوى اليمين في عدة دول أوربية بالوصول للحكم، فتنشأ تحالفات جديدة مناهضة للفاشية والنازية والعنصرية.

ستكون أميركا غائبة عن المسرح الأوربي، مع وجود بصمات غير فاعلة لها في: بريطانيا، النرويج، بولونيا.

بعد غياب الوجود الفاعل للولايات المتحدة في أوربا، سيشجع قيام أنظمة تميل للتعاون مع روسيا، وخاصة في شرق أوربا.

تشكيل تحالفات سياسية بين قوى:

الأحزاب الشيوعية السابقة، الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية وخاصة (ألمانيا، فرنسا، النمسا، إيطاليا، أسبانيا).

التكتل الروسي / الأرثودوكسي (روسيا، بيلوروسيا، صربيا، وربما: اليونان، بلغاريا، رومانيا، سلوفاكيا أوكرانيا، عدد من الجمهوريات الصغيرة بعد أن تتضح الصورة الأخيرة).

تكتل البلدان اليمينية (في حاول نجاحها بالوصول للحكم).

 

7. ستشهد الولايات المتحدة، في الداخل (هي الآن في مرحلتها الجنينية) تحركات وانشقاقات وصراعات أثنية وطائفية، ستتبلور بين أقطاب رأسمالية بكيانات مختلفة، ولكن بجوهر اقتصادي.

8. باختصار شديد .. الأزمة الأوكرانية أطلقت عمليات سياسية واقتصادية، وصراعات خفية وعلنية، والموقف سوف لن يعود إلى ما كان عليه قبل شباط / 2022، ولكن العملية تفضي إلى تضاؤل قيمة أوربا سياسيا واقتصاديا وعسكرياً.

 

هذه مرتسمات عامة، تحتمل التأخير أو التقدم، وشدة الظروف ستعمل على منح النتائج أبعاد جديدة .... ولكن التحولات انطلقت ولا تحتمل العودة

 

 

قمة بريكس في جوهانسبرغ

 

 

د. ضرغام الدباغ

 

انطلقت أجتماعات مجموعة بريكس في 22 / آب ــ أوغست في جوهانسبرغ / جنوب أفريقيا، وأستغرقت 3 أيام، وسط تفاؤل عالمي ببروز قطب دولي يطرح علاقات دولية أكثر عدالاً وتكافؤاً، وملامسة تفضي لمعالجة جدية للمعضلات الدولية السياسية / الاقتصادية، التي فشلت الأمم المتحدة ونظام العلاقات الدولي في إيجاد حلول سلمية لها، وهو ما قاد إلى اندلاع أزمات وحروب لم تتوقف منذ نهاية الحرب العالمية وحتى الآن، بل وأن الرئيس الأمريكي الأسبق ريتشارد نيكسون  عبر في كتاب شهير له  (so verlieren wie den Frieden) " هكذا فقدنا السلام " وبعد أن قدم إحصاءات دقيقة، من أن العالم شهد بعد الحرب العالمية الثانية وحتى نهاية السبعينات، عدد كبير من الحروب خسر فيها أعداد كبيرة من البشر حياتهم، وأنفقت أموالاً طائلة، وأستهلكت أسلحة وعتاد حربي يفوق ما أنفق وأستهلك في الحرب العالمية الثانية. وهذا دليل ناصع على عدم قدرة النظام الدولي أستيعاب النزاعات السياسية التي تتطور غالباً إلى صراعات عسكرية مباشرة أو حروب بالوكالة (proxy war).

 

أولاً : محطات على طريق التأسيس

بعد عقد أول اجتماع لمجموعة ضم البلدان الأربعة الأعضاء المؤسسة للمجموعة (بريك) يوم 16 يونيو/حزيران 2009 بمدينة يكاترينبرغ في روسيا، أما الاجتماع الثاني فقد عقد يوم 16 أبريل/نيسان 2010 في العاصمة البرازيلية برازيليا. وقد أكتسب هذان الاجتماعان الطابع المؤسسي على مؤتمرات المجموعة، ومن ثم أسهما في تشكيل واقع جيوسياسي جديد.

وفي 14 أبريل/نيسان 2011، عقدت القمة الثالثة للمجموعة، في سانيا بجمهورية الصين، وهي أول قمة للمجموعة التي أصبحت تسمى بريكس، بعد الانضمام الرسمي لجمهورية جنوب أفريقيا.

أما مؤتمر القمة الرابع للمجموعة، فقد عقد يوم 29 مارس/آذار 2012 في مدينة نيودلهي بالهند، في حين عقد مؤتمر القمة الخامس يوم 28 مارس/آذار 2013 في ديربان، بجنوب أفريقيا.

وفي سبتمبر/أيلول العام نفسه، أطلقت الصين مبادرة الحزام والطريق الذي يعد مشروعا دوليا جديدا بديلا لطريق الحرير.

وفي 17 يوليو/تموز 2014، عقدت القمة السادسة للمجموعة في فورتاليزا بالبرازيل. أما القمة السابعة، فقد عقدت بمدينة أوفا في روسيا عام 2015، وهو نغس العام الذي شهد الافتتاح الرسمي لـ"بنك التنمية الجديد" (NDB)، وهو مؤسسة مالية تابعة لمجموعة بريكس مقره في مدينة شنغهاي بالصين، ويعتبره مؤسسوه بديلا للبنك الدولي.

عام 2016، عقد قادة دول بريكس (رئيس البرازيل ميشيل تامر، ورئيس روسيا فلاديمير بوتين، ورئيس وزراء الهند ناريندرا مودي، ورئيس الصين شي جين بينغ، ورئيس جنوب أفريقيا جاكوب زوما) اجتماعا في مدينة شنغهاي بالصين حيث المقر الرئيسي لبنك التنمية الجديد.

وفي الرابع من سبتمبر/أيلول 2017، عقدت دول بريكس القمة السنوية للمجموعة في شيامين بالصين، وانضمت إليها في هذه القمة كل من تايلند والمكسيك ومصر وغينيا وطاجيكستان كدولا مراقبة، لمناقشة خطة "بريكس بلس"، التي تهدف إلى التوسع المحتمل للمجموعة.

وفي الفترة الممتدة من 25 إلى 27 يوليو/تموز 2018، عقد قادة بريكس قمتهم العاشرة في جوهانسبرغ بجنوب أفريقيا، وتمحورت أشغال هذه القمة حول إقامة تعاون اقتصادي متزايد في بيئة اقتصادية دولية متغيرة، على خلفية الفشل الذي عرفته قمة مجموعة السبع الصناعية الكبرى، وحضرت تركيا القمة بصفتها رئيسة لمنظمة التعاون الإسلامي.

وفي 14 نوفمبر/تشرين الثاني 2019، عقد مؤتمر القمة الحادي عشر للمجموعة في العاصمة البرازيلية برازيليا، وعرفت هذه القمة مناقشة التطورات في مجالات العلوم والابتكار لدول بريكس، وأيضا تطوير التكنولوجيا والعملة الرقمية.

وقد أبرمت في هذه القمة اتفاقات متبادلة للمساعدة في وقف الاتجار بالمخدرات والجريمة المنظمة، وأعلن بيانها الختامي "الالتزام بتعددية الأطراف وتعاون الدول ذات السيادة من أجل تعزيز الأمن والسلام على مستوى العالم".

وعقد مؤتمر القمة الثاني عشر لمجموعة بريكس يوم 17 نوفمبر/تشرين الثاني 2020، في سانت بطرسبورغ في روسيا، بالشراكة مع منظمة شنغهاي للتعاون عبر تقنية التناظر المرئي في أثناء جائحة كورونا. وناقشت هذه القمة اتفاقا متبادلا حول مساعدة الدول الأعضاء لمجموعة بريكس من أجل مستويات معيشة أفضل وتحسين مستوى معيشة شعوب هذه الدول.

وفي التاسع من سبتمبر/أيلول 2021، عقد مؤتمر القمة الثالث عشر في نيودلهي بالهند عن طريق تقنية التناظر المرئي،

عقد المؤتمر الرابع عشر في بكين بالصين يوم 23 يونيو/حزيران عام 2022.

 

فالبشرية في جميع أرجاء العالم تتوق إلى عالم يخلو من النزاعات الحربية، وقيام مجتمع دولي أكثر عدلًا يجد فيه البشر السلم والحرية، والعدل، وعلاقات بعيدة عن النهب، ومجتمعات تولي التعليم وصحة الإنسان، وحاجاته الأساسية الأهتمام الأكبر. ومجموعة بريكس التي تضم في عضويتها كمؤسسون : الصين، روسيا، الهند، البرازيل، أنظمت لهم جنوب أفريقيا عام 2010،

 

وأخيراً وليس آخراً، اجتمعت المنظمة في جوهانسبرغ في آب / 2023، وفي جدول أعمالها فقرة رئيسية، هي ضم ستة بلدان جديدة إلى المجموعة، وكان المؤتمر الأول الذي أنبثقت منه المنظمة في التاسع من حزيران / 2009، أي قبل نحو 14 عاماً خلت، وهذا يدل على الجرد الدقيق والتمعن في تشكيل المنظمة، وأهم الموضوعات الرئيسية التي جرى بحثها بها هو : إيجاد حل لمشكلات النظام المالي العالمي، وقضايا إمداد الأغذية. وتشكل مساحة البلدان الخمس المؤسسة نحو ربع مساحة العالم، وعدد سكانها يقترب من 40% من سكان العالم، ومنذ عام 2000 إلى عام 2008 أرتفع حصة البلدان الأربعة (روسيا، الصين، الهند، البرازيل) في الناتج العلمي بسرعة من 16% إلى 22% . وبحسب مؤسسات اقتصادية عالمية (كمؤسسة غولدمان ساكس ) من المتوقع أن تتمكن المجموعة من منافسة أقوى الاقتصادات في العالم، كما من المتوقع أن تشكل حلفاً أو تجمعا ً سياسياً فيما بينها. والطموح هو أن تتمكن من تمثيل الأغلبية العالمية.

 

 وفي مناقشات جوهانسبيرغ، التي توجت بضم ستة أعضاء جدد وهم المملكة العربية السعودية، دولة الإمارات العربية، إيران، مصر، أثيوبيا، الأرجنتين، لتكتسب مزيداً من الأنتشار والمكانة السياسية والاقتصادية المضافة. جرى التأكيد على المبادئ الرئيسية التي قامت عليها المنظمة وهي :  التعاون على أساس مبادئ المساواة ودعم الشراكة واحترام مصالح بعضنا بعضاً، وهذا هو جوهر المسار الاستراتيجي للمجموعة. وهو المسار الذي يلبي تطلعات القسم الأكبر من المجتمع العالمي، ( الأغلبية العالمية) " وأن التجمع يعتبر نقطة انطلاق تاريخية جديدة، لإرث الصداقة ولتعميق التعاون وتعزيز التنسيق وهي التطلعات المشتركة لبلدان المجموعة وهي كذلك المهام الكبرى الملقاة على عاتقنا" . والسعي لعالم أفضل وأكثر إنصافا يطلق العنان لإمكانات جميع سكان العالم". كما أعتبر المؤتمر أنه من الأهمية الخاصة، في ظل حرب روسيا على أوكرانيا والصراع الجيوسياسي بين الولايات المتحدة والصين، إذ ترفع الدول الأعضاء بالمجموعة شعارات عالم أكثر توازنا وأمنا، والدعوة لإنهاء عصر القطب الواحد.

 

ثانياً : توسع المنظمة

ويشمل جدول أعمال القمة الـ15 (آب / 2023) للمجموعة احتمالات التوسيع المستقبلي للعضوية في بريكس،  وقد أعربت 40 دولة على الأقل عن اهتمامها بالانضمام إلى بريكس، من بينها إيران والسعودية وبنغلاديش والأرجنتين.

وكانت التحضيرات للمؤتمر قد تضمنت دعوة 69 دولة لحضور قمة جوهانسبرغ، من بينها جميع الدول الأفريقية، وسبق أن عبّر عدد من هذه الدول عن الرغبة في الانضمام للتكتل، ومن بينها الجزائر ومصر وإثيوبيا. كما عبرت البرازيل عن تأييدها لأنضمام الأرجنتين إلى بريكس، خلال الأشهر القليلة الماضية، أعلنت 6 دول أفريقية رغبتها في الانضمام إلى مجموعة "بريكس" (BRICS) ليبلغ العدد الإجمالي للمرشحين المحتملين 20 دولة.

وذكر تقرير نشر على موقع "المجلس الروسي للشؤون الدولية" أن الجزائر ومصر ونيجيريا والسنغال والسودان أعلنت رسميا رغبتها في الانضمام إلى مجموعة بريكس. وكانت إثيوبيا آخر دولة أفريقية كشفت عن نيتها في هذا الخصوص نهاية يونيو / حزيران الماضي. وهنا يستحق التنويه أن التجمع يؤكد على التمثيل المتكافئ للقارات.

وبعد عام 2020 كان هناك نشاط وتحرك لتوسيع المجموعة، حيث أبدت : الجزائر والارجنتين، زالبحرين وبنغلادش وبيلاروسيا، ومصر وأندنوسيا، وإيران والمكسيك ونيجيريا وباكستان، والسعودية وسوريا، وتونس وتركيا والإمارات وفنزويلا وزمبابوي، أهتمامها بعضوية بريكس.

وضمانا لمبدأ التمثيل الجغرافي، فإن إدراج الدول الأفريقية في مجموعة بريكس تعد خطوة منطقية، وبضمها إلى المجموعة يمكن القضاء على "الميول الآسيوية" الذي يتجلى في وجود 3 من أعضاء بريكس تقع جزئيا أو كليا في آسيا.

ومن أجل تمثيل أكثر شمولا ينبغي الأخذ بعين الاعتبار جملة من العوامل مثل الانتماء الديني واللغوي، وكذلك الوضع الاقتصادي للدول الأعضاء المحتملة. وبناء على ذلك، بات من الضروري زيادة وجود المسلمين وكذلك البلدان الفرانكوفونية أو الناطقة باللغة العربية في مجموعة بريكس.

وكانت تقارير قد رجحت قبول السنغال أو مصر ضمن بريكس كونهما من مراكز انتشار الإسلام في القارة الأفريقية وتعتمدان الفرنسية أو العربية لغة رسمية، إلى جانب موقعهما الإستراتيجي.

والثقل الاقتصادي والعائد الديمغرافي والمكانة الجيوسياسية من بين العوامل التي تؤخذ بعين الاعتبار في توسيع مجموعة بريكس، وهذا متاح في عديد من الدول الأفريقية، ومن بينها نيجيريا أيضاً.

 والعوامل الديمغرافية ستؤخذ بنظر الاعتبار أيضاً، وهنا، تندرج إثيوبيا في قائمة أكثر المشاركين المحتملين للانضمام إلى مجموعة بريكس كونها ثاني أكبر دولة من حيث عدد السكان في القارة، لكن تعثر نموها الاقتصادي في السنوات الأخيرة بسبب عدم الاستقرار السياسي الداخلي سيمثل عاملا سلبيا.

مكانتها في العلاقات الدولية، إذ يمثل أنخراط الجزائر في النزاع الطويل الأقليمي مع المغرب  من العناصر السلبية، سيؤدي ربما، إلى تجنب المشاركة المحتملة لبريكس في حل المشاكل العسكرية والسياسية الحادة. فيما لا تعد علاقات مصر وإثيوبيا ونيجيريا والسنغال " الحسنة مع الغرب" من العوامل السلبية . أما السودان، ففي ظل أزمة حادة وغياب سبيل التنمية المستقبلي لا يمكن اعتباره في الوقت الحالي قوة قادرة على المشاركة في التحول الموجه لصيغة بريكس.

 

ثالثاً : الآفاق الاقتصادية للمنظمة

وتمثل بريكس، و42% من سكان العالم، وأكثر من 16% من التجارة العالمية. وهي بذلك تهدف إلى أن تصبح قوة اقتصادية عالمية قادرة على منافسة "مجموعة السبع" (G7) التي تستحوذ على 60% من الثروة العالمية.

وتكشف الأرقام الصادرة عن مجموعة بريكس، عن تفوقها لأول مرة على دول مجموعة السبع، فقد وصلت مساهمة مجموعة بريكس في الاقتصاد العالمي إلى 31.5%، بينما توقفت مساهمة مجموعة السبع عند 30.7%.

وكان إنشاء بنك التنمية الجديد "إن دي بي" (NDB) في عام 2014 برأس مال قدره 50 مليار دولار عند بدء التشغيل علامةً بارزة أخرى، وذلك لتوفير الاحتياطي الطارئ لمجموعة البريكس، وهي آلية سيولة توفر الدعم للأعضاء الذين يواجهون ضغوطا قصيرة الأجل في ميزان المدفوعات أو عدم استقرار العملة.

ومنذ إنشائه في عام 2015، أقرض البنك 33 مليار دولار نحو 100 مشروع، في وقت انضم فيه 3 أعضاء جدد في السنوات الثلاث الماضية، هي بنغلاديش ومصر والإمارات العربية المتحدة، وانضمت إلى هذا البنك مؤخرا كل من أوروغواي والإمارات العربية المتحدة وبنغلاديش ومصر بصفتها أعضاء جددا. ولا تحتاج الدولة إلى أن تكون عضوًا في البريكس للانضمام إلى البنك.

ويلاحظ بعض الخبراء، أن نموذج بنك التنمية الجديد لا يختلف عن نموذجي البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، إذ إنه مملوك لأعضاء البريكس، ولكن تم وضعه بديلا للنموذج الرأسمالي العالمي نفسه. بنك التنمية الجديد أقرض 33 مليار دولار لنحو 100 مشروع، وبلغ رأس مال البنك، الذي هو بمثابة بنك تنمية متعدد الأطراف تديره دول بريكس الخمس، حينها 50 مليار دولار مع احتمال بلوغه 100 مليار دولار في غضون عامين.

والدور الأساسي لهذا البنك هو منح قروض بمليارات الدولارات لتمويل مشاريع البنيات الأساسية والصحة والتعليم، وما إلى ذلك، في البلدان الأعضاء بالمجموعة، وكذلك البلدان الناشئة الأخرى.

أما بالنسبة لصندوق الاحتياطي، فخُصص له مبلغ 100 مليار دولار تحسبا لأي أزمة في ميزان الأداءات. ويعد هذا الصندوق إطارا لتوفير الحماية من ضغوط السيولة العالمية.

وهذا تشمل المناقشات الاقتصادية، قضايا العملة، إذ إن العملات الوطنية للدول الأعضاء في المجموعة تتأثر سلبا بالضغوط المالية العالمية، خاصة الاقتصادات الناشئة التي شهدت تحريرا اقتصاديا سريعا ومرت بتقلبات اقتصادية متزايدة.

إضافة إلى ذلك، بدأ قادة دول بريكس، خلال القمة التي عقدت في روسيا عام 2015، مشاورات لنظام دفع متعدد الأطراف، يكون بديلا لنظام الاتصالات المالية بين البنوك العالمية "سويفت" (SWIFT)، من شأنه أن يوفر قدرا أكبر من الضمان والاستقلالية لدول مجموعة بريكس.

وأشار مراقبون أن بعض صانعي السياسات في أوروبا والولايات المتحدة يشعرون بالقلق من أن تصبح دول البريكس ناديا اقتصاديا للقوى الصاعدة التي تسعى للتأثير على النمو والتنمية العالميين.

وجدير بالذكر، أن مجموعة بريكس تضم اقتصاديات عالمية وهو ما خول لها أن تمثل ربع الناتج المحلي الإجمالي العالمي خلال عام 2021. وهذه الحصة آخذة في الارتفاع بالنظر إلى تنامي أهمية البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا في قطاعات معينة على رأسها الزراعة والتعدين وعلوم الصواريخ.

لكن وفقا لإستراتيجية الشراكة الاقتصادية حتى عام 2025 لا تتمثل المهمة الرئيسية لمجموعة بريكس في احتكار السوق العالمية، بل في "تعزيز الترابط"، أي بناء العلاقات المتبادلة في جميع القطاعات من الاقتصاد إلى الاتصالات الإنسانية. ولا تتأخر الدول في بريكس الإعلان أن الهدف من اتحاد هذه الدول ليس مواجهة قوة أخرى، بل تحقيق منفعة متبادلة وطويلة الأمد. بالإضافة إلى :

العمل مع المجتمع الدولي للحفاظ على استقرار النظم التجارية متعددة الأطراف وتحسين التجارة الدولية وبيئة الاستثمار.

السعي إلى تحقيق الأهداف الإنمائية للألفية المتعلقة بالتنمية المستدامة، وكذا الاتفاقات البيئية متعددة الأطراف.

التنسيق والتعاون بين دول المجموعة في مجال ترشيد استخدام الطاقة من أجل مكافحة التغيرات المناخية.

تقديم المساعدة الإنسانية والحد من مخاطر الكوارث الطبيعية، وهذا يشمل معالجة قضايا مثل الأمن الغذائي العالمي.

التعاون بين دول بريكس في العلوم والتعليم والمشاركة في البحوث الأساسية والتطور التكنولوجي المتقدم.

وتتوقع الدول الأعضاء للمجموعة أن تحقيق هذه الأهداف من شأنه أن يعطي زخما جديدا للتعاون الاقتصادي على مستوى العالم.

السعي إلى تحقيق نمو اقتصادي شامل بهدف القضاء على الفقر ومعالجة البطالة وتعزيز الاندماج الاقتصادي والاجتماعي.

توحيد الجهود لضمان تحسين نوعية النمو عن طريق تشجيع التنمية الاقتصادية المبتكرة القائمة على التكنولوجيا المتقدمة وتنمية المهارات.

السعي إلى زيادة المشاركة والتعاون مع البلدان غير الأعضاء في مجموعة بريكس.

تعزيز الأمن والسلام من أجل نمو اقتصادي واستقرار سياسي.

الالتزام بإصلاح المؤسسات المالية الدولية، حتى يكون للاقتصادات الناشئة والنامية صوت أكبر من أجل تمثيل أفضل لها داخل المؤسسات المالية.

 

رابعاً : هل هناك عملة دولية جديدة

ستسعى دول مجموعة بريكس إلى إطلاق عملة موحدة بينها تنهي بها هيمنة الدولار الأميركي على الاقتصاد العالمي، إذ أعلن ذلك الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يونيو/حزيران 2022، مشددا على أن مجموعة بريكس تعمل على تطوير عملة احتياطية جديدة على أساس سلة العملات للدول الأعضاء.

هذا الأمر أكده أيضاً وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف يناير/كانون الثاني 2023، حينما قال إن مسألة إصدار عملة موحدة لدول مجموعة بريكس ستناقش في القمة المقبلة المقرر عقدها في جنوب أفريقيا نهاية أغسطس/آب 2023. وقال خلال مؤتمر صحفي عقده بالعاصمة الأنغولية لواندا، عقب الزيارة والمباحثات التي أجراها مع الرئيس الأنغولي، وقال "هذا هو الاتجاه الذي تسير فيه المبادرات، التي ظهرت قبل أيام فقط، بخصوص الحاجة إلى التفكير في إنشاء عملات خاصة داخل مجموعة دول بريكس، وداخل مجتمع دول أميركا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي " . وهذه نقطة بالغة الأهمية على طريق تقليص هيمنة الدولر في المبادلات التجارة الدولية.

وفي ذات الاتجاه صرح رئيس البرلمان الروسي (الدوما) على هامش المنتدى الاقتصادي لرجال الأعمال الهنود، مطلع أبريل / نيسان / 2023، إن "مجموعة دول بريكس تخطط لإصدار عملة موحدة للتداول فيما بينها لكسر هيمنة الدولار باعتباره الوسيط الرئيس للتجارة والتسويات الدولية".

ولم تحسم بعد دول بريكس شكل العملة الجديدة، وتأتي العملات الرقمية ضمن الأفكار المطروحة لهذه العملة التي ستُنشأ على أساس إستراتيجي، لا على أساس الدولار أو اليورو، بل سيكون تأمينها بالاعتماد على الذهب والمعادن النفيسة.

وتسابق دول بريكس الزمن (خاصة روسيا التي تخوض حربا عسكرية ضد أوكرانيا وحلفائها الغربيين، وأخرى اقتصادية ضد العالم الغربي) لإصدار هذه العملة الموحدة، بالنظر للعقوبات القاسية المفروضة عليها من طرف الولايات المتحدة وعديد من الدول الأوروبية.

وتهدف هذه الخطوة إلى كسر هيمنة الدولار الأميركي وإنهاء تحكمه في الاقتصاد العالمي، وفي الوقت نفسه ترى دول بريكس في الأزمة الروسية الأوكرانية فرصة مواتية لإصدار هذه العملة والاستفادة من التذمر المتزايد من السياسات الأميركية.

 

المركز العربي الألماني

برلين

المراسلات :

Dr. Dergham Al Dabak : E-Mail: drdurgham@yahoo.de

 

 

 

 

القضية العراقية

في شبكة العلاقات الدولية

 

ضرغام الدباغ

يتداخل الموضوع العراقي في جداول عمل دول كبرى وغير كبرى، وتكاد القوى الكبرى تتفق أن العراق بما يمثله من ثقل سياسي واقتصادي وعسكري، يمثل بيضة القبان في توازنات الشرق الأوسط.، ولدينا الأدلة المادية الكثيرة والشواهد التي تؤكد هذه النظرية. وهذه الحقيقة إذا وافقنا عليها، فهذا يعني أن العراق سيمثل الفقرة الرئيسة في جدول مناقشات وخطط الشرق الأوسط الحالية والمستقبلية.

ولدينا من المؤشرات الكثيرة التي تؤكد أن الغرب ينظر للعراق نظرة أرتياب وشك، حتى في العهد الملكي، وحتى بعد قام حلف بغداد في العاصمة العراقية، وبعد أكثر من 20 عاماً على الاحتلال الثلاثي (الأمريكي الاسرائيلي والإيراني) أتضحت خيوط كثيرة، ومن تلك أن الولايات المتحدة رغم متانة صلاتها بالكيان الصهيوني، إلا أنها لم تبلغ لدرجة أن يقاتلون بقواتها المسلحة، بل فعلت ذلك من أجل إيران، وأهدت الأيرانيين ثمار الفوز، على طبق من ذهب.

سمعت مرة من الملك الراحل حسين بن طلال، أنه حاول ويحاول مع الإدارة الامريكية أن يقنعهم بجدوى الصداقة مع العرب والمسلمين بلا جدوى، فالأمر (الكراهية عميقة لحد العداء) متجذر عندهم لدرجة ميؤوس التعامل معها،  والآن دعنا من العراق وأحداثه، سمعت مرة من وزير تركي يكلم وزيراً إماراتياً، أن الأمريكيين (خاصة) يفقدون موضوعيتهم حيال أي قضبة اسلامية، وعليك أن تحذر منهم لدرجة أن تخشى أن يسرقوا منك نعالك هذا الذي ترتديه ..! هذا مع العلم أن الجيش التركي قاتل في كوريا وفيثنام، في حروب لا ناقة فيها ولا جمل ، فالناقة والجمل هنا في تعقيدات بحر إيجة وفي ممر ناختشيفان ...!، والسعوديون ساروا مع الأمريكان والغرب حتى تعبوا، ولكنهم كانوا يتآمرون عليها حتى في قضايا ثانوية الأهمية. حسني مبارك يقول" اللي متغطي بالامريكان عريان " وضياء الحق يقول " التعامل مع أمريكا يسود وجهه كبائع الفحم ". وهؤلاء هم من أشد حلفاء الولايات المتحدة.

الغرب، والأمريكان خاصة، لا صداقات عندهم ولاتحالف ولا أئتلافات دائمية، هم يفهمون شيئاً واحداً الاستسلام دون قيد أو شرط، وللتأكد يقوم بإهانة حليفه يومياً ليتأكد من حسن الانقياد. ومن يرتاب بهذه النتيجة ننصح بمراجعة العلاقات الأوربية الأمريكية، والعلاقات ضمن الناتو. ولدى صناع القرار الأمريكي مستويات مختلفة للدول، لا ينبغي مطلقا تجاوزها، (بريطانيا غير فرنسا، وفرنسا غير ألمانيا، وهذه غير أسبانيا ) وخط المستوى المرسوم لنا بالغ السوء والانحطاط، يبقينا في حالة الضعف لدرجة الأنقياد، لا امكانية لقرار مستقل لدينا، ولا تفكير في قضايا الأمن القومي، ولا تطوراً اقتصادياً بدرجة يخرجنا من حالة التبعية.

في منطقتنا الموبؤة، (ولا يحمد على مكروه سواه)، نحن مبتلون بشتى أنواع الألغام البالغة السوء والتأثير، كيانان ملتحمان ديالكتيكياً بالغرب، وبالولايات المتحدة خصوصاً. إيران الكيان الذي تأسس عام 1935، وإسرائيل عام 1948. بمعنى أن الكيانان مصطنعان، غير موجودان في التاريخ القريب أو البعيد، حتى أن الغرب أجتهد في إيجاد تسمية لهما. فالكيانان مصطنعان، والوظيفة الأساسية لهما مناكفة العرب والمسلمين، وعدم السماح لهم بالتنمية والتطور ليصبحا شيئاً له وزنة في العلاقات الدولية، ناهيك عن التقارب بين البلدان العربية والاسلامية، فدقوا أسفينا يتمتع بالقوة والدعم الخارجي ليقوم بهذه المهمة على أكمل وجه.

 

وتكرست هذه العلاقة في بلاد شرقي زاغروس في العهد الصفوي وأكتسبت خصائصها المميزة، فالصفويون شيعوا البلاد الممتدة حوالي بحر قزوين لكي لا ينظموا تحت جناح دولة الخلافة الاسلامية (1501)، وقد لاقى هذا التوجه الأنشقاقي الدعم والتأكيد من جميع القوى ذات المصلحة في المنطقة والعالم، من الروس الذين يفضلون منطقة هشة تسهل السيطرة عليها، ومن الإنكليز الذين وجدوا في تعميق الأنشقاق في العالم الإسلامي ما يفيد مآربها. ولكن الحال تطور في عهد الدولة القاجارية(1796)، إلى علاقات تحالف له أسسه السياسية، ولهذا السبب دعيت فارس لحضور مؤتمر برلين وأدلت بدلو ودسائسها  مع المتكالبين على الدولة العثمانية، ونالت حصة صغيرة في مؤتمر برلين 1878وذلك بضمها لقضاء كوتور شرقي مدينة وان  (الدولة العثمانية). وبلاد فارس وجدت استقرارها المستند لوظيفتها منذ عام 1925 حين أزاح البهلويون النظام القاجاري وأسسوا نظاما جديداً تحت الرعاية البريطانية / الأمريكية تحت أسم جديد (إيران) اخترعه الإنكليز  ويعني في تفسير مقاطعه (بلاد الآريين) دام حتى عام 1979، حين أنبثق النظام الكهنوتي. 

أما إسرائيل، فقد وجدوا لفظة تعبر أن هذه هي بلاد بني إسرائيل، واليهود الذين كانوا قوما غير مرغوب بهم في أوربا، ولقوا الويلات في معظم الاقطار الأوربية المركزية(روسيا، فرنسا، ألمانيا، بريطانيا، أسبانيا)، فكانت المجر (هنغاريا) مرشحة لتكون وطنا قوميا لهم، ثم طرحت الارجنتين، ثم أوغندة، وأخيرا طرحت مدغشقر بقوة ودارت مفاوضات طويلة وتفصيلية، ولم يمنع تحققها إلا لأنها كانت مستعمرة فرنسية المحتلة آنذاك من الألمان (1939 ــ 1944)، وبعد الحرب طرحت بريطانيا فلسطين كوطن محتمل، وبذلك تضرب عدة أهداف بحجر واحد، منها * التخلص منهم ومن متاعبهم في أوربا كمكب نفايات، * وتشتيت الجهد العربي وتأثيراته السياسية والاقتصادية والثقافية، * زرع جرثومة في الأمن القومي، * وخلق قاعدة آمنة في قلب الشرق الأوسط.

تحالفت هذه القوى الثلاث: إيران، إسرائيل مع الولايات المتحدة كعنصر خارجي، والتحالف والأئتلاف في صيغته، يدلنا أنه قد يستغرق وقتاً غير محدد، ولكن كما لظروف عقده شروط، فلفضه أيضاً ظروف وشروط، مهما أستطال الزمن، وتعمقت العلاقة، والسياسة هي ممارسة للممكن، وما هو ممكن اليوم، ليس بالضرورة أن يبقى ممكناً أبد الدهر، والأمريكان حين قرروا اقتلاع نظام الشاه، كان حليفهم، ولكنهم وجدوا فيه رؤية أن يكون لنفسه مكانة عالمية ويتحالف مع الهند، حركة قرعت جرس الأنذار، فقرروا اقتلاعة تحت السيطرة (under control)ولكن دون أسقاط نظام الدولة الإيرانية ودون تغير في وظيفته الأساسية. وهذه تجربة تاريخية يمكن أن تتكرر.

النظام الإيراني أقل بكثير من لعب دور الدولة الكبيرة التي تتسع على حساب الغير، فهي بالكاد وبأستخدم مفرط لأساليب القمع السياسي والثقافي قادرة بالسيطرة على حركات شعبية واعدة تنذر بمستقبل غامض للدولة الإيرانية.  وقد حدث مرتان أن أنفصلت شعوب إيرانية :جمهورية مهاباد الكردية، وجمهورية أذربيجان الشعبية خلال أقل من قرن.

النظام الإيراني فشل في تنفيذ مهمته، والنجاحات التي حققها لم تبلغ النهاية الناجحة التامة خلال 45 عاماً خلت، رغم أنها أشعلت أوار حروب شاملة(8 سنوات مع العراق)، وحروب اهلية (اليمن ولبنان والعراق وسوريا) ومحاولة فاشلة في البحرين. ومحاولات تغلغل عقائدية في أقطار أخرى أنفقت فيها الأموال الطائلة ومغربات كثيرة، وتهريب سلاح ومخدرات، مارست فيها دور صانع المشكلات (trouble maker) أكثر مما هي دولة عقائدية لدبها برنامج سياسي / اقتصادي / اجتماعي مقنع وصالح للتعميم، والأن يحق لمشغلها / حلفاءها  أن يطالبونها بجرد للحساب.

تمر العلاقات الدولية الحالية بمرحلة أنعطاف وتمفصل، فالحرب الأوكرانية وإن لم تضع أوزارها بعد، إلا أن ملامح النهاية ونتائجها تلوح واضحة تقريباً، إلا أن فيما تبدو كمسلمات تلوح وهي بأختصار:

أن لا عودة إلى الوضع الدولي قبل فبراير / 2022.

روسيا والصين وكتلة لا يستهان بها(دول البريكس) يمثلون فريقاً مهماً على مسرح السياسة الدولية والأوربية خصوصاً.

السلام العالمي، التعاون الدولي شعارات لا يمكن تحقيقها إلا وفق سياقات وضمن نظام سياسي دولي، وأقتصادي جديد،

 ضعف متواصل، قد يفضي إلى نهاية نظام الأمم المتحدة، ونهاية لنظام برتون وودز  (1945) (الدولار كعملة وحيدة قابلة للتبديل بالذهب). المنتهي مفعوله عمليا منذ عام 1971 (Nixon shock) حين الغى امكانية تبديل الدولار بالذهب.

 

هذه المعطيات الهامة وتفاعلها، في الحياة السياسية / الاثتصادية العالمي تفرز تدريجيا واقعاً جديداً يفترض فيه أصطفافات جديدة، تلعب فيه المصالح الوطنية والاقتصادية دوراً مهماً، وستفرض الكتلة العربية بحجم (500 مليون نسمة) واقتصادات عملاقة، وعدد من الدول (الجزائر، مصر، السعودية، المغرب، دول مجلس التعاون الخليجي) والبلدان الأسلامية الكبيرة (تركيا، أندونوسيا، ماليزيا، باكستان، بنغلادش) دورا ريادياً، وستنكفئ إلى الخلف مكانة الولايات المتحدة، وحروب التدخل والوكالة والعقوبات، فنظام العلاقات الجديد يعتبر هذه الصفحات هي من عهود الاستعمار والإمبريالية والعولمة، أنطوت صفحتها. ودول أوربا المركزي (ألمانيا، فرنسا، إيطاليا، أسبانيا) تنتهج سياسة النأي بنفسها عن الصرعات التناحرية.

 

الواقع الدولي الجديد سيفرز معطيات جديدة كقواعد عمل، وأرجح أن على الدول أستخدام أقصى قدراتها وتعبئتها، لطي صفحة الخلف، وهذه المعطيات الجديدة يحق لنا اعتبارها كمحفزات لتطور في المجتمع العراقي، والمجتمعات العربية وفي عموم المنطقة، الأمر يبدأ هكذا، أن ضرورة ماسة  تطرح نفسها، لتطور جوهري في نظم الحكم، وفي المقدمة ننوه إلى صراعات اجتماعية / ثقافية مهمة تتواصل في في الكيان الصهيوني، تطرح في خطوطها وثناياها الحاجة الملحة التي قد لا تقبل التأجيل في تطور النظام إلى ما هو أكثر من خرافات دينية لاهوتية وإغراق في الغيبيات التي لا تسمن وتغني من جوع، هل يجوز في هذا العصر أن تعتمد دولة ما، الحلول بالدبابات والقنبلة الذرية، فيما يلمس الشعب مادياً فشل الدولة في حل الإشكالات.

والأمر نفسه بهذه الصورة أو تلك، يتكرر في إيران، فنظام ولاية الفقيه لم يلمس منه الشعب غير  محاولات التوسع الفاشلة، المعتمدة على الحركات الانشقاقيةوالميليشيات المسلحة، والمؤامرات الدولية، النظام غير مقنع، وسخط الناس يتصاعد، والرد هو تصاعد القمع، المعصوميات سقطت، والرموز المعممة أهينت علناً، والازمات تراوح في مكانها والنظام يحكم رص الحلقات المستفيدة من أنتهازيين ومنتفعين، وسذج يلعبون على عقولهم، يسبون الشيطان الأكبر والأصغر، وفي الواقع يتحالفون معها، الهدف هو واحد، أحكام السيطرة على البلاد والعباد.

العالم الخارجي وشبكة العلاقات الدولية تدرك أن السيطرة على الشرق الأوسط إنما يتحقق عن طريق دعم الكيان الصهيوني والنظام الإيراني، هذا هو السبيل بإبقاء هذه الأفران موقدة لتلتهم خيرات هذه البلدان وهي ليست كثيرة. وليبقى صوتها منخفضاً ناعماً لا يطرح الحلول الحاسمة والجدية، لا توجد مشاريع طويلة الأمد، لأن لا أحد يضمن الغد وتطوراته.

الشعوب تريد أفقاً لمشكلاتها السياسية وهي كثيرة، وحلول لمشكلات ثقافية وهي أكثر، وحلول للمشكلات الاقتصادية وهي الأكبر، والمشكلات لا تحل بالتهجير والاجتثاث والتجريف، والسجون السرية وتصفيات، ولكن ستبرز مشكلات طابعها اقتصادي أجتماعي ثقافي وهذه لا تحلها الشفلات والبلدوزرات ...!

العالم يتغير، وحاجات الناس تتطور، ويكمن النجاح في فهم كنهة التطورات الدولية، وبروز قوى عالمية جديدة، وهناك علاقات دولية جديدة هي مطلب الشعوب ، نعم هناك مقاومة ضارية من الغرب والولايات المتحدة، ولكن ما بدأ سوف لن ينتهي .. بل ستواصل، وما أستحق الأفول .... سيأفل، ومن هنا أركز على أن حجم الدخل الأجنبي في وطننا العراقي والعربي، سوف تحكم نهاياتها بفعل حكم الحركة المادية للتاريخ، وهذه ليست دعوة للأسترخاء، بل للأنتباه بدقة شديدة، فالصفوف الأولى هي للمتفوقين من يتوصلون للحلول الناجحة، ويتمتعون بدقة التحليل القائم على أسس علمية.

 

 

 

 

 

نهاية مخزية

للفرانكفونية .. وأمثالها ..!

ضرغام الدباغ

وملامح الهزيمة واضحة في وجهه وتعابير خطابه، اعلن الرئيس الفرنسي مكرون، في خطاب الهزيمة، أن فرنسا الأفريقية أنتهت بلا رجعة، ورغم كونه اعتراف مدو، إلا أنه متأخر. وكانت فرنسا تدق طبول الحرب وتؤلب الأفارقة على بعضهم، وتستعد في تحضير حملات عسكرية، والأن عليخم مواجهة الفشل ... ، وكانت بريطانيا قبلها أدركت أن عصر المستعمرات قد ولى، وتجميل وتزويق المستعمرين واساليبهم، لا يلغي الجوهر الرجعي للأستعمار الذي كان قبيحاً وقحاً بدرجة عجيبة في بيانات عصبة الأمم (تأسست عام 1919 / باريس) حين نص بصراحة أستعمارية استعلائية " حق الأمم المتقدمة بالاخذ بين الشعوب المتخلفة "، هم منحوا أنفسهم حق تقسيم العالم، وإبادة الشعوب ونهبها وسلبها. والتقاتل فيما بينها، وإبقائها في أحط درجات التخلف.

الآن أنتهى كل ذلك، وكل علامات التقدم والتحضر هي خداعة، فليس هناك أوغد منهم وأحط حجين يتعلق الأمر بالسلب والنهب واللصوصية، الآن سقطت الفرانكفونية، وهي تدوير سياسي خادع للأستعمار ... تمثل فيه فرنسا القلب الاستعماري لمنطقة التي تكون فيها هي بتسمية أنيقة أطلقوا عليها " المركز "، والخائبين من الراضخين، أتباع، أجرام تدور في فلك المستعمر، بتسمية يحاولون جعلها أنيقة ... أطلقوا عليها " الأطراف " . هؤلاء الذين يقفون عراة أمام أسيادهم، مأخوذين بخلاعة ووقاحة الغرب، مذهولين، مسطولين ... سكارى وما هم بسكارى..

الفرانكفونية كان لها مناصرين بيننا، وياللعار، فهرجوا (وعلى الأرجح لقاء ثمن مدفوع) لليبرالية، وهم في الواقع كانوا يمثلون الانقلاب الجنسي، والهيمنة بأساليب منحطة، والآن ماذا سيفعلون...؟

من المستبعد أن يصدروا بياناً، يعترفون فيه أنهم تعرضوا للتضليل ... فهؤلاء من أشباه المثقفين، لن تبلغ شجاعتهم هذا القدر، سيصمتون صمت الحملان ...! في آخر ذرة من احترام الذات ...!

لا تفوتنا في هذه المناسبة، أن نذكر المتوسعين الصغار في منطقتنا ونذكرهم بمصير فرنسا صاحبة الأمجاد الاستعمارية والثقافة والثراء، قد سقط، رغم ما يمتلكون من تكنولوجيا ومال وثقافة، ولديهمن خطاب ثقافي مع أنه مزور، ولكنه مرتب، فبالاحرى أنتم ساقطون، سقوطاً مدوياً، وأنتم لا تملكون من أسباب الفتح سوى التخلف، والخرافات والجهل، والقتل العشوائي، وكون عدد من الصبيان في خدمتكم مقابل بقشيش، لا يعني أنكم ستفلتون من المصير المحتوم.

كل شيئ في وقته يأتي محكماً بدقة، وحين تحكم الحتمية المادية التأريخية فلن يصمد أمامها جبال من الزيف والخرافات والجهل ... أنتبهوا ... أتعضوا ... لا يصح إلا الصحيح ...!

وملامح الهزيمة واضحة في وجهه وتعابير خطابه، اعلن الرئيس الفرنسي مكرون، في خطاب الهزيمة، أن فرنسا الأفريقية أنتهت بلا رجعة، ورغم كونه اعتراف مدو، إلا أنه متأخر. وكانت فرنسا تدق طبول الحرب وتؤلب الأفارقة على بعضهم، وتستعد في تحضير حملات عسكرية،  والأن عليخم مواجهة الفشل ... ، وكانت بريطانيا قبلها أدركت أن عصر المستعمرات قد ولى، وتجميل وتزويق المستعمرين واساليبهم، لا يلغي الجوهر الرجعي للأستعمار الذي كان قبيحاً وقحاً بدرجة عجيبة في بيانات عصبة الأمم (تأسست عام 1919 / باريس) حين نص بصراحة أستعمارية استعلائية " حق الأمم المتقدمة بالاخذ بين الشعوب المتخلفة "، هم منحوا أنفسهم حق تقسيم العالم، وإبادة الشعوب ونهبها وسلبها. والتقاتل فيما بينها، وإبقائها في أحط درجات التخلف.

الآن أنتهى كل ذلك، وكل علامات التقدم والتحضر هي خداعة، فليس هناك أوغد منهم وأحط حجين يتعلق الأمر بالسلب والنهب واللصوصية، الآن سقطت الفرانكفونية، وهي تدوير سياسي خادع للأستعمار ...  تمثل فيه فرنسا القلب الاستعماري لمنطقة التي تكون فيها هي بتسمية أنيقة أطلقوا عليها " المركز "، والخائبين من الراضخين، أتباع، أجرام تدور في فلك المستعمر، بتسمية يحاولون جعلها أنيقة ... أطلقوا عليها " الأطراف " . هؤلاء الذين يقفون عراة أمام أسيادهم، مأخوذين بخلاعة ووقاحة الغرب، مذهولين، مسطولين ... سكارى وما هم بسكارى..

الفرانكفونية كان لها مناصرين بيننا، وياللعار، فهرجوا (وعلى الأرجح لقاء ثمن مدفوع) لليبرالية، وهم في الواقع كانوا يمثلون الانقلاب الجنسي، والهيمنة بأساليب منحطة، والآن ماذا سيفعلون...؟

من المستبعد أن يصدروا بياناً، يعترفون فيه أنهم تعرضوا للتضليل ... فهؤلاء من أشباه المثقفين، لن تبلغ شجاعتهم هذا القدر، سيصمتون صمت الحملان  ...!

لا تفوتنا في هذه المناسبة، أن نذكر المتوسعين الصغار في منطقتنا ونذكرهم بمصير فرنسا صاحبة الأمجاد الاستعمارية والثقافة والثراء، قد سقط، رغم ما يمتلكون من تكنولوجيا ومال وثقافة، ولديهمن خطاب ثقافي مع أنه مزور، ولكنه مرتب، فبالاحرى أنتم ساقطون، سقوطاً مدوياً، ووأنتم لا تملكون من أسباب الفتح سوى التخلف، واتلخرافات والجهل، والقتل العشوائي، وكون عدد من الصبيان في خدمتكم مقابل بقشيش، لا يعني أنكم ستفلتون من المصير  المحتوم.

كل شيئ في وقته، وحين تحكم الحتمية المادية التأريخية فلن يصمد أمامها جبال من الزيف والخرافات والجهل ... أنتبهوا ... أتعضوا ... لا يصح إلا الصحيح ...!

 

 

أوكرانيا ... الصفحة

ما قبل النهاية

ضرغام الدباغ

بعد مسيرة مضنية زاخرة بالدماء والدموع، لعب فيها  الأوكرانيون (وهم من فروع القومية الروسية) دور حصان طروادة في المخطط الغربي للسيطرة على روسيا، أما موسكو فتمعنت وتريثت جيداً وهم يحاولون ثني إرادة الأميركان والناتو والغرب من خوض هذه المغامرة، منذ تفكك الاتحاد السوفيتي وحتى شباط ــ فبراير / 2022 . وهذا المسلسل يدور منذ ثورة أكتوبر الاشتراكية / 1919(1)، وصولاً لعهد روسيا الاتحادية، والجائزة هي الموقع القيادي الاول في أوربا.  حيث مثلت قمة مؤتمر مينسك 2014 (2) ذروة في الجهد الدبلوماسي. والروس يواجهون مؤامرات الغرب ومحاولات توسع،  والمعسكر الغربي يتقدم بخطى مدروسة نحو الحرب، ورغم الاتفاقية الرسمية لإنهاء الحرب الباردة (مالطا / كانون الأول 1991)، والأتفاقات لإنهاءها، بموجبها فكك السوفيت الاتحاد السوفيتي وحلف وارسو.

ولكن الغرب لم يوقف استفزازاته، بل ضاعفها. من ضم بلدان عديدة مجاورة لحلف الناتو، وإشعال فتيل بطيئ للأزمة لاوكرانية بدأت بإيقاد نبران ثورة اوكرانية أطلقوا عليها الثورة البرتقالية، وجاؤا بحكومة كراكوزات تفعل ما يمليه الغرب عليها، وأبتدأ العد العكسي وتدهور الموقف، ووضع الروس أمام معادلة صعبة للغاية، خياران كلاهما مر : أما الاستسلام لإرادة الغرب والأتيان بحكومة موالية للغرب في الكرملين أو الصراع المسلح بكافة أبعاده الشاملة، السياسية / الاقتصادية / وصولاً إلى حتمية الصراع المسلح لأن نوايا الغرب الكامنة هي التوغل في روسيا أو تفكيكها ...!. وتفكيك روسيا هو أسوء الخيارت، وبمثابة أنتحار، لذلك المنطق يوصل إلى قبول المواجهة، لأنها تنطوي (إن أستعديت للأمر جيداً) على أحتمال التعادل أو النصر ..!

الغرب أعتبر أنه قد كسب المعركة سلفاً قبل أن تندلع، أعتمادا على نظرية أن الروس لن يطيقوا صراعاً شاملاً من الغرب، وقد أعدوا للروس سيناريو يشبه السيناريو العراقي بخلق كتل عرقية وطائفية، وإثارة صراعات داخلية ستفضي لتقسيم روسيا، ولدى الكرملين معطيات وأدلة مادية تؤكد وجود هذا المخطط. وتصور الغرب أن روسيا تجمع هش سينهار مع أول طرقة على الباب الخارجية. ولم يقرأوا نصيحة السياسي الألماني العبقري أوتو فون بسمارك الذي نصح القيادات الألمانية وغيرها بعد خوض الصراع المسلح مع الروس، فالروس شعب كبير، صلب، شجاع، يعشق بلده، ويحتمل الأذى والألم وينتصر في معاركه، إذن أسباب صمود روسيا هي إنسانية قبل أن تكون تقنية. وهكذا صمدوا بوجه نابليون، والهتلرية، وكانوا المسمار الأمضى في نعش الأمبراطوريتان.

الروس أمة كبيرة وقوية في أوربا، وموقع القمة يتربعون عليه بجدارة منذ قرون كثيرة، ويبسطون نفوذهم  على شرق أوربا، لوحدهم، فيما غرب أوربا تتقاسم النفوذ فيه بريطانيا وألمانيا وفرنسا، أما الاولايات المتحدة فتطمع أوربا أكملها بشرقها وغربها، بل وشرق آسيا، والعالم بأسره.. حتى الفضاء الخارجي، ولا يقبلون أن يصدقوا أنهم قد تراجعوا، وسوف يواصلون التراجع عالمياً وفي جميع الساحات والقارات، فالقوى الواعدة أطلت وأبتدأت تحتل مواقع متقدمة، والأمر لن يقتصر على الروس والأوربيين، بل والهند أيضاً واليابان، وتركيا،  والبرازيل، وأندونيسيا، والباكستان .. والشرق الأوسط، والقائمة تطول وتكبر، فأبتدأت المؤامرات الأمريكية والغرب يتبعها بتردد  ولكن في النهاية الكل يطيع وينفذ إرادة أميركا،  وبريطانيا قبلت بدور التابع، وفرنسا وألمانيا يطيعان ولكن على مضض، مع تلميحات وتأشيرات، أن لهما موقفا خاصاً ...!

واليوم مؤاشرات النصر تلوح للروس على قاب قوسين أو أدنى، وإذا كنت متأكداً من هذه النتيجة، فغبري من المحللين السياسيين، وبالاحرى قادة حكومات ودول، يدركونها أيضا بوضوح. لأن الروس يعملون بتخطيط جيد، وبتحالفات قوية وبقناعات راسخة، وقد أنهارت مصداقية الولايات المتحدة، ولم يعد التحالف الغربي يتمتع بذات القوة والتماسك كأيام الحرب الباردة. والأوربيون سأموا دور الأنقياد لمشيئة الولايات المتحدة، والسعي في الحروب العبثية(فيثنام، العراق، أفغانستان)، ومن هنا أعتقد أن الأوربيون أدركوا مآل الأحداث، واليوم أكثر من ذي قبل، مبدأ أن الأمريكيون سيقاتلون الروس حتى آخر أوكراني ...! والقيادة الاوكرانية قدمت بلادها قرباناً للخطط الاستراتيجية الأمريكية الشاملة.

والأوكرانيون مغلوبون على أمرهم، فالقيادات النازية الجديدة التي تقود أوركرانيا في الخفاء والعلن، أرتضوا أن يلعبوا دور كبش الفداء، معتقدين أن الغرب سوف لن يتخلى عنهم أبداً، وبالطبع أن الغرب سوف لن يتخلى عنهم ولكن مع حذف صفة "أبداً ". فكل صفقة لها ثمن غال أو بخس..، وخاضعة بالتالي للبيع كما للشراء ...!

الموقف السياسي العالمي سيشهد تغيرات، والاحتمالات الواردة عديدة :

ستستولي روسيا على مناطق (؟) شرقي الدنيبر.

ستكون هناك حكومة اوكرانية موالية للروس.(بصيغة ؟)

سيشهد الناتو ضعفا في صفوفه.

ستشهد أوربا تغيرات واسعة، قد تغير من وضع الاتحاد الأوربي.

النظام الدولي السياسي / المالي سيشهد تغيرات كبيرة.

ستخطو القارة الأفريقية خطوات كبيرة نحو التحرر من الهيمنة الغربية.

أستخدام الأسلحة النووية، خيار أنتحاري لن يلجأ إليه حتى مالكوه، ولكن يمارس كمناورة،.

الغرب (الناتو) حتى بأستخدامه الأسلحة التقليدية لن يتمكن من هزيمة روسيا لمفردها وهذه حقيقة كبيرة جداً.

بحسابات الحجم السياسي والعسكري الروسي، لا يمكن الحديث عن أمن أوربي ومستقبل أوربا دون مشاركة روسية فعالة.

الاقتصاد الروسي، كبير بقدراته الحالية واحتياطياته، سيكون من الصعب على أوربا الغربية التخلي عن الاقتصاد الروسي .

 السلام العالمي، التعاون الدولي شعارات لا يمكن تحقيقها إلا وفق سياقات وضمن نظام سياسي دولي، وأقتصادي جديد، ونهاية نظام الأمم المتحدة، ونهاية تامة لنظام برتون وودز (الدولار كعملة وحيدة قابلة للتبديل بالذهب).

التاريخ السياسي " العلاقات الدولية" / الاقتصادي / العسكري، يفتتح فصلاً جديداً بعد صراع أوكرانيا.

 

بعبارة وجيزة : كلما طالت الحرب، ترتفع تكاليفها، وبالتالي يتغير الموقف على طاولة المفاوضات، ولكن مع التأكيد، أن الموقف لن يكون لصالح الغرب، ولن يعود للقطة ما قبل شباط / 2022.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

هوامش

حروب التدخل في روسيا 1918 / 1919

أعداد جنود الحلفاء من 10 أمم، الذين كانوا موجودين في المناطق المشار إليها في روسيا:

هبط 600 جندي من القوات الفرنسية والبريطانية في أرخانجيلسك

عدد من القوات البريطانية في فلاديفوستوك

عدد من القوات الرومانية في بيسارابيا

23,351 جندي يوناني، انسحبوا بعد ثلاثة أشهر (جزء من فيلق الجيش الأول تحت قيادة الجنرال كونستانتينوس نيدر، الذي يضم فرقتين من المشاة الثاني والثاني عشر، في شبه جزيرة القرم، وحول أوديسا وخيرسون

13000 أمريكي (في مناطق أرخانجيلسك وفلاديفوستوك)

11,500 استوني في شمال غرب روسيا

2500 إيطالي (في منطقة أرخانجيلسك وسيبيريا)

2,300 صيني (في منطقة فلاديفوستوك)

150 أستراليا (معظمهم في مناطق أرخانجيلسك)

15000 جندي ياباني في المنطقة الشرقية

4,192 كندي في فلاديفوستوك، 600 كندي في أرخانجيلسك

بروتوكول : أتفاق مينسك

 

يتكون نص البروتوكول من اثنتي عشرة نقطة:

لضمان وقف فوري لإطلاق النار الثنائي.

لضمان المراقبة والتحقق من وقف إطلاق النار من قبل منظمة الأمن والتعاون في أوروبا.

لا مركزية السلطة، من خلال اعتماد القانون الأوكراني «بشأن النظام المؤقت للحكم الذاتي المحلي في مناطق معينة من ولايات دونيتسك ولوهانسك».

لضمان المراقبة الدائمة للحدود الأوكرانية الروسية والتحقق من قبل منظمة الأمن والتعاون في أوروبا مع إنشاء مناطق أمنية في المناطق الحدودية لأوكرانيا والاتحاد الروسي.

الإفراج الفوري عن جميع الرهائن والمحتجزين بشكل غير قانوني.

وضع قانون يمنع مقاضاة ومعاقبة الأشخاص فيما يتعلق بالأحداث التي وقعت في بعض مناطق دونيتسك ولوهانسك أوبلاستس.

مواصلة الحوار الوطني الشامل.

اتخاذ تدابير لتحسين الوضع الإنساني في دونباس.

لضمان إجراء انتخابات محلية مبكرة وفقًا للقانون الأوكراني «بشأن النظام المؤقت للحكم الذاتي المحلي في مناطق معينة من دونيتسك ولوهانسك أوبلاست».

سحب الجماعات المسلحة غير الشرعية والمعدات العسكرية وكذلك المقاتلين والمرتزقة من أراضي أوكرانيا.

لتبني برنامج الإنعاش الاقتصادي وإعادة الإعمار لمنطقة دونباس.

لتوفير الأمن الشخصي للمشاركين في المشاورات.

المركز العربي الألماني -برلين

المراسلات

Dr. Dergham Aldabak : drdurgham@yahoo.de

الشاعر أرثر رامبو

 

ضرغام الدباغ

 

 

ولد الشاعر الفرنسي أرثر رامبو في بلدة شارلفيل شمال شرق فرنسا، عام 1854، وسرعان ما بدت عبقريته واضحة لمعلميه في المدرسة  ومحيطه الاجتماعي، فمنذ أن كان في السابعة من عمره، حيث أبتدأ كتابة الشعر، ولكن رامبو لم يعش طويلاً (37) سنة ليحصد المجد الثقافي، وكانت حياته ملؤها البوس والفاقة والعذابات. أنتهت في عام 1891، حين بدأ الشاعر يعاني من ألام مضنية في ساقه الأيمن. نقل رامبو إلى مرسيليا، حيث قرر الأطباء قطع ساقه، وأخيراً عاد إلى والدته وبلدته. ولكنه سرعان ما قضى نحبه في شعر تشرين الثاني / نوفمبر  نوفمبر من نفس العام (1891)،

في شهر آب من عام 1870 ، غادر رامبو شارلفيل، ووصل إلى باريس، ثم سافر إلى بلجيكا، حيث حاول ممارسة الصحافة. ولكن الشرطة أعادت الصبي القاصر لإمه إلى المنزل. لذلك، ومن هنا وحتى نهاية عمره، سيظل الأمر كذلك كما لو أنه كان يسعى لهدف غامض، يحاول رامبو ويسعى باستمرار بلوغه كأنه يبحث عن شيء ما. وفي هذه العملية تجديد دائم لثراءه تفكيره ونضجه الشعري.

بعد فترة قصيرة يقرر رامبو الهرب مجدداً إلى بلجيكا، وقد صارت بلدان أوربا الأخرى وليس فرنسا فحسب مرتعاً لتسكعه وكأنه يبحث عن شيئ، لم يكن يعرفه بدقة، شيئ يدور في آفاق النضج الفني الشعري الذي لا جدال فيه، وكان لابد له من محرك خارجي هائل، وهذا المحرك الخارجي وجد تجسيده في حدث تاريخي كبير وهو " كومونة باريس / 1871 "  وأستمد من الثورة قوتها، وتمردها.

وعن تطور نضجه كتب وهو في السابعة عشر فقط ..! إلى صديقه الشاعر  بول فيرلين رسالة مهمة، تنبأ عن وعي نضج مبكر جداً وتبلورات مهمة تحوّلت في ما بعد إلى بيانٍ حقيقي للشعر الحديث، لأنّه عبّر فيها عن نظريته الشعرية، التي تقول " إن على الشاعر أن يصل إلى مرحلة الرؤيا، وأن يغدو رائياً أو متنبئاً من خلال تحرير حواسه، وأن الشاعر يمكن أن يبلغ مستوى الرؤية، بفعل اضطراب طويل وهائل لجميع الحواس ".

ساهمت التحولات المهمة في تاريخ فرنسا الحديث. في أن يكتسب الشاعر نضجاً وأن تجد شخصيته المتمردة التبلور الذي كان يبحث عنه،  وتجسدت هذه في  كومونة باريس (1871). التي أصبحت ليس لدعاة الثورات الأجتماعية فحسب، بل والمتطلعون إلى آفاق فنية / أدبية أكثر رحابة وعمق. وهنا هجر بلدته الصغيرة الهادئة شارلفيل كأول رد فعل (Reaction)، وخاصة بعد الأنتكاسة التي أصابت الثورة (كومونة باريس) إذ راح يطالب أدباء فرنسا الكبار : فيكتور هوغو، وشارل بودلير وأدباء آخرين، بمواقف أكثر صلابة وفي ذلك التأثير للمؤثرات الجديدة على شخصيته وأدبه، والذي بدا في قصيدة " الحداد " والتي أعتبرت من أعمال رامبو الكبيرة.". كل شيء فيه يذكر بأعمال هوغو: الحبكة التاريخية للعصر العظيم الثورة الفرنسيةوالمحتوى الملحمي والشكل الملحمي والفكر الجمهوري والأسلوب الضخم" .

ويلاحظ متتبع سيرة الشاعر رامبو، أن تتطور نضجه تمثل في أستيعابه لمحصلة الأحداث والتجارب، بدا أن رامبو ، في وقت قصير ، قد أستوعب ذلك التطور في الاتجاه الأدبي... جاء ذلك في المرحلة الأولى من السيرة الإبداعية للشاعر ، والتي استمرت 18 شهرا - من 2 يناير 1870 ، تاريخ نشر أول قصيدة لرامبو ، حتى مايو 1871 (تاريخ هزيمة الكومونة). تمت الإشارة إلى كل خطوة من خطوات نموه الفني / الأدبي .

 

وبحلول عام 1870 ، كان رامبو قد أنجز أكثر من 10 قصائد، " حيث أصبح الاعتماد على التقليد الرومانسي ملموسا بشكل أكبر." . جسَد فيها القواعد الراسخة للنصوص الفرنسية "الصحيحة". مع الانتقال إلى المرحلة التالية من الإبداع .

تنتمي أربع أو خمس قصائد فقط إلى فترة الكومونة، وهي المرحلة الأحدث في عمل رامبو ، وتمثل المستوى الجديد الذي بلغه الشاعر، هذا حقا حقبة جديدة في تطور الشاعر. تتميز بالعمق والنضوج، رغم أن رامبو لم يكن بالكاد في السادسة عشرة من عمره!  اعتبر الشاعر هزيمة انتفاضة كومونة باريس، وانتصار عصبة فرساي، " كارثة عميقة ". حيث ظهرت القصائد التي كتبها رامبو في أيام الكومونة فقد  كانت هزيمة الانتفاضة تعني بالنسبة لرامبو  أنتكاسة للتطور الفكري / الثقافي بذات الوقت والمعنى ...! بعد انتكاسة الكومونة وقمعها الدموي، أعتقد رامبو أن عليه أن يكرس جهوده في العمل الفني، فأنجز مجموعة قصائد، أعتبرت من مرحلة الكومونة.

خلال هذه المرحلة الساطعة ...ويسميها بعض النقاد بمرحلة الرؤية، وهي المرحلة التي أشتد فيها تكاثف الوعي وعناصرة المكونة الداخلية والخارجية، " الرؤية "، كتب رامبو قصيدة "السفينة السكرى" ، التي انجزها في صيف عام 1871 (عام الكومونة) "السفينة السكرى" وفيها يحكي الشاعر رحلته في بحر الرؤية والسطوع، ثم يخبو ذلك الوهج بل ويتلاشى، حتى أن الشاعر يتنبأ بنهايته، ويطلق عليها السفينة، التي تقاوم الأمواج العاتية، تلك الرحلة التي منحها الشاعر قلوعه وأشرعته، ولكن الواقع الموضوعي مضطرب والبحارة ليسوا بدرجة الوضوح عند القبطان، وحيث لا تفيد مناشدتهم، فتمضي السفينة في رحلتها نحو المحتوم، ويعلن القبطان هزيمته، وينعي كل شيئ في أسى عاطفي  حزين، وأن نضاله كان عبثاً، وبأعتبار أن رامبو كان شاعراً وليس بقائد ثوري، يحلل الظروف الذاتية والموضوعية، تحليلاً ماديا ملموساً، بل يستسلم للداعي والاسف، وأفضل ما فعله، هو العمل على تقريب البحارة (الناس) للرؤية العميقة .. للوعي الساطع، وبها نفهم العالم وما يدور أفضل ....!

"قصيدته " السفينة السكرى " هي تشابك للعديد من العناصر، التفاؤل والتشاؤم، ولكن ثقة الشاعر بمهمته لم تنهار، وإن لحقها بعض اليأس، الشاعر يثق بالمستقبل وإن برؤية مضطربة، يجتاحه الحزن أن الموت الذي سيطبق به، وأن العالم سيتواصل بدون .. وهذا أمر ليس بالغريب تماماً، فلطالما تنبأ الوجوديون بموتهم، ومأساة أنهم سوف يشهدوا الفصول القادمة ..! ويرى بعض النقاد أن الرؤية في قصيدة السفينة السكرى، بمثابة علامة على تشكيل أحدث نظام شعري قائم على الانعكاس الرمزي للواقع.

فالشعر ليس مجرد ألفاظ وحتى معاني، بل ووظيفة الشعر في العصر الحديث حيث تقدمت الفنون بدرجة كبيرة، وصار مطلوباً لمهمة أخرى، وهي انه تحول من إطار إلى بنية لابد أنها تعبر عن الحركة الواسعة النطاق التي تدور في جوهر العمل الفني ويذلك فإنه  يتحول لمضمون، وهذه الحركة و هي عملية ديناميكية مهمة.

بعد قصيدته الكبيرة " السفينة السكرى " كتب رامبوا عددا من القصائد، حيث تحول الشاعر إلى التوهج في الرؤية، وأصبح قلما يكتب في مستوى ثقافي / أجتماعي، وفي سفراته الأخيرة في الشرق، صار يتطلع إلى آفاق جديدة، وصارت له أسطح رؤية لم يكن يعرفها، على الأقل بهذه الدقة في الرؤية الجمالية للروح كما أنه هناك رؤية جمالية الطبيعة، وبدا أن له رؤية غير تلك الرؤية الكلاسيكية للأدب.

واصل رامبو تسكعه وتجواله، متفاعلاً بين الحياة وظروفها، وبين رؤيته الشعرية، فغادر أوروبا عام 1880، متجهاً قبرص، وبدأ يتعرف على نكهة الشرق، فأوغل في ترحاله إلى مصر ، ثم إلى عدن، حتى استقر في مدينة هراري/ إثيوبيا ، حيث أقام طويلاً. وفي أفريقيا أنغمس في أمور حياتية (التجارة) ربما شعر بضرورة تكوين قدرة مادية يواجه بها تقدمه في السن، رغم أنه لما يزل في الثلاثينات من العمر، ولم يعد يمارس الكتابة، " والرسائل التي وردت منه في أوروبا ملفتة للنظر في جفافها وكفاءتها غير العادية، والافتقار المطلق للخيال وأي غنائية على الأقل".

 

لا أعتقد أن هناك قصيدة بعينها ترجمت إلى لغات كثيرة ومنها اللغة العربية، قدر ما وجدت قصيدة رامبو الشهيرة : " السفينة السكرى " طريقها للترجمة، وبالطبع هناك تفاوت أحيانا كبير في الترجمات (بحسب رؤية وتخيل المترجم للمشهد الشعري عدا القدرة المهارية للمترجم)، وكم تأسفت لأني لم أقدر على قراءتها بلغتها الأصلية (الفرنسية) رغم أني قرأتها لمترجمين فطاحل متمكنين من لغتهم الفرنسية، ثم قرأتها باللغة الألمانية، (قرأت ليس أقل من 12 ترجمة باللغتين العربية والألمانية لهذه القصيدة الرائعة) ولكني أظن أن اللغة الأصلية لها طعم خاص، ولا سيما هذه القصيدة الرائعة.

 

 

 

(السفينة السكرى) أغنية البحر

 

الشاعر الفرنسي : آرثر رامبو ( 1854 / 1891 )

 

عندما هبطت مع الأنهار العصبية

أحسست أن ملاحي قد تخلوا عني

كان ذو الجلود الحمراء قد سددوا حرابهم إليهم

وسمروها وهم يصرخون عرايا إلى الأوتاد الملونة

 

لم يعنيني أمر البحارة أجمعين

ولا إن كنت أحمل حبوب الفلمنك أو قطن الإنكليز

فلما أنتهي الضجيج وقضي على الملاحين

تركت الأمواج تسوقني إلى حيث تشاء

 

كنت في هدير المد والجزر المخيف طوال الشتاء

أشد تصميماً من أدمغة الأطفال... أجري وأطير

أشباه الجزر المقفلة في صخب الأعاصير ...

لم تعرف في حياتها أروع من هذا الفناء ...

العاصفة باركت صحوي في البحار

 

أخف من سدادة رحت أرقص فوق الأمواج

التي تدحرج كما يقال ضحاياها إلى الأبد

عشر ليال غير آسف على وهج المصابيح السخيفة

أعذب من لحم التفاح النيئ في أفواه الأطفال

غمرني الماء الأخضر وغسيل النبيذ الأزرق

وبقايا البصاق من هيكل قاربي الصنوبري

وأنتزع من يدي الدفة والمرساة

فرحت منذ ذلك الحين أستحم في قصيدة البحر

التي تومض بالنجوم وتفور كاللبن

وأبلغ السماوات الخضر التي يحدث في بعض الأحيان

أن يحصل فيها غريق، ووجهه شارد

وشاحب وخذلان

وحيث يحدث فجأة تحت وهج النهار

أن تصبغ الفضاء الأزرق بنشوة وأهازيج

أقوى من الخمر وأعمق من أي قيثار

 

ورحت اسبح بينما كان ينساب من حبالي الهشة

بعض غريق يغوص في النوم ورأسه إلى الوراء

 

وها أنا ذا سفينة ضائعة تحت ضفائر الخلجان

طوح بي الإعصار في أثير خال من الطيور

أنا الذي كانت المدمرات ولا سفن الهانزا

لتنتشل أشلائي السكرى بالماء

 

وأدخن وأخرج من خلال الضباب البنفسجي

أنا الذي رحت أشق السماء المحمرة كالجدار

أنا الذي رحت أجري وقد تناثرت على الأسماك الكريهة

كلوح مجنون تحف به أفراس البحر السوداء

رأيت الأرخبيل المتلألئ بالنجوم

وشاهدت الجزر التي يتلألأ فيها وهج

السماء الرحبة للملاح

 

أتنام منفياً في مثل هذه الليالي التي لا يسبر لها غور

يا ملايين الطيور الذهبية ... يا قوة المستقبل

لكني بكيت كثيراً ...

أنوار الفجر جارحة

كل الأقمار قاسية ... وكل شمس عذاب

 

نفحنى الحب المرير حتى أصابتني النشوة بالجنون

آه فلتنكسر يا قاع سفينتي

آه فليغمرني البحر

إن كنت لا أزال أشتهي من أوربا ما

فهو المستنقع المظلم البارد الذي يلقى فيه

طفل محنى عند الغسق يفيض قلبه بالحزن والشقاء

قارباً رقيقاً مثل فراشة الربيع

 

أيتها الأمواج بعد أن استحممت بأشواقك الفاترة

ما عدت أستطيع أن أمنع ناقلي القطن من الرحيل

ولا أجوس في غور الأعلام والمشاعل

ولا أن اسبح تحت العيون المفزعة.

 

المركز العربي الألماني

برلين

 

 

  المراسلات

Dr. Dergham Aldabak : drdurgham@yahoo.de

 

 

دراسات ـ إعلام ـ معلومات

 

 

 

 

جهاز كاشف الكذب

 

د. ضرغام الدباغ

 

في العام الدراسي 1961/1962، كنا طلابا في الصف المستجد الدورة 18 / كلية الشرطة ببغداد، وكنا نتلقى العلوم العسكرية والمسلكية والقانونية على أيدي أفضل الأساتذة (دكاترة) (ويتولون تدريسنا المواد القانونية والانسانية) والضباط الركن(يدرسون التعبئة والتخطيط، ونظريات الرمي)، أو من ضباط الشرطة الخبراء الفنيين، ومعظمهم كان قد أوفد لدورات خارج العراق، بصفة خاصة للولايات المتحدة وبريطانيا، وعادوا للتدريس في الكلية.  وكانوا ينقلون لنا مشاهداتهم وانطباعاتهم عن الدورات التي اتبعوها هناك، وبعضهم كان يتحدث اللغة الإنكليزية بطلاقة.

ومن بين ما أسهبوا في شرحه كان جهاز كاشف الكذب (بالانكليزية / Polygraph)، الذي يعود أصل اكتشافه إلى عام 1921 في الولايات المتحدة، ولم يكن حتى ذلك الوقت (وأعتقد ما يزال) لم ينتشر في الكثير من البلدان، والأدق أنه رغم التطويرات التكنولوجية على الجهاز، إلا أنه لم ينجح (حتى الوقت الحاضر) في أن يكون مؤشرا قاطعاً في الدلالة الجرمية، وإذا كانت المحاكم تتردد، بل لا تعتبر الصورة والتسجيل الصوتي حتى قبل عشرات السنين، دليلا جرميا يعتد به، بأعتبار الامكانية التقنية المتوفرة في تزوير المبرز (صورة أو تسجيل صوتي)، فجهاز كاشف الكذب قد أثبت في كثير من الحالات المهمة، أنه أقل من أن يعتبر مؤشرا ومؤثرا على قناعة المحقيين او القضاة.

 

جهاز كشف الكذب أو البولي‌غراف polygraph، هو جهاز لقياس السجلات والقياسات الفسيولوجية المختلفة مثل ضغط الدم، النبض، التنفس، والعلامات التي تظهر على البشرة، والجلد عند توجيه الأسئلة للشخص المستجوب. ويعتقد أنه أثناء الإجابة عن تلك الأسئلة سوف تتولد استجابات فسيولوجية يمكن عن طريقها تحديد مدى صدق الشخص.

ـــ ومن الانتقادات التي توجه لجهاز كاشف الكذب ارتفاع تكاليف تشغيله، إذ يبلغ متوسط تكلفة إجراء الاختبار في الولايات المتحدة الأمريكية(في بداية الألفية الثالثة) أكثر من 700 دولار أمريكي، ويُعد جزءًا من صناعة تُقدّر قيمتها بملياري دولار أمريكي.

ــ وبصفة عامة جرى تقييم جهاز كاشف الكذب بوصفه جهاز لا يمكن الاعتماد على نتائج كدليل مؤكد، واعتبارها وسائل غير كافية وغير صالحة لتقييم الصدق.  لم يجد المجلس القومي للأبحاث في الولايات المتحدة أية دلائل على فعالية جهاز كشف الكذب، على الرغم من الزعم بصحة 90% من نتائج فحوصاته تقول جمعية علم النفس الأمريكية: " يتفق معظم علماء النفس على عدم وجود أي دليل يُذكر على إمكانية كشف جهاز المخطط المتعدد للأكاذيب بدقة عالية ".

ــ لكن، من الممكن للتفاعلات الفيزيولوجية التي " تميز " الكاذبين أن تظهر أيضًا عند الأشخاص الأبرياء الذين يخشون الكشف الزائف، أو عند الأبرياء الذين يبالغون بإظهار عواطفهم عند الإجابة على الأسئلة المتعلقة بارتباطهم بالجريمة. لذلك، قد يكون السبب وراء ظهور الاستجابة على شكل رد فعل فيزيولوجي مختلفًا. أوضح الفحص الإضافي لاختبار الكذب المحتمل إمكانية كون هذا الاختبار متحيزًا ضد الأشخاص الأبرياء. سيفشل أولئك الذين لا يستطيعون التفكير بكذبة متعلقة بالسؤال المطروح في الاختبار بشكل تلقائي.

 

ــ ويتضح أن كفاءة مشغلي الجهاز لها علاقة مهمة بالنتائج، وطبيعة الأسئلة التي يوجهها، وما إذا كان متحاملاً أو ودوداً مع المستوجب. في عام 1991، اعتبر ثلثا المجتمع العلمي الذين يملكون الخلفية اللازمة لإجراء الاختبارات على أجهزة كشف الكذب، بأن الجهاز هو عبارة عن علم زائففي عام 2002، أظهر تقييم أجراه المجلس الوطني للبحوث أنّه من الممكن " أن تحدّد اختبارات كشف الكذب المرتبطة بحادث معين، الصدق من الكذب بمعدلات أعلى بكثير من الصدفة، لكنها بنفس الوقت بعيدة جدًا عن الكمال ".

ــ وبصفة عامة تقر هيئا علمية عديدة، أن جهاز كاشف الكذب يفتقر كثيراً إلى درجة الصدقية الحاسمة التي توفرها طبعات الأصابع مثلاً، أو فحوصات الحمض النووي، أو الفحص التقني لسلاح الجريمة " ففي عام 2005، ذكرت الدائرة الحادية عشرة في محكمة الاستئناف بأن «جهاز كشف الكذب لم يحظ بقبول عام من المجتمع العلمي.  وهذا يوفر قداً كبيرا من الشكوك بنتائج جهاز كاشف الكذب.

 

ــ ويؤشر خبراء أن جهاز كشف الكذب يقيس الإثارة، والتي يمكن أن تتأثر بالقلق، ويقيس اضطرابات القلق (كاضطراب ما بعد الصدمة)، إضافة إلى قياس مستويات الهلع والخوف والارتباك ونقص السكر في الدم والاختلال في الوظائف العقلية والاكتئاب والحالات التي تسببها بعض المواد (كالنيكوتين والمنشطات)، وحالة انسحاب المواد (كالانسحاب الكحولي)، والعواطف الأخرى، بينما لا يقيس جهاز كشف الكذب " الأكاذيب". كما من غير الممكن للجهاز أن يميز بين القلق الناجم عن الكذب والقلق الناجم عن أي سبب آخر.

مكتب الكونغرس الأمريكي لتقييم التكنولوجيا

نشر مكتب تقييم التكنولوجيا التابع للكونغرس الأمريكي عام 1983 مراجعة لتكنولوجيا جهاز كشف الكذب، تضمنت ما يلي:

" لا يوجد في الوقت الحاضر سوى بعض الأدلة العلمية التي تثبت مشروعية فحوصات جهاز كشف الكذب. حتى عندما تظهر الأدلة على أنها تشير إلى إمكانية جهاز كشف الكذب في فضح الكاذبين بشكل أفضل من المصادفة، فإن معدلات الخطأ الكبيرة ممكنة جدًا، من الممكن للفاحص أن يدرس الاختلافات ويستخدم الإجراءات المضادة لإضفاء المزيد من المشروعية على اختبارات الجهاز "

الأكاديمية الوطنية للعلوم

في عام 2003، نشرت (NAS)، الأكاديمية الوطنية للعلوم " تقريرًا بعنوان " جهاز كشف الكذب ". وجدت الأكاديمية بأن غالبية أبحاث جهاز كشف الكذب كانت «غير موثوقة وغير علمية ومتحيزة»،

ـــ عند استخدام جهاز المخطط المتعدد كأداة فحص (في القضايا المتعلقة بالأمن القومي، بواسطة الأجهزة المختصة،)، ينخفض مستوى دقة الجهاز إلى المستوى الذي " يُعتبر غير كافٍ لتبرير استخدامه في الفحص الأمني الخاص بموظفي الوكالات الفيدرالية ". خلصت الأكاديمية الوطنية للعلوم إلى أنّه من الممكن أن يكون لجهاز كشف الكذب فائدةً محدودة، ولكن " لا أساس للتوقعات القائلة بأنه من الممكن أن تكون دقة جهاز كشف الكذب عالية للغاية". ومع ذلك، فإن الأجهزة الأمريكية خاصة، تميل بشدة لاستخدام الجهاز، واعتماد نتائجه الغير دقيقة.

عندما سئل ضابط وكالة المخابرات المركزية، ألدريش أميس، الذي أصبح فيما بعد جاسوسًا تابعًا لجهاز الاستخبارات السوفييتي (كي جي بي)، عن اختبار كشف الكذب الذي أجراه، تحدث عن النصائح البسيطة التي وجهها له مسؤوله السوفييتي مثل:  " احصل على مقدار جيد من النوم في الليل، والراحة، واسترخ خلال الاختبار. كُن ودودًا مع القائم على الاختبار، وحاول أن تبني معه علاقة، وكن متعاونًا، وحافظ على هدوئك ". بالإضافة إلى ذلك، أوضح أميس،  " لا يوجد سحر خاص لاجتياز الاختبار، جل ما عليك فعله، هو الثقة بنفسك، وبناء علاقة ودية مع المُمتحن، ابتسم واجعله يعتقد بأنك تستلطفه ".

 

المركز العربي الألماني  برلين

المراسلات :

Dr. Dergham Al Dabak : E-Mail: drdurgham@yahoo.de

 

 

هل يتجه العالم لتصفية آثار

ونتائج الحرب العالمية الثانية

ضرغام الدباغ

 

مثلت الحروب الاستعمارية نزعة هي في ظاهرها وجوهرها، وسياسة التوسع (Expansions policy) بهدف التوسع والضم والإلحاق، ونهب ثروات البلدان المستعمرة، بل وفي حالات كثيرة كان سكان وشعوب البلدان التي تتعرض للغزو الاستعماري يساقون بالسخرة كوقود لحروب وفتوحات وضحايا مجانية للحروب الاستعمارية.

وكما في معطيات الطبيعة، فكما هناك ما يطلق عليه في علم الجيولوجيا، الهزات الارتدادية (Aftershock)، كثيرا ما تقود الحروب الاستعمارية إلى حروب أخرى، ذلك أن المنتصرون في الحروب غالباً ما لا يحكمون العقل بقطف ثمار انتصارهم، فيبالغون في الاستيلاء على ما يملك المنهزم، من منقولات: ممتلكات مصانع، وأموال، يتحولون بعدها إلى تقاسم ما يمتلك من ثروات غير قابلة للنقل، أراض ومصادر ثروات طبيعية ومناطق استراتيجية، موانئ، منافذ بحرية، إطلالات استراتيجية ...الخ

وإذا كانت الثروات المنقولة والغرامات قضية يمكن أن تتجاوزها الدول بمرور الزمن، ولكن المناطق المستولى عليها (عبر اتفاقيات إرغام وإذعان) ستمثل عقدة يصعب حلها في العلاقات بين الدول، ولا سيما بعد زوال الظروف السياسية التي أدت إلى الصراع المسلح، وقيام معطيات وآفاق جديدة تستلزم العمل والتعاون السياسي/ الاقتصادي، وبالتالي العمل كفريق حيال مهمات ومستحقات حديثة، ستحول تلك العقد دون المضي  في قدما في مجالات التعاون، وستمثل عائقاً، وقد تقود إلى بؤر خلاف تحتمل التطور إلى أزمة، والأزمة قابلة للتصعيد إلى حالات ومواقف قد لا تنجح الدبلوماسية دائماً في نزع فتائلها.

في الأمم المتحدة هناك دوائر مختصة بدراسة الملفات العالقة، والتي تمثل قنابل موقوته قابلة للألتهاب والانفجار في أي وقت، ومن يقرأ هذه الملفات (وعددها ليس يسير) يلاحظ أولاً كثرة عددها، منتشرة في جميع القارات، وثانيا أنها تعود للعصور الاستعمارية والحربين العالميتين الأولى والثانية، فالمستعمرون حين أضطروا إلى مغادرة البلاد، خلفوا ورائهم مشكلات تستعصي الحلول، فيندر وجود أقليم في أوربا وآسيا (شبه القارة الهندية) وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، تخلو من هذه المشاكل، ورغم مرور عقود على بعض تلك المشاكل إلا أن الملفات الشائكة ما تزال على الطاولة يمكن تفعيلها وطرحها في أي وقت. وبعض الدول تعمد إلى إدراج تلك الملفات في جدول أعمال الأمم المتحدة لمجرد التذكير أنها لم تنسى ما فقد منها، ولا تريد التخلي عنها.

وكان الروس قد اضطروا في الحرب العالمية الأولى وبعد ثورة أكتوبر الاشتراكية الكبرى، إلى عقد معاهد صلح إذعان مع ألمانيا (معاهدة صلح بريست)، تنازلوا فيها عن أراضي واسعة ومدن، وثروات طبيعية، ولكنهم في سياق تطور الحرب العالمية الثانية، تمكنوا من أستعادتها (مقاطعة برست)، وهناك مقاطعات أخرى تنازل عنها الروس بسبب قيام الكيان السوفيتي التي أستلزم بعض التعديلات الهامة، فتنازل الروس عن أقليم القرم (شبه جزيرة القرم) لصالح كيان لم يكن موجوداً، كما وافق الروس على إنشاء (أوكرانيا). وأستولى الاتحاد السوفيتي على مقاطعة بروسيا الشرقية وعاصمتها كونيغسبيرغ وأسمتها كالنينغراد، ولكنها اليوم بعد تفكك الاتحاد السوفيتي، قادت إلى تنازل روسيا الاتحادية في ظروف إنهاء الحرب الباردة عن أستونيا، وليتوانيا، ولاتفيا، وما فقد بالأمس يمكن الحديث عنه لاحقاً في وضع مسارات أوربية جديدة.في خضم توتر دولي، مسألة إعادة النظر في تلك التعديلات.

الأراضي الألماني التي انتزعت من كيان الرايخ ألالماني، في الحربين العالميتين الأولى والثانية  وهي كثيرة وفي جميع الاتجاهات وخاصة في بولونيا، حيث فقدت جزءاً مهما في الحرب العالمية الأولى، ثم في الحرب العالمية الثانية، فأنحسرت الحدود الألمانية إلى ما بعد نهري الأودر والنايسة. والكوريدور (الممر)، لصالح دولة بولونيا بما في ذلك مدينتان كبيرتان (بوزنان في الحرب الأولى، ومدينة / ميناء دانزنغ وستيتين في الحرب الثانية). كما خسرت المانيا في الحرب الأولى مدينة كبيرة (ستراسبورغ) لصالح فرنسا.

ومسألة أخرى تطرح نفسها بوصفها ملفا ساخناً، هي جزر بحر إيجة المتنازع عليها بين تركيا واليونان، وهي خرائط تقسيم تحمل في ثناياها فتائل أشتعال وتفجير الموقف، لأفتقاره لأسس ترسيم الحدود البحرية، فبعض الجزر اليونانية لا تبعد سوى بضع مئات من الأمتار عن البر التركي. بما يعيق سيادة البلاد على مساحات في مرمى البصر، ناهيك على المجال الاقتصادي البحري، مما ينذر بمشكلات حادة.  فهي خرائط لا تعني سوى الإمعان في إلحاق الأذى والضرر بالدول المنهزمة. واتفاقيات بحر إيجة لا يمكن أعتبارها إلا بوصفها قنابل موقوته.

وقد كان لتفكيك الاتحاد السوفيتي، على نحو ما جرى، يحمل في ثناياه ما يدور اليوم من انفجار الموقف في أوكرانيا، بما لا يستبعد أن يتحول الصراع إلى مديات أوسع في القارة، بدرجة اختلال ميزان القوى السكاني والاقتصادية. وكان لتصريحات وزير الخارجية البولونية التي عبر فيها عن مخاوفه وهواجسه، وأخرى لمسؤولين في دول البلطيق التي ضمت لحلف الناتو والاحاد الأوربي، دون حساب عناصر الموقف أو تفكير عميق سوى " تشكيل سداً / حاجزا قويا بمواجهة روسيا " وتطويقها بكيانات صغيرة _(لتلعب دور دول وسادة " Buffer Staet ") تمنعها من التفكير في المجال الحيوي المتاخم لها "لروسيا ".

وهذه الترتيبات تعني في رؤية واقعية، أنها خاضعة للتغير حال تغيير حدوث جوهري في إحدى عناصر ميزان (الوضع الجيوبولبتيكي/ الديمغرافي، الاقتصادي، القدرات العسكرية)، ولا سيما بعد حروب طاحنة، وعالمية النكهة، فمن الواضح أن حجم التدخل الغربي إن عبر منظمة الناتو، أو الاتحاد الأوربي في الصراع الروسي / الأوكراني، كان ينطوي على بعض هذه التغيرات أو كلها ....! وفي النهاية ليس هناك ما يطمئن كافة الاطراف غير قيام علاقات قائمة على الاحترام المتبادل لهواجس الأمن، والمصالح المتبادلة، وسلم يعم المنطقة والعالم.

ـــ أتفاقات وتفاهمات اقتصادية وثقافية هي ستحل بدل سياسة الاحلاف وسباق التسلح.

ـــ إبداء التفهم والاحترام للآخرين كي تحملهم على أحترامك.

ــ أحترام سيادة، وتقاليد، وثقافة الآخرين، بدل من فرض سياسة الشذوذ على أنها رقي وتحضر ...!

ـــ فرض التوسع وقضم الأراضي والاستيطان، وأتهام من يخالفها بالارهاب.

ـــ فليعالج كل أزماته، ولا يحاول تصدير أزماته.

ومن الملفت للنظر، أن الصراعات المسلحة في العصور الحديثة أصبحت مكلفة اقتصاديا وبشرياً بعد التقدم الكبير في الصناعات الحربية، وحتى في أنواع أسلحة الدمار الشامل الكفيلة بإبادة الحياة على سطح الكوكب الأرضي. وهي معطيات تدل على تعاظم الحاجة إلى نظام دولي جديد، خال من الاستقطابات، وإبادة أسلحة الدمار الشامل، وأحترام لقواعد القانون الدولي، وفض النزاعات بالوسائل الدبلوماسية.

 

 

 

لوحة الرسام البرتغالي فاسكو غار غالو

 

الفن يدين العنصرية

 

ضرغام الدباغ

 

 

فاسكو غارغالو هو رسام كاريكاتير برتغالي، ولد في عام 1977 في فيلا فرانكا دي زيرا، وهي بلدة هادئة في البرتغال. هورسام كاريكاتير ورسام صحفي مستقل ، ينشر أعماله في العديد من وسائل الإعلام الوطنية والدولية - يمكن رؤية بعض من أفضل الرسوم التوضيحية له في الصحف والمجلات مثل " مجلة Sábado"، "الجريدة الأول"، وفي الصحافة اليومية البرتغالية والدولية . وهو متعاون منتظم مع حركة الكرتون وشارك في العديد من المعارض والمهرجانات في جميع أنحاء البرتغال.

 

شارك في مسابقات الرسوم المتحركة الأوروبية الكبرى. وتلقى غارغالو في عام 2016، أربع تنويهات مشرفة:

ــ جائزة الأمم المتحدة / رانان لوري للكاريكاتير السياسي لعام 2016.

ــ مهرجان الرسوم المتحركة الأول في الكويت 2016.

ــ الطبعة 9 من د. Quichotte الدولية للكارتون المسابقة / Quo Vadis أوروبا / رحلة الأمل.

ــ "مهرجان العالم 18 بورتوكارتون".

ــ في عام 2014، حصل على جائزة خاصة في مسابقة "بينالي دي فكاهة لويس دي أوليفيرا غيماريش". ــ في عام 2009، فاز بجائزة ستيوارت، في فئة "صحافة الرسوم المتحركة".

ــ في عام 2005، فاز بجائزة الشباب التوضيح، في "القاعة الوطنية الصحافة الفكاهة" وحصل على تنويه مشرف في قاعة الكاريكاتير البرتغالية- الجاليسية". "الرسم من أجل حرية التعبير هو هدفه الأسمى!"

رغم أن اخطبوط الصهيونية يمتد إلى كل زوايا الأرض، فيشتري ضمائر بعض الناس، ويرهب بعضاً آخر، ويسن قوانين في بلدان أخرى يحمي بها الانحطاط الخلقي لهم، إلا أننا نشاهد بين فترة وأخرى، أعمالاً فنية رائعة تدين العنصرية وتشجب العدوان، وتقف إلى جانب المظلومين.

 

رسم للفنان البرتغالي فاسكو غارغالو (Vasco Gargalo) نشره في مجلة  سابادو (Sabado) الأسبوعية البرتغالية بعنوان :  المحرقةً وقد اثار حفيظة الصهاينة وغضبهم،  فشنوا على صاحبه حملة شعواء وطالبوا رئيس الصحيفة بطرده  ويمثل الرسم صورة نتنياهو وهو  يزج بتابوت يمثل الشعب الفلسطيني في أتون فرن وكأنه يقول للصهاينة اذا كنتم تعرضتم لمحرقة على أيدي النازيين فانكم ترتكبون مثلها او أسوء منها بحق الشعب الفلسطيني.

 

وفي عمله الفني هذا  أكد هذا الفنان التقدمي مرة أخرى بضميره الحي وإحساسه الإنساني المرهف في التعبير عن مآسي هذا الشعب الفلسطيني المناضل التي حلت به على يد ابشع احتلال عرفه التاريخ. ولهذا الفنان أعمال أخرى يقف بها إلى جانب الشعوب المناضلة، وقضايا التحرر .

 

ومؤشر آخر يشير إليه الفنان البرتغالي بذكاء يتمثل بالجملة الشهيرة "Arbeit macht Frei "  العمل يصنع الحرية ، تلك الجملة التي كانت تتصدر مداخل معسكرات الإبادة النازية، وتذكر اليوم بالمحرقة التي يشهر شعار مظلوميتها الصهاينة الذين تعرضوا للظلم على أيدي النازيين، ولكنهم في الواقع تعرضوا للاضطهاد في معظم الدول الأوربية، ولم يكن العرب يوماً من بين من اضطهدوهم، ونرى اليوم الصهاينة يمارسون الهولوكوست والمحرقة بحق العرب الفلسطينيين، وهذه اللوحة الفنية الرائعة، تدين المجرم العنصري، وتقف إلى جانب المظلوم.

 

تحية  للفنان التقدمي البرتغالي فاسكو غارغالو.

 

 

المركز العربي الألماني

برلين

 

المراسلات :

Dr. Dergham Al Dabak : E-Mail: drdurgham@yahoo.de

الليبرالية والديمقراطية

وحقوق الانسان

ضرغام الدباغ

استلمت مقالاً بعنوان (الديمقراطية والليبرالية هي الحل)، مع تعقيبات ممتازة لعدد من الكتاب، والمقال أرسل لي للمطالعة وإبداء الرأي، وتمكنت على عجل من توفير المعطيات التالية ولكل منها دلالاتها :

أن المقال على أهمية عنوانه ومادته لم يأخذ سوى 17 سطراً، أي أقل من نصف صفحة.

أستهلك بالتحديد 112 كلمة ..! 88 كلمة لمتن المقال .

المقال لم يستغرق سوى 4 جمل ...!

لم تتطلب الاستنتاجات سوى سطرين ونصف، (24 كلمة) ...!

جاء المقال هكذا بأقتضاب شديد في متنه، وصرامة في أفكاره واستنتاجاته، أقرب منه إلى قرار  حاسم فالبيان أو الإعلان يشبه في متنه واستنتاجه البراءات التي كانت تصدر خلال الستينات، غير الصيغة المفترضة للمقالات ذات الطابع الفكري، فإذا به (المقال) يشطب بسهولة على أفكار كثيرة هكذا وضع الجميع " الاستبداد العسكري والاستبداد الديني والانظمة الشمولية الستالينية ورأسمالية الدولة  ". في سلة واحدة وصفها بالفاشلة، مقابل الليبرالية التي هي الحل الأوحد. وكأنه قرار أتخذ من حاكم عسكري في دولة محتلة ..!

وهنا نود أن نؤكد، أن النظم السياسية في البلدان النامية، مرت وستمر في المستقبل بحالات وأنماط أنظمة، فليس هناك أمر نهائي، لا في اقطارنا ولا في دول أخرى، فكل المعطيات خاضعة للتطور، ولا يوجد نظام سياس على وجه الأرض غير خاضع للتطور، بوصفه صنع من الفولاذ، كما لا يمكن مقارنة نظام بآخر، وليس من الضرورة أن تتشابه الأنظمة، فهي نتاج موقف اجتماعي / اقتصادي/ ثقافي متفاوت، ويمثل أي نظام إجمالي تبلوراً له تعبيراته للموقف العام وحجم المنجزات ومحصلة للتجارب التاريخية في هذا البلد أو ذاك. ولذلك ليس من الضرورة لأي نظام سياسي أن يشبه أو أن يقارن بالنظم السياسية في بلدان أخرى.  البلدان. والبلدان النامية حرمت من التطور التدريجي في ظل أجواء استقرار وغالبا بسبب تدخل الدول "الليبرالية" أو أنها تعرضت لمخططات الإعاقة والتقويض، وأعتقد أن العراق وليبيا والسودان وسوريا واليمن، وأن مصر تعرضت وتتعرض اليوم دونما توقف لتدخل خارجي يستهدف وحدتها وأسس الدولة. ومصر بوصفها دولة قديمة استطاعت أن تنجو مما يدبر لها، وكذلك الجزائر، بل وتمكنت مصر والجزائر من تحقيق منجزات كبيرة نقلتها إلى مواقع متقدمة (مصر والسعودية من بين دول العشرين) والجزائر في موقع مقارب.

 

من خلال تجربتي بالعمل السياسي والبحث العلمي منذ مدة تتجاوز الستون عاماً، وإقامة تبلغ حوالي النصف قرن في بلد أوربي (ألمانيا)، نتعرف بسهولة على معوقات التنمية في أقطارنا، وهي معوقات يحرص الغرب الليبرالي بشتى الأساليب أن لا نتجاوزها وصولاً إلى العدوان المسلح، وهناك تجارب عربية عديدة أجهضت بسبب التدخل  الليبرالي الأجنبي: نهضة محمد علي الكبير والناصرية في مصر، والعراق في عهد الحكم الوطني. ورغم وجود أخطاء خلال التجارب، لم يكن هناك سبب مقنع لتدمير هذه البلدان سوى أنها قاربت بلوغ الخط الأحمر الممنوع تجاوزه. وهذا أمر توصلنا لمعرفته كما يعرفه الأوربيون بدقة تامة .

 

واليوم تواجه التجربة الجزائرية، والسعودية، والمصرية والتركية (يرجى ملاحظة تفاوت كنهة التجارب) في إحراز درجة التقدم الحاسم، وهي تسير بتؤدة كالسائر في حقل ألغام شديدة الانفجار، لماذا  ...؟ ببساطة من غير الجائز أن تتجاوز هذه الدول مرحلة يعتبرها الغرب الليبرالي " تهدد نفوذنا ومصالحنا  وسيصعب السيطرة عليها ..! " وقد تسنى لي قراءة المطالب الأمريكية من القيادة التركية (قبل الانتخابات الأخيرة بدقة تامة، عليها) ومن يقرأها لا يكاد يصدق أن تطلبها جهة تحترم ذكاء وكرامة جهة أخرى ..!(أبسطها.. يمنع التنقيب عن النفط والغاز في أراضيكم الوطنية) ومن يتذكر فقرات الحصار على العراق بوسعه أن يتعرف على صفاقة  الليبراليين ولا سيما في نسختها الجديدة في الولايات المتحدة. الأمم المتحدة تذكر في تقاريرها أن العراق كان على وشك مغادرة قائمة البلدان النامية، والآن نشاهد ما فعلت الليبرالية ببلادنا، فشكراً لسنا بحاجة لأدلة جديدة ..!

 

الدول القومية لم تكن فاشلة، الجزائر أستقلت عام 1961 وتعتبر اليوم قاطرة التنمية في أفريقيا، والعاصمة العراقية بغداد، لم تكن تتوفر يوم استقلالها على خدمات الماء والكهرباء، والرعاية الطبية،  وهناك عواصم كانت حتى السبعينات تقترب من كونها قرية كبيرة، اليوم تحفل بالجامعات، ومحطات التلفزة، والمستشفيات، والخدمات الأساسية، رغم صعوبة ظروف التنمية وعراقيلها. وإن حدث خلل ما فذلك بسبب أن أقطارنا تخوض تجربة فريدة من نوعها، وهي الفاقدة لاستقلالها مدة تزيد عن 8 قرون، تعرضنا فيها لشتى صنوف القمع من سلب ونهب وقتل وتصفيات، وإعاقة التنمية بأساليب إجرامية منها اختطاف العلماء وقتلهم ، ووضع العراقيل، ولم تتنسم عبير الحرية إلى بعد أن تركت الاحلاف الاستعمارية والمعاهدات الجاهرة (في خمسينات القرن المنصرم))، وتحررت الثروات الوطنية، وفي غمرة مساعيها، أسسوا كياناً عدوانيا تعسفيا في قلب الأمة، كيان معتدٍ توسعي استيطاني. ليمثل مشكلة لا حل لها تستهلك الجزء الأعظم من موازنات دول المواجهة ودول الدعم.

 

قرأت تقارير السفارة البريطانية في بغداد (10 / تموز / 1958 ــ 10 / تموز / 1959) فذهلت لحجم الكراهية والحقد وقلة الاحترام للشعب العراقي، وهم كانوا يستفيدون من العراق ويحلبوه، وينهبوه .. ونحن لم نؤذهم، ولم نلحق الضرر مصالحهم الوطنية، ولكننا لا نجد كلمة إنصاف واحدة في الكتاب ... وعلى الأغلب كافة الدول الليبرالية كذلك لماذا ...؟  والذين يدعون الليبرالية لا يطيقون من لا يأكل مثلما يأكلون، ولا يطيقون من لا يرتدي ثيابهم، ولا يتعاطى مع النساء كما يفعلون هم، والدعارة عندهم صناعة كاملة، أما من يخالف أنماط تفكيرهم فهو متخلف، وإرهابي، وغير متحضر ...فأين الديمقراطية في كل هذه ؟ أين حقوق الإنسان ..؟ الغرب يريد فرض أنماط حياته السياسية والاقتصادية، والثقافية والجنسية وحتى المزاجية التي أستغرق تطورها عقوداً طويلة على أمم العالم فرضاً، وهم يشاهدون تلاشي مجتمعاتهم، فليس سوى اعتمادهم البوليس والقضاء في إطالة أمد الليبرالية الساقطة.

 

أما في ميدان السياسة الخارجية والعلاقات الدولية، انتهجت الليبرالية الغربية سياسات منها  العلاقات اللامتكافئة سياسيا واقتصادياً وثقافيا،  حتى صارت سياسة فرض والحصار والتجويع (وفي مرحلة القطبية الأحادية بالغت الليبراليون الجدد في أميركا استخدام القوة المسلحة، وسياسة الحصار، والعقوبات الاقتصادية في نظام العلاقات الدولية، جسدها الإعلان الأمريكي الصريح، " من ليس معنا فهو ضدنا "، والعمل صراحة على سياسة الرشوة والابتزاز والتهديد.

 

وتكشف مفردات النزاع في أوكرانيا، المزيد من جوهر الليبرالية الغربية. ويرى بعض المفكرين الغربيين أن الحرب الأوكرانية سرعت من انحدار الليبرالية، والحضارة الغربية نفسها إلى الحضيض،  وأشارت على نحو واضح ثقل التناقضات التي تعم المعسكر الغربي، والمشكلات الكامنة، واستحالة استقرار النظام العالمي بالقطبية الواحدة، مما يشير إلى أهمية نعدد الأقطاب العالمية كمدخل لعلاقات دولية أكثر عدلاً، فالعالم يرفض أن يضع مقدراته بإدارة ليبراليون جدد فاشيون يفرضون سياسة الأمر الواقع يديرون العالم  لمصالح شركاتهم واحتكاراتهم. ويرى جمهرة من الفلاسفة وعلماء السياسة (ومنهم في الولايات المتحدة) ان الليبرالية وتعبيراتها السياسية والثقافية هي في طور التدهور والانحدار " لأنها فقدت المصداقية في الداخل الأمريكي / الغربي والخارج، وإن المتغيرات السياسية والاقتصادية والثقافية في الغرب وفي العالم أفقدت الليبرالية صلاحيتها ولم تعد تستجيب لتطلعات شعوب الغرب نفسها "، وأن الليبرالية في نسختها المتطورة لا تعني أكثر من وضع اللجام في عنق شعوب العالم، في ظل أزدراء تام للعدالة الدولية والعلاقات المتكافئة التي هي أساس القوانين ومن شروط التعاون الدولي. وكانت افتتاحية عصر الليبرالية والقطبية الأحادية، تتمثل بغزو أفغانستان، ثم العراق بعدوان همجي مخالف للقانون الدولي، رفضه حتى البلدان الأوربية الكبيرة (فرنسا ألمانيا إضافة لروسيا والصين)، ثم تدخل مسلح في ليبيا، ولكن الليبرالية الحديثة تعتبر العراق والكيان الصهيوني اللاهوتيان، نظامان ديمقراطيان وحيدان في الشرق الأوسط، مع وجود 157 قانون عنصري في الكيان الصهيوني ونظام عراقي يقيم نظاما قائم دستورياً على الفصل العنصري والطائفي. وكلا النظامان يستخدمان العنف المسلح  وبإفراط برعاية الليبرالية والاستخدام المنتهك لشعارات حقوق الإنسان.

الليبرالية الحديثة تعطي الأولوية للحرية الفردية غير المحدودة، والهدف هو الحيلولة دون قيام اتفاقات جماعية، ضرب من الحرية الفردية يغطس الإنسان في جملة هموم وهواجس، تضعه في موقع بعيد عن المسؤولية الاجتماعية، ومع  غياب الحدود الاخلاقية الجمعية (كل فرد هو كينونة بمفرده)، انهارت منظومة القيم وتمزق نسيج المجتمعات الغربية، وكان أبرز مظاهر ذلك تفكك الأسرة في الغرب وانتشار الشذوذ الجنسي وما نتج عن ذلك من تداعيات ديموغرافية، وتشير الاحصائيات الى أن العنصر الأبيض في الولايات المتحدة ستقل نسبته عن 50% من عدد السكان خلال السنين القادمة أي أن البيض سيتحولون إلى أقلّية، ونفس المصير ينتظرهم في أوروبا خلال العقود القادمة، بل أن بعض المفكرين الغربيين منذ شبنغلر 1936، تنبأوا بموت الغرب ويقولون إن "المرض داخلي  كامن وخطير ويتعاظم وهو من صنع أيدينا وأفكارنا وليس بسبب خارجي".

 

وبضرب من فجور منطق، تؤل الليبرالية، جرائمها، فالغرب أجاز استعمار العالم وتجارة العبيد، وتجارة الحشيش، باسم الليبرالية تغوّلت الرأسمالية وزاد الأغنياء غنىً والفقراء فقراً ومورس التمييز العنصري ضد السود والمهاجرين من غير "ذوي العيون الزرقاء"، وباسمها أعيقت التنمية في بلدان العالم الثالث وفرضت عليها شروط مالية مجحفة من خلال المؤسسات المالية الدولية. ويقر  أغلب المفكرين المنصفين الغربيين اليوم بحقيقة أن تاريخ الغرب الحديث مليء بالعنف المفرط والنفاق والمعايير المزدوجة، وإن النخب في الغرب استخدمت الليبرالية غطاء لهيمنتها، وأن مبادئ الثورة الأميركية (جميع البشر خلقوا متساوين، وحقوقهم غير قابلة للتصرف) ومبادئ الثورة الفرنسية (الحرية والاخاء والمساواة) لم تكن سوى شعارات براقة خادعة. ويخلص بعضهم الى القول إن "الليبرالية لم تكن إنسانية يوما، ولن تكون عالمية، وهي ليست حتماً تاريخية .

 

كما أن الليبرالية الاقتصادية المتمثلة بالرأسمالية الاحتكارية أهتمت بتوفير مستلزمات تراكم الأرباح، دون معطيات ومستلزمات  أجواء السلام والتنمية، بل كانت ولا زالت تؤجج الصراعات والحروب بين الليبراليين أنفسهم وبين بلدانهم والشعوب الأخرى. فتاريخ أوروبا منذ عصر النهضة هو عبارة عن حروب متواصلة، الحربان العالميتان الأولى والثانية وحرب كوريا، ثم الفيثنام، وأفغانستان، والعراق، ويوغسلافيا، وعدد من حروب الوكالة من بينها الحروب الإسرائيلية، وآخرها، وأخيراً، الحرب اوكرانية. وبأسم الليبرالية جرى إطلاق النزاعات والحروب العدوانية ويدل على ذلك حروبهم الأوربية وخارج القارة.. كما أن هذه الرأسمالية المحاربة لم تشجّع السلم الاجتماعي داخل الدول، بل أوجدت طبقات متصارعة، والمجتمعات الليبرالية التي تسود فيها نزعات العنف والقتل العشوائي حتى بين تلاميذ المدارس.

 

والليبرالية السياسية المتمثلة بالديمقراطية الغربية تعاني من منظومتين من المتناقضات: الداخلية  وتتمثل بتغليب إرادة النخبة على الإرادة الشعبية، فارتباط الديمقراطية الليبرالية بالرأسمالية وجماعات المصالح والبنوك وشركات صنع السلاح وأباطرة الإعلام جعلت من النظام الليبرالي الديمقراطي خاضع لمصالحهم ولذا تحولت أغلب الديمقراطيات الليبرالية في الغرب إلى نظم شبه ديمقراطية أو  حتى إلى نظم حكم الأقلية (أوليغاركية)، واللجوء إلى الكذب والتدليس وتزوير الحقائق وخداع الجمهور كما حدث في حرب العراق،  فضلاً عن تفاعلات داخلية عنيفة، تمثلت بالانتخابات الرئاسية الأخيرة، تحوم حولها شكوك التزوير، ولذا فإن هذه الديمقراطيات الغربية تشهد حالياً أزمة حقيقية تهدّد استقرار نظمها السياسية. وتمثّلت أهم مظاهر هذه الأزمة في نمو الروح القومية والاعتزاز بالهويات المحلية، تشتد النزعات الانفصالية مي الكثير من الدول الرأسمالية كبريطانيا، واسبانيا، وفرنسا، وبلجيكا ، كندا وفي الولايات المتحدة تشتد النزعات العرقية: بيض ولاتين وسود وأمريكان اصليين (هنود حمر) وآسيويين، إضافة الى الاستقطاب الطبقي والاستقطاب الديني.

 

أما الأزمة الخارجية للديمقراطية الغربية فتتمثل في نفاقها الفضوح، فهي تدعو الى احترام حقوق الانسان مجرداً من أي اعتبار خاص بالجنس أو بالعرق أو بالدين أو الطبقة، لكنها في الواقع التطبيقي تنتهك حقوق الشعوب (من تجارة العبيد الى أبو غريب وغوانتانامو السجون السرية مرورا بإبادة الهنود الحمر وحروب الإبادة (فيثنام /أفغانستان/ العراق) وتستخدم التهديد والتعسف لفرض قيمها على العالم وعلى الاتفاقيات الدولية والقانون الدولي، واستطاع الغرب فعلاً تمرير الكثير من المفاهيم الثقافية والاجتماعية اللّيبرالية في الوثائق الدولية مثل اتفاقيات حقوق الانسان والوثيقة الخاصة بالمرأة، واتفاقية حقوق الطفل وهي اتفاقيات تعارضها الغالبية من دول العالم بما في ذلك بلداناً أوربية..

 

الدول الغربية الليبرالية تسكنها هواجس، فهي تحصد نتائج رفض العالم لها، وتدهور الغرب هو نتيجة منطقية لفشل مشروعه الحضاري، والنظام العولمي ما هو إلا تطوير فاشل للرأسمال الاحتكاري، في محاولة فرضه عالمياً، ما هو إلا امتداد للاستعمار والامبريالية، فمحاولة شرعنة الأباحية والشذوذ، هو نقل رسمي لأمراض مجتمعاتهم المتفسخة، وتسويقها تحت لافتة حقوق الإنسان.   الحضارة الغربية، بكل الإنجازات العلمية والتكنولوجية والصناعية التي حققتها، تسير الآن نحو الانحسار، وأخذت تفقد تدريجيا مقوِّمات حيويتها ونشاطها وقدرتها على المنافسة والإبداع اللازم لاستمرارها، ولا تعترف النخب الليبرالية الغربية بغير إنجازاتها،. فهذه الصين نجحت نجاحاً منقطع النظير باعتمادها استراتيجية نابعة من تاريخها وظروفها، واعتمدت (اقتصاد السوق الاشتراكي) لتنمية اقتصادها و (نظام التشاور السياسي لتعاون مختلف الأحزاب تحت قيادة الحزب الشيوعي الصيني) لإدارة شؤونها السياسية.

 

وما تحقق في الصين يتكرر، وأن نماذج أخرى يمكن أن تنشأ في أرجاء أخرى من العالم ، على وشك أن تفرز نظاماً جديداً، ومراكز جديدة في الهند / ماليزيا والمنطقة العربية (السعودية / مصر / الجزائر، جنوب أفريقيا، البرازيل / الارجنتين، تنهض بدرجة أو بأخرى، في بلدان كثيرة خارج المجموعة الغربية كالهند وماليزيا وجنوب افريقيا والبرازيل والارجنتين. المنظوية في إطار (منظمة بريكس)

 وإن (المطالبة الدولية الواسعة النطاق تؤكد أن النظام الغربي ليس المثال الذي يحتذى به لدى شعوب العالم، ومن هنا التأكيد على عالم متعدد الأقطاب، وتعبير عن حيوية الحضارة الإنسانية وتعدد مناخاتها، وألوانها، تنبأنا أن النظام العالمي القديم يحتضر مهما برعوا في إنقاذه,

 

كبلدان نامية، وكأقطار عربية مدعون لتقييم المتغيرات المتسارعة في الساحة الدولية ويدعونا تداعي النظام الدولي الأحادي القطبية،  وأسسه الفكرية والسياسية، اعتماداً على عمقنا التاريخي وثرائنا الفكري وثقافتنا ومميزاتنا الجيوسياسية وقدرات علماؤنا، والطاقة الكامنة لأبناء شعبنا التي تجعل دورنا أساسيا في فترات التغيير الحاسمة لتشكيل نظام عالمي جديد، ومشاركة بقية الشعوب في انتاج البديل الحضاري الذي ينقذ البشرية مما آلت اليه أوضاع العالم في ظل وصاية وهيمنة الليبرالية الغربية. ولشدة غباء الليبراليون أنهم يعتقدون أن بوسعهم حمل جميع شعوب العالم في موقع الدونية الغاطسون فيه .

 

مؤسف أن نجد من بيننا من يميل لهم، و لأرائهم،  وأبقاؤنا في موقف التبعية بما في ذلك رؤيتهم لوضع المرأة ووصولاً للشذوذ الجنسي والعلاقات المثلية، والموقف من الأطفال ..هذه هي الليبرالية والتحرر، الدول الليبرالية والديمقراطية، هي من أنتج الاستعمار والإمبريالية والفاشية والنازية، والعولمة، كمعول هدم وإفقار ونهب حقيقي. ولا يصمد أمام إرادتهم الاستعمارية سوى أن تكون الدول قوية ومسلحة حتى الأسنان،  أو الصمود بلا هوادة، حتى يرغموهم على الفرار كما فعلوا في كوريا وفيثنام وأفغانستان، وجنوب أفريقيا وزمبابوي (روديسيا)، وصمود كوبا، وفنزويلا ..وغيرهم من الشعب ... شعوب هي ضحايا الليبرالية والديمقراطية وحقوق الإنسان ...!

 

الفاشية والنازية وصلت للحكم بالانتخابات، وكذلك شخصيات تافهة في قيادات ما يسمى بالليبرالية، إذا كان الأوربيون يضيقون ذرعاً بجور الولايات المتحدة ونظامها العولمي سراً وعلناً، وهم حلفاؤها وشركاؤها،  فماذا نقول نحن في البلدان النامية  ...؟ المبتلون بأطماعهم وجرائمهم ..؟ ترى هل علينا أن نهتف بسذاجة " فلتحيا الليبرالية " " هكذا حقوق الإنسان وإلا فلا ..! " السيدة أولبرايت تقول " فليمت نصف مليون طفل عراقي ... الأمر يستحق "، والوزير بيكر يتوعدنا (ونفذ وعده) أن يعيدنا للقرون الحجرية ..! هناك عشرات من العراقيين كتبوا رسالة لبوش يشجعونه على احتلال بلادهم ... معظمهم نادمون على ما فعلوا، عار لن يستطيعوا الدفاع عنه ... وهناك اليوم من يجد التبرير لما فعله الليبراليون في بلادنا ...

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ـــ   الدول المؤسسة لمنظمة بريكس

الصين، روسيا، الهند، جنوب أفريقيا، البرازيل

 

ـــ دول قدمت طلبا رسميا للانظمام :

الجزائر، الارجنتين، إيران، مصر، اندونيسبا، السعودية، سورية، تونس،

 

ـــ دول تجري حوارات للانظمام :

كازاخستان، نيكاراغوا، نيجريا، السنغال، تايلاند، الأمارات العربية المتحدة

 

 ملامح أساسية للعلاقات

 الدولية المعاصرة في ظل

 النظام الدولي الجديد

 

د. ضرغام الدباغ

 

بعد مسيرة حافلة بالتوتر خلال الحرب البارد بكل فصولها، توجت بعقد قمة في 3 و 4 ديسمبر 1989 على متن بارجة سوفيتية ترسو في مياه مالطا في البحر الأبيض المتوسط بين الرئيس السوفيتي والأمريكي جورج بوش، رسمت نهاية المعسكر الاشتراكي، من جهة، وانتهت من جهة أخرى حقبة مهمة من تاريخ العلاقات الدولية بأختتام مرحلة القطبية الثنائية لتبدأ مرحلة جديدة بهيمنة البلدان الرأسمالية بقيادة الولايات المتحدة كقطبية أحادية أطلق عليها (النظام الدولي الجديد) ثم أتخذ النظام تسميته الأشهر (العولمة).

من الثابت علمياً، أن التوسع والهيمنة يحكم طبيعة الرأسمالية، وقد تسعى الأقطاب الرأسمالية إلى تنسيق فعالياتها كي لا تصطدم ببعضها وتجنب ما قد ينجم عن هذا الاصطدام من آثار مروعة، وقد تعقد تحالفات وائتلافات، وقد تتفق فيما بينها على هذا الأمر أو ذاك مرحلة معينة، وتعقد المؤتمرات والاتفاقيات وتتقاسم فيما بينها(المصالح)، ولكن هذه الترتيبات ليست نهائية، وعندما يصل التنافس ذروة معينة، آنذاك سوف تسعى الأطراف المتنافسة تقاسم جديد، فتنهض تحالفات جديدة، وتدور صراعات تحمل بذور تطورها إلى صراع مسلح، حين يبلغ التناقض نقطة لن يكون بوسع نظام العلاقات السائد استيعابه، ويبلغ التناقض في المصالح درجة لا يمكن السكوت عنها، يتطور ذلك الصراع إلى درجته المسلحة بصرف النظر عن الخسائر، ومثل هذا التنافس يدور اليوم بشتى الصور، ظاهراً كان أم خفياً.

 

في هذه المقدمة المختصرة، مدخل لاستعراض المرتكزات والشروط الأساسية من أجل فهم دقيق للعولمة المؤشرات السياسية والاقتصادية، من خلال:

 

أولاً : إن العولمة هي مرحلة من المراحل التاريخية لتطور الرأسمالية، بل هي أكثرها تطوراً، إن اتحاد الدولة مع الشركات، الذي أنتج الدول الإمبريالية. مثل عبر تطوره اللاحق إلى العولمة تعبيراً لتطور هائل الذي بلغ مرحلة متقدمة في تطوره، عابر للحدود الدولية ليشمل العالم بأسره.

 

ثانياً : إن فعاليات الشركات المتعددة الجنسية قد تشابكت وتداخلت لتصبح من سمات الحياة الاقتصادية اليومية لمعظم شعوب العالم، وكذلك كثافة حركة رأس المال على الصعيد العالمي عبر شبكة هائلة من البنوك تغطي العالم .

 

ثالثاً : إن الموقف الاجتماعي الداخلي(بسبب شدة تمركز رأس المال المصرفي لارتفاع كلفة المشاريع، وارتفاع معدلات التضخم) أدى إلى وقوع الدولة وأجهزتها في قبضة الاحتكارات والبنوك ونفوذها وهيمنتها وغدت الدولة مسخرة بصفة مطلقة لخدمة هذه الشركات العملاقة وليس أدل على ذلك من أن الولايات المتحدة ومثلها الدول الرأسمالية الرئيسية وعلى الرغم من ثرائها الكبير، لا تعمل بمجانية العلاج حتى للفئات المسحوقة، بل أن تكاليف التأمين الطبي باهظة بحيث يعجز عن دفع نفقاتها فهناك،37 مليون أمريكي عاجز عن دفع نفقات التأمين الطبي عام 1990 وأن 20% من أصحاب الثروات يستحوذون على 90% من صافي الدخل القومي.

وفي مطلع الثمانينات بلغت شدة درجة تمركز رأس المال في الولايات المتحدة، لدرجة سيطرة ثمانية مؤسسات مالية كبرى هي: مورجان، روكفلر، ديبوت، ملبون، بنك أوف أميركا، بنك شيكاغو، بنك كليفلاند، بنك فرست ناشنال سيتي، بلغ رأسمالها المستثمر في السبعينات 218 مليار دولار.

 

رابعاً : أما على الصعيد الخارجي، ولأن اشتداد دولنة الاقتصاد(أي المزيد من جعله دولياً) جعل من ذلك العنصر الأساسي، السمة الأساسية للمرحلة وعنصراً مهماً في أقامة التحالفات الخارجية للدولة(الولايات المتحدة) التي تولت قيادة الإمبريالية الجديدة(العولمة) بفضل انفرادها بالهيمنة على العالم.

 

خامساً : مثل التنافس بين الأقطاب الرأسمالية عبر التاريخ وما يزال، فقرة أساسية في العلاقات بين الدول الرأسمالية وليس ظاهرة عابرة. وكثيراً ما وصل إلى ذروته(الصراع المسلح) وقد حدث ذلك في مراحل التاريخ دائماً (14,000 حرب ونزاع مسلح)، أن التنافس والصراع على مراكز النفوذ واقتسام العالم كان السبب الرئيسي في هذه الصراعات، وسوف يستمر هذا العنصر ملازماً للرأسمالية في كافة مراحلها. وربما تقلص أسلحة الدمار الشامل عدد الحروب وأتساعها ولكنها لن تمنع اندلاعها بأي صورة من الصور، ومن تلك ما تسمى الحروب بالنيابة (proxy war).

 

وتتميز العولمة بوصفها الناتج الطبيعي لتطور الرأسمالية لما بعد مرحلة الاستعمار الجديد ـ الإمبريالية، بسمات وملامح في هياكلها السياسية والاقتصادية، كما في توجهاتها على الصعيد العالمي ومن تلك:

 

أ / باعتبار أن عملية تمركز رأس المال المصرفي ماضية ومتواصلة لتكون في يد فئة قليلة من كبار الرأسماليين(مصارف، مؤسسات تمويل واستثمار) ترافق مع تعاظم نفوذها، الذي أنعكس بداهة على تأثيرها السياسي داخلياً وخارجياً. كما غدت القوة الأولى المهيمنة في البلدان الصناعية الرئيسية، فهي ليست المغذية الأولى للصادرات إلى الخارج الاستهلاك الداخلي فحسب، بل وتعدى حدودها إلى احتكارها لصناعة السلاح وأنشطة الفضاء الخارجي، فغدت الدولة نفسها الأداة الأولى لها، ويندر أن يخلو ملف من ملفات الدولة الخارجية من أهداف هذه الشركات العملاقة على رأس جدول أعمالها، وتصب معظم فعاليات الدولة السياسية / العسكرية في طاحونة مصالح الشركات.

ب / بناء على ذلك تراجع دور الرئيس والمؤسسات في اتخاذ القرارات مقابل تعاظم دور المؤسسات المالية وما انبثق عنها من إدارات وهيئات تحت عناوين ومسميات شتى، بل أن الشركات والبنوك، تدير معاهد دراسات وأبحاث سياسية وعلمية وغيرها. ويلاحظ أن القرارات تخضع لعملية طويلة نسبياً، ولكن في النهاية فهي تراعي بالمقام الأول مصالح االعمالقة الاقتصاديين.

ج / واستطرادا، فقد احتكرت الفئات العليا من ملوك الصناعات والبنوك السلطة، وجعلت العناصر الأخرى، عناصر مساعدة ثانوية الأهمية، وتلك صيغة فريدة في وصف الائتلاف السياسي / الاجتماعي الحاكم. وما يثير الدهشة أن هذه الأنظمة تسوق شعارات الديمقراطية في وقت تحتكر فيه السلطة بحدود ضيقة للغاية. ولكن باعتبار أن النظام الرأسمالي هو نظام قديم تاريخياً، والنظم الحالية أنما هي حصيلة تطور وخبرة قرون كثيرة، تطورت فيها أساليب وتقاليد العمل حتى بلغت هذا المستوى من ترويض العناصر المعادية لها، ووضع القوة البشرية في خدمتها، بما في ذلك نقابات عمال موالية لها.

د / الإقحام المتزايد لمعطيات الثورة العلمية التكنيكية وشيوع استخدام العقول الإلكترونية والروبوتات في الصناعات الثقيلة والمايكرو أليكتروتكنيك في المعدات الدقيقة.

و / وباعتبار حقيقة مؤكدة هي أتساع حجم وأهمية الاقتصاد الدولي وتكاثف نشاطاته وفعالياته لدرجة يصعب فيها ملاحقة ومتابعة الأصول والجذور لرؤوس الأموال والشركات، فقد غدا الاقتصاد عنصر الضغط الأساسي الذي تمارسه الدول الرأسمالية المتقدمة، إلى جانب وسائل الضغط الأخرى ومنها العسكري، كما يلاحظ وفي أطار تصدير رأس المال ودور الديون وفوائدها وأقساطها في اقتصاديات الدول النامية، الأمر الذي رفع من قيمة ونفوذ المؤسسات المال في دول المركز من جهة كما زاد من تبعية الدول المدينة من جهة أخرى.

ز / تبدي العولمة وأدواتها الثقافية( وهي كثيرة ومتنوعة، إعلامية وثقافية)العداء لكل ثقافة لا تستسلم لها بصفة تامة، بالاستفادة من الثورة التكنولوجية في دنيا المعلومات وشبكة الاتصالات الدولية والفضائيات، تقدمت العولمة بمشروع ثقافي لا يكن الاحترام للثقافات والمنجزات الحضارية، والقيم الثقافية/ الدينية للشعوب الأخرى، ويسعى في حملات غزو وتأثير سلبي وأضعاف وتهميش لتلك المنجزات بهدف أضعاف شخصيتها الوطنية والقومية وجعلها خيوطاً رفيعة في نسيجها الثقافي، وعدم الاكتفاء (كما فعل الاستعمار والإمبريالية) بجعل الشعوب توابعاً في خدمة اقتصادها العالمي، بل وتكريس تبعيتها نهائياً بإلغاء ملامحها وثوابتها الثقافية والوطنية والقومية، فقد أدركنا من تجربة الاستعمار والاستعمار الجديد، وأن العناصر الثقافية والروحية والقومية لعبت دوراً مهماً في الكفاح الوطني ضد الاستعمار والإمبريالية، لذلك تحاول العولمة تحطيم تلك العناصر في شخصيتها لتزيل عقبة مهمة لتحقيق هيمنتها التامة.

 

فالعولمة تهدف إذن إلى بصفة عامة إلى ترتيب مسرح العلاقات الدولية بهذه المؤشرات:

ـ عولمة الاقتصاد: إيجاد عالم بدون حدود اقتصادية وجعله عالماً واحداً فقط، وذلك يعني حرية الطرف الأقوى: الاحتكارات.

ـ الثورة العلمية التكنيكية: اندماج للعلم متزايد مع التكنولوجيا بوتائر متسارعة.

ـ استنفاذ الدولة لدورها التنموي وسقوطها التام فريسة بيد الشركات والمؤسسات المالية.

ـ مبدأ كفاءة وحرية السوق، فكرة تتبنى الحرية كمفتاح رئيسي لنظرية الحرية المطلقة للعمل الرأسمالي، بوصفه محركاً لعالم شامل مزدهر ومحفز للثورة العلمية( حرية السوق، خلوه من العوائق الافتراضية للدولة كقوانين الحماية).

ـ أطلاق موجة ثقافية على كافة الأصعدة السياسية/ التاريخية/ الفنية / الموسيقية ... الخ تؤدي في النهاية إلى خلق ثقافة سطحية لا تغوص إلى مشكلات الإنسان الحقيقية والعميقة ولا تعبر عنها.

 

تدل أحداث كهذه بالإضافة إلى فعاليات شتى منها معاقبة شعوب بأسرها: حصار وعدوان على العراق يستمر لمدة 12 عاماً، يعقبه هجوم شامل واحتلال مباشر وإدارة استعمارية، وحصار دام 8 سنوات على ليبيا، أسفر عن رضوخها للابتزاز،  وصمت حيال حصار غزة، والمجازر في سوريا، وتدمير العراق ومحاولات تفكيكه.

 

وتستهدف الولايات المتحدة بوصفها قائدة للمعسكر الإمبريالي الجديد وقطبه العدواني الشرس في توجهاتها عدد واسع من الأهداف على أسس مختلفة،  أسس أثينية / دينية، الإسلام والكونفوشية بدرجة رئيسية: إذ لا يخفي مفكروا العولمة العداء للإسلام بوصفها تيارات ثقافية تضم اتجاهات أخلاقية وتقاليد تناهض تقاليد العولمة وثقافتها المتفسخة، البلدان العربية بوصفها تمثل قدرة حضارية وثقافية واقتصادية مهمة، واعدة في المستقبل، والبلدان الإفريقية بوصفها هدف دائم للنهب الاستعماري والاستثمار، ومساعي الولايات المتحدة تكاد تكون مكشوفة تماماً في إشاعة الحروب الأهلية وتشجيعها، وشراء ذمم شخصيات سياسية ومحاولات أحداث انشقاقات وتمرد والتحريض على المذابح والمجازر.

 

ولا ترغب الدوائر السياسية أو الأكاديمية الغربية على حد السواء، حتى تلك التي توصف بالحصافة والعلمية والاتزان، الاعتراف بأن ما تشهده البلدان النامية في واقع الحال ليست سوى مخلفات المرحلة الاستعمارية وآثارها السياسية والاقتصادية والثقافية، في وقت يبدو ذلك ظاهراً للعيان دون أي فرصة للالتباس، فعلى سبيل المثال يتمثل السبب الحقيقي لعدد كبير من الصراعات المسلحة إلى قضايا الحدود العالقة، إذ كانت الإمبراطوريات الاستعمارية خططت الحدود بين الدول بناء على مصالحها الاقتصادية والسياسية / العسكرية، أو بناء على قدراتها العسكرية، وهكذا نشأت العديد من مشكلات الحدود التي تسببت في النزاعات المسلحة، كما أن السحق الثقافي والاجتماعي قطع مسيرة تقدم شعوب أخرى كثيرة، لذلك فقدت خصائصها الوطنية والقومية، وهي تكافح الآن من أجل استعادة لغاتها الوطنية وتقاليدها، والسيطرة على ثرواتها الطبيعية التي هيمنت عليها الدول الاستعمارية، وسط تناقضات لا حصر لها، جلها بسبب الحقب الاستعمارية وميراثها، أضافت العولمة ملامحها الجديدة من أساليب الهيمنة السياسية والاقتصادية والثقافية.، وقد نجد اليوم دولاً مستقلة شكلياً، إلا أنها فاقدة لمرتكزات الاستقلال على أصعدة عديدة.

ويروج منظروا العولمة، أن العالم وبفعل التقدم الكبير في وسائل الاتصالات، حيث قامت شركات الطيران في أنحاء العالم قامت بنقل 3.13 مليار راكب على متن رحلاتها المنتظمة،  الطائرات(بلغ عدد المسافرين عام 1999 بواسطة النقل الجوي في العالم 1،580 أي ما زيد على المليار والنصف) وشيوع استخدام أجهزة الحاسوب (الكومبيوتر)، واستخدام الأقمار الفضائية في مجال الاتصالات والنقل التلفازي، والنقل المباشر لأنشطة أسواق السهم والسندات المالية(البورصة) عبر العالم، الأمر الذي مكن انتقال رؤوس أموال ضخمة بلمسة زر بين المصارف، وعقد الصفقات التجارية خلال أوقات قياسية، الأمر الذي جعل من العالم حقاً أشبه بقرية كبيرة، وعملت الأنظمة الرأسمالية على إزالة أية قيود أمام انتقال رؤوس الأموال السائلة أو بواسطة الشركات العملاقة، والتهديد بالعزل على من يخالف شروط الانتقال الحر للأموال، وتحقيق الأرباح وتحويلها، وبذلك أصبح العالم بأسره عبارة عن مزرعة للاستثمارات، تتوارى الإمكانيات المالية البسيطة أمام المنافسة الضارية، وأصبحت شعوب البلدان النامية أيدي عاملة زهيدة الثمن أمام الشركات العملاقة التي راحت تفرض شروطها في ظل من الهيمنة السياسية والاقتصادية المطلقة.

 

في نهاية الحرب العالمية الثانية، كان المذيع الأمريكي يتهيأ لنقل نشرة الأخبار، وأدلى بهذه الجملة: يتعين عليكم أيها السادة المستمعين الاستعانة بالخرائط لما سنتلوه عليكم من أنباء. ولا تخفي العولمة والنظام الدولي الجديد اليوم عن نواياهم بتغير الخرائط بل وأحداث تغيرات عرقية ودينية وفق رؤى(عصرية) تتلائم مع العولمة. وحتى زمننا المعاصر كلفت مرحلة تنفيذ خطوات العولمة مئات الألوف من القتلى، وأضعافهم من الجرحى، وتعترف منظمات غوث اللاجئين أن كارثة إنسانية قد حدثت ربما هي الأقسى منذ تشريد الفلسطينيين من بلادهم، فقد هجر الملايين من العراقيين من بلادهم إلى البلاد المجاورة، وإلى بلدان أخرى، مثلهم ملايين السوريين، وتجري أعمال تطهير عرقية وطائفية بصفة علنية في أكثر من بلد، وتجري فعاليات تحريض على الفتن والحروب الداخلية بهدف نهائي هو وضع خرائط جديدة للعالم تتناسب مع أهداف القوى المهيمنة على النظام الدولي الجديد(العولمة)، وليس من المستبعد أن تتراكم أسباب خلافات، وتتصاعد أزمات لتبلغ درجة توتر عالية يصبح معها أمر اندلاع نزاعات مسلحة ليس مستبعداً، فالمشكلات القادمة تحمل معها طابعها المتفجر:

الطاقة.

البيئة ومضاعفاتها: الاقتصادية/الجغرافية

ندرة المواد الخام.

إقامة مناطق محيطية للمراكز.

انتشار أسلحة الدمار الشامل.

الهجرة الشرعية وغير الشرعية.

الأمراض الفتاكة(الإيدز ـ أنفلونزا الطيور ـ إيبولا).

 

وإذا كانت النتائج الاقتصادية من تصاعد مديونية البلدان النامية، وتعاظم ظاهرة الفساد، والحروب الصغيرة والكبيرة، كما يعترف بذلك منظروا العولمة(برجنسكي: أن العالم لم يصبح أكثر أمناً، بالإشارة إلى تقرير سنوي حول النزاعات في العالم أن عام 2002 وحده شهد ثلاثة وعشرون نزاعاً مسلحاً راح ضحيته 125000 ألف إنسان، بالإضافة إلى 79 نزاعاً متوسطاً، تسبب في مقتل 100/1000 لكل منها، و38 نزاعاً سياسياً عنيفاً أدى كل منها إلى مصرع 25/100 شخصا، ولم تشخص إلا 35 دولة فقط في العالم تخلو من الصراعات السياسية العنيفة، أي أقل من ربع دول العالم) ويضاف إلى ذلك أرقام كبيرة عن ضحايا الصراعات المسلحة في أفغانستان وفلسطين وسورية والعراق.

 

وبسبب عنف العوامل الاقتصادية والسياسية والديمغرافية (السكانية) والصراعات والنزاعات المسلحة من حروب وحروب أهلية وأشباهها، تصاعدت أرقام الهجرات غير المشروعة من الدول الفقيرة صوب الدول الغنية، أو الدول الأكثر أمناً بما أصبح يمثل قلقاً حقيقياً لتلك الدول لتداخل العناصر البيئية والثقافية والاقتصادية والعرقية...  الخ، وتشير الإحصائيات إلى أرقام بالملايين من المهاجرين، في مقدمتهم للأسف اللاجئين من منطقتنا: الفلسطينيين والسورين والعراقيين.

 

لقد اضعف احتلال العراق مصداقية الأمم المتحدة إلى حد بعيد، وألحق الوهن بمؤسسات العدل الدولية، وقد عبر العديد من قادة الدول أن العالم قد أصبح أقل أمناً، وأن الاعتماد على الأمم المتحدة كمقر للدبلوماسية الدولية ولحل المشكلات بالطرق السلمية بات محفوف بالشكوك، وإن سيادة الدول لم تعد بمأمن، وتقود هذه الحقائق الجديدة إلى تساؤل مهم: ما لذي يمكن أن تفعله الدول الصغيرة لتبقي على استقلالها وأن تصون مصالحها السياسية والاقتصادية والثقافية وتبقي على بلدانها بمنأى عن المخاطر ؟

 

وبينما تؤيد الاتفاقيات الدولية ومنها قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة المتخذ بتاريخ 18/2/1972 كفاح الشعوب التي تتعرض للغزو والاحتلال ويعتبرها حقاً مشروعاً، سعت الولايات المتحدة راعية النظام الدولي الجديد، إلى وضع قواعد جديدة لمفاهيم الإرهاب تضع كل معارض أو مقاوم لخططها وفعالياتها السياسية والعسكرية في حقل الإرهاب، برغم أن ذلك لم ينل تأييد المجتمع الدولي، إلا أن أنها ماضية في تفسير أحادي لهذه العناوين، وتشن أنشطتها العسكرية بموجب تفسيراتها، وتضع ثقلها السياسي في مجلس الأمن في إقرار قررات تكيل بمكيالين، وتتسم بالقسرية كالحصار والعقوبات واستخدام مبالغ به للفقرة 7 من الميثاق الذي يجيز استخدام القوة المسلحة.

 

ويشبه العمل السياسي في العصر الراهن السير في حقل ألغام خطر، فالميدان ملئ بالمفاجئات، وعلى القوى المناهضة للإمبريالية الجديدة (العولمة) أن تستوعب حقائق العصر وأن تعمل بسياسات مرنة عندما يتطلب الموقف منها ذلك ولكن أن لا تتردد عن المواقف الصلبة الصلدة إزاء حقوقها الثابتة واستيعاب حقائق التناقض بين الأقطاب الإمبريالية وتشكل التحالفات والائتلافات فيما بينها، ورسم الطرق المؤدية إلى سلامة أهدافها الوطنية والقومية في هذه الغابة الشائكة المتشابكة من المصالح المتناقضة.

 

إذن فأهداف العولمة كثيرة ومتنوعة تشمل كافة اتجاهات الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية، وكذلك هو المعسكر الذي يواجهه عريض وواسع، ولكن تشتت الإرادة، والآراء والقدرات ووعي القيادات يشوب صفوف هذه الجبهة ولكن ضراوة المعركة ونهم الإمبريالية سوف يسهم في تسارع عملية تبلور تشكل المعسكر المناهض للإمبريالية. وبقدر ما يسود التنسيق بين جبهاتها وتغليب التناقض الرئيسي أمام الخصم على التناقضات الثانوية في التفاصيل من أجل مواجهة هذا الخطر العاتي الذي لا يستهدف اقتصادياتها الوطنية كالاستعمار القديم، بل كيانها بأسره بكل مكوناته من دين ولغة وثقافة وعادات وتقاليد، بل وحتى الأمل بالمستقبل.

 

وبناء على هذه المعطيات، تثير (العولمة)الإمبريالية الجديدة عداء قوى ليست معادية للإمبريالية تحت عناوين وشعارات اجتماعية، بل ثقافية ووطنية بالدرجة الأولى. فقد كان الاستعمار يستثير ضده عداء عناصر واسعة من المجتمع، بما في ذلك عناصر من الإقطاع ورجال الدين، والفئات الوسطى الوطنية، فأن الجبهة المعادية للعولمة لا تقل جبهة العداء لها أتساعاً، لذلك فأن النضال المعادي لها الآن سوف يجد في صفوفه تيارات غير تلك التي ناضلت ضد الاستعمار والإمبريالية، منها قوى التحرر الوطني والديني والقومي، بالإضافة إلى الفئات الاجتماعية العريضة التي سترى في العولمة الجديدة(وذلك مهم) خطراً على مرتكزاتها الثقافية وأصولها وجذورها الفكرية وما يشكله ذلك من مخاطر على الروابط الوطنية والقومية تؤدي في المدى البعيد إلى تفكيك الكيانات الوطنية وأضعاف روابطها. وهي مخاطر عبر عنها بعض قادة البلدان الغربية كرئيس الجمهورية الألمانية الأسبق هورست كوهلر الذي قال بصراحة، أن العولمة تدمر وتسحق بشكل نهائي آمال الشعوب النامية.

 

وتشن القوى الغربية الهجوم على المنطقة بدواعي التصدي للإرهاب، وفي عداد ذلك يجري الطرق على التنوع الديمغرافي، والتناقضات الثانوية، وعلى الظواهر العارضة على حساب الجوهري، بهدف تجزئة القوى في المنطقة ليسهل لها التغلغل والتفتيت.

 

وتدرك الولايات المتحدة بوصفها قائد المعسكر الغربي سياسياً وعسكرياً، خطورة التورط المباشر مجدداً في الصراع المسلح وتداعيات مشاركة جنودها مباشرةً في المعارك مع أية قوى مسلحة من الميليشيات الموجودة في الساحة العربية والإسلامية، تركز استراتيجيتها على استخدام القوى المحلية بتقديم مغريات التسليح والدعم الجوي والعسكري واللوجستي والمالي، كتوريط القوى الكردية في الصراع الدائر وجعلهم رأس حربة هذه المعركة، كما يجري العمل على استخدام القوى العشائرية والمجموعات المعارضة، لتكون جزءاً من هذه الحرب فينأى الجيش الأميركي عن خوض المعركة مباشرةً، مستخدماً الطائرات من جانبه، ومستعيناً بادواته في المنطقة أو بمن يقبل بالتحالف معه... ويتعزز حينها الانقسام المحلي بين المجموعات الدينية والعرقية والإثنية، تمهيداً لإضعافها جميعاً ولزرع العداء فيما بينها لعقودٍ قادمة وسنوات طويلة. 

 

تدير الولايات الأمريكية الحرب تحت شعار الإرهاب الإسلامي، وتحت هذا الشعار، تنضوي أهداف عديدة، قريبة وبعيدة.

المصالح الأمريكية الاقتصادية والسياسية هي في مقدمة الأهداف وهي تعمل على عدة خطوط :

 

السعي لإبقاء البلدان العربية بموقع التبعية السياسية تحت شعارات التهديد بقواها المباشرة القصف البعيد، التدخل الجوي بدون طيار، التدخل المباشر عند الضرورة القصوى (الخطر الإسرائيلي ـ الإيراني).

السعي للحيلولة قيام تضامن عربي، وحدة عربية، تضامن إسلامي.

حماية لإسرائيل التي يتزايد عجزها من الوقوف أمام حركات مقاومة وتفاقم القوة الذاتية العربية.

إبقاء مصادر الطاقة العربية تحت هيمنة الشركات الأمريكية تنقيباً واستخراجاً وتسويقاً، والاستحواذ على الفوائض النقدية بشتى السبل.

 

وفق الأساليب الأمريكية الكلاسيكية في إدارة المعركة سياسياً / عسكرياً، بتشكيل حلف يتكون إطاره الداخلي القريب من دول وبلدان المنطقة، وإطاره الخارجي الدولي من دول كبرى وصناعية وحليفة، تلعب دون المساند والممون، والمشارك إن أقتضى الحال.

 

مثلت (داعش) بصرف النظر عن الأسباب الظاهرة والكامنة، أفضل وسيلة لإرهاب وتأليب الأنظمة القوى وخلق المبررات على كافة الأصعدة، لدفعها إلى معركة تتشكل مفرداتها تدريجياً (تفهم روسيا لأبعاد الحلف ..!)ويكتمل وضوحها في مراحل لاحقة، ولكن بعد أن تكون أيدي الجميع قد ساهمت فيها.

الولايات المتحدة بوسعها أن تصور المخاطر وتضع الحدود، وتمنح المكاسب والعقوبات، وفي هذا الإطار سوف تساهم العديد ممن يبدون الممناعة.

 

بقصد أو بدونه، سيمتد ميدان الصراع بين القوى الرافضة للإذعان الأمريكي وبين قوى التحالف مناطق ستمتد بين العراق وسورية ولبنان، وربما في مرحلة لاحقة أرض في دول أخرى. ومن المستبعد أن تحقق خيار القوى العسكرية الأمريكية الأولى(القصف من بعيد بالصواريخ/ الطائرات / الطائرات بدون طيار) نتائج حاسمة، وسيعول على القوى المحلية في إحراز مكاسب على الأرض، وهو من المشكوك حسمه.

 

وبوسع أي مختص بالشؤون الدولية  أن يدرك بسهولة أن النظام العولمي قد ولد معلولاً وينطوي على تناقضات، يحمل امراض موته واندثاره،  ناهيك عن الصعوبات الجسيمة العملية، في عالم يزخر بثراء فاحش، إلى جانب فقر مدقع، وحيث لا يمكن تجميع هذه التناقضات في تحت سقف واحد، إذن فالتناقضات ستقود إلى صراعات، ومن الخطل بناء بيت، أو نظرية قائمة على تناقضات جوهرية وصراعات، ومن المستبعد أن تتمكن أي قوة مهما بلغت درجتها أن تقود العالم، دون صراعات وحروب، وفي ظل تراكم الأسلحة وتقدم صناعتها، فليس المتوقع سوى حروب طاحنة لا تبقي ولا تذر، أو التسليم بعالم متعدد الاقطاب.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

القيت في مؤتمر علمي/ النصف الثاني 2014

 

دراسات ـ إعلام ـ معلومات

 

المركز العربي الألماني

برلين

 

 

اليسار العربي ...

 استشراف المستقبل

رؤية نقدية

 

ضرغام الدباغ

 

العالم العربي في غليان، وفي علم التاريخ يعتبر في مرحلة تمفصل (Epoch Transition)، إثر مراحل انتهى استحقاقها وأدت مهماتها وتؤذن بالرحيل، والمرحلة المقبلة تحتاج إلى خصائص جديدة، فكل شيء مطروح للاحتمالات، والقريبة منها و البعيدة جداً، بدرجة أضحى معها التنبؤ بنتائج العاصفة أمراً يصعب حتى على أبرع المحللين والمفكرين، ولكنه ممكن ..!

الأسباب بالطبع عديدة، منها مؤثرات موضوعية خارجية، ومنها مؤثرات ذاتية داخلية، وكلتا المؤثرات من الصنفين متوافرة بدرجة ثقيلة بحيث لابد أن تترك آثارها، وردود أفعال العديد منها خارج السيطرة، وهي الأخطر بطبيعة الحال.

المؤثرات الداخلية هي تلك المؤثرات المتوفرة غالباً في البلدان النامية (المتحررة حديثاً من الاستعمار والهيمنة الأجنبية) وتحمل نكهة المتوارث التاريخي، أضيف فوقها ما خلفته عهود الاستعمار والهيمنة الأجنبية، ومن تلك شيوع ليس أنماط وعلاقات الإنتاج المتخلفة فحسب، بل وسلسلة محكمة الحلقات متوارثة من العلاقات المتخلفة السياسية / الاجتماعية / الثقافية، بحيث تضيف المزيد من العراقيل أمام مناهج عمل قوى اليسار المحلية المتنورة في الغالب بفعل تماسات ثقافية مع قوى اليسار الإقليمية أو العالمية.(1)

في التاريخ العربي الوسيط والحديث، لم يكتب للحركات اليسارية (إن صح اعتبارها كذلك) إنجازات كبيرة، عدا تجربة المعتزلة، التي طالت لعقود، وحكمت كفكر المؤسسة السياسية، (المأمون 813 م ــ المعتصم 833 م ــ الواثق 842 م حتى خلافة المتوكل 847) أي نحو 34 سنة في غضون عصر ثلاثة خلفاء.

ثم حركة الخوارج التي استطال تاريخها، فاستطاعت أن تؤسس كيانات سياسية، بيد أن الغلو والتطرف الجامح حال دون أن تتحول التجربة إلى توجه سياسي راسخ. وكانت قد تأسست عام 655م، ثم بدأت بالتلاشي عام 861م، أي أن وجودها تواصل في العمل السياسي والفكري نحو 206 أعوام (2)

أما الحركتان / الانتفاضتان المسلحتان، الزنج (250 هـ / 270 هـ) والقرامطة (260 هـ / 470 هـ) فكلتاهما لم تتمكنا من الارتقاء إلى شروط الثورة. ولكن من الضروري الانتباه إلى نقطة نجدها مهمة في تحليل الحركات السياسية التاريخية، أن نقيم تحليلنا وفق القاموس السياسي لذلك العصر. وقد توصلنا إلى تشخيص حقيقة علمية من خلال تأملنا في تاريخ الفكر السياسي العربي القديم والوسيط، أن الفكر السياسي وصيغه وأشكاله وأدواته المعبرة، تتراجع وتتخلف بتخلف الوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي بصفة عامة، وبهذا المعنى نجد أن الحركات السياسية العربية قد تراجعت وتكاد أن تكون خمدت، وليس هناك ما يستحق تسجيله في تلك المراحل المظلمة، إلا إذا استثنينا بعض التحركات في الأرياف التي لم تكن تنطوي على أهداف سياسية مهمة أو عميقة، إذ كانت تعبر في الغالب عن استياء سكان الأرياف من الضرائب ومصادرة المواشي والمحاصيل.

اليسار العربي في العصر الوسيط لم يستطع أن يتحول إلى تيار كبير، بسبب شدة تأثير التيار الديني، وهو تيار بطبيعته لا يميل للتغيير، بل للحفاظ على التقاليد والأصول، من جهة، والتطرف الذي أودى بحركتين كادتا تتحولان إلى تيار قوي ونعني بهما: الخوارج والمعتزلة.

وفترة السبات المظلمة لم تنقطع فيها الحركة الفكرية والثقافية والعلمية فحسب، بل إن عطلاً شديداً أصاب الأجهزة والآليات المعنية بمتابعة التطورات التي كانت تدور في أماكن عديدة من العالم، وبذلك أصبحت بلادنا في عزلة تامة وسادت في معظم الأرجاء العربية الإرادة الأجنبية التي لم تكن تبدي التفهم لإرادة الشعب. ووفق هذه المعطيات، لم يكن ليسار حديث في الوطن العربي أن يظهر قبل ما اُستحسن (شخصياً )  تسميته "عصر النهضة العربي الثاني" والذي أرجح سريانه منذ أواسط القرن التاسع عشر (1850) وفق المؤشرات التالية:

كانت الثورة اللوثرية في الكنيسة (1500)، قد قادت إلى ثورة تحررية، وشيوع الأفكار الليبرالية، ونهاية لعصر المسلمات المقدسة.

 أفضى عصر النهضة (القرن الرابع عشر إلى القرن السابع عشر) إلى عصر التنوير والثورة الفرنسية (1799)، ثم الثورة الصناعية (القرن الثامن عشر)، وبدأت الدول الصناعية الأولى تدشن عصر الاستعمار، فانطلقت الحملات الاستعمارية تجوب أعالي البحار، وليشتد الصراع على المستعمرات، فخلفت حزمة التطورات هذه تداعيات؛ إن في البلدان الصناعية وجيرانها من الأوربيين، في نهاية لتحالف الكنيسة والملوك، أو في بلدان المستعمرات، حيث أدى الاحتلال الأجنبي لها إلى آثار اقتصادية وسياسية بعيدة.

الإمبراطورية العثمانية، كانت تشهد انتقالاً بطيئاً من العهد الإقطاعي إلى بدايات التأثر بالأحداث الأوربية، ومن تلك تحديث نظم الدولة، وكان لهذه آثارها في الأقطار العربية باتجاهات سياسية واقتصادية وثقافية عديدة، لتتأجج المسائل الوطنية والقومية.

مؤشرات نهوض في مصر إبان حكم محمد علي الكبير (1805 ـ 1848)، والجامعة الأمريكية في بيروت 1866، والجامعة اليسوعية في بيروت 1875.

بدأ نشاط تعليمي ومعرفي بالتحرك في العراق وسورية وفلسطين، تمثل في افتتاح عدد من المدارس العليا والكليات، بعضها كان نتيجة لنشاط البعثات والكنائس المسيحية، كما بدأت السلطات العثمانية تولي للتعليم أهمية في أواخر القرن التاسع عشر، وبداية القرن العشرين.

كان اشتداد تيارات التحرر في عاصمة الدولة العثمانية، وانتشار الجمعيات الثقافية والاجتماعية ذات الأبعاد السياسية، قد تغلغلت بين العرب المتواجدين في العاصمة للدراسة أو الخدمة في الجيش. فشهدت تلك المرحلة تشكيل العديد من الجمعيات الثقافية والسياسية العربية، سرعان ما انتقلت فروعها إلى الوطن العربي ولا سيما في سوريا (لبنان) والعراق ومصر.

مهدت ثورة أكتوبر الاشتراكية العظمى في روسيا 1918 ــ الانتشار للأفكار الاشتراكية.

وجدير بالملاحظة والتتبع، العلاقة الجدلية التي تربط هذه العناصر بعضها ببعض كعناصر مؤثرة كان لها تفاعلاتها ونتائجها كل في الزمن الذي حدثت به، وإن كانت دوائر تأثيرها تصل ضعيفة خافتة وبطيئة إلى العالم العربي، ولكن من الداخل أيضاً (داخل الوطن العربي) كانت هناك عناصر داخلية عديدة تحتدم، فالعهد العثماني نفسه كان يئن ويتداعى تحت وطأة تفاعلات داخلية وخارجية بدا النظام العثماني حيالها عاجزاً عن التطور وعن استيعابها، وكان عليه أن يقدم على قفزة كبيرة إلى الأمام ولكن قواه الذاتية لم تكن تكفيه للقيام بتلك القفزة، مع اشتداد المؤامرات الخارجية عليه في إطار التنافس الاستعماري بين الإمبراطوريات العظمى.

وعصر النهضة العربي سادته هواجس محاكاة الغرب مبهوراَ بالمنجزات الفكرية والعلمية، بل ذهب البعض إلى ضرورة محاكاته إلى درجة التماثل. وقد فات تلك الجهات أن التماثل ونقل التجارب بحذافيرها أمر مستحيل لصعوبات موضوعية قبل أن تكون ذاتية، بالإضافة إلى الحقيقة المؤكدة، وهي أننا لا يمكننا التخلي عن موروثنا الثقافي والحضاري الذي يمتد لبضعة آلاف من السنين، وأن محاولة من هذا القبيل قد تكون نبيلة المقاصد النهائية، إلا أنه محكوم عليها بالفشل، فهي نقل معلب لمنجزات لا تمت لنا ولموروثنا الثقافي والأخلاقي والاجتماعي، والقبول بها كما هي ونقلها بشكل آلي أشبه بزرع جسم غريب في جسد سوف لن يقبله، وأن محاولات إرغامية كهذه افتقرت للأصالة، فهي أشبه بمن يطفئ حريقاً شب في منطقة أخرى، ولم تستجب للإثارات المحلية لذلك لاقت الفشل في الوطن العربي من خلال تجارب عديدة، في حين توصلت أمة كاليابان مثلاً في المحافظة على القيم والموروث الثقافي مع تحقيق تقدم صناعي / علمي، رغم أن موروثنا الثقافي هو أكثر ثراء من الموروثات اليابانية.

اليسار العربي في العصر الحديث جاء مقطوع الجذور عن موروثات مجتمعه، وحاول أحياناً أن يكون نسخة مكررة عن اليسار الأجنبي بتنوع نسخه: الأوربي/ الآسيوي/ الأمريكي اللاتيني، وكان رواده في البلاد العربية من الانتلجنسيا الأجانب، ومن مثقفين سنحت لهم الظروف تعليماً استثنائياً نادراً، أو من خلال علاقات خاصة مع مؤسسات أجنبية. وبعض هذه الشخصيات نجدها معادية بضراوة للتوجهات الشعبية كالوحدة العربية (مع أن قوى اليسار في البلدان الأجنبية تناضل من أجل الوحدة الوطنية والقومية)، كما أن الإخلاص والتزمت للنصوص (الدوغماتية) أفقدها المرونة حيال الكثير من القضايا الجوهرية.

وكان تطور حجم التجارة الدولية بسبب نتائج الثورة الصناعية، قد أنتج محاولات الدول الصناعية البحث عن متعاونين يمثلون مصالحها الاقتصادية أولاً، ثم السياسية بطبيعة الحال. وهكذا نشأت في العواصم والمدن الكبيرة فئات كومبرادورية (Comprador) أصبحت وسيطة للقوى الأجنبية، المتطلعة للتوسع الاستعماري، وتوسيع نفوذها، وأصبحت تمثل ليس فقط قاعدتها الاقتصادية / الاجتماعية فحسب، بل وأفقها الثقافي أيضاً، فتولت فتح مدارس التعليم الخاص، والصحف والمجلات، وكونت محيط إشعاعها الثقافي / الفكري، وليس نادراً ما تكونت الشرائح المتنورة من هذه الفئات الاجتماعية، التي كانت تحاكي في محاولات فاشلة بالطبع تقليد المجتمعات المصدرة للتجارة والثقافة، بل وأصبحت ثقافة الأجنبي هي ثقافة الفئات الوسطى والعليا في المجتمع، وليس نادراً ما انعكست في فعاليات اجتماعية.

ناهضت الدول الصناعية / الاستعمارية هذه المؤشرات التي مثلت بوادر النهضة العربية الحديثة التي انطلقت في مصر أولاً، بحملة تعليم وترجمة ونهوض ثقافي، وإرسال بعثات للتعليم، في أجواء شجعت ظهور شخصيات ثقافية متنورة ذات أهداف نهضوية.

وبالرغم من أن محاولات النهضة العربية كانت تواجه بالعديد من العقبات المحلية والأجنبية، تمثلت الداخلية المحلية منها بالقوى الإقطاعية والرجعية التي رأت في النهضة ما يدفع بمواقعها ومكتسباتها إلى الخلف ويفسح المجال لبروز قوى جديدة تهدد مواقعها. وكان من الصعوبة بمكان بروز تيارات ثقافية وفكرية مستقلة عن الجو العام السائد. والعوامل الخارجية كانت تتمثل بتغلغل القوى الاستعمارية تجارياً وثقافياً حتى في مرحلة ما قبل الحرب العالمية الأولى، بسبب ضعف الهياكل السياسية والاقتصادية والثقافية للسلطات العثمانية، وعدم قدرتها على مواجهة هذا النهوض الثقافي / الفكري الذي كان يهدد باقتلاع كل شيء حتى في عاصمة الدولة العثمانية نفسها، التي كانت تشهد تصاعد نشاط الحركات القومية الهادفة إلى بناء دولة قومية حديثة.

 

ومن جملة العوامل الخارجية أيضاً اشتداد واتساع نطاق الحركات الاشتراكية بأنواعها في بلدان أوربا الغربية: ألمانيا، فرنسا، بلجيكا، بريطانيا، وسريانها إلى بلدان أوربا الشرقية وخاصة في: هنغاريا وجيكوسلوفاكيا، ثم في روسيا. ونقلت إليها جوهر النضال الاجتماعي في بواكير القرن العشرين. وفي مصادر تاريخ الفكر والحركات الاشتراكية الكثير من الوقائع والمفردات عن طبيعة انتشار الفكر الاشتراكي في الأقطار العربية، ومن ثم الأحزاب والحركات الماركسية، ومنها الحزب الشيوعي ويعود تاريخ تأسيسه إلى مرحلة العشرينيات والثلاثينيات، ثم حركة البعث العربي الاشتراكي، الذي بدأ بالانتشار من أواخر الثلاثينيات وأوائل الأربعينيات، وتأسس بشكل نهائي في نيسان / 1947، كأول حركة (حزب) قومي اشتراكي. وكان قادة الحزب ذوي ثقافة فرنسية، إذ درسوا في باريس وهناك تعلموا مناهج الفكر الاشتراكي الديمقراطي، ولكن مع ظروف الواقع السياسي / الاقتصادي / الاجتماعي، كان لابد أن يكون التركيز على القضايا القومية، وقد حلت القضية الفلسطينية 1948 كقضية قومية ذات أولوية بعد عامين فقط من تأسيس حزب البعث 1947، وكانت إرهاصاتها تدور قبل ذلك بسنوات عديدة.

الأحزاب اليسارية / العمالية، تعاملت في موضوعات القضايا المحلية الوطنية / القومية بعقل وأحياناً برؤية أجنبية، في النظر إلى المشكلات المحلية بحلول حيادية أحياناً، وتخندقوا وراء هذه المواقف، على أساس الثوابت والمقاييس النظرية، وإذا كان الفكر الاشتراكي الديمقراطي / الماركسي متقدماً في قوته النظرية وعمق أفكاره، إلا أن الحركات التي اهتمت بنشر هذا الفكر كانت تنظر إلى مشكلاتنا الوطنية والقومية وتحللها بمنظار وعيون القوى الأجنبية، وقد تسبب هذا العجز في التطبيقات الإيديولوجية إلى خسارة نفوذ مهم كانت تتمتع به هذه الأحزاب في العديد من البلدان كالعراق وسوريا ومصر..الخ وحتى في خارج الإطار العربي في تركيا وإيران .

 

وكان لارتباط الأحزاب الشيوعية العربية بمنظمة (Comintern) أثره السلبي على تطور الأحزاب الشيوعية في المنطقة وحتى في أوربا، بل وفي العالم، اغتنمها أعداء المعسكر الاشتراكي والقوى الرجعية المحلية، وبالغوا في خلق صورة مفزعة للاشتراكية والشيوعية، واتخذت مساراً معادياً لليسار عموماً وللأحزاب الشيوعية خصوصاً. والعلاقة الوثيقة للأحزاب الشيوعية بالاتحاد السوفيتي أضرت بالحركة الاشتراكية ليس في منطقتنا العربية والشرق الأوسط، بل وفي أوربا الغربية (إيطاليا ــ فرنسا ــ أسبانيا)، وفي أوربا الشرقية لم تخلُ من إشكالات في (يوغسلافيا ــ ألبانيا ــ هنغاريا ــ جيكوسلوفاكيا ــ بولونيا). (3)

ضخمت أجهزة الإعلام والدعاية الرأسمالية وبالغت بتأثيراتها، سواء في البلدان الأوربية أو في أرجاء من العالم، وفي منطقتنا بصفة خاصة، وألحقت أضراراً جسيمة بحركة اليسار بصفة عامة. ومن جهة أخرى، تسببت هذه القراءة الخاطئة، والتفسير الخاطئ للمصادر الاشتراكية العلمية في العديد من المواقف المناهضة لآمال الأقطار وطموحاتها وحقوقها المشروعة السياسية والاقتصادية.

وقد اتخذت هذه القوى والأحزاب موقفاً لا يلين تجاه أعز تطلعات الجماهير:

موقفاً مناهضاً للمشاعر الوطنية والقومية حيال القضية الفلسطينية.

موقفاً مناهضاً لمشاعر الأمة في الوحدة العربية.

موقفاً مبالغاً في الإلحاد والإجهار به حيال عاطفة شعبية للدين. 

أما في المواقف السياسية فقد ارتكبت أخطاء كثيرة في العديد من الأقطار وفي حقب مختلفة، في الجزائر، ومصر، العراق وسورية، ومن تلك الأخطاء على سبيل المثال لا الحصر، مواقفهم في حرب التحرير الجزائرية، ومصر حيال ثورة 23 / تموز / 1952، وفي العراق حيال الحكم الوطني، وفي إيران في ثورة مصدق وبعدها، وفي التعاون مع الاحتلال الأمريكي للعراق. وفي فهم خاطئ لطبيعة المرحلة التاريخية التي تمر بها مجتمعات الشرق الأوسط والوطن العربي بأسره، وحتى الخمسينيات كانت الطبقة العاملة العربية والشرقية عامة ضعيفة وقليلة العدد بصفة عامة، ليست بمستوى الطبقة العاملة في البلدان الصناعية، ناهيك عن وجود قوي للدول الاستعمارية سياسي / اقتصادي / عسكري حتى نهاية الخمسينيات، والعديد من الأقطار العربية لم تكن قد أنجزت (وبعضها لا يزال في مرحلة مهمات وواجبات ومستلزمات مرحلة التحرر الوطني)، الأمر الذي كان يحتم وضع برامج نضالية تتلاءم مع الموقف الاجتماعي / الاقتصادي في كل بلد، نعم هناك مشتركات، ولكن مع وجود خصائص . (4)

 

وثمة مشكلة أخرى واجهت حركة اليسار العربي وهي أن الاعتدال (النسبي) الذي تميزت به، ولا سيما في المرحلة (1963 ــ 1967) تحول بعد هزيمة حزيران 1967 وبعد اشتداد هبوب عاصفة التيارات الماركسية إلى حالة من الاندفاع نحو الماركسية، حتى أن الحركات القومية بدأت تسرع نحو الماركسية، بوصفها القلعة المنيعة المعادية للإمبريالية، وطالما نحن في صراع حياة أو موت مع الإمبريالية، فنتخذها منهجاً وسبيلاً للتحرر والتنمية، وطالما لا أحد يعطينا سلاحاً ندافع به عن بلداننا وأنفسنا،  فلنتحالف جذرياً مع الاتحاد السوفيتي والمعسكر الاشتراكي، ولم يكن هذا يخلو من منطق، وهذا كان لب الزحف صوب الماركسية، وطالما هي ردة فعل فليكن بأتم صورة وأقواها، هكذا كان القاموس السياسي لتلك المرحلة: الاندفاع دون هوادة.

إلى هنا كان الأمر يبدو منطقياً وأن الرد على الهزيمة بتصعيد المقاومة الثورية، واليسار مقاومة وثورية في آن واحد، ولكن المشكلة كما هي دائماً: الخطأ في تسلسل القراءة والدراسة، والاسترشاد. الثورة والماركسية علم وعلم ليس بسيطاً، وقد صادفت أعضاء قيادات شيوعية لا يفقهون من الماركسية شيئاً. الديالكتيك والميتافيزيقية، والإمبريالية ونظريات النقود والأجور، ونظام الدولة موضوعات علمية تدرس في الجامعات، ومعظم قوانا تعاملت مع الأمر كمزاج وكرد فعل ووفق قناعات مسبقة. ولم نجد (إلا نادراً) دراسات   علمية تستحق الاعتبار قائمة على تحليل المجتمع تحليل علمي، ليصار إلى وضع سياسات نضالية. (5)

النتيجة كما هي تاريخياً، عندما لا يحقق التصعيد التراكم المطلوب، تلجأ القوى الثورية وتغطية لعجزها النظري والتطبيقي، إلى المبالغة والتطرف لدرجة مفجعة. وهذه حقيقة تاريخية معروفة، وهكذا أممت سلطات اليمن الديمقراطية (وهم حزب قومي أصلاً ــ حركة القومين العرب) زوارق صغيرة لصيادي أسماك فقراء، وثورة ظفار تحولت للماركسية وقاموا بإلغاء المهر وعقود الزواج، وشاهدت بأم عيني ذات يوم في الأردن شعارات "لنقم سوفيتات العمال والفلاحين". وندوة أقامتها حركة قومية جرى التحول للماركسية بالتصويت ..! وحزب شيوعي انشقّ، والجزء المنشق تطرف لدرجة أنه أنهى بداية كان يمكن أن تكون رائعة بتشخيصه الدقيق لمشكلات الحركة الشيوعية في ذلك البلد. كان هذا التطرف يحمل بذور النهاية. وتختزن الذاكرة صوراً مرعبة للتطرف الذي بلغ أحياناً مستويات جنونية، وهو سلوك معاكس للثورية، حتى أني استخدمت مرة مصطلح (شيوعيو الفجل) من الخارج أحمر قاني، ومن الداخل أبيض ناصع البياض ..!

والحق أن مثل هذا التطرف كان موجوداً في صفوف اليسار، وفي صفوف الأحزاب الشيوعية، وقد أنتج حالات أساءت للفكر الماركسي وللاشتراكية، ففكرة تصدير الثورة كانت أساساً من نتائج ثورة أكتوبر الاشتراكية، وما زالت بقايا الفكر التروتسكي قوياً في بعض بلدان أميركا اللاتينية وجنوب شرق آسيا، وقبلها كان التيار الفوضوي (قاده باكونين) الذي ظل سائداً في فرنسا وأسبانيا حتى الثلاثينيات، ولا تزال بقاياه موجودة، وكذلك تجربة الخمير الحمر في كمبوديا، وغيرها.(6)

 

اعتمدت بعض الحركات اليسارية على الفكر الماركسي ــ اللينيني كمنهج سياسي / أيدولوجي لها، و بعضها أنشقت عن حركاتها الأم، ولكنها لم تبلغ شأناً مهماً، وأخرى تطورت وغيرت دستورها ونظامها الداخلي واسمها، ولكن القفزة الكبيرة دون توفر المستلزمات أفقدها توازنها، والتطرف يقود إلى تطرف أشد ومبالغات، ومزايدات، حتى تسود الفوضى النظرية السياسية والتكتلات والخطوط المائلة والمتقاطعة. والحصيلة لم تحض أعمال مهمة في الفكر الاشتراكي الثوري واليساري لقادة ومفكرين أفذاذاً مؤهلين تمام التأهيل ليكونوا قادة كباراً، كالقائد المفكر عبد الفتاح إبراهيم، ومحسن إبراهيم، و جورج طرابيشي، والياس مرقص، وياسين الحافظ، ومحمد عابد الجابري، وأنور عبد الملك، وسمير أمين، وغيرهم.

ورغم الإسهامات الكبيرة لهؤلاء المفكرين، إلا أنها كانت (تقريباً) مسكونة بفكرة محاكاة الفكر اليساري الأوربي، وما عدا محاولات لا نعتبرها كافية، لم يُغطس في عمق المشكلات الفكرية العربية، ويؤسس على متابعة دقيقة وعلى أيدي مختصين لمصادر الفكر المادي العربي ويواصل عليها بتحديثها، فقد قرأنا مرة أن عالماً ماركسياً أوربياً صرح إما أن يكون ابن خلدون قد تأثر بكارل ماركس أو العكس..!  وكذلك ابن رشد الذي لعب دوراً مهماً في تأسيس الفلسفة المادية في أوربا.

لا ندعو بهذا المفكرين العرب إلى عزل الفكر العربي عن المؤثرات الخارجية، ولا أن يغطس في المورثات بحيث يصعب عليه التطلع بأفق واسع، وفهم العلاقة الوثيقة بين المنجزات الثقافية للإنسانية. إن توازناً دقيقاً يبدو هو المطلوب، وإلا فأي فائدة ترجى من مفكر يعيش في الشرق ويتأثر بكل مؤثراته، ويحاول علاجها بأدوات غربية.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

هوامش

 

التماس الفكري شأن حدث ويكثر حدوثه في إطار التبادل الحضاري والفكري والثقافي بين الشعوب، والأفكار تنتقل عبر وسائط عديدة، تعددت أساليبه في القرون الحديثة مع شيوع استخدام الراديو، واللاسلكي، والطباعة، وأضافت لها الوسائل الالكترونية كنتيجة للثورة المعلوماتية أبعاداً لم تعد معها نقطة واحدة بعيدة عن تحقيق الاتصال الفكري والثقافي معها.

تأسست حركة الخوارج في عهد الخليفة الراشدي الرابع علي بن أبي طالب (رض)، (655 م ـ 35 هج/ 661 م ـ 40 هج)، وتواصلت في العصر الأموي والعباسي، حتى تلاشت تدريجياً في العصر العباسي الوسيط (833 م ـ  218هج / 861 م ـ 247هج )، ولكن دائماً مع بقاء شرائح من فئات الخوارج تحت مسميات شتى في شبه الجزيرة العربية، وشمال أفريقيا. وسموا بالخوارج رغم أنهم أطلقوا على أنفسهم (الجماعة المؤمنة)، بيد أن تسمية الخوارج طغت لدى المؤرخين العرب والمسلمين والأجانب. ويعتبرهم الأستاذ البرت حوراني: "أول حركة احتجاج على التضحية بالمبادئ في سبيل الغايات "

الكومنترن (Comintern) منظمة أسسها فلاديمير لينين عام 1919 في موسكو، وهي تنسق بين الاحزاب الشيوعية في العالم، وتهدف إلى إقامة النظام الاشتراكي / الشيوعي.

الأحزاب الشيوعية وخاصة العربية، بررت ووجدت الذرائع لمشكلات حدثت في الاتحاد السوفيتي والبلدان الاشتراكية، في حين أنها كانت تثير الدعايات بوجه الحكومات الوطنية في البلاد العربية لأنها مخالفة للتعاليم الاشتراكية / الماركسية، وتتساهل مع أمثالها أو أكبر منها في الاتحاد السوفيتي والبلدان الاشتراكية:

 صلح برست: تخلى الاتحاد السوفيتي عن مساحات من أراضيه نتيجة الصلح مع ألمانيا لإنهاء الحرب العالمية الأولى، واستعادها بعد الحرب العالمية الثانية.

عصيان كرونشتاد شباط فبراير وآذار مارس 1921، تمرد قام به البحارة الشيوعيون السوفيت مطالبين بحقوق سياسية، في مطلع عهد السلطة السوفيتية، قام ستالين بقمعها بقسوة دموية.

قضية هونغ كونغ: مقاطعة صينية استولت عليها بريطانيا، لمدة 48 سنة حتى استعادتها الصين سلماً.

قضية تايوان. جزء من أراضي الصين اقتطعها نظام شان كاي شيك الرجعي الموالي للإمبريالية ولا تزال تحت سيادة هذه السلطة، وتأمل الصين الشعبية استعادتها ذات يوم سلماً.

مكاو المستعمرة البرتغالية حتى 20 ديسمبر 1999، (الآن منطقة إدارية خاصة تابعة لجمهورية الصين الشعبية).

الشيوعيون والكفاح المسلح في أميركا اللاتينية (بوليفيا مثالاً)، حيث ساهم الشيوعيون البوليفيون بصورة غير مباشرة بفشل ثورة غيفارا في بوليفيا، بداعي أنها (غير عمالية ورومانسية ثورية) وقاطعوها حتى لاقت مصيرها بالإبادة.

قضية القاعدة العسكرية الأمريكية في غوانتنامو. أراض كوبية تقيم عليها الولايات المتحدة قاعدتها العسكرية، وتضم القاعدة حتى الآن معسكر الاعتقال الشهير.

مرونة البلدان الاشتراكية في بيع أراض من السيادة الوطنية بذريعة أنها تحسن من وضع الحدود مع الدول الغربية.

البلدان الاشتراكية: يوغسلافيا ألبانيا، هنغاريا، جيكوسلوفاكيا، بولونيا ورومانيا، وفي جميع هذه البلدان نشبت حركات (ثورات مضادة في الغالب إخراج وتنفيذ أجهزة المخابرات الغربية)، نتيجة لرفضها النموذج السوفيتي في الهيمنة وقيادة العالم الاشتراكي، أو لصعوبة تنفيذ النموذج السوفيتي خارج الاتحاد السوفيتي.

الفوضوية : تيار أسسه الروسي ميخائيل باكونين (1814  ـ 1876).  مناضل ومفكر روسي الأصل، ساهم في ثورات وانتفاضات في تشيكوسلوفاكيا، وبولونيا، ضد الأنظمة الرجعية عمل لفترة مع ماركس ثم اختلفا، صاحب نظرية ضد السلطة والسلطوية، وأعتبر أن الدولة والكنيسة هم ألد أعداء الشعب.

للأنصاف قرأت مرة دراسة مختصرة ولكنها مفيدة للحزب الشيوعي العراقي في أوائل السبعينات (القيادة المركزية )، كما تعرفت شخصياً على قيادات شيوعية عربية على درجة من الكفاءة النظرية.

 

 

لماذا خسرت الولايات

المتحدة موقعها القيادي

ضرغام الدباغ

 

منذ عقود، والتراجع الأمريكي واضح وينبأ بالكثير، وهناك الكثير من المشكلات الجنينية التي كانت تنمو وتتفاعل داخل الامبراطورية الأمريكية، الداخلية منها والخارجية، وتنبأ بتدهور مضاعف ما لم تبادر الولايات المتحدة لإيقاف التدهور أولاً، ومن ثم اصلاح موطن الخلل، ولكن المسار التاريخي هو غالباً أقوى من إرادة البشر، ثم أن طبيعة التطور تشير أن الخلل كبير، وحاسم، وربما يفوق قدرة القيادات على تداركه.

المحلل السياسي ليس بفتاح فال، بمعنى أن بوسعه أن يؤشر حالة التراجع، ودرجته، ولكن تحديد موعد السقوط  وشكله، هذه ليست من اختصاصه. والكثير جداً من العلماء الأمريكيين وغير الأمريكيين، أشاروا لهذا بشكل تفصيلي في كتبهم ومقابلاتهم ومقالاتهم، منذ عقود طويلة خلت (منذ ثلاثينات القرن الماضي)، ولكني أعتقد أن غول الاحتكارات العملاقة الأمريكية، تجوع كلما التهمت أكثر، ولا تستفيد من دروسها، فالهزيمة في فيثنام كانت شاملة : سياسيا وعسكرياً وأخلاقياً، وكانت مقدماتها تلوح أمام القيادات الأمريكية قبل حلولها. فقد قرأت كتاباً في أواخر الستينات (عجز التقنية الامريكية في فيثنام، بيروت 1968) يشير فيه كاتبه (نغودين خاكفين) بلغة الأرقام والحقائق أن الهزيمة حتمية للولايات المتحدة، بطريقة علمية وذلك بسبب العجز المتراكم المتزايد للقدرة الامريكية في الحرب، حتى بعد الاستعانة بقوات الناتو .. ولشدة الخسائر المالية والعسكرية، والسياسية.

والكتاب الذي ألفه كاتب فيثنامي، قرأته بشغف في أواخر الستينات (1968) وهو كتاب صغير الحجم قرأته بعمق، ولذلك استطعت أن أتفهم بدقة، أن الأمريكان ماضون بسرعة أكبر ونتائج شاملة إلى الخسارة في العراق لأسباب مشابهة(سياسية/ عسكرية/ ويضاف إليها الاقتصادية والاخلاقية) فالحرب عام 2003 كانت حرباً عدوانية بصفة تامة 100% بحيث لا يمكن لأي منافق الدفاع عنها. بل وأن قطبا العدوان من القادة الأمريكان والإنكليز (بوش وبلير) اعترفا بصراحة تامة بالعدوان بعد أن وجدا أن الكذب صار مفضوحاً ولا سبيل للإنكار، والاعتراف بصراحته يستحق أن يحالا مع مجرمين آخرين إلى محكمة الجنايات الدولية والحكم عليهما بأقسى العقوبات (الاعتراف سيد الأدلة)، وعدم مثولهما أمام المحكمة، يؤكد أن هذه المحكمة هي أمريكية قد أنشأت لمحاكمة خصوم أميركا فقط، ومن يعصى أوامرها فحسب.

والحكومة الامريكية قد تتمكن بأساليب متعددة تدارك بعض الخسائر السياسية، في علاقاتها الدولية تستطيع أن تشتري صمت البعض، بالمال أو بالمواقف السياسية، أو بالابتزاز ولغة التهديد بالعقوبات الاقتصادية، ولكن حتى هذا له حدود معينة، فلم تنجح من حمل فرنسا وألمانيا على المشاركة في الحرب على العراق، كما أنهم لم ينجحوا في استحصال قرار من مجلس الأمن بشن العدوان.  الخسائر الاقتصادية تمكنوا من تدارك جزء منها بالاقتراض الداخلي، وإرغام حلفاؤها من دفع أموال الحرب، كما تمكنوا من تخفيف بعض الخسائر بالأرواح، بنكران الخسائر واعتبارها حوادث طرق، أو خارج ميادين القتال، أو نتيجة أخطاء تكنيكية، وفي الحرب على العراق اكتشفت بدعة جديدة، وهي أنها تقبل مجندين أجانب على أمل منحهم الجنسية لاحقاً، أو البطاقة الخضراء للإقامة (Green Card)، أو تأسيس شركات قتالية تقبل مرتزقة، ولا تعتبرهم في عداد القوات المسلحة، وبالتالي ضمن خسائرها.

ولكن لكل شيئ حدود، فحين يبلغ الاقتراض الداخلي حداً يعتبر غير مقبول، فبعد أن كانت كلفة الحرب شهريا 4.4  مليارات دولار سنة  2003، ارتفعت عام 2008 لتصل 12 مليارا شهريا. والاقتراض تسبب أن يتصاعد الدين القومي الأمريكي ليبلغ 14 ترليون دولار، وأعتبر أن ما نسبته 7,5% من الديون إنما هي سبب مباشر ومن نتائج الحرب على العراق. كما أن الخسائر بالأرواح لا يمكن تغطيتها إلى الأبد، فهناك جمعيات مدنية للمعاقين بسبب الحروب والمصابين بأمراض عصبية، وجمعيات المحاربين القدماء، التي لا يمكنها تزوير الحقائق واختزال أعداد القتلى، وبالإضافة إلى مجاميع من العسكريين من مختلف الرتب، أدركوا أنهم كانوا في مهمات إجرامية قتل وسلب وسرقة ليس إلا صاروا يبوحون بنا تختزن ذاكرتهم المريضة.

الولايات المتحدة تكابر، تنكر، ولكن في عالم ثورة الاتصالات والإعلام، لم يعد بالإمكان إخفاء الجرح الغائر عميقاً، أو إنكار الحقائق الساطعة، أن العراقيون ألحقوا هزيمة تاريخية بالولايات المتحدة. هزيمة مريرة هذه هي الحقيقة، ومن نتائج حرب العراق أن مكانة أميرا تراجعت على كافة الأصعدة، وبدت خسارتها لموقعها الدولي واضحاً

فقرار الانسحاب من العراق ومن أفغانستان ينطوي في جوهره على معان سياسية :

1. التسليم بخسارة الهدف العسكري والسياسي.

2. تقلص خيارت دوائر القرار إلى خيار واحد وهو : الانسحاب.

3. قبولها الحوار مع العناصر التي فشلت في إزالتها عن مسرح الصراع المسلح.

 

تقلص هامش الخيارات الأمريكية بات معروفاً حتى لحلفاءها المقربين، وحتى من ضمن عائلة الناتو، أن الولايات المتحدة عجزت عن طرح بدائل لما تصدت له بالقوة، وهذا الفشل ساطع في العراق وأفغانستان، وأما في فلسطين فالفشل شامل وكامل ومتواصل، فهي(الولايات المتحدة) لم تستطع منذ عام 1948 أن تبلور موقفاً ( متساهلاً ) يؤدي لإقامة سلام دائم، لأنها عاجزة عن كبح جماح حليف شره شرس لا يتراجع عن سياسية التوسع.

وعسكرياً، فالبرغم  من قدرات أميركا اللوجستية الهائلة (تنقل واسع النطاق على مستوى العالم) تتيح لها إمكانية إجراء مناورات بالقطعات، إلا أن تعدد مسارح العمليات وتنوعها طبيعة الصدامات الواقعة أو المحتملة، أشارت لعجز ليصعب تلافيه. في مشهد يعلن فشل الولايات المتحدة في حل أزمات بؤر التوتر عبر العالم، وهذا يعني بجلاء تناقض أهدافها مع إرادة وأهداف شعوب العالم.

وفي حرب العراق مورست هذه السياسة بشكل مكثف ومتنوع أكثر من ذي قبل بكثير، إذ ضغطت السياسة  الخارجية الأمريكية بتأثيراتها على أجهزة الإعلام في العالم، بما في ذلك أجهزة الإعلام في الوطن العربي بعدم نشر أنباء عن فعاليات المقاومة العراقية ضد الاحتلال في العر ق، فحاولت جهد إمكانها التقليل من شأنها، وعدم نشر الأنباء عن عملياتها والخسائر الأمريكية، والغاية هي عزل المقاومة العراقية من محيطها العراقي والعربي. ومحاولة بائسة لإخفاء حقائق الموقف في العراق، وأن خسائرها الحقيقية (الاقتصادية والسياسية) هي أضعاف ما أعلن عنه رسمياً (نحو 5500 قتيل)  فالخسائر الحقيقية هي أكثر 33,000 قتيل، وبالطبع أضعافهم من الجرحى والمعاقين.

وبالاستعانة بجملة من الحقائق والإحصاءات التي أجرتها مؤسسات ومعاهد بحث أمريكية غير حكومية أو شبه رسمية، في إطار حسابات الخسائر الأمريكية، ومن خلال تفاوتها الطفيف أو الكبير، نتأكد من حقيقة واحدة، أن المصادر الرسمية الحكومية لم تكن صادقة بنشرها الأرقام والمعطيات. وهذا بالطبع له هدف واحد وهو إخفاء أبعاد الهزيمة المنكرة التي تلقوها في وادي الرافدين.

 وفي مقدمة هذه المصادر تقرير لجنة بيكر ــ هاملتون وهو أول تقرير أميركي محترف رصين تضعه لجنة مستقلة من الكونغرس استعانت بـ183  خبيرا عسكريا ومدنيا، وتعترف لأول مرة بأن معدل الهجمات في أكتوبر/  تشرين الأول 2006 قد بلغ 180 هجوما يوميا وبخسائر 102 قتيل لنفس المدة.

وفي الإطلاع على تقرير أميركي آخر لا يقل أهمية يشير إلى حجم آخر من الخسائر، وهو تقرير مكتب المحاسبة الأميركي (G. A.O) الصادر بتأريخ 23 يوليو/  تموز 2008 عن الحرب في العراق، وينص التقرير على إجمالي الهجمات التي نفذتها المقاومة العراقية بـ  164  ألف عملية قتالية أعتبرها التقرير مهمة وعنيفة) مع إشارة في نفس التقرير إلى أن هذه الأرقام لم تشمل الهجمات شرق وجنوب البلاد).

إذا أضافنا 300 جندي أميركي قتلوا خلال فترة الحرب (لغاية أبريل/ نيسان2003 ) وكذلك القتلى من مرتزقة الشركات الأمنية البالغ عددهم  1315، يكون الرقم الإجمالي لقتلى الجيش الأميركي في العراق  32000 + 1615  = 33615 قتيل حتى  2008، يضاف لهم نحو 40 ألف معاق، ولا تذكر المصادر الرسمية الأمريكية أرقام دقيقة لعدد القتلى الذين قتلوا  "في حوادث غير قتالية "  كما تذكر التقارير الأمريكية غالباً، أو المنتحرين أو عدد الجرحى الذين ماتوا في المستشفيات الألمانية والذين لا تنص التقارير الرسمية الأمريكية على اعتبارهم  قتلى في قوائم خسائر الحرب.

ولا تقل الخسائر المادية أهمية في الحسابات النهائية، إن لم تكن أكثرها أهمية لا سيما في بلد يعد متربول الرأسمالية العالمية، كالولايات المتحدة الأميركية، حيث تعتبر الأرباح أو الخسائر مقياساً للعمل السياسي والاقتصادي. وفي بلد يلعب فيه الموقف في السوق في مقدمة الاعتبارات، فبعد أن كانت كلفة الحرب شهريا 4.4  مليارات دولار سنة  2003، ارتفعت عام 2008 لتصل 12 مليارا شهريا.

العبرة والاعتبار :

أن الولايات المتحدة تتمتع بتفوق في القوى ليس موضع جدال، ومن العسير أن تبلغه قوى أخرى منافسة لها أو حليفة. إلا أنها منيت بهزيمة منكرة في حرب العراق، وأفغانستان، بعدها ستقلع الولايات المتحدة من لعب دور الدركي العالمي. نعم ... الولايات المتحدة تمتلك وسائل نقل الحرب حيث يشاءون، بإمكانهم إقامة واستخدام عناصر ردع هائلة، وربما بوسعهم كسب حروب تقليدية، وبوسعهم إنزال ضربات مدمرة، يمتلكون روح وحشية تقتل عشرات ألاف الأطفال والنساء عمداً مع سبق الإصرار والترصد، ولكن وقد غدا من الأكيد المؤكد أن الولايات المتحدة لا تستطيع أن تقدم حلولاً سياسية محترمة، لأزمات عميقة.  ذلك أن الولايات المتحدة لا تمتلك صورة مشرقة تريده أن يحل بدل صور وطنية. الولايات المتحدة لا تمتلك أفكاراً ولا أنماطاً صالحة للتصدير. كل فكرة تصدير ثورة أو نظام أو أنماط حكم هي فكرة بائسة من أساسها، من نابليون، إلى نظام ملالي طهران، إلى الديمقراطية الأمريكية، وفي النهاية فليست هذه العناوين سوى شعارات لتبرر التوسع والاستحواذ والهيمنة السياسية والاقتصادية.

 

 

 

 

 

الكحال، طب

 العيون عند العرب

 

د. ضرغام الدباغ

 

صديقي وأخي العزيز ... الكحال العربي ... الأستاذ في طب العيون الدكتور نشأت متري حمارنة،  رغم بلوغه شأوا كبيرا في عالم طب العيون، إلا أنه كان يكتب ويصرح " أين أنا من أسلافنا الكحالين العرب الذي أسسوا علم طب العيون ونشروه في العالم ". وطبيباً بريطانيا يعالج عين أحد المرض العرب في لندن، ويقول له " لماذا تأتي إلى لندن وعندكم نشأت حمارنة ...! " . نشأت حمارنة نجم المؤتمرات العلمية العالمية لطب وجراحة العين، الكحال العربي، العالم الكبير، الشديد التواضع، والمناضل دون استراحة من أجل إعلاء مجد أمته العربية.

 

ليس هذا بغريب عن نشأت حمارنة الذي أنظم للعمل القومي العربي وناضل دون هوادة منذ مطلع الخمسينات في صفوف البعث العربي الاشتراكي، كان يبحث ويجمع، وقد يقطع مسافات بعيدة ليطلع على حالة، أو ليحص على كتاب. وله أصدقاء على امتداد الوطن من موريتانيا وإلى البحرين، ومن الموصل حتى عدن. كان يعشق أثنين فقط : البعث العربي الاشتراكي، وطب العيون.

 

لذكراه التي لا تغيب ... أهديه هذا البحث، فقد كان في بالي في كل سطر أكتبه ..... عزيزي ورفيقي نشأت لروحك الطيبة الرائعة هذا العمل المتواضع ....مع عميق الاحترام والود ...!

 

                                      ضرغام

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

يشير مصطلح الطب الإسلامي العربي إلى مهنة وعلم الطب الذي تطور في العصر الذهبي للإسلام، والذي كتب بلغة عربية، حيث تأسس الطب الإسلامي نتيجة تفاعل الطب العربي القديم بعلوم وطب الحضارات الأخرى، ثم جاءت الترجمات للكتب الطبية من اللاتينية كعامل رئيسي في نشأة الطب الإسلامي، ثم كان للترجمات اللاتينية للأعمال العربية دورها في تطور الطب عالميًا في فترة نهاية العصور الوسطى.

 

(مستشفى عربي يرجح في العصر الوسيط)

 

امتاز المسلمون بالتزام المنهج التجريبي، سواء كان ذلك في التأليف والبحث، أو في التطبيق والممارسة المهنية، فلم يكتفوا فقط بالخبرات العملية وما توارثوه عن الأوائل، وإنما أضافوا أيضًا مهارات التشريح وكذلك علم وظائف الأعضاء، كما استخدموا منهج التشخيص، أيضًا بأسلوب العلة والمعلول وتجريب الأدوية، وفي هذا الموضوع نبذة عن تاريخ طب العيون في الحضارة الإسلامية. البصريات وطب العيون في الحضارة الإسلامية.

 

وكان للعلماء العرب تطويرهم لطب العيون ومن أبرزهم العالم ابن الهيثم هذا التصور، وأثبت خطأ بعض النظريات الاغريقية  باستخدام جهاز بصري، كما أعانه تشريح ابن الهيثم العين على تأسيس نظريته الجديدة عن تكون الصورة والرؤية، حيث وضحها عن طريق إسقاط أشعة من الضوء داخل وسطين مختلفين في الكثافة، وبذلك أثبت صحة نظريته بإجراء التجارب المعملية.

 

وفي القرون اللاحقة نقل كتاب العالم العربي أبن الهيثم "المناظر" إلى اللغة اللاتينية، وبقي يدرّس لطلاب طب العيون طيلة تاريخ العالم الإسلامي، وفي أوروبا أيضًا حتى القرن السابع عشر، كما درس وشرح المسلمون أيضًا عيون الحيوانات، وقد اكتشفوا منها أن حركات مقلة العين تنتج عن انقباض في عضلات العين، في حين أن حركة الحدقة ناتجة عن انقباض وانبساط في القزحية، وهكذا تميز تاريخ طب العيون في الحضارة الإسلامية عن غيره.

 

كانت الجراحة العينية مهمة في تاريخ طب العيون في الحضارة الإسلامية، بهدف علاج بعض أمراض العين المستعصية، مثل الرمد الحبيبي وإعتام عدسة العين، فكان الأطباء يقومون بهذه الجراحات باستخدام جهاز لإبقاء العين مفتوحة أثناء إجراء العملية، مع مبضع دقيق جدًا، يستأصل الأجزاء المثلثة الشكل على القرنية. وقد كانت تلك الجراحة تُجرى برفع الجزء المصاب باستخدام خطافات دقيقة، وكانت هذه العمليات مؤلمة للغاية للمرضى، كما أنها معقدة بالنسبة للجراح ومساعديه، حيث اعتبر الأطباء المسلمون إعتام عدسة العين مرضًا ناتجَا عن خلل في الغشاء السائل الذي يملأ بين العدسة والبؤبؤ، حيث تجرى بعمل شق دقيق في بياض العين، ثم إدخال أنبوب رفيع لإزاحة الإعتام جانبًا، ثم تغسل العين بعد الانتهاء بمحلول ملحي، كما تضمد بقطعة قطن مغمورة في محلول زيت الورود الممزوج ببياض البيض.

 

 

(طبيب العيون العربي أبن الهيثم)

 

تاريخ طب العيون في الحضارة الإسلامية كان طب العيون من التخصصات القديمة في تاريخ طب العيون في الحضارة الإسلامية، حتى أن طبيب العيون كان عضو الشرف في مهنة الطب زمن الدولة العباسية، وقد احتل مكانة مرموقة في المجتمع، وقد اهتم العلماء المسلمون في القرون الوسطى بالجمع بين تحصيل العلوم النظرية والممارسة العملية، وتشمل صناعة الأدوات الجراحية الدقيقة، ووصل عدد الأدوات الجراحية المستخدمة في جراحة العيون إلى العشرات آنذاك، وكان من ضمن بعض الأدوات ما سمي "إبرة الحقنة"، والتي ابتكرها عمار بن علي الموصلي، حيث استخدمت كأداة استخراج وشفط سائل العدسة المعتمة أو السّاد من العين، وقد كانت هذه عمليّة شائعة.

 

وهكذا اشتهر الأطباء المسلمون في طب وجراحة العيون خاصة، وذلك اعتمادًا على ما تركه ابن الهيثم من أعمال ومؤلفات، حيث يقول تشارلز سنجر: "إن كتاب المناظر في البصريات متطور جدًا عن كتب وعلوم اليونان، وليس له مثيل أبدًا بين مؤلفات اليونانيين كافة".وقد كان المسلمون في تاريخ طب العيون في الحضارة الإسلامية يسمون طب العيون بـ "الكحالة"، ويسمى المشتغلين به الكحّالين، وقد ترجم المسلمون ما وصلهم من أعمال في علم الكحالة من حضارات الهند واليونان والروم، ولكن عملوا على تطوير أشكال من العمليات لم يأخذوها عن غيرهم؛ فقد احترفوا في سحب المياه الزرقاء من العين، رغم ما يكتنفها من الصعوبة حتى اليوم، ومع ذلك فقد كانت نتائج هذه العمليات مضمونة إلى حد كبير، كما ابتكروا عمليات جراحية لسحب المياه البيضاء أو الساد، واخترعوا لها ست طرق، حيث كانت تتم بواسطة الشفط، وابتكروا لذلك أنبوبًا زجاجيًّا دقيقًا يدخل في مقدمة العين، ويفككون به العدسة المعتمة، ثم يتم شفطها، وقد كانت هذه الجراحة هي أحدث الجراحات لعلاج الساد في ذلك الحين، ورغم الفرق في المعدات، فقد كان هناك شبه كبير بين تلك العملية والعمليات التي تجرى في العصر الحديث .

 

 

طب العيون في الحضارة الإسلامية، لم توجد في البداية طريقة واحدة معينة للتدريب، كما لم توجد تخصصات رسمية في مختلف مجالات الطب، لكن الأطباء كان كل واحد منهم أقرب للتخصص في مجالات معنية أكثر من غيره، من خلال خبرته وشهرته في معالجة بعض الأمراض أو بعض الجراحات، ورغم ذلك كان من المهم للطبيب أن يطلع على أعمال وخبرات أسلافه، مثل كتاب "تحوير العين" من تأليف يوحنا بن ماسويه، الذي يبدو أنه أقدم عمل متخصص في طب وجراحة العيون، ثم أعمال حنين بن إسحاق المعروف في العالم الغربي بكتابه "أطروحات العين العشر".

 

في وقت لاحق من تاريخ طب العيون في الحضارة الإسلامية لم يعد يُسمح بامتهان الطب إلا بالنجاح باجتياز فحص في كتب التخصص المعتمدة في ذلك الحين، للتأكد من سَعَة اطلاع الطلاب النظرية والخبرات العملية في الطب، وذلك للوثوق بمهارتهم وقدرتهم على التشخيص الصحيح والعلاج، وعلى سبيل المثال فقد روى ابن أبي أُصَيْبعة في كتابه "عيون الأنباء" بأن الخليفة المقتدر بالله 295 - 320 هـ / 907 - 932 م العباسي قد عهِد سنة 319 هـ / 931 م إلى الطبيب الكبير سنان بن ثابت بامتحان طلبة الطب في بغداد، بعد حادثة وفاة أحد الناس بسبب جهل وقلة خبرة أحد الأطباء، حيث حدَّد لكلِّ تخصص ما يصلح له، وقد بلغ عددهم في مدينة بغداد وحدها جوالي ثمانمائة طالب، عدا عن مَن استُغني عن فحصه باشتهاره بالاحتراف فيها.

 

إسهامات المسلمين في طب العيون أنتج الأطباء المسلمون العديد من الأعمال في تخصص طب العيون وجراحتها ومعالجتها عبر تاريخ طب العيون في الحضارة الإسلامية، وكان من أشهر تلك الكتب في الكحالة: "عشر مقالات في العين" لحنين بن إسحاق، ويعد نقطة البداية في علم الكحالة، كما تطورت كتب الكحالة بواسطة اثنين من أكثر الكحالين شهرة، وهما أبو القاسم عمار بن علي الموصلي 400هـ / 1010 م  وعلي بن عيسى الكحال 430هـ / 1039 م، فالأول كان خبيرًا في طب وجراحة العيون وكان من أكثر أطباء العيون إبداعًا، كما ألّف فيها كتابه المسمى "المنتخب في علاج أمراض العين"، حيث اشتغل بمهنته في القاهرة، والثاني فقد اشتهر بحذقه في مهنة الكحالة وأيضًا بكتابه الشهير "تذكرة الكحالين"، وكذلك كتاب "رسالة في تشريح العين وأمراضها الظاهرة وأمراضها الباطنة"، حيث اشتغل بمهنته في بغداد، ويعده بعض المؤرخين الغربيين بأنه أكبر طبيب للعيون في العصور الوسطى، حيث ترجم كتابه إلى اللاتينية.

 

 

ومن المراجع الأخرى الشاملة في أمراض العيون في تاريخ طب العيون في الحضارة الإسلامية كتاب الطبيب صلاح الدين بن يوسف الكحّال "نور العيون وجامع الفنون" الذي ألفه حوالي سنة 697 هـ / 1297 م، ويعد أكبر مرجع شامل في طب العيون، كما اشتمل على فصول في وصف العين والإبصار، وأخرى لأمراض العيون وأسبابها وأعراضها، وكذلك نصائح للحفاظ على صحة العيون، بالإضافة لذكر أمراض الجفون والقرنية والحدقة، وأنواع الأدوية المستخدمة لعلاجها، وأما أفضل عالم كتب عن العيون في الجانب الفيزيائي فهو بن الهيثم 430 هـ / 1038 م، حيث تميز وصف العين بدقة، كما كتب وبحث في أمور البصريات وطبيعة البصر، وقال: "إن الضوء يدخل العين ولا يخرج منها، وأن شبكية العين هي مركز الرؤية، ويتم نقلها إلى الدماغ عبر العصب البصري، وأن وحدة الرؤية بين كلا العينين ناتج عن تماثل الصور المسقطة على الشبكيتين

قد لمع الأطباء المسلمون في طب وجراحة العيون بالأخص، معتمدين على ما خلفه ابن الهيثم في هذا المجال من أعمال ظلت مرجعًا في هذا المجال حتى بداية العصر الحديث.

يقول تشارلز سنجر:"كتاب ابن الهيثم المناظر في علم البصريات متقدم جداً عن علم اليونان في هذا الموضوع، وليس له نظير قط بين مؤلفات اليونان جميعاً"درس أيضًا المسلمون أعين الحيوانات، وعرفوا منها أن حركة مقلة العين سببها انقباض عضلات العين، أما حركة الحدقة فسببها انقباض وانبساط القزحية. وقد وضع علي بن عيسى الكحال كتابًا سماه "رسالة في تشريح العين وأمراضها الظاهرة وأمراضها الباطنة"، ترجم إلى اللاتينية، وكان له أثره على علم طب العيون في أوروبا في العصور الوسطى. كما وضع صلاح الدين بن يوسف الكحال كتابه "نور العيون وجامع الفنون" الذي يعد أكبر مرجع جامع في أمراض العين، واشتمل على وصف العين والإبصار، وأمراض العين وأسبابها وأعراضها، وكيفية الحفاظ على صحة العين، إضافة إلى الأمراض التي تصيب الجفون والملتحمة والقرنية والحدقة، والأدوية المستخدمة في علاجها.كان للجراحة أهميتها في علاج أمراض العين المستعصية كالرمد الحبيبي وإعتام عدسة العين. ومن المضاعفات الشائعة لمرض الرمد الحبيبي إصابة أنسجة في قرنية العين، وقد اعتقد الأطباء المسلمون أن تلك الإصابة هي سبب المرض، لذا لجأوا إلى كحت تلك الأنسجة جراحيًا. كانوا يقومون بتلك الجراحة عن طريق "استخدام جهاز يبقي العين مفتوحة خلال الجراحة، ومبضع رقيق جدا للاستئصال" تقنية أخرى كانت تستخدم لعلاج مضاعفات الرمد الحبيبي، تسمى "الظفرة" (بالإنجليزية: pterygium)‏، كانت تستخدم لإزالة الأجزاء الثلاثية الشكل من الملتحمة البصلية على القرنية. كانت تلك الجراحة تتم عن طريق رفع الجزء المصاب بخطافات صغيرة، ثم القطع بمبضع صغير. كانت كلتا الجراحيتين مؤلمتين للغاية للمرضى ومعقدة التنفيذ بالنسبة للطبيب أو مساعديه.اعتقد الأطباء المسلمون أن إعتام عدسة العين ناجم عن الغشاء السائل الذي يقع بين العدسة والبؤبؤ. تتم الجراحة بإجراء شق صغير في بياض العين بمبضع، وإدخال أنبوب دقيق لدفع إعتام العدسة جانبًا. وبعد انتهاء الجراحة، تغسل العين بمحلول ملحي، وتضمد بقطعة من القطن غمست في محلول من زيت الورود وبياض البيض. كان هناك قلق من أن يعود الإعتام من الجانب ليعتلى العدسة مجددًا بعد العملية، لذا كان ينصح المرضى بأن يستلقوا على ظهورهم لأيام بعد الجراحة.

 

(الصورة : تشريح العين في المصادر الطبية العربية)

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصادر

هناك بحوث وكتب كثيرة عن بواكير الطب العربي، وطب العيون، وقد أعتمدنا على مصدرين من أكثر المصادر رصانة.

المركز العربي الألماني

برلين

المراسلات :

Dr. Dergham Al Dabak : E-Mail: drdurgham@yahoo.de

على حافة النهاية

 

ضرغام الدباغ

1

مؤشرات وبداية

في أواسط الشهر التاسع أيلول/ سبتمبر، وأنا عادة أستعد لأشهر الخريف، فالخريف يعني فيما يعنيه، أن الحياة ماضية في التجديد، ومؤشرات الرحيل ظاهرة بدرجات متفاوتة، فالأشجار حتى المعمرة منها، الباسقة والقوية منها، أزف وقت رحيلها، فتنفض أوراقها الصفراء الذابلة، التي حان وقت سقوطها، تتوهج صفراء منذ أسابيع ولكنها لا تتساقط بسهولة، بل وحتى في رحيلها تمنح الحدائق في المدن والغابات منظرا جميلاً، وبالنسبة لي، معظم الاحداث المؤسفة حدثت في الخريف.

 

وهذه المرة في خريف 2023 كنت في اسطنبول والأمر ابتدأ معي بألم في الجانب الأيسر من الرأس، حسبته في اليوم الأول على أنه مجرد صداع، ولكن في الأيام اللاحقة والصداع يلازمني ولا يزول، ولا يزيد بشدته، فالأمر على الأرجح شيئ آخر .... فما هو الشيئ الآخر ...؟ كان هذا المؤشر الأول وصفارة الإنذار التي لم نتعامل معها بما تستحق من الأهمية، رغم أني كنت قد قرأت منذ وقت بعيد، أن كل ما يصيب الأنسان بعد الأربعين من العمر، عليه أن يأخذه مأخذ الجد والاهتمام ... فأربعون عاما من العمل المتواصل دون لحظة استراحة شيئ يستحق الانتباه، القلب ينبض والدماغ يستقبل ويبعث بمؤشرات، هذا غير أعضاء مهمة تعمل على أفضل ما تكون عليه التكنولوجيا .... الكبد والكلى، والرئة، والمحرك الكبير ... القلب ... أنها تكنولوجيا دقيقة للغاية، ولكن ليس هناك شيئ أبدي

 

توفي جدي وهو في حوالي المئة من العمر، بسرطان في الدماغ، وتوفي والدي بسرطان الدماغ ايضاً، إذن فليس من المستبعد أن يصيبني نفس الشيئ، وأنا في الثامنة والسبعين من العمر، (فأنا من مواليد 6 / تموز ــ يوليه / 1944) ووالدي أصيب وهو السبعينات من العمر، ولكني اذكر أني حين قرأت مذكرات والدي بعد وفاته (كان يواظب على كتابة يومياته منذ شبابه وحتى وفاته) ، فوجدت أن مستوى خطه يتراجع بشكل ملحوظ، وهو صاحب الخط الجميل الأنيق .. حتى أصبح خطه قبل وفاته مجرد خربشات لا تكاد تفهم، ثم كفت قدرته نهائيا وتوقف قبل وفاته بأشهر عن القدرة على الكتابة. ولكن مستوى خطي انا لم يتأثر باللغتين العربية والألمانية، لذلك استبعدت أن أكون مصابا بالسرطان، ولكن مع ذلك فالأمر يستبعد أن يكون شيئاً بسيطاً وعابراً .

 

ولكن حدث يوم ( 18/ سبتمبر) أن سقطت على الأرض، واستبعدت زوجتي أن يكون الأمر بسيطاً لذلك قصدنا مستشفى تركي، ولكني بدأت أتحسن في اليوم الثاني والثالث حتى بدون تناول علاج، ولكن لا خلل ملحوظ في حركة الساق واليد،، لذلك صممت على الخروج من المستشفى، وكانت زوجتي مضطرة للذهاب إلى برلين، لذلك سافرت على عجل (7 / نوفمبر) على ان ألتحق بها بعد أيام بحسب توفر بطاقة السفر(تمكنت من الحجز ليوم 16 / نوفمبر). وفي يوم 8 نوفمبر تفاقمت حالتي الصحية بحيث فقدت القدرة على النطق، وتحريك رجلي اليمنى، وذراعي الأيمن بدرجة شبه كلية، وفي 9 / نوفمبر لم أكن أستطيع أن أتكلم مع زوجتي في الهاتف فلم يكن بوسعي تلفظ كلمة واحدة بالعربية أو بالألمانية، أدركت زوجتي في الهاتف من برلين أنني في وضع محرج، فأسرعت بالقدوم بطائرة الفجر من برلين يوم الخميس (10 / نوفمبر) .

 

توصلنا لأسباب وجيهة إلى ضرورة السفر لبرلين، وتمكنا فعلاً ولو بصعوبة إيجاد مقاعد على طائرة الظهيرة (هناك 5 طائرات يومية من إسطنبول لبرلين يومياً) يوم السبت 13 / نوفمبر. وكانت مجازفة بدرجة معقولة ان نتعرض لجلطة جديدة اٌقسى من الثلاث السابقات، وقد تكون القاضية.

2

في برلين / مستشفى الشارتيه

على كل حال وصلنا برلين بعد ساعتان ونصف من الطيران، وبدا أن المحنة وضعت في طريق الحل، وأخذت من كرسي الدفع من باب الطائرة إلى سيارة تاكسي ومن باب المطار إلى البيت، وفي الطريق سألتني زوجتي، كيف سنصل إلى البيت / الشقة، وفي باب العمارة، أقترح سائق سيارة التاكسي الشاب التركي أن يساعدني بالوصول إلى الشقة ... يا له من اقتراح أخوي جميل، وفي اليوم التالي 14 / نوفمر بدأت الاتصالات عبر الهاتف، طبيبي العائلي أحيط علما وأرسل خطابا بواسطة البريد الالكتروني إلى إدارة مستشفى الشارتية (Charite) التي طلبت منا الحضور الفوري، وخلال دقائق كانت سيارة إسعاف مع طبيب اخصائي وممرض مختص في البيت وعاتبونا على التأخير ....!

فورا إلى الشارتية، وهي عبارة عن قلعة طبية، لها شهرة عالمية بجميع أقسامها، ومباشرة إلى قسم الجملة العصبية (Neurologie Abteilung)وبدون تأخير شخص الإصابة بعد تصوير شعاعي (CT Scan) جلطتان خفيفتان، وثالثة قوية، والأمر بحاجة إلى تدخل فوري وسيتم خلال دقائق.

لم أكن بوارد الرؤية والسماع وتشخيص ما يدور، ولكن شعوراً قويا كان يملأ كياني أنني بين أيدي خبيرة، لاحقا أخبرتني زوجتي، أن كبيرة الأطباء في المستشفى كان تقف فوق رأسي، وتسرع بنفسها لأخذي إلى قسم الاشعة، ثم تأخذ نتائج التحاليل والتهيؤ للعملية بنفسها تدخل وتخرج في غرف القسم، وهي تخفف من وقع الأمر على زوجتي، وقالت لها " أنظري يا سيدة الدباغ .... زوجك بحالة خطرة، فهو مصاب بثلاث جلطات، وجمجمته مليئة بالدم ..والخيارات أمامنا ليست كثيرة، وسنجري له عملية فوراً ستستغرق 6 ساعات، وسأفعل المستحيل لإنقاذه، ولكني أصارحك أن احتمال نجاح العملية هو 75% ، ولكني سأنجح ..... سأنجح... وسأعيده لك حياً ..."

أما أنا فكنت في عوالم أخرى، لا علاقة لها بالجلطات الدماغية، عوالم لا أختارها بنفسي، ولاأختار شخوصها، بل هي تفرض نفسها، صحيح أسمع كلمات، ولكني دماغي عاجز عن ربطها وتجميعها، فأنا لا أفهم ما يدور بدقة حولي، ولا أستطيع التفوه ولو بحرف واحد ....! ولكن دماغي المجروح والمتعب ما زال يطلق إشارات عدم الاستسلام ... يفكر ....! ويعانق من يريد .. البعيد عني 12 ألف كيلومتر. ليس ببعيد كثيراً ... آه منك ... فأنت أينما حللت في دمي ..!

كانت العينان تعملان بدرجة معقولة، ولكن تسجيل الاحداث في الذاكرة يبدو ضعيفاً، كنت أشاهد ما هو يقع تحت ناظري، ولكني لست متأكداً من قدرتي على تخزين المشاهد وربطها ببعضها واستخراج الصورة المنطقية، وكنت أعرف انني في الشارتيه، وأنهم يدخلوني في غرف ومختبرات، ويفحصون كل شيئ، وأسمعهم يحدثون زوجتي ويسألونها كثيراً، ولكن قدرتي على تخزين (save) ما اسمع ضعيفة جداً، أو لنقل معدومة، ولكن زوجتي تحفظ كل شاردة وواردة، وبوسعها استعادة شريط الاحداث صورة وصوت بدقة عجيبة ..

 

شعرت أنهم يأخذوني على السرير النقال إلى مكان ما، الطبيبة البروفسورة تدفع السرير بنفسها ...! ومعها زوجتي ..، قالت لي فيما بعد " كنت أشعر أنهم يسابقون الزمن .." أدخلوني لمكان ما .. شاهدت رجلاً يجلس على طاولة وكومبيوتر .. حاول أن يمازحني .. ولكني كنت مجرد كومة لحم لا غير .. لم أفهم بدقة مرامه، ربما أراد أن يبعث في هذه الكومة بعض الأمل .. كان يكلمني وهو لا ينتظر مني إجابة، حتى دخولي غرفة العمليات (في تلك اللحظة لم أكن أفرق بين هذه وتلك) كنت أسمع صوت زوجتي تحدث الفريق الطبي، بقيادة البروفسورة الطبيبة التي لعبت دورا كبيرا في إعادتي للحياة ... ثم لم يعد بوسعي سماع أو رؤية شيئ، دون ألم ودون إحساس دقيق مما يجري ...ولكني كنت أعرف من أنا وتذكرت في تلك اللحظات صور أهلي ووطني، ومرت في ذاكرتي المنهكة صور أخرى متلاحقة ... كنت أني على شفا النهاية ولم يكن بوسعي تحريك أي جزء من جسمي ... ربما زرقت بعدة أبر ... لا أدري ... ثم لا شيئ.....

 

كان معرفة الزمن قد أصبح ضربا من العبث، أو معرفة ما يدور بدقة، ويصح القول تماماً أني كنت لستة ساعات خارج الحياة ... وأنا أسجل الكثير مما دار بناء على ذاكرة زوجتي، والغريب أنها تتذكر كل شيئ بدقة تامة نص الحوارات .. وحتى ملامح وجهي و... تقول أنني كنت أحاول الحديث فلا أقدر .. أريد أن أقول شيئاً ولكني غير قادر على لفظ الكلمات .. وأحاول ذلك مرات ومرات ... تقول " كنت أشعر انك تتعذب، لأنك تريد قول شيئ ما قد يكون مهماً بالنسبة لك، ولا تقدر ..! فينتابك الغضب والعصبية ... وتجهش هي بالبكاء ... كنت أسكت أنا رأفة بها وبنفسي ...فأخاطب نفسي " ضرغام ... كنت عاقلاً وأفهم ما أنت فيه.. ومت بجلال قدرك ". ولكني أريد قول بضعة كلمات هي خلاصة حياتي .. ولكني عاجز عن التلفظ .. هو شعور مؤلم أكثر من الألم نفسه ...كنت أريد القول " بلغوا سلامي .. ومحبتي واحترامي ...أنا لست آسفا على شيئ ... سأقابل أصدقائي ورفاقي .. الذين قضوا في سوح العمل .. اريد أن أعانق (ع) وأقول له ... " لقد بقيت مخلصاً لأخر ثانية من عمري ..! سأموت وأنت وأسمك فمي وقلبي ... ولكن ليس بوسعي ان أنطق حرفا واحداً .... هذا هو الألم وليس شيئاً آخر ...!

 

في لحظة معينة .. ليس بوسعي ان أسجل ..ظروفها، حاولت أن أقرأ في نفسي شيئ من القرآن .. ولكني كنت اتوه بين الكلمات .. وكان ذلك يؤلمني... أحاول أن أستوعب ما يجري بالنظر إلى الغرفة / الصالة وبوسعي أن أتذكر أني وجدت نفسي في غرفة مليئة بالمعدات الطبية / الالكترونية، التي تقدم قراءات، وإضاءة خافتة من أجهزة كثيرة تحيط بسريري .... وأمامي نافذة أدركت أنها تمكن من يريد رؤيتي من غرفة مجاورة .. أدركت أنها إذن أنها ربما غرفة العناية المكثفة (Intensiv Station) في لقطة لا أتذكر متى وكيف وأين ... اقتربت زوجتي مني وقالت لي " ضرغام، أجروا لك عملية وأنت الآن في العناية المركزة " قالت لي فيما بعد، أنها قالت للمشرفين " دعوني اراه لثوان فقط أنا أعرفه أفضل منكم، سيغضب وينفعل ما لم يدرك ماذا يجري ويدور " فتركوها أن تقف امامي على بعد ثلاثة أو أربعة أمتار، تلفظت بهذه الكلمات فقط وانسحبت ... حتماً كان الوقت قد تجاوز منتصف الليل، نحن الآن في 15 / نوفمبر، حتماً ... برؤية مفككة أرت أن أقول لها مشفقا عليها من التعب، " أذهبي للبيت ...". ولكني كنت عاجزا عن إخراج الكلمات ..

 

وكنت قد قلت لزوجتي بكلمات متناثرة، حين كان ما يزال بوسعي تلفظ ذلك ولو بتعثر بالنطق " أنظري .. أنا الآن في 78 من العمر ... ثقي لقد شبعت من الحياة، في العمل وفي النضال من أجل ما آمنت، وإن مت فأنا لم اسيئ لبشر في حياتي، وعملت بكل طاقتي لوطني وشعبي، ولكني أريد أن أعيش من أجلك ... أشعر أنك بحاجة لي "

 

قالت لي زوجتي فيما بعد " كنت أتمنى من الله أن تبقى حياً، ولو في حالة الشلل التام، وعدم القدرة على الحديث، .. أن تبقى على قيد الحياة فقط ... ضرغام لا تمت رجاء ...!".

لم اكن أستوعب بدقة ما تقول، ولكني لاحظت أنبوبا يمتد من رأسي حتى أعلى صدري بلون أحمر أدركت أنه مليئ بالدماء، وبصعوبة تشكلت صورتي على النافذة الزجاجية .. أنا راقد على السرير، ولفافة ليست كبيرة تربط جمجمتي، وخرطوم مطاطي يتدلى من الجانب الأيس، وحين حاولت بيدي اليسرى السليمة أن ألمس رأسي، أدركت أن هناك أنبوبا ثانياً ويتدلى منه كرة زجاجية بحجم رمانة صغيرة، أو حبة ليمون مليئة بسائل أحمر.. لابد أنه دمي .... فيما بعد أخبرتني زوجتى أنها ثلاث كريات بنفس الحجم مليئة تقريباً بالدم ... ثم علمت أنهم حفروا ثلاث حفر في جمجمتي ليسيل منها الدم خارجاً، ولست أدري إن كانوا قد سحبوا كمية أخرى من الدم ... ولكني لاحقا (في الأيام اللاحقة) تعرفت على صحفي ألماني (رئيس تحرير صحيفة محلية) بنفس حالتي تماماً تتدلى من جمجمته ثلاث كريات حمراء.....

إذن فاتنا قطار الموت ..... وتركني على رصيف المحطة بالانتظار .....!

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(*)

الشاريتيه طاقمه الطبي (غير الإداري والهندسي) مؤلف من أكثر من 200 بروفيسور و4000 طبيب متخصص ذو كفاءة عالية يغطون كافة المجالات والتخصصات، 13 بروفسور حصلوا على جائزة نوبل ، ويدرس الطب في مستشفى الشارتيه 7500 طالب وطالبة مسجلون في الشاريتيه اليوم. وتتعامل مع 1،080،000 عيادات خارجية و 128،000 مرضى مقيمين في 3،500 سرير سنويا 14،400 أشخاص يعملون في مواقعها الأربعة في برلين .

 

المعلومات من الموسوعة الألمانية والأرقام تعود لعام 2021 / 2022

 

 

 

 

 

 

 

(الصورة : إحدى أقسام مستشفى الشارتيه / برلين )

 

3

برلين / مستشفى الفيزيوثرابي

 

عشرة أيام بعد العملية وربما أحد عشر يوماً، 24 ــ 25 / نوفمبر / 2022 رفعت الكرات الزجاجية، وبعد فحوص عديدة، رأى الأطباء أن العلاج الجراحي قد حقق أهدافه، ولكن يجب أن نبقى تحت العلاج الفيزياوي (Physio-therapie)   مستشفى خاص لم أكن قد سمعت بمثله من قبل، نقلت بسارة اسعاف متخصصة إلى المستشفى الفيزياوي التابع لمستشفى الشارتية الكبير، ويبعد عنه نحو 3ـ 4 كيلومتر، ويضم أطباء من مختلف التخصصات، يراقبون سير وتطور العلاج، لضمان عدم حدوث انتكاسة، وفي حالة أي تراجع في تواصل الشفاء يعاد فورا للمستشفى الكبير، ولكن هذا الاحتمال ضعيف، فالمرضى الخارجين من عمليات ثقيلة أو معقدة، يودعون على الأرجح للعناية الفائقة في هذا المستشفى.

العناية الفائقة تعني، فحص الدم يوميا ولأكثر من مرة، وقياس الضغط، والسكر، والوزن، وتفحص الأقدام والأيادي، وأي مؤشر ..! وموضع العملية الجراحية، ويراقبون كل شيئ بدقة تامة بما في ذلك الإقبال على الطعام، وتطور القدرة على الحديث والسير بالعكاز الرباعي،  فكل جزيئة في الجسد تحت السيطرة، والفحص اليومي ولعدة مرات في النهار والمساء يومياً.

 كل هذا يفعله طاقم مؤهل، مدرب، بكل لطف وتهذيب عال، واحترام لوضعك الصحي، وللأزمة التي تمر بها ..وشاهدتهم يفعلون ذلك مع مرضى بحالات صعبة، يحممونهم ويغسلون أطرافهم، بصبر، يعاملون المرضى بمحبة، وغالبا ما يطعمونهم بأيديهم، ويحتملون منهم ما ينجم من أوضاعهم ... كنت أدهش وأنا الذي عشت في ألمانيا سنوات طويلة.... يا لدقة هذا النظام .. ما أروعه، رئيس الأطباء يجلس على الأرض ويضع قدم المريض في حجره ويفحص أصابع قدمية بكل عناية ودقة، بلا استنكاف ولا تقزز، وأنت تكاد تعتقد أن هذا الشخص هو ممرض، أو خادم، فإذا به رئيس قسم أو رئيس الأطباء .. فتأمل ...!

بعد أن يتأكد الأطباء أن كل شيئ على أفضل ما يرام، يحال للعلاج الرياضي، فهناك قسم  يعمل فيه مدربون مهمتهم إعادة أعضاء الجسد الخاملة منذ فترة طويلة وإعادتها إلى الحركة وفق منهج مدروس بدقة، وهناك صالات تضم معدات كل فقرة منها تختص بالتعامل مع عضلة معينة، أو جزء من الجسد وتأهيله لإعادته للحياة بطرق علمية، وباستخدام أمثل للوسائط والعدد الرياضية، لإيصال المريض إلى درجة يستطيع المريض الاعتماد على نفسه بأعلى درجة ممكنة.    

حين تشاء الظروف   ويدخل الإنسان إلى مستشفى يتخصص بالعلاج الفيزيائي/ يكتشف أن القضية العلاجية ليست فقط إجراء عملية، وينتهي كل شيئ ... فأنا حين دخلت  مستشفى العلاج الفيزيائي كنت بالكاد أستطيع السير بضعة خطوات معتمداً على مسند معدني ذو أربعة ركائر، وهو يعادل عملياً أربعة عكازات يمكن استخدامه بالسير بخطى بطيئة وبحذر لبضعة أمتار فحسب، ولكني في المستشفى الفيزيائي، أحرزت تقدما سريعاً بحيث صار بوسعي أن استخدام الحمام لوحدي، وأمارس التدريب الرياضي بأشراف المدرب، وبالطبع يدرك المدرب، بسني الثامن والتاسع والسبعون، لا يدور في خلده أو في خلدي أن أساهم بفعالية رياضية متقدمة،  فبالنسبة لي السير لبضع مئات من الأمتار، ولو بعكازة، ولكن بدون ألام ، أو تشنج،  او القدرة على ممارسة أنشطة عادية هو كاف،

كان أطباء القسم قد خططوا لإقامة طويلة في المستشفى  تقارب الشهر أو أكثر، ولكنهم عندما وجدوا استجابة  مني طيبة، ففي اليوم العاشر خرجت أنا ومدرب الرياضة ومشينا حول الغابة التي تحيط بالمستشفى، وأقسام أحرى داخل محيطه، وهو يسألني بين الحين والآخر إن كنت قد تعبت .. ولما كان كل شيئ على ما يرام، احالوني لمستشفى آخر أقل كثافة في المراقبة الصحية والغذائية، ومستوى الاستيعاب العقلي، وبدأوا معي من الصفر تقريباً، في القراءة والكتابة، وفهم واستيعاب ما أسمع. فعلوا ذلك بصبر، وباحتراف مهني عال للغاية، في وكانت كافة المؤشرات وخاصة السكر والضغط، ومؤشرات المستوى الفيزيائي جيدة جداً تقرر احالتي بعد 10 ــ 12 يوماً  لمستشفى (العيادة اليومية) للعلاج الطبيعي،

 

 

4

برلين / مستشفى تاغس كلينيك

8 / ديسمبر ــ كانون الأول ... في مستشفى / العيادة اليومية (Tagsklinik) :  ويقع هذا المستشفى ضمن نطاق المجمع الطبي التابع للشارتية أو بإشرافه، ولا يبعد سوى نحو 200 متر عن المستشفى الفيزيائي،  والذي يضم عدد من الأطباء، المختصين بالصحة العامة، والتغذية وخبراء تأهيل بدني، يحال إليه المرضى الذين مروا بمرحلة صعبة (عمليات دقيقة) وهم بحاجة لإشراف دقيق في تناول العلاج، أو في نوعية الغذاء، لذا يقدم المستشفى وجبة الفطور، ثم وجبة الغداء، وهي وجبات مشبعة، والقهوة والشاي والفواكه في أوقات متفرقة، ونسبة السعرات الحرارية (kalori)مدروسة بحسب حاجة كل مريض بلا زيادة ولا نقصان، فالغذاء الذي يقدم في الوجبات يختلف في قوامه من مريض لأخر بحسب وضعه الصحي،.

حالما يلتحق المريض بالمستشفى، ينسب بالالتحاق بمجموعة تتألف عادة من 6 ـ 7 أفراد يجلسون في غرفة ولكل طاولته ومعدات شرب الشاي والقهوة، والمياه المعدنية متوفرة دائماً. رجال ونساء  محالين من مستشفيات(غالبا ممن تجاوزا الخمسين من العمر)، بعد تلقيهم العلاج والرقود في المستشفى، وفي الانتقال إلى هذا المستشفى الذي يتميز أساساً أن المرضى لا يرقدون فيه، بل يداومون من الساعة الثامنة صباحاً وحتى الساعة 16,00 (الرابعة عصراً) وتنقلهم سيارات (باصات 6 ــ 8 راكب)، من بيوتهم للمستشفى، وبالعكس. فالمرضى لا يرقدون في المستشفى إلا نادراً، ولا أعلم ما هي تلك الحالات التي توجب الإقامة في المستشفى، ربما أن المريض قد يعاني من مشكلات معينة في السكن، أو لا يتوفر شخصاً يساعده في البيت.

وبتقديري أن هناك إلى جانب التأهيل العلمي المتقدم والممتاز، للأطباء ومساعدين الأطباء، وجهودهم الكبيرة في إطار التأهيل البدني والعقلي، لست على اطلاع تام كيف وما هو المستوى الذي تلقاه العاملون، ولا شك أنه مستوى متقدم، فكافة تصرفاتهم تنم عن خبرة عميقة وتجارب كبيرة تمكنوا من وضعها في إطار علمي، واستفادوا منها، وها هم يقدمون الخدمات الممتازة  للناس.                                                                                                                                                                                                     

المجموعة (Grupp) التي يلتحق إليها المريض لديهم برامج علاج مختلفة، فالعلاج الذي تبدأ الساعة الأولى 9 صباحاً، وحتى الساعة الرابعة عصراً، تشتمل على استعادة اللياقة البدنية والقدرة على المسير بمساعدة آلية (عكازة ــ عجلة دفع ذات إطارات، يمكن استخدامها للجلوس أيضاً) والفكرة الأساسية للعلاج هي إيصال المريض لمستوى يستطيع الاعتماد على نفسه سواء كان يعيش بمفرده، أو مع شخص آخر في السكن. ولكن بصفة عامة يعاني أفراد المرضى من صعوبات في الحركة. بسبب إصابات لحقت بهم من خلال حوادث، أو الوضع الصحي للمريض بسبب التقدم في السن. ومن المهم أن نذكر، لا يعتبر المرء طاعناً  في السن في ألمانيا، فالإنسان في سن السبعين في السن، أو في الثمانين،  ولا يعتبر شيئاً استثنائيا إلا إذا تجاوز المائة عام في عمره.                                      

يبدأ برنامج المريض (كل حسب وضعه الصحي) فهناك أنواع من التدريبات، البدنية وتسمى فيزيوثرابي، تهدف لاستعادة أجزاء الجسد لقدراته الحركية،  وهناك العديد من الوسائل المنتقاة بعناية ودراسة دقيقة لحالة المريض، ومن التمارين ما تتم من حالة الجلوس أو الرقود، أو باستخدام معدات وتقنيات رياضية، أو تمارين من الحركة، تبدأ بصعود وهبوط السلالم، أو المسير، أو السباحة، والشباب أو الشابات اللاتي يقمن بدور المدرب، كلهم من خريجي معاهد درسوا لا يقل عن ثلاث سنوات، في تخصص الفيزيوثرابي.

وهناك من التدريبات ما تعيد إلى الذهن قدارته، وهذه مثيرة فعلاً للاهتمام، إذ يحاول المدرب أن يعيد للمريض قدرته على التذكر من خلال تمارين منتقاة بعناية فائقة وبأسلوب علمي، كيف ..؟

ابتداء يتعرف العاملون على القدرة الذهنية الحالية للمريض،  وإذا كانت قد تراجعت (وهي سبب وجود المريض في هذا المكان) ، فإلى أي مستوى ..؟ ومن أين نبدأ ..؟  

يتحاور الخبير، أو الخبيرة حول موضوعات مختلفة، ثقافية واجتماعية وفنية(بحسب مستوى المريض الثقافي والدراسي)، ومنها يتعرف كم فقد المريض من قدرات، ثم طريقة لفظ الكلمات، وهل يستطيع أن يدير حواراً طويلاً، وهل صوته وحديثه مفهوم ...! وبعدها سيحاولون أن يتعرفوا على خط المريض ... وهل تراجع، هل يتقدم وبأي مستوى ...؟

فيما يحاول الخبير / المدرب البدني أن يتعرف على نقاط الضعف في الجسد، وفي الحركة، فمثلاً أنا أعاني منذ سنوات كثيرة (منذ 2005) من ضعف في السمع (الأذن اليمنى) وهم حاولوا أن يعرفوا هل تراجعت القدرة السمعية، وما هي درجة تأثيرها على التوازن والسير. ركزوا كثيرا على طريقة صعود السلالم ... وضرورة أن أمسك بيدي حاجز السلم، ولا أنسى مطلقا مدربة في العشرينات، تتوسلتني بعين دامعة " رجاء .. رجاء سيد دباغ .. رجاء أنتبه حين تصعد السلالم، لا تستعجل رجاء، وأمسك الحاجز .." كانت البنت تعاملني وكأنني والدها .. بمحبة واحترام ولطف بالغ ...! وحقا أنا أتذكرها الآن فعلاً كلما هممت بصعود الدرج ...!

المريض يشعر تماماً أن الأطباء والممرضين يفعلون كل شيئ أو لتحسين وضعه الصحي، مع الممنونية (With pleasure ) بل شاهدت بنات صغيرات (مدربات) يدللن مرضى ومريضات مسنات بطريقة عاطفية، ويجلبن الابتسامة لوجوههن المتعبة، هذا عمل يفوق ما يطلبه الواجب مقابل الراتب .... هو عمل إنساني رفيع مبهر ... كنتا أقف معقود اللسان عاجز عن التعبير حيال ما يبذله حفنة من الشباب والشابات يديرون مؤسسة كبيرة في حجمها وانتاجها .. .لا أثر ولو لمليمتر واحد للرأي الشخصي، أو السياسي، أو الثقافي،.... ما هذا..؟ أهو النظام أم التقاليد، أم هو نتاج تدريب رائع لهذا الكادر الذي يقوم بواجبه بأروع ما يمكن .... كل شيئ يدور حسب المنهج ولا خروج عليه قدر أنملة، هذه المؤسسة تدور كساعة رولكس بالغة الدقة.

كافة الفرق، والمدربين كانوا يعملون وفق خطة موحدة يكمل جهد بعضهم، البعض الآخر .. حتما الجهد التنسيقي بين أعمالهم موجود يتمثل بالمديرة ونائبتها، ورئيسة الممرضات(معظم الكادر العلاجي من النساء)، ينسقون فيما بينهم، ويضعون لكل مريض برنامج يراجعونه بين فترة وأخرى ليقفوا على التطور ومدي استجابة المريض ... وهذا لا يدور في نطاق هذا المستشفى (تاغس كلينيك) فقط، بل بين المؤسسات الثلاث الذي تعاملت معها، وفي النهاية يكونون صورة قد لا أعرفها عن نفسي، ولكن مجموعة الأطباء والخبراء والمدربين في المستشفيات الثلاث وكأنهم فرقة موسيقية يعزفون سمفونية رائعة .... وخلال أيام العلاج يكونون فكرة دقيقة جدأً عن المريض، صحته، قابلياته، ثقافته، معنوياته، أبعاد شخصيته، وقدرته على تحدي المرض ..قوة إلإرادة  عنده على الحياة،

جماعة مطبخ المستشفى صاروا يعرفوني، وصاروا يعدون لي طعاماً خال من لحم الخنزير، والألمان يعلمون ذلك ويسمونه (Halal)  "حلال" ويقدمونه بود لي، لفم لأقل لهم شيئاً، فهم عرفوا كل شيئ خلال الدقائق الأولى لحلولي في المستشفى ,,, لا أستطيع بكلمات صغيرة، سواء في العاملين في " تاغس كلينيك " أو في الشارتية عموماً.

نعم كنت مشتاق للحياة العادية، أن أتمكن من الذهاب للمطاعم، أن أجلس في مكتب، أن أحاول أستعادة قدراتي الكتابية، أن أشتفل بالكومبيوتر ..ولكني حين غادرت  مستشفى تاغس كلينيك .. عز على فراق هذه الملائكة ..!

بعد خروجي يوم 7 / كانون الثاني ــ يناير / 2023 بأسبوع ذهبت لمستشفى تاغس كلينيك، مع زوجتي، وشعرت نفسياً أنني مدين لهذه المؤسسة، لأني خرجت أسير على قدمي ..! أخذت معي باقة زهور كبيرة، استقبلتني المدير في صالة المستشفى عندما علمت بأني قد حضرت لتحية العاملين، خرجت من غرفتها بسرعة وعبرت عن شكرها لزيارتي وقدمت لها شكري العميق وللعاملين من أطباء ومساعدين، وعاملين، ووضعوا باقة الزهور على طاولة واضحة في صالة الاستقبال مع بطاقة تشير إلى هذه الزهور هي هدية من الدباغ وزوجته للعاملين والمرضى في المستشفى.

نحن نتعرف على الناس، يتفاعلون معنا، يشعرون بآلامنا، يحاولون جهدهم إخراجنا من الأزمة الصحية التي نشعر بها... حريصون على صحتنا، يهمهم رأينا بخدماتهم، ويودون بلطف أن يسمعوه .. أنا سأقوله بوضوح وأخشى أن لا تكفي الكلمات للتعبير .. لذلك سأختصرها. بكلمة واحدة ....

" شكراً شارتية ... شكراً مستشفى فيزيوثرابي، شكراً تاغس كلينيك ... شكراً جزيلاً ".

Danke Charite, Danke Physiotherapie, danke Tags Klinik... vielen Dank ."

Thank you Charite, Thanks physiotherapy, thanks Tags Clinic... Thank you very much      ."

 

أفلام تفتقر للواقعية

ضرغام الدباغ

أشاهد، عرضاً مشاهد من الأفلام يقدمها الانترنيت ، والشائع في هذا العصر، افلام تحرض الشباب على القوة وامتلاك القوة البدنية الخارقة، وحتى بدرجاته الخرافية، فتشاهد بطل الفلم يمتلك قدرات غير عادية بدرجة تنطوي على السخرية، مشاهد قفز ولقطات أكروبات بعضها خيالي، والأفلام الأمريكية أيضاً زاخرة بمشاهد من هذا النوع، ولكن السينما الالكترونية تسهل ترتيب تلك اللقطات، فيبدو لك البطل رامبو الجندي السابق في القوات الخاصة الأمريكية يجترح البطولات الخيالية، الغير معقولة، رغم أن تاريخ القوات الخاصة الأمريكية يفتقر إلى المنجزات المهمة ذات الطابع الأسطوري، ولكن الشبان والمراهقون لا يبحثون عن المعطيات التاريخية.

ولكن الأفلام الهندية يغلب عليها هذا الصنف أو لنقل في الكثير منها، وهم يقلدون الأفلام الأمريكية والصينية، وفيما يحاول المخرج الهندي أن يقدم عملاً يحاكي به الأفلام الأمريكية والصينية، فيأتي إنتاجه شيئا يبعث على الضحك، فالعمل الصيني فيه مبالغة ولكن العمل الهندي يتحول من أفلام القوة والعنف إلى شيئ يثير المرح ..

 يكتب منتجوا بعض الأفلام عبارة تحذيرية هي عبارة عن نصيحة ثمينة لمن يقدرها حق تقديرها  النصيحة هي : " لا تجرب هذه اللقطات في البيت ". .... بعبارة وجيزة " هذه الألعاب ليست سوى خيالات محمومة ..... الهدف الابتدائي لها هو التسلية، أما الهدف الأبعد فهو خلق جيل سطحي الأفكار شرس، لا يهتم بالقضايا الاجتماعية العميقة من حيث جذرها الاجتماعي / الاقتصادي. منتجوا الأفلام هم فئة الغالب فيهم اليوم هم قناصوا أرباح وليسوا أتباع مدرسة فنية، ويجدون في أعمالهم توافقاً مع توجهات قادة المجتمع البورجوازي، الرأسمالي الغربي، وأعمالهم ما هي إلا قنابل دخانية لصرف الأنظار عن ما يدور جوهريا في المجتمع ...... والتقدم التكنولوجي هو لخدمة أرصدتنا وليس للتثقيف الفني ....!

لا أعتقد أن في مشاهدة هذه الأفلام هدفاً تربوياً مهماً، رغم أنها تنطوي على مفاهيم اجتماعية، إلا أن العنف المفرط هو ما يجعل الشباب يقبلون على مشاهدتها ... الامر يستحق بتقديري اهتمام التربويين وعلماء الاجتماع,.... لا تلعبوا ألعابا صعبة فتتورطون بالنتائج .....!

 

3 / نيسان / 2023

 

 

 

صراع سياسي في روما :

 بدء أفول موسوليني

 

د. ضرغام الدباغ

 

 

كانت لهزيمة دول المحور تداعياتها، إذ احتلت قوات الحلفاء في صيف عام 1943 جزيرة صقلية وعلى اثر ذلك تصاعدت حملة الانتقادات في صفوف الحزب الفاشي الإيطالي ضد سياسة موسوليني، ترى هل يستطيع الدوتشي الصمود ؟

*             *                *                 *

كانت الأخبار الواردة من الجبهات مقلقة. ففي 11/ حزيران ـ يونية / 1943 هاجمت قوات الحلفاء جزيرة بانتليريا الإيطالية، ذات المكانة الاستراتيجية في البحر الأبيض المتوسط المقابلة للسواحل الأفريقية، والتي كانت تعد من الأهداف الصعبة المنال، وبعدها بأسابيع فقط، ابتدأت الحملة على صقلية، وأستقبل السكان القوات الأمريكية والبريطانية كمحررين. وفي 18/ تموز ـ يولية عاشت روما أولى الهجمات الجوية الكثيفة القوية التي ألحقت أضرار فادحة في العديد من أجزاء المدينة وأثارت الرعب بين السكان.

 

وفي هذه الظروف الصعبة تنادت الشخصيات القيادية في حزب موسوليني لعقد اجتماع أزمة للمجلس الفاشي الأعلى، وهو أعلى هيئة قيادية في الحزب الفاشي (يحكم إيطاليا منذ 1922)، وكانت هذه الهيئة لم تعقد مؤتمرها منذ عام 1939، وكل شيء كان يشير إلى أن نجم موسوليني الدكتاتور الذي سطع في إيطاليا منذ 21 عاماً قد بهت وبدا خافتاً وينذر بالأفول ! لذلك أخذت الحيرة حيناً والتردد تهيمنان على الدوتشي(وهو لقب موسوليني) وعلى تصرفاته كما تنتابه حيناً آخر العصبية والهياج.

 

وهنا بدأ خطراً آخر يهدد موسوليني:

الملك عمانؤيل الثالث الذي كان حتى هذا الوقت يبدي الولاء للحزب الفاشي، ها هو قد ابتدأ بإقامة الصلات السرية بواسطة وزير بلاطه أكواروي مع رئيس أركان الجيش أمبروزيو، وبدأ بترتيب الخطط من أجل عزل موسوليني. وقد ابتدأ الأمر على أنه تنظيم معارضة داخلية ضمن صفوف الحزب الفاشي ضد قيادة وديكتاتورية موسوليني.

 

وكان من أبرز الذين تصدوا لهذه المهمة هو دينو جراندي عضو المجلس الأعلى والمتصدي الأول لحملة الانتقادات الموجهة ضد موسوليني، الذي أخبر الملك بالخطاب الذي قد أعده تحريرياً ليكون مشروع قرار للاجتماع الذي سيعقد في 24 / تموز ـ يوليو، والذي بموجبه سوف يعزل الدوتشي.

لكن ترى هل سيستسلم موسوليني لمحاولة العزل هذه ببساطة ؟ ولم يكن الأمر مضموناً حتى لو كان لدى جراندي الأكثرية في المجلس الفاشي الأعلى لتمرير وإنجاح مقترحه. وبهذا يمكن القول أن خصوم موسوليني كانوا يلعبون لعبة خطرة، وذات نتائج مجهولة !

 

ليلة المؤامرة

في 24 / تموز ـ يوليه / 1943، وهو يصادف يوم السبت، خيمت حرارة صيفية فوق روما، فيما كان التوتر يسود أعضاء المجلس الفاشي الأعلى، كان جراندي بحاجة حتمية إلى رفاق يتحالفون معه من أجل عرض مشروعه، لذلك لم يكف عن أجراء المحادثات الموثوقة مع القادة الآخرين للحزب الفاشي، بل وحتى صهر موسوليني (زوج أبنته) جالبازو شيانو، أبدى المعارضة للدوتشي.

 

في الساعة 1700  (الخامسة مساء) أنعقد اجتماع 28 من أعضاء المجلس الأعلى يرتدون ملابسهم الرسمية السوداء في قاعة الاجتماعات في القصر الذي يعمل فيه موسوليني في ميدان فينيسيا، على مرمى حجر من المبنى الروماني التاريخي الفخم، الكابيتول، وكانوا يريدون طي الصفحة الفاشية ويضعون نهاية لهذه الحقبة. ولم يكن معلوماً لديهم حتى اللحظة (علم فيما بعد) أن جراندي كان قد استعد لليلة الخناجر الطويلة (1) بمسدس وقنبلة يدوية، ولكن لم يحدث ما يستحق هذا الحذر، بل أن موسوليني كان يدرك بعمق وهو السياسي الذكي والمثقف الظروف والتهديدات، لذلك فهو تردد في اعتقال خصومه.

 

وفي مجرى جلسة المساء الدرامية، واجه الدوتشي حملات لا رحمة فيها ضد سياساته وشخصه. وقد أتهمه جراندي، الذي كان العنصر الأساسي في الاجتماع، أتهمه بأنه قد خان من خلال شخصه وتصرفاته المبادئ الأساسية للفاشية، وطرح للتصويت مقترحاً: تقديم موسوليني للقضاء.

 

وكان هذا القرار يقوم على قاعدة: دعوة الملك هو رأس البلاد الأعلى في إطار الحقوق الدستورية، وكذلك بوصفه القائد الأعلى للقوات المسلحة، إلى تحمل هذه المسؤولية. وقد رأى جراندي في ذلك الإمكانية الوحيدة، إلى جانب الحكومة، في الحيلولة دون خطر الانهيار العسكري للبلاد، وفي التمهيد لمفاوضات وقف أطلاق النار وإقامة الهدنة.

 

وحاول موسوليني مع رفاق حزبه الحيلولة دون الوصول إلى مثل هذه النتيجة، وأن لا ينسحب من جانب واحد من التزامات التحالف ومواصلة الحرب إلى جانب ألمانيا. ولكن شيانو(وزير الخارجية وصهره) أحبط هذه الفكرة بالإشارة بأن ألمانيا تخدع إيطاليا منذ بدء الحرب، وهي في الجانب المخان وليس الخائن !

 

تسعة عشر صوتاً ضد الدوتشي

عندما حاول موسوليني بحلول منصف الليل إنهاء الجلسة وتأجيلها، من أجل كسب الوقت، أعلن جراندي، بأنه سوف لن يترك أحداً يغادر القاعة قبل اتخاذ القرار، وهنا أعلن موسوليني عن فترة استراحة لكي يتسنى له إجراء مشاورات، والتصدي لمؤامرة خصومه، ولكن الدوتشي كان ما يزال تحت وطأة شعور، بأنه سيتعامل مع حملة الانتقادات الموجه ضده وينته منها. وحيال مقترح جراندي، حاول موسوليني اللجوء إلى التحايل بأن يسحب العناصر التي لم تقرر موقفها إلى جانبه بقوله: " إن مفتاح الأزمة في رأسي، ولكني سوف لن أفصح عنه " وعندما أجري التصويت لم يعد هناك من شك: ففي الساعة 2،45 فجراً كانت نتائج التصويت 19 صوتاً لجراندي مقابل 9 أصوات لموسوليني، لقد خلع الفاشيون زعيمهم، وأنتهي الاجتماع دون أن يتمكن الدوتشي من اتخاذ قرار ضد المؤامرة.

 

المحاولة الأخيرة لموسوليني

كان معظم المتمردين ال19 ضد موسوليني يعتقدون بأنهم سيتعرضون للاعتقال، ولذلك فقد بادروا إلى الاختفاء في اليوم التالي عند أصدقائهم ومعارفهم، فيما كان موسوليني ما يزال يعتقد بإمكانية حل الأزمة سياسياً. والمبادرة الوحيدة التي قام بها حيال هذا الوضع، هو طلبه من الملك تقديم موعد المقابلة التقليدية معه إلى يوم الأحد في الساعة 1700، وقد تم إبلاغه، بأن البلاط يعول أهمية على أن يحضر موسوليني مرتدياً الملابس المدنية.

 

مضت سيارة موسوليني في الوقت المحدد بدقة باتجاه فيلا سافويا، وهو مقر بلاط الملك في روما، دون تحسب للوضع غير الطبيعي، وقد جلب موسوليني معه بعض الأوراق التي تثبت أن التصويت على قرار المجلس الفاشي الأعلى ليس مهماً، وكان يريد أن يقنع، أو يحمل الملك فيكتور عمانؤيل الثالث، أن يسلمه القيادة العامة للقوات المسلحة التي كان قد استلمها منه منذ قيام القوات المسلحة الإيطالية بغزو اليونان عام 1940، وأن يعيدها إلى الملك. واعتقد موسوليني إن هذا الإجراء سيجعله حر اليدين في ميدان السياسة الداخلية.

 

كما أن الدوتشي أعتقد أن إعادة شاملة لتأسيس مجلس الوزراء الذي سيكون واجبه الرئيسي إنهاء الحرب، وهو، موسوليني، كان يأمل أن يجنب إيطاليا الاندحار العسكري. وقد تحدث موسوليني في ذلك هتلر في إمكانية التوصل إلى سلم منفصل على الجبهة الشرقية، الأمر الذي سيعزز مكانة المحور في الجناح الجنوبي ضد الحلفاء.

 

التفاوض

أرغم الملك فيكتور عمانؤيل الثالث موسوليني على الاستماع إليه ولم يمنحه الفرصة للحديث، بل ابلغه باختصار، بأنه وبسبب الموقف العسكري المتأزم والمتدهور، والتطورات التي جرت خلال 24 ساعة المنصرمة، أحداث ترغمه على خلعه من منصب كرئيس للوزراء، وأنه قد عين المارشال بادوليو كخلف له. وفي هذه اللحظة فقط أدرك الدوتشي بأنه قد خسر المعركة من أجل السلطة، ونهض خارجاً يرافقه الملك صامتاً.

 

وكان مستشارو الملك عمانؤيل الثالث قد أقنعوه، بأن اعتقال موسوليني سيكون بسيطاً ودون ضجة أو مقاومة، وكانت منطقة القصر وما يحيط بها قد استعدت لمثل هذه الحالة، والسيارات المرافقة للدوتشي كانت كالعادة أمام البوابة الرئيسية، خارج مكاتب القصر، فيما استدعي سائق سيارة موسوليني بحجة مكالمة هاتفية، حيث ألقي القبض عليه.

 

وعندما أراد موسوليني التوجه إلى سيارته، تقدم إليه ضابط برتبة رائد يحمل غدارة، وأدلى بهذه الكلمات: " أن جلالته قد أمرني أن أتولى حماية سيادتكم " وطلب إليه أن يصعد سيارة إسعاف تابعة للصليب الأحمر.

 

لم يبدي موسوليني أي مقاومة، ومن مدخل جانبي غادرت العربية موقف السيارات لقصر فيلا سافوي إلى هدف مجهول. وبهذا الأسلوب السياسي/ ألتآمري غادر موسوليني المسرح السياسي الذي هيمن عليه لمد 21 عاماً.

 

مصرع موسوليني

أثارت إنباء سقوط موسوليني الفرحة والابتهاج بين صفوف الإيطاليين، ولكن النهاية المفاجئة للديكتاتور لم تكن تعني نهاية قريبة للحرب، بل إنها قسمت البلاد من الشمال والوسط والجنوب الإيطالي الذي حرر من قبل قوات الحلفاء ولكن بخسائر فادحة. وفي 12 / أيلول ـ سبتمبر / 1943 تمكنت وحدات من القوات الخاصة الألمانية من مداهمة السجن في جرانزازو وتحرير موسوليني. الذي نجح بتأسيس حكومة تابعة للألمان في جاراداسا لمواصلة الحرب.

 

ولكن كل شيء أنتهي في نهاية ابريل 1945 عندما القي القبض عليه مع عشيقته من قبل الأنصار، واعدم رمياً بالرصاص.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

(1) ليلة الخناجر الطويلة، هي الليلة التي صفى فيها هتلر خصومه في الحزب النازي الألماني والعبارة هنا للتشبيه ـ المترجم)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

المصدر

Wie geschah es Wirklich

Reader Digest  /  The Beste

1990 Stuttgart

 

 

المركز العربي الألماني

برلين

لعبة الشطرنج الأخيرة

 

ضرغام الدباغ

 

بعد أيام .. سيتم الاحتلال عامه العشرون ... وماذا بعد ....!

الاحتلال ومن معه ومن خلفه ومن يهرول في ركابه لم يستطيعوا تفسير وتبرير العدوان الذي سيسجل بأسمائهم وفي تاريخهم بحروف بارزة، فشلوا في تحقيق أي شيئ برغم أن تحت تصرفهم نحو ترليون و250 مليار دولار، وقتلوا واغتالوا في المحاكم  (الصورية) وخارجها عشرات بل مئات الألوف، وشردوا الملايين بين مهاجر ونازح، وباعوا الصناعة العراقية كحديد خردة، جرفوا البساتين والحقول والاراضي الزراعية، وفاق ما يرتكبون كل ما هو مدون في قانون العقوبات، من جنايات، وجنح، والعيب والحرام.

ومع كل ذلك لم يتمكنوا من العراق ومن شعبه ... دمروا بأنفسهم شرفهم الوطني ...

هل لأن العراقيين أتحدوا وقاوموا هذا التعسف التاريخي..؟ هل لأن العراق لقمة أكبر من بلعومهم ..؟ نعم، ولكنهم فشلوا قبل كل شيئ، لأن مشروعهم مستحيل وغير تاريخي، فشلوا لأن كل من وضع يده في هذا قدر الاحتلال، لم يعد نظيفاً، ولأنه مشروع يفتقر للنظافة... وبالتالي الاحتلال لم يستقطب إلا من أمثاله، وبضعة ممن خدعوا ثم استفاقوا وتابوا ..

كنت أتجاذب وصديق لي أطراف الحديث، نتجول في الأفكار والمواقف، وما يشاع ويقال هنا وهناك، والأيام حافلة بالأخبار، ومنها ما يدور في العلن، وأكثرها من وراء الستار، وخطر ببالي الفيلم المشهور، " التانغو الأخير في باريس " (Last tango in Paris) وتوصلنا هو وأنا، أن الموقف بات في غاية التأزم، وكما يقال بالبغدادية " قفلت الدومنة "، فقلت لصديقي يبدو أنها " آخر لعبة شطرنج ".

لماذا آخر لعبة شطرنج ...؟

إنها  اللعبة الاخيرة، لأنه لم يعد هناك لاعبين كثر في الميدان، كلهم تعبوا، وقد تعددت الساحات والميادين وضاقت الخيارات والعبارات، والبطل الوحيد الصامد صمود الجبال الرواسي هو الشعب العراقي، اليوم ينسحبون ليس لأنهم شرفاء، بل لأنهم عجزوا عن تحقيق ما يريدون،  ولأنهم يحاولون غسل ولو سنتمتر مربع واحد من عارهم، العار الأمريكي في العراق يخرسهم عن الأدعاء بالنزاهة، والديمقراطية وحقوق الإنسان، والمخرج الكبير يقلب عينيه في أكثر من مكان وزاويا العالم، فبعد أن كان يعتقد أنه سيحكم العالم بنظام عولمي محكم، لم يستغرق الأمر أكثر من عقدين أو ثلاثة، صار يبحث عن الأمن على سواحل بلاده ...! ولهذا فهو مضطر لوضع أولويات وخطوط جديدة .. خطوط خضراء، وبنفسجي، وصفراء، وحمراء، نتفاوض في بعضها، وقد نتبادل في أخرى، ونتأهب في أخرى، ولكن في الخطوط الحمراء نقاتل ..! ومن تلك أنه أبلغ حلفاؤه أن ليس بوسعه مواصلة تأمين السقف السياسي والعسكري لمغامرتهم، فليبحث كل عن مصالحه بطريقته، فحليفه الصهيوني يقنع نفسه أنه باق ... وهو يعلم أن صفارات التنبيه أطلقت تحذيرها ...وحليفه نظام الملالي أصابه الإنهاك، وقد اشتعلت النيران في بيته وتلابيبه .. وضاقت المساحات عنده، فراح يرمي بصره شرقا وغرباً لعل هناك من ينقذه يخلصه من ولو بتكلفة مناسبة، تبقي رأسه فوق سطح الماء .....

يا شعبنا العظيم .... لله درك .. ما أعظمك ..

ناضلت بعنفوان وصبر كما في كتب الأساطير ..

أتحدوا .... أتحدوا .... أتحدوا ...

الاحتلال ينهار، وصنائعه يفرون والمجد لكم التاريخ لكم، والعراق لكم ...!

 

 

الصراحة المرة

 

ضرغام الدباغ

 

في الصباح الباكر، كنت أستقل الباص في عاصمة أوربية ، حين صعد شاب أفريقي يبدو عليه التعب والإرهاق، حتى أني ظننت أنه قد أسرف في تناول الكحول، ولكنه يحمل آلة موسيقية داخل علبتها، على الأرجح من نوع الأورغ (نوع صغير يوضع على طاولة)، وأختار أن يجلس بجانب شاب أوربي أبيض البشرة أشقر وسيم، لا يزيد عن بداية العشرينات، وراح يحدثه بصوت مرتفع " ها ... أنت أبيض اللون وهذا يجعلك تمتلأ فخراً وكبرياء .. أليس كذلك ..؟ "

الشاب الأوربي كان مهذباً فأجابه، " لا ليس كذلك، ولكننا في الصباح الباكر ونفتقر لشهية الكلام ".

فرد عليه الأفريقي " لا ..لا ... أنت تشعر بالغرور، وإلا فلا شيئ يميزك عني، بل أنا أثقف منك وأعمل بجد كل يوم طيلة الليل وحتى مثل هذا الوقت من الصباح فأنا عازف أورغ ".

وراح الشاب الأوربي يحدثه بهدوء وصبر كما شاهدت الأفريقي يعطيه بطاقته الشخصية ويتحدثان عن تواصل العلاقة بينهما.

فتأملت مقلباً الحديث على وجوه مختلفة. فأن تشاهد شبان أفريقيين في عواصم أوربا الغربية الأنيقة المترفة أمراً اعتيادياً، والأمر يتجاوز في جوهره مسألة توفير قوة عمل زهيدة السعر،إلى وجود اجتماعي / ثقافي، وصرنا نشاهد ظاهرة حالات زواج بين أفريقيين شبان وشابات، وأوربيين شباب، إلى جانب رفض عنصري من جانب أفراد من اليمين .. الأمر كله يجعلك على ثقة بأن المستقبل القريب للخمسين سنة المقبلة في عالم الغرب ينطوي على توجهات عنصرية، وقد تحمل في طياتها أحياناً على نزوع لاستخدام العنف ضدهم.

ومن جهة أخرى، حين نقرأ ونشاهد أفلاما وثائقية عن أفريقيا، يحملنا على التنبؤ بأن هناك مستقبلاً للقارة الأفريقية هي غير ما كان مخطط لها من الغرب الرأسمالي : أن تكون منبعاً للخامات الطبيعية، ومنجماً للقوى العاملة الزهيدة الثمن، أفريقيا تهرول نحو مستقبل آخر، وهناك صراع خفي / علني يدور في القارة السمراء، بين قوى أفريقية تطرح تصوراً جديداً لأفريقيا يحمل التقدم والتطور والتنمية .. ولكن حتى ذلك الوقت سيتواصل رسو القوارب التي تحمل المهاجرين من كافة الأعمار يفلح الكثير منها في الرسو على سواحل أوربا في البحر المتوسط، ولكن أيضا يبتلع البحر يوميا المئات منهم .

الغد الأفريقي مقبل بالتأكيد .... سيشرف حتماً وملامحه تبدو من الآن واضحة، الغرب يفقد ثقته بنفسه، فلم يعد التفوق الأبيض الغربي من المسلمات . والأوربيون بدورهم صاروا مقتنعين أنهم تجاوزوا الذروة، وصارت خلفهم، فهناك الكثير من الأسباب المقنعة والعنصرية أحدها، بأن وهج الحضارة الغربية في أفول، والقضية سنوات فحسب. والأفارقة (وربما غيرهم) صاروا لا يخفون دفء حرارة العلاقة مع الصين وروسيا، ورؤية روس وصينيين في المدن الأفريقية صار من المظاهر الطبيعية.

والصحف الأوربية تصدر يوميا وهي تحمل صور وكاريكاتور عن الولايات المتحدة التي تدمر أوربا بسياساتها الرعناء، فلا يدع سبباً واحداً للتعاطف مع الغرب التي أثخن شعوب العالم في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية بجراح الشفاء منها ليس بسيط، ولكنه ممكن .. وقد أدركت الشعوب بداية الطريق.... ومن سار على الدرب  وصل ....!

 

 

لغز الطائرة الماليزية

Andreas Sieler

كتابة : أندرياس زيلر:

ترجمة : ضرغام الدباغ

 

على الرغم من مرور تسعة سنوات على اختفاء الطائرة الماليزية الرحلة MH370 التي كان على متنها 239 شخصاً،  ليس بوسعنا سوى القول أنه لما يزل من غير الواضح تماما ماذا  حصل وكيف وأين. وليس هناك سوى شيئ واحد مؤكد، أن الطائرة قد تحطمت  بعد ساعات من إقلاعها من كوالالمبور، كما أنه لا جدال في مسألة : كيف ولماذا تتحطم طائرة ذات تقنية عالية وتتحول إلى لغز في تاريخ الطيران الحديث.

 أختفاء الطائرة : الرحلة رقم MH370

ومن المؤكد أن طائرة البوينج 777-200 التي كان على متنها 227 راكبا واثني عشر من أفراد الطاقم قد أقلعت من كوالالمبور في 8 مارس 2014 في الساعة 0:42 صباحا. بعد 20 دقيقة ، وصلت الطائرة إلى ارتفاع الطيران الرحلة، وبعد 20 دقيقة أخرى بعثت بآخر رسالة لاسلكية، حتى ذلك الحين كل شيء طبيعي. ولكن بعد ثوان، حدث أن تم (من بين أشياء أخرى)، إيقاف تشغيل جهاز الإرسال والاستقبال، واختفت الطائرة MH370 من شاشة الرادار.

وحدث العديد من التغير في مسار تحليق الطائرة، فمن التحليق فوق ماليزيا،وشمال اندونيسيا، ثم ساعات من الطيران بأتجاه الجنوب، (افتراضاً) فوق المحيط الهندي، حيث سيتم لاحقاً تفسير بيانات الأقمار الصناعية، ومنها يشتبه معظم الخبراء أن موقع تحطم الطائرة هو اقصى غرب أستراليا.

في الدقائق التي اختفت فيها الطائرة ، كانت قد انتقلت من المجال الجوي الماليزي إلى المجال الجوي لفيتنام. ويبدو أن الأمر استغرق وقتا طويلا على نحو غير عادي حتى تم الانتباه لاختفاء الطائرة وإطلاق الإنذار، ويرجع ذلك جزئيا إلى أن مراقبي الحركة الجوية تصرفوا بإهمال، وفقا للتقرير النهائي لفريق دولي من الخبراء "فريق التحقيق الماليزي في المرفق 13 لمنظمة الطيران المدني الدولي الماليزي".

 

تقرير غير واضح عن الرحلة   MH370: هل كان هناك تلاعب في الأنظمة؟

وإذا القينا نظرة فاحصة على التقرير النهائي الصادر في عام 2018، ، فإن هناك شيئا واحداً يبرز ، أنه لا يوجد شيئ واضح ونهائي على الاطلاق. إذ كانت المشكلة الرئيسية للمهنيين في التحقيق في الحادث، هي عدم وجود قطعة من بدن الطائرة لفحصها والتحقق فيها.وحتى يومنا هذا لا يمكن استبعاد حدوث خلل ما في الطائرة. ومع ذلك، فمن المحتمل حسبما يذكر التقرير أن فقدان الاتصال حدث بسبب " إيقاف تشغيل الأنظمة يدويا، أو بسبب انقطاع التيار الكهربائي". وهذا يشير التلاعب (Manipulation) في صياغة التقرير الذي ركز على طاقم الطائرة والركاب.وأن لا وجود لتشوهات خطيرة.

 

ومن بين عشرات القطع من حطام الطائرة التي جرفتها أمواج المحيط الهندي على السواحل الأفريقية،تم تشخيص ثلاث قطع بعائديتها للطائرة المنكوبة، وسبعة قطع بأنها " شبه مؤكدة" وعشرون قطعة بأنها " مشتبه بها "، وتؤكد الأجزاء هذه أنها تعود لطائرة البوينغ الرحلة (MH370) وأنها قد سقطت وتحطمت،كما تشير البيانات أن الطائرة مكثت في الجو لمدة سبع ساعات.

ويختتم التقرير إلى أن اختفاء طائرة الرحلة (MH370)، والعمليات الواسعة في البحث عنها كانت حدثاً غير مسبوق في تاريخ الطيران، ويشير إلى ضرورة إدخال تحسينات لضمان سرعة تحديد الحدث وموقعه في المستقبل، ووجود أليات " لتعقب أي طائرة تخرج عن خط الرحلة لأي سبب من الأسباب "، وان يكون موقع أي طائرة مدنية تجارية معروف دائماً، وعدم قبول افتراضات أخرى.

الغموض : أين يمكن أن تكون الطائرة ؟

لكن كيف يمكن أن يحدث لكي تغادر طائرة مسارها وتختفي خلال ثوان؟

في البدء ، يتم تسجيل مسار الطائرة بواسطة ثلاثة أنظمة:

من الأرض،

ثم من الطائرة نفسها ومن الفضاء.

ومن خلال الرادار الأرضي(يسمى الرادار الأساسي ).  حيث يتم إرسال إشارات من الطائرة وهذه اقابلة للقياس ماديا "، يوضح روبرت إرتلر، رئيس الاتصالات الخارجية والصحافة الألمانية (Deutsche Flugsicherung (DFS))، أن ذلك يتم بدقة  متناهية عند الطلب.

وهذا يعني أن المجال الجوي في ألمانيا يخضع لمراقبة مستمرة حتى ارتفاع حوالي أحد عشر كيلومترا. وما لا يستطيع الرادار قياسه هو ارتفاع الطيران، وهنا يأتي دور ما يسمى بالرادار الثانوي، جهاز الإرسال والاستقبال للطائرة. يقول إرتلر: "نرسل استفسارا وهناك إجابة من الطائرة". تشمل البيانات، من بينها، الارتفاع والسرعة. "ثم هناك الامكانية لتحديد الموقع عبر الأقمار الصناعية" ، إذا كان هناك العدد الكافي  منها ".

وقد تم إيقاف تنشيط جهاز الإرسال والاستقبال في رحلة الطائرةMH370. يتم ذلك من قمرة القيادة. ، ويوضح إرتلر. "الطائرات العسكرية تفعل شيئا كهذا والأمر يتعلق بالسرية". أما في حالة MH370 ، يصعب تفسير ذلك: "كقاعدة عامة، لن تقوم طائرة تنقل الركاب بإيقاف تشغيلها بشكل نشط". وهناك ثغرات حتماً في المراقبة الرادارية فوق المحيط الهندي، كما هو الحال مع مراقبة الأقمار الصناعية. وبالتالي، عجزت الأنظمة الثلاثة من تقديم أي بيانات.

 

تؤشر لنا هذه المعطيات، من خلال الأحداث المحيطة برحلة الطائرة MH370إلى أنه لا ينبغي أن ينحصر البحث عن الخطأ في المقام الأول في الجانب التكنولوجي، ولكن أيضاً في الخطأ البشري. وحتى في دوائر الخبراء، يجري تفسير البيانات الموجودة متباعدا في بعض الأحيان وأحياناً في اتجاه نظريات المؤامرة أحياناً.بل أن بعض الخبراء يشككون حتى في أن الطائرة قد طارت جنوبا (جنوب المحيط الهندي) على الإطلاق. كما تسبب كتاب "اختفى" للصحفية الفرنسية فلورنس دي شانجي، التي تشكك في وجود موقع سقوط وتحطم مختلف تماما، وتسبب كتابها في ضجة كبيرة.

 

ولم تسفر سنوات من عمليات البحث من قبل عدة ولايات وشركة "Ocean Infinity" الأمريكية لم تسفر عن أي نتائج. في العام الماضي، ولكن شركة Ocean Infinity أعلنت عن خطط لاستئناف البحث.

 

ووفقا لتقارير نشرت في وسائل الإعلام، سيتركز البحث بعد ذلك على منطقة في المحيط الهندي اختارها مهندس الطيران ريتشارد جودفري كموقع تحطم محتمل. تصدر جودفري عناوين الصحف عدة مرات في السنوات الأخيرة ، إذ طور المهندس المتقاعد في أوقات فراغه نوعا من نظام تتبع الطيران.ببساطة، يحاول من خلاله تحديد موقع الطائرة عن طريق تحليل ما يسمى إشارات الهمس لشبكة راديو الهواة المخزنة في قاعدة بيانات. تتداخل  ببيانات الطائرات مع انتشار هذه الموجات اللاسلكية.

 

وينظر بعض الخبراء، إلى النتائج التي توصل إليها المهندس جودفري العام الماضي(2022) على أنها بصيص أمل في العثور على الطائرة، خاصة أنه قام بتضييق موقع تحطم محتمل إلى منطقة صغيرة جدا. كما قال جودفري في البودكاست "الطب الشرعي للطيران"  ما حدث للرحلةMH370؟" (تجدها على موقع flugforensik.de) من خبراء الطيران بنيامين دينيس وأندرياس سبيث أوضح  كما يعتقد، أنه اكتشف بطريقته المسار الذي سلكته الرحلةMH370. كما يدعي أنه قدم "ملاحظة مثيرة للاهتمام": ووفقا لذلك، فقد حلقت الطائرة بصورة منتظمة لمدة 20 دقيقة قبالة سومطرة قبل أن تتحول جنوبا. "حتى الآن  يفترض المحللون أن طائرة الرحلة MH370 كانت تطير جنوبا مباشرة. ولكن لماذا تحلقالطائرة هذا الوقت الطويل في الانتظار؟ ، على سبيل المثال، هل كانت بأنتظار أتصال أرضي. أو ربما كان هناك تفاوض ما مع الحكومة الماليزية....؟

يمكنك القيام بذلك عندما تطاردك طائرة أخرى أو عندما تريد شراء الوقت للتفكير في الخطوة التالية ، "يقول جودفري. "ولكن إذا جعلت طائرة تختفي، فلن تضيع الوقت والوقود في الانتظار" ، أوضح المهندس جودفري في البودكاست (الموقع عن شؤون الطيران في الانترنيت).

النظرية الأكثر شيوعا حول سبب اختفاء طائرة الرحلةMH370 يعتبرها الخبراء أيضا من ضمن الأسباب، هي  نظرية انتحار الطيار. والتي غالبا ما يتم الاستشهاد به كمؤشر، أنه كان قد مارس سابقا دورة على جهاز محاكاة الطيران المنزلي الخاص به والتي كانت مشابهة للدورة الأخيرة المفترضة لطائرة الرحلةMH370. كما ذكرت "مجلة نيويورك" قبل سنوات على أساس وثائق سرية لمكتب التحقيقات الفيدرالي. ولكن، كما تشير التحقيقات الإضافية والتقرير النهائي، لا يوجد دليل أو دافع للانتحار في البيئة الخاصة للطيار(الأسرة أو العمل).ولماذا يجب أن يحلق هذه الساعات السبع بدلا من يحطم الطائرة على الفور؟ وإذا كانت النتائج التي توصل إليها المهندس جودفري صحيحة، فإن المناورة التي انطلقت من سومطرة لا معنى لها في حالة الانتحار المخطط له. لذلك فان هذه النظرية حافلة بالعديد من علامات الاستفهام.

 

ولكن هل يمكن أن يتكرر مستقبلاً حادث"اختفاء" طائرة ، كما في حالة طائرة الرحلةMH370...؟ وإلى أوضح ريتشارد غودفري قبل عام في مقابلة مع صحيفة "نويه زيورشر تسايتونغ" أن منظمة الطيران العالمية "إيكاو" قد أصدرت مرسوما "بأن جميع الطائرات يجب أن تكون مجهزة بنظام تتبع دائم يعمل بشكل مستقل عن جميع الأنظمة الأخرى على متنها". ومع ذلك، سوف يستغرق الأمر بعض الوقت حتى يتم تجهيز جميع الطائرات به.

ومنذ وقوع الحادث للرحلة MH370، تسعى منظمة الطيران المدني الدولي جاهدة إلى تحسين تموضع الطائرات عن طريق إشارات تحديد المواقع دقيقة بدقيقة. وفقا للتقارير، تعتمد بعض شركات الطيران أيضا على تدفق بيانات الصندوق الأسود. من الواضح أنهم يحاولون التعلم من سوء الحظ. كما منذ ذلك الحين(منذ حادث الرحلة MH370)، أصبحت الملاحة عبر الأقمار الصناعية "أفضل وأكثر كثافة" كما يقول الخبير روبرت إرتلر، ويستبعد احتمال اختفاء طائرة في ألمانيا. أو فوق المحيطات الكبيرة، حيث يصل لا يصل الرادار والرادار الثانوي إلى حدودهما، تماما: "اما إذا لم تكن مجموعة الأقمار الصناعية بحيث يمكنها تحديد الموقع بشكل مثالي ، فقد يتكرر يحدث شيء من هذا القبيل مرة أخرى. ومع ذلك أود أن أصف احتمال أن نشهد شيئا كهذا مرة أخرى بأنه لا يكاد يذكر".

 

المركز العربي الألماني

برلين

إيران : عرف

الحبيب مقامه فتدلل

 

ضرغام الدباغ

إيران نووية ... إيران غير نووية ... إيران نووية ... إيران غير نووية ..... نووية ... غير نووية ... إيران نووية ...وبالاتفاق ... إيران نووية منذ سنوات ... أن تكون إيران نووية أمر تدارسوه بعناية شديدة، وتوصلوا للقرار الصعب منذ سنوات وهم ساعدوها تقنياً وسياسياً ورسموا لها خريطة هضم النووي .. وجعله أمرا واقعاً... وهم يفكرون الآن  بمرحلة ما بعد الإعلان النووي ...

لماذا يريدون إيران نووية ....؟ وبماذا يفيدهم ذلك ...؟

المؤشرات تشير أن قرار النووي الإيراني جاءهم من الخارج ... من الجهات الداعمة ... والولايات المتحدة في المقدمة ... ووزعت الأدوار بدقة تفصيلية، ونوتة العزف أمام الجميع بدرجة متفاوتة حسب الدور الموكل له، والكل يتصرف وفق إشارات المايسترو بدقة بالغة، الخطأ مهما كان صغيراً غير مقبول وغير محتمل.

الولايات المتحدة والغرب الرأسمالي ليسوا في وارد أحتمال عداء قوى كثيرة، ولكن عداء العرب والإسلام بدرجة أساسية. بتعميم  مثير للدهشة، كل العرب وكل المسلمين دون استثناء... يجب اقتلاع  الظروف والمعطيات على أنواعها للحيلولة دون قيام كيان عربي موحد، بل وحتى القطع المجزأة، ينبغي أن تكون هشة وتتألف من عناصر ضعيفة... مالعمل....؟ والتقدم المقبول هو زحف السلحفاة أو أبطأ ...!

كياناً صهيونياً هو الخيار الأفضل، كيان مسلح بقوة ضاربة عاتية وأن يكون دركي الحارة هو الخيار المفضل، وتولت بريطانيا وفرنسا تسليحه وتأهيله، ولكن بعد حرب حزيران / 1967، وجدوا أن المهمات الثقيلة المطلوبة من هذا الكيان تفوق قدرة بريطانيا وفرنسا، فأستلمت الولايات المتحدة الدور القيادي الحامي للكيان والآخرون يلعبون على الهامش في لعبة توزيع الأدوار السياسية، أنا أقبل، أنت ترفض، والآخر يتحفظ، والبعيد يعتب، ولكن النتيجة واحدة من الأربعينات وحتى اليوم ..! وسمحوا لها بالتسلح النووي دون أن يثير طرف ... أي طرف مجرد اعتراض بسيط ..!

بعد تأميم النفط وحرب تشرين الأول / 1973،  بدأت التطورات السياسية والاجتماعية والاقتصادية تفرز معادلات صعبة ومعقدة،  ولم يعد الكيان الصهيوني بوسعه السيطرة على مفردات الموقف، وحتى سلاحها النووي لا يحكم السيطرة على الموقف، بوضوح أن الأمر بحاجة لعنصر جديد يدخل صلب معادلات الشرق الأوسط ويحدث فيها تفجيرات وتخريب هنا وهناك، فكان نظام الملالي خير من يمثل هذا العنصر، سيدخل المنطقة في نفق مظلم أسود لتدوم عقوداً طويلة وتحدث خسائر كبيرة وتعيق التنمية السائرة إلى نتائج حتمية لا محال: قدرات مالية هائلة، وعلم ومعرفة، وقوة بشرية لها قابلة التعلم والتطور. إذن عناصر التقدم موجودة بل هي في تطور دائم.، والنتائج قادمة

في الثمانينات، أكتشف الأمريكان أن تعويلهم على الملالي بدرجة كبيرة لم يكن في محله، وبالغ خبراء الأمن في قدرة الملالي، ووصل نظامهم إلى عتبة الانهيار التام، فأوقفوا الحرب التي استطالت لثمان سنوات، وأستلم الأمريكان بصفة علنية ومباشرة إدارة العمليات العسكرية، وبعد 13 سنة من الحصار والقتال، أدرك الأمريكان مرة أخرى أن التدخل العسكري غير المباشر غير مجدي، والأمر يستدعي حربا شاملة ومباشرة لحل العقدة الرئيسية (العراق)، وهكذا خلقت المعطيات نفسها في حرب 2003.

أدرك الأمريكان والغرب هذه المرة أن نظام الملالي لا تتوفر فيه شروط قلب الشرق الأوسط بصفة كاملة، فالملالي لا يمتلكون ما يتصدر حملتهم من كعطيات سياسية وعسكرية واقتصادية وثقافية، فنظامهم قائم بقضه وقضيضه على خرافات، بدأ حتى المغفلون والسذج إدراكها، وتصدير الزناجيل هو أفضل صادراتهم، وأكثر من ذلك فأن نظامهم نفسه صار مرشحاً للتداعي والانهيار، وأن تشرق على الشعوب الإيرانية نفسها أفاق جديدة.

الأمر هنا صار يحتمل أمرين ....كيف ..؟

الأول : أن تشطب فكرة تمزيق بلدان وشعوب الشرق الأوسط، وهذه مستحيلة أن يدعون أمة من نحو نصف مليار عربي ومليار مسلم يتماسكون، يتضامنون، واقتصاد هائل تحت تصرفهم وقدرات علمية كبيرة وثقافية، ملامح لكيان سياسي / اقتصادي كبير، والغرب لا يقبل بوجود أقوياء وعشاق حرية، فهم لا يقبلوها من الروس المسيحيين الارثودوكس، والصين البوذيين، فكيف يقبلونها من عرب ومسلمون ..؟

الثاني : أن النظام الإيراني المؤسس عام 1935 وصممت له الخارطة السياسية التي تضم نحو 60% من شعوب غير راغبة في الانضمام لإيران، لكونها تمتلك خصائص قومية خاصة بها، أو لكونها أقتطعت من أوطانها لتؤسس بريطانيا وأميركا الكيان الإيراني الذي ستكون له مهامه وواجباته، في الأساس منها، خلق المتاعب السياسية في حوض الخليج العربي، وفي منطقة جنوب شرق آسيا(مجموعة البلدان التركية).. وأن أي تغيير في هذه الهيكيلية الحساسة من شأنها أن تحدث تغيرات كبيرة (ما لم نقل جذرية) في عموم المنطقة، لغير صالح الغرب.

الأمر أصبح من الأهمية بمكان، وعدم السماح بسقوط النظام الإيراني، فالوضع الحالي الإيراني بنبأ بتشظي إيران حال سقوط نظام الملالي. ولكن كيف نحافظ على النظام الذي ينفق موارده الاقتصادية على التسلح، والتآمر والتدخل في الأقطار المجاورة، بحيث غدا أن خروجه من إحداها سيتسبب بسقوطه ...!

كان قرارهم هو : إيران نووية، لعل في هذا سيكون إحدى مقومات القوة بيد الدولة،، ولكنهم سيكتشفون أن هذا وهم آخر وخطأ سياسي وفكري يقع فيه المخطط الأمريكي، إذ لا يمكن للدولة استخدام الأسلحة النووية داخل حدودها ... كما أنها لا تستطيع أن تجعل لتدخلها مخالب نووية .

إيران ليست مهددة بتدخل خارجي، فإرادة الشعب الآذري الجنوبي في الاتحاد مع الجزء الشمالي من وطنه هي إرادة وطنية، وينطبق ذات المقياس على العرب والأكراد والبلوش، وربما اللور أيضاً... فقد تعرفت مرة على قيادي في حزب اللور فإذا به يستنكف أن يحسبوا على الفرس ...!

وأعتقد أن الهم الإيراني وهواجسه هي هموم وهواجس بريطانية وأمريكية وغربية عموماً، والغرب لا يريد أن يرى مقابلة دول قوية عديدة، هو الآن يعاني من أتساع قوتها الأتراك، والعرب، والبلوش، فكيف إذا ضمت لها أجزاء أخرى ..؟ وأي نظام في إيران : قاجاري، بهلوي ، ملالي، هو أفضل من أن يسقط النظام وتنشأ قوى جديدة يصعب على الغرب جمعها على طاولة واحدة والتفاهم معها.

أما قصة الشيطان الأصغر والأكبر وجمهورية إسلامية، فهذه من بين الخرافات والاساطير التي لا محل لها سوى لدى من لا يفهم السياسة إلا بناء على أمزجة ... النووي الإيراني لعبة جر حبل يمارسها الغرب بشغف ومهارة، لحوالي 20 عاماً  خلت وهم يلعبون هذه اللعبة .... وللأسف هناك من يصدق أن الغرب لا يريد لإيران أن تمتلك السلاح النووي.

 

 

ماذا حدث في الصين الشعبية

 

ترجمة : ضرغام الدباغ

 

كان القائد لين بياو، يعتبر الشخصية السياسية والعسكرية الأكثر أهمية في الصين. وكان مقدراً أن يصبح خليفة الزعيم ماوتسي تونغ، وإذ به يختفى ذات يوم من على المسرح السياسي دون إيضاحات ولم يعد يشاهد بعدها !

لين بياوهو  : (1907 - 1971) أحد القادة الشيوعيين الصينيين ساهم في الصراع على السلطة في الصين وشغل عدة مناصب عسكرية هامة اشتهر بانتصاراته على اليابانيين وهزيمته للوطنيين في الحرب الأهلية الصينية ودعمه لكوريا الشمالية في الحرب الكورية ضد قوات الأمم المتحدة وفييتنام الشمالية في حرب فييتنام

ولد لين في 5 / كانون الأول ــ ديسمبر /  1907 في مقاطعة هوبيه ابناً لصاحب مصنع وتخرج من أكاديمية وامبو العسكرية عام 1926 وصعد سلم الترقيات سريعاً في أثناء الحملة الشمالية من تموز ــ يوليو 1926 حتى أبريل 1927 ليصبح رائد في أقل من عام بعد ذلك فر من الجيش الوطني لينضم إلى الشيوعيين

في 8  / أيلول ــ سبتمبر 1971/ شرع لين في عمل عسكري للاستيلاء على الحكم واغتيال ماو إلا أن منافساً له كشف خطته مما مكن ماو تسي تونغ من الاحتفاظ بالحكم فحاول لين الهروب برفقة أسرته إلى الاتحاد السوفيتي ولم تعلن الحكومة الصينية إلا أواخر عام 1972 أن لين وأسرته قد لقوا مصرعهم في 13 سبتمبر 1971 عندما تحطمت الطائرة التي تقلهم في أندرخان (undurkhan) بمنغوليا

إنها من الفصول النادرة للصراع السياسي في جمهورية الصين الشعبية، والقائد لين بياو لم يكن شخصية عابرة في التاريخ السياسي الحديث للصين، فهو من القادة التاريخيين ممن رافقوا الزعيم ماو في مسيرة تحرير الصين وفي قيادة الحزب، ومن ابرز قادة الثورة الثقافية (في ستينات القرن المنصرم) وشخصية مهمة في الزعامة الصينية.

اختفى هذا القائد دون إيضاحات كافية للشعب، ولأصدقاء الصين قبل خصومه، ترى أكانت نهاية درامية للثورة الثقافية التي لم يجري لها تقييم موضوعي عادل، أم ترى أن القائد لين بياو أراد استباق العاصفة، وعندما فشل أراد الهروب ففشل مرة أخرى ؟

هذا التقرير قد يلقي بعض الأضواء على هذه الحادثة التاريخية المهمة كخلفيات وكحدث ثم كنتيجة !

 

 

 

 

 

 

حين أرخى الظلام سدوله على ميدان تيان آمين، وفي فترة ما بعد الظهيرة، بدأت مكبرات الصوت بإذاعة موسيقى ومارشات عسكرية، وأجرى الآلاف من الطلاب والجنود تجربة مسيرة الأول من أكتوبر/ تشرين الأول حيث سيجري الاحتفال بمناسبة الذكرى الثانية والعشرون لتأسيس جمهورية الصين الشعبية. ولكن الهدوء عاد الآن إلى عاصمة الملايين، بكين، وقد خلت الساحة تقريباً منهم. ولكن سرعان ما عاد ضجيج الدراجات البخارية يحرك هدوء المساء فيما تقاطرت عربات الليموزين السوداء أمام البناية الكبرى لنواب الشعب، التي تقل الشخصيات السياسية البارزة في جمهورية الصين الشعبية والحزب الشيوعي الصيني، يدخلون البناية بخطوات مسرعة، وكان رئيس الوزراء زهاو من بين الحاضرين أيضاَ هذا الاجتماع المسائي، ولكن الغائب الأكبر كان: لين بياو وزير الدفاع ونائب الزعيم ماو، وخليفته المعلن، والرجل الثاني في البلاد.

 

وفي نفس الليلة، كانت طائرة نفاثة من طراز ترايدنت قد أقلعت من مطار بيداهي (حوالي 240 كم شرقي العاصمة بكين)، وحلقت باتجاه الشمال وقطعت حوالي الساعة الثانية فجراً الحدود مع جمهورية منغوليا الشعبية، لكنها وبعد نصف ساعة هوت الطائرة وتحطمت على الأرض. وعثرت فرق الإنقاذ بين حطام الطائرة على بقايا بدلات عسكرية للقوات الجوية الصينية، ووثائق ممزقة وأسلحة وجثث متفحمة.

 

هذا ما حدث في 12 أيلول ـ سبتمبر 1971، ولكن ما ظل في طي الكتمان هو: كيف حدث ذلك ؟ وما هي مداخلات الحادث ؟

 

أهو صراع على السلطة ؟

وما لفت الأنظار في المرحلة التالية، أن وزير الدفاع لين بياو قد اختفى مع عدد من الضباط من الرتب العالية، من دائرة الأضواء، ولم تعد تذكر أسمائهم. كما أن الوكالة الرسمية للأنباء الصينية (شيخنوا)، لم تقدم إيضاحاً عن ذلك، بيد أن المراقبين الغربيين رجحوا أن صراعاً قوياً على السلطة يدور خلف الكواليس، وهو افتراض أثبت صحته فيما بعد.

وكان الصراع على السلطة قد ابتدأ قبل ذلك ببضعة أعوام، عندما أعلن ماوتسي تونغ الثورة الثقافية عام 1965 التي لم تهدف إلى تعبئة الوعي الثوري لدى الشباب فحسب، بل وفي الوقت نفسه، عبرت عن محاولة لإعادة ترتيب صفوف القيادات حيال تفشي اتجاهات ومجموعات براغماتية كانت تحيط بالزعيم ماو.

وعلى نقيض ماوتسي تونغ، طرح ليوشاوشي مبادئ: الأجر حسب العمل، والملكية الأرض المحددة للفلاحين، واستخدام جزئي لاقتصاد السوق. وفي مطلع صيف عام 1966 تمكن من حشد عدد كاف من أنصاره في الحزب من أجل تحقيق هذه التوجهات وإنجاحها، ثم لإبعاد الزعيم ماو من قيادة الحزب الشيوعي. ومن أجل أن يتمكن هذا المشروع من النجاح، اقتحمت قوات لين بياو وسيطرت على العاصمة وعلى مقر قيادة الحزب، وعزلت كبار أعوان ليو شاوشي الذي أختفى عن المسرح السياسي.

 

أيديولوجية أم أنتاج سلعي ؟

أدخلت الثورة الثقافية الصين الشعبية في أجواء فوضى الحرب الأهلية، ولم تجد نهاية لها، إلا بعد تدخل الجيش كقوة منظمة، وأخذ العسكريون على عاتقهم واجبات الإدارة، وسيطروا وأداروا المحافظات والموظفين المحليين، ومارسوا هيمنتهم على الموضوعات الأساسية، وعلى الواقع العملي الاقتصادي اعتماداً على الايدولوجيا، فيما مثلت موضوعات الثورة الثقافية الخلفية النظرية لها. وكان المعارض الرئيسي لهذه التوجهات هو رئيس الوزراء زهاو، الذي طالب بإنهاء الصراع الأيديولوجي غير المجدي، والاهتمام عوضاً عن ذلك بسياسة تهدف إلى رفع الإنتاج وإعادة الكثير من الكوادر الحزبية التي طردت خلال الثورة الثقافية إلى وظائفهم.

 

واجه لين بياو وقادة آخرين من القيادات العسكرية، هذا الانقلاب الجديد في التحرك السياسي، بمقاومة شرسة، ووجدوا أن الوقت قد حان لكي يجعلوا من الجيش القوة الحاسمة في الآيديولوجيا والسياسة. وعندما أنعقد مؤتمر الحزب الشيوعي الصيني في ابريل ـ نيسان /1969 كرس لين بياو كخليفة رسمي للزعيم ماو، وقد بدا هذا الهدف قد أصبح قريباً، وبعد عام ونصف فقط كان قد تمكن لين بياو من تهديد زهاو ومجموعته بزجهم في السجن.

 

حركة سياسية

ترى أي دور كان لماو في هذا الصراع من أجل السلطة ؟ ها كان حقاً يدعم لين بياو، أم أنه تحول إلى زهاو ؟ قراران أوضحا إلى جهة أنحاز الزعيم ماو.

كان القرار الحاسم الأول: كان ذو طبيعة سياسية داخلية حيث ألغى ماوتسي تونغ منصب رئيس الدولة الذي شغله منذ البدء ليوشاوشي، وكان لين بياو يأمل أن يشغل بنفسه هذا المنصب، وكان كوزيراً للدفاع أقل درجة بروتكولياً من غريمه زهاو. وبهذه الخطوة قوض ماو قرار عام 1969 إلي كان قد كرس لين بياو كخليفة له وكرجل ثان في الدولة كنتيجة لذلك.

والقرار الحاسم الثاني: كان ذو طبيعة سياسية خارجية، حيث دعا رئيس الوزراء زهاو باسم الزعيم ماو الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون لزيارة الصين، فقام لين بياو على النقيض من توجه رئيس الوزراء زهاو، وطالب بالتصالح مع الاتحاد السوفيتي.

كان ذلك في متأخر صيف 1971، عندما أختفي لين بياو، وكان ذلك يدل بوضوح على تحول الزعيم ماو عن رفيق كفاحه في المسيرة الكبرى والحرب التحرير.

571 ضد B52

حتى وإن لم يكن هناك إيضاح رسمي، تسربت الأنباء والتقديرات، وأفضل تلك اللواقط هي صحف هونك وكونك التي كانت ومنذ أكتوبر 1971 كانت قد ذكرت، أن لين بياو كان في عداد ركاب الطائرة الصينية التي سقطت على أراضي جمهورية منغوليا الشعبية حيث كان يحاول الهروب إلى الاتحاد السوفيتي بعد محاولة أخفقت للانقلاب على ماوتسي تونغ. وفي عام 1973 ظهرت في الأوراق السرية للحزب الشيوعي الصيني بأنها كانت محاولة انقلاب، هكذا كتب بدقة.

سوية مع ضباط كبار، كان لين بياو وأبنه لين ليغة والذي كان ضابطاً برتبة رفيعة في القوات الجوية الصينية قد أتخذ القرار بالقيام بانقلاب على الزعيم ماو، وكانت خطة الانقلاب قد اتخذت الاسم الرمزي تمويهاً(المشروع B52) وكان الرقم والحروف qi yi zw وهو ما يعني "انتفاضة مسلحة" عندما يغير طريقة اللفظ. وكان الرمز الكودي للزعيم ماو هو أيضا  B52، وهو ما يطابق أسم الطائرة القاصفة الأمريكية الشهيرة أيضا، التي يعتبرها الصينيون المزعج الأكبر .

وكان المتآمرون يعدون ماو بوصفه " الطاغية الأكبر في تاريخ الصين " ويمضون إلى القول، أن B52 لم يبق من عمره سنوات كثيرة، والأعوام الأخيرة شهدت الأعداد لمرحلة ما بعد وفاته، وهو لا يثق بنا، ومن الأفضل أن تحمل المعارك الأخيرة أفضل من انتظار أم يزجوا بنا في السجن. ومن أجل كسب هذه المعركة الأخيرة، فإن كافة المعارك مشروعة: القصف، الغاز السام، الأسلحة البايولوجية، الخطف، القتل والحوادث ذات الإخراج الجيد، في المقام لابد من إبعاد ماو عن السلطة.

كان قد تم الإعداد والتخطيط لثلاث ضربات ضد الزعيم ماو، كان أخرها نسف القطار الذي يستقله وتفجيره في رحلته التفقدية إلى شنغهاي، والضابط الذي كلف بتنفيذ العملية، أصيب بالرعب قبل تنفيذ المهمة. بل أن الطيارون الذين اختيروا لقصف الفيلا الصيفية للزعيم ماو في شنغهاي ترددوا في ذلك ووضعوا الجبس في عيونهم ليصابوا بالتهاب في العين وبالتالي ليصبحوا في وضع لا يسمح لهم بالطيران. والمحاولة الثالثة والأخيرة جرت ليلة 12 / سبتمبر ـ أيلول، حيث كان أحد الضباط المتواجدين في مقر إقامة الزعيم ماو في بكين بواجب الساعي الخاص الذي ينقل الرسائل الخاصة للزعيم ماو، أبدى الحراس الشكوك حوله ولما جرى تفتيشه وجدت لديه الأوامر الخطية باغتيال الرئيس ماو. بعد ذلك كان قد غدا واضحاً، أن محاولة الانقلاب قد فشلت بصفة نهائية، ولم يعد أمامهم سوى الهرب.

 

خائن في العائلة ؟

في غضون ذلك سرت في صفوف القيادات الحزبية العليا أعلى درجات الإنذار، وكان من العسير التنبؤ أي وحدات عسكرية هي مع أو ضد الزعيم ماو. كما لم يكن واضحاً بدقة مدى عمق الخطط لدى الانقلابيين.

قرر رئيس الوزراء زهاو، فيما بعد، أن لا أحد في بكين كان على علم دقيق بخطط الانقلابيين. وفي 12 / سبتمبر ـ أيلول، لم تكتشف خطط المتآمرين إلا لاحقاً بعد الإطلاع على الملفات والتخطيطات التي كان المتآمرون قد أعدوها. وكان قد تناهى إلى الأسماع من الإشاعات الدائرة الزعم أن لين دودو ابنة لين بياو من زواجه الأول، كانت قد أطلعت رئيس الوزراء زهاو على خطط المتآمرين وأيضا على خطة هروب والدها في حالة فشل المؤامرة.

كان لين بياو وزوجته ياكون ونجله لين ليجو وبعض كبار القادة العسكريين، قد انسحبوا إلى بايداهي، والانتظار من هناك خطوات تنفيذ خطة المشروع 571 وتطوراته، حيث وصلتهم أخيراً أنباء فشل الانقلاب. ولاحتياطيات أمنية، كان لين بياو قد أمر بتحضير ثلاثة طائرات نفاثة من طراز ترايدنت (طائرة نقل ركاب بريطانية الصنع) التابعة لسلاح الجو الصيني، وكان رئيس الوزراء زهاو على علم بذلك، لذلك أصدر أمراً بمنع الإقلاع من كافة مطارات الصين.

ولكن لين بياو نجح في حمل موظفي ومستخدمي المطار على تعبئة الطائرة بالوقود، وفي اللحظات الأخيرة حاولت عربة وقود صهريج إعاقة الإقلاع بوقوفها في المدرج، ولكن قائد الطائرة نجح بحركة بارعة من رفع الطائرة إلى الأعلى متفادياً عربة الصهريج، والإقلاع بها باتجاه الشمال، ويرجح أن يكون هدف الرحلة: الإتحاد السوفياتي. وكان على متن الطائرة: لين بياو وزوجته وابنه وخمسة من كبار القادة العسكريين.

 

فشل الهروب

لم يكن حظ المتآمرين جيداً، فقد هوت الطائرة وتحطمت على الأرض، شرقي العاصمة المنغولية أولان باتور. والأسباب ظلت مجهولة. وبموجب المعطيات الرسمية المنغولية، أن الطيار قد أمتنع عن سلوك خط ووجهة طيران صوب الإتحاد السوفياتي، وبناء على ذلك فقد حصل أطلاق نار على متن الطائرة، هوت على أثرها وتحطمت على الأرض.

 

أراء أخرى تتناقض مع هذا العرض، إذ تفترض نقص الوقود في الطائرة لم يوصلها إلى هدفها، إذ تعمد رجال الخدمات في مطار بيدايهي عدم تعبئة الطائرة بالوقود تماماً، كما تناهت إشاعات تقول أن طائرات مقاتلة صينية أطلقت النيران على طائرة لين بياو وإصابتها مما أدى إلى سقوطها، ثم وكاحتمال أخير: أن تكون قوات الدفاع الجوي المنغولية قد قامت بإسقاط الطائرة.

ولكن من المؤكد أن لين بياو كان في عداد ركاب الطائرة ولقي حتفه فيها عندما تحطمت، وقد تمكن الأطباء السوفيات الذين فحصوا الجثث، أن يتثبتوا من ذلك، والتأكد من جثته وتشخيصه بدقة. وأخيراً فإن كافة الجثث لم تعاد إلى الصين، بل دفنت في مكان سقوط الطائرة.

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

Wie geschah es Wirklich

Reader Digest  /  The Beste

 

1990 Stuttgart

 

 

 

 

لقاءات مع ثلاثة

 قادة في الجيش العراقي

 

د.  ضرغام الدب