الرئيسية || من نحن || || اتصل بنا

 

 

جميل السلحوت كاتب فلسطيني

يوميات الحزن الدّامي

جميل السلحوت

آلاء ومؤمن

 آلاء محمد قدوم، طفلة ومؤمن محمد النيرب طفل في الخامسة من عمريهما، يحلمان بكسوة جديدة استعدادا لدخول المدرسة، صاروخ من طائرة فانتوم يهدم بيتيهما على جسديهما الصّغيرين، تحلّق روحاهما في حوصلتي طائرين أخضري اللون. الجامعة العربيّة تراقب من بعيد. دول عربيّة تنسّق مع تل أبيب وواشنطن لمحاربة إيران، ووزير الحرب الأمريكيّ يؤكّد على حقّ اسرائيل في الدّفاع عن نفسها.

5 أب- أغسطس- 2022

وحيد والديه

بعد علاج استمرّ ثلاثة عشر عاما حملت بطفلها الذي لم تنجب قبله ولا بعده، حضنته بحدقات عينيها تسعة عشر عاما، قدّم لها قبل أشهر باقة ورد تهنئة بتخرجها من الجامعة، فرأتها جنّة من النّعيم، بينما كانت تمسّد شعر رأس شعر وحيدها خليل أبو حمادة، تقبّل جبينة، أطاح بجسده صاروخ من زنّانة، أغمي عليها وهي ترى أشلاء كبدها. أبوه الجريح ينظر جسد وحيده الممدّد ولا يستطيع احتضانه.

 ومن بعيد أعلن قائد الجيوش الأمريكيّة: من حقّ اسرائيل أن تدافع عن نفسها.

6 آب-أغسطس 2022

رضيع

عندما قصفت الطّائرة الحربيّة بيتهم المجاور، تطاير زجاج نوافذ بيتهم ليحطّ على وجه وجسد الرّضيع محمّد ابن الأشهر الثّلاثة، إحدى الشّظايا غطّت عينه، بعضها تساقط في فمه الصّغير، دموعه تختلط بدمائه.

في المغرب الحكومة مشغولة ببناء قاعدة عسكريّة اسرائيليّة، وبناء مصنع إسرائيليّ للطّائرات المسيّرة على الحدود الجزائريّة.

بعض القادة العرب يعبّرون عن قلقهم.  النّاطق العسكريّ الاسرائيلي يعلن عن مواصلة الغارات حسب بنك الأهداف.

 البيت الأبيض يتفهّم حقّ اسرائيل في الدّفاع عن نفسها، ويعلن قلقه من المناورات العسكريّة الصّينيّة في بحر الصّين.

6-آب- أغسطس 2022

 

زفاف الأمّ

ذهبت في سيّارة لإحضار عروس ابنها لإتمام الزّفاف -حسبما هو مقرّر- دون احتفالات، في الطّريق إلى بيت العروس قذفتها طائرة عسكريّة بصاروخ اختطف روحها، زفّوا الوالدة الحماة إلى مثواها الأخير، وبقيت العروسان ينتظران موعدا جديدا.

دول عربيّة تتوسّل أمريكا لوقف الحرب حفاظا على مياه وجوه قادتها.

دول الاتّحاد الأوروبيّ تشارك الأمين العام للأمم المتّحدة قلقه على السّلم العالميّ، وتؤكّد على حقّ اسرائيل في الدّفاع عن نفسها.

6 آب-اغسطس-2022

 

التّوأمان

شيرين وجنين محمد ثابت توأمان لم يبلغا من العمر شهرين، اختار أبوهما لهما هذين الإسمين تخليدا لذكرى الصّحفيّة الشّهيدة شيرين أبو عاقلة، وتقديرا لتضحيات مدينة جنين، عاجلهما صاروخ من طائرة مقاتلة، فطيّر جسديهما الصّغيرين.

وهناك جرى تطيير رئيس منظّمة العفو الدّوليّة من منصبه لأنّه انتقد الجيش الأوكرانيّ. والنّاطق باسم الخارجيّة الأمريكيّة يؤكّد على حقّ اسرائيل في الدّفاع عن نفسها.

7 آب- أغسطس 2022

 

علامة النّصر

لم تكمل عامها العاشر، غارة جويّة أفقدتها ساقيها ويدها اليمنى، عندما صحت من تخدير العمليّة الجراحيّة رفعت أمام مصوّري التّلفزة شارة النّصر بيدها اليسرى.

فضائيّات عربيّة تتحدّث عن "القتلى" الفلسطينيّين. المستوطنون يقتحمون حرمات المسجد الأقصى،  وسفراء أمريكا وإسرائيل يؤكّدون على حقّ اسرائيل في الدّفاع عن نفسها.

7 آب-أغسطس-2022

 

 

 

طريق القدس بعيدة

جميل السلحوت

- خرجت مهيبة خورشيد من قبرها، تجوّلت في محيط مسجد حسن بيك...لم تشاهد رجالا يتكلّمون العربيّة...استحمت ببحر يافا وقالت:

إلى القدس وإن طال السّفر.

- في لبنان خرجت سناء المحيدلي من قبرها، تجولّت في شوارع بيروت، وقفت في ساحة البرج...نظرت إلى كلّ الجهات....لم تشاهد رجالا... عادت إلى صيدا ...خلعت ملابسها...استحمّت ببحرها وقالت:

إلى القدس وإن طال السّفر.

- في الكرخ خرجت راوية العراقية...مشت في شارع الرّشيد...رأت ماجدات مع أطفالهن ترتسم على وجوههنّ علامات البؤس ...لم تشاهد رجالا غير العجم...توجهت الى دجلة الخير...رأت دماء في مياهه...استحمت وقالت:

إلى القدس وإن طال السّفر.

- في دمشق خرجت فطّوم من لحدها...بكت عندما رأت الدّمار يطال معالم المدينة التاريخية...لم تشاهد هي الأخرى رجالا...مدّت قدميها في مياه بردى...فكّرت قليلا...خلعت ملابسها...استحمت بمياه النهر وسط نظرات الحسناوات...صاحت بهنّ:

إلى القدس وإن طال السّفر.

في نابلس خرجت لينا النابلسي من قبرها عندما سمعت أزيز رصاص يستهدف الدكتور ناصر الدين الشّاعر، هربت من مدينتها، مشت جنوبا إلى قطاع غزّة وخلفها غابة من النّساء، رأين مدرسة تحمل اسم "مرمرة" بدل اسم الشّهيد غسّان كنفاني، لطمن الخدود، قددن الجيوب، وصرخن بصوت واحد:

عندما يستباح الدّم الفلسطيني بأيد فلسطينية، ويتمّ اغتيال الشّهيد مرّتين، تصبح طريق القدس بعيدة جدا.

 

"وطن على شراع الذّاكرة"

والفردوس المفقود

جميل السلحوت

 

عن دار الأسوار في عكّا صدر قبل أيّام كتاب"وطن على شراع الذّاكرة"، وهو رسائل متبادلة بين الأديبة الفلسطينيّة د. روز اليوسف شعبان المقيمة في بلدة طرعان في الجليل الفلسطيني، والسّفير الفلسطيني الدّكتور الشّاعر د. عمر صبري كتمتو المقيم في أوسلو، ويقع الكتاب الذي صمّمت غلافه ومنتجته وأخرجته الفنانة مريم صبّاح في 120 صفحة من الحجم المتوسّط.

معروف أنّ فنّ الرّسائل ليس جديدا في الثّقافة العربيّة، وإن كانت الرّسائل الأدبيّة ليست واسعة الإنتشار في الأدب العربي الحديث. لكنّها تبقى موجودة، فعلى سبيل المثال في العصر الحديث هناك رسائل جبران خليل جبران ومي زيادة، غسان كنفاني وغادة السمان، أنسي الحاج وغادة السمان، خليل حاوي ونازلي حمادة. محمود شقير وحزامة حبايب، محمود شقير وشيراز عنّاب، الأسير حسام شاهين وقمر، جميل السلحوت وصباح بشير. و"رسائل فوق المسافات والجدران" لنسب أديب حسين، والذي يحوي الرّسائل المتبادلة بين نسب ود. بيان نويهض، والرسائل التي تبادلها والداهما المرحومان أديب حسين وعجاج نويهض.

بداية يجدر التّنويه بأنّ الكاتبين تعرّفا على بعضهما من خلال تقنيّة زوم، بحضورهما جلسات ندوة اليوم السّابع الثّقافيّة المقدسيّة الأسبوعيّة التي تعقد جلساتها مساء كلّ خميس، والتي انتقلت من قاعة المسرح الوطني الفلسطينيّ- الحكواتي- في القدس، إلى تقنيّة زوم بعد جائحة كورونا عام 2019، حيث انضمّ إلى الندوة عدد من الكتّاب والمثقّفين من خارج القدس ومن جميع أنحاء العالم. وها هي جمعت بين شاعرين فلسطينيّين عن بعد، بين الفلسطينيّ الدّكتور عمر صبري كتمتو، الذي ولد في عكّا، وشرّد مع أسرته منها وهو طفل في نكبة شعبه ووطنه الأولى عام 1948م، ويقيم الآن في أوسلو-النّرويج، والدكتّورة روو اليوسف شعبان، التي ولدت وترعرعت ولا تزال تعيش وتعمل في بلدة طرعان الجليليّة الفلسطينيّة. وقد تطوّرت العلاقة بين الأديبين عندما ناقشت ندوة اليوم السّابع "مسرحيّة بيت ليس لنا" للدّكتور عمر كتمتو، وديوان "أشواق تشرين" للدّكتورة روز اليوسف شعبان، وكلاهما أعجب بما كتبه الآخر، فتولّدت بينهما صداقة عن بعد أنتجت لنا كتاب الرّسائل هذا.

وهنا لا بدّ من التّنويه بأنّ نشر الرّسائل التي تبادلها الأديبان الكبيران محمود شقير وحزامة حبايب قد فتحت الباب أمام الكتّاب؛ لنشر رسائل تبادلوها، كما حصل مع جميل السلحوت وصباح بشير، فنشرا رسائلهما "رسائل من القدس وإليها، قبل رسائل اليوسف وكتمتو بأيّام قليلة، فالأخيران كتمتو واليوسف تكتّما على رسائلهما حتّى ظهرت بداية شهر تمّوز-يوليو-2022في كتاب

" وطن على شراع الذّاكرة"، فهل أصابتهما العدوى من شقير وحبايب كما حصل مع السلحوت وبشير؟ والجواب: ربّما.

لكنّ الوضع مختلف بالنّسبة للأسير حسام شاهين، الذي كتب رسائله لقمر بنت أحد أصدقائه الذي اختبأ في بيته وهو مطارد، وتركها طفلة عندما وقع في الأسر عام 2004.

ما علينا، سنعود إلى الكتاب الذي نحن بصدده، "وطن على شراع الذّاكرة"، وهذا العنوان يدخلنا في دائرة تساؤلات كثيرة، فالكاتب د. عمر صبري كتمتو ولد عام 1943 في مدينة عكّا الفلسطينيّة، وشرّد وأسرته مع من شرّدوا من أبناء شعبهم في نكبة العام 1948م، لكنّ ابن الخامسة هذا لم ينس مسقط رأسه، وطفولته الأولى وذكرياته الطّفوليّة البريئة في بيت أسرته ومدينته وبحرها الذي تحطّمت على أسوارها سفن نابليون قبل قرنين وعقدين. وإذا ما عاش هذا الطفل في دمشق ودرس في مدارسها، ودرس مرحلته الجامعية في صوفيا، وعمل في الجزائر، وتنقّل في بعض الدّول الإسكندنافيّة، وعمل في بعضها سفيرا لمنظّمة التّحرير الفلسطينيّة وللسّلطة الفلسطينيّة، إلّا أن بوصلته لم تحد يوما عن وطنه الذي شرّد منه، ولا عن بيت أسرته في مدينة عكّا.

ويلاحظ أنّ الرّسالة الأولى التي كتبتها د. روز اليوسف شعبان مؤرّخة في 13 مارس 2022. وجاءها الرّدّ في اليوم التّالي مباشرة. وأنّ الرّسالة الأخيرة كتبتها د. شعبان أيضا في 10 ابريل 2022، وأنّ كلا الكاتبين كتبا خاتمة هذه الرّسائل في 11 ابريل 2022. أيّ أنّ هذه الرّسائل المتبادلة قد كتبت وأعدّت للنّشر في أقلّ من شهر واحد.

ويلاحظ أنّ الكتبة شعبان كانت تفتتح رسائلها بـ "صديقي المغترب عمر، فيردّ عليها:صديقتي في الوطن روز" و"صديقي في المنفى، فيردّ عليها: صديقتي في الوطن" و" صديقي المغترب، فيردّ عليها: صديقتي في الوطن"، لتتطوّر العلاقة الأخوية بينهما، فيكتب د. كتمتّو:"صديقتي وأختي العزيزة روز، فتردّعليه: صديقي وأخي العزيز عمر".

ويلاحظ  أنّ هذه الرّسائل المتبادلة من وراء البحار، كان الجامع بين الكاتبين فيها هو حبّ الوطن، يقول د. كتمتو ص 18:" لا تؤاخذيني يا صديقتي، فأنا لم ألتق بك بعد، غير أنّ الوطن وحبّ الأدب جمعنا."، وبما أنّ رسائلهما احتوت على قصائد لكلّ منهما، وحتّى قصائد لشعراء آخرين مثل محمود درويش وراشد حسين وشكيب جهشان تعبّر عمّا يجيش في صدر كلّ منهما، فإنّ د. كتمتو يقول:" يا لهذا القدر الذي أوصلنا إلى صياغة الواقع في جمال الشّعر ورحابة صدر اللغة."ص20.

وهنا لا بدّ من التّنويه بأنّ الكاتبين قد استعملا في رسائلهما لغة شعريّة وشاعريّة جميلة، تأسر المتلقّي وتسحره بجمالها ومباشرتها ورقّتها، وازدادت جمالا بالمضمون الذي يتحدث عن وطن شُرّد شعبه، وعن ذكريات إنسان رقيق يتذكّر مسقط رأسه ومدينته بلوعة بائنة، فتتلقّفها أديبة متمكّنة وتعزف على حبّ الوطن هي الأخرى، فهل تبقى الذّكريات حلوة حتّى لو كانت مرّة؟ لكنّ التّعلّق بهذه الذّكريات تؤكّد من جديد، أنّ الحق سيعود لأهله ولو بعد حين.

من الرّسالة الأولى يذكر د. كتمتو بأنّ الطفل الذي كانه وكبر معه، لم ينس البيت الذي ولد فيه، ولا شجرة التّين التي أمامه، ولا سمعان بائع الفخّار، ولا المقبرة التي بجانب البحر، ولا مطعم خريستو، ولا سبيل الطّاسات أمام مسجد الجزّار، حتّى أنّه عندما زار الوطن الذّبيح عام 1994، عاد يبحث عن بيته وما تحمله ذاكرته في طفولته عن مدينته، وهناك التقى بزميله في الدّراسة الجامعيّة المرحوم المهندس اسماعيل بكري، وزوجته الفنّانة سامية قزموز، ويعقوب وحنان حجازي والفنّان محمّد بكري.

لكنّ د. شعبان هي الأخرى لم تكتف بما ذكره صديقها د.كتمتو عن ذكرياته في عكّا، فذهبت هي الأخرى تبحث عن تلك الذّكريات، وتصوّر البيت وتبعث الصّور لمالكه الذي لن ينساه.

وإذا كان الدّكتور كتمتّو قد زار الوطن مرّة أخرى، ووقّع مسرحيته في متحف محمود درويش، وعاش ولا يزال وسيبقى يعيش مرارة التّشتّت والرّحيل، ويعذّبه الحنين إلى الفردوس المفقود، إلّا أنّ د. شعبان تعيش هي الأخرى لوعة ضياع وطن تعيش فيه، ومأساة ضياع وطن وحرمان شعبها من حقوقه، فكلاهما يتعذّبان وإن اختلفت الأسباب، لكنّهما لم يفقد الأمل بعودة الحقّ إلى أصحابه.

وبعد صدور الكتاب، التقى الكاتبان في أوسلو حيث سافرت د. روز وزوجها إلى تلك البلاد، وهناك سيكون البوح بالذّكريات عن عكّا وغيرها.

وماذا بعد: يبقى القول أنّه لا يمكن الإحاطة بمحتويات هذا الكتاب في هذه العجالة، والذي اتّخذت رسائله الطابع السّرديّ المطعّم بقصائد شعريّة، ولا ينقصه عنصر التّشويق بحيث يتمنّى القارئ بأن لا تنتهي هذه الرّسائل، التي تشكّل إضافة نوعيّة للمكتبة الفلسطينيّة بشكل خاصّ، وللمكتبة العربيّة بشكل عامّ، وترجمتها إلى الإنجليزيّة وإلى لغات أخرى ستشكّل رافعة جديدة لمأساة شعب ووطن.

فتحيّة للكاتبين، ولدار الأسوار التي نشرت هذا الكتاب.

22-7-2022

 

 

المتنزّه الإستيطاني

وتقرير المصير الفلسطيني

 

جميل السلحوت

الكشف عن المخطط الإستيطاني الإسرائيلي تحت شعار "المتنزّه الوطني"، والذي سيقوم على مليون دونم من الأراضي الفلسطينيّة المحتلة عام 1967، ويمتدّ من ستوطنة "كوخاف هشاحر" شرق رام الله؛ لتصل منطقة الهيروديون شرق بيت لحم. وهذا يعني مصادرة أراضي براري حزما، عناتا، العيسويّة، الطّور، العيزرية، أبوديس، عرب السّواحرة، العبيديّة والتّعامرة. ويعني أيضا مصادرة 20% من مساحة الضّفّة الغربيّة، ويعني أيضا فصل شمال الضّفّة الغربيّة عن جنوبها بشكل نهائيّ، لكنّه يهدف قبل كلّ هذا وذاك استيطان هذه المنطقة بشكل تدريجيّ، وما "المتنزّه الوطنيّ" هذا إلا للإستيلاء على الأراضي الفلسطينيّة، ليتمّ استيطانها حسب مخطّطات مرسومة ومدروسة بعناية، لكنّها تنسف إمكانيّة مجرّد الحديث عن إقامة دولة فلسطينيّة. ومعروف أنّ المستوطنات القائمة والتي تضخّمت بشكل واسع منذ توقيع خطيئة أوسلو في سبتمبر 1993، حاصرت المدن والبلدات الفلسطينيّة في الضّفة الغربيّة، وجعلت منها جزرا متباعدة.  وفي حال تنفيذ هذا المشروع، فإنّ مجرّد الحديث عن أيّ حلول سلميّة وسطيّة سيكون غباء فاضحا.

ومن اللافت أنّ الحكومات الإسرائيليّة المتعاقبة كانت تصادر بضع مئات أو آلاف من الدّونمات لإقامة مستوطنات عليها، وتعطي مبرّرات كاذبة كثيرة لهذا الإستيطان، لكن بعد انخراط كنوزها الإستراتيجيّة في العالم العربيّ سرّا وعلانيّة في عمليّات التّطبيع المجّانيّ، تحت شعار "سلام الشّجعان" و"القرارات السّياديّة" و"التّحالفات الأمنيّة والعسكريّة"، وبعد أن نقلت أمريكا سفارتها من تل أبيب إلى القدس، واعترافها بضمّ اسرائيل لمرتفعات الجولان السّوريّة المحتلّة، فإنّ اسرائيل لم تعد بحاجة إلى مناورات سياسيّة خادعة كما السّابق؛ كي تنفّذ مشروعها الإستيطانيّ التّوسّعيّ، ولم يعد لديها وقت حتّى للجلوس في مفاوضات عبثيّة لن تسفر عن أيّ شيء! وهي تعمل على فرض سياسة الأمر الواقع، التي تحصر الحقوق الفلسطينيّة في إدارة مدنيّة على السّكان وليس على الأرض، وتنفيذ ما يسمّى "بالحلّ الإقتصاديّ"، أي استغلال الأيدي العاملة الفلسطينيّة، لتجعل من الشّعب الفلسطينيّ مجرّد "حطّابين وسقّائين" -حسب التعبير التّوراتيّ، ولن يضيرها أن تكون دولة فصل عنصريّ ما دام حكّام العرب والعجم يعتبرونها "واحة الدّيموقراطيّة في الشّرق الأوسط"! وبما أنّ اسرائيل سنّت قوانين تفرض فيها أنّها "دولة اليهود"، فلن يكون ذلك اليوم بعيدا الذي تفتعل فيه حربا إقليميّة تقتل فيها من تقتل من الفلسطينيّين وتشرّد الباقين إلى الشّتات.

وإذا ما أراد الفلسطينيّون تقرير مصيرهم وإقامة دولتهم المستقلّة كبقيّة شعوب الأرض، فإنّه لا يبقى أمامهم إلّا تنفيذ المشروع الإسرائيلي القديم الجديد، بإقامة دولة فلسطينيّة في قطاع غزّة، تمتدّ بمساحة اثني عشر ألف كيلومتر في صحراء سيناء المصريّة، وهذا يندرج تحت المشروع الأمريكيّ "الشّرق الأوسط الجديد" الذي يرمي إلى إعادة تقسيم المنطقة إلى دويلات طائفيّة متناحرة، وتصفية القضيّة الفلسطينيّة لصالح المشروع الصّهيونيّ التّوسّعيّ الذي تتعدّى أطماعه حدود فلسطين التّاريخيّة. فهل يعي ذلك طرفا الإنشقاق الفلسطينيّ مع أنّ قادتهم يعلمونه؟ والحديث يطول.

19-6-2022

 

 

في ذكرى النكسة

جميل السلحوت

 

      في نهاية –أيّار- 1967 تقدّمنا لامتحان التّوجيهي الحكوميّ"التّوجيهيّ"، وبعده بأسبوعين سنجتاز الامتحان العامّ للثّانويّة الشّرعيّة، كانت المنطقة تعيش أجواء حرب، حيث تمّ حشد الجيوش، ووسائل الإعلام تبثّ الأناشيد الحربيّة، والخطب السّياسيّة الرّنّانة.

كانت قاعة الامتحان المخصّصة لمدرستنا في المدرسة العمريّة قرب باب الأسباط، نفس القاعة التي اجتزنا فيها "مترك السّادس الابتدائيّ".

صباح الخامس من حزيران 1967، الذي يصادف عيد ميلادي الثّامن عشر –حسب ما هو مسجّل بشهادة ميلادي- ونحن في قاعة الامتحان، طلب المراقبون منّا فور دخولنا قاعة الامتحان في الثّامنة صباحا أن نحاول إنهاء أجوبتنا بسرعة فائقة، لكنّهم لم يخبرونا أنّ الحرب اندلعت على الجبهة المصريّة، كنّا نسمع بوضوح نداءات الدّفاع المدنيّ عبر مكبّرات الصّوت المحمولة على سيّارات تجوب شوارع المدينة وتنادي:

"على المواطنين جميعهم إخلاء الشّوارع، والعودة إلى بيوتهم بالسّرعة الممكنة." فأصبح معلوما لدينا أنّ الحرب قد اندلعت.

أنهيت إجاباتي وكنت أوّل من خرج من القاعة، قريبا من مدخل المدرسة هناك مقهى صغير، صوت المذياع منه يرتفع معلنا سقوط 23 طائرة حربيّة اسرائيليّة أغارت على المطارات المصريّة. خرجت من باب المغاربة بعد أن منعنا رجال الشّرطة عند باب العمود من الوصول إلى محطّة الباصات، لأنّ حركة المرور توقّفت وشوارع المدينة تكاد تكون خالية من المارّة ومن السّيّارات أيضا. عدت إلى البيت مشيا على الأقدام مع عدد من طالبات وطلاب أبناء قريتنا، مرورا بسلوان.

بدأنا نستمع للأخبار، وكان "صوت العرب من القاهرة" هو المحطّة الاذاعيّة المحبّبة لدينا، والكلّ مؤمن بحتميّة النّصر.

عند العاشرة صباحا اشتعلت الحرب على الجبهة الأردنيّة، دارت المعارك الطّاحنة في جنين والقدس، وأصبح جبل المكبّر ساحة حرب.

وسط لعلعة الرّصاص وهدير المدافع، وعند ساعات المساء أعلن النّاطق العسكريّ الأردنيّ أنّ الأوامر صدرت للجيش بالانسحاب إلى خطّ الدّفاع الثّاني، ولم نعرف أنّ ذلك الخطّ هو نهر الأردنّ إلا في الأيّام اللاحقة. هربنا إلى البراري، فقريتنا إحدى القرى الأماميّة، وفيها جرت معركة شرسة حيث واجه الجنود الأردنيّون المسلّحون بالبنادق الدّبّابات الإسرائيلية ببسالة، وتعرّضوا للقصف من الطّيران الاسرائيليّ، وسقط منهم عشرات الشّهداء.

هرب عشرات آلاف البشر من القدس والقرى المجاورة إلى البراري أيضا، الطّيران الإسرائيليّ يجوب أجواء المنطقة ليل نهار، يلقي حممه على الدّروع والسّيّارات العسكريّة. بعض المواطنين واصلوا طريقهم شرقا باتّجاه الضّفّة الشّرقيّة.

تأكّدنا أنّ الهزيمة قد حلّت، خصوصا بعد إعلان الرّئيس المصري جمال عبد النّاصر استقالته في 9 حزيران معلنا مسؤوليّته عن الهزيمة، لكنّه عاد وسحبها استجابة لملايين المتظاهرين، الذين خرجوا مطالبين بعودته.

كانت الهزيمة صادمة للجميع، فأكثر النّاس تشاؤما كانوا يتوقّعون أنّه إذا لم يتمّ تحرير المحتلّ من فلسطين في نكبة العام 1948م، فإنّه يستحيل على اسرائيل أن تحتلّ أراضي جديدة، بل إنّ أحدا لم يفكّر بأنّ اسرائيل ستحتلّ أراضي جديدة.

لم ينزح من أبناء قريتنا إلى الضّفّة الشّرقيّة سوى من كانوا يعملون فيها أو في دول الخليج أو مغتربين في دول أخرى، فلحقت بهم أسرهم، كما انقطعت السّبل بطلاب الجامعات الذين كانوا يدرسون في جامعات عربيّة وأجنبيّة. والفضل في عدم نزوحنا الجماعيّ يعود إلى أحد حكماء القرية  المسنّين، الذي كان يقول للمواطنين:

هذه حرب بين دول و"من يترك داره يقلّ مقداره"، وقال بأنّ هناك فلسطينيّين بقوا في ديارهم عام 1948، ولا يزالون يعيشون فيها.

 كما أنّ إسراع اسرائيل في الإعلان عن وصول جيشها إلى نهر الأردنّ، ونسفها للجسور كان له دور أيضا في منع النّزوح، مع أنّ الحكومة الإسرائيليّة استغلّت حالة الهلع بين النّاس؛ لتتخلّص من أكبر عدد ممكن من الفلسطينيّين، تماما مثلما فعلت في حرب العام 1948م، فكانت حافلات شركة "إيجد" التي تحتكر حركة المواصلات العامّة في اسرائيل، تجوب شوارع المدن والقرى بصحبة دوريّات عسكريّة، معلنة استعدادها لنقل المواطنين إلى نهر الأردنّ مجّانا.

بدأت جرّافات الاحتلال بهدم حارتي المغاربة والشّرف المحاذيتين لحائط البراق، الحائط الغربيّ للمسجد الأقصى قبل سكوت هدير المدافع، تمهيدا لبناء حيّ يهوديّ في المكان داخل أسوار القدس القديمة.

       اندلعت الحرب وقد تبقّى على طلبة التّوجيهي مادّتين، ولاحقا أعلنت وزارة التّربية والتعليم إعفاء الطلبة منهما. الصّدمة كبيرة جدّا وتفوق الخيال، وألحقت الضّرر بالمواطنين جميعهم، فعدا عن الخسائر البشريّة والمادّيّة التي نتجت عن الحرب، فإنّ نتائجها النّفسيّة كانت ظاهرة للجميع، فخسارة الوطن لا تعادلها خسارة أخرى، وقد أصبحت فلسطين التّاريخيّة من بحرها إلى نهرها تحت الاحتلال، إضافة إلى صحراء سيناء المصريّة ومرتفعات الجولان السّوريّة، ومزارع شبعا اللبنانيّة.

            أكثر المتضرّرين من الحرب هم أبناء جيلنا، الذين تحطّمت كلّ طموحاتهم في استكمال تحصيلهم الجامعيّ، وبناء مستقبل كنّا نحلم به. كنت أبني آمالا بأن  أستكمل دراستي الجامعيّة، وأن أدرس اللغة العربيّة وآدابها. وقْعُ الهزيمة عليّ كان أكبر من قدرتي على الاحتمال، كنت أصعد إلى قمّة جبل المنطار في براري قريتنا وأنظر إلى القدس حزينا، أنام ليلي باكيا، أحلم أحلاما سوداويّة مزعجة لا نهاية لها، قرّرت العودة إلى بيتنا في جبل المكبّر، عدت بعد أسبوع من انتهاء الحرب برفقة والدي الذي عاد ليأخذ حمولة البغل من الطّحين، الرّز، العدس وأشياء أخرى، انتظارا لدراسة المحصول على البيادر في البرّيّة. رفعنا سروال أبي الأبيض على زاوية حبل الغسيل أمام بيتنا-كما فعل كثيرون مثل ذلك-، دلالة على الاستسلام، عاد أبي إلى البرّيّة وبقيت في البيت وحدي، نمت ليلتي وحدي قلقا، في اليوم التّالي عدت ثانية إلى البرّية.

قمنا بدراسة محصولنا من الحبوب على الدّواب، ورجعنا جميعنا إلى بيتنا في المكبّر. سمعنا نتائج التّوجيهي من الإذاعة الأردنيّة في عمّان، حيث نجحنا أنا وشقيقي ابراهيم.

الثّانويّة الشّرعيّة

       راجعت مدرستي بخصوص امتحان الثّانويّة الشّرعيّة العامّ، فوضعت إدارة المدرسة الجديدة بقيادة الأستاذ عكرمة سعيد صبري برنامجا لمن تبقّى من الطلاب في الأراضي المحتلّة. اجتزت الامتحان بتفوّق رغم الظّروف السّيّئة المحيطة، وهذا أهّلني للالتحاق بكلّيّة الشّريعة في الجامعة الأردنيّة كمنحة دراسيّة، لكنّ الجسور مغلقة، فعمّان أصبحت بعيدة عنّا رغم قربها، والوصول إليها بات شبه مستحيل، ووجدت نفسي بين خيارين هما:

الالتحاق بالجامعة ومغادرة الوطن، أو البقاء في الوطن حتّى ينتهي الاحتلال، فاخترت البقاء في الوطن، فأن تكون في قفص لا أبواب له خير من أن تصبح مشرّدا، وبدأت عذاباتنا وامتهان كرامتنا، واستباحة حياتنا منذ ذلك التّاريخ، لكنّني لم أتخلّ ولو للحظة عن حلمي باستكمال تعليمي الجامعيّ.

إكتشاف

     بعد انتهاء حرب حزيران اكتشفت أنّني فلسطينيّ، فكلّ ما كنت أعرفه أنّ فلسطين هي التي احتلّت عام 1948م، وقامت عليها دولة اسرائيل، وعشت وتربّيت وتعلّمت فيما مضى من حياتي كمواطن أردنيّ، والضّفّة الغربيّة كانت جزءا من المملكة الأردنيّة الهاشميّة، لكنّ وسائل الإعلام لفتت انتباهي بأنّ اسرائيل قد احتلّت ما تبقّى من فلسطين التّاريخيّة، والذي بات يعرف بعد نكبة العام 1948م بالضّفّة الغربيّة وجوهرتها القدس، وقطاع غزّة، إضافة إلى هضبة الجولان السّوريّة وصحراء سيناء المصريّة.

انتهت الحرب على غير ما نتمنّى، وسقط فيها عدد من المواطنين المدنيّين من قريتي ومنهم: نعمة محمّد حسين منصور، محمّد عبد حسن عبده، جميل حمدان سليم زحايكة، محمد محمود خلايلة ومحمّد سلامة عيد زحايكة.

زيارة الأقصى

     رغم الجراح التي لا تندمل للهزيمة الماحقة التي حصلت في حرب حزيران، والتي تشكّل نكبة ثانية لشعبنا العربيّ الفلسطينيّ، ورغم حالة الرّعب التي أورثتها هذه الحرب، كان لا بدّ من زيارة القدس للاطمئنان على المسجد الأقصى على الأقلّ، شجّعني على ذلك رؤية حافلات مناطق جنوب الضّفّة، بيت لحم، بيت ساحور، بيت جالا والخليل كانت تمرّ من الشّارع في قمّة جبل المكبّر إلى القدس ومنها. وصلت القدس أحتضن أحزاني وتراودني أفكار شتّى بالباص، كانت المدينة الحزينة تعجّ باليهود الذين كانت نشوة النّصر بادية على وجوههم، وعلى تصرّفاتهم، بينما المقدسيّون الفلسطينيّون تعلو الكآبة والانكسار والحيرة وجوههم. عند باب العمود وهو الباب الرّئيس للمدينة المقدّسة كان هدير الجرّافات التي تهدم الجدار الذي يمتدّ من الطّرف الغربيّ لباب العمود باتّجاه شارع المصرارة، وهو جدار بني بعد نكبة العام 1948م؛ ليكون حدّا فاصلا بين القدس الجديدة التي وقعت تحت السّيطرة الإسرائيليّة، والقدس الشّرقيّة بكامل جزئها القديم الذي يحتضنه سور المدينة التّاريخيّ. في حين كانت الأرض الواقعة خلف الجدار حتّى بناية "النوتردام" منطقة عازلة بين الطرفين. الجرّافات تهدم والشّاحنات تحمل الطّمم، والغبار يمتدّ في السّماء ويتساقط على المدينة المقدّسة، مشوّها قدسية المكان ووجه المدينة، وكأنّه يزيد أحزانها أحزانا جديدة.

     دخلت المسجد الأقصى من باب المجلس الإسلاميّ الأعلى، عندما اكتحلت عيناي برؤية الصّخرة المشرّفة بكيت المكان الذي كان هو الآخر باكيا. عندما وصلت المسجد القبليّ كان بابه الرّئيس -وهو باب خشبيّ تاريخيّ سميك- محطّما، وعلمت من المصلّين المقدسيّين أنّ دبّابة إسرائيليّة لاحقت المواطنين المدنيّين الذي احتموا بالمسجد المبارك أثناء اقتحام الجيش الغازي للمدينة، ولجأوا إلى المسجد القبليّ وأغلقوا الباب خلفهم، فدمّرته الدّبابة عندما اقتحمته بجنازيرها ومدفعها الثّقيل، ودخلت فيه أكثر من ثلاثة أمتار فارمة السّجّاد الفارسي الفاخر بجنازيرها. صلّيت ركعتي تحيّة المسجد وخرجت إلى السّاحة، كانت مئذنة باب الأسباط "المئذنة الصّلاحيّة" تعاني من بعض الانهيارات؛ بسبب قصف جوّيّ استهدف جنديّا أردنيّا كان يستحكم عند قمّة المئذنة، ويطلق نيرانه صوب الغزاة. لم يحتمل قلبي ما شاهدت، فقرّرت العودة إلى بيتي مشيا على الأقدام، كان باب المسجد الموصل إلى باب المغاربة مغلقا، حيث كانت عمليّات الهدم والتّجريف قائمة في ساحة حائط البراق الغربيّة وحارتي الشّرف والمغاربة. فعدت باتّجاه باب الأسباط، ومررت بمقبرة الرّحمة في طريقي إلى بلدتي عبر سلوان.

النّصر الوهميّ

         قبل نهاية شهر حزيران، أي قبل مرور ثلاثة أسابيع على الحرب امتلأت الطرقات والشّوارع بمنشور موقّع من الأحزاب التي كانت تعمل في الضّفّة الغربيّة سرّا، وهي: "حركة القوميّين العرب، وحزب البعث والحزب الشّيوعيّ الأردنيّ"، ومضمون المنشور "يتمحور حول النّصر العربيّ في الحرب؛" لأنّ اسرائيل لم تستطع إسقاط النّظامين التّقدّميّين في مصر وسوريا، ولم تستطع هدم الكيان الأردنيّ"! وهذا المنشور يبيّن مدى جهل "الأحزاب الطّليعيّة" بحقيقة الأمور، وحتّى بمفهوم الوطن، وإلّا كيف يمكن تفسير هذا "النّصر" ببقاء رئيسين في الحكم مع أنّ الوطن وقع تحت الاحتلال؟ وكيف يمكن التّغاضي عن أرواح آلاف الشّهداء والجرحى، وأنين الملايين الذين وقعوا تحت الاحتلال؟ وهل الوطن هو الأرض معروفة الحدود أم هو نظام الحكم؟ ولاحقا في عام 1969م سقط نظام نورالدّين الأتاسي في سوريّا بانقلاب قاده الفريق حافظ الأسد، وانتهى نظام عبدالنّاصر في مصر بوفاته في 28 سبتمبر 1970م، لكنّ الضّفّة الغربيّة وجوهرتها القدس، وقطاع غزّة، والجولان السّوريّة وسيناء المصرية بقيت تئنّ وشعبها من نير الاحتلال. وقد سألت واحدا ممّن هم أكبر منّي عمرا حول المقصود "بالكيان الأردنيّ"، فردّ عليّ موبّخا، ويبدو أنّه لا يعرف الجواب، كما أنّني لا أزال لا أعرفه حتّى يومنا هذا.

نكسة أم هزيمة؟

       أطلق العرب في وسائل الإعلام على هزيمة العام 1967م اسم "نكسة"، وهذا المصطلح ابتدعه الصّحفيّ المصريّ الكبير المرحوم محمد حسنين هيكل، لكنّها في الواقع كانت هزيمة ماحقة، بل هي نكبة كبرى للشّعب الفلسطينيّ بشكل خاصّ وللأمّة العربيّة بشكل عامّ.

في القدس الجديدة

       رغم المرارة والحزن الذي ملأ قلبي ولا يزال، فقد كنت في شوق لزيارة الفردوس المفقود، فقرّرت زيارة المكان والتّجوّل فيه، وبصحبة أحد الأصدقاء الذي يصغرني بعام، تجوّلنا بحذر وخوف في القدس الغربيّة مشيا على الأقدام، مررنا بحيّ البقعة الذي يشكّل الامتداد الغربيّ لجبل المكبّر، عند محطّة القطار القريبة من  المدخل الغربيّ لحيّ الثّوري الواقع بين قريتي"جبل المكبّر والقدس القديمة، اتّجهنا يسارا، بعد بضعة مئات من الأمتار وصلنا حديقة عامّة" حديقة الجرس" التي تبعد مئات الأمتار عن فندق الملك داود، فجلسنا على أحد المقاعد العامّة، وممّا لفت انتباهنا هي تلك الأشجار التي تزيّن جنبات الشّوارع، وهذا ما لم نعتد رؤيته سابقا، كان الخوف يملأ قلوبنا، غالبيّة المارّة كانوا من النّساء والمسنّين والأطفال، فالشّباب اليهوديّ في الجيش، واصلنا طريقنا باتّجاه فندق الملك داود ونحن نأكل المكان بعيوننا، حتّى وصلنا زاوية مقبرة مأمن الله التي يطلق عليها العامّة مقبرة "ماميللا"، عند مثلثّ تقاطع الطّرق من الجهة الشّرقيّة الجنوبيّة، لفت انتباهنا مبنى قديم منقوش على بوّابته الرّئيسيّة "المجلس الإسلاميّ الأعلى"، ثمّ اتّجهنا إلى المقبرة حيث الجزء الغربيّ الأعظم منها حديقة عامّة، جلسنا تحت شجرة وارفة الظّلال، لم نكن نعلم أنّ هذا المكان جزء من المقبرة التي جرى تجريفها، ولم يبق منها سوى بضع عشرات من القبور في جزئها الجنوبيّ الشّرقيّ، تماما مثلما لم نكن نعلم أنّنا نجلس على المقبرة الجماعيّة، التي تحوي رفات سبعين ألفا هم مواطنو القدس جميعهم الذين قتلهم الفرنجة عند احتلال المدينة عام 1099م، عندما غزوا المشرق العربيّ، كما أنّها تحوي رفات الآلاف من الصّحابة والتّابعين والأعيان والعلماء.

جلسنا نتأمّل المكان وفي قلبينا غصّة لا تزول، بينما كان اليهود نساء وفتية ينصبون حلقات الرّقص والغناء احتفاء بالنّصر. وغالبيّة المحتفلين هم من خارج القدس جاؤوا لزيارة القدس القديمة التي وقعت تحت الاحتلال.

      تجوّلت وزميلي في غالبيّة أحياء وشوارع القدس الجديدة، وتحاورنا كثيرا حول ما شاهدناه، فقد رأينا شوارع نظيفة، محلّات تجاريّة تغصّ بمختلف البضائع، مستشفيات، مدارس وغيرها، ووجدنا أنفسنا في وسط بيئة كنّا نجهل عنها كلّ شيء، فما كنّا نعرفه من خلال معلّمينا وكبار السّنّ أنّ فلسطين احتلّت من قبل عصابات إجراميّة أشبه ما تكون بقطّاع الطّرق، وأنّه يمكن طردهم بمظاهرات تتسلّح بالحجارة!

كنّا ننهي كلّ يوم من جولاتنا بالعودة إلى منطقة باب العمود في القدس الشّرقيّة؛ لنستقلّ إحدى الحافلات عائدين إلى بيوتنا.

       ذات يوم صادفنا عند باب العمود مجموعات من عرب الدّاخل الذين جاؤوا إلى القدس على غير ما كانوا يتمنّون، فسألونا عن الطّريق إلى المسجد الأقصى، وبما أنّ المعلومات التي كانت مترسّخة في عقولنا، بأنّ من تبقّى في دياره من الفلسطينيّين في نكبة العام 1948م هم مجرد بضعة آلاف من عملاء الحركة الصّهيونيّة والانتداب البريطانيّ! فقد نظرنا إليهم بازدراء! وأشرنا إليهم بأنّ الأقصى يقع إلى الشّمال باتّجاه رام الله، في محاولة منّا لتضليلهم. غير أنّ إحدى المسنّات قالت لهم بأنّها تذكر أنّها كانت تصل إلى الأقصى عبر باب العمود الذي أشارت إليه بيدها، ووجدت لنا عذرا بطريقة عفويّة وهي تقول لمن معها:

"يبدو أنّ هؤلاء الأولاد لا يصلّون ولا يعرفون الأقصى".

كنت أعود من القدس حزينا، أمضي ليلي يائسا باكيا على حالنا، فالوطن محتلّ وما عدت قادرا على تكميل تحصيلي العلميّ، وحدود الوطن مغلقة، ومن يخرج منه لا يمكن أن يعود، ولا توجد جامعات في الوطن المحتلّ.

الأسر المشتّتة

        لم تقتصر نتائج الحرب على ما حصدته من أرواح، ومن أصابتهم بجراح، بل تعدّتها إلى نزوح مئات الآلاف من المناطق التي وقعت تحت الاحتلال، كما أنّ آلاف العاملين والطلبة الجامعيّين في الأردنّ وبقيّة الدّول العربيّة منعوا من العودة إلى ديارهم، ومن كان منهم متزوّجا فقد التحقت به زوجته وأبناؤه. وكان لعائلتنا نصيب من هذا الشّتات، فأخي محمّد "الأسمر" كان معلّما في السّعوديّة هو وابن عمّي محمد موسى، فالتحق أخي بإحدى الجامعات البريطانيّة لدراسة إدارة الأعمال، في حين التحق ابن عمّي بجامعة هيوستن في ولاية تكساس الأمريكيّة ودرس الهندسة الكهربائيّة، كما أنّ ابن عمّي موسى بن محمّد وأسرته كان معلّما في السّعودية، حيث توفّيت زوجته هناك تاركة خلفها طفلة وطفلا. في حين انقطعت السّبل بأخي محمّد "الكبير" وأخي أحمد وابن عمّي اسماعيل موسى في البرازيل، حيث كانوا يعملون هناك. -أخي الأكبر المولود عام 1936 اسمه محمّد، وأخي الثالث المولود عام 1942 اسمه حسن، وأصابه مرض وهو في الثّانية من عمره، فقلبوا اسمه إلى محمّد بناء على نصيحة "فتّاحة" نوريّة، ولتمييز الأخوين اللذين يحملان الاسم نفسه كنّوا الثاني "أبو سمرا" لأنّ لون بشرته يميل إلى السّمار. -

ضمّ القدس العربيّة المحتلّة

       في أواخر حزيران 1967م، وقبل سكوت هدير المدافع، اتّخذ الكنيست الإسرائيليّ قرارا بضمّ القدس القديمة وبعض ضواحيها لبلدية الاحتلال، تحت مسمّى "أورشليم الموحّدة عاصمة إسرائيل الأبديّة"، وذلك في مخالفة واضحة للقانون الدّوليّ، وقرارات الشّرعيّة الدّوليّة، والأكثر أهمّية رغم إرادة مواطنيها الفلسطينيّين، الذين تعتبرهم اسرائيل" مقيمين حتّى حصولهم على إقامة في مكان ودولة أخرى". وتشمل المناطق المضمومة حوالي 71 كيلومتر مربع، وتشمل:" القدس القديمة، واد الجوز،  كفر عقب، مطار قلنديا، بيت حنينا الجديدة، شعفاط، مخيّم شعفاط، العيسويّة، الطور"جبل الزّيتون"، سلوان، الثّوريّ، السّواحرة الغربيّة"جبل المكبر"، امليسون، صورباهر، أمّ طوبا، بيت صفافا وشرفات.  

ويلاحظ أنّ الضّمّ تمّ على الخرائط في المكاتب دون معرفة طوبوغرافيّة المنطقة من وديان وجبال، ممّا خلق مشاكل ومعاناة للمواطنين، فمثلا تمّ ضمّ الأحياء الجديدة في قرية بيت حنينا، دون القرية القديمة، وقريبا من ضاحية البريد أحد رصيفي الشّارع في حدود البلديّة والرّصيف الثّاني خارجه، وفي بلدتي السّواحرة جرى تقسيم البلدة إلى ثلاثة أجزاء، فجبل المكبّر داخل حدود البلديّة، وامتداده "حيّ الشّيخ سعد خارجها، والجزء الشّرقي من البلدة خارجها، علما أنّ مقبرة البلدة والمراكز الصّحيّة والمدارس تقع في جبل المكبّر.

 

 

الأقصى والتقسيم المكاني

جميل السلحوت

 

يوم 29 مايو 2022 لم يكن يوما عابرا في تاريخ القدس، فهو بداية التّقسيم المكاني للمسجد الأقصى. صحيح أنّ المحتلّين عربدوا وطغوا وتجبّروا وضربوا واعتقلوا وعذّبوا وتفاخروا، وتنافست أحزابهم وحكومتهم ومعارضتهم على استباحة الدّم الفلسطيني وحرمات المسجد الأقصى، إلّا أنّهم كما قال درويش"عابرون في كلام عابر"، وما احتفالاتهم بما يسموّنه مسيرة الأعلام، بمناسبة "توحيد القدس" حسب التّقويم العبريّ، إلّا برهان جديد أنّ وجودهم قائم على القوّة المسلّحة، فكلّ مستوطن من غزاة القدس تمّ تجنيد رجل أمن لحمايته، مع أنّ المستوطنين أنفسهم يحملون السّلاح أيضا، ورغم ذلك فقد صاروا أضحوكة أمام أطفال ونساء وشيوخ وشباب القدس العزّل، الذين هم سادة مدينتهم الحقيقيّون.

لكن ما لا يمكن تجاهله أو القفز عنه هو البدء بالتّقسيم المكانيّ للمسجد الأقصى، الذي جرى تقسيمه زمانيّا منذ العام 2002، عندما سمحوا للمستوطنين بدخوله  وتدنيسه تحت حماية قوى الأمن الإسرائيليّة بشكل يوميّ، فيوم أمس الأحد، دخل المسجد الأقصى ما يزيد على 2000 مستوطن، ورفعوا العلم الإسرائيلي فيه،  وأدّوا صلوات تلموديّة وسجدوا داخل المسجد قرب باب السّلسلة، في المنطقة الواقعة بين مسجد الصّخرة المشرّفة والمسجد القبليّ. وهذا يعني أنّ حكومة الاحتلال قد فتحت الباب للمستوطنين بآداء صلواتهم التّلموديّة بشكل يوميّ، أي ترسيخ المكان كمكان عبادة لليهود، ولن يكون بعيدا ذلك العام الذي سيجري فيه هدم مسجد الصّخرة وبناء الهيكل المزعوم فيه. فالمسؤولون الإسرائيليّون يطبّقون مشروعهم التّوسّعي بدعم لا محدود من أمريكا وحلفائها، وتخاذل عربيّ رسميّ لم يعد خافيا على أحد، مع أنّ اسرائيل لا ترى العرب خارج حدود فلسطين، ولا تحسب لأيّ منهم أيّ حساب مهما كان منصبه عندما تتّخذ قراراتها الإستيطانيّة التّوسّعيّة. ولا يمكن تبرئة أصحاب "الجلالة والفخامة والسّموّ" من كنوز أمريكا واسرائيل الإستراتيجيّة في المنطقة من مسؤوليّة ما يجري في القدس وأقصاها خاصّة وفي فلسطين عامّة، فعندما تهافتوا على التّطبيع المجّانيّ العلنيّ والسّرّيّ مع دولة الاحتلال، زعموا أنّهم اتّخذوا قرارات سياديّة! وهم أوّل من يعلم أن لا سيادة لأيّ منهم على قصره أو على المليارات التي نهبها وأودعها في بنوك أجنبيّة، كما زعموا أنّ التّطبيع المجّانيّ "لمساعدة فلسطين وشعبها"!

  ورغم أنّهم جنّدوا وسائل إعلامهم لتبييض صفحة الاحتلال وتشويه تاريخ فلسطين وشعبها، إلّا أنّ الاحتلال لم يحفظ لهم ماء وجوههم حتّى أمام شعوبهم؛ لأنّه لا يراهم أصلا، فمثلا الوزيرة الإسرائيليّة شاكيد التي تدعو إلى قتل العرب وصفت سماعها للأذان من المساجد بأنّه "نباح كلاب"! واستقبلت في الإمارات، وزارت مسجد الشّيخ زايد، لتقرأ الفاتحة على روحه بالعبريّة الفصحى! وعندما زار وزير إماراتي القدس، دعا أحد وزراء الحكومة الإسرائيليّة من أحزاب المتديّنين إلى عدم استقباله وعدم مصافحته قائلا: "هؤلاء حمير موسى يجب ركوبهم وعدم استقبالهم." وهل سمع "حمير موسى" هتافات حاملي الأعلام الإسرائيليّة" الموت للعرب"؟

وإذا كانت إدارة الرّيس الأمريكي بايدن"العقلانيّة" ترسل مبعوثيها إلى دول عربيّة، كي تطبّع علانية مع دولة الاحتلال، فإنّ التّقسيم المكانيّ للمسجد الأقصى كما جرى في المسجد الإبراهيمي في الخليل، قد بدأ علنا وأمام الصّحافة، ووسط استنكار وشجب عربيّ رسميّ يدعو إلى التّقيّؤ، فهل تعي الشّعوب العربيّة والإسلاميّة أنّ التّفريط بالأقصى سيلحق به التّفريط بالكعبة المشرّفة وبالمسجد النبويّ الشّريف؟

والحديث يطول.

30 مايو 2022 

 

 

 

 

 

 

جرائم بدون عقاب

جميل السلحوت

عرفت الصّحفيّة الفلسطينيّة منذ أكثر من عشرين عاما، التقيتها مرّات عديدة، عرفت من خلالها كم كانت فلسطينيّة الإنتماء، وكم كانت خلوقة، مؤدّبة، مهذّبة، صادقة، هادئة تعرف متى تتكلّم ومتى تسكت، وشاهدتها آلاف المرّات على شاشة الجزيرة، ودهشت بمهنيّتها وهدوئها، وجرأتها في التقاط الحدث والسّبق الصّحفي، وها نحن نفجع بارتقائها سلّم المجد شهيدة برصاص قنّاص من جنود الاحتلال، الذي صوّب سلاحه إلى رأسها، وإلى ظهر زميلها علي السمودي الذي أصيب إصابة قاتلة نتمنى له الشّفاء العاجل منها.

فهل جاء استهداف أبو عاقلة والسمودي عفويّا؟ فتجارب شعبنا مع جنود الاحتلال تثبت أنّ استهداف الصّحفيّين والمدنيّين الفلسطينيّين سياسة ممنهجة، وقد شاهد العالم جميعه جنود الاحتلال وهم يدفعون ويضربون ويقتلون النّساء والأطفال والشّيوخ وذوي الاحتياجات الخاصّة، والصّحفيّين ويكسرون أجهزة التّصوير، خوفا من فضح جرائمهم، ولم تنج الأيقونة الفلسطينيّة شيرين أبو عاقلة وزميلها السمودي من هذه الإعتداءت، وليس آخرها ما تعرّضت له أبو عاقلة في شهر رمضان الأخير في باب العمود والشّيخ جرّاح والأقصى الشّريف في القدس.

ورغم التّغطية الإعلاميّة الواسعة لجريمة قتل شيرين أبو عاقلة، ورغم الإستنكارات الواسعة التي صدرت من حكومات ودول ومؤسّسات حقوقيّة عديدة، وجمعيّات حقوق الإنسان إلّا أنّه لا يمكن غضّ النّظر عن المجرم الحقيقيّ، والمسؤول عن هذه الجريمة، فالشّهيدة أبو عاقلة ليست الأولى ولن تكون الأخيرة، ولو تمّت محاسبة القتلة الذين لا يرون حرمات لدم غيرهم وحقّهم في الحياة على جرائمهم السّابقة، لما قتلت شيرين أبو عاقلة، ولما أصيب زميلها علي السمودي بجراح. ولو تمّ لجم الاحتلال وكنسه لنجت أرواح كثيرة أزهقت بغير حقّ، ولا يمكن تبرئة الدّاعمين والحامين والمموّلين للاحتلال من دم شيرين أبو عاقلة وغيرها من الذين قتلوا بدم بارد. فاستمرار الاحتلال هو أساس كلّ الموبقات، ومساندة أمريكا وما يحلو لهم أن يسمّوا أنفسهم "بالعالم الحرّ"، والمتصهينون العرب، والمطبّعون والمتحالفون مع دولة الاحتلال شركاء في جريمة قتل شيرين أبو عاقلة وآلاف الأبرياء الفلسطينيّين.  

وجريمة قتل شيرين أبو عاقلة لا يحمل مسؤوليّتها ذلك القنّاص الأحمق الذي قنصها، وقنص زميلها علي السمودي وحده، بل إنّ حكومة الاحتلال التي توفّر الحماية لجنودها ولمستوطنيها، عندما يقتلون فلسطينيّا، وهي من تزوّدهم بالسّلاح، وتعطيهم الأوامر بالقتل لمجرّد الشّبهة، دون أن يتعرّضوا للمساءلة أو المحاسبة. ولا يمكن للمرء أن يستوعب وجود عضو كنيست اسرائيلي مثل بن غفير يشيد بقتل أبو عاقلة، ويدعو أمام وسائل الإعلام بقتل من يعترضون أو يعيقون نشاطات جيش الاحتلال وقواه الأمنيّة، وبدلا من معاقبته وتقديمه للعدالة يوفّرون له الحماية في تحرّكاته العدوانيّة ضدّ الفلسطينيّين ومقدّساتهم.

وجريمة اغتيال شيرين أبو عاقلة وغيرها من المدنيّين الفلسطينيّين يجب أن لا تمرّ دون عقاب القتلة ومن أعطوهم أوامر القتل، فهكذا جريمة ليست اعتداء على حرّيّة الصّحافة فحسب، بل هي جرائم حرب بحقّ الإنسانيّة، وتخالف القوانين الدّولية، ولوائح حقوق الإنسان، واتّفاقات جنيف الرّابعة بخصوص الأراضي التي تقع تحت الاحتلال العسكريّ. وهذا يتطلّب من السّلطة الفلسطينيّة والجامعة العربيّة ضرورة اللجوء الفوري لمحكمة الجنايات الدّوليّة، لمحاسبة المجرمين والحديث يطول.

12 مايو 2022

 

عندما ينادي الأقصى

جميل السلحوت

 

واضح أنّ الحكومة الإسرائيليّة برئاسة بينيت لا تختلف عن الحكومات الإسرائيليّة السّابقة، في إدارتها للصّراع، فالحركة الصّهيونيّة صاحبة مشروع توسّعيّ طويل المدى، وليست على عجلة من أمرها، وإن كانت وحكومة نتنياهو التي سبقتها أكثر وضوحا في تطبيق سياسة الإستيطان والتّوسّع والتّنكّر لحقوق الشّعب الفلسطينيّ الطبيعيّة والتّاريخيّة والدّينيّة في وطنه، يساعدها في ذلك الدّعم الأمريكيّ اللامحدود لإسرائيل، والذي يتوازى مع رضوخ النّظام العربيّ الرّسمي اللامحدود أيضا. ومن يعارض سياسة الاحتلال الإسرائيلي فإنّ تهمة الإرهاب ومعاداة السّاميّة في انتظاره.

وبما أنّ الغطرسة الأمريكيّة- الإسرائيليّة تقوم على نظريّة:" ما لم يمكن حلّه بالقوّة يمكن حلّه بقوّة أكبر"! ويمكن تسويقه بتضليل الرّأي العامّ العالميّ من خلال طاحونة إعلام هائلة تغطّي العالم جميعه، وتقلب الحقائق وتزيّف التّاريخ دون وجود منافس لها.

وإذا عدنا قليلا إلى الأحداث التي شهدها المسجد الأقصى في شهر رمضان الأخير، وما تمخّض فيه من أحداث أزهقت أرواحا، وانتهكت حرمات المسجد المبارك بسبب ممارسات الاحتلال التي تجاوزت كلّ الخطوط الحمراء، فإنّ الحكومة الإسرائيليّة لم تتّعظ ممّا جرى، وما زال يجري، بل زادت من تواجدها الأمنيّ لقهر الفلسطينيّين الذين يستميتون في الّدفاع عن مقدّساتهم، ولم تقتصر عدوانيتهم على المسجد الأقصى فقط، بل تعدّتها إلى تحديد أعداد المسيحيّين الذين ارتادوا كنيسة القيامة للصّلاة في عيد الفصح المجيد. ولم توقف اقتحامات المتزمّتين اليهود للمسجد الأقصى.

وقد تعدّت تحدّيات حكومة الاحتلال لمشاعر الفلسطينيّين مسلمين ومسيحيّين الدّينيّة،  ومشاعر المؤمنين في أرجاء العالم جميعه بانتهاك حرمات مقدّساتهم، لتصل إلى نسف اتّفاقات " وادي عربة" مع الأردنّ التي وقّعت عام 1994، والتي نصّت على "الوصاية الهاشميّة" على المقدّسات الإسلاميّة والمسيحيّة في القدس، فقد صرّح رئيس الحكومة الإسرائيليّة يوم أمس الأحد 8 مايو الحالي أمام حكومته:" بودّي أن أوضح أن أيّ قرار بالنّسبة للمسجد الأقصى ستتّخذه الحكومة الإسرائيلية، التي تخضع المدينة لسيادتها، من دون أخذ أيّ إعتبارات أخرى بالحسبان، ونحن نرفض بكلّ تأكيد أيّ تدخّل أجنبيّ بقرارات الحكومة الإسرائيليّة، وأنّ القدس الموّحدة هي عاصمة دولة واحدة فقط – دولة إسرائيل" !  وهو بهذا يتنكّر لدور ومسؤوليّة الأوقاف الإسلاميّة على المسجد الأقصى، ويتنكّر للقانون الدّولي وقرارات الشّرعيّة الدّوليّة بخصوص القدس، ولاتّفاقات جنيف الرّابعة بخصوص الأراضي التي تقع تحت الاحتلال العسكري، و"لمعاهدة السّلام" مع الأردنّ. وقبل بينيت هدّد اسحاق ليفانون سفير اسرائيل السّابق في مصر الأردن رسميا بسبب موقفه من المسجد الأقصى" بتحويله إلى فلسطين في حال واصل المسؤولون الأردنيّون مساندة الفلسطينيين ومهاجمة الجانب الإسرائيليّ بشدّة"

 وموقف الحكومات الإسرائيليّة المعادي للأردنّ ليس جديدا، فهم يعتبرون الأردنّ "الوطن البديل للشعب الفلسطينيّ"!

ولسنا بحاجة إلى التّأكيد على أنّ المسجد الأقصى جزء من عقيدة المسلمين، ومقترن بالكعبة المشرّفة والمسجد النّبويّ الشّريف.

لكنّ الحركة الصّهيونيّة تزعم أنّ الهيكل المزعوم مطمور تحت الأقصى، رغم أنّ الحفريّات الإسرائيليّة المتواصلة منذ العام 1967 تحت المسجد، وتحت القدس لقديمة لم تعثر على أثر يهوديّ، لكنّهم يختلقون الغيبيّات الدّينيّة لتضليل اليهود قبل غيرهم، وهذا سيدخل المنطقة والعالم جميعه في حروب دينيّة يعلم مشعلوها متى يبدأونها، لكن لا هم ولا غيرهم يعلمون متى ستنتهي، ولن ينجو أحد من لهيبها، وأوّل من سيحترق بها هم مشعلوها، ومن يحتمي بهم، والحديث يطول.

9 مايو-2022

 

 

القدس

مفتاح الحروب والسلام

جميل السلحوت

 

اقتحام قوّات الاحتلال للمسجد الأقصى يوم الجمعة 15 ابريل 2022 وتدنيسه بهذه الوحشيّة، واعتدائها على الصّائمين الرّكّع السّجود لم يكن وليد اللحظة، ولا ردّة فعل آنيّة على أحداث جرت في حرماته، بل هو مخطّط ومدروس، تماما، فالقدس ومقدّساتها مستهدفة حتّى قبل وقوعها تحت الاحتلال في حرب العام 1967. ولا تزال وستبقى مستهدفة، ويجري تهويدها بشكل يوميّ، واقتحام الأقصى وتحطيم نوافذ المسجد القبليّ العليا ودوس سجّاده بنعال شرطة الاحتلال ليس الأوّل ولن يكون الأخير.

فالتّخطيط لتقسيم المسجد الأقصى وبناء الهيكل المزعوم في باحاته، إن لم يجرِ هدم قبّة الصّخرة المشرّفة لبنائه مكانها لم يتوقّف يوما، عدا عن الحفريّات التي تنخر أساساته وأساسات المدينة العتيقة كلها، فلا أحد ينسى إشعال النّيران في المسجد المبارك في شهر أغسطس 1969 والتي أتت على أجزاء من المسجد القبليّ بما فيها منبر صلاح الدّين التّاريخيّ، وتواصلت الاعتداءات على المسجد وقتل وإصابة المصلّين فيه، وتقسيمه زمانيّا، ولن تتوقّف، ما دام العالم بقيادة أمريكا ومن ضمنه الأنظمة العربيّة المتصهينة يعتبرون اسرائيل فوق القانون الدّوليّ، ويدافعون عن موبقاتها.

ويلاحظ أنّ الحكومة الإسرائيليّة قد مهّدت لتبرئة نفسها من الجرائم التي ارتكبتها سلفا قبل بداية شهر رمضان المبارك، فأجرى قادتها اتّصالات مع بعض القادة الفلسطينيّين والعرب مطالبين بالتّهدئة في الشّهر الفضيل. وهي بهذا جرّمت ضحاياها سلفا، وحاولت تبرئة نفسها من جرائمها، مع أنّها أطلقت وبقرارات علنيّة أيدي جنودها ومستوطنيها ليقتلوا وليدمّروا دون قيود.

ومع أنّ القيادات الإسرائيليّة تعرف تماما من خلال مراكز الأبحاث في اسرائيل ما يعنيه المسجد الأقصى كجزء من عقيدة المسلمين، فهو قبلتهم الأولى، ومعراج رسولهم، وأحد المساجد الثّلاث التي تشدّ إليها الرّحال، إلا أنّهم وبدعم لا محدود من أمريكا، وبتحالفات مع أنّظمة التّطبيع العربيّ والإسلاميّ، يواصلون سياساتهم الإستيطانيّة، ويواصلون العمل لتقسيم المسجد الأقصى مكانيّا بعد أن قسّموه زمانيّا. وواضح أنّهم هم وكنوزهم الاستراتيجيّة من الحكّام العرب لم يتعلّموا من التّاريخ ولا من تجاربهم التي مرّوا بها، ويبدو أنّهم غير مقتنعين بأنّ المسّ بالمسجد الأقصى هو تجاوز لكلّ الخطوط الحمراء، فلم يتعلّموا من تجربة "البوّابات الإلكترونيّة" التي نصبوها عام 2017 على مداخل الأقصى، فخرجت القدس خاصّة وبقيّة المدن والبلدات الفلسطينيّة بقضّها وقضيضها دفاعا عن مسجدهم وعقيدتهم، ولم يتعلّموا ممّا جرى في مايو الماضي عندما قصفت المقاومة الفلسطينيّة في قطاع غزّة المدن الإسرائيليّة نصرة للقدس ومقدّساتها. ولا يريدون أن يستوعبوا أنّ أنظمة التّطبيع العربيّة ستتهاوى أمام شعوبها، وأنّ المنطقة ستدخل في حروب دينيّة إذا ما تمّ المسّ بالمسجد الأقصى، وأنّ أحدا لن ينجوا من لهيب نيرانها، وستشكّل تهديدا حقيقيّا للسّلم العالميّ، فالشّعوب العربيّة ورغم قمع الأنظمة لها، ورغم تضليلها وتغييبها عن حقوقها، إلّا أنّها مؤدلجة دينيّا، ولن تتهاون عند المسّ بعقيدتها.
16-4-2022

 

 

النّازيّة ثقافة قديمة جديدة

جميل السلحوت

 

" النّازيّون هو الاسم المختصر لحزب العمّال القومي الاشتراكي الألماني، الذي تأسّس عام 1919، في أعقاب الحرب العالميّة الأولى، ونمت شعبّيته في عشرينات القرن الماضي، بعد خسارة ألمانيا للحرب، ومعاناة الألمان من الفقر والبطالة، جرّاء العقوبات المالية التي فُرضت على ألمانيا بعد الحرب."

 "والنّازيّة مذهب سياسيّ أسّسه هتلر الزعيم الألماني".

وأصبحت النّازيّة مصطلحا للدّلالة على العنصريّة والتّشدّد ضد الأعراق الأخرى.

وفي أيّامنا هذه تتناقل وسائل الإعلام أنّ روسيا شنّت حربها في 24 فبراير الماضي

على أوكرانيا لاستئصال النّازيّة الجديدة منها، ومنعها من الإنضمام لحلف النّاتو وما يترتّب على ذلك من تهديد للأمن القومي الرّوسي ومن ورائها الصّين. فهل النّازيّة والتّعصّب العرقيّ ظهرت فقط في ألمانيا زمن حكم هتلر، الذي شنّ حربا على العالم جميعه، ودمّر أوروبّا وقتل أكثر من سبعين مليون إنسان؛ لترسيخ نظريّته بأفضليّة الجنس الجرماني على جميع الأجناس البشريّة، أم هي موجودة قبله، واستمرّت بعده أيضا؟

وهل يوجد في الثّقافة العربيّة فكر نازيّ؟ وبعيدا عن التّعصّب العرقيّ دعونا نعود إلى التّاريخ، ففي جاهليّة العرب في مرحلة ما قبل الإسلام كانت القبائل العربيّة تغزو قبائل عربيّة أخرى، فكان التّعصّب للقبيلة وليس للقوميّة، وعندما جاء الإسلام لم يعرف العرب والمسلمون التّعصّب العرقيّ، فقد ورد في الحديث النّبويّ الشّريف:" لا فضل لعربيّ على أعجميّ إلا بالتّقوى". وأوج الحضارة العربيّة الإسلاميّة كان في العصر العبّاسيّ الذي اعتمد خلفاؤه في ترسيخ حكمهم على العجم وقدّموهم على العرب.

وقد شهد التّاريخ أنّ العرب تعاملوا مع الشّعوب غير العربيّة التي دخلت في الإسلام، وصارت بلدانهم جزءا من الدّولة العربيّة الإسلاميّة كمواطنين كاملي الحقوق، وكذلك كان تعاملهم مع أتباع الدّيانات السّماويّة الأخرى، وكثير في عصرنا  هذا من يسسيئون عن جهل أو علم لمفهوم "الجزية" التي كان يدفعها غير المسلمين لخزينة الدّولة، فهذه الجزية كانت مقابل إعفائهم من الخدمة العسكريّة، خصوصا وأنّ الجيوش الإسلاميّة كانت تشنّ حروبها "الدّينيّة لنشر الإسلام"، وحتّى يومنا هذا توجد دول تأخذ مبلغا ماليّا من مواطنيها مقابل إعافئهم من الخدم الإلزاميّة في الجيش. وعندما هُزم العرب والمسلمون في الأندلس"اسبانيا" وخرجوا منها عام 1492، خرج اليهود معهم هربا من بطش الأوروبّيّين، وانتشروا في المغرب وبقيّة بلدان الشّمال الإفريقي.

والإستعلاء العرقيّ هو وليد الثّقافة الأوروبيّة ثقافة الرّجل الأبيض، الذي يرى نفسه أرقى وأكثر حضارة من الشّعوب الأخرى من ذوي البشرة السّوداء والسّمراء والصّفراء والقمحيّة. وقد شنّ الأوروبّيّون حروبهم على الأعراق الأخرى، فعندما اكتشف كريستوفر كولمبوس عام 1492م أمريكا بالصّدفة، وبدأت الهجرات الأوروبّيّة إليها، شنّوا حرب إبادة ضدّ الأمريكيّين الوطنيّين الذين سمّوهم "الهنود الحمر، وقتلوا منهم عشرات الملايين، وبعد أن استقرّ الأوروبّيّون في أمريكا، غزوا غرب افريقيا ونقلوا بالقوّة مئات آلاف المدنيّين ومنهم أطفال؛ ليكونوا رقيقا في خدمة السّيّد الأبيض، الذي سخّرهم كرقيق في مزارعه، ويبلغ عدد الأفارقة الأمريكيّين الآن في الولايات المتّحدة وحدها حوالي أربعين مليونا.

كما قامت بريطانيا وفرنسا واسبانيا والبرتغال وإيطاليا بغزو واحتلال افريقيا وآسيا، فقتلوا ودمّروا ونهبوا واحتلّوا وسيطروا على البلدان وشعوبها بقوّة السّلاح، وقسّموها تحت شعار" تعمير تلك البلدان وتحضيرها"! 

وحتّى يومنا هذا لا يزال الأوروبّيّون يرون أنفسهم الجنس البشريّ الأرقى والأسمى، ويتعاملون مع الأجناس الأخرى بفوقيةّ وتعالٍ ملحوظ. ورغم الإستقلال الشّكلي لبعض الشّعوب والدّول، إلى أنّهم لم يستقلّوا ولم يتخلّصوا من الهيمنة الأوروبّيّة والأمريكيّة حتى يومنا هذا، فالإمبرياليّون لا يزالوا يسيطرون على اقتصاديّات وسياسة من يسمّونهم دول العالم الثّالث، ولا يزالون يشنّون حروبهم بالوكالة عليها ، أو من خلال احتلالات مباشرة تشارك فيها أمريكا وحلفاؤها الأوروبّيّون في حلف النّاتو مثلما فعلوا مع أفغانستان عام 2001 ومع العراق عام 2003، ومع ليبيا وسوريا منذ العام 2010 وحتّى يومنا هذا.

 

وقد ظهرت قضيّة التّعصّب العرقي للجنس الآري بشكل جليّ في حرب روسيا على أوكرانيا، ففي الوقت الذي فتحت الدّول المجاورة حدودها للاجئين الأوكرانيّين، فإنّها كانت تتعامل بوحشيّة مع غير الأوروبّيين الذين هربوا من اوكرانيا وأكثريّتهم طلاب جامعات.

وبغضّ النّظر عن الصّراع بين الشّرق والغرب والذي يعود لأسباب اقتصاديّة بالدّرجة الأولى، فقد شاهدنا التّعصّب العرقي لأمريكا وحلفائها الأوروبّيّين، من خلال قضيّة الحرب على أوكرانيا، ومع رفضنا التّام لاحتلال روسيا لأوكرانيا، والذي تتحمّل مسؤوليّته أمريكا وحلفاؤها بالدّرجة الأولى، فقد شاهدنا تباكي أمريكا وحلفائها الأوروبّيين على حقوق الإنسان وعلى مأساة اللاجئين الأوكرانيّين، ورصدهم مئات مليارات الدّولارات لمساعدة أوكرانيا اقتصاديّا وعسكريّا، وفرضهم عقوبات تدميريّة هائلة على روسيا، في الوقت الذي يؤيّدون ويدعمون عسكريّا واقتصاديّا وسياسيّا فيه احتلالات أخرى كاحتلال اسرائيل للأراضي العربيّة. ولماذا لا يتعاطفون مع اللاجئين الفلسطينيّين والسّوريّين والليبيّين وغيرهم، ولماذا لا يسألون عن حقوق الإنسان إذا ما انتهكت في دول العالم الثّالث؟ ويجب الإنتباه  لخطأ استعمال مصطلح "عقوبات"، والصّحيح أنّها حرب اقتصاديّة بكلّ ما يعنيه مفهوم الحرب، فهل أمريكا وحلفاؤها يمثّلون العدالة الدّوليّة، ومن أعطاهم هذه الصّلاحيّة، وبأيّ حقّ يجبرون دولا على مشاركتهم في حروبهم هذه؟ وبأيّ حقّ يشنّون حروبهم غير المعلنة من خلال محاصرة دول وشعوب تخالفهم الرّأي، ويدمّرون اقتصاديّاتها،

إنّ التّعصب العرقيّ والعنصريّة ضدّ الشّعوب ثقافة أوروبّية متوارثة عبر أجيال عند الرّجل الأبيض. وهي ثقافة مرفوضة إنسانيّا وأخلاقيّا، لذا يجب محاربة العنصريّة أينما كانت، فالبشر متساوون بحقوقهم الإنسانيّة بغضّ النّظر عن أعراقهم وألوانهم ودياناتهم.

21 مارس 2022

 

 

رسائل فوق

 المسافات والجدران

جميل السلحوت

 

لا أخفي على أحد أنّني كلّما قرأت جديدا للأديبة الصّاعدة بسرعة صاروخيّة نسب أديب حسين فإنّني أؤمن من جديد بأنّ هذه الأديبة الشّابّة تتفوّق دائما على توقّعاتي العالية بخصوص إبداعاتها، فمنذ رأيتها للمرّة الأولى عندما جاءت من الرّامة الجليليّة إلى مدينة القدس لدراسة الصّيدلة، بعد أن أنهت المرحلة الثّانويّة، وطرقت باب إحدى أمسيات ندوة اليوم السّابع الثّقافيّة الأسبوعيّة الدّوريّة المقدسيّة في المسرح الوطني الفلسطيني في القدس، قبل ما يزيد على عشر سنوات؛ لتشارك في حضور جلسات الندوة الأسبوعيّة وما أن تكلّمت حول كتاب كنّا نناقشه حتّى وجدت نفسي أمام فتاة ثقافتها أكبر من عمرها بكثير، فتعاملت معها بطريقة أبويّة، وتابعت ما تكتبه، بانتباه شديد، فأخذت على يدها وقلت لها بصريح العبارة:" سيكون لك شأن كبير في عالم الثّقافة والإبداع الأدبيّ". وتحدّثت كثيرا مع بعض زميلاتي وزملائي من روّاد الندّوة عن قدراتها اللافتة.

وقراءتي لطالع مبدعتنا نسب أديب حسين لم تذهب أدراج الرّياح بل كانت في مكانها الصّحيح، فتفاجأت بإبداعاتها غير المتوقّعة، ومنها تأسيس متحف في بناء متوارث يزيد عمره عن ثلاثمائة عام يملكه والدها، ليحمل اسم أبيها الرّاحل الدّكتور أديب فريد القاسم حسين. وتساءلت: كيف تبادر لفتاة في بداية العشرينات من عمرها أن تؤسّس متحفا تراثيّا يحمل اسم الرّاحل والدها (1929-1993م) الذي توفّي وهي في السادسة السّادسة من عمرها؟ وكيف تربّت وتثقّفت فتاة يتيمة على صحّة وعمق الإنتماء لوطنها ولشعبها ولأمّتها العربيّة؟ فجعلت من متحفها ملتقى ثقافيّا لافتا!

وواصلت الرّائعة نسب أديب حسين كتابة القصّة القصيرة، ونشرتها في مجموعتين، وهي تنضح نشاطا وتسهر لتغذية ثقافتها باستمرار رغم انشغالها بدراستها لعلم الصّيدلة.

وإذا بنسب التي واظبت على حضور أمسيات ندوة اليوم السّابع تفاجئنا مع زميلتها ومجايلتها مروة السيوري بتأسيس نشاط ثقافيّ شبابيّ شهريّ أسميتاه "دواة على السّور". جمعتا فيه المواهب الشّبابيّة في القدس وفي غيرها من البلدات والمدن الفلسطينيّة. وعن إبداع نسب في القصة القصيرة فحصلت على جائزة دولة فلسطين في الآداب والعلوم الإنسانية عن فئة المبدعين الشباب، عام 2015.

وفي العام 2016 صدرت يوميّاتها المعنونة بـ "أسرار أبقتها القدس معي."

وظهر في هذه اليوميّات المتميّزة أنّ القدس بمقدّساتها وتاريخها العريق تسكن عقلها ووجدانها وقلبها، وتفوّقت نسب بيوميّاتها هذه على كثيرين ممّن ولدوا وترعرعوا وتعلّموا وعملوا ودفنوا في القدس.

وواصلت نسب أديب حسين إبداعاتها وبرّها لوالدها، فكمّلت مشواره الذي عاجله الموت قبل إنهائه حول بلدته الرّامة وتاريخها وتاريخ الأنساب فيها، فجاء مجلّدها عام 2020 "الرامة.. رواية لم ترو بعد" في 640 صفحة من الحجم الكبير، وصدرت منه طبعة ثانية مؤخرًا.

وقد حدّثتني نسب أكثر من مرّة منذ أعوام خلت أنّها تعمل على جمع وتوثيق ونشر مجموعة من "رسائل المرحوم والدها"، ورغم ثقتي اللامحدودة بقدراتها إلّا أنّني كما ثبت لي هذه الأيّام أنّني لم أستوعب مرادها، أو بالأحرى لم آخذه بطريقة جدّيّة، إلى أن فاجأتني قبل يومين بأن أرسلت لي مخطوطتها المعنونة بـ" رسائل فوق المسافات والجدران القدس.. بيروت على حافة لقاء (1964-2022)"، ورغم انشغالي بأمور ثقافيّة أخرى، ولثقتي المطلقة بقدراتها فتحت ملفّ المخطوطة من باب الإطّلاع السّريع على بداياتها على أمل مطالعتها خلال الأسبوع القادم، وما أن طالعت صفحاتها الأولى حتّى وجدتني أقع في أسرها، فطالعتها على ما يقارب خمسة عشر ساعة متواصلة.

فأدهشتني من جديد فوق ما كنت أتوقّعه، فبعثت السّعادة في قلبي، وغبطتها على هذه المفاجآت السّعيدة.

فنسب بكتابها هذا أضافت جديدا لأدب الرّسائل الحديث، ومن المعروف أنّ فنّ الرّسائل ليس جديدا في الثّقافة العربيّة، وإن كانت الرّسائل الأدبيّة ليست واسعة الإنتشار في الأدب العربي. لكنّها تبقى موجودة، فعلى سبيل المثال في العصر الحديث هناك رسائل جبران خليل جبران ومي زيادة، غسان كنفاني وغادة السمان، أنسي الحاج وغادة السمان، خليل حاوي ونازلي حمادة، محمود شقير وحزامة حبايب، ورسائل شقير مع شيراز عنّاب، ورسائل الأسير حسام شاهين إلى قمر. وسيصدر قريبا رسائل متبادلة بين جميل السلحوت والكاتبة صباح بشير.

ويتميّز كتاب نسب أديب حسين الذي نحن بصدده بفكرته، حيث أنّ الكاتبة عثرت صدفة على رسائل متبادلة بين والدها وبين المؤرّخ عجاج نويهض (1895-1982م)، فقرأتها وبحثت عن الرّسائل التي أرسلها والدها إلى عجاج نويهض، حتّى اهتدت إلى عنوان ابنته المؤرّخة الدّكتورة بيان عجاج نويهض الحوت- هي أرملة المرحوم شفيق الحوت ممثّل منظّمة التّحرير الفلسطينيّة في بيروت-. وشاءت الأقدار بعد سنوات طويلة، أن تعثر د. بيان نويهض على رسائل الدكتور أديب القاسم حسين لوالدها، فأرسلت صورا عنها لنسب، وبهذا فقد وجدت نسب ضالّتها التي تبحث عنها، وها هي تنشرها في كتابها هذا. ويلاحظ من خلال هذه الرّسائل كيف كان الهمّ الوطنيّ يشغلهما وهما من عاصرا وعايشا نكبة الشّعب الفلسطيني الأولى عام 1948، ونكبته الثّانية عام 1967. غادر المؤرّخ عجاج نويهض بيته في حيّ البقعة في القدس في 12 مايو عام 1948 لإيصال رسالة للملك عبدالله والمفتي أمين الحسيني، عازمًا على العودة إليه، وحين عاد إلى القدس القديمة أدرك سقوط حيّه في يد الصهاينة، ولم يتمكن من العودة، فيما بقي أديب حسين في بلدته الرّامة.

ومن خلال الرّسائل المتبادلة بينهما (1964-1973) يلاحظ القارئ لها مدى انتمائهما العروبيّ، ومدى التحامهما بالقضيّة الفلسطينيّة، وكيف أنّ د. أديب القاسم حسين انتبه لمشكلة أبناء الطّائفة الدّرزيّة، ورفضه لفرض التّجنيد الإجباري على أبنائها في العام 1956، وتصدّيه لمحاولات "أسرلة" أبناء الطّائفة في فلسطين، عبر سياسات عدّة انتهجت حينها في فترة الحكم العسكري. وكيف أنّه بحث هو وعجاج نويهض عن الأصول العربيّة التي لا تشوبها شائبة لأبناء الطّائفة المعروفيّة. كما يلاحظ مدى اهتمام المؤرّخ نويهض بجذور القضيّة الفلسطينيّة، وإيمانه بحقوق الشّعب الفلسطيني الطبيعيّة في وطنه فلسطين.

لكنّ المبدعة نسب أديب حسين لم تكتف برسائل والدها والمؤرّخ نويهض بل واصلت مراسلاتها مع ابنته بيان، وتبادلتا الأفكار والرّؤى والكتب، وأبدت الدّكتورة نويهض رأيها في قصص نسب أكثر من مرّة.

ورغم أنّ الكاتبتين نسب أديب حسين وبيان نويهض الحوت لم تلتقيا وجها لوجه، إلا أنّ القارئ للرّسائل لن يحتاج إلى كثير من الذّكاء؛ ليقف على حبل الصّداقة المتين بينهما، والذي نسجتاه من خلال الرّسائل المتبادلة، ورغم أنّ السّيدة نويهض تجاوبت مع طلبات نسب وتواصلت معها ولا تزال تتواصل رغم مشاغلها الكثيرة كأكّاديميّة  في الجامعة اللبنانية، ورغم شيخوختها فهي قد تجاوزت الثّمانين من عمرها -كما جاء في إحدى رسائلها لنسب-، إلا أنّه يسجّل لنسب كيفية بنائها لصداقة ممتدّة مع سيّدة في عمر جدّتها، وتقيم في قطر عربيّ آخر هو لبنان، وهذا ليس غريبا على نسب التي هي اجتماعيّة بطبعها.

هذا الكتاب يشكّل إضافة نوعيّة للمكتبة العربيّة، وفيه معلومات تاريخيّة لا يمكن القفز عنها، كما فيه شيء من ذكريات وسيرة الكاتبتين وسيرة والديهما أيضا، وهذه العجالة لا تغني مطلقا عن قراءة الكتاب فور صدوره.

18-2-2022

 

 

محمود شقير يحلب

التاريخ ليصنع أجبان القدس

جميل السلحوت

عن مكتبة كل شيء في حيفا صدر عام 2021 صدرت مجموعة قصص قصيرة جدّا للأديب الكبير محمود شقير تحمل عنوان حليب الضحى، وتقع المجموعة التي صمّمها ومنتجها شربل الياس في 235 صفحة من الحجم المتوسّط.

هذه هي المرّة الثّانية التي أقرأ فيها هذه المجموعة القصصيّة لأديبنا الكبير محمود شقير، وقد تهيّبت من الكتابة عنها في المرّة الأولى، خوفا من أن لا أعطيها حقّها، لكن بما أنّها طُرحت للنّقاش في ندوة اليوم السابع المقدسيّة، فقد وجدت نفسي ملزما بالكتابة عنها.

ومن يقرأ هذه المجموعة القصصيّة سيجد أنّ أديبنا شقير قد أعادنا إلى شخوص ثلاثيّته الرّوائيّة" فرس العائلة، مديح لنساء العائلة وظلال العائلة." ولا يفهمنّ أحد من هذا القول أنّ أديبنا يكرّر نفسه، بل العكس هو الصّحيح، فكلّ جديد للأديب شقير مدهش أكثر من سابقاته، فأديبنا دأب على التّجريب ويأتينا دائما بما هو جديد ومدهش. ففي ثلاثيّته الرّوائيّة صاحبنا الأديب في مراحل حياتيّة لعشيرة العبداللات، التي تسكن أطراف القدس من الجهة الجنوبيّة، وكيف تطوّرت، ومعروف أنّ "العبداللات" لمن يعرف سيرة الأديب سيجد فيها شيئا من سيرة آبائه وأجداده وأبناء بلدته.

وهنا لا بدّ من التّأكيد أنّنا حظينا كفلسطينيّين وكعرب بمحمودين: محمود درويش في الشّعر، ومحمود شقير بالسّرد القصصي والرّوائي.

وسيلاحظ القارئ لكتابات محمود شقير أنّه يمتلك لغة شعريّة وشاعريّة لافتة. لكن ما يجب التّوقّف عنده، وآمل أن يلقى دراسات من قبل نقّاد أكّاديميّين محترفين، هو ضرورة الإنتباه إلى مجموعته القصصيّة"حليب الضّحى" ومجموعات قصصية أخرى سابقة للأديب شقير حيث أنّه يؤسّس لفنّ روائيّ جديد لم نعهده من قبل، فمن يقرأ مجموعاته الأخيرة في القصّة القصيرة جدّا، سيجد بقليل من الأنتباه ودون عناء، أنّ بإمكانه قراءة كل قصّة منفردة، وإذا ما قرأها بتسلسل سيجد نفسه أمام رواية، وهذا يشير بقوّة إلى قدرات أديبنا السّرديّة، والسّؤال الذي يطرح نفسه هو: هل نحن أمام فنّ روائيّ جديد؟

وجوابي أنا شخصيّا: نعم نحن أمام فنّ روائيّ جديد أبدعه الأديب شقير.

وفي  مجموعة "حليب الضّحى" وأعود هنا إلى "ثلاثيّته الرّوائية"، يواصل الأديب شقير سرد شيء من سيرته الذّاتيّة، مغموسة بالواقع الذي عايشه هو وأبناء جيله، لكنّ القدس تبقى محورا أساسيّا في قصصه، بل هي المكان الرّئيس الذي تدور الأحداث فيه، فأديبنا تسكنه القدس وهمومها وحرصه على فلسطينيّتها وعروبتها ليس جديدا عليه، فهذا ما اعتاد عليه وما اعتدنا على رؤيته في إبداعاته.

ومحمود شقير الذي يطرح ما يرديه بفنّيّة عالية بعيدة عن المباشرة يبقى إنسانا كبقيّة البشر، فهو يحبّ ويكره ويعاني ويفرح ويتألّم نجده يعاني ويحمل معاناة شعبه وقدسه ووطنه من بطش الاحتلال، ونجده ينحاز إلى المرأة التي يراها شريكة الرّجل ونصفه الآخر، كما ينحاز إلى الأطفال وبراءتهم التي بنتهكها المحتلون. ويؤكّد في قصصه على الأخوّة بين أبناء شعبه المسلمين والمسيحيّين.

وواضح أن الأديب شقير يحمل تقديرا عاليا لصديقه الرّاحل محمود درويش، وهو مطّلع على شعره وعارف لوعيه، ومتأثر به، لذا نراه يتّكئ على مقولته "على هذه الأرض ما يستحقّ الحياة" ويبني عليها أقصوصة بعنوان "حوار" ص74. ويشير بعدها مباشرة إلى درويش قائلا:" صمتنا لحظة: ثمّ تذكّرنا معا شاعرنا الذي غاب قبل الأوان." ص74.

يبقى أن نقول أنّ هذه العجالة لا تغني عن قراءة المجموعة القصصيّة اللافتة بشكلها ومضمونها، وأكرّر على ضرورة دراسة هذه القصص من قبل أكّاديميّين محترفين، وآمل أن تحظى بذلك من عديدين وفي مقدّمتهم الدّكتور عادل الأسطة الذي أشار إليها في عجالة كتبها قبل أيّام قليلة.

13 فبراير 2022

 

 

 

 

وأعطي نصف عمري....

 

جميل السلحوت

 

رحم الله الطّفل المغربيّ ريّان، ونسأل الله الصّبر والسّلوان لوالديه، وكم دعونا الله كثيرا أن يتمّ انقاذه سليما معافى، لكنّ الأمنيات شيء وقدر الله شيء آخر.

وفي الواقع أنّني أنا شخصيّا ضعيف أمام أيّ طفل مهما كان جنسه أو لونه، فللطفولة حرمات يجب أن لا يخترقها أحد، وكلّما رأيت أو قرأت عن طفل في ضائقة، فإنّني أتذكّر مقولة الرّاحل الكبير توفيق زيّاد:

 " وأعطي نصف عمري لمن يجعل طفلا باكيا يضحك".

وبالتّاكيد فإنّ ملايين غيري يحملون المشاعر نفسها تجاه الأطفال، وإن كان هناك طغاة ومجرمون من البشر يقتلون الأطفال دون رحمة.

لكن ما لفت انتباهي في قضيّة الطّفل الضّحيّة "ريّان" هو هذا الزّخم الإعلامي العربيّ الهائل، الذي صاحب عمليّة انقاذ الطّفل "ريّان"، حتّى خِلْتُ أنّ الأنظمة العربيّة قد عادت إلى رشدها، وصارت تحترم حياة الإنسان من شعوبها، خصوصا ونحن ورثة حضارة غنيّة تذكّرنا بحرمة حياة الإنسان التي تتقدّم على قدسيّة الكعبة المشرّفة، وكما قال الخليفة الثّاني عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-" والله لو ضاعت شاة في شِعاب العراق لخفت أن يُسأل عنها عمر". كما لفت انتباهي عمليّات الإنقاذ التي بُذلت في سبيل انقاذ "ريّان" وإخراجه من الجُبّ حيّا.

ورغم حزني وأحزان كثيرين غيري على "ريّان"، إلّا أنّه راودتني أسئلة كثيرة أوّلها هو: لماذا لم يتمّ الإستعانة بخبراء دوليّين في عمليّات الإنقاذ لاختصار الوقت؟

وهل كلّ هذا الحشد الإعلاميّ الهائل، الذي أثار عواطف العامّة على صفحات التّواصل الإجتماعيّ، كان من أجل الطّفل الضّحيّة البريء "ريّان"، ومن أجل والديه الثّاكلين، أم من أجل الدّعاية " لأمير المؤمنين" في بلاده؟

وفي غمرة الأحزان على براءة "ريّان"، تذكّرت آلاف الأطفال من أبناء شعبي الذين قتلوا بدم بارد؟ فهل تذكرون كيف تمّ اصطياد الطّفل محمد الدّرة وهو يحتمي بحضن والده؟ وهل تذكرون الطفلة الرّضيعة إيمان حجّو التي اغتيلت وهي على صدر والدتها، وهل تذكرون عائلة دوابشة التي أحرقت وأطفالها هوم نيام، وهل تذكرون الطفل أبو خضير الذي أُحرق وهو حيّ؟ وهل تذكرون أطفال مدرسة بحر البقر في مصر، وضحايا قرية قانا في لبنان؟ وهل ....وهل؟ وهل تذكرون مئات آلاف الأطفال والنّساء والشّيوخ الذين سقطوا ضحايا في فلسطين، العراق، سوريا، لبنان، ليبيا، الجزائر، الصّومال، واليمن؟ وهل تذكرون ملايين الأطفال العرب المشرّدين من ديارهم، وهل تساءلنا عمّن قتل وجرح ودمّر وشرّد؟ وهل تساءلنا أيضا عن عدم تغطية وسائل الإعلام العربيّة لهكذا جرائم؟

لقد قضى الطّفل "ريّان" نحبه بسقوطه في حفرة عميقة تمّ حفرها بفعل فاعل، ولم نتساءل عن المسؤول عن عدم تغطيّة باب تلك الحفرة، والذي يتحمّل المسؤوليّة الكاملة عن سقوط الطّفل "ريّان" فيها، تماما مثلما يغفل كثيرون منّا عن قتلة أطفالنا من المحيط الذي هدر إعلاميّا على "ريّان"، إلى الخليج الذي لم يعد عربيّا! وإذا ما استهبلنا في فهم القضاء والقدر واعتبرنا وفاة الطّفل البريء "ريّان" قضاء وقدرا، فهل نستهبل أيضا ونعتبر ضحايانا من الأطفال وغيرهم قُتلوا "بالذّبح الحلال"، لأنّ القتلة يتدثّرون بعباءة الدّين مع أنّ الدّين منهم براء؟

فلنترحّم على "ريّان"، وعلى غيره من الضّحايا الأبرياء في العالم جميعه والحديث يطول.

6 فبراير 2022

 

 

God bless his soul

جميل السلحوت

 

الله يرحمه.....لروحه السلام..... God bless his soulبغضّ النّظر عن الإيمان أو الكفر أو الإلحاد، فهذه قضايا تبقى بين الإنسان وربّه، وبغضّ النّظر عن اختلاف الدّيانات واختلاف أتباعها، سواء كانت ديانات سماويّة أو وضعيّة أو وثنيّة، فكلّ واحد مقتنع بما يؤمن به، وإذا كان اختلاف الدّيانات يدخل ضمن "صراع الحضارات" بين الأمم، فإنّني لا أرى مبرّرا لبعض "المثقّفين" العرب، عندما ينعون قريبا أو يعزّون بوفاة صديق أن يكتبوا

May his soul rest in peace وترجمتها الحرفيّة إلى العربيّة"لروحه السّلام"! والبعض الآخر يكتب God bless his soulوترجمتها إلى العربيّة "الله يرحمه".

فهل لو كتبوها بالعربيّة "الله يرحمه" سينتقص ذلك من ثقافتهم، أو من "إلحادهم" إن كانوا ملحدين؟ وهل هذا انسلاخ عن ثقافة أمّتهم وشعوبهم أم هو رُقيّ وحضارة؟ وكم مرّة شاهد أو قرأ أحدهم ناطقين بالإنجليزية ينعون أمواتهم أو يعزّون بميّت وكتبوا "الله يرحمه" حسب الثّقافة العربيّة الإسلاميّة، وحسب ثقافة المسيحيّة عند المسيحيّين الشّرقيّين؟

وقد قرأت لمثقّفين عرب آلاف الكتب وعشرات آلاف المقالات، عندما يذكر الواحد منهم والده أو جدّه أو أيّ شخص آخر متوفّى فإنّه يتبعها بـ -رحمه الله-، مع أنّ  قد يكون وُلد وعاش ومات ولم يسمع به أحد، بينما عندما يذكر اسم نبيّ أو رسول، لا يتبعها بالمتعارف عليه وهو -صلّى الله عليه وسلّم-، فيكتب الإسم بشكل عاديّ وكأنّ الرّسول أو النّبيّ أحد زملائه أو أحد الأشخاص العاديّين الأحياء! فهل لو كتب خلف اسم أحد الرّسل أو الأنبياء -صلى الله عليه وسلم- سينتقص هذا من إبداعه أو من معتقداته بغضّ النّظر عن ماهيّتها؟

ويتساءل البعض كثيرا عن دور المثقّفين، وهو دور عظيم لسنا في مجال الحديث عنه في هذه العجالة، وتأثيرهم كبير جدّا إذا لم يخونوا ثقافتهم، فهل من ضمن مهمّاتهم الثّقافيّة أن يعادوا أو يقفوا في الصّفّ المعاكس لثقافة شعوبهم وأمّتهم؟ والحديث يطول.

3 -فبراير 2022

ذكريات الطّفولة

المعذّبة في الرّغيف الأسود

جميل السلحوت

صدر كتاب "الرّغيف الأسود" للكاتب المغربيّ حسن المصلوحي عام 2020 عن مؤسّسة مقاربات للنّشر والصّناعات الثّقافية في مدينة فاس المغربيّة، ويقع الكتاب في 117 صفحة من الحجم المتوسط.

بداية يجب التّذكير بأنّ الكتابة عن رغيف الخبز ليست جديدة في الأدب العربيّ الحديث، فقد صدر في سبعينات القرن العشرين مجموعة قصصيّة بعنوان "الخبز المرّ" للأديب الفلسطينيّ الشّهيد ماجد أبو شرار، وفي العام 1982م صدرت رواية "الخبز الحافي" للأديب المغربيّ الرّاحل محمد شكري، و"هي عبارة عن سيرة ذاتية واقعية وحقيقية حكى فيها الكاتب عن كل شيء عن حياته، التي فرضت عليه أن يبقى في ظلام الأمّيّة حتى بلغ العشرين عاما من عمره. وكانت طفولته غارقة في عالم الفقر والبؤس والعنف"، وها هو الأديب المغربيّ حسن المصلوحي يسرد لنا مذكّراته في "الرّغيف الأسود".

وإذا كان الشّهيد ماجد بو شرار في مجموعته القصصيّة "الخبز المرّ" قد كتب عن معاناة اللاجئين الفلسطينيّين في الحصول على رغيف الخبز بعد نكبتهم الأولى في العام 1948م، ونكبتهم الثّانية في العام 1967م، وتشريدهم من ديارهم، فإنّ الأديب المغربيّ كتب سيرته حيث ولد ونشأ في بيئة يطغى عليها الفساد والدّعارة والتّهريب والمخدّرات والفقر المدقع. بينما يكتب لنا الأديب المغربيّ حسن المصلوحيّ مذكّراته عن طفولته المعذّبة في بيئة فقيرة يسود فيها الجهل، والمشترك بين سيرة محمد شكري وحسن المصلوحي هو الصّدق فيما كتباه دون تزييف، فكلاهما عاش في بيئة يسودها الفقر والحرمان والجهل.

ومن سوء حظّي أنّني لا أعرف شيئا عن السّيرة الذّاتيّة للأديب المصلوحي، فالأدب المغربيّ لا يصل منه إلّا النّزر اليسير إلى المشرق العربيّ، فما بالكم بنا نحن الذين نعيش في فلسطين المحتلّة وعشنا حصارا ثقافيّا لعقود طويلة، ولولا شبكة الاتّصالات العنكبوتيّة "الإنترنت"، لعشنا في غياب شبه دائم عن الأدب العربيّ الحديث بمجمله.

لكنّ حياة البؤس والحرمان التي عاشها الأديب المغربيّ حسن المصلوحي، ليست بعيدة عن حياة الطّفولة التي عشتها أنا وأبناء جيلي في خمسينات وستّينات القرن العشرين وفي العقود السّابقة لذلك، والتي قد تكون أكثر سوءا كما سمعنا عنها من الآباء والأجداد، وقد كتبت عن بعض ذلك في كتابي "أشواك البراري" الذي صدر عام 2018م عن مكتبة كل شيء الحيفاويّة، وفي عدّة فصول من مذكّرات المصلوحي عن طفولته شعرت أنّه يكتب عنّي وعن أبناء جيلي في الرّيف الفلسطينيّ، وفي بلاد الشّام كلّها.

ملاحظات: ورد في كتاب المصلوحي بعض الكلمات وبعض الجمل التي لم أفهمها، لأنها ليست عربيّة.

هناك خطأ في تبويب الكتاب، فـ "المقدّمة" التي كتبتها الكاتبة التّونسيّة نورة عبيد هي "تقديم" وليست مقدّمة، فأنا أكتب مقدّمة لكتابي، وأكتب "تقديما" لكتاب كاتب آخر. وأنا شخصيّا لا أنصح أيّ كاتب أن ينشر تقديما لكتابه مهما كانت مكانة كاتب التّقديم، لأنّ ذلك يكون على حساب مؤلّف الكتاب، وأؤكّد أنّني لم أقرأ تقديم الكاتبة التّونسيّة نورة عبيد لمذكّرات الكاتب المصلوحي، إلّا بعد أن قرأتُ المذكّرات، كي لا تؤثّر على فهمي للكتاب وعلى دهشتي ممّا ورد فيه، وعندما انتهيت من قراءة المذكّرات، قرأت التّقديم، ووجدت أنّ الكاتبة عبيد لم تترك لي شيئا لأكتب عنه.

ولو قرأت ذلك التّقديم لما قرأتُ الكتاب.

يبقى أن أقول أنّها خطوة رائدة من ندوتنا "ندوة اليوم السّابع الثّقافيّة الأسبوعيّة الدّوريّة المقدسيّة، والتي انطلقت في الفاتح من مارس 1991م ولا تزال مستمرة، وستبقى؛ خطة رائدة " لمناقشتها إصدارا أدبيّا لكاتب مغربيّ، ونأمل أن نناقش إصدرات أخرى لكتّاب من مختلف الأقطار العربيّة، مع التّأكيد على أنّها ليست المرّة الأولى التي نناقش فيها نتاجات أدبيّة لأدباء عرب، فقد سبق وناقشنا أعمالا أدبيّة لأدباء عرب منهم أردنيّون، سوريّون، لبنانيّون، مصريّون، كويتيّون، سعوديّون، ليبيّون. فشكرا لروّاد الندوة ولمديرتها الرّوائيّة المقدسيّة ديمة جمعة السّمان.

26-1-2022

 

تكريم المبدعين

وعصا المجانين

 

جميل السلحوت

 

 ممّا يلاحظ في بلادنا أنّ بعض المؤسّسات الرّسميّة والشعبيّة تقوم بتكريم المبدعين من العاملين فيها، أو من غيرهم ممّن قدّموا أو ساعدوا هذه المؤسّسات ولو معنويّا، ويكون التّكريم بإلقاء الخطابات الرّنّانة، حتّى أنّ من يسمعها يخال أنّ تحرير البلاد والعباد من رجس الاحتلال قد تمّ، وفي نهاية الاحتفال يقدّمون للمُكَرَّم "درعا خشبيّا" وهو عبارة عن قطعة خشبيّة مخطوط عليها بضع كلمات مجاملة له، ولا يصل ثمنها إلى عشرة دولارات. وينسحب هذا التّكريم على مجالات علميّة وثقافيّة وأدبيّة مختلفة، وبعض هذه "الدّروع" يجري تصميمها بحيث تكون صالحة للتّعليق على حيطان الصّالونات البيتيّة أو المكاتب، ومع الاحترام لمقدّمي ومستلمي هكذا "دروع" إلا أنّها ذكّرتني بمثل شعبيّ يقول" عصاة المجنون خشبة"، وأضحك بسرّي وأنا أستذكر" تكريم المبدعين والمتميّزين بخشبة"!

وبما أنّ الخشبة مادّة ملموسة فإنّها تبقى أفضل من رسم إلكترونيّ مزخرف يقوم

بعض المجهولين بإرساله للبعض "كجوائز"! على صفحات التّواصل الاجتماعيّ"الفيس بوك"، ومن المحزن أن يتمّ نشر هكذا"جوائز" على صفحات الفيس بوك"، ويقوم البعض بتقديم التّهاني والتّبريكات لصاحب الحظوة الفائز بهكذا "جوائز"، الذي بدوره يشكرهم مفاخرا!

لكنّ المأساة تبلغ ذروتها عندما تقوم مؤسّسات وهميّة، يقف على رأسها من يمكن تسميتهم بمحتالين جهلاء بتخصيص جوائز وهميّة تحمل أسماء عظيمة، ويختارون أسماء محترمة لتقديم "درعهم الخشبيّ" لها في احتفالات كبيرة يحضرها شخصيّات اعتباريّة في مجالات مختلفة، ويُلقون فيها كلمات مجاملة رنّانة، لا تزيد "المُكرَّمين" شيئا، لكنّها تشكّل صكّ براءة للمحتالين القائمين على هكذا مؤسّسات.

وبعيدا عن الشّخصيّات والمؤسّسات الوهميّة، فإنّه يوجد لدينا مؤسّسات محترمة، وتقدّم خدمات تُشكر عليها، لكنّها أيضا تُكرّم شخصيات محترمة وتستحقّ التّكريم، وبحضور شخصيّات رسميّة وشعبيّة، وتلقى كلمات رنّانة تشيد بالمكرَّمين، الذين يستلمون في نهاية الحفل بدرع "خشبيّ"! وذات حفل من هذا القبيل، حضرته قبل سنوات خلت، وجرى فيه تكريم أديب وشاعر كبيرين، طلب منّي القائمون على الحفل أن أقدّم الأديب لمن لا يعرفونه، مع أنّه عَلَمٌ كبير في عالم الأدب ولا يحتاج إلى تعريف أو تقديم، فوقفت على منصّة الخطابة والدّرع الخشبيّ أمامي، وأنا على قناعة تامّة بأنّ هكذا درع لا يليق بقامتين عاليتين في السّرد والشعر، فتذكّرت حكاية الخليفة الثّاني عمر بن الخطّاب رضي الله عنه، عندما مرّ بأعرابيّ يقرأ القرآن على ناقته الجرباء لتشفى، فقال له عمر:" لو أضفت قليلا من القطران لقراءتك لشفيت ناقتك"،  وخاطبت القائمين على الحفل والحضور وقلت:"لو أضفتم قليلا من القطران للدّرع الخشبيّ لأصبح التّكريم لائقا. فانفرط الحضور ضاحكين قهقهة.

وبالتّأكيد فإنّه لا يمكن ضبط "حفلات التّكريم الزّائفة" وسيبقى الكلّ يضحك على الكلّ" والحديث يطول.

25-1-2022

 

 

 

جوائز الابداع الفلسطيني

جميل السلحوت

 

من حقّ ذوي الفضل علينا أن نذكر أفضالهم علينا، وأن نكرمهم في حياتهم قبل موتهم، وأن نحفظ أفضالهم علينا بعد موتهم، فقد ورد في الحديث الشريف"اذكروا محاسن موتاكم".

وفي فلسطين وفي غيرها من الأقطار العربيّة، توزّع جوائز سنويّة، وما يهمّنا هنا هي جوائز الابداع الثقافي الفلسطينيّة بشكل عامّ، وجوائز لفنون أدبيّة مثل القصّة، الرّواية، الشّعر، المسرح، الفنّ التّشكيليّ وغيرها. وهذه سنّة حميدة تشكر عليها وزارة الثّقافة، واللافت في هذه الجوائز أنّ بعضها يُمنح بناء على الاتّجاه السّياسيّ للمُكرَّم، أكثر من ابداعاته، كما يَلفت الإنتباه أنّه تعلن مسابقات ضمن شروط معيّنة  تُطلب ممّن يتقدّم لهذه المسابقات، منها إرفاق أعماله كاملة، ونبذة عن سيرته الذّاتيّة، وغير ذلك، ومن آخر المسابقات التي تمّ الإعلان عنها هي "جائزة غسّان كنفاني للرّواية"، وتمّ تحديد تاريخ التّقديم لهذه المسابقة من 15-1 إلى 30-3-2022، وستعلن الجائزة أسماء الفائزين في 8 تموز-يوليو- القادم ذكرى استشهاد الأديب الكبير غسّان كنفاني، وتخصيص جائزة باسم الشّهيد غسّان كنفاني قرار أكثر من رائع، ونرجو استمراريّته، هو وبقيّة الجوائز كافّة، لكن هناك عدّة ملاحظات نتمنّى على وزارة الثّقافة بشكل خاصّ والمؤسّسات المسؤولة ذات العلاقة بشكل عامّ ومنها:

أنّ غالبيّة المبدعين المتميّزين إن لم يكونوا كلّهم لا يتقدّمون لهذه "المسابقات"، -التي تشبه امتحانات طلّاب المدارس-، ومعهم الحقّ كلّه في موقفهم هذا.

وهذا يطرح أسئلة أخرى منها:

هل تعرف وزارة الثّقافة أسماء المبدعين المتميّزين الذين يستحقون التّكريم أم لا؟ فإن كانت لا تعرف فتلك مصيبة، وإن كانت تعرف ولا تكرّمهم فالمصيبة أعظم.

-وبالتّأكيد فإنّ وزارة الثّقافة تعلم جيّدا أنّ أسماء كبيرة من مبدعي الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة غير معروفة في العالم العربي لأكثر من سبب- لسنا في مجال ذكرها في هذه العجالة- وإن كان الاحتلال هو السّبب الرّئيسي فيها، فلماذا لا تعمل وزارة الثّقافة على التّعريف بهم من خلال نشر أعمالهم خارج الوطن المحتلّ، ولفت الإنتباه لأسمائهم ولنتاجهم الثّقافي من خلال تكريمهم.

- وهنا يجدر التّذكير بأنّ الرّاحل الكبير محمود درويش لم يوافق بتاتا على مسابقات بين المبدعين، فلماذا لا نقتدي به؟

- لدينا مبدعون رائعون كان لهم دور كبير في انتاجات ثقافيّة مختلفة، وأسّسوا لحراك ثقافيّ واسع، حتّى قبل قيام السّلطة الوطنيّة الفلسطينيّة، وتعرّضوا جرّاء ذلك للاعتقال والتّعذيب، فهل هؤلاء لا يستحقّون التّكريم إلا إذا شاركوا في مسابقات مشروطة؟ ومع الاحترام الكبير لكلّ لجان تحكيم المسابقات السّابقة، إلا أنّ السّؤال الذي يطرح نفسه هو: هل هم جميعهم مطلعون على المستوى الابداعيّ للمبدعين كافّة؟

لكن في المحصّلة فإنّ إجراء المسابقات لاختيار مبدع في كلّ صنف ثقافيّ، هي مجرّد استبعاد للمبدعين الحقيقيّين الذين لا يشاركون في المسابقات، وطبعا مع الاحترام والتّقدير والتّهنئة لمبدعين شاركوا في المسابقات وفازوا بالجوائز.

يبقى أنّ نقول أنّ سلطتنا ووطننا وشعبنا لا يزال تحت الاحتلال، ومع الاحترام الكبير والعالي للمبدعين العرب، فإنّه ليس مطلوب من سلطتنا الفلسطينيّة تقديم جوائز لهم، فالأولويّة والأحقّيّة للمبدعين الفلسطينيين سواء كانوا في الوطن أو في الشّتات، وبعد الخلاص من الاحتلال وموبقاته، فلتخصص جوائز فلسطينيّة للمبدعين العرب.

 

23-1-2022

 

 

كلّنا بريئون، كلنا خطّاؤون

جميل السلحوت

 

معروف في علم الإجتماع أنّ الضّحيّة تحبّ جلد ذاتها، وهذا ما يجري في الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة، رغم أنّ شعبنا بقياداته وبأفراده ضحيّة للاحتلال، ومع ذلك فكلّ منّا يتّهم غيره ويعفي نفسه من المسؤوليّة، ونادر من يعترف منّا بخطئه مهما كان حجم هذا الخطأ! وإذا كنّا نجيد التّنظير حول الحرّيّات الشّخصيّة والعامّة، وحول حقوق الإنسان وغيرها، إلّا أنّنا لا نحسن ولا نجيد احترام هذه الحرّيّات وهذه الحقوق، وأنا هنا لا أبرّئ أحدا، ولا أتّهم أحدا، ولا أدافع عن أحد كائنا من كان، لكنّي أحاول أن أطرق جدران الخزّان؛ لعلّنا نخرج من مستنقعات نعيش فيها، وكثير منّا لا يرى أنّنا نغوص فيها لدرجة الغرق والإختناق. ولنأخذ أمثلة على ذلك في محاولة منّي للفت انتباه ذوي الشّأن من أصحاب القرار وأصحاب الرّأي من مثقّفين وحاذقين:

فعلى سبيل المثال، هناك قانون يمنع المعلمّين من استعمال العنف الجسدي أو اللفظي ضدّ التّلاميذ، وهذا قانون حضاريّ سبقتنا إليه أمم كثيرة بسنوات، لكنّنا نفتقر إلى القوانين التي تحمي المعلّم والمدرسة والنّظام التعليميّ، لذا وجدنا طلابا وأولياء أمور يعتدون جسديّا ولفظيّا على معلّميهم، ويخترقون حرمات المدارس والجامعات، ووجدنا من يدافع عنهم. وفي المحصّلة هكذا أمور تساهم في هدم المؤسّسة التّعليميّة.

كلنا يعلم أنّ المؤسّسة الأمنيّة الفلسطينيّة قامت لحماية الشّعب، وحفظ النّظام والأمن المجتمعي، ورأينا بأمّ أعيننا أو في وسائل الإعلام مجموعات من الأجهزة الأمنيّة تعتدي على أناس بطريقة همجيّة، وظهر من بيننا من هاجموا المؤسّسة الأمنيّة لدرجة اتّهامها بالعمالة، لكنّنا لم نجد من يبحث أو يكتب عن الأسباب التي أدّت برجال الأمن لاستعمال العنف ضدّ البعض، وتغاضى الجميع عن هذه الأسباب وفي مقدّمتها خرق القانون، وأنّ هناك أفرادا اعتدوا جسديّا ولفظيّا على رجال أمن، فهل هذا مسموح؟ وهل رجال الأمن أبناؤنا أم أنّهم غرباء عنّا، وهل منّا من يسمح للآخرين بالإعتداء عليه ولا يدافع عن نفسه.

في وسائل إعلامنا موظّفون ومسؤولون غير مؤهّلين، أو هم متحزّبون بطريقة عمياء، ويتناسون أنّ وسائل الإعلام هذه ملك للشّعب، وبالتّالي يمتنعون عن نشر أخبار ومقالات بما فيها أخبار ومقالات أدبيّة لكفاءات وطنيّة لأسباب يعلمها المحرّر دون غيره. ولا يجد هذا المحرّر من يحاسبه على جهله ومزاجيّته أو يوقفه عند حدّه.

كلّنا نعلم أنّ السلطة الفلسطينيّة سلطة الشّعب جميعه، وليست سلطة حزب أو فصيل معيّن، ويبدو أنّ بعض المسؤولين بعيدون عن واقع الشّعب، وما يدور في الشّارع، لذلك تجري تعيينات في مناصب رفيعة لا تعتمد الكفاءات، بل تعتمد المحسوبيّات والعامل الوراثي"التّوريث"، وهذا يخلق تناقضا بين الشّعب وبين القيادة، فهل تنتبه القيادة لذلك؟

وهناك وهناك أمور وقضايا كثيرة متناقضة وكلنا نشتم كلّنا في تحييد كامل للعقل وللمنطق، فهل ننتبه لذلك؟

9 يناير 2021

 

دعاة الدّولة الواحدة

جميل السلحوت

حسب القاموس السّياسيّ فإنّ "السّياسة هي فنّ الممكن"، ولمن يتحدّثون عن حلّ القضيّة الفلسطينيّة من خلال إقامة دولة واحدة يعيش فيها الفلسطينيّون واليهود جنبا إلى جنب، ولن يكون السّيّد محمد دحلان زعيم "الجناح الإصلاحيّ" المنشقّ عن حركة فتح الأخير الذي يتحدّث عن هكذا حلّ، تماما مثلما لم يكن هو أوّل من قال ذلك، لكنّ من تحدّثوا عن هذا الموضوع، عبّروا عنه ببساطة وسلاسة وكأنّه أمر مفروغ منه وجاهز للتّطبيق، معتمدين على سياسة الأمر الواقع التي فرضتها اسرائيل بقوّة السّلاح من خلال مصادرة الأراضي واستيطانها، لفرض وقائع وحقائق ديموغرافيّة على الأرض تجعل إقامة الدّولة الفلسطينيّة على الأراضي المحتلة في حرب حزيران 1967م أمرا مستحيلا، مع أنّ مساحة هذه الأراضي لا تتجاوز 22% من مساحة فلسطين التّاريخيّة، والأمر الغريب في هكذا طروحات أنّها تقفز عن حقيقة الموقف الإسرائيلي المتمثّل بمواصلة مصادرة الأراضي الفلسطينيّة واستيطانها، وتتعامل مع السّلطة الفلسطينيّة كسلطة إدارة مدنيّة على السّكان وليس على الأرض، وتتحكّم بالإقتصاد الذي هو جزء من اقتصاد الاحتلال وملحق به، وأنّ الحلول التي يطرحها الاحتلال حلولا اقتصاديّة لتحسين الوضع الإقتصادي لفلسطينيّي الأراضي المحتلة عام 1967م، الذين سيقتصر دورهم "كحطّابين وسقّائين" حسب التّعبير التّوراتي، وهذا ما ارتضاه من تضخّموا وتكرّشوا برشاوي بترول الخليج وبتعليمات وضغوطات أمريكيّة؛ لتنفيذ ما يسمّى "صفقة القرن" أو "السّلام الإبراهيمي"، وقد عبّر أحد الأكّاديميّين المعروفين في رواية كتبها والتي جاء فيها ما معناه في حوار بين مهندس ومحام عندما سأل المحامي المهندسَ: ما هو الوطن؟

فأجابه: الوطن رقعة جغرافيّة لها حدود معيّنة وتسكنها مجموعة بشريّة تشترك في اللغة والتّاريخ والثّقافة..إلخ.

فعاد المهندس يسأل: وهل يوجد وطن بلا مواطنين؟

ليعود ويؤكّد أنّ الوطن هو من يوفّر لمواطنيه السّكن والدّخل المحترم، بغضّ النّظر عمّن يحكم هذا الوطن ومواطنيه.

وهذه دعوة صريحة لقبول الإدارة المدنيّة على السّكّان وليس على الأرض، وإلا فإنّ البديل هو طرد الفلسطينيّين من ديارهم ومن وطنهم!

ومن يطرحون حلّ الدّولة الواحدة بهذه البساطة وعن قصد وسبق إصرار يعلمون أنّ سياسة الاحتلال تتعامل مع الصّراع كصراع وجود وليس صراع حدود، وقد شرّعوا في الكنيست قوانين تحمي هذه السّياسة ومنها قانون القوميّة وقانون يهوديّة الدّولة وغيرها. ويعلمون أنّ اسرائيل التي تملك القّوّة العسكريّة تبني سياستها على "ما لا يمكن حلّه بالقوّة يمكن حلّه بقوّة أكبر". لأنّهم يدركون بأنّ حلّ الدّولة الواحدة سيجعل اليهود فيها أقلّيّة، وهذا ما يمنعهم من ضمّ الأراضي المحتلّة، ولو فعلوا ذلك ومنعوا الفلسطينيين من حقوقهم الإنتخابيّة "كناخبين وكمرشّحين" سيظهرون على حقيقتهم العنصريّة التي يحاولون إخفاءها عن الرّأي العامّ العالميّ. وإذا كان قادة الاحتلال يرفضون إقامة دولة فلسطينيّة على الأراضي المحتلّة عام 1967 ومساحتها حوالي 22% من مساحة فلسطين التّاريخيّة، فهل سيسمحون بإقامتها على فلسطين التّاريخيّة كاملة خصوصا وأنّهم يملكون أوراق القوّة كاملة، ويحظون بتأييد أمريكا والمتصهينين من القادة العرب والمسلمين، ومن المتصهينين الفلسطينيّين أصحاب القضيّة وبضغوط أمريكيّة؟!

وإذا كانت أهداف الحركة الصّهيونيّة طويلة المدى، فإنّ أحلام قادتها بأرض خالية من "الغوييم" غير اليهود لا يزال قائما، وسيطبّقونه مستقبلا عندما تحين لهم الفرصة المناسبة. والحديث يطول.

30 ديسمبر 2021

 

 

قراءة جديدة لكتاب

اليسار العربي والأمّة

 

جميل السلحوت

 

 يتساءل كثيرون عن ضعف وتراجع قوى اليسار العربيّ، وتعقد ندوات وتجري "دراسات وأبحاث" حول هذا الموضوع، في محاولة منهم للخروج من المأزق التّاريخيّ الذي يعيشونه، ويتطرّقون إلى أسباب ذلك، ويحمّلّون الشّعوب والوضع الدّولي وهوان النّظام العربيّ الرّسمي مسؤوليّة ذلك، بينما من ينتمون إلى اليسار أو يزعمون الإنتماء إليه لم يعترف أيّ منهم بأنّ اليسار نفسه-سواء كان أفرادا أو مجموعات حزبيّة وتنظيميّة- يحمل وِزْر ما وصل إليه. وللتّذكير فقط فإنّ المفكّر الماركسي اللبناني حسين مروّة "(1910 - 17 فبراير 1987" قد كتب بحثا طويلا حول أزمة الأحزاب الشّيوعيّة واليساريّة في بداية ثمانينات القرن الفارط، ونشرها في صحيفة النّداء اللبنانيّة، وأعادت نشرها مجلّة الكاتب التي كانت تصدر في القدس ويرأس تحريرها الأديب أسعد الأسعد.

وفي بحثه آنف الذكر توقّع مروّة انهيار منظومة الدّول الإشتراكيّة إن لم تصحّح مسيرتها، كما تضمّن بحثه بابا حول أزمة "حركة التّحرر العربيّ ومنظّمة التّحرير الفلسطينيّة، وأنّ العالم سيشهد مدّا يمينيّا ساحقا في بدايات تسعينات القرن العشرين، ولم يلتفت المثقّفون العرب اليساريّون لتحليل حسين مروّة، لسبب بسيط يعشّش في أدمغتهم وهو أنّ مروّة عربيّ وليس سوفييتيّا أو يساريّا غربيّا، وقد يستغرب البعض ذلك، لكن هذا ما حصل! وفي فبراير العام 1987 اغتالت حركة أمل الشّيعيّة اللبنانية حسين مروّة، فطويت صفحته قبل أن يشهد انهيار الاتّحاد السّوفييتي ومجموعة الدّول الإشتراكيّة. وانفردت أمريكا بالعالم وبطشت فيه كما شاءت، وكان العرب والمسلمون أوّل ضحاياها وأكثر المتضرّرين من سياستها.

ما علينا سنعود إلى موضوعنا، وهو مسؤوليّة اليساريّين العرب عن خسارتهم لجماهيرهم ولشعوبهم، فهل العيب فيهم أم في الشّعوب؟ وهل تساءلوا عن أسباب خساراتهم مع أنّهم سبّاقون في تشكيل أحزابهم؟ فعلى سبيل المثال كانت بدايات تأسيس الحزب الشّيوعيّ في فلسطين عام 1919، وكان رضوان الحلو يفاخر بأنّه قد قابل لينين عام 1919، وهذا ما سمعته منه مباشرة عندما التقيته في معتقل المسكوبيّة في القدس في شهر مارس عام 1969م. بينما تأسّست الأحزاب القوميّة مثل حركة القوميّين العرب وحزب البعث العربيّ الإشتراكيّ في بدايات خمسينات القرن العشرين، وسبقهتم جماعة الجهاد المقدّس التي انتهت باستشهاد قائدها عبد القادر الحسيني في 9 ابريل 1948. وجاءت حركة التّحرير الوطني الفلسطيني "فتح" في بداية العام 1965، واكتسبت التفافا جماهيريّا واسعا، غطّى على الأحزاب القائمة كافّة لعدّة أسباب هامّة، وفي مقدّمتها أنّها لم تتبنّ أيدولوجيّة معيّنة، واعتبرت نفسها حركة للشّعب الفلسطينيّ باتّجاهاته السّياسيّة كافّة، فاستقطبت الجماهير من أقصى اليمين إلى اقصى اليسار وما بينهما، وبمن فيهم من تركوا تنظيماتهم وأحزابهم القائمة والتحقوا بحركة فتح، فهل هذا أمر عفويّ أم له أسبابه؟

الفكر الماركسيّ

تبنّت القوى اليساريّة العربيّة بشكل عامّ والفلسطينيّة بشكل خاصّ الفكر الماركسيّ، فهل كانت ماركسيّة قولا وفعلا؟ يقول لينين "على الشّعوب الأخرى أن تبحث عن ماركسيّتها في ثقافاتها"، فهل احترم اليساريّون العرب ثقافتهم العربيّة الإسلاميّة؟ والإجابة على ذلك معروفة للجميع وهي أنّهم لم يحترموا ثقافة أمّتهم، سواء من النّاحية الدّينيّة أو الأدبيّة. ولم يفهموها أو بالأحرى لم يطّلعوا عليها أو يلمّوا بها، تماما مثلما لم يطّلعوا بشكل صحيح على الماركسيّة التي اتّخذوها شعارا لهم! وصاروا يدورون في فلك السّياسة السّوفييتيّة دون تمحيص واكتفوا بذلك. وعدم احترام اليساريّين العرب لثقافة شعوبهم وأمّتهم جعلتهم في صدام مع هذه الشّعوب بدلا من أن يكونوا حاضنة لها، ولم يراجعوا أنفسهم، وحتّى بعد انهيار الاتّحاد السّوفييتي ومجموعة الدّول الإشتراكيّة لم يتّعظوا من ذلك، واعتبروا أنّ القيادة السّوفييتيّة انحرفت عن الماركسيّة اللينينيّة، ولم ينتبهوا للأسباب التي دعت الجمهوريّات السّوفييتيّة تتفكّك وتنفصل عن الإتّحاد الأمّ، وتتنكّر للفكر الماركسيّ، الذي ثبت أنّه كان مفروضا عليهم بقوّة السّلاح، وأنّ الرّوس لم يحترموا ثقافة هذه الشّعوب، حتّى وصل البعض من هذه الجمهوريّات درجة العداء لروسيا، وانضمّت بعضها  إلى حلف النّاتو المعادي لروسيا.

والأحزاب والقوى اليساريّة العربيّة التي كانت تدعو في أدبيّاتها إلى تلمّس مشاكل الجماهير والعمل على حلّها، هل انتبهت لثقافة هذه الجماهير؟ وهل التزمت بها؟ إذا أرادت استقطاب الجماهير قولا وفعلا؟ والجواب طبعا لا كبيرة! والحديث يطول.

21 ديسمبر 2021

 

 

أجدادنا العرب والتّراث الأدبيّ

 

جميل السلحوت

 

زرت موسكو عام 1984، وفي ساحة الكرملين سألت مواطنا روسيّا باللغة الإنجليزيّة لأستوضح منه عن أمر ما: هل تتكلّم الإنجليزيّة؟

فردّ عليّ دون أن ينتبه لي بإنجليزيّة سليمة: لِمَ لا تتعلّم الرّوسيّة؟

وحدث الشّيء نفسه معي عام 2001 في مطار أورلي في باريس! فردّ عليّ المواطن الفرنسيّ دون أن يلتفت إليّ: لِمَ لا تتعلّم الفرنسيّة؟

تذكّرت هذا أثناء مطالعاتي لكتب في التّراث الشّعبيّ لباحثين عرب، فوجدتهم يجمعون بأنّ العرب لم يهتمّوا بتراثهم الشّعبيّ إلّا بعد الحرب الكونيّة الثّانية، أي بعد "استقلال الأقطار العربيّة"، وبهذا فقد تأخّروا عن الأوروبّيّين بما يزيد على قرنين. وقرأت عشرات الكتب عن النّقد الأدبيّ لمؤلّفين عرب، ووجدتها تزخر باقتباسات لمؤلّفين أجانب، وكأنّ العرب لم يعرفوا النّقد الأدبيّ إلا بعد أنّ اطّلعوا على الآداب والنّظريّات النّقديّة الغربيّة!

وفي لحظة صفاء ذهنيّ استرجعت ما علق بذاكرتي شيئا من تاريخنا العربيّ بهذا الخصوص، ومنها أنّ النّابغة الذّبيانيّ كان يجلس في خيمته في سوق عكاظ في الجاهليّة، فيقصده الشّعراء عارضين عليه قصائدهم، فيقول رأيه فيها ويفاضل بينهم، وكان العرب يستمعون للشّعراء ويمحصّون الشّعر، وتوّجوا ذلك باختيارهم للمعلّقات فعلّقوها على أستار الكعبة، وحتّى الرّسول وأصحابه -صلى الله عليهم وسلّم-استمعوا لشعر حسّان بن ثابت، وأثنوا عليه، وأعجب الرّسول بقصيدة "نهج البردة" لكعب بن زهير، فخلع عباءته وألبسها للشّاعر، وكان الشّعراء يتسابقون إلى قصور الخلفاء ويقرضون الشّعر، ويبيّنون مثالبه، وفي رسالة الغفران نرى قراءة أبي العلاء المعرّيّ لأشعار كثيرة، وهذا ما حصل أيضا في كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني وغيره كثير لسنا في مجال ذكره في هذه العجالة.

الأدب الشّعبي

وإذا ما تطرّقنا إلى الأدب الشّعبيّ سنجد أنّ العرب قد انتبهوا إليه ودوّنوه قبل الأوروبّيّين بما يزيد على عشرة قرون، ومن كتب الأمثال العربيّة:" أمثال العرب لعبيد بن شرية (ت 81هـ)، وكتاب أمثال العرب للمفضل الضبي (ت 171هـ) الذي اهتم بتفسير السياق الذي جاء فيه المثال مع شرح ألفاظه، وكتاب الأمثال لمؤرج بن عمرو السدوسي (ت 195هـ)، و كتاب الفاخر في الأمثال للمفضل بن سلمة بن عاصم الضبي 291هـ، وجامع الأمثال لأحمد بن إبراهيم بن سمكة اللقمي (ت 530هـ)، وكتاب الدّرّة الفاخرة في الأمثال السّائرة لحمزة بن الحسن الأصفهاني (ت 439هـ) وجمهرة الأمثال لأبي هلال العسكري (ت 395هـ)، والمستقصي للزّمخشري، ومجمع الأمثال للميداني وغيرها.

وممّن أسّسوا للأدب الشّعبي الجاحظ (776 م-868 م) الذي أفرد بابا طويلا في كتابه "الحيوان"سمّاه أدب العامّة، والذي أورد فيه مئات النّوادر والفكاهات الشّعبيّة، ومن كتب الفكاهات "النّكات الشّعبيّة"كتاب في نوادر الأذكياء وطرائف أخبارهم، للحافظ ابن الجوزي(510هـ/1116م - 12 رمضان 597 هـ).

"تطرق الكاتب في هذا الكتاب إلى فضل العقل وماهيته ومحله، والذهن والفهم والذكاء، وعلامات الذكاء، والمنقول من فطنة الأنبياء، وعن الأمم السابقة، وعن النبي محمد عليه الصلاة والسلام، والصحابة، والخلفاء، والوزراء، والقضاة، والعلماء والزهاد، وعلماء العربية، واستخدام الذكاء للأغراض، ومن انعكس عليه ذكاؤه، واحترازات الأذكياء، وفطنة النّساء، والصّبيان، والشّعراء، والمحاربين، وعقلاء المجانين".

كما اهتمّ قدامى العرب بالسّيَر الشّعبيّة، ومنها: سيرة كلّ من الأبطال الشّعبيّين، مثل سيرة معن بن زائدة، سيرة الزّير سالم، سيرة عنترة بن شدّاد، سيرة أبو زيد الهلالي وغيرها.

فهل تكفي هذه العجالة للفت انتباه الباحثين والدّارسين العرب للتّراث الشّعبيّ بأنّ العرب قد انتبهوا للأدب الشّعبيّ ودوّنوه قبل الأوروبّيّين؟ وهل يطالعون كتب التّراث الأدبي والثّقافي العربيّة القديمة بدلا من عناء المطالعة باللغات الأخرى؟ ولا يفهمنّ أحد بأنّ هذا دعوة للإنغلاق الثّقافيّ، بل من أجل العودة إلى الصّحيح، وإنصاف ثقافتنا التي ظُلمت كثيرا من خلال عدم دراستها وتمحيصها وترجمتها إلى اللغات الأخرى.

17 ديسمبر 2021

 

خلط الواقع بالغرائبية في

رواية الراعي وفاكهة النساء

جميل السلحوت

عن دار الرّعاة للدّراسات والنّشر بمشاركة جسور ثقافيّة للنّشر والتّوزيع صدرت هذا العام 2021 رواية "الرّاعي وفاكهة النساء" للكاتبة الفلسطينية ميسون أسدي، وتقع الرواية التي يحمل غلافها الأوّل لوحة للفنّان التّشكيلي عبد عابدي في 2018 من الحجم المتوسّط.

عرفنا الكاتبة ميسون أسدي ككاتبة واقعيّة، كتبت القصّة الكبيرة للكبار وللأطفال، كما كتبت الرّواية أيضا.

واضح أنّ الكاتبة هدفت من روايتها الواقعيّة الغرائبيّة هذه تبيان العلاقة بين الرّجل والمرأة، وتدور غالبيّة أحداث الرّواية في حوار دار بين هزّاع بطل الرّواية والمحامية ابتهاج أنطون، وإن غلب على المضمون اعترافات هزّاع حول علاقاته مع النّساء، وحول حاجة "الذّكر والأنثى" للجنس.

آخذ على الرّواية أنّ الكاتبة حمّلت هزّاع راعي الغنم أكثر ممّا يحتمل، فقد رأيناه زير نساء، فيلسوفا، محلّلا نفسيّا، ومثقّفا كبيرا، فكيف تأتّى له ذلك وهو من عاش في بيئة رعويّة، ولم يأخذ نصيبه من التّعليم، وكأني بالكاتبة لم تترك بطل روايتها يتحرّك ضمن قدراته، بل هي من حرّكته وتكلّمت عنه. كما آخذ على الرّواية أيضا أنّ النّساء فيها لم يكن لهنّ موقف سوى تلبية حاجة الرّجال الجنسيّة دون أدنى معارضة. حتى المحامية أريج لم تكن استثناء، فقد جاء على لسان هزّاع عنها" أيقن بأنّها أشهى امرأة تمشي على قدمين لا تمتنع عن رفعهما عاليا في أي وقت"ص 129.

ويلاحظ أنّ الرّاعي هزّاع قد اكتشف الجنس من خلال مشاهداته لتزاوج قطيع الأغنام مع ذكورها:"اكتسبت الحرّيّة من حرّيّة الحيوان ومن مراقبتي لفحول القطيع"ص40.

وشاهد هزّاع:" شاهدت بنفسي كيف كان جاري يجامع أتانا دون أن يرف له جفن."ص52. وجاء في الرّواية تبرير "علميّ" لذلك على لسان المحامية أريج مستشهدة بفرويد:" اعتبر فرويد  غريزة الجنس حاجة محوريّة في السّلوك الانسانيّ، وأنّ الانسان مجبول على تعويض الحاجة إن حرم منها................لذلك سعى الإنسان لتجربة أنواع أخرى من المتعة خارج دائرة الجنس البشريّ"ص 54. وبعد ذلك هناك تفسير للجوء بعض البشر لممارسة الجنس مع الحيوان جاء على لسان هزاع:"إنّ التّآلف بين الإنسان والحيوان جنسيّا أصبح ممكنا بعد أن حرّمت الأعراف الاجتماعيّة ذلك دون الزّواج وصنّفته  ضمن التّابوهات الكثيرة في المجتمع!"ص 56. ومن خلال رؤية هزّاع وزميلته حسنة لتزاوج الأغنام فقد ثارت شهواتهما في مرحلة عمريّة مبكّرة، وقلّدا الأغنام في ذلك، وأقاما علاقة حميمة في المراعي بعيدا عن عيون النّاس. كما أشار هزّاع كيف كان يرى وشقيقاته وأشقّاؤة والدهم وهو يسطو على والدتهم ويضاجعها ليلا قبل أن يناموا. وبما أن محور الرّواية يدور حول الجنس، فقد جاء التّركيز على العلاقة خارج إطار الزّواج، حتّى أنّه ورد على لسان هزّاع وهو يقول للمحامية ابتهاج بعد أن اعترفت له بزواجها وبطلاقها، مهاجما الزّواج:"إذن أنت تعرفين علّة الزّواج، فأنا باعتقادي أنّ هذه المؤسّسة هي الأسوأ من بين المؤسّسات الموجودة في المجتمع."ص 170. ولتكملة الصّورة في العلاقة بين الجنسين فقد انتقل هزّاع إلى العمل في مطعم في تل أبيب، وهناك نصحه صاحب العمل بأن يتّخذ اسما عبريّا لتسهيل علاقته مع الفتيات اليهوديّات، وصار اسمه"عزرا"، وهناك تعرّف على فتاتين عشقهما وعشقنه، على اعتبار أنّه يهوديّ، وعندما اكتشفت إحداهما أنّه عربيّ، اعترف لها بأنّه بدويّ وليس عربيّا، وفي هذا إشارة ذكيّة لتصنيف المؤسّسة الصّهيونيّة الفلسطينيّين إلى" عرب، بدو، مسيحيّين ودروز". وبهذا فإنّ المسلمين من غير البدو هم العرب فقط!

وقد ورد في الرّواية أنّ هزّاع قد تزوّج من بنت عمّه شيحة خضوعا لأعراف القبيلة، ولمّا أنجبت منه ثلاثة معاقين تزوّج بتحريض من والده ثانيّة وأنجب منها بنتا. ولتكتمل وتتشعّب دائرة الجنس في الرّواية، فإنّ هزاع افتتح صالونا لتجميل النّساء، ومن خلاله عاشر العديد من النّساء، ومن خلال السّرد الإنسيابي الذي يشبه حكايات ألف ليلة وليلة شاهدنا كيف احتالت إحدى خليلاته التي شاركت بمؤتمر في إيلات على زوجها، كي يرسل مصفّف وحلّاق الشّعر، فأصرّ على هزّاع أن يلحق بها ليواصل علاقته معها هناك.

وهزّاع هذا الذي لم يوفّر أنثى مهما كان عمرها، كاد أن يقيم علاقة مع صبيّة في الرّابعة عشرة من عمرها لولا أنّ والدتها هاتفته؛ لتخبره أنّ هذه الصّبيّة هي ابنته!

واضح أنّ الكاتبة اختارت راعي أغنام "هزاع"؛ كمبرر للحديث عن تزاوج الحيوانات، وعن معاشرة بعض البشر للحيوانات أيضا، ثمّ انتقلت به إلى تل أبيب لتطرح ثقافة أخرى مغايرة في التّعامل مع الجنس، وأعادته إلى قريته، ليفتتح صالون تجميل للسّيّدات؛ لتروي لنا أنّ أيضا هناك علاقات بين الرّجل والمرأة في المجتمع العربيّ، لكنّ هذه العلاقات سرّيّة. وفي تقديري أنّ الكاتبة ميسون أسدي التي تعمل باحثة اجتماعيّة قد استوحت مضامين حكايات وقصص روايتها من مشاهداتها العمليّة، فألبستها جميعها لشخصيّة واحدة هي "هزّاع".

وأحسب أنّ انصياع النّساء لرغبات هزّاع في الرّواية وعدم رفضهن لتلبية رغباته جاء لتبيان أنّ المرأة مضطهدة ومحرومة وبالتّالي فإنّه يسهل الإيقاع بها. ويلاحظ القارئ للرّواية أنّ هزّاع لم يتعاطف مع امرأة إلا مع والدته ومدى شقائها وتضحياتها كما ورد في الصفحة 66، وأثناء معاشرة والده لها أمامهم بالقوّة وكأنّه يغتصبها.

الأسلوب واللغة: جاء أسلوب الرّواية حكائيّ انسيابيّ يطغى عليه عنصر التّشويق، واللغة كانت فصيحة لكنها لم تخلُ من الأخطاء اللغوية والنّحويّة.

3-نوفمبر 2021

 

  

أسود رام الله والأصنام

جميل السلحوت

ما أحببت الخوض في قضيّة من "استأسد" على منحوتات الأسود في منارة مدينة رام الله وقام بتحطيمها قبل أيّام، بغضّ النّظر عن الأسباب الكامنة خلف ذلك، فسواء كان الفاعل مدمن مخدّرات وكحول، وهذا ما أكّده الناطق بلسان الشّرطة الفلسطينيّة، أو كان تكفيريّا كما كتب "أسود صفحات التّواصل الاجتماعيّ". لكن ما دفعني للكتابة بهذا الخصوص هو المقالات التي كتبها البعض معتبرا تكسير التّماثيل جهادا في سبيل الله، ودفاعا عن الدّين الحنيف.

وأنا هنا لا أفتي وغير مؤهّل للإفتاء، لكنّني سأدلي بدلوي في موضوع الأسود التّماثيل، فهل هي أصنام تُعبد حقّا؟ وهل نحتت ونصبت عند دوّار المنارة في رام الله ليعبدها النّاس؟ وهل هناك خطر من ردّة بعض المسلمين عن الدّين الحنيف ليعبدوها؟ وهل إيمان الشّعب الفلسطينيّ هشّ لدرجة يهزّه تمثال حجريّ؟ وهل مسلمو هذا العصر يفقهون أمور دينهم أكثر من الخلفاء الرّاشدين وصحابة رسول الله صلى الله عليه وعليهم وسلم؟ وهل حطّم الرّسول الأعظم الأصنام عند فتح مكة لأنّها مجرّد تماثيل أم لأنّ هناك من اعتبرها آلهة وعبدها؟

وللإجابة على هذه الأسئلة وغيرها دعونا نعود إلى القاموس لمعرفة معنى "صنم"، وقد جاء في قاموس المعاني:" صَنَم: (اسم)

"الصَّنَمُ : تمثالٌ من حَجَرٍ أو خشبٍ أَو معدِنٍ كانوا يزعمون أَنَّ عبادتَه تقربهم إلى الله والجمع : أَصنام.

صنم: (مصطلحات)

"ما يُصوّر ويُعدّ للعبادة، سواء كان ذا روح أم لا، وصنعه محرم واقتناؤه كذلك، ويجب المبادرة إلى إتلافه. (فقهية)".

ولننتبه لمفهموم مصطلح "الصّنم"، وهو:" ما يُصوّر ويُعدّ للعبادة"، فإذا كان ذلك كذلك " فصنعه محرم واقتناؤه كذلك، ويجب المبادرة إلى إتلافه". وهذا رأي فقهيّ أجمع عليه السّلف.

فهل نُحتت "أسود المنارة ونصبت" كمظهر فنّيّ حضاريّ لتزيين المكان أم لعبادتها؟

وإذا كان تحريم المنحوتات محرّم بالمطلق، فلماذا أبقى الصّحابة وتابعوهم وتابعو تابعيهم على التّماثيل الفرعونيّة، وآثار تدمر وبابل والبتراء والتّماثيل البوذيّة في جنوب شرق آسيا وغيرها؟

وهذا يقودنا أيضا إلى سؤال آخر وهو هل الفنون التّشكيليّة محرّمة دينيّا؟ وهل الرّسومات المأثورة في قصور الخلفاء العبّاسيّين كفر وردّة عن الدّين؟

وبما أنّنا كمسلمين نؤمن أنّ الإسلام يصلح لكلّ زمان ومكان، فهل الفنون التّشكيليّة السّائدة في هذا العصر وفي عصور سابقة كفر وإلحاد، وعلى المسلمين "الجهاد" للخلاص منها؟

وهل ما قامت به داعش وجبهة النّصرة وأخواتهما من قوى التّكفير من تدمير للمأثورات الحضاريّة بما فيها مقامات دينيّة إسلاميّة في سوريا وبلاد ما بين النّهرين أمر دينيّ وخدمة لدين الله وللمسلمين؟ وأنّ من سبقوهم من المسلمين وأبقوا عليها كانوا يجهلون أمور دينهم؟ وهل أنا وغيري كفرة عندما نحتفظ بصورة آبائنا وأجدادنا في بيوتنا؟ والحديث يطول.

24-010-2021

 وقت آخر للفرح

جميل السلحوت

صدر كتاب "وقت آخر للفرح- من أدب الرّسائل" لمحمود شقير وشيراز عنّاب عام 2020 عن مكتبة كل شيء في حيفا ضمن منشوراتها "سلسلة أغصان الزّيتون" للفتيات والفتيان، ويقع الكتاب في 102 صفحة من الحجم المتوسّط.

لسنا بحاجة إلى التّذكير بأنّ محمود شقير أديب كبير ورمز من رموزنا الأدبيّة، وهو يدهش النّقّاد وقرّاءه عندما يفاجئهم بجديد، وها هو بعد إبداعاته في كتابة القصة القصيرة للكبار وللأطفال، والأقصوصة -الذي هو أحد روّادها ومؤسّسيها-، الرّواية للكبار ولليافعين، اليوميّات، أدب الرّحلات، المراثي، المسرحيّة، السّيرة الذّاتيّة وغيرها، يطلّ علينا في العام 2020 برسائل تبادلها مع الكاتبة الفلسطينيّة شيراز عنّاب، وإذا كانت هذه الرّسائل تهدف التّعليم والتّربية في مجالات مختلفة، فلا بدّ هنا من التّذكير برسائله المتبادلة مع الأديبة حزامة حبايب "أكثر من حبّ" الذي صدر عام 2021، والذي يشكّل ثروة أدبيّة كبيرة

نعود إلى ما نحن بصدده، وهو "وقت آخر للفرح"، الموجّه للفتيات والفتيان، وبالتّأكيد فإنّ الكاتبة شيراز عنّاب محظوظة لمشاركتها في هذه الرّسائل مع أديب كبير بحجم محمود شقير.

وبنظرة سريعة على الغلاف الأوّل سيجد القارئ نفسه أمام كاتبين اتّفقا مسبقا على أن تكون هذه الرّسائل لفائدة الفتيات والفتيان، وبالتّالي فهي رسائل تعليميّة تربويّة طغى عليها أسلوب السّرد الرّوائيّ، والكتابة للأطفال ولليافعين ليست جديدة على أديبنا الكبير، فقد صدرت له كتب عديدة بهذا الخصوص، لذا فقد كان هو البادئ بالرّسائل، وكأنّي به يقود شريكته لتردّ على رسائله في المجال الذي رسمه لنفسه ولها. وبما أنّ الرّسائل ليست شخصيّة فقد اتّخذ لنفسه اسم "يزيد"، بينما اتّخذت شيراز عنّاب اسم نجلاء، ويزيد يتكلّم عن مدينته القدس، بينما نجلاء تتحدّث عن مدينتها نابلس، وبهذا درس في التّاريخ والجغرافيا عن مدينتين فلسطينيّتين عريقتين.

لكن لم يفت الأديب شقير أن يمرّ على مدينة أريحا حيث التقى الكاتبة عنّاب، فهذه المدينة الأقدم في العالم والتي عمرها عشرة آلاف عام.

ولا يغيب عن ذهن الأديب شقير كما هو الحال في كتاباته كافّة التّذكير بفسيفساء الشّعب الفلسطينيّ والتّعدّديّة الثّقافيّة في فلسطين الوطن، ففي فلسطين الدّيانتان الإسلاميّة والمسيحيّة، فمنذ البداية عرّف يزيد صديقته نجلاء على زميله وابن صفّه جريس وشقيقته سوسن، ولتأكيد قدسيّة دور العبادة "نذهب انا وأمّي وأبي إلى المسجد وإلى الكنيسة في كلّ عيد"ص8. وبهذا تأكيد على أنّ المساجد والكنائس جزء من الحضارة الفلسطينيّة، وبالتّالي على الجميع حمايتها والحفاظ عليها.

وإذا كان لقاء شقير وعنّاب عام 2011 في مدينة أريحا، حيث اعتبر وزراء الثّقافة في الدّول العربيّة والإسلاميّة "القدس عاصمة دائمة للثّقافة العربيّة واٍلاسلاميّة". وبما أنّ هذا كان مجرّد شعار لا أكثر، فقد جاء في رسالة شقير الأولى معزّيا نفسه:" على الأقلّ، يكفيها الجانب المعنويّ النّاتج عن الاعتراف بها."ص6.

في الرّسائل تحدّث الكاتبان عن مدينتيهما، وعادا إلى تاريخهما القديم، فعلى أبواب نابلس تحطّمت جيوش نابليون، والقدس تعرّضت للهدم سبع عشرة مرّة، لكنّ الغزاة والمحتلين اندحروا مهزومين خائبين، وبقيت القدس مكانها، وهذا إشارة إلى النّهاية الحتميّة للغزاة المحتلّين الحاليّين.

في الرّسائل فضحٌ لممارسات الاحتلال القمعيّة لأبناء شعبنا، سواء كان ذلك بالقتل والأسْر، بمصادرة الأراضي والإستيطان، هدم البيوت، قطع الأشجار وحرق المزروعات، سلب الأمن والأمان من المواطنين الفلسطينيّين، وانتهاك حرماتهم وخصوصيّاتهم.

كما فيها دعوة لمواصلة التّعليم وزيادة الثّقافة من خلال الحثّ على مطالعة الكتب القيّمة، وحبّ الموسيقى، الفنون، المسرح، الغناء، الرّياضة...إلخ. إعطاء النّساء حقوقهنّ، وقد تطرّقت عنّاب إلى الحجاب، وكتبت أنّه ليست ضدّه، ومن حقّ أي فتاة أن تضعه، لكنها ترفض فرضه بالقوّة عليها.

لغة الرّسائل انسيابّة سهلة تناسب الجيل المستهدف.

هذا الكتاب يشكّل إضافة نوعيّة لأدب اليافعين، ولا تغني الكتابة السّريعة عنه من ضرورة مطالعته.

4-010-2021

 

 

بينيت لم يخرج

عن سياسة نتنياهو

جميل السلحوت

من يتابع سياسة الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة لن يجد أيّ اختلاف بينها بخصوص الأراضي العربيّة المحتلة، بغضّ النّظر عن الحزب أو التّحالفات الحزبيّة التي تشكّل الحكومة، فكلّهم ينفّذون المشروع الصّهيونيّ التّوسّعيّ الذي تتجاوز مخطّطاته حدود فلسطين التّاريخيّة التي يعتبرونها "أرض اسرائيل" التي وعدهم بها الرّبّ! وما الفوارق بين هذه الأحزاب الصّهيونيّة، إلا في التّصريحات التي تأتي من باب العلاقات العامّة لتسويق سياساتهم أمام الرّأي العامّ العالميّ. لكنّ نتنياهو كان أكثرهم وضوحا وصراحة في طرح سياساته التّوسّعيّة، ولم يأخذ أيّ اعتبارات للرّأي العامّ العالميّ، ولم يحفظ ماء وجه أنظمة عربيّة تعتبر "كنوز أمريكا واسرائيل الإستراتيجيّة" في المنطقة. ويجدر التّذكير هنا أنّ حزبّ العمل الإسرائيليّ في أوج قوّته وعنفوانه هو من بدأ الإستيطان في الأراضي العربيّة المحتلّة في حرب حزيران 1967 العدوانيّة، قبل أن يسكت هدير المدافع، عندما هدم حارتي الشّرف والمغاربة المحاذية لحائط المسجد الأقصى -حائط البراق-، وبنى حيّا استيطانيّا يهوديّا مكانه، وواصل مصادرة الأراضي العربيّة في محيط القدس القديمة وفي بقية أجزاء الضّفّة الغربيّة وقطاع غزّة، وحتى صحراء سيناء امصريّة لم تسلم هي الأخرى من الإستيطان.

وإذا قفزنا سريعا إلى اتّفاقات أوسلو الموقّعة في 13 سبتمبر 1993، فإنّها كانت محاولة ناجحة من اسحاق رابين رئيس الحكومة الإسرائيليّة لتفريغ منظّمة التّحرير وفصائلها من مضمونها المقاوم، ولنتذكّر مقابلة تلفزيونيّة بثّتها قناة العربيّة مع الدّكتور نبيل شعث عضو اللجنة التذنفيذيّة لمنظّمة التّحرير قال فيها: "أنّ لم يسمع من رابين موافقته على إقامة دولة فلسطينيّة،" وأكثر ما قال " أكثر من إدارة مدنيّة وأقلّ من دولة." ومع ذلك لم ينج رابين نفسه من الإغتيال على يد صهيونيّ متطرّف عام 1996. ورابين هذا كان رئيس أركان الجيش الإسرائيليّ في حرب حزيران 1967.

أمّا بنيامين نتنياهو فقد أكّد في كتابه الصّادر بالإنجليزيّة عام 1994، ولم يكن وقتها نتنياهو شخصيّة معروفة، والذي ترجم إلى العربيّة تحت عنوان "مكان تحت الشّمس"، أنّ حدود اسرائيل تطلّ على الصّحراء العربيّة، ويقصد الجزيرة العربيّة، وأنّه سيتنازل للفلسطينيين لإقامة دولتهم شرقيّ النّهر، بعد أن وصف الأردنّ أكثر من مرّة بأنّه "كيان قام في ظروف غير طبيعيّة"، وأن لا دولة ثانية بين النّهر والبحر، وأنّ الجيش الإسرائيليّ لن ينسحب من أيّ شبر سيطر عليه، وأنّ الفلسطينيّين لن يحصلوا أكثر من إدارة مدنيّة على السّكّان وليس على الأرض، مع تحسين ظروفهم المعيشيّة، وعلى العرب أن يوافقوا على هذا إذا أرادوا السلام، مع عدم السّماح لهم بالتّسلّح إلا بأسلحة لحفظ الأمن الدّاخليّ، وأن تتمّ مراقبتهم، لأنّهم لا يلتزمون بالعهود حسب تعليمات دينهم! وهكذا سلام سيكون في مصلحة العرب، لأنّ اسرائيل ستحلّ لسوريا والأردن مشاكل نقص المياه، "وإذا اجتمعت الانتلجينسيا اليهوديّة مع الأيدي العاملة العربيّة سيزدهر الشّرق الأوسط"! وهو بهذا يريد فرض الهيمنة الإسرائيليّة على كامل المنطقة العربيّة، ليكون العرب مجرّد"حطّابين وسقّائين" -حسب التعبير التّوراتيّ-، أي مجرّد عبيد. وقال أنّ العرب يرفضون كلّ طروحات السّلام التي تعرض عليهم، ثمّ لا يلبثون أن يتكيّفوا معها، وأعطى مثالا على ذلك، بأنّ العرب كانوا يطالبون بالقضاء على اسرائيل، وبعد حرب حزيران 1967، صاروا يطالبون بالإنسحاب من الأراضي التي احتلّت في تلك الحرب. وأضاف :"اذا احتلّينا مرتفعات السّلط في الأردن سيتكيّفون مع سيطرتنا على الأراضي التي استولينا عليها في الحروب السّابقة وسيطالبون بالإنسحاب من مرتفعات السّلط!" وعندما استلم ترامب الرّئاسة الأمريكيّة، نفّذ كلّ مخطّطات نتنياهو، وتوّجها بما عرف "بصفقة القرن" التي أعلن عنها في أواخر يناير 2020 لدعم نتنياهو وحزبه الليكود في الإنتخابات البرلمانية.

ويلاحظ أنّ نتنياهو قد نجح في تطبيق نظريّة "التّكيّف العربيّ"، فوجدنا أنظمة عربيّة مثل الإمارات، البحرين، المغرب والسّودان قد "كيّفت وتكيّفت" معه وتهافتت على تطبيع علاقاتها مع اسرائيل، وقد سبق ذلك تنسيقات وتحالفات أمنيّة وعسكريّة مع دول الخليج ومع غيرها، ومع سياسة التطبيع العلنيّة والسّرّيّة فإنّ أنظمة عربيّة وصفت التطبيع العلنيّ بأنّه "قرار سياديّ"! فعن أيّ سيادة يتكلّمون؟

ولولا خسارة ترامب ونتنياهو للإنتخابات لرأينا أنظمة أخرى تتسابق إلى حلبة "التطبيع المجّانيّ" بعد أن تخلّوا عن "مبادرة السّلام العربيّة" التي طرحها الأمير عبدالله بن عبد العزيز عام 2002 عندما كان وليّا للعهد السّعوديّ، وكلّ ذلك من أجل الحفاظ على عروش لم تحتمِ يوما بشعوبها، ولم تخدم أوطانها وشعوبها، وتتوسل لإسرائيل كي تكسب رضا الحامي الأمريكيّ.

سلام بينيت لابيد

أمّا بينيت رئيس الحكومة الإسرائيليّة الحالي فإنّه لم يخرج عن سياسة نتنياهو، فهو يطرح حلولا اقتصاديّة لقطاع غزّة بشروط، بعد أن صرّح أكثر من مرّة بأنّه لن تقوم دولة فلسطينيّة في عهد حكومته هو وشريكه لابيد وزير خارجيّته. وأنّ حكومته ستواصل الإستيطان. أي أنّه يريد تكريس الاحتلال ومواصلة مصادرة الأراضي العربيّة والإستيطان، ولا يعترف بوجود أراضي محتلّة يتوجّب عليه الإنسحاب منها، فهذه "أرض اسرائيل" التي وعدهم بها الرّبّ! وأيّ مقاومة لوجودهم هي ارهاب، ويواصل اطلاق أيدي قطعان المستوطنين؛ ليستولوا على أراض جديدة ليستوطنوها؛ وليقتلوا وليدمّروا وليقطعوا الأشجارـ وليحرقوا المزروعات بحماية الجيش الإسرائيليّ؛ وليواصلوا انتهاك حرمات المقدّسات وفي مقدّمتها المسجد الأقصى المبارك في القدس والحرم الإبراهيمي في الخليل. والحديث يطول.

14-09-2021

 

 

احتلال القدس مرة أخرى

جميل السلحوت

 في الصّراع على السّلطة في اسرائيل أعاد المحتلون الإسرائيليّون احتلال القدس من جديد، يوم  الثلاثاء 15 حزيران 2021، ففي تظاهرة ما يسمّى "مسيرة رفع الأعلام" وشارك فيها أعضاء كنيست، وصاحبتها هتافات فاشيّة مثل "الموت للعرب"، كان عدد رجال الأمن الإسرائيلي الذين يحمونها أكثر من عدد "رافعي علم الاحتلال"، وهذا يؤكد من جديد أنّ السّيادة في القدس العربيّة المحتلّة للشّعب الفلسطينيّ، وأنّ المحتلّين يسيطرون على المدينة المقدّسة بقوّة السّلاح.

ويلاحظ أنّ رئيس الحكومة الإسرائيليّة السّابق نتنياهو، لم يرضخ للواقع السّياسيّ المأزوم ولم يستسلم لمصيره وفشله في البقاء على رأس حكومته، ولم ولن يدّخر جهدا في سبيل إفشال الحكومة الجديدة، لذا فقد أجّل ما يسمّى "مسيرة رفع الأعلام" في القدس العربيّة المحتلّة؛ ليتركها للحكومة الجديدة، كي يضعها في صدام مع جمهور المتطرّفين في محاولة منه لإسقاطها بالسّرعة الممكنة، والذّهاب لانتخابات جديدة يحلم بأن تكون لصالحه، وبما أنّهم يسابقونه في التّطرف فقد سمحوا "للمسيرة" بعد أن جمعوا ما استطاعوا من قوّة أمنيّة مسلّحة لإنجاحها، وهذا ليس غريبا ولا جديدا في المنافسة الحزبيّة والصّراع على السّلطة في دولة الاحتلال، فقد اعتادوا أن يكسبوا أصوات ناخبيهم من خلال هدر دم وحرّية وكرامة الشّعب الفلسطينيّ. ولم تبخل حكومة بينيت-لبيد الجديدة في قمع المقدسيّين الفلسطينيّين، ومنعهم بالقوّة من التّواجد في شوارع وأسواق مدينتهم؛ لتوفير الحماية للمستوطنين المتطرّفين؛ ليعربدوا كما يشاؤون في المدينة المقدّسة. ولن تتوقّف "مسيرات" العربدة الاحتلاليّة على القدس فقط، بل ستتعدّاها إلى بقيّة أجزاء الضّفّة الغربيّة المحتلّة، حيث يخطّطون للقيام بمسيرات استفزازيّة أخرى يوم الإثنين القادم 21 حزيران الحالي في مختلف مناطق الضّفّة الغربيّة المحتلّة وتحت حماية جيش الاحتلال. وهذا يدخل المناطق الفلسطينيّة المحتلة في مرحلة جديدة من الصّراع، تتمثّل بما يمكن تسميته "بانتفاضة المستوطنين"، التي تطالب بالإسراع في استيطان الأراضي المحتلّة خصوصا تلك المصنّفة بمنطقة "c" حسب تصنيفات خطيئة اتّفاقات أوسلو. وهذا أيضا لا يتناقض مع سياسة حكومة الاحتلال الجديدة برئاسة بينيت الذي أكد من على منبر الكنيست في كلمته لنيل الثّقة بحكومته الجديدة على استمرار الإستيطان في " مختلف المناطق خصوصا منطقة "c". ويبدو أنّ سياسة نتنياهو في قلب معادلة الصّراع من "الأرض مقابل السّلام" إلى السّلام مقابل السّلام"، وتطبيع العلاقات مع أنظمة عربيّة متصهينة في ظلّ تكريس الاحتلال، قد شجّعت أحزاب الإستيطان للقيام " بانتفاضات استيطانيّة" يحميها جيش الاحتلال لمواجهة الإنتفاضات الإنتفاضات والهبّات الشّعبية الفلسطينيّة الرّافضة والمقاومة للاحتلال. وهذا سيدخل المنطقة في معادلة صراع الوجود بدل صراع الحدود، وستكون نتائج ذلك وخيمة على المنطقة برمّتها، وعلى السّلم العالميّ أيضا.

 

 

الشيخ جراح والتطهير العرقي

جميل السلحوت

عملية تهجير مواطني حيّ الشّيخ جرّاح لا يمكن وصفها إلا بالتّطهير العرقيّ الذي لم يتوقّف يوما في القدس منذ احتلالها عام 1967. فالقوانين الإسرائيليّة المعمول بها في المحاكم الإسرائيليّة عنصريّة وتستهدف الفلسطينيّين وطنا وشعبا وأرضا وثقافة، وهي مخالفة للقانون الدّولي وللوائح حقوق الإنسان ولاتّفاقات جنيف الرّابعة بخصوص الأراضي التي تقع تحت الاحتلال العسكري، ولقرارات الشّرعيّة الدّوليّة، لهذا فإنّ الدّبلوماسيّة الفلسطينيّة والجامعة العربيّة مطالبة بعقد اجتماع عاجل لمجلس الأمن الدّوليّ، لبحث قضيّة التّطهير العرقي في الشّيخ جرّاح. ومع التّقدير للحكومة الأردنيّة التي أعطت وثائق ملكيّة العقارات لثمان وعشرين بيتا فيّ الشّيخ جرّاح، فإنّها مطالبة بالمزيد وضرورة دفاعها عن أصحاب البيوت خصوصا وأنّ المقدسيّين الفلسطينيّين يحملون جوازات سفر أردنيّة. وهناك تبادل دبلوماسي بين الأردنّ واسرائيل بعد اتّفاقيّة وادي عربة عام 1994 بين البلدين.

وإذا كانت اسرائيل تدّعي أنّ البيوت تعود ملكيّتها ليهود قبل نكبة الشّعب الفسطيني في العام 1948، فهناك عشرة آلاف عقار في القدس الجديدة التي احتلّت عام 1948، وجزء من أصحاب هذه العقارات يعيشون في القدس، فهل ستعيدها "اسرائيل الدّيموقراطيّة" لمالكيها الفلسطينيّين؟

وقضيّة البيوت التي صدرت أوامر قضائيّة بإخلائها من مواطنيها الفلسطينيين ليست منفصلة عن مخطّط تهويد القدس برّمّتها، ففي الشّيخ جرّاح جرى الاستيلاء على فندق"شبرد" وإقامة أبنية استيطانيّة على أنقاضه، كما جرى مصادرة "كرم المفتي" بما في ذلك البيت الذي كان يسكنه الحاجّ أمين الحسيني مفتي القدس والدّيار الفلسطينيّة زمن الإنتداب البريطاني. ويجري العمل على ترحيل المنطقة الصّناعيّة في وادي الجوز، لبناء وبشراكة وتمويل من الإمارات التي ما عادت عربيّة ما يسمّى "وادي السلكون" للإلكترونيّات على غرار وادي الذّهب في ولاية كالفورنيا الأمريكيّة، وبذا يتم ربط الجامعة العبريّة ومستشفى هداسا المقامين على جبل المشارف بالحزام الإستيطاني مع القدس الغربيّة. كما سيجري إحكام الحزام الإستيطاني على القدس القديمة من جهتي الشّمال والشّرق، وسيمتد البناء الإستيطانيّ من حيّ الشّيخ جرّاح عبر واد الجوز جنوبا، ليعزل القدس القديمة والمسجد الأقصى عن جبل الزّيتون، وليستمرّ البناء الإستيطاني حتى يصل حيّ البستان في سلوان، وليصبح الإقصى محاصرا من جميع الجهات بعد الإستيلاء منذ عام 1967 على حائط المسجد الغربي "حائط البراق". ولتستكمل دولة الاحتلال استيطان ما تسمّيه "الحوض المقدّس" الذي يمتد من حيّ الصّوّانة على السّفوح الغربيّة لجبل الزّيتون مرورا بكنيسة الجثمانيّة حتّى حيّ البستان في سلوان، وسيتواصل البناء الإستيطاني شرقا لربط مستوطنة معاليه أدوميم مع القدس، ولعزل القدس تماما عن محيطها الفلسطيني وامتدادها العربيّ.

وتهويد الشّيخ جرّاح وتشريد مواطنيه ليس قضيّة عابرة، وليست القضيّة الأولى ولن تكون الأخيرة، فقد سبقها منذ احتلال المدينة المقدّسة في حزيران 1967 هدم حارتي الشّرف والمغاربة المحاذيتين للمسجد الأقصى من الجهة الغربيّة، وتمّ تشريد ستّة آلاف فلسطيني كانوا يعيشون فيها، وتم بناء حارة استيطانيّة لليهود عليها.

إنّ التّطهير العرقي الجاري في حيّ الشّيخ جراح يدقّ جرس الإنذار بأنّ القدس مستهدفة بشكل خاصّ وبقيّة الأراضي العربيّة المحتلّة بشكل عامّ.

5-5-2021

 

 

 

لنتحاور بهدوء

حول الإساءة للأديان

جميل السلحوت

 

إذا كان الرّئيس الفرنسيّ ماكرون من أتباع ديانة أخرى فهذا حقّه"لا إكراه في الدّين"، لكن ليس من حقّه ولا من حقّ غيره أن يسيء للدّين الإسلاميّ، فالإساءة للأديان لا تدخل ضمن ما يسمّى حريّة الرّأي، وبغضّ النّظر عن الإيمان أو عدمه، فإنّ الإساءة لأيّ دين هي إساءة لمعتقدات ومشاعر أتباع هذا الدّين، لكن يبدو أنّ العالم الغربيّ يتخطّى كلّ الأخلاقيّات والمعتقدات وحقوق الإنسان عندما تتعلّق الأمور بالعرب والمسلمين. فالرّئيس الفرنسيّ ماكرون الذي يخاطبه العالم كما يخاطب أقرانه بفخامة الرّئيس! يتخلّى عن "فخامته" ويزجّ نفسه في صراع مع أكثر من مليار ونصف المليار إنسان من أتباع الدّين الإسلاميّ، وهو وغيره قد يخسر هذا اللقب عندما تنتهي مدّة رئاسته، لكنّ الرّسول محمّد عليه الصلاة والسّلام، سيبقى نبيّا ورسولا كغيره من الأنبياء والرّسل -عليهم السّلام-ما دامت على هذه الأرض حياة. صحيح أنّ الطالب الشّيشانيّ المسلم الذي قتل معلّمه الفرنسيّ دفاعا عن معتقداته قد ارتكب جريمة قتل، وسيحاسب عليها، لكنّ هذا لا يعطي دافعا لرئيس دولة كي يعتدي على دين سماويّ وعلى مشاعر ومعتقدات مليار ونصف المليار مسلم. ولو عاد الرّئيس الفرنسيّ لتاريخ بلاده وتاريخ حلفائه لوصل دون عناء للأسباب التي تجعل بعض الشّباب المسلم يلجأون إلى التّطرّف، فهم من خلقوا التّطرّف الإسلاميّ بطاحونة إعلامهم التّضليليّة، ومن خلال الوثائق التي نشرتها هيلاري كلينتون وزيرة الخارجيّة الأمريكيّة السّابقة تؤكّد أنّ أمريكا وحلفاءها في حلف النّاتو وحليفتهم اسرائيل هم من أسّسوا ودعموا تنظيمات إسلاميّة متطرّفة كالقاعدة وداعش وجبهة النّصرة، وأنصار الشّام وغيرها، لتقوم بأعمال إرهابيّة في المنطقة العربيّة، فقامت بتغرير وتضليل بعض الشّباب المسلم، مستغلّة العواطف الدّينيّة لهؤلاء الشّباب، ليكونوا وقودا في الحروب الظالمة التي استهدفت العراق وسوريّا وليبيا، والسّودان والصّومال والجزائر وغيرها، فدمّرت وخرّبت وقتلت وشرّدت الملايين، في سبيل تطبيق المشروع الأمريكي" الشّرق الأوسط الجديد" لإعادة تقسيم المنطقة لدويلات طائفيّة متناحرة، وتصفية القضيّة الفلسطينيّة لصالح المشروع الصّهيونيّ التّوسّعي.

وهل ينسى الرّئيس الفرنسيّ ما قامت به بلاده وغيرها من الدّول الأوروبّيّة، ولاحقا تبعتهم أمريكا من حروب استعماريّة، استهدفت الدّول العربيّة والإسلاميّة، فقتلوا الملايين ونهبوا وما زالوا ينهبون خيرات هذه البلدان؟

وهل كان الرّئيس الفرنسيّ أو غيره ممّن يتشدّقون بحرّيّة الرّأي سيسمح لأيّ كان أن يبصق أو يبول على تمثال لأحد الرّموز الفرنسيّة بذريعة حرّيّة الرّأي؟ وبالتّأكيد أنّه لن يسمح بذلك؟ وبالتّالي فلماذا سمح لنفسه أن يتبرّز من فمه بالسّماح بالإساءة إلى خاتم النّبيّين؟

والقضيّة أنّ الإساءة هنا لا تتعلّق بشخص ما، وإنّما تتعلّق بمعتقدات ورموز دينيّة، وهنا مكمن الخطورة. وإذا كان ماكرون يجهل قداسة المعتقدات في الإسلام فبإمكانه أن يستعين بمستشاريه وبمراكز الأبحاث في بلاده.

25-10-2020

 

 

 

نسب ورواية

الرّامة التي لم تُروَ

 

جميل السلحوت

 

بالتّعاون بين دار طباق للنّشر والتّوزيع في رام الله، وبين "البيت القديم متحف د.أديب القاسم حسين في الرّامة الجليليّة" صدر قبل أسابيع قليلة كتاب "الرّامة... رواية لم تُروَ بعد-1870-1970. تأليف د.أديب القاسم حسين، ونسب أديب حسين. يقع الكتاب في 640 صفحة من الحجم الكبير.

من يقرأ هذا الكتاب الموسوعيّ سيقف حائرا عن كيفيّة اشتراك المؤلّفين الدّكتور أديب القاسم حسين المتوفّى عام 1993م، وبين ابنته نسب التي لم تكمل عامها السّادس عندما توفّي. وكيف صدر هذا الكتاب في الرّبع الأخير من العام 2020، أي بعد وفاته بحوالي سبعة وعشرين عاما.

وهذا يستدعي منّا تعريف الباحثين قبل القرّاء العاديّين بالأديبة الشّابّة نسب أديب حسين.

عرفتُ الأديبة نسب أديب حسين في العام 2008 عندما جاءت لحضور أمسية ندوة اليوم السّابع الثّقافيّة الأسبوعيّة الدّوريّة في المسرح الوطنيّ الفلسطينيّ في القدس، وكانت قد التحقت بالجامعة العبريّة في القدس لدراسة الصّيدلة، وواظبت بعد ذلك على حضور النّدوة والمشاركة بنشاط لافت في فعاليّاتها. ولفتت انتباهي وانتباه غيري من روّاد النّدوة بتميّزها وتميّزها ثقافة وأخلاقا كفتاة في بدايات شبابها، وكشخصيّة قياديّة ثقافتها أكبر من عمرها بكثير.

وعرفت أنّه قد صدر لها رواية وهي طالبة في المرحلة الثّانويّة. فواصلت قراءاتها النّقديّة للكتب الأدبيّة التي تطرحها النّدوة للنّقاش، وللمسرحيّات التي كانت تعرض على خشبة المسرح. إضافة لكتابتها للقصص القصيرة التي كانت تشي بنفس روائيّ بائن.

ونسب ذات الطّموح الكبير واصلت دراستها علوم الصّيدلة بتفوّق، لم تكتف بالنّشاط الأسبوعيّ الثّقافي لندوة اليوم السّابع، فاشتركت مع زميلتها الشّابّة مروة السيوري في العام 2011 بتأسيس ملتقى"دواة على السّور" وهي نشاط ثقافيّ شهريّ جمعتا فيه أصحاب المواهب الشّابّة. وفي الوقت نفسه التحقت بجامعة القدس الفلسطينيّة، وحصلت في العام 2017 على الماجستير في الدّراسات المقدسيّة، وفي هذه الفترة صدر لها أربع مجموعات قصصيّة.

وفي العام 2015 حصلت على جائزة دولة فلسطين في الآداب والفنون والعلوم الإنسانيّة عن المبدعين الشّباب، كما حصلت على الجائزة الأولى في مسابقة نجاتي صدقي للقصّة القصيرة التي تشرف عليها وزارة الثّقافة الفلسطينيّة.

وبما أنّ نسب مبدعة وخلاقة فقد أسّست في العام 2006 متحفا تراثيّا في جزء من بيت العائلة الموروث أبا عن جدّ، ليحمل اسم أبيها الرّاحل د. أديب القاسم حسين.

وفي شهر أيلول-سبتمبر- 2020 صدر لها كتابان أوّلها " الرّامة -رواية لم تُروَ" وثانيهما هو" المتاحف والصّراع الفلسطينيّ على هوية القدس الثّقافيّة المعاصرة" وهو دراسة بحثيّة صدرت عن وزارة الثّقافة الفلسطينيّة.

وأنا هنا أرى أهمّيّة وضرورة لكتابة هذه العجالة للتّعريف على الكاتبة، قبل قراءة بحثيها المتميّزين آنفي الذّكر.

وفي الواقع أنّني شخصيّا لم أتفاجأ بصدور بحثي أديبتنا نسب أديب حسين، حيث أنّني أزعم بمعرفتي للكاتبة عن قرب، وبمعرفتي لقدراتها ومبادراتها الثّقافيّة اللامحدودة.

وما لفت انتباهي وأثار دهشتي وإعجابي هو العمل البحثيّ الذي قامت به نسب، هذه الفتاة الشّابّة التي تفوّقت في هذا المجال على نفسها وعلى من سبقوها، وعلى لاحقيها، فهي لم تترك للاحقين ما سيكتبونه عن "الرّامة" في الفترة التي طرقتها، فأن تقوم شابّة بهذا العمر وقد بدأت بحثها وهي في العشرينات من عمرها بالكتابة عن مراحل سابقة وعن أخرى معاصرة، فهذا أمر مثير للإنتباه، وهذا يذكّرني بالكاتبة التي كانت تقول وهي في بداية العشرينات من عمرها:" في أيّام زمان كنّا.....................!" وهذا ممّا كان يدفعني إلى الضّحك إعجابا وتساؤلا، فعن أيّ زمن ماض تتحدّث هذه الفتاة وهي لا تزال في نهايات مرحلة الطّفولة؟ وأنا الآن أتساءل حول إذا ما كانت تلك "الطّفلة" تختزن في ذاكرتها ما أتحفتنا به هذه الأيّام وهي في عزّ شبابها؟ أو هل كانت مشغولة بذلك وهي في تلك المرحلة العمريّة؟

لكنّ هذا لا ينفي دهشتي من كتابها البحثيّ عن بلدتها الرّامة، فقد فاق توقّعاتي، حيث وجدت نفسي أمام بحث موسوعيّ عن بلدة فلسطينيّة تقع على جبل حيدر، في الجليل الفلسطينيّ، وعلى امتداد سلسلة جبل الجرمق الفسطينيّ المحاذي للحدود الفلسطينيّة اللبنانيّة. هذا العمل الموسوعيّ غير المسبوق اعتمد على البحث المضني عن وثائق يملكها أفراد أو مؤسّسات، وعلى الرّواية الشّفويّة المتوارثة. ومع إصراري على أنّ أديبتنا الباحثة خلّاقة، إلا أنّني أعتقد أنّ من حرّضها على هذا البحث المضني الذي أخذ من وقتها أكثر من ثلاث سنوات، إلّا أنّ بحثها بأوراق المرحوم أبيها هو الذي دفعها لمواصلة ما ابتدأه هذه الأب الذي عاجله الموت قبل أن ينهي أبحاثه عن بلدته الرّامة. وبما أنّ نسب ابنة بارّة بوالديها، وعانت هي وشقيقتها جنان من اليّتم بوفاة والديهما، إلا أنّ هذا يؤكّد أيضا على العناية الفائقة التي أولته لهما والدتهما الرّائعة التي نتمنى لها الصّحّة والعمر المديد. وكان بإمكان نسب أن تبني على أوراق والدها، وهذا ما فعلته حقّا، إلا أنّها من باب الأمانة العلميّة، ومن باب برّ الوالدين والصّدق مع الذّات لم تنس فضل المرحوم والدها، فذكرت اسمه كمؤلّف شريك لها قبل اسمها، تماما مثلما أسّست متحفا تراثيّا يحمل اسمه.

 وهذا ليس غريبا على نسب شديدة الفخر بوالدها، فقد ولدت في بيت علم وأدب، فعمّها شقيق والدها هو الدّكتور نبيه القاسم، وابن عمّ والدها هو الشّاعر العروبيّ الكبير الرّاحل سميح القاسم.

قرأت بحث أديبتنا نسب من الغلاف إلى الغلاف، وعدت إلى بعض صفحاته أكثر من مرّة، ووجدت نفسي أمام عمل موسوعيّ تصعب الكتابة عنه بمقالة أو أكثر، فكلّ باب منه يحتاج إلى دراسات. ففي الكتاب البحثيّ تأريخ لمرحلة سياسيّة ولحروب، ولعائلات ولشخصيّات من بلدة الرّامة، وعن الوضع الثّقافيّ والتّعليميّ والصّحّيّ، وعن دور العبادة والأعياد والتآخي بين أتباع الدّيانات المختلفة، وفيه تسجيل لملكيّات أراض وما صاحب ذلك من نزاعات وخصومات وفزعات وتحالفات عائليّة. وفيه مرور وتوضيح عن الطّائفة المعروفيّة "الدّروز"، وكيف قامت سلطات الاحتلال بمحاولة خلق ما يسمّى "القوميّة الدّرزيّة" في محاولة منها لسلخ الدّروز عن قوميّتهم العربيّة! وهناك تسجيل لعادات وتقاليد وحكايات وأغان شعبيّة وغير ذلك. 

في البحث الذي نحن بصدده هناك تسجيل لمراحل وأحداث في زمن الإنتداب البريطانيّ، وذِكرٌ لأسماء الشّهداء والأسرى من أبناء الرّامة الذين شاركوا في مقاومة المستعمرين البريطانيّين، ولمن شاركوا في المقاومة في مرحلة نكبة الشّعب الفلسطينيّ الأولى في العام 1948. وكيف تشتّت عائلات بين من تشرّدوا في الدّول المجاورة خصوصا في لبنان وسوريّا ومن بقوا في البلدة.

هذه لمحات وإشارات سريعة مضمون الكتاب الموسوعيّ الذي يشكّل إضافة نوعيّة للمكتبة الفلسطينيّة والعربيّة، وهذا لا يغني طبعا عن قراءته، وهذه دعوة للمختصّين وأخصّ المؤرّخين والمهتمّين بالتّراث كي يولوا هذا الكتاب ما يستحقّه من عناية ودراسة.

25-9-2020

 

 

 

 

 

 
الرئيسية || من نحن || الاذاعة الكندية || الصحافة الكندية || اتصل بنا