*هيفاء
زنكنة كاتبة وصحفية وناشطة عراقية تقيم في بريطانيا تكتب اسبوعيا في
جريدة (القدس العربي(
مقالات سابقة
المقاومة العراقية
والمُستعمر ذو النوايا الطيبة
هيفاء زنكنة
في استعراضه لمسؤوليات وزارة الدفاع البريطانية، في مجلس العموم، يوم
13 آذار/ مارس، ذكّر وزير الدفاع بَن والاس المجلس بتزايد التهديدات في
العالم حيث « يستمر الشرق الأوسط في إيواء الإرهاب» لهذا السبب «لا
تزال المملكة المتحدة تدعم حكومة العراق كجزء من التحالف العالمي ضد
داعش». مبينا، كمثال، استخدام طائرة عن بعد (درون) تابعة لسلاح الجو
الملكي البريطاني بشن غارة على عضو قيادي في داعش في شمال سوريا وإطلاق
صاروخين من طراز هلفاير. وأن استخدام الدرون القاتل كان ضروريا لأن «
نشاط الفرد كان مرتبطًا بالأسلحة الكيميائية والبيولوجية… وهذه
الإجراءات حيوية لتقويض مثل هذه التهديدات الإرهابية، وحماية المواطنين
البريطانيين ودعم شركائنا الدوليين».
كيف نقرأ هذا التصريح؟ ما هي الرسالة التي يخلفها قول وزير الدفاع
«يستمر الشرق الأوسط في إيواء الإرهاب» في عقول مستمعيه في بريطانيا
وأمريكا وعموم أوروبا؟ آخذين بنظر الاعتبار أن تصريحه كان في مجلس
العموم البريطاني والذي تتم نقل جلساته مباشرة بواسطة الإعلام المرئي
والمسموع، بالإضافة إلى تناقله في الصحافة المكتوبة. تكمن خطورة هذه
التصريحات وتغطيتها إعلاميا، في تشكيلها وعي المواطن الغربي. خاصة وأن
نقل جلسات البرلمان يتم عبر قنوات البي بي سي، والذي تشير استبيانات
الرأي العام إلى أن 79 بالمئة من متابعي الأخبار البريطانيين يثقون بما
تبثه. وغالبا ما يتم بث الخطب التي يراد إيصالها إلى أكبر عدد ممكن من
المستمعين والمشاهدين في أوقات يكون فيها المتلقي على استعداد للإصغاء
والرضا. ليس مستغربا، إذن، ومن ناحية حجم الرضا، عند سؤال البريطانيين
عما إذا كانوا يعتقدون أن قرار الولايات المتحدة والمملكة المتحدة بخوض
الحرب كان صائباً أم خاطئاً، قال 54 بالمئة إنه كان صائباً. وعلى
الرغم من حجم المظاهرات الكبير لمناهضي الحرب، قبل بدء الهجوم على
العراق، ما أن أعلن جورج بوش وتوني بلير بدء الغزو تحت مُسمى « عملية
حرية العراق» حتى ارتفع الدعم الشعبي للحرب مساندة للقوات. فوصل
التأييد للحرب، وفقًا لاستطلاع رأي أجرته مؤسسة غالوب، إلى 72 بالمائة
في الفترة من 22 إلى 23 آذار/ مارس.
لا يمكن، بأي حال من الأحوال، اعتبار تصريح وزير الدفاع البريطاني زلة
لسان أو تصريحا شخصيا قابلا للتأويل كوجهة نظر، كما أثارت زلة لسان
الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن وصف فيها غزو العراق بأنه «وحشي
وغير مبرر» في إطار حديثه عن الحرب الروسية في أوكرانيا، بل يجب
التعامل معه كموقف سياسي حكومي مبني على أيديولوجيا عنصرية منهجية ترى
في الشرق الأوسط مأوى للإرهاب، وتقدمه إلى العالم بهذا الشكل، وتتعامل
معه وفق هذا المنظور كما نرى في فلسطين والعراق وسوريا.
لماذا؟ ما الذي يمنح ترسيخ هذه الصورة أهميتها في السياسة البريطانية،
والمستنسخة، غالبا، في التوجه السياسي والإعلامي الغربي، وفي الإعلام
العربي بمفارقة تُجسد الاحساس بالدونية؟
بينما يعمل الاستعمار، بتحويراته الناعمة/ القاتلة الجديدة، بمثابرة لا
تكل على تحقيق سياسته في الاستغلال الاقتصادي والهيمنة العسكرية
والأيديولوجية، لضمان وجوده، عبر الاتفاقيات ورعايته طبقة الحكام
بالنيابة، وصمته المدوي عن جرائمها، سيبقى الأمل في النهوض الجماهيري
يهدف تكرار وترسيخ هذه الصورة إلى تجريد شعوب المنطقة « الأخرى» من
إنسانيتهم، فلا يثيرون أي تعاطف أو تقارب أو مسؤولية أخلاقية، إذ يتم
اختزال وجودهم في سيرورة الإقصاء الأخلاقي، إلى مصدر للتهديد والخطر،
وبالتالي تسويغ التخلص منهم. وهو ما عملت الإدارة الامريكية والمملكة
المتحدة على تسويقه في غزوها للعراق، ومنح قواتهما الضوء الأخضر
لارتكاب الجرائم وانتهاكات حقوق الإنسان، من التعذيب في بوكا وأبو غريب
إلى مجازر مدينة حديثة والقائم. فمن السهل ممارسة أبشع الفظائع إذا
كانت ضد « الآخر- الإرهابي» والذي لا يُثير قتله تساؤلا كما لا يُشكل
معضلة أخلاقية بل بالعكس تماما، حينئذ يُصبح القتل ضروريا لحماية
المواطنين. وهو التبرير الذي لجأ إليه وزير الدفاع البريطاني عند
استخدام الدرونز القاتلة والصواريخ لتنفيذ عمليات الاغتيال، خارج
القانون، في بلدان أخرى. كون البلدان التي يتم قصفها مأوى للإرهابيين»
الذين يشكلون تهديدا لأمن وحماية المواطنين البريطانيين ودعم شركائنا
الدوليين وهذه الإجراءات حيوية لتقويض مثل هذه التهديدات الإرهابية»
حسب قوله. وهو ذات التبرير الذي تتبناه أمريكا في عمليات القتل
المُستهدف، أي القتل العمد مع سبق الإصرار لأفراد مختارين من قبل دولة
ليسوا رهن الاحتجاز لديها، كما فعلت في باكستان واليمن، وكما يواصل
الكيان الصهيوني استهداف قادة المقاومة الفلسطينية في غزة، برعاية
الصمت الدولي.
يُعيدنا تصريح وزير الدفاع البريطاني الحالي، إلى الحملة الدعائية
المُكثفة التي حَشدّت لها الحكومة البريطانية كل السبل لتشويه صورة
المقاومة العراقية حال انطلاقها بعد أيام قليلة من الغزو عام 2003. وهي
لا تختلف كثيرا في مضمونها عما تُتهم به حركات المقاومة، في البلدان
المحتلة، في أرجاء العالم، فالعمق العنصري الاستعماري واحد. فمن إتهام
سكان أمريكا الأصليين بالهمجية إلى إطلاق ألقاب مهينة ضد المقاومة
الفيتنامية، ومن إتهام الأفغانيين بالتخلف إلى إتهام المقاومة
الفلسطينية والعراقية بالإرهاب. فحيثما يحلُ المُستعمر ويُواجه بمقاومة
أهل البلد لسياسته الإمبريالية، يجد في تشويه صورتهم أداة فاعلة لطمأنة
الرأي العام في بلده هو بأن كل ما يقوم به هو لصالحه، مهما كانت وحشية
الجرائم التي يرتكبها ولم تعد خافية على أحد.
وحين تُطلق على أهل البلد المُحتل ومقاوميه ألقابا تحط من قيمتهم،
حينئذ يكون من السهل على قوات الاحتلال أن تُبين للعالم مدى ُنبلها
وتضحيتها بنفسها لتُخلص العالم من خطر المجموعات الإرهابية. ففي
العراق، واظب المحتل والمجموعات العراقية التي استساغت التعاون معه
وتوسل دعمه، على تغييب مفردة المقاومة/ المُقاوم من معجم التداول
السياسي والإعلامي لتحل محلها مفردات تحث في مضمونها على شرعنة القتل
وتوفير الحصانة للقتلة مثل: أزلام صدام، جيش صدام، القاعدة، جهادي
إسلامي، متطوع أجنبي، متمرد سني، من مثلث الموت السني. وكلها مُلحقة
بوسم « إرهابي».
وبينما يعمل الاستعمار، بتحويراته الناعمة/ القاتلة الجديدة، بمثابرة
لا تكل على تحقيق سياسته في الاستغلال الاقتصادي والهيمنة العسكرية
والأيديولوجية، لضمان وجوده، عبر الاتفاقيات ورعايته طبقة الحكام
بالنيابة، وصمته المدوي عن جرائمها، سيبقى الأمل في النهوض الجماهيري،
ومقاومته، بكافة المستويات. وأن تبقى مقاومة الشعوب حية فليس كل من
ناضل من أجل الكرامة والعدالة والوحدة الوطنية ومواجهة خطر الهيمنة
وخطط التقسيم والتجزئة، هو إرهابي كما يحاولون تقديم صورته.
كاتبة من العراق
(تمكين) المرأة العراقية بعد
عشرين عاما من الغزو والاحتلال
هيفاء زنكنة
كما في كل عام، أعلن مكتب الأمم المتحدة في العراق، في اليوم العالمي
للمرأة «التزامه بدعم حقوق النساء والفتيات في العراق، والدعوة لتسريع
تمكينهن وكذلك تعزيز المساواة بين الجنسين» مما يأخذنا إلى محاولة
النظر في تفاصيل ما حققته إعلانات الالتزام بـ«التمكين» حتى الآن،
وخلفية أسباب التدهور المُزمن في وضع المرأة؟
يتزامن يوم المرأة العالمي، منذ عشرين عاما، مع شهر تنفيذ مشروع القرن
الأمريكي الجديد في العراق «لتشكيل قرن جديد يلائم المبادئ والمصالح
الأمريكية». وكان غزو واحتلال العراق خطوته الأولى للامتداد في بقية
البلدان العربية. وكان قدر المرأة العراقية أن يكون «تحريرها» أحد
أسباب التسويق الإعلامي لسردية الحرب العدوانية. وما كان ذلك سيحدث
لولا مشاركة «نسويات استعماريات» جمعن بين المصلحة الشخصية والرغبة
بالانتقام وكسب المناصب. جراء ذلك حصدت المرأة، عموما، انعكاسات سياسة
تجمع ما بين لا أخلاقية السياسة الخارجية المبنية على الهيمنة
والاستغلال للغزاة. بالتحالف مع العمل على بعث الحياة في تقاليد كانت
المرأة قد تجاوزت معظمها في مسيرة نضالها من أجل التحرر الوطني
والمجتمعي. حيث كادت أن تصل إلى قمة هرم توفر الاحتياجات الإنسانية
التنموية كالتعليم والصحة والعمل والانخراط في المجال العام، وما يترتب
على ذلك من مشاركة سياسية، لولا حماقة النظام السابق في غزو الكويت،
بعد حرب 8 سنوات مع إيران، وتوفير الأرضية الملائمة لفرض الحصار القاتل
بقيادة أمريكا وفتح بوابات البلد للغزاة عام 2003.
والآن بعد عشرين عاما من الغزو… ماذا عن المرأة؟ عن تحريرها أو ادعاءات
تحريرها؟
أولا: هناك حقيقة، مدعومة بالأرقام والإحصائيات، علينا ألا ننساها،
آخذين بنظر الاعتبار أن ربع سكان العراق، هم بعمر سنوات الغزو
والاحتلال. الحقيقة التي يجب أن تبقى محفورة في الذاكرة الوطنية، كما
في جزائر الشهداء، كما في فيتنام هي أن مليون رجل وامرأة وطفل كانوا
ضحايا الغزو والاحتلال أما بشكل مباشر أو غير مباشر. هذه الحقيقة، هذه
التكلفة الباهظة من حياة المواطنين، يجب أن تكون العدسة التي ننظر من
خلالها إلى واقع الحال العراقي، عموما، والمرأة خاصة، حاليا ومستقبلا.
وأن نواصل النظر والتذكير. فكل من ساهم بالتطبيل للاحتلال وادعاءات
التحرير سواء في أمريكا وبريطانيا وغيرهما من دول تحالف الغزو،
بالإضافة الى من تعاون معهم من عراقيين، يريدون مسح هذه الحقيقة، آملين
إصابة الشعب بالخرف وفقدان الذاكرة. هل رأيتم مجرما يُذكِر الناس
بجريمته؟ وهل رأيتم قاتلا يرفع يديه المغطاة بالدماء معترفا بجريمته؟
ولنا في رئيس وزراء بريطانيا السابق توني بلير والرئيس الأمريكي جورج
بوش أمثلة يتسابق على محاكاتها مسؤولو « العراق الجديد».
لا يمكن إطلاقا أن تتحرر المرأة بدون تحرر الرجل معها (شريكا الوطن) من
كل أشكال الهيمنة والاستغلال الخارجية والداخلية، مهما كانت التسميات،
سواء كانت احتلالا عسكريا استيطانيا أو استعماريا جديدا، بلا معسكرات
على أرض البلد المُحتل، بل عبر منظومة القوة الناعمة والطائرات القاتلة
ثانيا: لا يمكن إطلاقا أن تتحرر المرأة بدون تحرر الرجل معها (شريكا
الوطن) من كل أشكال الهيمنة والاستغلال الخارجية والداخلية، مهما كانت
التسميات، سواء كانت احتلالا عسكريا استيطانيا أو استعماريا جديدا، بلا
معسكرات على أرض البلد المُحتل، بل عبر منظومة القوة الناعمة والطائرات
القاتلة عن مبعدة (الدرونز) و«معاهدات» التضليل المبنية على أن تواجد
قوى الاستغلال يتم بناء «على دعوة الحكومة المحلية» والشراكة
الاستراتيجية في محاربة الإرهاب وتقديم الاستشارة والتدريب والدعم
وتبادل الخبرة.
بطبيعة الحال، لا تغفل سيرورة القوة الناعمة وجود المرأة ولكن وفق
منظور يُعزز أيديولوجية المُستعمر (ولنتفق أن القوة الناعمة تغليف جميل
للاستعمار القديم والجديد) حيث تقدم لنا سنوات الاحتلال أمثلة صارخة
حول كيفية تطبيق ذلك كله على حساب حياة المرأة وامتهان كرامتها، في ظل
توليفة جمعت مصلحة المُستعَمر بمن تم تنصيبهم ورعايتهم أو السكوت على
جرائمهم من المسؤولين العراقيين الذين وجدوا في إحياء الممارسات
المجتمعية الموشكة على الانقراض، أو بقاياها في القوانين، خزينا وأداة
لحجب صوت المرأة وتغييب وجودها.
ثالثا: لنفترض أن ما تعيشه المرأة العراقية اليوم، مرده بالدرجة
الأولى، ليس التدهور الصحي والتعليمي والاقتصادي والأمني العام الشامل
للبلد ككل، وليس الفساد العنكبوتي الهائل وغياب القانون، وليس فشل
الدولة بمؤسساتها المتقاسمة بين أحزاب وميليشيات ترى في المواطن عبئا
لا ضرورة لوجوده في بلد ريعي، وترى المرأة سلعة للاتجار والمتعة. فما
الذي ستقدمه السردية الرسمية لتدهور وضع المرأة وماهي سبل المعالجة
المقترحة؟ تركز معظم التقارير الدولية، بضمنها الأمم المتحدة والبنك
الدولي والاتحاد الأوروبي بالإضافة الى تقارير الإدارة الأمريكية
والحكومة البريطانية، على ضرورة مشاركة المرأة في الحياة السياسية وسوق
العمل. ومنذ عشرين عاما والحل المُقترح لا يخرج عما يُطلق عليه تسمية»
إطلاق برنامج جديد لتمكين المرأة». وتحتل مفردة «التمكين» أهمية قصوى
في تقارير المنظمات الدولية وتكررها معظم منظمات المرأة المحلية لضمان
حصول الدعم المادي لبرامج مستحدثة، تُطلق في ورشات بفنادق فخمة، بحضور
عدد منتقى من نسوة، غالبا ما يكُّن جزءا من المنظومة الرسمية، ولا يجدن
ضيرا في تنفيذ سياسة أحزابهن، على حساب المرأة. وفي الوقت الذي لا يكاد
يخلو بيان أو تصريح رسمي من « العمل على تمكين» المرأة، بل وذهبت أمانة
مجلس الوزراء أبعد من ذلك وأسست مديرية تمكين المرأة. التي ستشرف على
ما أطلقت عليه «استراتيجيتها الوطنية للمرأة العراقية 2023-2030 «. وفي
الوقت الذي تُركز فيه التقارير الدولية، عند إشارتها إلى وضع المرأة
على «الهوية الجنسية والتوجه الجنسي، وقوانين الأخلاق» وهي حقوق على
المجتمع والسلطات التشريعية والتنفيذية العمل على تحقيقها، ولكن ليس
بمعزل عن بقية جوانب الحياة الكريمة للمواطنين جميعا. من الطفل إلى
المرأة والرجل، من الريف إلى المدينة. من الصحة لإعادة تأهيل البنية
التحتية لخدمات الرعاية الصحية الأولية، والتعليم والسكن والعمل. وبدون
النية السياسية الوطنية النزيهة الصادقة سيبقى العراق على ما عليه الآن
بوضعه الكارثي: وجود ما يقرب من 3 ملايين شخص (1.3 مليون طفل) في حاجة
إلى المساعدة الإنسانية. ويشمل مليون شخص من ذوي الاحتياجات الإنسانية
الحادة.
لا يزال حوالي 1.17 مليون نازح داخليًا نازحين في المخيمات والمستوطنات
خارج المخيمات والمجتمعات المضيفة. أقل من 15 بالمئة من النساء يشاركن
في سوق العمل. وتواجه النساء، خاصة، الاستغلال الجنسي والإيذاء والعنف
القائم على النوع الاجتماعي والاتجار بالبشر وانعدام الأمن الاقتصادي
وعدم كفاية الوصول إلى الصحة والتعليم والخدمات الأساسية الأخرى، أي
الافتقار إلى وسائل العيش في ظروف آمنة وكريمة. وإذا لم يتم النظر إلى
معالجة الأسباب الحقيقية وتشخيص المسؤولية ومساءلة المسؤولين، سيبقى
«تمكين» المرأة، إعلانا ترويجيا للاستهلاك السياسي المحلي برعاية
دولية.
كاتبة من العراق
العراق الجديد:
مكافحة الفساد أم تشريعه؟!
هيفاء زنكنة
أكد رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني، أن مكافحة الفساد
والإصلاح الاقتصادي من أولويات الحكومة. وأن الفساد هو التحدي الأول
الذي تواجهه حكومته. كما كشفت هيئة النزاهة الاتحاديَّة، في العراق، عن
أوامر القبض والاستقدام الصادرة، في شهر كانون الأول/ ديسمبر 2022،
التي شملت « 68 من كبار المسؤولين من ذوي الدرجات العليا» بضمنهم وزير
الثقافة الأسبق ومدير مكتبه، بتهم فساد مختلفة، والتي تلت إصدار أوامر
بالقبض على 4 مسؤولين سابقين بينهم وزير مالية، ومقربون من رئيس
الوزراء السابق، مصطفى الكاظمي، لاتهامهم بـ “تسهيل» الاستيلاء على 2,5
مليار دولار من الأمانات الضريبية، أو ما أطلق عليه « صفقة فساد
القرن».
هل تعني تصريحات رئيس الوزراء هذه، وأوامر إلقاء القبض والاستقدامات،
أن العراق مُقبل على التشافي من فيروس الفساد الذي جعله يُصنّف،
بجدارة، في العقدين الأخيرين، ضمن الدول الأكثر فساداً في العالم، حسب
مؤشرات مدركات الفساد الذي تصدره منظمة الشفافية الدولية؟ وهل سيختلف
السوداني، من ناحية معالجة البلد من الفساد، عن غيره من رؤساء الوزراء
الذين تعاقبوا على حكمه، منذ غزوه واحتلاله؟
تزودنا تفاصيل خطب رؤساء الوزراء الذين سبقوا السوداني ووقائع ما تم
تنفيذه، على أرض الواقع، بصورة أبعد ما تكون عن التفاؤل. بل وتقودنا،
عند رصد الأعراض المزمنة إلى خلاصة مفادها أن فيروس الفساد، عند توفر
البيئة الملائمة، يواصل الاستشراء ولكن بتحويرات جديدة، تمنحه البقاء،
مع كل رئيس وزراء جديد.
ولنعد إلى الوراء قليلا. في مراجعة سريعة لسجل من سبق السوداني من
رؤساء الوزراء، سنجد أن تصريحاتهم، جميعا، بلا استثناء، مطلية بوعود
محاربة الفساد. وكأن الفساد لعنة آلهة مجهولة أو مادة مصدرة من أماكن
نائية في العالم أو نقمة الطبيعة وليست ممارسة ساسة يجدون في الفساد
آلة لتفكيك الدولة وإحكام هيمنتهم عبر بدائل يرون فيها مصلحتهم. ولعل
أبرز ما يميز تعامل الحكومات المتعاقبة، هو اتهام كل حكومة جديدة
سابقاتها بالفساد وإصدار أوامر اعتقال نادرا ما تُطبق أما لكون المتهم
ينتمي إلى حزب متنفذ أو هارب ليتنعم بما سرقه خارج العراق.
ولنبدأ بحكومة إبراهيم الجعفري (2005 ـ 2006). حيث استّهل خطابه الأول
مشيرا إلى « قضايا الفساد الإداري وما يفرزه هذا الفساد من معـوقـات
على صعيد التنمية والسبل الكفيلة بمعالجته وعلاقة الفساد بالوضع الأمني
المتدهور». ثم أمر بإصدار مذكرات توقيف بحق اثنين من وزراء الحكومة
السابقة «. ولم يتم ذلك بل أن الجعفري نفسه الذي تم تعيينه وزيرا
للخارجية واجه اتهامات» فساد مستشر في سفارات العراق في الخارج، وهدراً
لأموال الدولة، فضلاً عن المحسوبية والوساطات في أروقة وزارة
الخارجية». واعتبر حيدر العبادي (2014 إلى عام 2018) أن الفساد تهديد
يضاهي الإرهاب، واعدا بمكافحة هذه الآفة ولو كلفه الأمر حياته، مشيرا
إلى أن الحكومة تدفع رواتب نحو 50 ألف جندي غير موجودين.
محمد شياع السوداني في مسيرة المزايدات بمكافحة القضاء على الفساد،
يكرر ذات الأسطوانة المُهينة للشعب، فيلقي الخطب ويُوجه بتشكيل هيئة
عليا لمكافحة الفساد، كبديل للجنة العليا لمكافحة قضايا الفساد التي
شكّلها الكاظمي، وكأن تغيير الاسم سينظف البلد من شبكة الأحزاب
والميليشيات
وعند مقارنة إجراءات هيئة النزاهة اليوم بالأمس سنجد أن رئيس الوزراء
نوري المالكي (2006 ـ 2014) هو الأب الحقيقي لسيرورة الفساد تحت ستار
النزاهة، متفوقا بذلك على نهب الشركات الأمريكية وعقودها الخيالية.
ففي27 -5-2009، أعلنت هيئة النزاهة حملة «مكافحة التلاعب بالمال» العام
في المؤسسات الحكومية. وأصدرت 387 أمر اعتقال في إبريل/ نيسان وحده،
مؤكدة أن الحملة ستشمل ألف مسؤول بسبب الفساد. وأن الحكومة لن تلتزم
الصمت إزاء الفساد بعد اليوم وستلاحق جميع الفاسدين وستقدمهم للعدالة.
لكن ما لم تذكره البيانات الحكومية الصادرة من مكتب المالكي أن حملة
الاعتقالات كانت لتعزيز طائفية حكومته وحصر العقود بأنواعها بين أتباعه
لأحكام هيمنة حزبه على المؤسسات.
وفي 10 مارس 2019، لم يُشر رئيس الوزراء الذي تلاه عادل عبد المهدي (25
أكتوبر/ تشرين الأول 2018 ـ ديسمبر/ كانون الأول 2019) إلى خلطة
الطائفية والمحاصصة والفساد السامة، بل توقف عند الفساد لوحده، متحدثا
عن وجود أكثر من 40 ملفاً ضمن ما أسماه « خارطة الفساد» وتغطي كل مؤسسة
في الدولة وكل جانب من جوانب الحياة في البلد من تهريب النفط إلى
الاتاوات و «القومسيونات» والسجون ومراكز الاحتجاز والمخدرات وتجارة
الآثار إلى مزاد العملة والتحويل الخارجي وبيع المناصب
والعقود الحكومية والكهرباء والوظائف الوهمية والاتجار بالبشر.
والمفارقة أن تم مناقشة الخارطة في مجلس النواب برئاسة محمد الحلبوسي
(الذي لايزال في ذات المنصب) وحضور رئيس الجمهورية، برهم صالح «
لمناقشة توحيد جهود مكافحة الفساد الإداري والمالي الذي بلغ حجمه في
تسعة آلاف مشروع حكومي، بنحو ثلاثمئة مليار دولار أمريكي. ولم تتم
استعادة دولار واحد من تلك السرقات. أعقب ذلك تعيين مصطفى الكاظمي
رئيسا للوزراء (7 أيار 2020 حتى 13 أكتوبر 2022). حيث، وكما بات
مألوفا، تم توجيه تهم الفساد إلى حكومة المهدي حالما شرع الكاظمي
بإلقاء الخطب عن محاربة الفساد وتفعيل دور الأجهزة الرقابية المختصة
واعتقال عدد من مسؤولين صغار بدون مس الكبار، وتشكيل لجان محاسبة أصبحت
هي نفسها، عبر السنوات، جزءا من منظومة وملهاة الفساد.
وها هو محمد شياع السوداني في مسيرة المزايدات بمكافحة/ محاربة/ القضاء
على الفساد، يكرر ذات الأسطوانة المُهينة للشعب، فيلقي الخطب ويُوجه
بتشكيل هيئة عليا لمكافحة الفساد، كبديل للجنة العليا لمكافحة قضايا
الفساد التي شكّلها الكاظمي، وكأن تغيير الاسم سينظف البلد من شبكة
الأحزاب والميليشيات المتنفذة خارج نطاق القانون والمافيات القريبة
منها. وكما بات مألوفا، أيضا، أصدر الكاظمي بيانا يدين فيه اتهام
واعتقال مسؤولي حكومته ليتهم بدوره إجراءات السوداني واصفا إياها بأنها
كيد « يكشف محاولات التستر المستمرة على المجرمين الفعليين، وهروب إلى
الأمام واستهداف خصومٍ سياسيين» مضيفاً «ما جرى ليس سوى استحضار عرض
إعلامي وسياسي، ومحاولة خلطٍ للأوراق للتستر على السرّاق الحقيقيين،
بدلاً من السعي الجاد لإحقاق العدالة وكشف الحقيقة».
المضحك المبكي أن تحمل تصريحات رؤساء الوزراء كلهم الحقيقة حالما
يُتهمون بالفساد ليس لتنظيف البلد من الفيروس المستوطن ولكن لتوجيه
الأنظار بعيدا عن دورهم المنهجي في نشر الفيروس. ولعل السوداني، يتهيأ
من الآن بإعداد بيان يتهم فيه من سيليه بالكيد والتستر على السراق
الحقيقيين. فالكل يلتهمون وجبات الفساد والاختلاف الوحيد بينهم هو حجم
اللقمة.
كاتبة من العراق
«هذا
ما يبدو عليه العالم يا طفلي»…
رسوم الأطفال من غزة وغيتو تيريزين
هيفاء زنكنة
لنتحدث عن معرضين لرسوم أطفال ينتمون إلى حقبتين زمنيتين مختلفتين في
مكانين مختلفين إلا أنهم يبقون أطفالا مُجبرين في عمرهم الغض أن يجدوا
معنى لما يمرون به وبضمنه الموت. ولنبدأ من الماضي لاستعادة ذكرى حدث
عاشه ورسمه أطفال يهود وقد يساعد على فهم حدث آخر مماثل تم منذ أيام
وقوعه في لندن حيث تم رفع أعمال فنية لأطفال فلسطينيين من غزة بالشراكة
مع أطفال بريطانيين. وقد يكون الربط بين المعرضين اختبارا لمقولة «
لئلا يكرر التاريخ نفسه» وألا يُصبح الضحية جلادا. فهل نجح التاريخ في
تجاوز تكرار نفسه؟
يأخذنا الحدث الأول إلى معرض «رسوم الأطفال من غيتو تيريزين 1942-1945»
المقام في متحف اليهود في براغ. يحكي المعرض، حسب التعريف به، قصة
الأطفال اليهود الذين تم ترحيلهم إلى حي تيريزين اليهودي خلال الحرب
العالمية الثانية والذي استخدمه النظام النازي كمحطة طريق إلى معسكرات
الاعتقال والموت في الشرق. ونقرأ حسب موقع المعرض الرسمي أن المعرض
يتألف من 19 قسما «تبدأ القصة بتأمل الأحداث التي تلت 15 مارس/ آذار
1939 مباشرة، عندما احتل النازيون بوهيميا ومورافيا وتحويلهما إلى
محمية. ويلي ذلك وصف لعمليات النقل إلى حي اليهود في تيريزين، والحياة
اليومية في الحي اليهودي والظروف السائدة في بيوت الأطفال. هناك أيضا
صور للاحتفالات بالأعياد والأحلام التي كان يحلم بها الأطفال المسجونون
بالعودة إلى ديارهم أو بالسفر إلى فلسطين».
يصف منظمو المعرض هذا القسم بأنه نوع من الفاصل الشعري بين الاقتلاع
الوحشي من منازلهم والترحيل إلى معسكر أوشفيتز، وهو الفصل الأخير
والأكثر مأساوية في القصة بأكملها. لأن تصوير القصة، حسب المنظمين، تم
من خلال رسومات الأطفال التي تم تنفيذها في ورشات رسم نظمتها وأشرفت
على تدريس الأطفال فيها الرسامة ومصممة المسرح وخريجة مدرسة « باوهاوس»
اليسارية النمساوية اليهودية فريدل ديكر ـ برانديز ألتي أعدمها
النازيون عام 1944.
إن تنظيم ورشات للأطفال داخل الغيتو ونوعية البرنامج الذي اتبعته فريدل
في التدريس، كما في كل الورشات الإبداعية، لابد وأن أَثر على نوعية
المُنتج أي رسومات الأطفال في هذه الحالة. يشير منظمو المعرض إلى أن
البرنامج كان في الغالب تعليميا سريا للأطفال، كانت فصول الفن محددة
جدا بطبيعتها، مما يعكس الأفكار التربوية التقدمية التي اعتمدتها فريدل
حيث كانت تنظر إلى الرسم على أنه مفتاح للفهم ووسيلة لتطوير المبادئ
الأساسية للتواصل، وكذلك وسيلة للتعبير عن الذات وطريقة لتوجيه الخيال
والعواطف. من هذا المنظور، كانت دروس الفن أيضا نوعا من العلاج،
وبطريقة ما ساعدت الأطفال على تحمل الواقع القاسي لحياة الغيتو.
من مفارقات اعتراض «منظمة محامون بريطانيون من أجل إسرائيل» على أعمال
الأطفال وجود علم فلسطيني مرفوع على قبة الصخرة
كانت حصيلة ورشات فريدل حوالي 4500 رسم، قامت قبل قتلها بتجميعها
ووضعها في مكان سري حتى نهاية الحرب العالمية الثانية. لتبقى رسوم
الأطفال كتذكير مؤثر بالمصير المأساوي لحياة أطفال اليهود وجهود
الفنانة فريدل.
يلخص منظمو المعرض أهمية رسوم الأطفال قائلين «بدون الرسوم ستبقى أسماء
الأطفال منسية» و«الرسوم هي تذكير بحياتهم» مما يأخذنا إلى الحدث
الثاني أو موضوع المقارنة.
فهل هذا هو السبب الذي دفع «منظمة محامون بريطانيون من أجل إسرائيل»
إلى إجبار مستشفى، في لندن، على إلغاء عرض لمجموعة لوحات، بشكل صحون،
صممها أطفال في مدرستين للأونروا في غزة: مدرسة بيت لاهيا للبنات
ومدرسة جباليا الإعدادية للبنين، وتم تنفيذ التصميمات من قبل الأطفال
في مدرسة مستشفى تشيلسي المجتمعي، وكان عنوان العرض «عبور الحدود –
مهرجان اللوحات» حيث عُرض عند مدخل قسم العيادات الخارجية للأطفال؟ هل
هو الخوف من التذكير بوجود أطفال فلسطينيين يعيشون تفاصيل حياة يومية
مأساوية يعيد فيها تاريخ الإبادة نفسه، وقد بلغت حصيلة الشهداء من
الأطفال منذ عام 2000 حتى نهاية العام الماضي 2230 شهيدا؟ ودفعت آلة
القتل الصهيونية صحيفة «نيويورك تايمز» الأمريكية على تكريس صفحتها
الأولى، لنشر أسماء وصور الأطفال الفلسطينيين الذين استشهدوا خلال حرب
الـ11 يوما في غزة، حيث استشهد 66 طفلا دون سن 18 عاما، وتحت عنوان «
كانوا مجرد أطفال».
ومن مفارقات اعتراض المنظمة على أعمال الأطفال وجود علم فلسطيني مرفوع
على قبة الصخرة، وينص شرح لإحدى اللوحات على أن: «الصيد بالشباك من
أقدم الصناعات في فلسطين». كما اعترضت على تعليق «غصن الزيتون هو رمز
السلام ويستخدم للتعبير عن الرغبة في دولة فلسطينية مستقلة» باعتبار
أنها لم تُنفذ من قبل أطفال بل «يبدو أن جميع الرسومات من غزة هي أعمال
فنية احترافية، بنفس الأسلوب، ونفّذها نفس الشخص».
لقد تمكنت المنظمة التي تُعّرف نفسها وهدفها « تقديم الدعم القانوني
بما في ذلك المناصرة والبحث والمشورة والحملات في مكافحة محاولات تقويض
و / أو مهاجمة و / أو نزع الشرعية عن إسرائيل والمنظمات الإسرائيلية
والإسرائيليين و / أو مؤيدي إسرائيل» من منع عرض أعمال الأطفال
الفلسطينيين والبريطانيين المشتركة بذريعة شكوى مرضى يهود عانوا من
«الإحساس بالضعف والمظلومية» لعرض الأعمال على جدار في المستشفى، ولكن
هل ستتمكن من محو وجود الأطفال الفلسطينيين وأن ينسى العالم مأساة
حياتهم وموتهم تحت احتلال يعمل يوميا على فرض مجتمع مقولب وفق مُثل
الصهيونية الاستيطانية العنصرية؟
قبل أن يقودها النازيون الى معسكر الموت عام 1944، ساعدت الفنانة فريدل
على تنظيم ورشات تعليمية سرية لـ 600 طفل من تيريزين، لأنها رأت أن
الرسم والفن وسيلة للأطفال لفهم عواطفهم وبيئتهم. وأصر زوجها التربوي
ديكر برانديز على أن كل طفل يجب أن يوقع باسمه، وألا يسمح له بأن يصبح
غير مرئي أو مجهول الهوية. فكيف ترى المنظمة التي رفعت رسوم الأطفال
الفلسطينيين بالمقارنة؟ وكيف تُفسر لوحة فريدل المعنونة «هذا ما يبدو
عليه العالم يا طفلي» التي تقدم فيها صورة طفل يعيش في ظل عالم رأسمالي
مبني على الحروب وما يرافقه من دعاية وتطهير عرقي. كتبت فريدل تعليقا
عن اللوحة يأخذنا بإنسانيته إلى تعليقات الأطفال الفلسطينيين، قائلة
«هذا ما يبدو عليه، يا طفلي، هذا العالم. هذا ما ولدت فيه. هناك من
ولدوا للتقطيع وأولئك الذين ولدوا ليُقطّعوا. هذا، يا طفلي، هو ما يبدو
عليه في عالمنا وعالم البلدان الأخرى، وإذا كنت، يا طفلي، لا تحبه،
سيكون عليك، عندئذ، تغييره». وهذا هو ما يحاول الأطفال الفلسطينيون
القيام به من خلال أعمالهم الفنية.
كاتبة من العراق
الاتحاد الأوربي وناقوس
الصراع المميت في العراق
هيفاء زنكنة
تحدد قائمة الرصد لمجموعة الأزمات الدولية، وهي منظمة تُعّرف نفسها
بأنها مستقلة تعمل على منع الحروب وتشكيل السياسات التي من شأنها بناء
عالم أكثر سلاما، 10 بلدان ومناطق تواجه صراعا مميتا أو حالة طوارئ
إنسانية أو أزمات أخرى في عام 2023، وأن بإمكان العمل المبكر، الذي
يحركه أو يدعمه الاتحاد الأوروبي، إنقاذ الأرواح وتعزيز احتمالات
الاستقرار.
وتضم قائمة الدول المعنية منطقة الخليج العربي والعراق. فما هو الوضع
الذي ترصده المجموعة داخل هذه البلدان وتوصياتها الموجهة إلى الاتحاد
الأوروبي، وكيف التعامل خاصة مع العراق بعد مرور عشرين عاما على غزوه
وفتح بواباته أمام احتلالين، وتطبيق المعاهدات والاتفاقيات مع الاتحاد
آخذين بنظر الاعتبار منظور وسياسة الاتحاد المبنية على مصالحه
الاقتصادية والعسكرية التوسعية في أرجاء العالم؟
تنبه مجموعة الأزمات الدولية أولا إلى صعوبة ما سيمر به الاتحاد
الأوروبي نفسه في العام الحالي حيث ينبغي عليه أن يعيد التفاوض على
مكانته في العالم، إزاء مجموعة من التحديات، على الرغم من كونه قد
استجاب بشكل جيد، حتى الآن، للهجوم الروسي على أوكرانيا والتوصل إلى
اتفاق عام حول توفير الدعم، بأنواعه لها.
من بين التحديات التي يواجهها الاتحاد حسب التقرير: مساعدة البلدان
الضعيفة على التعامل مع التداعيات الاقتصادية للحرب، مراقبة الآثار
الجانبية المزعزعة للاستقرار لجهود تنويع مصادر الطاقة، دعم نظام متعدد
الأطراف مرهق، إدارة العلاقات مع القوى الوسطى المؤثرة، المساعدة في
تمويل الاحتياجات الإنسانية المتزايدة، وتطوير سياسة هجرة إنسانية لا
تحرف أولوياتها الإجمالية.
يستوقفنا بشكل خاص ما يُطلق عليه الاتحاد مصطلح العلاقات مع « القوى
الوسطى» التي يتم تعريفها بالقوى المؤثرة الناشطة غير الغربية، بما في
ذلك البرازيل والهند وإندونيسيا والمملكة العربية السعودية وتركيا،
باعتبارها ذات تأثير متزايد في النظام الدولي، على الرغم من عدم
تشكيلها كتلة متجانسة، حسب مقياس الاتحاد الأوروبي المستند على الوقوف
بجانب أو ضد أوكرانيا، وهو المقياس الذي لا ينطبق على العراق.
تحت عنوان «العراق: درء عدم الاستقرار في المستقبل القريب والبعيد»
يمنحنا التقرير صورة للوضع العراقي الحالي وعددا من التوصيات الموجهة
للاتحاد الأوروبي لتفعيل دوره فيه. يشير واقع الوضع السياسي والاقتصادي
إلى عجز النظام الكلي وفشله حتى في إنقاذ نفسه مما يستدعي، حسب
التوصيات المطروحة، تدخلا سريعا لوقف التدهور نحو الأسوأ أي الاقتتال
بين الجهات المتنازعة. إذ تتحكم في النظام المحاصصة العرقية والطائفية
وتوزيع الموارد وفقا لذلك. مما عزز قبضة النخبة الفاسدة على مؤسسات
الدولة بعد كل انتخابات أُجريت منذ عام 2005. ويمنع الفساد المستشري
الدولةَ من تقديم خدمات عامة، وسوء الإدارة والفساد، أكثر منه قلة
الموارد، هما السبب الرئيسي في منع البلاد من تحسين البنية التحتية
الحيوية التي تحتاجها.
يشير واقع الوضع السياسي والاقتصادي إلى عجز النظام العراقي الكلي
وفشله حتى في إنقاذ نفسه مما يستدعي، حسب التوصيات المطروحة، تدخلا
سريعا لوقف التدهور نحو الأسوأ، أي الاقتتال بين الجهات المتنازعة
ومع تزايد عدد سكان العراق السريع، والذي من المتوقع أن يصل إلى 50
مليون بحلول عام 2030، بزيادة قدرها عشرة ملايين في غضون عشر سنوات،
وتضاءل إمداداته المائية، فإن مزيج الضغط الديموغرافي والضغوط المناخية
ومرور إقليم كردستان بأشد أزمة سياسية منذ الحرب الأهلية الكردية في
منتصف التسعينيات، سيكون الفشل الذريع مصير أي محاولة لشراء الاستقرار
اعتمادا على عائدات النفط.
من الناحية الاقتصادية، يقترح التقرير على الاتحاد الأوروبي الدخول في
حوار صريح مع حكومة محمد شياع السوداني حول كيفية إصلاح النظام المالي
بطريقة تلبي المعايير العالمية كالإشراف على إدارة المالية العامة من
خلال البنك الدولي مبينا أن بإمكانه تنفيذ ذلك نظرا لكونه جهة فاعلة
أكثر حيادية من الولايات المتحدة. كما يتطرق إلى كيفية تحسين ثقة
العراقيين في الحكومة من خلال جعلها أكثر قابلية للمساءلة والاستجابة
للاحتياجات المحلية، وحث السياسيين العراقيين على إجراء انتخابات محلية
طال انتظارها. ويجب على الاتحاد أيضا مناقشة الإصلاح التشغيلي والمالي
للحشد الشعبي بقواته الموازية المدمجة اسميا فقط في جهاز الدولة وتتصرف
ضد المعارضين مع إفلات واضح من العقاب.
ركزت التوصيات على وجوب اهتمام الاتحاد بإصلاح مؤسسة الحشد الشعبي،
سواء عند تقديم الدعم لإصلاح قطاع الأمن في سياق البعثة الاستشارية
للاتحاد الأوروبي في العراق أو في المشاركات السياسية رفيعة المستوى،
آخذين بنظر الاعتبار أن رئيس الوزراء على الرغم من كونه القائد العام
للقوات المسلحة، لا يمارس الحد الأدنى من الإشراف على إدارة الحشد
التشغيلية والمالية. إذ طالما رفضت المجموعات التي تشكل الحشد الشعبي،
والتي لديها ميزانية كبيرة تقريبا مثل تلك الخاصة بوزارتي الداخلية
والدفاع، مرارا وتكرارا أي فكرة لتعزيز صلاحيات رئيس الوزراء باعتبارها
تهديدا لوجودها.
أثناء حضوره الجولة الثانية من مؤتمر بغداد للشراكة والتعاون، الذي عقد
في عمان نهاية العام الماضي، أشار الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي
للشؤون الخارجية إلى الأهمية الذي يوليها الاتحاد لعلاقته مع العراق،
قائلا إن الاتحاد الأوروبي «مستعد لبذل المزيد وبشكل مختلف وأفضل لدعم
العراق» وضرورة البدء في مناقشة القضايا الشائكة مع حكومة السوداني،
بما في ذلك تداعيات المحاولة الفاشلة لإحياء الاتفاق النووي الإيراني
للأمن الإقليمي، ومستقبل الحشد الشعبي باعتباره عنصرا أساسيا في المشهد
السياسي والأمني العراقي.
يكتسب تقرير مجموعة الأزمات أهميته، من كونه يقدم أولا صورة تكاد تكون
تفصيلية عن الوضع العراقي الحالي الذي يعيشه ويعرفه المواطنون بعيدا عن
تهويمات أجهزة الأعلام والصورة التضليلية التي تقدمها القوى المتنازعة
ضمن منظومة الفساد السائد. كما تنبع الأهمية الثانية من كونه، وهذه
حقيقة علينا ألا ننساها أثناء قراءة تقارير كهذه وإن كانت تقدم صورة
واقعية فعلا، أن التقرير موجه إلى حكومات الاتحاد الأوروبي كأداة
سياسية وهيكلية برنامج لغرض تسهيل وإنجاح دخول وبقاء الاتحاد في العراق
كقوة اقتصادية وسياسية منافسة للولايات المتحدة الأمريكية، مما يعيد
إلى الذاكرة صعود الامبريالية الأمريكية، عالميا، في أعقاب الحرب
العالمية الثانية على حساب تراجع هيمنة الإمبراطورية البريطانية.
كاتبة من العراق
لماذا
يخشون روجر ووترز؟
هيفاء زنكنة
لم يكن متوقعا أن يكون حضور روجر
ووترز، أمام مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، يوم الأربعاء الماضي،
بمستوى حضور غيفارا أو كاسترو أو ياسر عرفات أمام الجمعية العمومية. إذ
أنه ليس رئيس دولة أو قائد حركة ثورية مناضلة معروفة في العالم أجمع بل
موسيقي من فرقة اشتهرت، في السبعينيات، بأسطوانة عنوانها « الجدار».
فكيف انتهى الحال بالموسيقي روجر أن يخاطب مجلس الأمن (عبر فيديو) الذي
أجرى مناقشات عدة حول الحرب في أوكرانيا، وتزويد الغرب أوكرانيا
بالسلاح لكنه فشل في اتخاذ أي إجراء، بسبب الفيتو الروسي؟ كيف أصبح
لموسيقي البوب من فرقة لم تعد مشهورة كما في السبعينيات، هذا الدور
البارز الذي جعله محط حملة إعلامية شرسة، تتصدرها أجهزة الاعلام
الصهيونية وتكررها الصحافة العالمية، بدرجات متفاوتة، لتصفه بالنازية
ومعاداة السامية والعمالة لروسيا وبوتين بالتحديد؟
تمت دعوة روجر ووترز، البالغ من العمر 79 عامًا، لمخاطبة مجلس الأمن من
قبل الوفد الروسي، باعتباره شخصا مؤثرا جماهيريا، إختار في العقدين
الأخيرين أن تضاف إلى سيرته والتعريف به مفردة ناشط للدلالة على مواقفه
الحقوقية والمناهضة للحرب والاحتلال، بالدرجة الأولى. أرادت روسيا،
بحضوره، القول بأنها ترغب بوقف الحرب وإحلال السلام بمواجهة الغرب
المُصر على تزويد أوكرانيا بالسلاح وهيمنة صناعة السلاح. وكان روجر قد
وقف ضد إمداد الغرب بالأسلحة إلى كييف في رسالة نشرها على موقعه على
الإنترنت في سبتمبر / أيلول.
فهل كانت إحاطة روجر، حقا، عمالة لروسيا وبوقا لبوتين وموقفا معاديا
للسامية؟ وكيف تم التوصل إلى ذلك وقد أدان في كلمته الحرب بوقائعها
الكارثية على الشعوب بقوله «أن إجتياح الاتحاد الروسي لأوكرانيا غير
قانوني. أنا أدينه بأشد العبارات. كما لم يكن الغزو الروسي لأوكرانيا
بدون استفزاز، لذلك أدين أيضًا المحرضين بأقوى العبارات الممكنة»؟ وهل
دعوة الرئيس الأمريكي والروسي والأوكراني إلى التفاوض الفوري « لوقف
القتال في أوكرانيا التي مزقتها الحرب، لا سيما في ضوء الحجم المتزايد
من الأسلحة التي تصل إلى ذلك البلد التعيس» وأن تتخلص الشعوب من السوط
المسلط عليها بعد خمسمائة عام من الإمبريالية والاستعمار والعبودية»
تستحق الوصف بالنازية؟
للإجابة على هذه التساؤلات وتمحيص حملة العداء الإعلامية والرسمية لعدد
من الدول، وعلى رأسها الكيان الصهيوني، ضد روجر، علينا أولا النظر أبعد
من كلمته عن أوكرانيا. إذ يعود أساس العداء ضده إلى موقفه المناهض
للحروب عامة وللاحتلال الصهيوني لفلسطين ومساندته للشعب الفلسطيني
المقاوم، خاصة بعد انضمامه إلى حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض
العقوبات (البي دي أس) عام 2012 والتي يعتبرها الكيان الاستعماري
تهديدا لأمنه ووجوده، بعد النجاحات التي حققتها عالميا.
أدت زيارته إلى الأراضي المحتلة
إلى تهديد حياته ومنع إقامة عدد من حفلاته الموسيقية في عدة بلدان
وتعرضه لأشد حملات الكراهية شراسة إثر وقوفه أمام جدار العزل العنصري
وقد أدت زيارته إلى الأراضي
المحتلة إلى تهديد حياته ومنع إقامة عدد من حفلاته الموسيقية في عدة
بلدان وتعرضه لأشد حملات الكراهية شراسة إثر وقوفه أمام جدار العزل
العنصري وكتابته جملة « لا نحتاج سيطرتكم على الأفكار» إقتباسا من
واحدة من أشهر الأغاني ألتي ألفها نهاية السبعينات لفرقة « بينك فلويد»
ورأى في الجملة تماهيا مع سياسة كيان الاحتلال، ومنددا في عشرات
المقابلات الصحافية بسياسة الإبادة وجرائم الحرب التي يرتكبها ضد الشعب
الفلسطيني.
مخاطبا الأعضاء الخمسة الدائمين في مجلس الأمن، باسم الشعوب، والغالبية
التي بلا صوت، تساءل روجر «ما هي اهدافكم؟ أرباح أكبر للصناعات
الحربية؟ المزيد من القوة على مستوى العالم؟» معلنا بقوة أن «هذه
الحروب الدائمة ليست من اختيارنا، وأن حروبك ستدمر الكوكب الذي هو
موطننا، وجنبا إلى جنب مع كل الكائنات الحية الأخرى، ستتم التضحية بنا
على مذبح شيئين، الاستفادة من الحرب لتلائم جيوب عدد قليل جدًا جدًا،
والمسيرة المهيمنة لإمبراطورية أو أخرى نحو الهيمنة على العالم أحادي
القطب» محذرا بأن هذا الطريق سيؤدي فقط إلى كارثة.
وفي الوقت الذي اختارت فيه الحكومات والمؤسسات الغربية مسار استقبال
الرئيس الاوكراني، في كل العواصم الغربية تقريبا، وتزويده بطلبات
السلاح المتطور الذي يحتاجه، بذريعة مقاومة الاحتلال، بالإضافة إلى
الدعم الإعلامي المستمر بكل المستويات، لم يحدث يوما وأن حظيت مقاومة
الشعب الفلسطيني ضد الاحتلال ولو بنسبة ضئيلة من هذا الاهتمام، بل
وغالبا ما اتُهمت، كما مقاومة الشعب العراقي ضد الاحتلال الأنكلو
أمريكي، بالإرهاب.
هذه الحقيقة المُتعامى عنها بانتقائية لا أخلاقية، تطرق إليها روجر
مُذكرا «نحن الشعب، نريد حقوق الإنسان العالمية لجميع إخوتنا وأخواتنا،
في جميع أنحاء العالم، بغض النظر عن عرقهم أو دينهم أو جنسيتهم. ولكي
نكون واضحين، أن يشمل ذلك، على سبيل المثال لا الحصر، الحق في الحياة
والملكية بموجب القانون، للأوكرانيين والفلسطينيين. نعم، فكروا بذلك.
فكروا بما هو واضح لنا جميعًا. في مناطق الحروب أو في أي مكان يعيش فيه
الناس تحت الاحتلال العسكري لا يمكن اللجوء إلى القانون، ولا توجد حقوق
إنسان».
هل أراد روجر، في إشارته إلى الظلم الذي تعيشه الشعوب المُستغلة وتلك
التي تعاني من الحروب والاحتلال، أن يقول كما قال غيفارا «إنني أحس على
وجهي بألم كل صفعة تُوجّه إلى مظلوم في هذه الدنيا، فأينما وجد الظلم
فذاك هو وطني؟» ربما، لعله أراد ذلك… ولكن بأسلوب الموسيقي المختلف عن
الثوري المقاتل، مقتبسا من أغنية جون لينون المشهورة عن السلام، ليوصل
إلى مجلس الأمن رسالة من « جميع اللاجئين في المخيمات، من جميع الأحياء
العشوائية والأحياء الفقيرة، من جميع المشردين، في كل الشوارع الباردة،
ضحايا الزلازل والفيضانات.. رسالة الأغلبية التي لا صوت لها إلى قادة
الامبراطوريات العراة: نحن الذين لا نشارك في أرباح صناعة الحرب. نحن
لا نربي أبناءنا أو بناتنا مختارين لتوفير الذخيرة لمدافعكم. هذا يكفي!
نحن نطالب بالتغيير». صحيح أن رسالة روجر لم تكن بذات اللهجة التي خاطب
بها القادة الثوريين قادة العالم الاستعماري، إلا أنه بالتأكيد نجح
مثلهم في اكتساب المزيد من حملات التشويه والاتهامات النمطية الجاهزة
للتلويث رسالته الأخلاقية.
كاتبة من العراق
سردية غزو العراق
تكتبها قوات الاحتلال
هيفاء زنكنة
يوفر المرور على عتبة العام العشرين للغزو الأمريكي البريطاني للعراق،
فرصة كبيرة لدور النشر الغربية لإطلاق سراح العديد من الكتب المعنية
بالغزو والاحتلال. كتب مركونة لديها انتظار للتوقيت الصحيح للتسويق،
مهما كان نمط الكتب أو تخصصها سواء كانت موضوعاتها عسكرية أو اقتصادية
أو أدبية. أقول دور النشر الغربية لأننا نعرف جيدا مدى فقر دور النشر
العربية في نواحي التخطيط المستقبلي والتنظيم ومعرفة كيفية ترويج
الكتاب، خاصة وأن معظمها لا يختار طباعة ونشر الكتب وفق نوعيتها أو
مناسبة ألحدث بل حسب قدرة المؤلف على دفع تكاليف الطبع بدون أي التزام
من صاحب دار النشر للترويج والتوزيع. وهي من العقبات التي تحول دون
معرفتنا بحجم الاهتمام العربي الشعبي الحقيقي بذكرى الغزو العدواني وما
ترتب عليه من نتائج إجرامية بحق العراق. ففي البلاد العربية، لا يعني
غياب الكتب المُعالجة لموضوع معين غياب الاهتمام بقدر ما هي صعوبة
النشر والتوزيع على الرغم من زيادة عدد الكتب المطبوعة، كونها على حساب
المؤلفين، وبقاء مصيرها محصورا بالتوزيع على الأهل والأصدقاء.
فلا غرابة إذن، أن نلاحظ الغياب شبه الكلي للكتب الصادرة، عربيا،
بمناسبة الذكرى العشرين لغزو العراق، وهي ذكرى مهمة، عربيا وعالميا،
بكل المقاييس. فبينما يجد الباحث عن الكتب باللغات الأجنبية صدور عشرات
الكتب بالمناسبة، يفشل بالعثور إلا على كتابين إثنين أو ثلاثة، بأحسن
الأحوال، منشورة باللغة العربية من قبل أمة خرجت بملايينها احتجاجا على
الغزو ودعما للشعب العراقي الذي رأوا فيه مقاوما لعدوان همجي يمس كرامة
وسيادة الأمة العربية كلها. ولكن، هل يكفي إلقاء اللوم على دور النشر
لوحدها، لفهم أسباب خلو الساحة من الكتب العربية عن الغزو؟ لا أعتقد
ذلك فالأسباب متعددة ولعل أبرزها النجاح الذي حققته السردية الأمريكية
ـ البريطانية في تحويل الغزو إلى تحرير، والمقاومة إلى إرهاب، والعراق
الواحد إلى طوائف وقوميات متنازعة فيما بينها في محاصصة الفساد، وتحويل
البلد إلى ساحة لاستعراض القدرة العسكرية والهيمنة السياسية بين
الولايات المتحدة الأمريكية وجمهورية إيران الإسلامية. وإذا أضفنا إلى
ذلك سياسة الحكومات العربية في استهلاك عقول الناس وقدرتهم على التفكير
والعمل على التغيير لانشغالهم باللهاث وراء الأساسيات، ونسيان ما
عداها، لأدركنا كيفية تحويل واحدة من أكثر الأحداث الكارثية تأثيرا على
المنطقة العربية والإسلامية، إلى مجرد يوم عادي، بالمقارنة مع الدول
المسؤولة عن الغزو وانعكاساته.
الكتاب العربي الوحيد الذي صادف إصداره ذكرى الغزو وحظي بالاحتفاء في
معرض الكتاب في القاهرة هو كتاب الصحافي العراقي المخضرم سلام مسافر
المعنون «الهمجية.. شهادات غزو واحتلال العراق في حوارات مع سلام
مسافر» والذي يضم عددا من لقاءاته، مع عراقيين، على مدى 15 عاما، في
برنامج «قصارى القول» الذي يتم بثه على قناة آر تي (روسيا اليوم).
قد لا تكون شحة الكتب المطبوعة بمناسبة مرور عشرين عاما على غزو
واحتلال العراق بالتحديد باللغة العربية دليلا مطلقا على قلة الاهتمام
الأكاديمية والشعبية إلا أنه، دليل لا يمكن إهماله، بخطورة أن تكتب
قوات الاحتلال سرديتنا
من خلال الحوارات يعمل سلام على تقييم ما حدث في العراق جراء الغزو على
نطاق عالمي، كاشفا عن تفاصيل، تذكر لأول مرة، عن جريمة الإعداد وتنفيذ
غزو واحتلال العراق، حيث يقوم بدحض أكذوبة واشنطن عن البرنامج النووي
العراقي وأسلحة الدمار الشامل مقابل جهود روسيا الاتحادية في التوصل
إلى تسوية، تبعد شبح الحرب. أضاءت بقية الفصول جوانب متعددة من جرائم
الاحتلال ومن بينها نهب قوات الاحتلال أموال وممتلكات البنك المركزي،
بالإضافة إلى الأخطاء العسكرية التي ارتكبتها القوات المسلحة العراقية
بمختلف أصنافها، وأفضت إلى سقوط بغداد في غضون أسبوعين، والمباحثات
السرية بين القيادة العراقية في الحبس، والسلطات العسكرية الأمريكية
المحتلة، وشهادات لكوكبة من المحامين والقضاة عن خفايا محاكمة صدام
حسين التي انتهت بإعدامه.
بالمقابل، هناك عشرات الكتب التي إما صدرت أو على وشك الصدور، تزامنا
مع ذكرى الغزو والاحتلال، باللغة الإنكليزية. تتصدرها يوميات ومذكرات
أفراد قوات الاحتلال في العراق. يقدمون خلالها سردية تتسم بالشجاعة
والصداقة الحميمة وروح التضحية والتكاتف في محاربة الإرهاب المهدد
لأمريكا والعالم، على حساب تغييب الشعب العراقي أو ذكره كملاحظة
هامشية. ففي «قلوب سوداء وبنادق مطلية: رحلة كتيبة إلى مثلث الموت في
العراق» يروي المؤلف الضابط تجربته القتالية المضنية والمروعة في «حرب
طائفية». وفي « تذكر كتيبة رامرود: أخوة في الجيش في الحرب والسلام»
يقوم المؤلف وهو الحائز الوحيد على وسام الشرف في حرب العراق بسرده
مذكراته عن مشاركته، في عام 2004، ضمن كتيبة مشاة رامرود التي « ساعدت
في الفوز بمعركة الفلوجة، أكثر الأحداث دموية في حرب العراق». مستعرضا
نجاحه « في تطهيره، بمفرده، موقعًا محصنًا للعدو». مستخدما مفردتي
العدو والإرهاب لوسم كل مقاوم للاحتلال طبعا.
ولا تخلو قائمة الإصدارات من كتب سياسية أكاديمية. من بينها “مواجهة
صدام حسين: جورج دبليو بوش وغزو العراق» لمؤرخ السياسة الخارجية
الأمريكية ملفين ب. ليفلر، يحلل فيه سبب اختيار أمريكا للحرب ومن يتحمل
المسؤولية الأكبر عن القرار. باستخدام مجموعة فريدة من المقابلات
الشخصية مع عشرات كبار المسؤولين والوثائق الأمريكية والبريطانية التي
رفعت عنها السرية، يصور ليفلر مشاعر القلق التي شكلت تفكير بوش بعد
أحداث 11 أيلول/ سبتمبر. ويُظهر كيف أثر الخوف والغطرسة والقوة على نهج
بوش ليصل إلى خلاصة مغايرة لما هو معروف عن منهجية الأعداد للغزو
مسبقا، بتأكيده على أن بوش «لم يكن متحمسا للحرب وقرار غزو العراق لم
يكن أمرا واقعيا».
بالنسبة إلى الوضع داخل العراق، يتصدر القائمة كتابان. الأول «مستقبل
قوات الحشد الشعبي العراقية: دروس من تاريخ جهود نزع السلاح والتسريح
وإعادة الإدماج» والثاني «غريب في مدينتك» للصحافي العراقي غيث عبد
الأحد، الصادر باللغة الإنكليزية أيضا، إلا أنه الكتاب الوحيد الذي
تُشكل السردية العراقية مركزه، من خلال ربط الخاص بالعام وتغطيته قصص
العراقيين، خلال سنوات الاحتلال.
قد لا تكون شحة الكتب المطبوعة بمناسبة مرور عشرين عاما على غزو
واحتلال العراق بالتحديد باللغة العربية دليلا مطلقا على قلة الاهتمام
الأكاديمية والشعبية إلا أنه، دليل لا يمكن إهماله، بخطورة أن تكتب
قوات الاحتلال سرديتنا، تاريخا وحاضرا، مرّوِجة إنسانيتها وتضحياتها
وانتصاراتها بينما تختزل وجودنا، كشعب مُحتل، بالإرهاب.
كاتبة من العراق
لنغني عراقيا للحياة
وليس الوجود فقط
هيفاء زنكنة
بعد زوال تأثير مُخدر فوز فريق كرة القدم العراقي ببطولة خليجي 25،
والاحتفاء بتنظيمه في مدينة البصرة المعطاء، وبعد رحيل الضيوف الأعزاء
من دول الخليج العربي إلى ديارهم، وبعد خفوت مشاعر الفرح الجماعي الذي
عاشه العراقيون، على مدى أسبوع، بعد طول انتظار، وعلى أمل شحن جسد
الأمة بالطاقة للعمل على استعادة العافية، وحالما تم إغلاق بوابات ملعب
جذع النخلة، تسلل الواقع العراقي، عائدا بتفاصيله المريرة، ليحتل
مكانته المعتادة.
عاد الواقع ليغرز سهامه في أجساد المواطنين، وليطّلع عليه العالم
الخارجي من خلال عدد من التقارير السنوية لمنظمات حقوقية دولية ومحلية
قامت بتوثيق الحال لعام 2021 – 2022. صدرت التقارير في الأسابيع
الأخيرة من الشهر الحالي، وبعضها صدر أثناء بطولة خليجي 25 فلم تحظ
بالتغطية الإعلامية المطلوبة إزاء التحشيد الإعلامي والترويجي الذي
رافق منافسات كرة القدم.
من بين التقارير الدولية التي صدرت تقرير «منظمة العفو الدولية»
و«هيومان رايتس ووتش» وتقرير «بعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق»
(يونامي). عراقيا، أصدرت لجنة حقوق الإنسان في» هيئة علماء المسلمين»
تقريرها السنوي وكذلك «منظمة حمورابي». وقد توخت المنظمات تقسيم
تقاريرها بشكل يكاد يكون متشابها في منهجيته العلمية، للتحقيق في
الانتهاكات الجسيمة، وتوثيقها، وتحديد المسؤولين عنها، استنادا إلى
شهادات الضحايا وذويهم ومقابلات مع مسؤولين حكوميين وممثلي منظمات
المجتمع المدني بالإضافة إلى الاحصائيات المتوفرة حكوميا.
تتفق المنظمات والهيئات المذكورة صاحبة التقارير، وعلى الرغم من اختلاف
مسمياتها وتوجهاتها، حول مسؤولية الحكومة العراقية كما قوات الاحتلال
الأمريكي البريطاني عن الحالة الكارثية التي يعيشها البلد، بعد مرور
عقدين على غزوه. فتحت عنوان «التعذيب وانتهاكات المحاكمة العادلة
وعقوبة الإعدام» تذكر «هيومان رايتس ووتش» إن استخدام التعذيب لايزال
منتشرا في نظام العدالة الجنائية، لانتزاع الاعترافات. ورغم الانتهاكات
الجسيمة للإجراءات القانونية الواجبة في المحاكمات، نفذت السلطات 19
إعداما على الأقل.
وحسب بيان صادر عن وزارة العدل في سبتمبر/أيلول، تحتجز السلطات نحو 50
ألف شخص للاشتباه بصلاتهم بالإرهاب، حُكم على أكثر من نصفهم بالإعدام.
وتم اعتقال العديد من المتهمين لأن أسماءهم وردت في قوائم للمطلوبين
مشكوك في دقتها أو لأنهم أفراد من عائلات المشتبه بهم المدرجة أسماؤهم.
ليس للمنظمات المُصّدرة لهذه التقارير القدرة على التدخل المباشر
لإحداث أي تغيير، مهما كانت انتهاكات حقوق الإنسان جسيمة وأبناء الشعب
يعيشونها يوميا، إلا أنها توفر المعلومات الموثقة بمنهجية علمية لتكون
أداة بيد المواطنين الراغبين بالتغيير
بالنسبة إلى حق التظاهر، تقاعست الحكومة عن الوفاء بوعودها بمحاسبة
المسؤولين عن الاعتقالات التعسفية والاختفاء القسري والقتل خارج نطاق
القضاء للمتظاهرين والنشطاء والصحافيين وغيرهم ممن ينتقد الجماعات
السياسية والمسلحة في البلاد علنا. وخلص تقرير لـ «بعثة الأمم المتحدة
لمساعدة العراق» (يونامي) إلى أنه لا يبدو أن أيا من الاعتقالات
العديدة المتعلقة بعمليات القتل المستهدف قد تجاوز مرحلة التحقيق. كما
أن أيا من الاعتقالات لم يفض إلى توجيه أي تهمة.
وترى المنظمات الحقوقية أن الحكومة العراقية تمارس عقابا جماعيا ضد
النازحين قسرا من مناطق معينة. فبينما أغلقت 16 مخيما نهاية عام 2021،
تركت ما لا يقل عن 34,801 نازح دون تأكيدات بأنهم يستطيعون العودة إلى
ديارهم بأمان، أو الحصول على مأوى آمن آخر، أو الحصول على خدمات ميسورة
التكلفة. كان العديد من العائلات النازحة تعيلها نساء نزحت بسبب القتال
بين داعش والجيش العراقي بين 2014 إلى 2017، وصُنِّف العديد من هذه
العائلات على أنها منتمية إلى داعش، ليُحرم أفرادها وبضمنهم الأطفال من
الوثائق المدنية. كما منعت حكومة إقليم كردستان آلاف العرب من العودة
إلى ديارهم في قرى في ناحية ربيعة وقضاء الحمدانية، وهي مناطق طردت
قوات حكومة الإقليم داعش منها عام 2014 وفرضت سيطرتها على الأراضي،
لكنها سمحت لقرويين أكراد محليين بالعودة إلى المناطق نفسها، ضمن مخطط
التغيير الديموغرافي المتزامن مع إصرار الميليشيات على استمرار حملات
التطهير الطائفي حسب تقرير» هيئة علماء المسلمين» الذي تضمن إحصاءات
تتعلق بأحد عشر محورًا تشمل قضايا الفوضى الأمنيةِ، وارتفاعَ معدلاتِ
الجريمة، وتجذرَ الفساد في جميع الدوائر الحكومية. ويتطرق التقرير إلى
وضع المرأة والطفل المتميز باستمرار تعرض هاتين الفئتين للخطف
والاستغلال والاتجار بالبشر، وقدرت إحصاءات حجم عمالة الأطفال في
العراق بنحو مليون طفل، وعلاقته المباشرة بجرائم الاتجار بالبشر، حيث
تم تسجيل فقدان 450 طفلاً خلال العام 2022 في عمليات الاتجار بالبشر.
مع العلم أن هناك خمسة ملايين يتيم، وأربعة ملايين ونصف مليون طفل ترزح
عائلاتهم تحت خط الفقر، وسط زيادة نسب البطالة وانعدام الأمن الغذائي
وانتشار الأمية. وما يزال لدى العراق أكبر عدد من الحالات الموثقة
للاختفاء القسري في العالم، إذ تجاوز عدد ضحايا الاختفاء القسري بعد
2014 حوالي 55 ألف شخص، ما يزال مصيرهم مجهولاً من دون أي تحرك رسمي
يُذكر لمعالجة هذا الملف المعلق منذ سنين.
ماذا عن موقف الدول التي غزت العراق وأحد ذرائعها أن يتمتع الشعب بحقوق
الإنسان؟
لنترك الإجابة لمنظمة «هيومان رايتس ووتش» في تقريرها الذي يلخص الموقف
بقولها: « بعد عقدين من الغزو الذي قادته الولايات المتحدة والمملكة
المتحدة للعراق في مارس / آذار 2003، استمرت الجهات الفاعلة الدولية في
التورط في انتهاكات حقوق الإنسان في البلاد». ومن بين الأمثلة العديدة
التي تذكرها المنظمة اكتشاف صحيفة « نيويورك تايمز» أثناء فحصها سجلات
البنتاغون الخاصة،
في ديسمبر 2021، أن قصف الجيش الأمريكي للعراق في قتاله ضد داعش أدى
إلى «قتل آلاف المدنيين، كثير منهم أطفال «. يتطابق التقرير مع نتائج
سابقة لـ للمنظمة أثبتت «إخفاق الولايات المتحدة في اتخاذ احتياطات
كافية لتجنيب المدنيين القتل أثناء قصف أهداف داعش المزعومة».
هل من تغيير متوقع من هذه التقارير على كثرتها ومصداقيتها عن واقع
المواطنين؟ ليس للمنظمات المُصّدرة لهذه التقارير القدرة على التدخل
المباشر لإحداث أي تغيير، مهما كانت انتهاكات حقوق الإنسان جسيمة
وأبناء الشعب يعيشونها يوميا، إلا أنها توفر المعلومات الموثقة بمنهجية
علمية لتكون أداة بيد المواطنين الراغبين بالتغيير. ومن يدري، فقد
تجتمع آلاف الجماهير التي شجعت الفريق العراقي، منشدة «موطني» لتقول
نريد وطنا نتمتع فيه بحق الحياة وليس الوجود فقط.
كاتبة من العراق
ماذا
حدث
للحركة
المناهضة للحرب؟
هيفاء زنكنة
ماذا حدث للحركة التي ولدت
المظاهرات المناوئة للحرب على العراق وشارك فيها 36 مليون شخص، من جميع
أنحاء العالم، في حوالي 3000 احتجاج مناهض للحرب قبل وبعد الغزو في 20
آذار/ مارس 2003. وكانت مظاهرات 15 شباط/ فبراير، قبل أسابيع من شن
الحرب، هي الأكبر في تاريخ البشرية، المتميزة بأنها حدثت قبل شن الحرب
وليس اثنائها. التظاهرة التي صّورها مخرج الأفلام الوثائقية الإيراني
أمير أميراني في فيلمه «نحن كثرة». وهو عنوان مقتبس من قصيدة للشاعر
الإنكليزي بيرسي شيللي بعنوان «قناع الفوضى» واستخدمتها الروائية
الناشطة الهندية أرونداتي روي في كلمة لها أثناء الاحتجاجات المناهضة
للحرب، قائلة: «لا تنسوا! إننا كثرة وهم قلة. هم يحتاجوننا أكثر مما
نحتاجهم». وكانوا كثرة فعلا، حيث سجلت بريطانيا رقمها الأعلى في مساهمة
المتظاهرين الذين بلغ عددهم مليوني شخص، تظاهروا تحت شعار «ليس
باسمنا».
ماذا حدث للحركة المناهضة للحرب؟ قد يكون هذا هو السؤال الأكثر خطورة
في عصرنا، يقول جيفري سانت كلير محرر موقع « كاونتر بانتش» اليساري
المعروف، مركزا في تساؤله على نشاط الحركة في الولايات المتحدة
الأمريكية التي تشكل تاريخها المعاصر على الموقف الجماهيري الكبير ضد
الحرب في فيتنام ومساهمة الملايين في الاحتجاجات المناوئة
لاستمراريتها. لماذا، إذن، نرى خفوت الأصوات الآن؟ تشير الدراسات التي
تصدت لتحليل هذه الظاهرة إلى أن أحد أسباب التحشيد الكبير الذي رافق
الاحتجاجات المناوئة للحرب في فيتنام هو نظام التجنيد العسكري الإلزامي
أثناءها. حيث دخلت الحرب، بآثارها البشعة، الحياة اليومية للعائلة
الأمريكية. وصار جرحى الحرب والقتلى حقيقة لا يمكن للإدارة الأمريكية
وأجهزة الإعلام تغطيتها. وكان لانتصارات المقاومة الفيتنامية الدور
الرئيسي في إعلان الهزيمة العسكرية الأمريكية وإنهاء الحرب، في ذات
الوقت الذي ساهمت فيه حركة مناهضة الحرب بتوفير الدعم التضامني مع
الشعب الفيتنامي.
بعض هذه الأسباب وليس كلها، تمظهر في الموقف المناهض للحرب ضد العراق.
لم يعد الشاب الأمريكي مجبرا على الانخراط في الخدمة العسكرية
الإلزامية مما يؤجج المشاعر ضد الحكومة في حال الإصابة أو القتل وعدم
تحقيق النصر الموعود. بل بات توجهه إلى الخدمة العسكرية اختيارا يتحمل
مسؤوليته. ويكون انخراطه لأسباب اقتصادية أو إغراءات بتوفير الإقامة أو
مشاعر وطنية لحماية الوطن من « الإرهاب» تماشيا مع كثافة التحشيد
السياسي والإعلامي. ففي بيان رسمي، نصحت وزارة الداخلية الأمريكيين
بتخزين الأغطية البلاستيكية والأشرطة اللاصقة لحماية أنفسهم من الهجوم
الإشعاعي أو البيولوجي المتوقع من العراق الذي جاء نقلا عن تصرح لتوني
بلير، رئيس الوزراء البريطاني، بأنه سيصل بريطانيا خلال 45 دقيقة،
ناهيك عن التصريحات المدوية عن « التحرير والديمقراطية وحقوق الإنسان».
على الرغم من هذا كله خرج آلاف الناس بأمريكا احتجاجا على شن الحرب.
فلِم حل الصمت بعد ذلك ونتيجة الغزو الهمجي وانعكاساته الكارثية على
حياة الشعب العراقي ومستقبله، مرئية وموثقة للجميع؟ أين الاحتجاج من
قبل التقدميين والليبراليين والمدافعين عن الحقوق المدنية ورجال الدين
والأكاديميين والفنانين والمتطوعين المجتمعيين وغيرهم ممن شاركوا في
الحركة سابقا والذين يجب أن يُواصلوا العمل تذكيرا بمسؤولية أمريكا
وبريطانيا؟ هل هو اهتمام الشباب المُنصب على البيئة والجنسوية؟
ماذا حدث للحركة المناهضة للحرب؟
قد يكون هذا هو السؤال الأكثر خطورة في عصرنا، يقول جيفري سانت كلير
مركزا في تساؤله على نشاط الحركة في الولايات المتحدة الأمريكية التي
تشكل تاريخها المعاصر على الموقف الجماهيري الكبير ضد الحرب في فيتنام
يقول ديفيد بواز، نائب الرئيس
التنفيذي لمعهد كاتو التحرري، على موقع بريتانيكا الإلكتروني، أن
الاحتجاجات الأمريكية ضد الحروب بدت وكأنها توقفت لحظة انتخاب باراك
أوباما رئيسًا في عام 2008. «ربما افترض المنظمون المناهضون للحرب أنهم
انتخبوا الرجل الذي سيوقف الحرب». وما حدث، كما نعلم هو أنه كان مهووسا
باستخدام الطائرات بل طيار القاتلة. السبب الآخر هو استمرار تسويق
سياسة «الحرب على الإرهاب» بذكاء، والسيطرة على الأخبار الواردة من
الجبهة عن طريق تحديد حركة الصحافيين، وتلويث سمعة المقاومة العراقية
بسمة الإرهاب وتصوير الجندي الأمريكي باعتباره منقذا للمواطن العراقي
من الإرهابيين. ولا يمكن إغفال الدور الاعلامي الذي لعبته «المعارضة
العراقية» في مرحلتي الترويج للحرب وأثناء الاحتلال، واستفادت منه
الإدارة الأمريكية والحكومة البريطانية، بشكل كبير. وهل هناك ما هو
أكثر نجاحا في التسويق من استخدام معارضين يدعون الى التحرير وبقاء
القوات الأجنبية لتوفير الحماية لهم؟
بالإضافة إلى الأسباب المعروفة، تطرقت جوان رويلوفس، أستاذة العلوم
السياسية والناشطة المناهضة للحرب ومؤلفة عدة كتب، في كتابها
الاستقصائي الجديد المعنّون «كاتم صوت بتريليون دولار» إلى النقص
المذهل للاحتجاج الشعبي على الموت والدمار الذي يُلحقه المجّمع الصناعي
العسكري بالناس والأمم والبيئة. ركزت المؤلفة على كيفية تغلغل الإنفاق
العسكري في الاقتصاد الوطني، ومدى امتداد تمويله، ليشمل الآن، إلى حد
كبير، حتى الحركات المناهضة للحرب. إذ تمتلك مؤسسة – جيش الولايات
المتحدة – آلاف الوظائف وأوجه الاستثمار الاقتصادي الحربي، وميزانية
تصل حوالي ألف مليار دولار كل عام لدعم دورها في التحضير للحرب وشنّها
في جميع أنحاء العالم. وتجيب المؤلفة على سؤال جوهري يُطرح غالبا وهو
كيفية نجاح المجّمع الصناعي العسكري بالحصول على الرضا الشعبي؟ بتفاصيل
الميزانية والمُنح والجداول، تبين المؤلفة أوجه التغلغل العسكري في
المجتمع الأمريكي اقتصاديا وثقافيا. حيث يُعتبر المقاولون والقواعد
بمثابة محاور اقتصادية في مناطقهم. تشمل المشاريع المشتركة مع وزارة
الدفاع مساعدة الإدارات البيئية بالولاية، وفرق المنظمات الحكومية
والبيئية لإنشاء مناطق عازلة لميادين القصف. تعد مستشفيات إدارة
المحاربين القدامى نعمة لمجتمعاتهم.
ويتسلل التأثير الأخطر عبر حصول الجامعات والكليات وأعضاء هيئة التدريس
على عقود ومنح من وزارة الدفاع ووكالاتها، مثل وكالة مشاريع الأبحاث
الدفاعية المتقدمة. وتوفر الوظائف المدنية في وزارة الدفاع فرصًا
للعلماء والمهندسين ومحللي السياسات وغيرهم. يتغذى كل نوع من الأعمال
التجارية وغير الربحية، بما في ذلك المنظمات البيئية والخيرية على
مائدة وزارة الدفاع من خلال العقود والمنح. إذ تتبرع وزارة الدفاع
بمعدات للمنظمات، وخاصة منظمات الشباب، وتقرض كتائب مجهزة لهوليوود.
وتقدم شركات الأسلحة منحا سخية للفنون والجمعيات الخيرية، خاصة للشباب
والأقليات.
تنطبق هذه التفاصيل على أمريكا أكثر من المملكة المتحدة التي لاتزال
منظمات مناهضة الحرب فاعلة فيها إلى حد ما، وإن كان النموذج الأمريكي
في الهيمنة عن طريق التمويل العسكري يتسلل ويتوسع بسرعة كبيرة. مما
يستدعي، كخطوة أولى، لإعادة نصب الحدود بينه وبين المجتمع المدني، أن
نرى كيف يؤدي الإنفاق العسكري إلى تواطؤ المجتمع المدني في نتائجه
الوخيمة.
كاتبة من العراق
خليجي 25:
حبات لتسكين أوجاع بصرة العراق
هيفاء زنكنة
كم هو مفرح رؤية ناس يبتسمون في بلادنا! فمن النادر، منذ عقود الحرب
والحصار والاحتلال، أن نرى جمهورا عراقيا، يرتدي أفراده الفرح. أن نرى
النساء والرجال يضحكون ويغنون سوية مسرورين، في مكان يوحدهم. يتنفسون
فيه معنى أن يكون المرء عراقيا بألوان ساطعة مثل شمس بلاده بعيدا عن
العزاء الأسود الذي بات وجبة يومية يتناولها الجميع على مضض. هكذا
إجتمع آلاف العراقيين والعرب بمناسبة إفتتاح الألعاب حين إستضاف العراق
البطولة للمرة الثانية، بعد مرور 44 عاما على إقامتها في بغداد عام
1979.
لخصّت احتفالية الافتتاح تاريخ البلد الحضاري ووحدة المشاعر العابرة
للطائفية الدينية والنعرات القومية وكل ما لوث إسم العراق منذ غزوه
واحتلاله عام 2003. فكانت ليلة أُريد لها أن يستمتع زوار مدينة البصرة،
بجنوب العراق، التي يقطنها أكثر من خمسة ملايين نسمة، بضيافة أهلها
المعروفين بطيبتهم وسخاء مشاعرهم، بافتتاح البطولة في ملعب «جذع
النخلة» تذكيرا ببصرة كانت تفتخر، يوما، باحتضانها 16 مليون نخلة، إلا
أن غالبيتها تلفت جراء الحروب بين أعوام 1980 و2003.
كان الافتتاح مبهرا بالأضواء. أشار التعليق الأكثر تداولا عن الافتتاح.
وأكدت الشركة العامة لتوزيع كهرباء الجنوب أنها عملت على إضاءة الطرق
المؤدية إلى المدينة الرياضية ومحيطها وأبوابها بالإنارة الحديثة
والتراكيب الجديدة. كما أطلقت الشركة حملة تحت وسم ترشيد الكهرباء،
وأشرف وكيـل مديـر توزيـع كهربـاء البصـرة ميدانيـاً على استنـفار
ملاكـات كهربـاء البصـرة لبطـولة الخليج. هذه التأكيدات التي وفرت
للحاضرين والمشاهدين المحبين لكرة القدم الضوء خلال أيام البطولة تثير
عديد التساؤلات. لماذا هذا التحشيد الإعلامي عن التجهيز « الضوئي»؟ ما
هو الغريب في إضاءة ملعب دولي لكرة القدم والشوارع المحيطة به؟ ولماذا
لا يحدث الإشراف الميداني لتزويد عموم أهل البصرة بالكهرباء في كل
الاوقات؟ هل ستقتصرإضاءة الشوارع على أسبوع البطولة فقط لتستعيد
المنطقة بعدها ما تعودت عليه من ظلام؟ وإذا كان بإمكان الجهات الحكومية
المسؤولة توفير مستلزمات وشروط استضافة البطولة، المطلوبة من قبل اتحاد
الكرة الدولي (الفيفا) بشكل جيد، وخلال فترة قياسية، كما لاحظنا، فلم
لا تعمل بنفس الجهد على توفير مستلزمات الحياة الأساسية المطلوبة من
قبل المواطنين، منذ عشرين عاما، والتي هي حق من حقوق المواطنين وليست
منة يتفضل بها المسؤولون على المواطن؟ أم أن تبييض الوجوه أمام العالم
الخارجي، ضروري لاستثمار الأموال المنهوبة، بأرقام مذهلة، التي لم يعد
بالإمكان استثمارها كما كان المسؤولون يطمعون بعد أن فاحت رائحة
الفضائح في أرجاء العالم ؟ وهل هناك ما هو أكثر قدرة على تبييض الوجوه
والأموال والتعتيم على واقع الحياة اليومي البائس للمواطنين ورسم
الابتسامة على وجوههم من إقامة بطولة لكرة القدم التي يصفها البعض
بأنها دين العصر الحديث، محاججين بأنه إذا كانت المسيحية، أكبر ديانة
في العالم، لديها 2.2 مليار متابع، فإن لكرة القدم أكثر من 3 مليارات
متابع؟
لا يقتصر سوء الحال على الكهرباء والماء وتلوث البيئة بل يشمل تدهور
الحالة الأمنية. إذ تعيش محافظة البصرة، كما غيرها من المحافظات، حالات
التوتر الأمني وصراعات الميليشيات التابعة للأحزاب الحكومية والنزاعات
العشائرية وتعرض المحتجين على هذه الأوضاع المزرية للعنف بأنواعه
من حق الناس، بطبيعة الحال، تسكين الوجع ولكن بشرط ألا يتم على حساب
تغطية الأسباب الحقيقية للمرض ومنع الشفاء الكلي. ولننظر إلى واقع
مدينة البصرة، فقط، من هذه الناحية، لتفكيك صورة الاحتفال المضيء،
ولندفع جانبا واقع المحافظات والمدن الأخرى، بضمنها العاصمة بغداد،
لئلا نُتهم بالتشاؤم. يُخبرنا أهل البصرة أن شوارعهم مظلمة، تتراكم
فيها الزبالة، وأنهم يتوسلون زيارة أحد المسؤولين ليرى بعينيه ويفهم أن
انقطاع التيار الكهربائي، مهما كانت الأسباب، لا يعني عدم الإضاءة فحسب
بل هو شلل للحياة اليومية والخدمات الطبية والتنمية الاقتصادية.
ويطالب آخرون بدفع رواتب قُراء المقاييس ومُستحقات المشاريع التي لم
تُدفع، بينما يعتصم أصحاب الشهادات التي ألغيت ولم تحتسب عند التثبيت
أمام وزارة الكهرباء. ويعيش أهل البصرة أزمة نقص المياه الصالحة للشرب
بسبب الملوحة وتاثير الجفاف وارتفاع درجات الحرارة الأعلى عالمياً،
بالإضافة إلى التلوث المزمن الذي يهدد حياة السكان، وخاصة الأطفال،
بأمراض من السهل القضاء عليها إذا ما توفرت النية المخلصة لايجاد
الحلول ووضع حد لجشع الساسة الفاسدين. الجشع الذي ابتلع التخصيصات
المالية مما عرقل إكمال أكثر من 90 مشروعاً لتصفيه المياه وتحليته. كل
هذا يحدث في مدينة غنية بالنفط والمهندسين والعمال من ذوي الكفاءة
وتساهم بتمويل ميزانية العراق بنحو ثمانين بالمائة من مبيعات النفط
والغاز.
ولايقتصر سوء الحال على الكهرباء والماء وتلوث البيئة بل يشمل تدهور
الحالة الأمنية. إذ تعيش محافظة البصرة، كما غيرها من المحافظات، حالات
التوتر الأمني وصراعات الميليشيات التابعة للأحزاب الحكومية والنزاعات
العشائرية وتعرض المحتجين على هذه الأوضاع المزرية للعنف بأنواعه. تؤكد
تقارير منظمة الأمم المتحدة بالعراق فشل لجان التحقيق المُعلن عنها
رسميا للتحقيق في تعرض المتظاهرين للعنف والاختطاف والقتل، وإهمالها
محاسبة المسؤولين وإيصالهم مرحلة المحاكمة والإدانة، وباستثناء قضيتين
فقط ركزت فيهما على أفراد من رتب صغيرة في قوات الشرطة، بقيت الجرائم
ملصقة «بعناصر مسلحة مجهولة الهوية». وما يمنح المجرمين الحصانة من
العقاب هو تعرض عدد من المحققين الذين عملوا في قضايا حساسة للانتقام.
حيث يعطينا تقرير لليونامي، على سبيل المثال، تفاصيل قتل ضابط
استخبارات كلفّته محكمة تحقيق البصرة بالتحقيق في قضايا «فرق الموت»
بدعم من ضباط الاستخبارات التابعة لوزارة الداخلية. وسُجلت الجريمة ضد
« عناصر مسلحة مجهولة». وفي 7 كانون ألاول 2021، انفجرت، في البصرة،
عبوة ناسفة كانت موضوعة في دراجة نارية مما أسفر عن مقتل مدنيين وإصابة
أربعة آخرين بعد فترة وجيزة من مرور ضابط تحقيق في سيارة. كان ولايزال
للبصرة المعطاء نصيبها من الظلم الجاثم على الصدور، بعموم العراق والذي
لن يشفيه تناول مسكن الآلام لمدة إسبوع، بل إيجاد حل علاج جذري لانتشار
فايروس الفساد والطائفية وكل ما تم استحداثه لديمومتهما.
كاتبة من العراق
لِم الاحتفال بالعام الجديد؟
هيفاء زنكنة
ما الذي يدفع الناس لتبادل التمنيات والتهاني في لحظة واحدة من منتصف
ليلة محددة في العام وكأنهم منشدون في فرقة تعزف لهم لحنا جماعيا لا
يُعزف في وقت آخر؟
لماذا: كل عام وأنتم بخير. ولنبدأ بسنة جديدة ملؤها الحب والوفاء
والتسامح. سنة سعيدة وهانئة للجميع. تمنيات نتلقاها ونسمعها من ملايين
الناس في أرجاء المعمورة في يوم محدد من العام. يتبادلها الكل ، جامعة
ما بين التمنيات الفردية والجماعية سواء ضمن الأسرة أو الملتقيات
العامة أو ، وهو الأكثر انتشارا هذه الأيام، مواقع التواصل الاجتماعي.
لننطلق نحو فضاء جديد. لتتحقق آمالنا المشتركة. لا تدع الخيبات الصغيرة
تُنسيك بأنكَ لستَ شخصًا عاديًا. ستكون أقوى وأفضل حالا. هكذا تعدُنا
الرسائل المتبادلة بداية العام الجديد بفحواها الإيجابي ومتعة
المشاركة. «لا نستمتع بالمتعة ما لم نشاركها»، تُذّكرنا الكاتبة
الإنكليزية فيرجينيا وولف التي كانت تعاني من الاكتئاب ورضخت أخيرا
للمرض فوضعت حدا لحياتها، على الرغم من مقاومتها الإبداعية المتمثلة
بالروايات والمؤلفات النقدية. فهل مشاركة التمنيات بالسعادة والهناء،
ولو ليوم واحد، هو محاولة لإبعاد شبح القلق والكآبة الجماعية التي تحيط
بنا ونحن نعيش في خضم دورة إخبارية على مدار الساعة، طيلة أيام العام،
تهيمن عليها قصص العنف والحرب والكوارث الطبيعية والفساد؟ وما الذي
يمنح التلويح مودعين لعام واستقبال عام آخر، في دقيقة محددة، خصوصيته،
على الرغم من إدراكنا الواعي بأنه ليست هناك عصا سحرية ستحيل، في تلك
اللحظة المحددة، ظلمة الليل إلى نهار مشرق يحتضن فيه الناس أنفسهم
والآخرين؟ هل هو التشبث بتعويذة الأمل والحلم باحتفالات طالما مورست
عبر التاريخ ولسنا ، أبناء العصر الحالي أبناءها؟
السعادة ليست فردية بل هي ظاهرة جماعية. وأن علاقاتنا بالآخرين ، قد
تكون هي الأكثر أهمية. وهو مفهوم ينطبق على أسلافنا الذين عاشوا في
الكهوف، والذين شكلوا هياكل اجتماعية لزيادة احتمالات بقائهم على قيد
الحياة
في بابل، احتفل البابليون، قبل حوالي 4000 عام، بشرف وصول العام الجديد
بظهور أول قمر في أواخر شهر آذار/ مارس احتفاء بلحظة شروق الشمس ترحيبا
بمجيء النور بعد الظلام. أقاموا بهذه المناسبة مهرجانا دينيا كبيرا
يسمى أكيتو (مشتقة من الكلمة السومرية للشعير ، الذي يُحصد في الربيع).
تستمر احتفالاته كما هي الاحتفالات الحالية عدة أيام كما في بعض
البلدان. إلا أن الرومان اختاروا تغيير ذلك فأصبح الأول من يناير/
كانون الثاني بداية العام ، لتكريم الشهر الذي يحمل الاسم نفسه: يانوس
، وهو إله البدايات الروماني ، الذي يسمح له وجهاه بالنظر إلى الماضي
وإلى الأمام في المستقبل، تتويجا لتلك اللحظة المُحتفى بها حاليا.
وللطقوس الرومانية يعود الكثير مما نشهده اليوم. فقد احتفل الرومان
بتقديم التضحيات إلى يانوس ، وتبادل الهدايا مع بعضهم البعض ، وتزيين
منازلهم بفروع الغار وحضور الحفلات الصاخبة. أما أوروبا العصور الوسطى
، فقد شهدت تغيرا جمع بين الاختيار البابلي والروماني حين استبدلت
الكنيسة، مؤقتًا الأول من يناير باعتباره الأول من العام بأيام تحمل
أهمية دينية مسيحية، مثل 25 ديسمبر/ كانون الأول (ذكرى ميلاد المسيح) و
25 آذار/ مارس (عيد البشارة) ؛ إلى أن أعاد البابا غريغوري الثالث عشر
تأسيس يوم 1 يناير كيوم رأس السنة الجديدة في عام 1582 .
ولكن، كيف استطاعت طقوس ما قبل آلاف السنين التسلل إلى عصر مابعد
الحداثة وما بعد الحقيقة وأوجه التواصل الاجتماعي المتسعة عبر
التغريدات والواتس آب والانستغرام، لتصبح هذه المستجدات كلها أدوات
للاحتفال وتبادل التهاني والسعادة بعام جديد عابر للقارات؟ وهل يمتد
السؤال ليضم لم الاحتفال بالعام الجديد؟ لم السعادة؟ لم الضحك؟ الضحك
ألذي أثار خوف الكنيسة في القرون الوسطى وجعل الإمام الحسن عند مروره
بشاب يضحك إلى تقريعه قائلا: هل مررت على الصراط؟ قال: لا، قال: وهل
تدري إلى الجنة تصير أم إلى النار؟ قال: لا، قال: فما هذا الضحك؟ فما
رؤي هذا الشاب بعد ضاحكا.
بعيدا عن الحفر التاريخي الذي قد نحمله في دواخلنا، يخبرنا علماء النفس
بأننا بحاجة ماسة لسماع أخبار جيدة، وتبادل التهاني والتمنيات بالصحة
والسعادة هو نوع من مشاركة الأخبار المفرحة التي تؤثر بشكل إيجابي على
الآخرين، وأننا نستخدم وسائل التواصل الاجتماعي كوسيلة لخلقها ونشرها.
فمن خلال مشاركة إيجابية واحدة، يمكنك إضفاء البهجة أوالتفاؤل أو
الراحة أو الامتنان على يوم شخص حتى لو لم تلتق به من قبل.
ولأن البداية في كل المشاريع المغموسة بالأحلام توحي بالتفاؤل، فإن ما
نتمناه ونطمح اليه لأنفسنا والآخرين هو شحن للأحلام في أن تكون تلك
الدقيقة الفاصلة بين ليلة وليلة، هي محطة النهاية والبداية، والانتقال
من حال إلى آخر، على ايقاع أصوات تُردد العد التنازلي من العشرة إلى
الصفر، وممارسة طقوس تنشد السعادة . السعادة التي أصبحت في عصر التواصل
الاجتماعي، كما تُشير الدراسات، شديدة العدوى مثل الفيروسات والأمر
ذاته ينطبق على المشاعر السلبية. فالكتابات ألتي تُستخدم فيها كلمات
مثل «فرح ، وحب ، ورائع، وجميل» أو تبادل قطعة موسيقية أو أغنية مشحونة
بالعواطف أو ذكريات « الزمن الجميل» تتم مشاركتها بنسبة 70 بالمئة أكثر
من الكتابات ألتي تضم مفردات « قلق ، ومؤلم ، وحزين، وقبيح». ووجد
علماء تتبعوا الاستجابات العاطفية لمستخدمي الفيسبوك في ألمانيا
والولايات المتحدة أن قراءة المشاركات الإيجابية لأشخاص آخرين تثير
السعادة في 64 بالمئة من الناس. كما أن مشاركة الأخبار الإيجابية لها
مزايا مباشرة على كاتبها أو موزّعها. إذ يزيد إيصال التجربة الإيجابية
التي يمر بها الشخص إلى آخر من تأثير التجربة الإيجابية نفسها لأنه
سيعيشها ويستمتع بها من جديد. وإذا كان من المعروف أن الضحك مُعد، فقد
اتضح، الآن، أن السعادة كذلك. وأظهرت دراسة نُشرت في المجلة الطبية
البريطانية ، أن السعادة ليست فردية بل هي ظاهرة جماعية. وأن علاقاتنا
بالآخرين ، قد تكون هي الأكثر أهمية. وهو مفهوم ينطبق على أسلافنا
الذين عاشوا في الكهوف، والذين شكلوا هياكل اجتماعية لزيادة احتمالات
بقائهم على قيد الحياة. فهل هذا هو السبب الذي يجعلنا نتبادل التهاني
والتمنيات بالخير والسعادة كطوق نجاة، ولو لبضع ساعات، في بحر الحروب
والمآسي المحيط بنا؟
الاتجار بالبشر بين
المهربين والحكومة البريطانية
هيفاء زنكنة
في خضم الاحتفالات بعيد الميلاد وفرحة الناس باستقبال عام جديد وتغني
المحتفلين بالتواصل الإنساني، تواصل الحكومات الغربية بناء الجدران
العالية حول حدودها لمنع المهاجرين الهاربين من الحروب والنزاعات
والكوارث البيئية من الوصول إلى بر الأمان، بذريعة حماية مصالح
مواطنيها بل وحماية حياة المهاجرين أنفسهم من وحشية المهربين. فما إنْ
تنشر وكالات الأنباء أخبار مهاجرين يلقون حتفهم أثناء محاولتهم عبور
بحر المانش (القناة الإنكليزية) على متن قوارب طلباً للجوء في المملكة
المتحدة، مثلا، حتى يُسارع السياسيون في جميع أنحاء أوروبا، وليس في
بريطانيا وفرنسا فقط، للتعبيرعن صدمتهم وحزنهم، في ذات الوقت الذي
يعملون فيه على منع اللاجئين من الوصول بمختلف الطرق ومنها استحداث
تغييرات في قوانين الهجرة وإصدار تشريعات تفرض العقوبات على طالبي
اللجوء بل وتجريمهم، ليسقط المهاجرون ضحايا محترفي الإتجار بالبشر من
جهة والساسة الغربيين، محترفي الزيف والمعايير المزدوجة من جهة أخرى.
تحتل بريطانيا مركز الصدارة في إبداء الأسى حول محنة المهاجرين ظاهريا
ومعاقبتهم عمليا. فبينما وقفت وزيرة الداخلية البريطانية، سولا
بريفرمان، في البرلمان، لتُعبر عن أساها العميق لمقتل أربعة مهاجرين
بعد انقلاب قاربهم في القناة الإنكليزية في الساعات الأولى من صباح 20
ديسمبر/كانون الأول، ملقية اللوم على معاملة المهربين الوحشية
للمهاجرين، تعهدت بتسريع تنفيذ القوانين الجديدة عن كيفية التعامل معهم
بعد أن وصفتهم بأنهم غير قانونيين ويغشّون النظام، ووضع القيود الصارمة
على طالبي اللجوء، المؤجلة قضاياهم، منذ سنوات أحيانا، مع استمرار
احتجازهم في ظروف وصفها المتحدث باسم منظمة العفو الدولية بأنها «غير
إنسانية، بما في ذلك احتجازهم في ثكنات عسكرية سابقة تفشت فيها حالات
الإصابة بفيروس كوفيد».
وقد أثارت سياسة الحكومة البريطانية الداعية إلى ترحيل طالبي اللجوء
إلى رواندا، خاصة بعد إصدار المحكمة العليا قرارها بأن خطة حكومة حزب
المحافظين لإرسال الأشخاص الذين يسعون للحصول على الحماية في المملكة
المتحدة إلى رواندا، في وسط إفريقيا، قانونية، غضب الناشطين والمنظمات
الحقوقية والإنسانية. كما دفع قرار رئيس الوزراء ريشي سوناك عقد صفقة
بقيمة 140 مليون جنيه إسترليني مع فرنسا، لمنع وصول المهاجرين إلى
بريطانيا، فولكر تورك مفوض حقوق الإنسان في الأمم المتحدة إلى التصريح
لصحيفة الغارديان بأنه قرار يثير مخاوف خطيرة للغاية سواء من منظور
حقوق الإنسان الدولية أو من منظور قانون اللاجئين الدولي مستخلصا بأنه
من غير المرجح أن ينجح. وحث الحكومة البريطانية على إعادة النظر في
خططها لترحيل طالبي اللجوء إلى رواندا، محذرا من أن مخططات «النقل إلى
الخارج» المماثلة في الماضي أدت إلى معاملة «غير إنسانية للغاية»
للاجئين.
اقتراح حزب المحافظين ترحيل طالبي اللجوء من بريطانيا إلى رواندا جاء
تلبية لما تريد تحقيقَه الغالبيةُ العظمى من الشعب البريطاني
في المقابل يقول ريشي سوناك إنه يستند في قراراته عن الهجرة إلى
«الأولوية المطلقة للشعب البريطاني وهي السيطرة على الهجرة غير
الشرعية». وتقول وزيرة الداخلية إن اقتراح حزب المحافظين ترحيل طالبي
اللجوء من بريطانيا إلى رواندا جاء تلبية لما تريد تحقيقه الغالبية
العظمى من الشعب البريطاني، لذلك ستعمل على تنفيذه «على نطاق واسع
وبأسرع وقت ممكن».
هل صحيح أن قرار حكومة المحافظين جاء تلبية لرغبة الشعب البريطاني؟
تقدم معطيات مؤسسة «أبسوس الدولية» لسبر الرأي، وهي واحدة من عدة، صورة
مختلفة عما يدّعيه رئيس الوزراء البريطاني ووزيرة الداخلية حول رغبة
الشعب في تقليل عدد اللاجئين القادمين إلى بريطانيا. إذ يبين الاستبيان
أن دعم تقليل الهجرة في أدنى مستوى له منذ إجراء مسح التتبع لأول مرة
في شباط/فبراير 2015، وأن عددا أكبر من الناس يشعرون أن الهجرة كان لها
تأثير إيجابي على بريطانيا (46 في المئة) من تأثيرها السلبي (29 في
المئة) وأن 42 في المئة فقط يؤيدون تخفيض الهجرة، فيما يفضل 26 في
المئة بقاءها كما هي، و 24 في المئة يرغبون بزيادتها. ويعتقد 52 في
المئة من عموم الشعب البريطاني و 43 في المئة من مؤيدي حكومة حزب
المحافظين أن «خطة رواندا» لن تنجح في تقليل عدد الأشخاص القادمين إلى
المملكة المتحدة لطلب اللجوء دون إذن. كما يعتقد 34 في المئة من
الجمهور أنه من المرجح أن البرنامج سيثني اللاجئين الحقيقيين عن التقدم
بطلب اللجوء وهي نتيجة مأساوية لمن يعانون ويلات الحرب والتعذيب
وانتهاكات حقوق الإنسان ومن حقهم اللجوء إلى مكان آمن وليس الترحيل إلى
مكان يعاني سكانه، أنفسهم، من انتهاكات حقوق الإنسان.
وإذا كانت الحكومات الاوربية تطبل وتزّمر لإنسانيتها في استقبال
اللاجئين وتشرع القوانين المنتهكة للقوانين الدولية والإنسانية لمنع
وصولهم إلى أراضيها فإن واقع الحال المدعوم بإحصائيات الأمم المتحدة
يبين أن ألمانيا هي الدولة الأوروبية الوحيدة التي استقبلت 1.2 مليون
لاجئ من بين 12 دولة أخرى، استقبلت ملايين اللاجئين في الأعوام
الأخيرة. حيث يوجد في تركيا مثلا 3.6 مليون سوري وعراقي، وفي باكستان
1.5 أفغاني، و3.6 مليون في أوغندا ومعظمهم من جنوب السودان، ومليون في
لبنان وما يعادله في السودان ومليون في أثيوبيا من مهاجري السودان
وأرتيريا والصومال. هذه الأرقام المليونية من المهاجرين إلى بلدان
تعاني هي نفسها من الفقر، في تزايد مستمر، كونها مجاورة لبلدان نشبت
فيها حروب، غالبا ما تغذيها صناعة السلاح والحروب الأمريكية ـ
الأوروبية ـ الإسرائيلية، بشكل لامثيل له، والتي تشكل العمود الفقري في
تحالفاتها السياسية والاقتصادية مهما كان الثمن البشري.
إن أي مراجعة سريعة لأسباب الحروب والاحتلال في أرجاء العالم ستأخذنا
إلى الدول الرافضة لاستقبال اللاجئين ذاتها. فمن هو المسؤول عن إقامة
الكيان الصهيوني وتهجير الشعب الفلسطيني؟ ومن هو المسؤول عن الحرب في
أفغانستان؟ ماذا عن غزو واحتلال العراق ونهب ثروته وتشريد أهله؟ هذا هو
بالضبط ما تحاول الحكومة البريطانية ممثلة برئيس وزرائها ووزيرة
الداخلية (المفارقة أن كليهما من عوائل مهاجرة) والحكومات الأوروبية
وأمريكا، تزويره والتظاهر بالإنسانية ومعارضة الإتجار بالبشر بينما
يثبت حاضرهم، كما هو تاريخهم، أن ما يقومون به هو الإتجار بالبشر.
كاتبة من العراق
هستيريا التشويه الصهيوني
لفوز الفريق المغربي
هيفاء زنكنة
منح الفريق المغربي متابعي بطولة كرة القدم، في أرجاء العالم، ساعات
فرح نقية قلما يحظى بها الكثيرون، خاصة من (الشعوب العربية والافريقية
والمسلمة والأمازيغية). مع ملاحظة أن هذه التوصيفات ليست من عندي بل
أنها خلطة مُسميات أُطلقت على الفريق المغربي، من قبل المشجعين والنقاد
والمعلقين، كل حسب إنتمائه القومي والديني، إما اعتزازا بالانتماء أو
مشاركة بالفوز أو «النصر»، المعروف بندرته في عالمنا.
كما نجح الفريق في توحيد مشاعر الفخر والاعتزاز بالانتماء والهوية بين
المشجعين المماثل، الى حد كبير، بما ساد حول تنظيم البطولة، بالإضافة
الى التعبير الجماهيري الرمزي، برفع الأعلام، الدال على حضور وتجذر
عدالة القضية الفلسطينية. وهو إنجاز لم يغب عن أنظار أجهزة الإعلام
الصهيونية، داخل كيان الاحتلال الصهيوني وخارجه، فشنت حملة مكثفة تجمع،
بشكل مباشر وغير مباشر، وعلى مختلف المستويات، بين التشويه والتلفيق و
«مظلومية الضحية الأبدية» المتناسلة عبر الأجيال.
وقد وجدت، عند قراءتي، عددا من المقالات المنشورة ضمن الحملة، خاصة تلك
المنشورة على المواقع الصهيونية الأمريكية، التي تقدم نفسها كمؤسسات
فكرية ومراكز سياسات « تفتخر بتحدي الأكاذيب والتحريفات السائدة عن
إسرائيل في سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط»، تركيزها على «
المظلومية» وكونها ضحية عداء مستديم. وهو مفهوم استطاعت الحركة
الصهيونية تسويقه عالميا قبل تأسيس الكيان الصهيوني ولاتزال بعد تأسيس
الكيان بمسميات مختلفة، لعل مثالها الأبرز، أخيرا، ما وصفه مركز أمريكي
صهيوني بأنه «الواقع الإسرائيلي للعيش وسط بحر من الرفض والعداء
المطلق»، مشيرا بذلك إلى «مشاعر العداء والغضب التي تعرض لها المراسلون
والصحافيون الإسرائيليون، في قطر، مما أجبر الكثيرين منهم على العودة
إلى إسرائيل»، ومتباكيا بأن «جميع المراسلين والصحافيين الإسرائيليين
تعرضوا تقريبًا للإذلال والعداء والتهديدات العلنية».
وتزخر الحملة الصهيونية بأمثلة ردود الفعل الجماهيرية ضد مراسلي الكيان
الصهيوني أثناء «مهرجان الكراهية»، حسب التسمية الصهيونية لبطولة كأس
العالم.
من بين الأمثلة التي نشرت، عبر الفيديو، استخدام الجمهور تعابير غاضبة
على غرار : «أنتم غير مرحب بكم هنا. لا إسرائيل، فقط فلسطين!» و
«لايوجد شيء اسمه إسرائيل». وكيف اضطر أحد المراسلين إلى القول بأنه من
البرتغال وسارع مذيع إلى القول بأنه من الأكوادور إزاء استهجان الجمهور
لوجودهم. واعتبرت «مؤسسات الفكر» الصهيونية حمل المشجعين للأعلام
الفلسطينية ترويعا وترهيبا ضد المراسلين، في ذات الوقت الذي ترى فيه أن
قتل الأطفال الفلسطينيين، وقصف وتهديم البيوت، والاستيلاء على الأراضي
الفلسطينية لبناء مستوطنات الاحتلال ومنع الفلسطيني من العودة إلى
وطنه، فعلا ضروريا للقضاء على الإرهاب وبيع بضاعة «السلام».
كان من الطبيعي أن ترتفع درجة الهستيريا الصهيونية في حملة التزوير
والتشويه، إزاء الحماس الجماهيري العارم لفوز الفريق المغربي، وإصرار
الفريق على الربط بين الفوز الكروي الآني والأمل بالنصر الفلسطيني
متمثلا برفع العلم
ولم تسلم قطر التي وافقت، حسب موقع «منتدى الشرق الأوسط» الصهيوني
الأمريكي الذي يترأسه دانيال بايبس، على «استضافة المراسلين والمشجعين
الإسرائيليين مؤقتا» من رذاذ الهجوم، فكان الاستطراد بأن الاستضافة تمت
«على الرغم من موقف قطر المعروف المتمثل في الترويج للكراهية المعادية
لإسرائيل ومعاداة السامية ودعم منظمة حماس الإرهابية»، وكيف أن
الموافقة تمت بناء على طلب «غير قابل للتفاوض من قبل الاتحاد الدولي
لكرة القدم ( الفيفا) المنظّم للبطولة»، خاصة وأن قطر حصلت على دعم
الاتحاد فيما يخص منع حضور المثليين. ويخلص موقع المنتدى إلى «أن
الكراهية التي يعيشها الإسرائيليون في قطر هي عينة تمثيلية للدول ذات
أسوأ أنواع الالتزام الثقافي والديني بمعاداة الصهيونية. ومع ذلك، ليس
هناك شك في أن مثل هذا العداء لم يكن ليحدث لولا السياسة والمناخ
الرسميان المناهضان لإسرائيل الذي تصر قطر على الحفاظ عليه وتمويله
محليًا وإقليميًا». يتعامى الموقع هنا في خلاصته عن ذكر أن شعوب الكثير
من دول العالم، من بينها بريطانيا صاحبة وعد بلفور، وأمريكا الراعية
الأولى للكيان، باتت، في العقود الأخيرة، جراء وحشية وعنصرية النظام
الصهيوني، متهمة هي الأخرى، كما العرب والمسلمين، بمعاداة الصهيونية
حينا والسامية حينا آخر وذلك لوقوفها بجانب نضال ومقاومة الشعب
الفلسطيني. لم تعد القضية الفلسطينية تقتصر على الشعوب العربية
والإسلامية، كما يدّعي الصهاينة لتبرير جرائمهم، بل امتدت ليتم تبنيها
كرمز عالمي لتحقيق العدالة، في أرجاء العالم، خاصة بعد نجاح وشعبية
حركة المقاطعة الاقتصادية والثقافية.
لذلك كان من الطبيعي أن ترتفع درجة الهستيريا الصهيونية في حملة
التزوير والتشويه، إزاء الحماس الجماهيري العارم لفوز الفريق المغربي،
وإصرار الفريق على الربط بين الفوز الكروي الآني والأمل بالنصر
الفلسطيني متمثلا برفع العلم واحتضانه عند كل فوز. ومن الطبيعي أن
تزداد الهستيريا شراسة، فكل «ألف مبروك لأسود الأطلس»، « ومبارك لكم
الفوز» على مواقع التواصل الاجتماعي وفي الاتصالات الهاتفية واللقاءات
العائلية والبرامج التلفزيونية والاحتفالات في الأماكن العامة، تحول
تدريجيا إلى «مبارك لنا الفوز». صار عنوانا ونشيدا وأغنية واستعادة
للأمل في الوحدة الجماهيرية والتحرر من عبودية الاحتلال الصهيوني في
وقت تحاول فيه حكومات عربية إقناع الشعوب بأنها ضعيفة، بلا قدرة على
التغيير، وأن الحل الوحيد هو التطبيع وتناول ما يرميه الغرب إليها من
فتات «اتفاق أبراهام» بمباركة أمريكا.
هل صحيح أن ما عبر عنه لاعبو الفريق المغربي ومن قبله التونسي من حب
للشعب الفلسطيني وإيمان بقضيته، عبر رفع العلم، ما كان سيحدث لولا
«السياسة والمناخ الرسميان المناهضان لإسرائيل في قطر» كما يدّعي دعاة
الحملة الصهيونية؟ لا أظن ذلك، فتحرير فلسطين مطلب يمتد عميقا في وعي
الشعوب، كان قبل المونديال وسيبقى بعده، ثم أن مساندة القضية
الفلسطينية ومناهضة الكيان الاستيطاني الصهيوني ليست جريمة تُشعر المرء
أو الحكومات بالعار. إنها موقف مبدئي أخلاقي وانساني وقانوني يرفع
الرأس فخرا واعتزازا ويُفرح القلوب كما فعل فريق أسود الأطلس، ونأمل أن
يفعل دوما.
كاتبة من العراق
(في مثل هذا اليوم) من اسكتلندا:
يوميات تصنيع كيان ومقاومة شعب
هيفاء زنكنة
هل بإمكاننا أن نُحدثُ تغييرا، في أي مجال عام، ونحن نعيش في عصر تزخ
فيه الأخبار السيئة على رؤوسنا بشكل يومي؟
هل من قيمة للمبادرة الفردية وأنشطة التضامن إزاء أنظمة تقتات على
تجارة السلاح وهدفها الأول والأخير الهيمنة على الشعوب بمساعدة حكام
محليين يديرون التضليل والقمع بالوكالة؟ ماذا عن الأنشطة الجامعة بين
التوعية والتوثيق والحفاظ على الذاكرة، في عصر يتميز بكثافة التضليل
الأعلامي وفبركة الأخبار؟
عشرات الأسئلة يثيرها يوم 29 تشرين الثاني/ نوفمبر، وقرار الجمعية
العامة للأمم المتحدة، المؤرخ 2 كانون الأول/ديسمبر1977 للاحتفال به من
كل عام باعتباره اليوم الدولي للتضامن مع الشعب الفلسطيني، وهو ذات
اليوم من عام 1947 الذي اعتمدت فيه الجمعية العامة قرار تقسيم فلسطين.
تأخذنا محاولة العثور على أجوبة إلى النظر في نوعية النشاطات المنظّمة
بمناسبة «اليوم». حيث تقام، في كل عام، نشاطات كثيرة، في أرجاء العالم،
من بينها نشاطات رسمية لحكومات تساهم، عمليا، في ديمومة الاحتلال
وتبرير جرائم وانتهاكات المحتل اليومية ضد الشعب الفلسطيني، بينما
تدّعي العكس لتتجنب أما إغضاب شعوبها كما في البلدان العربية أو إغضاب
الكيان الصهيوني شاهر سلاح «معاداة السامية» في البلدان الغربية. هناك،
أيضا، فعاليات تحييها منظمات الأمم المتحدة، والمنظمات الحقوقية
الدولية ومنظمات المجتمع المدني في عديد البلدان، ويتبنى معظمها خطاب
الأمم المتحدة الرسمي «للتوعية بمحنة الشعب الفلسطيني وحشد الدعم
لنضاله في سبيل نيل حقوقه غير القابلة للتصرّف». ما يميز هذه النشاطات،
بالدرجة الأولى، كونها مرتبطة بـ «اليوم» الذي دعت إليه الأمم المتحدة،
بينما يعيش الشعب الفلسطيني في سجن الاحتلال في كل دقيقة من دقائق
يومه، بسنوات الاحتلال حيث «جدران بيتك تحفظ عن ظهر قلب وجوه القذائف،
وأنت بباب المشيئة واقف، وصوتك نازف، وصمتك نازف، تلم الرصاص من الصور
العائلية، وتتبع مسرى الصواريخ في لحم أشيائك المنزلية، وتحصي ثقوب
شظايا القنابل في جسد الطفلة النائمة»، كما صورّها الشاعر الراحل سميح
القاسم، ولا تزال متمثلة في معاناة الفلسطيني ومقاومته ألتي تُعري قتلة
الاحتلال وهم ينفذون جرائمهم وإعداماتهم في الشوارع العامة.
من هنا، من ديمومة المقاومة الفلسطينية التي يدفع الفلسطيني حياته ثمنا
لها، تنبع ضرورة استمرار التضامن العالمي، بشكل يومي، مهما كان حجمه،
ليكون جزءا لايتجزأ من إثبات الإنسان لإنسانيته وتعطشه لتحقيق العدالة،
وألا يقتصر على يوم واحد في السنة وألا يختزل النضال لتحرير فلسطين
التاريخية ووصف الاستعمار الصهيوني الاستيطاني بأنه نزاع.
إن مبادرة « في مثل هذا اليوم»، التي يشارك في إعدادها ونشرها قلة من
الناشطين المؤمنين بعدالة القضية الفلسطينية، تؤكد أهمية مبادرات
التضامن العالمية
من بين المنظمات الناشطة في تطبيق هذا الموقف المبدئي، على الرغم من
حملات التشويه التي تتعرض لها تحت مزاعم «معاداة السامية»، هي «حملة
التضامن الاسكتلندية مع فلسطين»، التي أسسها الناشط الحقوقي ميك
نابيار، عام 2000، وتديرها الناشطة صوفيا ماكلاود. تهدف الحملة إلى
التوعية، وتحشيد المعارضة العامة لمشروع الاستعمار الاستيطاني
الصهيوني، وتواطؤ حكومة المملكة المتحدة لدعم إسرائيل، وإرسال رسالة
تضامن قوية مع مقاومة الشعب الفلسطيني، من خلال عديد النشاطات ومن
بينها المشاركة العملية في حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض
العقوبات على إسرائيل حتى تنهي احتلال الأراضي الفلسطينية.
لمواجهة الحملات المحمومة لمحو الذاكرة وكتابة التاريخ وفق الأجندة
الصهيونية الاستعمارية، شرعت الحملة، قبل عامين، باستحداث «في مثل هذا
اليوم» باللغتين الانكليزية والعربية. مستفيدة من التطور التقني في
أسلوب التواصل، وفرت الحملة «في مثل هذا اليوم» للاستلام عبر الواتس
آب، بالإضافة إلى موقع الحملة الرسمي وصفحتها على الفيسبوك. وهي خدمة
مجانية، يصفها محمد عيسى، أستاذ الفيزياء المتقاعد، ومترجمها إلى
العربية، بأنها «فكرة بسيطة لمذكرات باتت تجذب جمهورًا متزايدًا من
جميع أنحاء العالم. « في مثل هذا اليوم»، ليس مجرد سجل جاف للحقائق
التاريخية، بل أكثر من ذلك بكثير… في وقت يتم فيه إسكات أصوات
الفلسطينيين ومحو روايتهم وتاريخهم».
ويستطرد قائلا «عندما طُلب مني إجراء الترجمة العربية لليوميات، أدركت
فجأة مدى ضآلة تعرضنا للتاريخ الفلسطيني بشكل يسهل الوصول إليه». وهو
ذات الاحساس الذي انتابني وأنا أتابع ما أستلمه، يوميا، منذ عامين على
هاتفي المحمول، من يوميات موثقة، كان بعضها أما مدفونا في ملفات سرية
أو لعلها ضائعة في زخم المتوفر من غث وسمين. فإذا كان هذا احساسنا، نحن
الذين درسنا تاريخ فلسطين ونحمل فلسطين بدواخلنا، فكيف بالغربي الذي لم
يكن حتى فترة قصيرة يرفض حتى لفظ اسم فلسطين ناهيك معرفته بتاريخ
الاحتلال وما قاد إلى تصنيع الكيان الصهيوني؟
من بين اليوميات، مثلا، تذكير بما حدث في 24 نوفمبر من عام 1940، حين
قامت المجموعتان الصهيونيتان الإرهابيتان الهاغاناه بالتنسيق مع
الإرغون بتهريب قنبلة ضخمة على متن سفينة في ميناء حيفا. كانت السفينه
باتريا س س تنقل آخر 1800 لاجئ يهودي من ألمانيا النازية متجهين إلى
موريشيوس، حيث توجد منشآت لتوفير ملاذ آمن للاجئين. تم تفجير القنبلة
في الساعة التاسعة من صباح اليوم التالي، مما أسفر عن مقتل 267 وإصابة
172 آخرين.
كان هدف الاعتداء منع مغادرة أي يهودي من فلسطين. أما في 4 ديسمبر، عام
1948، فقد نشر ألبرت أينشتاين وعدد من اليهود الأمريكيين البارزين
رسالة في صحيفة « نيويورك تايمز» تدين حزب حيروت، سلف حزب الليكود
برئاسة نتنياهو حاليا، باعتباره «قريبًا جدًا في تنظيمه وأساليبه
وفلسفته السياسية وجاذبيته الاجتماعية من الأحزاب النازية والفاشية «.
استخدم حيروت «أساليب العصابات» و«افتتح عهد الإرهاب ضد الجالية
اليهودية في فلسطين» وكذلك ضد الفلسطينيين. مُنح مؤسس حيروت مناحيم
بيغن على جائزة نوبل للسلام بعد 30 عامًا.
إن مبادرة « في مثل هذا اليوم»، التي يشارك في إعدادها ونشرها قلة من
الناشطين المؤمنين بعدالة القضية الفلسطينية، تؤكد أهمية مبادرات
التضامن العالمية، وما توفره للقراء، سهلة القراءة، عميقة وقصيرة،
بعيدة عن رطانة الخطب، مما يجعلها أقرب إلى ومضة نور في محيط مظلم أو
مفتاح باب يقود إلى فضاء معرفة أوسع.
كاتبة من العراق
السيادة العراقية المنتهكة
هيفاء زنكنة
أعلنت الحكومة العراقية، يوم الأربعاء الماضي، عن اتخاذ قرارات لوضع
خطة لإعادة نشر قوات عراقية على طول الحدود مع إيران وتركيا لتأمين
الحدود في إطار العمل على وقف الاعتداءات والخروقات التركية
والإيرانية، التي شهدتها الحدود العراقية مؤخرا. وهو إعلان تشي تركيبته
«اتخاذ قرارات لوضع خطة» بأنه قد لا يزيد عن كونه إعلانا مجانيا آخر
مقابل التوغل التركي ـ الإيراني داخل العراق والكولونيالية الأمريكية
الجديدة بمستوياتها المتعددة.
كما هو معروف، لم يتوقف سيل الاجتماعات الرسمية، يوما في العراق،
للتأكيد على « أهمية الحفاظ على سيادة العراق وما تحقق من منجزات
أمنية»، ومن بينها ما أخبرنا عنه مستشار الأمن القومي، قاسم الأعرجي،
في تغريدة له بأنه التقى رئيس ائتلاف النصر، حيدر العبادي، يوم السبت
الماضي وبحثا موضوع سيادة العراق، في ذات اليوم الذي التقى فيه رئيس
مجلس الوزراء، محمد شياع السوداني، مع رئيس الاتحاد الوطني الكردستاني
بافل طالباني، وبحثا «ملف تأمين الحدود العراقية».
تهدف اجتماعات « التباحث» كلها إلى التصريح بأن «سيادة العراق» هي محط
اهتمام الساسة العراقيين، من مختلف الأحزاب، وعلى رأسهم المسؤولون
الحكوميون، بالإضافة إلى كونها «مصدر قلق» دولي. وعلى مدى العشرين عاما
الأخيرة، بات موضوع «السيادة»، مصدر رزق لباعة الورق واستديوهات
الأخبار التلفزيونية، ومزايدات الساسة في مجلس النواب، وأطنان البيانات
والتصريحات الرسمية. فالسيادة، كما هو كل شيء آخر في «العراق الجديد»،
من الإنسان إلى البيئة، لا تزيد عن كونها بضاعة مُغلّفة بورق صقيل
للاستهلاك المحلي والدولي. بضاعة لم يعد بالامكان التعرف عليها لفرط
تبادلها في سوق المزايدات السياسية. وإلا ما معنى أن يجد من يراجع عدد
عمليات القصف والتوغل التركي / الإيراني، في الأراضي العراقية، أنه
إزاء قائمة طويلة من الانتهاكات المارة مرور الكرام على الرغم من أنها
تسبب في كل مرة، تقريبا، سقوط الضحايا وترويع السكان وتهديم البيوت
بالإضافة إلى خرق الاتفاقيات بين العراق وتركيا من جهة والعراق وإيران
من جهة أخرى ناهيك عن المواثيق الدولية؟
تبلغ مفارقة الاستهانة بمعنى السيادة الوطنية وحياة المواطنين ذروتها
حين تغطي كل دولة انتهاكاتها بذريعة «الحفاظ على الأمن القومي» ومكافحة
الإرهاب، في ذات الوقت الذي تدين فيه ما تراه اعتداء او جريمة الآخرين
في مراجعة سريعة لوضع «السيادة العراقية»، المنتهكة، باستمرار، سنجد أن
تصريحات الساسة العراقيين للانتهاكات تتماشى مع ولائهم لهذه الجهة أو
تلك أكثر منها لصالح موقف وطني عراقي. ففي الوقت الذي يقف فيه فريق من
الساسة للتاكيد بأن استمرار انتهاك تركيا للسيادة العراقية أمر خطير،
ومع تندّيد رئيس الوزراء العراقي السابق مصطفى الكاظمي، بارتكاب
«القوات التركية انتهاكا صريحا وسافرا للسيادة العراقية»، كان الصمت هو
اللغة السائدة إزاء توغل القوات الإيرانية في الأراضي العراقية منذ
أبريل 2006، وقصفها داخل الحدود بالمدفعية الثقيلة. ويصادفه، في الوقت
نفسه، ترحيب بقصف أمريكي مهما كان عدد الضحايا.
وتبلغ مفارقة الاستهانة بمعنى السيادة الوطنية وحياة المواطنين ذروتها
حين تغطي كل دولة انتهاكاتها بذريعة «الحفاظ على الأمن القومي» ومكافحة
الإرهاب، في ذات الوقت الذي تدين فيه ما تراه اعتداء او جريمة الآخرين.
فقد برّرت إيران قصفها كردستان العراق، في رسالة إلى مجلس الأمن
الدولي، بعدم وجود «خيار آخر» لديها لحماية نفسها من «جماعات إرهابية»
وأنها استخدمت «حقها المبدئي في الدفاع عن نفسها في إطار القانون
الدولي من أجل حماية أمنها القومي والدفاع عن شعبها». ولرش الملح على
الجروح، صرح السفير الإيراني إيراج مسجدي بأن بلاده لا تقبل وجود أي
قوات أجنبية في العراق ولا التدخل العسكري فيه، مطالباً القوات التركية
بالانسحاب وألا تشكل أي تهديد للأراضي العراقية.
بالمقابل قال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، في خطاب أمام البرلمان:
«عملياتنا بواسطة الطائرات والمدافع والمسيّرات ليست سوى البداية،
سنواصل العمليات الجوية بدون توقف وسندخل أراضي الإرهابيين في الوقت
الذي يبدو لنا مناسبًا». أما الموقف الأمريكي فقد تضمن، بلسان المتحدث
باسم وزارة الخارجية نيد برايس إدانة إيران لارتكابها « الانتهاكات
المتكررة وغير المسؤولة لوحدة الأراضي العراقية»، مبينا أن الولايات
المتحدة تقف مع شركائها في بغداد وأربيل وتشارك الحكومة العراقية هدفها
في الحفاظ على أمن البلاد واستقراره وسيادته. ماذا عن العمليات
التركية؟ اقتصر تصريحه حول الهجوم التركي على «معارضة أي عمل عسكري غير
منسق في العراق ينتهك سيادته». مؤكدا بذلك ضرورة التنسيق مع أمريكا حول
أي عمل عسكري في العراق، باعتبارها شرطي العالم المقاتل ضد الإرهاب،
متعاميا عن حقيقة أن من بذر الارهاب في العراق، ويواصل رعايته، هو
أمريكا نفسها.
تدل متابعة الادعاءات العراقية والإيرانية والتركية والأمريكية حول
انتهاك السيادة العراقية على مدى العقدين الأخيرين، تقريبا، أنها
متشابهة الفحوى والخطاب. وأن لكل دولة تساهم بارتكاب الانتهاكات،
بالاشتراك مع الساسة العراقيين الموالين لها، حاجتها الماسة لوجود
العدو الخارجي. وهو واحد من أقدم الاساليب للهيمنة على الشعوب، فما أن
يواجه القادة السياسيون تحديات محلية لقيادتهم، حتى يميلون إلى بدء
الصراع بين الدول، وتحويل الانتباه المحلي إلى الشؤون الخارجية. وهذا
ما يحدث حاليا في إيران وتركيا، وهو سيناريو قابل للنجاح، خاصة مع توفر
الأراضي والحدود العراقية المفتوحة لكل من هب ودب من خارجها، والمتنازع
عليها داخليا، بالإضافة إلى أنه لم يعد من الصعب على أية دولة شن حرب
ضد دولة أخرى أو حملة قمع وترويع داخل البلد، بإسم «مكافحة الإرهاب»،
منذ أن صاغت امريكا تعريف الإرهاب وفق أجندتها الخاصة وباتت تفرضه على
العالم في اتفاقياتها « الأمنية المشتركة». من هذا المنطلق، وفي ظل هذه
الظروف الخارجية، سيبقى العراق رهينة كل دولة تريد تحويل النظر عن
أزماتها السياسية والاقتصادية ومشاكلها الحقيقية مع شعوبها، مهما كانت
ادعاءات النظام العراقي عن « تأمين السيادة».
كاتبة من العراق
وجبة
ماكدونالد للمرأة العراقية
هيفاء زنكنة
منذ احتلال العراق، عام 2003، والذي تم تسويقه تحريرا، ومنظمة الأمم
المتحدة ناشطة، بمثابرة تثير الإعجاب، في عقد المؤتمرات وورشات التدريب
وتوقيع اتفاقيات الشراكة حول وضع المرأة مع النظام.
آخر الاتفاقات، وقعَّه برنامج الأمم المتحدة الإنمائي وهيئة الأمم
المتحدة للمساواة بين الجنسين وتمكين المرأة في 31 أكتوبر / تشرين
الأول، بقيمة مليون دولار لدعم المشاركة السياسية للمرأة وتمثيلها في
العراق. يهدف المشروع المشترك، حسب بيان المنظمة على «معالجة القيود
المفروضة على صوت المرأة السياسي، وتعزيز صنع القرار والقيادة للمرأة
في الأماكن المنتخبة، وزيادة القيادة في الفضاءات المدنية».
وكان قد سبق ذلك بأيام توقيع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي وصندوق
الأمم المتحدة للسكان اتفاقية لدعم حكومة العراق في تقييم حالة تنمية
الشباب في العراق «من أجل تعزيز السياسات والبرامج والميزانيات التي
تركز على الشباب».
هذه ليست المرة الأولى التي تقوم فيها منظمات الأمم المتحدة بتوقيع
اتفاقيات مع جهات ومؤسسات حكومية عراقية تحاول من خلالها معالجة محنة
النساء خاصة والشباب، عموما، وتنفيذ التوصيات أو بعض التوصيات المطروحة
في مئات التقارير الأممية والمحلية الموثقة بالإحصائيات والشهادات
لتحسين الأوضاع. ضمن قائمة المؤتمرات، عُقد في حزيران/ يونيو من العام
الحالي، ما تمت تسميته بلغة دبلوماسية مهذبة «تسليط الضوء على الوضع
المقلق للزواج المبكر» بدلا من جريمة زواج القاصرات، إذا ما أردنا
تطبيق القانون الذي يحدد سن الزواج 18 عاما.
تثير مواظبة الأمم المتحدة على عقد المؤتمرات وتوقيع الاتفاقيات مع
النظام، ومعظمها بمباركة أمريكية (الولايات المتحدة هي الممول الرئيسي
للمنظمة)، تساؤلا حول جدواها مع تجنب إطلاق حكم بسوء النية الدائمة أو
منهجية إلحاق الضرر أو التبعية المطلقة لسياسة الدول العظمى. ومنبع
التساؤل مبعثه التردي المتزايد لوضع المرأة. وقلما يوجد ما يثير الأمل
بالتحسن ولو لبضع خطوات خارج نفق المآسي الاقتصادية والسياسية
والمجتمعية المظلم والمتبدية في تفاصيل العنف الأسري بالإضافة إلى
العنف الذي تتعرض له في الفضاء العام. فتزويج القاصرات، مثلا، ارتفع من
21.7 إلى 25.5 خلال السنوات العشر الماضية.
لا يقتصر وضع المرأة المزري على ارتفاع حالات تزويج القاصرات بل تشير
كل التقارير إلى إزدياد نسبة زواج المتعة والعنف الأسري ونسبة دعاوى
الطلاق، بل وصل الانحدار إلى القاع مع تجارة الجنس، وما تتعرض له
النساء من استغلال ومعاملة لا إنسانية
ولا يقتصر وضع المرأة المزري على ارتفاع حالات تزويج القاصرات بل تشير
كل التقارير إلى إزدياد نسبة زواج المتعة (الدعارة الدينية) والعنف
الأسري ونسبة دعاوى الطلاق، بل وصل الانحدار إلى القاع مع تجارة الجنس،
وما تتعرض له النساء من استغلال ومعاملة لا إنسانية. فما هو سبب هذا
التردي والتدهور العام على الرغم من كثرة المؤتمرات وتوقيع الاتفاقيات
ووجود منظمات المرأة؟
هناك عدة أسباب. أولها، عدم تطبيق القانون والاتفاقيات. فمعظم حالات
تزويج القاصرات تتم خارج المحاكم وبعقد زواج في مكاتب رجال الدين
المنتشرة كالبثور على وجه مراهق، ويغض النظام النظر عن وجودها، كما
انتشار الدعارة، إذ من المعروف أن أطرافاً سياسيةً وجهات حكومية
وحزبيةً، تسيطر على المكاتب والبيوت أو تتجاهل وجودها لأنها توفر لها
مصدر ربح بشكل أتاوات يجنبها التجريم. فهل من مصلحة نظام كهذا تنفيذ
الاتفاقيات الموقعة لصالح المرأة بعد أن باتت سلعة تُحقق الربح؟
يتعلق السبب الثاني بالوضع الاقتصادي وضحيته الأولى هي المرأة. إذ يحتل
العراق المرتبة 123 من أصل 188 دولة على مؤشر التنمية البشرية للأمم
المتحدة. وتدل آخر الإحصاءات الصادرة عن البنك الدولي إلى أن مستوى
البطالة بلغ 13.7 في المئة، وهو المعدل الأعلى منذ عام 1991، على الرغم
من ثروة البلاد النفطية الضخمة التي لو لم يلتهمها الفساد وسوء الإدارة
لأحدثت نقلة نوعية في مستوى المعيشة وتوفير الخدمات الأساسية، خاصة في
مجالات التعليم والصحة والغذاء، وهي أساس تحقيق المساواة المواطنية /
وبين الجنسين التي يحتل العراق أحد أدنى تصنيفاتها في منطقة الشرق
الأوسط وشمال إفريقيا.
تحت هذه الظروف، من الطبيعي، أن يتدهور مستوى وعي النساء بحقوقهن. ومن
أبسط الأمثلة، أن نسبة 59 بالمئة من النساء اللاتي بين سن 15 و49
يعتقدن أن ضرب الرجل لزوجته هو أمر مقبول، وترتفع هذه النسبة في
المناطق الريفية إذ تبلغ 70 بالمئة وتبلغ بين من لم يلتحقن بالتعليم
الرسمي 71 بالمئة. وتحتمل النساء في الفئة العمرية من 15 إلى 24 التعرض
للعنف حالهن حال النساء الأكبر منهن سنا. ورغم أن الزواج بالإكراه
محظور، حسب القانون، إلا أن ثلث الشابات يعتقدن أنه على الفتاة أن
تقترن بالشخص الذي يختاره الوصي عليها.
ما هو الحل والمرأة تعيش العنف على مستويين. الأول خاص بسبب جنسها
والثاني عام في ظل التدهور الاقتصادي والمحاصصة السياسية الطائفية
ووجود 63 ميليشيا ترتكب ما ترتكب بحق المواطنين، نساء ورجالا، بلا
مساءلة، فضلا عن استحضار ممارسة عادات وتقاليد كان المجتمع قد تخلص
منها؟ تقول الممثلة المقيمة لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي السيدة
زينة علي أحمد «نحن بحاجة إلى المزيد من القيادات النسائية في العراق».
في ذات الوقت الذي تشغل فيه النساء 96 مقعداً في مجلس النواب، أي حوالي
ثلث أعضائه وفوق الحد الأدنى للكوتا البالغة 25 بالمائة. وهي نسبة
مشاركة سياسية أعلى من عديد البلدان التي تعيش فيها المرأة بأمان. مما
يعيدنا إلى بديهية أن كثرة العدد لا تعني النوعية وأن فشل نساء
البرلمان مرده ولاؤهن المطلق لأحزابهن وليس لقضايا المرأة بل ووقوفهن
ضد قضايا المرأة والأسرة إذا ما اختار الحزب موقفا مناوئا. تدل الأمثلة
المذكورة، أن القوانين التي تحمي معظم حقوق المرأة موجودة إلا أنها
تبقى حبرا على ورق يوقع عليها النظام لتبييض وجهه دوليا.
أما الخلل الآخر الذي قلما يتم التطرق اليه هو طبيعة عمل منظمات الأمم
المتحدة، في رؤيتها لمعالجة قضايا المرأة وفق ذات البرامج المستنسخة
تماما لفرط تشابهها، في كل البلدان، في أرجاء العالم. متحاشية بذلك مس
الجذور الحقيقية للمشاكل بحكم عملها مع الأنظمة، وغالبا، بمواصفات وجبة
ماكدونالد، على حساب التطور العضوي النابع من داخل المجتمع نفسه.
كاتبة من العراق
هل نصدق الرئيس الأمريكي؟
هيفاء زنكنة
أعلن الرئيس الأمريكي جو بايدن، في مؤتمر الأمم المتحدة السابع
والعشرين للمناخ، عن «مبادرات جديدة لتعزيز القيادة الأمريكية في
معالجة أزمة المناخ وتحفيز العمل والالتزامات العالمية». مؤكدا أن
الولايات المتحدة « تتابع التزاماتها ومبادراتها الحالية»، لدعم
«الشركاء في البلدان النامية الضعيفة لمواجهة التغيرات البيئية،
ومساعدتهم على التعامل مع مشكلة لم يخلقوها».
ويأتي الإعلان عن المبادرات الجديدة في وقت حذر فيه الأمين العام للأمم
المتحدة أنطونيو غوتيريش، البشرية من «انتحار جماعي». مما يضفي على
المبادرات الأمريكية أهمية قصوى تستوجب الترحيب الرسمي والشعبي، معا،
باعتبارها ستنقذ البشرية من الانتحار. فلِمَ، إذن، بقي الترحيب محصورا
في محيط رؤساء الدول الذين حضروا المؤتمر، مقابل أصوات المحتجين من
ناشطي المنظمات والعلماء والحركات المعنية بالتغير المناخي والبيئي،
المتنامية في أرجاء العالم؟
هناك أسباب عدة لتردد هذه المنظمات في الإسراع للترحيب بالمبادرات
الأمريكية على الرغم من سخاء الخطاب الأمريكي والأصح هو أن الخطاب نفسه
سبب رئيسي للتردد. إذ يبين تحليل اللغة المستخدمة في الخطاب وما سبقه
من تصريحات رئاسية «سخية» تُطلق في مؤتمرات المناخ الدولية، تناقضا
هائلا، عند مقارنتها بمدى الإنجازات الحقيقية للوعود في العالم، كونها
مرتبطة ارتباطا وثيقا باستثمار وأرباح شركات النفط والغاز الرئيسية في
أمريكا، والتي تُشكل، بجانب صناعة السلاح والدواء، العمود الفقري
للواقع الاقتصادي والسياسي الأمريكي ويُشكل جوهر السياسة الخارجية.
أفادت دراسة نشرتها دورية « بلوس وان» العلمية أن كبرى شركات النفط
والغاز الأمريكية والبريطانية، وهي شفرون وأكسون موبايل وبي بي وشل،
فشلت في دعم أقوالها وتعهداتها بشأن تغير المناخ بإجراءات واستثمارات
حقيقية بينما تضاعفت إشاراتها إلى تغير المناخ والطاقة منخفضة الكربون
ثلاث مرات تقريبًا في تقاريرها السنوية المنشورة في العقد الماضي. مما
يجعل هذه الشركات لا تختلف كثيرا عن الرئاسة الأمريكية في إطلاق وحتى
توقيع التعهدات بخفض الانبعاثات والاستثمار في مصادر الطاقة المتجددة
بينما لا يحدث أي تغير. إذ تواصل جميع الشركات الأربع التركيز بشكل
أساسي على إنتاج الوقود الأحفوري لتجني أرباحا قياسية، بغض النظر عما
تحدثه عملياتها من أضرار تنوء تحت تأثيرها الأكبر بلدان الجنوب التي
يسميها بايدن « البلدان النامية الفقيرة» والتي يتصارع الغرب على
استغلال مواردها الطبيعية وتنفيذ مشاريع استخراج النفط والغاز من
الصخور الزيتية فيها.
أمريكا توقع أكثر من مائتي معاهدة كل عام حول مجموعة من القضايا
الدولية، بما في ذلك السلام والدفاع وحقوق الإنسان والبيئة، إلا أن هذا
لا يعني التزامها بالتنفيذ
تلاقي هذه المشاريع معارضة كبيرة، تصل إلى حد العنف، وتستقطب الشباب
والعلماء في البلدان الغربية، كما في حركة «علماء متمردون» الذين يرون
أن التنقيب عن النفط والغاز من الصخور الزيتية في مناطق غير مستغلة
سابقًا هو «جريمة ضد الإنسانية» بسبب الضرر البيئي الذي يلحقه ويطالبون
بوضع حد فوري لمشاريع الحفر الجديدة.
الملاحظ امتداد المعارضة، في الأعوام الأخيرة، إلى البلدان العربية.
حيث برز ناشطون يجمعون بين العدالة البيئية والمناخية والسيادة،
ويقودون حملات توعية بأضرار مشاريع الحفر التي تتم بواسطة تكسير الصخور
الزيتية وتحرير الغاز المنحبس بضخ كميات كبيرة من الماء المخلوط بالرمل
والمواد الكيمياوية مما يسبب بالنتيجة تلويث المياه الجوفية. وإذا كانت
المياه الجوفية هي المصدر الرئيسي لديمومة الزراعة والحياة عموما في
العديد من بلداننا فإن وقود الصخور الزيتية هو المصدر الرئيسي لعدد من
شركات النفط الكبرى ومن بينها توتال أنيرجيز الفرنسية (توتال سابقا)،
التي يشكل 91 من إنتاجها و71 بالمئة من استثماراتها الحالية ويبلغ
إجمالي مبيعاتها 184.7 مليار دولار لعام 2021.
لم يعد هناك أي شك في تحمل الغرب، مسؤولية الانحباس الحراري وتغير
المناخ. وتقع المسؤولية الأكبر على أمريكا لأنها أكبر منتج للغاز في
العالم من الصخور الزيتية منذ عام 2009، وأكبر مستهلك له أيضًا،
بالإضافة إلى كونه مصدر ربح ترحب به الشركات والحكومة وسبب للازدهار
الاقتصادي. بين عامي 2015 و2020، وصل مردود الوقود الأحفوري ما يقرب من
138 مليار دولار سنويًا. في ذات الوقت الذي أثبتت فيه البحوث العلمية
تسببها في تغيير النظم الإيكولوجية للمحيطات وتلوث مصادر مياه الشرب
بواسطة المواد الكيمياوية السامة المستخدمة لاستخلاص الوقود من الصخور
الزيتية، وهي حقيقة لم تكشفها وكالة حماية البيئة الأمريكية للعموم
لأنها كانت قد منحت عملية الاستخلاص والسوائل المستخدمة فيها، حتى إذا
وُجدت في مياه الشرب، إعفاءً من قانون مياه الشرب الآمنة في عام 2005،
وذلك حين شرعت شركة هاليبرتون بالعمل في مجال الاستخلاص وكان ديك
تشيني، نائب الرئيس الأمريكي، رئيسا لها.
من الطبيعي إذن، ألا تعمل الإدارة الأمريكية، متمثلة برئيسها، خارج
شبكة الشركات الكبرى بل إن تماشيها في إطلاق المبادرات بشكل تصريحات
ووعود حرصا على أمنها الاقتصادي والسياسي، لأن تزايد تطور الطاقة
النظيفة، سيؤدي إلى انحسار تدفق الإيرادات وما يترتب على ذلك من
تأثيرات كبيرة داخليا. وما يستحق الذكر هنا أن أمريكا توقع أكثر من
مائتي معاهدة كل عام حول مجموعة من القضايا الدولية، بما في ذلك السلام
والدفاع وحقوق الإنسان والبيئة، إلا أن هذا لا يعني التزامها بالتنفيذ
بالإضافة إلى امتناعها عن التوقيع أو التصديق على المعاهدات التي
يدعمها بقية العالم. بل أن أمريكا تمتلك أحد أسوأ السجلات في التصديق
على معاهدات حقوق الإنسان والمعاهدات البيئية.
إزاء ترسانة المصلحة المشتركة بين مجموعات المصالح الخاصة ورغبة
السياسيين في الحفاظ على سلطة الحزب الذي ينتمون إليه، بالإضافة إلى
المخاوف القائمة بشأن السيادة، وحماية حقوق الشركات الأمريكية ونفوذ
شركات النفط الكبرى وامتداداتها، سواء في أمريكا أو الغرب عموما، لا
يبقى أمام شعوب الجنوب، المحكومة بأنظمة فاسدة، إلا توسيع شبكات
تعاونها مع منظمات وحركات العدالة البيئية والسيادة، خاصة في بلدان
الترسانة، والعمل على إحداث التغيير بنفسها، إذا أرادت وضع حد لمأساة
التلوث والجفاف والتجويع ألتي باتت واقعا وليس فيلم خيال علمي يتصارع
فيه الناجون من الخراب على بضع قطرات من الماء.
كاتبة من العراق
الفلوجة 19…
الجنرالات يحبون النابالم
هيفاء زنكنة
تمر هذا الأسبوع، الذكرى 19 على معركة الفلوجة الثانية (7 تشرين
الثاني/ نوفمبر – 23 كانون الأول/ ديسمبر 2004)، في محافظة الأنبار،
التي شنها المحتل الأمريكي باسم عملية «الفجر» وعملية «غضب الشبح»، بعد
فشله في إخضاع المدينة في معركة الفلوجة الأولى (4 نيسان/ أبريل ـ 1
أيار/ مايو 2004). ومن سخرية القدر، مقابل الصمت الرسمي العراقي، أن
يُعيد الغزو الروسي لأوكرانيا إلى الواجهة تفاصيل طالما عملت أمريكا
وبريطانيا على طمرها بصدد جرائمها في العراق، وأكثرها وضوحا استخدام
الأسلحة المحرمة في الأماكن المأهولة بالسكان، كاليورانيوم المنضب
والفسفور الأبيض والنابالم، مما عرَّض حياة المدنيين، أكثر من
المقاتلين، للموت.
وتُشكل مدينة الفلوجة المثال الأكثر بشاعة لما ارتكبته قوات الاحتلال
بالتعاون مع ساسة عراقيين. وهي حقيقة تُذَّكرنا بها تقارير شبكة
الأنباء الإنسانية (إيرين): « لقد عاش العراق كله عنفا كبيرا منذ
إحتلاله إلا أن ما تعرضت له الفلوجة يساوي أربعة أضعاف ما عانته بقية
المدن «. وذلك بعد أن وثقت العثور على أكثر من 700جثة، من بينها 550
امرأة وطفلا. وفي عام 2012، أظهرت دراسة صادرة عن المجلة الدولية
للبحوث البيئية والصحة العامة، بسويسرا، وهي واحدة من عديد الدراسات،
أنه في السنوات التي أعقبت عملية غضب الشبح، كانت هناك زيادة بمقدار 4
أضعاف في جميع أنواع السرطان، بما في ذلك 12 ضعفًا في سرطان الأطفال
الذين تتراوح أعمارهم بين 0-14.
وإذا كانت الدراسات والبحوث العلمية العراقية والأجنبية قد وفرت لنا
المعلومات حول استخدام اليورانيوم المنضب في عدة مدن عراقية ووثقت
مضاره الآنية وبعيدة المدى المتبدية بأشكال تراوح ما بين التشوهات
الخلقية وأنواع السرطان، خاصة في الفلوجة، فإن استخدام الفسفور الأبيض،
بقي في الظل، مصنفا كمادة يمكن استخدامها في الحروب بلا مساءلة
باعتباره مجرد دخان يوفر الحماية لمستخدميه. مع أنه مادة كيميائية
تشتعل ذاتيًا في الهواء. تحترق فورًا عند ملامستها الأوكسجين، مما ينتج
عنها دخان أبيض كثيف. ويستخدم عادة بشكل قذائف يحجب وابل الدخان
المتصاعد بسرعة كبيرة منطقة واسعة.
ولا يهتم مستخدموه، بكونه سلاحا قاتلا للأشخاص، يتميز بالالتصاق بالجلد
ويستمر في الاحتراق حتى يذوب جسد الضحية.
تُشكل مدينة الفلوجة المثال الأكثر بشاعة لما ارتكبته قوات الاحتلال
بالتعاون مع ساسة عراقيين. وهي حقيقة تُذَّكرنا بها تقارير شبكة
الأنباء الإنسانية (إيرين)
وصورة الرجل، من الفلوجة، المُحتَضن لطفلته بجسدها المحترق شبه الذائب،
باتت رمزا لجريمة الإبادة الأمريكية كما هي صورة الطفلة الفيتنامية
الهاربة بجسدها المحترق العاري من النابالم الأمريكي. ولاحظت منظمة
«هيومن رايتس ووتش» الدولية، أن الفسفور الأبيض مشهور بالإضافة إلى عمق
وشدة الحروق التي يسببها أنها سامة، لذلك قد يموت الضحايا بفشل الأعضاء
حتى لو نجوا من حروقهم.
وكانت « مجموعة تحليل العراق» البريطانية قد نشرت تقريرا في آذار/ مارس
2005، أكدت فيه استمرار استخدام الجيش الأمريكي للأسلحة الحارقة
بأنواعها من الفسفور الأبيض إلى النابالم. وبينما حاولت الحكومة
البريطانية التقليل من أهمية أو إنكار استخدام المواد الحارقة، أُجبر
المسؤولون الأمريكيون على الاعتراف باستخدام
MK
ـ 77 الحارقة، وهو شكل حديث من النابالم، وصفه قائد فرقة مارينز بأن
الاصابة به « ليست طريقة رائعة للموت. إلا أن الجنرالات يحبون
النابالم. له تأثير نفسي كبير»، وهو تصريح يحمل جزءا من الحقيقة وليس
كلها. فاستخدام هذا النوع من الأسلحة يهدف، أيضا، إلى إنزال العقوبة
الجماعية بالسكان وإضعاف المعنويات وتقويض إرادتهم في المقاومة.
عراقيا، لا تزال الحكومة تتعامل مع الجرائم البشعة التي ارتكبتها قوات
الاحتلال الأمريكية والبريطانية والتي سيحمل العراقيون آثارها لأجيال
مقبلة، باستهانة مزرية مرددة ذات التعابير والمصطلحات ألتي يبرر بها
الاحتلال جرائمه وبالتالي غسل يديه من المسؤولية التاريخية. حيث صارت
مقاومة المحتل إرهابا والغزو تحريرا وقتل المدنيين دفاعا عن النفس
واغتصاب النساء هفوة « تفاحة فاسدة»؟ وباتت سردية المقاومة في المدينة
بأقلام المتعاونين مع المحتل ملوثة بالطائفية وعزو سبب نشوئها إلى
إرهاب القاعدة بينما كانت الحقيقة الصارخة هي تجمع نحو 200 رجل وطفل
خارج مدرسة القائد الابتدائية في الفلوجة، يوم الثالث والعشرين من
إبريل 2004، احتجاجاً على احتلالها من قبل القوات الأمريكية، وطالبوا
بإخلائها وإعادة افتتاحها للدراسة، فأطلقت القوات الأمريكية النار على
المتظاهرين وقتلت 17 شخصاً، بينهم 3 أطفال أعمارهم أقل من 11 سنة،
وجرحت أكثر من 70، وأطلقت النار كذلك على طواقم الإسعاف الذين حاولوا
معالجة المصابين وإجلاء القتلى. كانت هذه هي البداية التي عوقبت
الفلوجة بسببها، فقُصفت بقذائف اليورانيوم المنضب ورُشت بالفسفور
الأبيض والنابالم.
إن من واجب الحكومات الوطنية حماية كرامة مواطنيها وحقوقهم الإنسانية
وأولها حق الحياة وتحقيق العدالة مهما طال الزمن. ولنا في الحكومة
الجزائرية مثال يجب أن يُحتذى.
فبعد مضي ستين عاما على توقيع اتفاقيات إيفيان التي مهدت لاستقلال
الجزائر، لا تزال العلاقات الجزائرية الفرنسية محكومة بملف الذاكرة
والتاريخ. وقد كتب الرئيس عبد المجيد تبون رسالة، بمناسبة عيد النصر في
مارس 2022، مشيدا بقوة الشعب الجزائري وعزيمته، لمجابهة آثار دمار
واسِع مَهُول.. وخَرابٍ شَامِلٍ فَظِيع، يَشْهد على جرائمِ الاستعمارِ
البشعةِ، مؤكدا بأن جرائم الاستعمار الفرنسي «لن يَطالَها النسيان، ولن
تسقطَ بالتقادم». وذكّر بمطلب بلاده «استرجاعِ الأرشيف، واستجلاءِ مصير
الـمفقودين أثناء حرب التحرير الـمجيدة، وتعويضِ ضحايا التجارب
النووية» التي بدأت في 1960 واستمرت حتى 1966، أي أربع سنوات بعد
استقلال الجزائر.
لم يحدث أي شيء مماثل في العراق. فضحايا الغزو والاحتلال والمتظاهرين
وذويهم، لايزالون، مجرد أرقام في تقارير تطفو بين الحين والآخر في سوق
المزايدات الطائفية والعرقية. وتبقى حياة العراقي فيها رقم بلا حياة.
ولم يحدث ذلك في الفلوجة مدينة المقاومة الأبية. وإذا كان الرئيس
الجزائري قد أكد على وجوب المعالجة المسؤولة المُنصفة والنزيهة لملف
الذاكرة والتاريخ فإن ساسة العراق يبذلون أقصى جهودهم لمسح الذاكرة
وتلويث التاريخ. لماذا؟ لأنهم يعرفون جيدا أنهما يشكلان خطرا حقيقيا
على وجودهم وفضح مشاركتهم في ارتكاب الجرائم.
كاتبة من العراق
سرقة الأموال في العراق
مقابل القرض التونسي
هيفاء زنكنة
أعلن صندوق النقد الدولي، الأسبوع الماضي، عن توصله إلى اتفاق مع
الحكومة التونسية لمنحها قرضا بقيمة 1.9 مليار دولار لمدة 48 شهرا،
بشرط موافقة المجلس التنفيذي للصندوق الذي سيناقش الطلب في شهر كانون
الأول/ ديسمبر القادم، مقابل تعهد الحكومة بتنفيذ حزمة من الإصلاحات
الاقتصادية من بينها تقليص دعم المواد الغذائية الأساسية والطاقة
المعمول بها حاليا، وتجميد التوظيف في القطاع الحكومي، وإعادة هيكلة
المؤسسات الحكومية. يهدف القرض، حسب صندوق النقد الدولي، إلى مساعدة
تونس لتجاوز الأزمة الاقتصادية الحادة التي تمر بها و«استعادة
الاستقرار على مستوى الاقتصاد الكلي وتعزيز الأمن الاجتماعي والعدالة
الجبائية وتكثيف الإصلاحات لإرساء مناخ ملائم لتحقيق النمو الشامل وفرص
العمل المستدامة.»
تطلب الوصول إلى هذه الاتفاقية عدة مراحل من مفاوضات استغرقت شهورا،
التقى خلالها وفد حكومي تونسي مع صندوق النقد الدولي. ضم الوفد وزيرة
المالية ووزير الاقتصاد ومحافظ البنك المركزي لمناقشة الشروط.
تعطينا هذه التفاصيل صورة عامة عن معنى مرور بلد ما بأزمة اقتصادية
وكيفية قيام الحكومة بأداء واجبها في إيجاد الحلول ولو بشكل قروض
مشروطة عبر مفاوضات يُشارك وزراء كل في مجاله. هذا ما تعيشه تونس
للحصول على قرض قيمته 1.9 مليار دولار، فقط، أملا في تحسين الأوضاع.
تأخذنا تفاصيل الصورة إلى العراق حيث تم في ذات الوقت الإعلان عن سرقة
2.2 مليار دولار في ظل الحكومة العراقية ومع وجود وزراء للمالية
والاقتصاد ومحافظ للبنك المركزي. وهو حدث غطى على ظاهرة «المظاهرات
المليونية» والتطبيل لها عن معجم التداول اليومي للساسة، لتبرز على
السطح عناوين السرقة الترليونية الكبرى، وسرقة القرن الأسطورية، وأكبر
سرقة في التاريخ، وأكبر قضية فساد، وتريليونات الضرائب. فكيف يتم
اختفاء مبلغ كهذا بينما تقضي دول أخرى شهورا من المفاوضات تحت قائمة من
الشروط وبدعم دول عظمى للحصول على مبلغ أقل؟ ما هو دور الحكومة؟ ومن هي
الجهات المسؤولة وكيف سيتم التعامل معها؟ وهل سيكون بالإمكان استعادة
المبلغ الخيالي المسروق؟
طفت حكاية سرقة المليارين ونصف مليار دولار من أموال الضريبة في مصرف
الرافدين الحكومي في بيان أصدره وزير المالية بالوكالة، متهما ما أسماه
«مجموعة محددة» قبل أن يطلب إعفاءه من المنصب. اضطر مجلس القضاء، إزاء
حجم السرقة الذي تجاوز عديد الاختلاسات السابقة، إلى إصدار مذكرات
استدعاء بحق عدد من المدراء في المجال الضريبي والرقابي للتحقيق معهم
بالإضافة إلى « تشكيل لجنة تدقيقية مشتركة من وزارة المالية والهيئة
العامة للضرائب ومصرف الرافدين وهيئة النزاهة لتدقيق المبالغ
المصروفة».
كيف يتم اختفاء مبلغ كهذا بينما تقضي دول أخرى شهورا من المفاوضات تحت
قائمة من الشروط وبدعم دول عظمى للحصول على مبلغ أقل؟ ما هو دور
الحكومة؟ ومن هي الجهات المسؤولة وكيف سيتم التعامل معها؟ وهل سيكون
بالإمكان استعادة المبلغ الخيالي المسروق؟
وهي خطوة أثارت الكثير من التعليقات الساخرة مثل «حاميها حراميها» وأن
الإعلان الرسمي عن اختفاء المليارين ونصف مليار، هو محاولة لتغطية بركة
الفساد المالي – السياسي الآسنة بغشاء من زيت «النزاهة» المُعّطر ليضمن
استمراريتها. لا تنبع هذه التعليقات الساخرة المريرة من فراغ بل من
انعدام الثقة بجدوى اللجان والتحقيقات الرسمية، على مدى العقدين
الأخيرين، والتي غالبا ما تعمل على دفن الحقائق أو تمويهها، لسبب بسيط
وهو استشراء الفساد في كل ركن من الحكومة بدءا من الرأس إلى أصغر
مستخدم فيها، وتمكُن المسؤولين من الافلات من العقاب. وتشير سردية
الكشف عن الفضائح المتكررة أنه إذا ما حدث وكشف أحد المسؤولين
الحكوميين عن فضيحة اختلاس أو جريمة أثناء تبوئه أحد المناصب، فإنه
غالبا ما يقوم بذلك أما لأنه أُقيل من منصبه أو أنه التهم ما يكفي
لإطفاء جشعه فيُفضل مغادرة البلد إلى بلد يحمل جنسيته، أو لأنه تعرض
للابتزاز من جهة سياسية مغايرة تشعر بأن منصبه من حقها فيشعر بتهديد
حياته، لفهم هذه الأجواء الغرائبية هناك أمثلة عدة لعل أكثرها تفصيلا
وعلاقة بالاختلاس الأخير هي رسالة استقالة وزير المالية السابق علي
علاوي التي تحدث فيها عن تفاصيل عمله وأسباب استقالته وما تعرض له من
ضغوطات، ولم ينس تعداد، ما أنجزه من نجاحات، بإسهاب. مع العلم أن ما
وصفها بـ «بواحدة من أكبر الفضائح المالية في العصر الحديث» تمت أثناء
تبوئه منصب وزير المالية.
مع انتشار رائحة السرقة وتفاصيل الفضيحة عاد علاوي للتصريح حول العوامل
التي مكنت حدوث السرقة ومنها، حسب تعبيره، تأخر وزارة المالية في مجال
«اعتماد أنظمة المعلومات والمحاسبة وإعداد التقارير الآلیة»، و«عدم
انصياع بعض المدراء العامين وموظفي الدولة الى الأنظمة والقوانین
الحاكمة في مهامهم، وعدم اتباعهم الأوامر الوزارية وتوجيهات الوزير،
واخفائهم المعلومات، ومنع الدوائر الرقابية القيام بدورها والإبلاغ
عنها»، ملقيا اللوم على ولاء الموظفين « لجهات سیاسیة متنفذة تسترزق من
حیتان الفساد وتوفر الحصانة إلى الفاسدين». وهي أسباب كانت معروفة قبل
قبوله تسنم منصب الوزير، وما كان بحاجة إلى أن يُصبح جزءا منها، وهو
السياسي الذي خاض غمار «العملية السياسية» منذ أعوام الاحتلال الأولى
ليكتشف ويكشف، بعد استقالته، يومياتها. فمن المعروف أن العراق يحتل
واحدة من المواقع الأدنى بين الدول في مؤشر منظمة الشفافية الدولية
للفساد. ولا يكاد يمر أسبوع بدون الكشف عن فضيحة مالية أو الاحتيال في
العقود الحكومية عن طريق استخدام شركات صورية، أو تعيين موظفين وهميين،
وسرعان ما يتم تشكيل لجنة تحقيق تؤدي، غالبا، إلى التغاضي عن هرب
المتهمين إلى الخارج، خاصة إذا كان المسؤول الفاسد من حملة جنسية أحد
البلدان الأوروبية أو حاصلا على الإقامة الخاصة برجال الأعمال.
وإذا كان صندوق النقد الدولي لا يقدم القروض التسهيلية للحكومات التي
تمر بأزمات اقتصادية إلا بعد فرض شروط قاسية، كما في تعامله مع تونس،
فإن الدول الرئيسية في الصندوق، لا تكيل بنفس المكيال لغسيل الأموال
لديها. حيث يجد الساسة الهاربون أو من يقدمون أنفسهم كرجال أعمال ملاذا
اقتصاديا آمنا للأموال المُهرّبة في الدول الرئيسية بأقل الشروط.
وجوابا على سؤال عما إذا كان بإمكان العراق استرداد المليارات المنهوبة
فان إلقاء نظرة واحدة على المتصارعين على المناصب الحكومية، حاليا،
وتدوير ذات الوجوه التي رعت الفساد على مدى عشرين عاما الأخيرة،
سيعطينا الجواب.
كاتبة من العراق
كيف أصبح غير المرغوب
فيه مرغوبا في العراق؟
هيفاء زنكنة
لو أتيحت لنا مستقبلا قراءة أحد كتب سلسلة الكتب التجارية الصادرة تحت
عنوان» كيف»، كما في كيف تتعلم الإنكليزية في أسبوع أو تربح مليون
دولار في شهر، هل سيكون لاختيار رئيس الجمهورية العراقي عبد اللطيف
رشيد، أخيرا حظا في الاستئثار بعنوان «كيف تؤجل تنفيذ نتائج الانتخابات
لمدة عام؟ « تشير كثرة التهاني التي تلقاها العراق بمناسبة اختيار رئيس
للجمهورية وتكليفه رئيسا للوزراء، بعد مخاض عام من إعلان نتائج
الانتخابات، إلى أن كتابا كهذا، كونه يستند على تجربة حقيقية متميزة،
سيحقق نجاحا كبيرا، خاصة، في الدول التي تُفرض على شعوبها طبخة
«الديمقراطية» والانتخابات ويتم تطبيقها من قبل أتباع محليين بإشراف
«دولي».
في خلاصة الكتاب سيتوصل لاعبو الأدوار الرئيسية إلى التوافق فيما
بينهم، حول بعض النقاط لعل أهمها وأكثرها وضوحا هو الاستغناء عن الشعب
بمختلف الأساليب الممكنة والمجربة تاريخيا من الترويع إلى السجون إلى
التهجير القسري أو التجاهل وتركه ضحية الجوع والعطش وانعدام الخدمات
الصحية والتعليم. وسيصادف القارئ، لا محالة، أثناء تصفحه سطور التجربة
العراقية المُنتهِكَة للمواطن فصولا مغموسة بالتجاهل الدولي المنهجي
لحقوق الشعب، على الرغم من العزف المتواصل على طبول حقوق الإنسان
والقوانين الدولية.
أما بقية الفصول فستحفل بالتهاني والتبريكات بنجاح الانتخابات أولا على
الرغم من أن سنبة المشاركين فيها لم تزد عن 30 بالمئة، كما التهاني
بتمكن البرلمان أخيرا، من تجميع أعضائه في المنطقة الخضراء، والتصويت
مرتين لأن المرة الأولى قوطعت بسبب قصف المنطقة الخضراء، لانتخاب رئيس
للجمهورية كلّف بدوره رئيسا للوزراء. مما يُشكل واحدة من مفارقات الوضع
العراقي إذ تم تكليف، ذات الشخص الذي رُشّح، قبل عام، وأثار ترشيحه
تبادل الاتهامات واستقالة 73 من أعضاء البرلمان، من أتباع مقتدى الصدر،
بالإضافة الى الاحتجاجات والاعتصامات والقصف والاعتقالات وغيرها من
يوميات التفاصيل « المألوفة» في حياة العراق الديمقراطي الجديد.
فما الذي حدث إذن ليُصبح غير المرغوب فيه مرغوبا؟ ما الذي تغير ليعود
إلى الواجهة من أشعل ترشيحه نار النزاع والاقتتال بين «أهل البيت»
وأظهر الى العلن ملفات الابتزاز، بأنواعه، من التعيينات الحكومية إلى
المقاولات إلى إدارة شبكات التهريب والدعارة، والتهديد بفضح الفساد،
والإرهاب العام بإطلاق يد ميليشيات الاختطاف والقتل، وأن يجري هذا كله
في أجواء صمت المرجعية الدينية التي يُفترض أن معظم الساسة العراقيين
يتبعونها ويطيعون إرشاداتها على الأقل؟
الاستغناء عن الشعب بمختلف الأساليب الممكنة والمجربة تاريخيا
من الترويع إلى السجون إلى التهجير القسري أو التجاهل وتركه ضحية الجوع
والعطش وانعدام الخدمات الصحية والتعليم
يحتاج تفكيك الصورة إلى وضع مماحكات ومهاترات الساسة المناهضين لعملية
الاختيار وما سبق العملية وما سيليها من قصف وتفجيرات، جانبا. لا لقلة
أهميتها، فهي العنصر المحّرك للواقع المشوه، ولكن لإضاءة دور التدخل
الخارجي وحجمه وكيفية فرضه أو عدم فرضه، الأجندة الداخلية. لعل أهم
تغيير حدث، منذ انتهاء الانتخابات ومباركتها دوليا وإقليميا وتبنيها
الكلي من قبل منظمة الأمم المتحدة، هو تراجع المنظمة عن « اللغة
الناعمة» التي تلجأ أليها عادة في مخاطبتها الساسة العراقيين. فكان
تصريح ممثلة الأمين العام للأمم المتحدة في العراق، جينين هينيس ـ
بلاسخارت، خلال جلسة طارئة لمجلس الأمن حول الحالة بالعراق، في 4 تشرين
الأول/أكتوبر، قويا في نقده النظام ومتضمنا يأس المنظمة من دعم الساسة
المنخرطين في «الشقاق ولعبة النفوذ السياسي على حساب الشعور بالواجب
المشترك… حيث كان العراقيون رهينة لوضع لا يمكن التنبؤ به ولا يمكن
احتماله، ليتحول إلى اشتباكات مسلحة». محذرة بلهجة صارمة أن «خيبة أمل
الشعب قد وصلت إلى عنان السماء… وفقدان العديد من العراقيين الثقة في
قدرة الطبقة السياسية في العراق على العمل لصالح البلد وشعبه… وإن
النظام السياسي ومنظومة الحكم في العراق يتجاهلان احتياجات الشعب
العراقي». مشخصة بأن السبب الجذري الرئيسي للاختلال الوظيفي في البلد
هو الفساد المستشري. وهي إن لم تكشف، بتقريرها، سرا لا يعرفه
العراقيون، إلا أنها أكدت بؤس الحالة المتردية التي وصل إليها العراق.
وكان لإحاطتها قوة العصا المُشّرعة بوجوه الساسة. وهي، مع الأسف
الشديد، أكثر تأثيرا من دماء الشهداء المحتجين المطالبين بحقهم في
الوطن ومن كل ما كُتب وقيل بصدق ووطنية عن التدهور الكارثي، بمختلف
المجالات، في البلد، وعن المسؤولية الكبيرة التي تتحملها دول الاحتلال.
وجاء عامل الضغط الثاني متمثلا بموقف المملكة المتحدة. حيث سارع السفير
البريطاني مارك برايسون ريتشاردسون، لتأييد إحاطة بلاسخارت، مضيفا بما
يقترب من التهديد أن أعمال العنف التي يشهدها العراق «غير مقبولة» و
«لا يمكن السماح بتكرارها». وجاءت الضربة التالية من السفير الأمريكي
الذي أخذ على عاتقه تذكير الساسة بمرور عام على الانتخابات «ذات
المصداقية» وعدم تمكنهم من حل خلافاتهم السياسية مما يتطلب «إجراء حوار
واسع لشق طريق سلمي وشامل للخروج من المأزق السياسي الحال». كما ذكرهم
بوجود اتفاقية «شراكة» بين أمريكا والعراق لاتزال أمريكا، في الوقت
الراهن ملتزمة بها».
ولا يمكن، عند التذكير بدور القوى الخارجية، إهمال دور الكيان الصهيوني
بمستويين المباشر وغير المباشر، سواء بشكل فردي أو مؤسساتي. أما التدخل
الإيراني فهو متغلغل في عمق الحكومة والميليشيات ولا يجد النظام
الإيراني حرجا في قصف العراق بذريعة استهداف مواقع لأحزاب كردية ـ
إيرانية معارضة، منافسا بذلك تركيا التي تستخدم ذات الذريعة للتوغل
وقصف الأراضي العراقية، وكان آخرها قصف منتجع، بمحافظة دهوك، في
كردستان العراق في تموز/ يوليو.
جراء هذه الضغوط والتحذيرات المختلطة بالتهديد من الدول التي عملت بجد
على تحطيم العراق ومن منظمة دولية لم تعد قادرة على تغطية عري
الامبراطور، كان لابد وأن يتوصل المتنازعون على السلطة إلى حل يعرفون
جيدا أنه ليس علاجا حقيقيا إلا أنه يضمن لهم إبقاء العراق ضعيفا، تحت
طائلة عنف مستدام، لتسهل السيطرة عليه كمصدر للطاقة وتحجيمه كواحد من
آخر الدول العربية الرافضة للاعتراف بالكيان الصهيوني.
كاتبة من العراق
كانت آخر
مرة رأيت فيها أخي
هيفاء زنكنة
ما هو المشترك بين ليبيا والعراق؟ بين ليبيا وإيران وسوريا وقائمة
الدول التي حظيت بمسمى «الشرق الأوسط» بالتحديد؟
هناك الكثير مما يجمع بين شعوب هذه البلدان تاريخا وحضارة فيما بينها
إلى حد التداخل في اللغة والأديان. إلا أن خارطة الشعوب الإنسانية هذه،
تلوثت بحكومات ذات مصالح لا تجمعها بشعوبها، بل وتفصلها عنها فجوة هوس
الاستحواذ على السلطة المؤدلجة وفرضها بالقوة، سواء كانت دينية أو
علمانية متمددة في تطرفها بين اليمين واليسار. أدت الهيمنة السلطوية
وتوفر أدوات تكريسها والتحالفات الداخلية ـ الخارجية، أي توليفة
الاستعمار الجديد في تحالفه مع الحكومات المحلية المستبدة، بحيث صارت
الشعوب بمواجهة استعمارين وهي تقاوم على مستويين. الأول هو لمواصلة
الحياة اليومية بأدنى ما يمكن الحصول عليه من الحاجات الأساسية وما
يتطلب من جهد وانشغالات مستهلكة نفسيا وجسديا والثاني المحافظة على
البقية الباقية من روح المقاومة في مرحلة ما بعد التحرر الوطني وتحول
من كان وطنيا مقاوما للاستعمار إلى مستبد قامع لشعبه باسم الوطنية
والمقاومة.
هذه الصورة، بتفاصيلها المريرة، أدت إلى ما يمكن توصيفه بمصطلح
الشيزوفرينيا العامة التي تعيش في ظلها شعوب المنطقة، وتمارسها الأنظمة
إلى حد دفع الشعوب، بحثا عن الخلاص، إلى الاستنجاد بذات الدول التي
سببت مأساتها. وتتبدى بأكثر تفاصيلها الصادمة في التقارير الحقوقية
المحلية والدولية، الموثقة لجرائم الحرب وانتهاكات الحقوق الإنسانية من
حق الحياة الى التعذيب.
عن ليبيا، مثلا، أصدرت المنظمة الدولية لمناهضة التعذيب، بجنيف، تقريرا
بعنوان «كانت آخر مرة رأيت فيها أخي»، يوثق مقتل 581 من المواطنين
والمهاجرين من قبل قوات حكومية وميليشيات خلال العامين الأخيرين فقط.
ويشمل هذا العدد الأشخاص الذين أُعدموا في مراكز الاحتجاز أو تعرضوا
للتعذيب حتى الموت وخسائر بشرية في هجمات عشوائية على مناطق سكنية. مع
التأكيد في أكثر من مكان في التقرير بأن هذا العدد لا يمثل سوى غيض من
فيض. وأن عمليات القتل خارج نطاق القضاء ضد المدنيين العزل غالبا ما
تكون مسبوقة بعمليات تعذيب مروعة، والتي أصبحت ظاهرة عادية متوطنة في
ليبيا هذه الأيام، حيث تمارس القوات الحكومية والميليشيات المسلحة
العنف والتمتع بالإفلات التام من العقاب.
يستند التقرير إلى مقابلات مباشرة مع شهود وناجين، أجريت في جميع أنحاء
البلاد من قبل الشبكة الليبية لمناهضة التعذيب، المكونة من منظمات
المجتمع المدني. لاقى العمل على إكمال التحقيق الكثير من العراقيل جراء
الوضع الأمني الخطر والخوف من الانتقام في بلد تتواجد فيه «حكومتان
متنازعتان وعدد لا يحصى من الميليشيات المسلحة التي يمارس أفرادها
التعذيب وطلب الفدية والقتل في ظل إفلات تام من العقاب. ما يسمى «حكم
الميليشيات» يغرس الخوف في نفوس السكان. بالإضافة إلى ذلك، فإن حقيقة
أن نسبة كبيرة من عمليات القتل نفذت من قبل مجموعات تابعة للدولة تقلل
من أي فرص للمحاكمة».
عمليات القتل خارج نطاق القضاء ضد المدنيين العزل غالبا ما تكون مسبوقة
بعمليات تعذيب مروعة، والتي أصبحت ظاهرة عادية متوطنة في ليبيا هذه
الأيام، حيث تمارس القوات الحكومية والميليشيات المسلحة العنف
يكاد هذا الوضع المأساوي، ينطبق على الوضع العراقي. ومن يقارن التقارير
الدولية والمحلية بصدد الجرائم اللاإنسانية المرتكبة بالعراق على مدى
العقدين الأخيرين، تقريبا، مع التقرير الأخير في ليبيا (ولا تُستثنى من
ذلك حكومات عربية وإقليمية أخرى) سيجد أن بالإمكان استبدال ليبيا
بالعراق أو العكس بالعكس عند مراجعة تفاصيلها.
فكما في ليبيا، يسود حكم الميليشيات، زارعة الخوف والإرهاب، في أرجاء
البلد بالإضافة إلى القوات الحكومية الأمنية. كلاهما محم من المساءلة
القانونية على الرغم من معرفة مرتكبي جرائم القتل والاختطاف والتعذيب.
وعى الرغم من توثيق الجرائم من قبل منظمات حقوقية عراقية ودولية كما هو
الحال بليبيا. وقد قام المركز العراقي لتوثيق جرائم الحرب بتوثيق
عمليات قتل خارج القانون واحتجاز عشرات الآلاف من المعتقلين في ظروف
غير إنسانية، بوضعهم في زنازين مكتظة لسنوات بدوافع انتقامية وطائفية.
فمنذ بداية 2022 وحتى شهر آب/ أغسطس، وثّق المركز وفاة أكثر من 49
معتقلًا تحت التعذيب والإهمال الطبي، مع وجود حالات وفيات أخرى في
السجون الحكومية التابعة لوزارة العدل والداخلية والدفاع، فضلًا عن
السجون السرية التابعة للميليشيات. وكانت اللجنة المعنية بحالات
الاختفاء القسري بمجلس حقوق الإنسان بالأمم المتحدة قد أعربت عن قلقها
إزاء مزاعم وجود حوالي 420 مكانًا للاحتجاز السري في العراق.
أنجزت مجموعة منظمات عراقية ودولية تقريرا مهما نشرته نهاية آب/ أغسطس
من العام الحالي، حول تقييم عمل المفوضية العليا لحقوق الإنسان في
العراق التي تم تأسيسها كجهة مستقلة. بداية لم يجب أعضاء المفوضية على
أسئلة المنظمات باستثناء علي أكرم البياتي، مدير مؤسسة الإنقاذ
التركمانية، ورئيس المفوضية السامية لحقوق الإنسان، السيد عقيل جاسم
علي. والمفارقة أن يتم الغاء تعيين علي البياتي فيما بعد وتهديد حياته
لأنه تحدث عن تعرض المعتقلين للتعذيب. وقامت المنظمة الدولية لمناهضة
التعذيب بإصدار بيان إدانة لما يتعرض له والمطالبة بحماية حياته. يناقش
التقرير عمل المفوضية والأسس القانونية التي تستند اليها وقدرتها على
الاضطلاع بالأنشطة المخولة بها، بالإضافة الى مدى استقلاليتها وكيفية
تعيين أعضائها، خاصة، وأن معظمهم ينتمون إلى أحزاب ذات ميليشيات تمارس
القتل والتعذيب وإرهاب المواطنين.
ومن الأمثلة التي تناولها التقييم حالات التعذيب والاختفاء القسري، لا
سيما بعد احتجاجات أكتوبر / تشرين الأول 2019. ووفقًا للعديد من
المنظمات غير الحكومية، لم تقم المفوضية العليا لحقوق الإنسان بمتابعة
هذه القضايا، وعلى الرغم من أنها تنشر الآراء والتوصيات والتقارير، إلا
أنها تقترب فقط من توثيق انتهاكات حقوق الإنسان بطريقة شاملة وعامة،
دون تحديد السلطات المسؤولة عن انتهاكات حقوق الإنسان، على الرغم من
حقيقة أن المسؤولين وغالبا ما تكون السلطات والجناة معروفين.
تؤكد هذه الحقيقة المريرة أن التقارير الموثقة لانتهاكات حقوق الإنسان،
على أهميتها، لا تشكل ضمانا لتحقيق العدالة للضحايا وذويهم، ولا رادعا
لارتكاب المزيد من الجرائم، ما لم يتم تحديد المسؤولية ومقاضاة
المجرمين ومعاقبتهم. وهذا لن يتم إلا إذا تم تطبيق القوانين الدولية
والوطنية والإنسانية بشكل حقيقي وليس كمكياج لتزويق وجوه الحكومات ذات
المصلحة في ديمومة انتهاك كرامة الانسان والسيطرة عليه.
كاتبة من العراق
ما الذي حل بإبداع
انتفاضة تشرين العراقية؟
هيفاء زنكنة
من الصعب تصور انتفاضة
أكتوبر/تشرين الأول 2019، التي تمر ذكراها الثالثة هذه الأيام، بدون
الجوانب الإيجابية لتي نبعت من صميمها، على الرغم من إجهاضها من قبل
ذات القوى التي أراد المساهمون فيها التحرر منها. وكانت تكلفتها
البشرية باهظة، بكل المقاييس، إذ قُتل خلالها 600 شخص وجُرح 30 ألفا
آخرين، ولا توجد إحصائيات دقيقة حول أعداد المختطفين والمعتقلين.
لعل الجانب الإيجابي الأول هو أنها فتحت المجال خصبا حول قدرة فعل
المقاومة على التغيير وإلغاء ما تم تصنيعه وتسويقه، بنجاح أحيانا، من
الطائفية والفروق العرقية والجنسية. فتجسدت في ساحة التحرير، قلب بغداد
النابض، ومنها الى بقية المحافظات، خلال شهور الانتفاضة، رغبة الجميع
في هدم جدران التمييز الكونكريتية وامتلاك وطن مستقل، يتمتع فيه
المواطنون، جميعا، بلا استثناء، بالحرية والكرامة والعدالة. أما الجانب
الثاني الذي أثمرته الانتفاضة وسيبقى على مر السنين، وثيقة للحرية
والكرامة الإنسانية الرافضة للقمع والتمييز، فهو الجانب الفني الإبداعي
المتمثل بالرسم والموسيقى والشعارات والنكات والمسرحيات والقصائد
والتصوير والجداريات والفيديوهات واستخدام التقنية الرقمية وحتى
الشعارات الجامعة بين المطالبة بالحقوق والسخرية من الساسة.
كل هذا تم في ظل جدارية الحرية للفنان الراحل جواد سليم والتي تُشكل
جزءا لا يتجزأ من الذاكرة الجماعية العراقية الرافضة لعبودية الاستعمار
والسلطة بالنيابة، والايمان بأن الفنون الحاملة للأصالة المحلية، هي في
ذات الوقت لغة عالمية مشتركة، تُبعد مُبدعيها ومُتلقيها في آن واحد، عن
الاحساس بأن ما يتعرضون له فريد من نوعه ولا مثيل له في العالم وهو
منبع الشر الراسخ في أهل هذه البقعة المحددة من العالم.
وإذا كان بالإمكان، من هذا المنطلق، النظر إلى ما أفرزته ساحات انتفاضة
تشرين 2019 من فنون باعتبارها، على المدى البعيد، عاملا رئيسيا لإعادة
بناء الإنسان والشفاء من جروح الماضي وما يحمله من خوف من «الآخر»، فإن
معظم ما قدمته الفنون، على اختلاف مستوياتها وأنماطها، ارتبط ارتباطا
وثيقا بحس الشارع ومطالب المتظاهرين الممثلة لعموم الشعب.
ولئلا تضيع هذه الثروة المعنوية في خضم تسارع الأحداث السياسية
ومحاولات كتابة التاريخ كل على هواه على حساب تغييب « الآخر»، ومع غياب
المؤسسات الوطنية المعنية بالتوثيق، وقع عبء الحفاظ على مُنتج
الانتفاضة على عاتق قلة من الأفراد والمبادرات الذاتية والمواقع
الإلكترونية. من بينها الأكاديمي د. هيثم هادي نعمان الهيتي الذي قام
بتوثيق أحد مستويات الأبداع في ساحة التحرير ببغداد، بالتحديد، والذي
شكّل الواجهة الأمامية الغنية للانتفاضة. فأنكّب على تجميع 2113 من صور
اللافتات المتضمنة شعارات وتخطيطات وصور، بالإضافة إلى الرموز ونصوص
استخدمها المتظاهرون خلال الانتفاضة، وتم نشرها لاحقا على وسائل
التواصل الاجتماعي من فيسبوك وتويتر وإنستغرام باعتبارها بيانات مادّية
لإكمال دراسة أكاديمية قام بتقديمها، أخيرا، في منتدى « إنسانيات»
الدولي الذي أقيم بتونس (20 ـ 24 أيلول/ سبتمبر) وساهمت فيه الهيئة
الدولية لدراسات لشرق الأوسط، كما سيتم نشر الدراسة في دورية أكاديمية.
خلال شهور الانتفاضة، رغبة الجميع في هدم جدران التمييز الكونكريتية
وامتلاك وطن مستقل، يتمتع فيه المواطنون، جميعا، بلا استثناء، بالحرية
والكرامة والعدالة
تتناول الدراسة الموضوعات التي تطرق إليها أو طالب بها المحتجون عبر
اللافتات ونصوصها، حيث تبين من التحليل أن هناك أربعة موضوعات ورسائل
رئيسية قصدها المحتجون وهي: الاستعداد للتضحية في سبيل الأمة، والوحدة
الوطنية، ودور المرأة، والمطالب، بالإضافة إلى 14 رسالة فرعية منها على
سبيل المثال، إنهاء الميليشيات والفصل بين الدين والدولة ورفض
الطائفية.
وبيّن التحليل العلمي للمعطيات أن كان الطلب الأساسي الذي تم رفعه
ونشره على وسائل التواصل الاجتماعي هو تغيير النظام، بنسبة 20.39
بالمئة من إجمالي الطلبات. أما المطلب الثاني فهو الحرية بمعدل
14.29بالمئة ثم المطالبة بإنهاء الفساد، بمعدل12.91 بالمئة، والقضاء
على الميليشيات، بمعدل 12.11بالمئة. ومن بين المطالب الأولية جاء
المطلب الخامس، وهو فصل الدولة عن التأثيرات الدينية بمعدل 12.02
بالمئة. وبالنسبة إلى المطالب التسعة الأخرى، كان المطلب الرئيسي هو
القضاء على التأثيرات الإيرانية بمعدل 49 بالمئة.
هناك، أيضا، مقالات متناثرة في الصحافة والمواقع العربية والأجنبية غطت
جوانب أخرى. من بينها موقع « ألترا عراق»، في سلسلة مقالات، رافقتها
صور رائعة، أبرزها مساهمة أحمد هادي عن الغرافيتي والجداريات التي
حولّت نفق ساحة التحرير الكونكريتي إلى سلسلة لوحات مضاءة بالأمل، « و
حتى لو تم تدميرها أو حذفها، ستكون عالقة بأذهان الناس، وأنا متأكد
أنها ستطبع وتُعّلق في بيوت العراقيين، لأنها رمز من رموز الثورة».
واحتل الشعر مساحة متميزة، إذ جمع الثوار بين كتابة الشعر ومواصلة
الاحتجاج وهم يتعرضون للرصاص الحي والقنابل المسيلة للدموع ويقومون
بنقل الجرحى والمصابين وتجنب الاختطاف. كانت الانتفاضة، كما كتب علي
فائز، ولا تزال واحدة من « أكثر الانتفاضات العراقية التي ألهمت هذا
العدد الكبير من الشعراء لكتابة قصائدهم، مؤسسةً لجيل جديد يشبه وطنه
ويعيش همومه.» وفي مجال الغناء « أبدع شباب الانتفاضة في مدينة الموصل،
مثلا، في تحويل الأغنية الثورية الإيطالية «بيلا تشاو» إلى اللهجة
المحلية فباتت «بلا جارة»، أي لا حل يرجى، مع مشاهد مستوحاة من مسلسل
إسباني يروي قصة «انتقام من السلطة»، حملت طابعًا عراقيًا سلط الضوء
على معاناة الشباب في ظل البطالة والإهمال الحكومي»، كما كتب عثمان
الشلش مضيفا مساهمات عدد من المغنين الكبار والشباب، معتبرا أغنية رحمة
رياض أحمد «نازل أخذ حقي» من بين أشهر الأغاني التي جسدت الاحتجاجات.
ولئلا تصبح حياة شهداء الانتفاضة بضاعة لمقايضات السياسيين المبتذلة،
أعد الصحافي الاستقصائي حسن نديم كتابا يوثق بالتفصيل أسماء وحياة
ورحيل الشهداء وجعله متوفرا للجميع على الإنترنت.
باللغة الإنكليزية، صدر « طوباويو ساحة التحرير»، متضمنا قصائد 28
شاعرًا شابا (لا تتجاوز أعمار عدد منهم 19عاما) ممن شاركوا « في احتجاج
ساحة التحرير أو شهدوه»، جمعتها الشاعرة الشابة سما حسين عام 2021
وترجمتها وحررتها د. أنباء جاوي وكاثرين ديفيدسون.
أثبت الخزين الفني الهائل الذي أبدعته ساحات انتفاضة تشرين أن الفنون
لا تقتصر على النخبة فحسب بل أنها أرضية خصبة يملكها الجميع لبذر
الأحلام والتطلعات وإمكانية تحقيق البدائل. وللحفاظ على هذا الإرث
الثمين، كذاكرة شعب، تقع علينا مسؤولية تجميعه وصيانته، ربما كمتحف
وطني حي يليق بحياة وإبداع المشاركين بالانتفاضة وشهدائها، تُجمع فيه
حتى القنابل الحارقة التي استخدمت لقمع الأصوات الحرة. وقد يكون تجسيدا
لغرافيتي « يا بلد… في الحلم رأيت الموتى ينظفون أسلحة الجنود من
دمائهم» الذي خلّده زياد متي، مصور يوميات الانتفاضة.
كاتبة من العراق
العراق يُسبب
الصداع للحكومة البريطانية
هيفاء زنكنة
إذا كانت الإدارة الأمريكية تكتفي، بين الحين والآخر، بالتعبير عن
قلقها إزاء ما يجري في العراق من أحداث تكاد تفكك البلد، فإن الحكومة
البريطانية لا تختلف عنها كثيرا بل تسايرها، كتفا بكتف، حسب تعبير رئيس
وزرائها السابق أثناء الإعداد لشن الحرب العدوانية عام 2003.
ويلازم تعبير القلق، وما يلازمه من صداع، الحكومة البريطانية مهما كان
الحزب الحاكم وعلى الرغم من الضجة الإعلامية الكبيرة التي صاحبت
توقيعها اتفاقية التعاون الاستراتيجي، منتصف العام الماضي، الملزمة
للجانب البريطاني بما هو أكثر من إبداء القلق إن لم تعمل على تطبيق
بنود معينة على حساب بنود أخرى وفق مصلحتها، بناء على منظور طرحه تقرير
أخير للبنك الدولي يشخص فيه «الخصائص الثلاث التي تكمن وراء مآزق
العراق: حكمه السيئ، والاعتماد على الثروة النفطية، والتنوع العرقي
والإقليمي».
ويفترض أن مزيج الثروة النفطية و«التفتت العرقي والديني» أدى إلى
الصراع والعنف والهشاشة. وهو منظور يوفر للحكومة البريطانية صك الغفران
عما ارتكبته والإدارة الامريكية من جرائم وتخريب متعمد ومأسسة الفساد
بالإضافة إلى المحاصصة الطائفية والعرقية، ومن خلال إلقاء اللوم الكلي
على أهل البلد أنفسهم وكأنهم يعيشون في ظروف مختبرية نموذجية بلا
مؤثرات ومصالح خارجية مهما كان حجمها، فكيف إذا كان المؤثر الخارجي
غزوا واحتلالا تم التخطيط له على مدى عقود؟
أبدت الحكومة البريطانية «قلقها» أخيرا، في إجابة لسؤال طرحه وزير
الدولة للدفاع في حكومة الظل على وزير الخارجية للدفاع، نهاية الشهر
الماضي، عن ماهية المناقشات التي أجراها مع نظيره العراقي حول المصالح
الأمنية للمملكة المتحدة في العراق منذ يونيو/ حزيران 2022، مشيرا بذلك
إلى أحد جوانب الاتفاقية. وهو جواب يستحق المتابعة لأنه يساعدنا على
الفهم بعيدا عن آنية التصريحات المتبادلة بين ساسة ما بعد الانتخابات
العراقية. أجاب الوزير أن الحكومة البريطانية تُبقي الاستقرار الداخلي
العراقي قيد المراجعة المنتظمة، وأن الأجواء وإن هدأت قليلا إلا أنها
لاتزال متوترة في وسط وجنوب العراق ويمكن أن تُسبب مزيدا من
الاحتجاجات.
مكتفيا بذلك، لجأ الوزير إلى المشجب الذي يتم تعليق كل ما يجري من
أحداث وجرائم عليه، وهو مكافحة الإرهاب المتمثل، منذ عام 2014، بمنظمة
داعش ومن قبله بتنظيم القاعدة أو كل ما ترغب أمريكا بوصمه بالإرهاب.
إذ بقي وسم «الإرهاب» مطاطيا وصالحا لكل تبريرات التدخل في شؤون الدول
الداخلية وتصفية الخصوم بمختلف الطرق. وأكثر أسلحة التصفيات شيوعا
حاليا هو الطائرات بلا طيار. لذلك كان من الطبيعي أن يؤكد الوزير
التزام المملكة بمهمة مكافحة داعش «والعمل جنبًا إلى جنب مع التحالف
الدولي» بناءً على الطلب المستمر من حكومة العراق، آملين « أن يجد
العراق حلاً سلميًا ومستدامًا للمأزق السياسي الحالي وأن تستمر الحكومة
العراقية في دعم هذا العمل الحيوي لضمان الهزيمة الدائمة لداعش».
أمان واستقرار الشعب العراقي ليس استراتيجية بريطانية أو أمريكية، بل
هو الاستراتيجية التي يجب أن نعمل على تحقيقها بأنفسنا ونحن ننظف دارنا
من الفساد
وتأتي إجابة الوزير متماشية مع البيان الذي ألقته نائبة المنسق السياسي
للمملكة المتحدة في الأمم المتحدة، في جلسة لمجلس الأمن الدولي بشأن
مكافحة الإرهاب في 9 أغسطس 2022. دعمت فيه النائبة السياسة الأمريكية
في التدخل الإمبريالي والاستهانة بمفهوم السيادة في كل مكان في العالم،
بضمنه العراق قائلة «لدينا جميعًا مصلحة مشتركة في استخدام كل رافعة في
حوزتنا لمواجهة تنظيم القاعدة وداعش والجماعات الإرهابية الأخرى. وعلى
الرغم من هزيمته على الأرض والعمليات الناجحة الأخيرة ضد قيادته، لا
يزال تنظيم داعش يمثل تهديدًا خطيرًا في العراق وسوريا، معقله
الاستراتيجي».
يتفق الساسة العراقيون مع الخطاب البريطاني في محاربة داعش، فهم أيضا
بحاجة إلى عدو مستديم.
إلا أن تصريحاتهم الإعلامية تمنح معاهدة التعاون الاستراتيجي وجها
برتوش تجميلية تُساعد على تمرير الادعاءات البريطانية حول تغطية
الاتفاقية جوانب أخرى مثل «الاقتصاد والتعليم والثقافة وتنفيذ القانون
والتعاون القضائي وحقوق الإنسان» حسب وزارة الخارجية العراقية. كما تضم
الاتفاقية، في ديباجتها، رسالة لو تم تطبيقها لاحتل الشعب العراقي
المرتبة الأولى في مقاييس الاستقرار والنزاهة والعدالة والديمقراطية،
ولما كان منحدرا إلى أسفل القوائم الدولية. حيث تنص الديباجة على أن
السبب الرئيسي لتوقيع الاتفاقية هو «الأهمية التي يوليها الطرفان
لأهداف ومبادئ ميثاق الأمم المتحدة، واحترام حقوق الإنسان، والمبادئ
الديمقراطية والحريات السياسية والاقتصادية التي تشكل أساس الشراكة بين
البلدين».
ولم تهمل ذكر « دعم جهود العراق لمواصلة الإصلاحات السياسية
والاقتصادية، وكذلك في تحسين الظروف المعيشية للفئات الفقيرة والمحرومة
من السكان». وهي إصلاحات لو تم تطبيقها فعلا بين (الشركاء) لتمكنت
بريطانيا وأمريكا من معالجة « قلقها» والقضاء على الإرهاب، مهما كانت
طبيعته، فضلا عن تخلصها من عقدة الرجل الأبيض تجاه دمقرطة «السكان
المحليين». وهذا ما لن يحدث فالعلاقة بين بريطانيا والعراق، في السنوات
الأخيرة التالية لتقليص الوجود العسكري، وغايته تقليل التكلفة المادية
وحماية حياة القوات البريطانية، ستبقى عند إزاحة غطاء « مكافحة داعش»
عن السطح، كما كانت في العقود السابقة للغزو. هدفها إبقاء العراق،
بوضعه الحالي، بكل مآسيه وتناقضاته وحالة الاقتتال المستهلكة لقوى
شعبه، لأنه الوضع الأفضل للسيطرة على مصدر الطاقة.
«بالطبع يتعلق الأمر بالنفط؛ لا يمكننا إنكار ذلك حقًا»، كما قال
الجنرال جون أبي زيد، الرئيس السابق للقيادة المركزية الأمريكية
والعمليات العسكرية في العراق، في عام 2007. وليس النفط هو السبب
الوحيد لشن الحرب، فقد شملت طبخة « التحرير وبناء الديمقراطية» تأمين
سلامة الكيان الصهيوني، وانعكست بقوة على فتح الأبواب أمام تهافت
الحكومات العربية على توقيع الاتفاقيات مع الكيان الصهيوني فضلا عن
صفقات السلاح وعقود الفساد الخيالية لـ «إعمار» ما قامت بريطانيا
وأمريكا بتهديمه. هذه الحقائق قد يُنسينا إياها الانخراط اليومي في
تفاصيل الوضع السياسي بكل صراعاته الحقيقية والمفتعلة، ومن مختلف القوى
والدول بضمنها « الشركاء». ولعل اقترابنا من الذكرى السنوية الثالثة
لانتفاضة تشرين/ أكتوبر وتكلفتها الغالية من حياة الشهداء، سيُذكرنا
بأن أمان واستقرار الشعب العراقي ليس استراتيجية بريطانية أو أمريكية،
بل هو الاستراتيجية التي يجب أن نعمل على تحقيقها بأنفسنا ونحن ننظف
دارنا من الفساد.
كاتبة من العراق
مستقبل العراق بين الرادود
وزراعة الرقائق في الدماغ
هيفاء زنكنة
على هامش الحياة اليومية لسكان كوكب الفيسبوك من العراقيين، ومن بين
ركام التعليقات بكل تفاصيلها الغنية والمبتذلة، برز في الأيام الأخيرة
خبر حظي بعدد كبير من التعليقات المؤيدة والمستنكرة وإشارات الرضا
والاحتضان على حساب خبر آخر لم ينجح، على أهميته، من الحصول إلا على
بعض الإيماءات الخجولة. فهل لهذا دلالة على حجم الوعي لدى سكان الموقع،
سواء كان شخصيا أو جماعيا، على تنوع خلفياتهم الثقافية عموما، أم إننا
نمنح الفيسبوك وسكانه أهمية أكبر من هدفه الأصلي، وهو تمضية الوقت
والتواصل وتبادل شذرات الاخبار أو تسويق النفس، في فضاء مشترك مريح؟
يتضمن الخبر الأول الذي شغل الكثيرين من سكان الفيسبوك واستقطب عديد
التعليقات وصفا يُسيء للصحابة، أطلقه شاب عنوان وظيفته «رادود» أي
حكواتي يسرد مقتل الأمام الحسين، ويعتمد مقياس نجاحه وارتفاع أجره على
قدرته في استدرار الدموع الغزيرة والبكاء واللطم. بتعليقه، سواء كان
ساذجا أو مخططا له، نبش الرادود جرحا بات ينزف على صفحات الفيسبوك،
وشغَل المعلقين حتى كادت الأصوات الناقمة تتساءل «هل تستطيع مياه
المحيطات غسل هذه الأيدي الملطخة بالدماء؟» كما تساءل الملك ماكبث في
مسرحية شكسبير الشهيرة، بعد ارتكابه جريمة قتل، لتجيبه زوجته قائلة
ببرود أن قليلا من الماء سيزيل الدماء.
أما الخبر الثاني وهو الذي رماه عراقيو الفيسبوك جانبا، فبدايته إعلان:
«احصل على شريحة الدفع الخاصة بك الآن لتخطو نحو المستقبل». ونقرأ من
خلاله كيف روجت الشركة البريطانية – البولندية «ووليتمور» أول دفعة من
شرائح الدفع الدقيقة القابلة للزرع في جسد المستهلك. فبتكلفة لا تزيد
على 199 يورو، صار بالإمكان التخلص من حمل النقود وبطاقات الإئتمان
مقابل زرع شريحة لا يزيد حجمها على حبة الرز لتكون الوسيلة الأكثر
أمانا للدفع، المقبولة عالميا، والآمنة بيولوجيًا بعد أن أكدت إدارة
الغذاء والدواء الفيدرالية الأمريكية صلاحيتها البيولوجية.
يوضح موقع الشركة كيفية غرز هذه الشرائح المعروفة تقنيًا باسم «شرائح
تحديد التردد اللاسلكي» تحت الجلد، وسلامتها. وقد اختار أكثر من 50 ألف
شخص، في أنحاء العالم، غرز الرقائق، لتحل محل المفاتيح وتذاكر السفر
الإلكترونية، وحتى تخزين معلومات الاتصال في حالات الطوارئ وملفات
تعريف الوسائط الاجتماعية.
تؤكد الشركة المنتجة في إعلاناتها على أنه من غير الممكن التجسس أو
تتبع أو مراقبة أو جمع أية معلومات عن مستخدم الشريحة. وهي النقطة
الأكثر إثارة للجدل والشك والخوف المتداخل مع الاحساس بعدم الأمان إزاء
فكرة غرز الشرائح مهما كان نوعها ومصدرها.
التطور الحالي وهو حصيلة عقود طويلة من تطبيق ما كان يتخيله رواد
الخيال العلمي ويهدف بشكله البريء إلى توسيع قدرات وقوى البشر وتمكينهم
من جعل أداء مهام معينة بشكل أسهل وأسرع، هو سيرورة، تحمل أيضًا
إمكانية التدخل بشكل خاص لأغراض الرقابة
هل صحيح أن وجود شريحة مبرمجة داخل الجسم لن يؤدي بالنتيجة إلى أما
السيطرة عليه أو تسهيل عملية السيطرة عليه ما دام التحكم بها يتم من
خارج الجسم؟ وإذا كان هذا صحيحا فكيف يتم التوصل إلى تكوين صورة شبه
متكاملة عن الانسان بدءا من مواصفاته الجسدية إلى ما يرغب فيه ويحبه،
عبر تجميع المعلومات عنه ومتابعته وملاحقته بواسطة الطائرات بدون طيار
بمجرد استخدامه بطاقة الائتمان أو الهاتف المحمول وبقية التقنيات
الرقمية المحيطة بنا؟ مما يقودنا إلى التساؤل، أيضا، عما إذا كان
التطور الحالي وهو حصيلة عقود طويلة من تطبيق ما كان يتخيله رواد
الخيال العلمي ويهدف بشكله البريء إلى توسيع قدرات وقوى البشر وتمكينهم
من جعل أداء مهام معينة بشكل أسهل وأسرع، هو سيرورة، تحمل أيضًا
إمكانية التدخل بشكل خاص لأغراض الرقابة وتسهيل عمليات الرصد، ليضاف
إلى ما تقوم به السلطات، في عديد الدول، من تجميع الحامض النووي
والبيانات البيولوجية، بما في ذلك عينات الدم وبصمات الأصابع
والتسجيلات الصوتية ومسح قزحية العين وغيرها من المُعّرفات الفريدة –
من مواطنيها، في عملية تضعهم تحت رادار السلطة بشكل شبه دائم.
ويتمثل أحد المخاوف الأمنية العامة في تقنية غرس الشرائح عموما في أنها
قد تسمح لأطراف ثالثة بالتنصت على اتصالات الجهاز أو تزويد بيانات
مشوهة. فمثل أي جهاز آخر، كما يُحذر باحثون في هذا المجال، تحتوي هذه
الشرائح الشخصية على ثغرات أمنية ويمكن اختراقها، حتى لو كانت مضمنة
تحت الجلد.
وإذا كانت روايات الخيال العلمي هي أساس الكثير مما وفره التقدم العلمي
والتكنولوجيا لنا، فما الذي يمكن أن يحمله المستقبل؟ يجيب كتاب الخيال
العلمي ويوافقهم العلماء: إنه زرع الشريحة في الدماغ. وهناك أمثلة
ناجحة طبيا. فقد ساعدت إحداها مريضا أمريكيا على استعادة السيطرة على
يده وأصابعه بعد إصابته بالشلل من الرقبة إلى أسفل. وطور أستاذ من جنوب
كاليفورنيا غرسة دماغية للمساعدة في تحسين الذاكرة القصيرة والطويلة
المدى. وبدأت شركته إجراء تجارب تبشر بنتائج إيجابية مع مرضى الصرع.
وأطلق إيلون ماسك، مالك شركة تسلا الأمريكية العملاقة، شركة جديدة يأمل
أن تعمل على «دمج الدماغ البشري مع الذكاء الاصطناعي» بهدف علاج أمراض
الدماغ الخطيرة.
هذا هو الجانب الإيجابي الذي سيقود إليه زرع الشرائح في الدماغ.
الملاحظ أن كل الأمثلة الإنسانية الناجحة حتى الآن تم تنفيذها في
الغرب، بينما تلقى العراق، مثلا، التطبيق القاتل للتطور العلمي ـ
التكنولوجي فمن قذائف اليورانيوم المنضب والفسفور الحارق إلى أجهزة
استشعار الحركة المحمولة على الطائرات، والأقمار الصناعية وكاشفات
الحرارة وأجهزة تنصت الصور والاتصالات بالإضافة الى تقنية تصوير قزحية
العين الذي استخدم لتحديد هوية الداخلين إلى مدينة الفلوجة بعد تهديم
70 بالمئة منها.
فما الذي يحمله المستقبل إذن بصدد غرز الشرائح، ولدينا ما يدل على أن
تطبيقها سيميل أكثر نحو إحكام السيطرة على الافراد والمجتمع في البلدان
العربية وبقية الدول الخاضعة لحكومات تحرم مواطنيها من حرية الاختيار؟
وهل سنكون قادرين على التوعية بهذه المسارات الخطرة المُستهدفة لوجودنا
بينما ننشغل بالنظر الدائم الى الوراء، لا لاستخلاص العبرة وتفادي
الأخطاء ولكن، كما نرى في عراقنا اليوم، لتكرار الأخطاء؟ إذا كان ما
يُنشر على الفيسبوك إشارة، مهما كان حجمها، تساعدنا على إستشراف
المستقبل، فإنه يُبلغنا رسالة مفادها أنه إذا ما استمر تدهورنا الحالي،
سيكون من الصعب رؤية ما سيحمله المستقبل لنا بتطوره العلمي الهائل، إلا
من منظور فئران التجارب.
كاتبة من العراق
رحيل ملكة… قلب
الإمبراطورية الأسود بوجه أبيض
هيفاء زنكنة
أبعدت وفاة الملكة إليزابيث الثانية الحرب الأوكرانية عن عدسة الإعلام
ومع التعازي ومظاهر الحزن، والتغطية الإعلامية المتواصلة، تدفق التبجيل
والذكريات السعيدة عن الراحلة ممتدا من المنظور العائلي الخاص إلى
السياسي العام. وتحدث كل من التقى بها من الساسة عن إلمامها السياسي
الكبير بما يدور في أرجاء العالم وتفاعلها الإنساني مع الأحداث مع
التزامها برمزية منصبها. وهي نقطة تثير الكثير من التساؤلات عند
الاستماع إلى ذكريات الساسة البريطانيين، بضمنهم كبار المسؤولين ورؤساء
الوزراء، التي تؤكد أنها كانت تتخطى حدود رمزية المنصب، بشكل غير
مباشر، وغالبا عبر الثقل الذي يحمله رأيها واستنادا إلى مكانتها كممثلة
لسلطة مركزية متوارثة منذ عام 827 ميلادي.
ففي مجلس اللوردات الذي كرس جلسته الأخيرة لتأبين الملكة، تحدث لورد
ستيراب، عضو لجنة العلاقات الدولية والدفاع، مذكرا إيانا بأن الملكة
كانت قائدة القوات المسلحة، وهو منصب قلما يتم ذكره. وأنها طالما أولت
اهتمامًا كبيرًا لأنشطة القوات من الصعوبات والتحديات إلى النجاحات.
مستطردا بأنه أراد التركيز على حادثة واحدة فقط جرت منذ عدة سنوات. حين
كان مسؤولا عن قاعدة تابعة لسلاح الجو الملكي البريطاني، الذي قاد حرب
الخليج الأولى، قائلا: « عندما بدأنا نفقد الطائرات فوق العراق، كانت
الملكة على اتصال على الفور، وأرادت معرفة كيف يمكنها المساعدة، وعلى
وجه الخصوص كيف يمكنها دعم العائلات. جاءت وعقدت اجتماعات خاصة مع أقرب
أقارب المفقودين في العمل… وجعلتهم يفهمون مدى اهتمامها.» وهو موقف
مفهوم لأي قائد عسكري يدرك مسؤوليته تجاه قواته، لكنه لا يعني وصف ما
يقوم به القائد بالإنسانية الشاملة، تجاه الشعوب، أيا كانت، كما تدل
رسائل التعزية المرسلة إلى المملكة ومن بينها رسائل الملوك والرؤساء
العرب. فالملكة الراحلة لم تهتم إطلاقا بالعوائل العراقية التي قُتل
أفرادها كانت بقصف سلاح الجو الملكي البريطاني بل بالبريطانيين فقط.
الجانب الآخر المعني أكثر بتوضيح موقفها «الإنساني» من الشعوب في أرجاء
العالم، هو تنصيبها توني بلير، رئيس وزراء حزب العمال السابق، كعضو في
حملة «وسام الجارتر»، وهو أقدم وأعلى رتبة في منزلة الفرسان المُقربة
من الملكة والمؤثرة في إنكلترا، ولا يزيد عددهم عن 24 عضوًا على قيد
الحياة. وقد تأسس هذا النظام المتجذر في فكرة الفروسية في العصور
الوسطى عام 1348، عندما كان الملوك يحيطون أنفسهم بأقوى حلفائهم من
الطبقة الأرستقراطية. ولمن يحاجج بأن تعيين توني بلير جاء كقرار
مؤسساتي لأن دور الملكة رمزي، أُذكر بأن التعيينات تتم وفقا للاختيار
الشخصي للملكة ومشيئتها والأكثر من ذلك إنها تتم دون مشورة رئيس
الوزراء بعد تعليبها بأنها «اعتراف بمساهمة وطنية أو خدمة عامة أو خدمة
شخصية للملك»، بشكل يُراد له تجاوز مفهوم القرون الوسطى وإن بقي، في
جوهره كما هو.
أبعدت وفاة الملكة إليزابيث الثانية الحرب الأوكرانية عن عدسة الإعلام
ومع التعازي ومظاهر الحزن، والتغطية الإعلامية المتواصلة، تدفق التبجيل
والذكريات السعيدة عن الراحلة ممتدا من المنظور العائلي الخاص إلى
السياسي العام
كيف يتماشى اختيار توني بلير مع صورة الملكة الإنسانية الهائلة التي
يتم تدويرها حاليا في أرجاء الكون؟ وكيف بالإمكان هضم الحزن الجماعي
الشامل الذي تُرّوج له أجهزة الإعلام والمؤسسات الرسمية لشعوب ذاقت
الأمرين من سياسة بريطانيا الخارجية الاستعمارية ويُنكس لها الحكام
العرب الإعلام لعدة أيام؟
« تكريم توني بلير؟! يجب أن يُحاكم بسبب الكارثة في العراق». لم يكن
هذا صوت العراقيين المناهضين لشن الحرب ضد العراق لتقوم الملكة بتجاهله
بل واحدا من عدة عناوين رئيسية نشرتها الصحافة البريطانية عندما أعلنت
الملكة عن تكريمها توني بلير. كما تجاهلت عريضة وقعها ما يزيد على
المليون مواطن بريطاني (بضمنهم من أصول عربية وإسلامية) تطالب بسحب
تكريمه لأنه «مجرم حرب» أدانته محاكم الضمير في حوالي 12 دولة،
لمسؤوليته عن قتل مليون عراقي بشكل مباشر وغير مباشر. وكان في تقرير
تشيلكوت الذي أجرته الحكومة البريطانية نفسها ما يدينه، لو تم الأخذ
به، كمسؤول عن شن حرب عدوانية بالشراكة مع الرئيس الأمريكي جورج بوش.
وعلى المستوى الشعبي، طالما تمتعت الملكة بحضور وصراخ الحشود حول قصرها
احتفالا بالمناسبات الملكية، فكيف لم تسمع صرخة الاحتجاج العالمية
المناهضة للحرب التي شارك فيها مليونا مواطن بريطاني في أكبر مسيرة
احتجاجية شهدتها بريطانيا على الإطلاق، وهي الأولى من نوعها التي
يتظاهر فيها الناس على حرب قبل شنها؟ ألم يُطلعها أحد على تجاهل توني
بلير لصوت رعاياها المخلصين للمملكة وسلامة وأمن شعبها المناهضين، في
الوقت نفسه، للحروب الإمبريالية لمعرفتهم بحجم تهديدها للسلام الداخلي
والخارجي معا؟ لم اختارت الملكة ضّم توني بلير إلى حلقة النخبة من
«فرسانها» متجاهلة أصوات المحتجين ضد التكريم، كما تجاهل بلير أصوات
المحتجين ضد الحرب ليعيد التاريخ نفسه متعجرفا إزاء رعايا الإمبراطورية
كما الشعوب التي استعمرتها الإمبراطورية؟
هل يكمن الجواب في أن ما حققه توني بلير كرئيس للوزراء من التقارب
السياسي الوثيق مع أمريكا وخوضه الحرب العدوانية لتثبيت القدم الأنكلو
أمريكية على الأراضي والموارد العراقية، وتحطيم الدولة وتحييد الموقف
العراقي المبدئي من القضية الفلسطينية، هو في صلب الحلم الملكي
باستعادة ما كان؟
وإذا كان مقياس نجاح أي حكومة هو ما تحققه من رفاه اقتصادي، فهل هناك
ما هو أكثر ربحا من الصناعات المرتبطة بالحروب والاستيلاء على موارد
الدول التي تنهشها الحروب والنزاعات، بأنواعها، أي ما أنجزه بلير؟
ولا يمكن استبعاد فهم تقدير الملكة لتوني بلير وتكريمه على الرغم من
كونه متهما كمجرم حرب إلا بالنظر إلى نشأتها كابنة وفية لإمبراطورية
انتزعت رفاهيتها من دماء الشعوب. ألم تُعّرب في بداية تنصيبها كملكة عن
تقديرها «لخبرة رئيس الوزراء تشرشل وحكمته وبلاغته وكيف تتطلع إليه
كدليل يساعدها على كيفية التصرف كملكة»، وهو من أكثر المتحمسين
لاستخدام «أسلحة الدمار الشامل» قائلا «أنا أؤيد بشدة استخدام الغازات
السامة ضد القبائل غير المتحضرة» بضمنهم الكرد في شمال العراق، ومبررا
القتل الجماعي بحس نكتة إنكليزي متسائلا: «لماذا ليس من العدل أن يطلق
مدفعي بريطاني قذيفة تجعل المواطن المذكور يعطس؟» واصفا موقف المعترضين
«إنه حقًا سخيف للغاية».
كاتبة من العراق
هل انتهت صلاحية الصراع
السني ـ الشيعي في العراق؟
هيفاء زنكنة
وأخيرا عاد العراق ليحتل، بعد غياب، مكانا في نشرات الأخبار الدولية.
لا لفوزه في ألعاب الساحة والميدان أو كرة القدم أو أي تقدم علمي أو
حضاري يليق بتاريخه وسمعته التي طالما تغنى بها أبناؤه والعالم العربي
والإسلامي، بل جاءت عودته بعد تغييب لأنه ساحة للاقتتال الداخلي وغياب
العقلانية في تسيير الأمور، في داخل الداخل. مما جعل خارطة العراق، كما
نعرفه، مقسمة إلى أجزاء من الصعب تجميعها إذا ما استمر الوضع على حاله.
ففي الأسابيع الأخيرة، وهنا تكمن جاذبية التغطية الإعلامية الدولية، لم
يعد القتلى من العراقيين ضحايا الحرب العراقية الإيرانية، أو نظام صدام
حسين، أو قصف تحالف ثلاثين دولة بقيادة أمريكا، أو الحصار، أو المليون
من ضحايا الغزو والاحتلال، وما تلاه من إرهاب بمسميات مختلفة من بينها
تنظيم داعش. بل صار العراق، في وضعه الأكثر انحدارا في ظل حكومات
الاحتلال « الديمقراطية» ساحة للمنافسة للفوز بجائزة من الذي يحصد
أرواحا أكثر؟ من الذي يختطف ويعذب ويقتل أكثر؟ من هو الحائز على
الميدالية الذهبية لرفع راية الحزب الذي تقوده ميليشيا تتلذذ بطعم
الموت؟
« في الحروب ليس هناك فائزون» مقولة قد تكون صحيحة في مكان ما في
العالم إلا أنها غير صحيحة إزاء كثرة ضحايا سباق القتل المتعمد في
العراق وكثرة المستفيدين منه. فكل الدول التي ساهمت ولاتزال بتحطيم
البلد فائزة وكذلك من تقاطعت مصالحهم معها من العراقيين. وإذا كانت
الخسارة الحقيقية مُجسّدة بالضحايا وعوائلهم من نساء وأطفال، فإن
الضحايا لا يسلمون حتى بعد قتلهم، من قبل قاتليهم. إذ تسارع الأحزاب و«
التيارات» و«المكونات» للمتاجرة بهم في ساحة منافسة أخرى ولكن باسم
وتعليب جديدين.
من بين مسميات الضحايا الجديدة التي شاعت في الأسابيع الأخيرة، أثر
إقتتال يوم الاثنين الماضي، الذي خّلف 45 قتيلاً وعشرات الجرحى، بعد
ساعة من إعلان مقتدى الصدر، قائد التيار الصدري اعتزاله، واقتحام
أنصاره المباني الحكومية في المنطقة الخضراء، ولأغراض التسويق السياسي
والمنافسة على المناصب والفساد، تم تداول المسميات التالية: «شهداء
فتنة الخضراء»، «ضحايا الاشتباكات»، « شهداء الحشد الشعبي»، « شهداء
الثورة السلمية». كل هذا قبل وقوع الاشتباكات المسلحة بين مليشيا سرايا
السلام التابعة للصدر من جهة، وعصائب أهل الحق التابعة لقيس الخزعلي من
جهة اخرى، في مدينة البصرة، ليلة الأربعاء الماضي.
للتغطية على سقوط الضحايا، سارع الساسة وقادة الميليشيات ورئيس
البرلمان وكل المسؤولين بشكل مباشر أو غير مباشر، وعلى رأسهم مقتدى
الصدر ونوري المالكي، إلى الإعلان عن إقامة مجالس عزاء وحداد « على
أحداث المنطقة الخضراء». ففي سباق المتاجرة بأرواح الضحايا بات إعلان
الحداد هو العملة الرائجة لغسل الأيادي من دماء الضحايا.
جوهر الخلاف الحقيقي هو المنافسة على السلطة لصالح هذه الجهة أو تلك
بالتوافق مع المصلحة الذاتية وكيفية توزيع عائدات النفط الباذخة
حيث أعلن رئيس البرلمان الحداد لمدة 3 أيام في مجلس النواب على «أرواح
ضحايا العراق»، مع العلم أن البرلمان لم يكن منعقدا بل محتلا سوية مع
المنطقة الخضراء، وسط بغداد، من قبل أنصار الصدر. وأعلن «الإطار
التنسيقي» وهو تجمع أحزاب شيعية بقيادة رئيس الوزراء الأسبق نوري
المالكي، عن إقامة مجلس عزاء على» أرواح ضحايا الاشتباكات». وأقامت
ميليشيا الحشد الشعبي، المدعومة إيرانيا، مجلس عزاء على «أرواح ضحايا
أحداث المنطقة الخضراء» بحضور معتمد المرجع الديني السيد علي
السيستاني. أما مقتدى الصدر، فقد أعلن وزيره (ولعل الصدر هو رجل الدين
الوحيد في العالم الذي لديه وزير) عن إضرابه عن الطعام وحل ميليشيا
سرايا السلام التابعة له (وهي ليست المرة الأولى)، طالبا من أنصاره «أن
يُكثروا من الاستغفار وأن لا يعودوا لمثل هذا العمل مستقبلا حيا كنت أم
ميتا». عازفا بذلك على نغمة الاستشهاد التاريخية.
وكأن أيام حداد العراقيين المتشحة بالسواد، وممارسة اللطم والجلد
وتطبير الرؤوس ومجالس العزاء من أول شهر محرم حتّى العشرين من صفر،
بمناسبة مقتل الحسين، لم تعد كافية. لم يعد تكاثر الأيام السود، في
العقدين الأخيرين، بسرعة باتت تنافس مجموع ما عاشه العراقيون من ظلمة
حالكة على مدى تأسيس الدولة العراقية، كافيا. والمفارقة المُهينة لعموم
العراقيين أن تأتي الزيادة المتسارعة في ظل حكومات كان أفرادها، ولا
يزالون، يتباكون على مظلوميتهم، والتمييز ضدهم في عصور الخوف والقتل
والمطاردة، وعلى مر الظروف التاريخية. وإذا كان الحزن الجماعي على
استشهاد الحسين الذي يمثل خط الثورة والتضحية والمتبدي في إقامة الطقوس
والشعائر والمواكب (تم تسجيل تسعة آلاف موكب للمشاركة في إحياء مراسم
الأربعين حتى يوم السبت) فإنه، في ترجمته ضمن واقع النظام العراقي
الحالي لا يزيد، سياسيا واقتصاديا، عن كونه سوقا للمزايدة الشعبوية
والابتزاز العاطفي ومحاصصة الفساد الطائفي. وظهرت ذروة الانحطاط
(ولنأمل أنها وصلت القاع فعلا ولا مجال للانحدار أكثر) في الشهور
الأخيرة حين انتهت صلاحية استخدام مبرر «الإرهاب السني» ليطفو على
السطح جوهر الخلاف الحقيقي وهو المنافسة على السلطة لصالح هذه الجهة أو
تلك بالتوافق مع المصلحة الذاتية وكيفية توزيع عائدات النفط الباذخة.
فكما أن الارهاب لا يميز بين الناس، أثبت اقتتال «أهل البيت» أن هوس
السلطة، مهما كانت أهدافه، وبتعدد مستوياته الشخصية والعامة، هو
الأساس. كما أجهض إقتتال «أهل البيت» الدموي الأخير، وتبادل الاتهامات
بين «الفصائل المسلحة»، وتبادل إطلاق النار بالرشاشات والصواريخ
واستهداف القوات الأمنية من كل جانب، الفبركة الاستعمارية (القديمة –
الجديدة) التي روّج لها المحتل الأمريكي بأن عدم نجاحه في العراق، على
الرغم من حسن نيته، سببه الصراع السني الشيعي والمظلومية التاريخية بكل
أثقالها وتمظهراتها!
ولعل هذه الحصيلة، رغم ثمنها الغالي، هي الجانب الإيجابي الوحيد الذي
يلوح من فوضى الصراع الذي لا يمكن التحرر منه ما لم يتم التعامل،
وطنيا، مع مخلفات الاحتلال الأمريكي، بضمنها تحويل العراق إلى ساحة
لاستعراض العضلات مع إيران، وهدفه في الهيمنة على مصادر الطاقة
بالإضافة إلى الأحزاب والميليشيات والعشائر، الممولة إقليميا، ذات
المصلحة في إدامة الصراع الطائفي القومي لتسهيل سيطرتها على موارد
النفط وتوزيعها حسب المحاصصة.
كاتبة من العراق
الحرب الأوكرانية بريئة
من تُقزّم خمس العراقيين
هيفاء زنكنة
يعاني واحد من كل خمسة أطفال من التقزم في العراق. هذه حقيقة يحاول
الصراع السياسي المفتعل دفنها، سوية، مع تبادل الاتهامات بالفساد، على
الرغم من إختلاف الإثنين. فبينما بالإمكان إجراء الإصلاحات، وبعضها
فوري، لتجاوز الفساد، سيحتاج علاج ما يصيب الأطفال من أضرار،
وانعكاساته على حياتهم ومستقبلهم، بمختلف النواحي، إلى ما هو أكثر من
جيل.
من المعروف أن السبب الرئيسي للتقزم، أي عندما لا ينمو الأطفال كما
يُفترض ويكونون أقصر وأقل وزنا، بالنسبة لسنهم، هو «نقص التغذية» لأنهم
لا يحصلون على ما يكفي من الغذاء. وقد برزت هذه الظاهرة، في سنوات
الحصار الذي فُرض على العراق ( 1990 – 2003). حين عاش الشعب فترة تدهور
اقتصادي لا مثيل له، وعانت النساء، كأمهات بشكل خاص، من عدم الحصول على
ما يكفي من الطعام قبل الحمل وأثناءه، كما تشير تقارير منظمة اليونسيف،
فازداد خطر الإصابة بالتقزم. وتؤكد تقارير المنظمة، كما منظمة «أنقذوا
الأطفال» الدولية، وبقية المنظمات المعنية بنمو الأطفال وتنمية قدراتهم
العقلية، أهمية ما تسميه «نافذة الألف يوم» أي من بداية حمل المرأة حتى
بلوغ الطفل عامه الثاني، وهي الفترة الأكثر تأثيرا على إمكانيات الطفل
وتطوره المعرفي في المستقبل، لأنها الفترة الحرجة لتكوين وتطور الدماغ،
والتغذية الجيدة للأم ضرورية كما تستمر في لعب دور رئيسي في ضمان نمو
الدماغ بشكل صحيح. وإذا كان الحصار قد ألحق الضرر بجيل من أطفالنا، فإن
تراكم عوامل أخرى زادت من حجم المأساة وألحقت الضرر بالأجيال التالية.
من بينها الحروب، والاحتلال، والنزوح القسري، وتعرض العديد من المرافق
الصحية للضرر أو النهب أو فقدان موظفيها بسبب النزوح القسري، ونقص
الإمدادات الطبية جراء تضخم حجم الفساد المالي والإداري.
في دراسة اجراها خمسة من الباحثين العراقيين بعنوان «سوء التغذية بين
الأطفال بعمر 3 – 5 سنوات في بغداد» ونُشرت في دورية علمية عام 2013،
أن معدل الانتشار الإجمالي للأطفال ناقصي الوزن في بغداد هو 18.2
بالمئة وأن النسبة أعلى بقليل بين الإناث مقارنة بالذكور. خلُص
الباحثون إلى عدم وجود علاقة بين المستوى التعليمي للوالدين أو الحالة
الوظيفية وسوء تغذية الأطفال، متوصلين إلى أن سوء التغذية يرتبط بشكل
كبير، خاصة بعد حرب عام 2003 «بالعيش في أحياء غير آمنة ومقتل فرد واحد
على الأقل من الأسرة خلال السنوات الخمس الماضية». كما اهتمت دراسات
أخرى بالعلاقة بين العوامل البيئية والتغذية والصحة، ومن بينها ظروف
الحرب، وتأثيرها على النمو البدني للأطفال.
بانتظار التغيير الحقيقي النابع من صميم الشعب، سيبقى خمس العراقيين
يعانون من التقزم وانعكاساته الجسدية والنفسية والاقتصادية المُدّمرة
على مستقبل البلد كله
تستند معظم الدراسات ذات العلاقة على أن الاحتياجات الأساسية المحددة
للسلوك البشري والضرورية بالتالي لمستقبل البلد هي الصحة، التعليم،
المساواة، العمل، والاقتصاد. وكلها، حسب منظمة الغذاء الدولية، تقريبا،
في تدهور مستمر في العراق الذي يبلغ عدد سكانه 39 مليونا، من بينهم 1.2
مليون نازح و 2.4 مليون شخص في أمس الحاجة إلى الغذاء ومساعدات سبل
العيش مع استشراء البطالة. مع وصول معدل الفقر إلى 31.7 بالمئة، في عام
2020. ويحتل العراق المرتبة 123 من بين 189 دولة في مؤشر التنمية
البشرية للعام نفسه. وهي نتيجة متوقعة جراء سوء التغذية المزمن، الذي
بقي مهملا وبلا حل، على الرغم من رفع الحصار، منذ عشرين عاما، وإرتفاع
ميزانية الدولة ارتفاعا لم يشهد له العراق مثيلا. ويُظهر العديد من
الدراسات طويلة المدى، من بينها دراسة لسوزان ووكر، أستاذة التغذية في
معهد أبحاث طب المناطق الحارة بجامعة ويست إنديز، أن سوء التغذية لا
يقلل من فرص بقاء الأطفال على قيد الحياة، ويعيق صحتهم ونموهم فحسب، بل
أن الأطفال الذين يعانون من التقزم لديهم مستويات أقل من القدرة
المعرفية، وضعف الإنجاز المدرسي. ويظهر الكثير منهم اللامبالاة وأنماط
السلوك المشوهة الأخرى. وأن هذه الآثار تستمر حتى مرحلة البلوغ مع
انخفاض معدل الذكاء، ومستويات أقل من التحصيل الدراسي، ومشاكل صحية
عقلية أكثر تواترًا حين تمتد تأثيرات التقزم لتتعدى الأضرار الجسدية
والعقلية المباشرة إلى الأضرار النفسية، مسببة شرخا عميقا في احترام
الذات والثقة بالنفس والطموح لتغيير الوضع الذي كانوا عليه.
يأخذنا الرصد الأوسع والأبعد لهذه الكارثة في مرحلة ما بعد الغزو ورفع
الحصار، إلى فشل حكومات الاحتلال المتعاقبة في توفير الاحتياجات الصحية
الأساسية، من مبان وكوادر إلى الأمن الغذائي والإنساني. ويتبدى الفشل
في إهمال الأراضي الزراعية والمحاصيل والاعتماد على استيراد المواد
الغذائية بدلا من تصنيعها وعدم ايجاد الحلول لمشكلة الجفاف الناتجة عن
تحكم دول الجوار بمصادر المياه والفساد وسوء إدارة موارد الدولة. وإذا
كانت محاججة الحكومة بصدد كل المشاكل، خاصة توفير المحاصيل الغذائية،
هي الغزو الروسي لأوكرانيا منذ ستة أشهر، فإن هذه المحاججة واهية تماما
لأن ما يعانيه العراق من مشاكل ومن بينها سوء تغذية الأطفال وظاهرة
التقزم يعود إلى عدة عقود وليس ستة أشهر من الحرب في أوكرانيا التي
باتت المشجب الذي تُعلق عليه الحكومات الفاشلة، في أرجاء العالم،
إخفاقاتها.
وإذا كان العراق يعاني من نقص الغذاء إلا أنه بالتأكيد لا يخلو من
الافكار البّناءة والحلول وخطط التنفيذ من قبل عراقيين متمرسين في هذا
المجال، فضلا عن البرامج المقترحة من قبل منظمات حماية الأطفال
الدولية، وعدد منها فاعل بزخم معقول داخل البلد، إلا أن إصلاح السياسات
والمؤسسات، لا سيما في القطاعَين الزراعي والغذائي، ناهيك عن الصحة
والتعليم، لا يحظى بالأولوية لأن تفكيك الدولة بعد الاحتلال جعل
الحكومات عاجزة عن تمويل هذه البرامج، ولا يمكنها تطبيقها لغياب نية
البناء البشري والوطني من قبل الساسة المنشغلين بالصراعات المذهبية
والعرقية والعشائرية والفساد المستشري. وبانتظار التغيير الحقيقي
النابع من صميم الشعب، سيبقى خمس العراقيين يعانون من التقزم
وانعكاساته الجسدية والنفسية والاقتصادية المُدّمرة على مستقبل البلد
كله.
كاتبة من العراق
الفوزالأوكراني في السعودية
هيفاء زنكنة
فاز، يوم السبت الماضي، الأوكراني أولكسندر أوسيك ببطولة العالم
للملاكمة للوزن الثقيل، على البريطاني أنتوني جوشوا، في النزال الذي
أُقيم في مدينة الملك عبدالله الرياضية في جدة. أهدى أوسيك، من أرض
المملكة العربية السعودية فوزه إلى بلده الذي يواجه غزواً روسياً منذ
شباط/ فبراير الماضي، وإلى عائلته و” كل الجنود الذين يدافعون عن
وطني”. احتفى الجمهور، وبحضور ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، بفوز
الملاكم الأوكراني وألوان علم أوكرانيا وكلمات “ألوان الحرية” المكتوبة
على ملابسه. وهو أمر قد لا يثير الانتباه لولا ما يستحضره في الذاكرة
ويدعو، كما هي عادة الاستعادة للأحداث، إلى المقارنة ومحاولة تعلم
الدروس، ربما لأننا لا نزال نؤمن، حتى ونحن نرى العالم يكرر نفسه في
استنساخ همجي، بما قاله الكاتب السعودي عبد الرحمن منيف، بأن ” من يقرأ
الماضي بطريقة خاطئة سوف يرى الحاضر والمستقبل بطريقة خاطئة أيضا، لذلك
لابد أن نعرف ما حصل لكي نتجنّب وقوع الأخطاء مرة أخرى. فمن الغباء أن
يدفع الإنسان ثمن الخطأ الواحد مرتين” يقول الكاتب السعودي عبد الرحمن
منيف لئلا نعيش الخطأ مرتين”.
إن الحدث الذي احتضنته السعودية رياضي، والملاكمة رياضة معترف بها
دوليا وأولمبيا، والرياضة كما هو متعارف عليه في المواثيق الرياضية،
وباتفاق إجماعي بين النوادي والمنظمات الرياضية وحتى الدول، يجب أن
تبقى حيادية بعيدة عن السياسة. وتحظر المادة 51 من الميثاق الأولمبي
وقانون الاتحاد الدولي لكرة القدم) الفيفا) أي شكل من أشكال التعبير
السياسي أو الديني على أرض الألعاب الرياضية. إنها فسحة الهواء التي
يتنفس من خلالها الجمهور هواياته وشغفه بالألعاب والتعبير عن مشاعره عن
طريق المشاهدة بشكل جماعي. تحييد الرياضة، إذن، كما يدافع مؤيدو وجهة
النظر هذه، ضروري. وهناك أمثلة كثيرة عن رياضيين تم إبعادهم أو
معاقبتهم لأنهم عبروا عن مواقف سياسية. من هذا المنطلق، يستوقفنا
النزال في السعودية وما صاحبه من تصريحات من قبل الفائز، وكيفية التقبل
الرسمي المحلي والعالمي لموقفه السياسي المُرحب به بينما، يتم في الوقت
نفسه، منع الرياضيين الروس من المشاركة في أي مسابقة رياضية دولية فقط
لكونهم مواطنين روسا. فالملاكم أوسيك مقاتل متطوع في القوات الخاصة
الأوكرانية. نُشرت له صور وهو يحمل السلاح. تفاخر مدير فريق الملاكمة
لشبكة ( سي أن أن) قائلا أن مهمّة أوسيك “كانت التنقل بحثاً عن أشخاص
غرباء. ونصب حواجز لمراقبة من يدخل ومن يخرج. وللتأكد من عدم عبور
أشخاص غرباء أو يشكلون خطراً”.
أجبرت الحرب في أوكرانيا عالم الرياضة على اختيار جانب، وهي تعني ذلك
حقًا”. وهو موقف سليم تماما، ويبقى السؤال: هل سيُطبق على جميع
الرياضيين في كل الدول أم أن ازدواجية المعايير لغة وممارسة ستبقى هي
العملة المتداولة كما هو الموقف الحالي من أوكرانيا؟
فأُضيف إلى لقب أوسيك الملاكم بطل العالم، لقب المقاوم، مقاتل الغزاة
الروس، المدافع عن بلده ضد الاحتلال. الأمر الذي يجعلنا بمواجهة تساؤل
مهم، كيف يتم السماح لمقاتل غير نظامي يحيط مهامه على أرض المعركة
الغموض المشاركة بحدث رياضي عالمي؟ هل لأنه أوكراني وطبول دعم
أوكرانيا، إعلاميا وحربيا واقتصاديا، من قبل دول الناتو، وحاجة
السعودية إلى تغيير إطار صورتها، أمام العالم، أعلى من أي منطق؟ وكيف
بات لقب الأوكراني، مهما كانت طبيعة العمليات التي يُنفذها، مُقاوما،
في اللغة اليومية الشائعة للسياسيين وأجهزة الإعلام العالمية، بينما تم
وسم العربي والمسلم المقاوم بالإرهاب وبتنويعات أخرى كما رأينا بعد
الغزو الأنكلو أمريكي للعراق في عام 2003، وكما يواصل الاحتلال
الصهيوني وصف مقاومة الشعب الفلسطيني ويكررها من بعده العالم؟
لغويا ولغرض ترسيخ صورة معينة، ولنأخذ العراقي نموذجا، استحدث المحتل
الأمريكي نعوتا مهينة للحط من قيمة العراقي المقاوم وإنسانيته، لتبرير
قتله من جهة وتماشيا مع سياسة أمريكا بأن من الممكن كسب الحرب في ساحة
الرأي العام دعائيا وإعلاميا. بداية، كان وصف المقاوم: صداميا، فاشيا،
ثم أصبح إسلاميا، سنيا، وقاعدة. وخلافا لما يحدث بأوكرانيا، من تشجيع
للمتطوعين الأجانب للقتال ضد الاحتلال الروسي، وُصف المتطوع العربي
المتوجه إلى العراق للدفاع عن البلد ضد الغزاة بأنه إرهابي، من
المرتزقة، ذهب للدفاع عن الطاغية صدام، وفي أحسن الأحوال متمردا أو من
العصاة. وتم تعليب ذلك كله بمصطلحات، انتشرت بين قوات الاحتلال، تسللت
إلى وعي العالم أما من خلال التصريحات العسكرية الرسمية أو شهادات
الجنود الأمريكيين.
ومن سخرية القدر أن يأتي إجراء النزال بالسعودية، ليذكرنا بالاهتمام
الكبير الذي حظي به لقب “الحاج” لدى قوات الاحتلال عموما ومن بينها
القوات الأوكرانية التي اشتهرت بشراستها ضد العراقيين. حيث اُستخدم وسم
” الحاج” ليس للدلالة على من يتوجه إلى مكة المكرمة لأداء فريضة الحج،
ولكن لإهانة ” العدو”، أي العراقي أو أي شخص من أصل عربي أو حتى من ذوي
البشرة السمراء. من بين الاستخدامات ” درع الحاج” وهو درع مرتجل نصبه
جنود يستأجرون عراقيين لتحديث المركبات عن طريق تركيب أي معدن متوفر
على جوانب عربات الهمفي. و “حاجي مارت” أو متجر حاجي: أي المحل الصغير
الذي يديره عراقيون لبيع الأشياء للقوات الأمريكية. أما ” دورية الحاج”
فهي الدورية العراقية المرافقة للأمريكية. وحسب المنظور العسكري
الأمريكي يُعتبر العراقي المُقاوم ” علي بابا ” بمعنى اللص والمجرم،
بينما تستخدم تسمية ” الملاك” للجندي الأمريكي القتيل.
في مقالة نشرتها صحيفة ” الغارديان ” بعنوان ” الحرب في أوكرانيا أنهت
خرافة حيادية الرياضة” ، كتب تم هاربر، رئيس مؤسسة ” المساواة في
الرياضة”، متهما رؤساء الاتحادات الدولية الرياضية بإدارة رؤوسهم بعيدا
عن محنة الناس بالتوافق مع الأنظمة الاستبدادية والديكتاتورية وطغيان
المصلحة التجارية على المصلحة المشتركة. مستدركا بقوة “لكن هذه المرة،
أجبرت الحرب في أوكرانيا عالم الرياضة على اختيار جانب، وهي تعني ذلك
حقًا”. وهو موقف سليم تماما، ويبقى السؤال: هل سيُطبق على جميع
الرياضيين في كل الدول أم أن ازدواجية المعايير لغة وممارسة ستبقى هي
العملة المتداولة كما هو الموقف الحالي من أوكرانيا؟
٭
كاتبة
من
العراق
(
كصديقة لإسرائيل)…
الحكومة البريطانية ترد
هيفاء زنكنة
وقَع أكثر من مائة ألف شخص التماسا طالبوا فيه أن تقوم المملكة المتحدة
بمراجعة سياستها الخارجية «في ضوء التقارير عن الفصل العنصري
الإسرائيلي». تم إرسال الالتماس، بعد الحصول على عدد التوقيعات
المطلوبة للنظر فيه، إلى لجنة الالتماسات البريطانية المكونة من 11
نائبا من الأحزاب السياسية المشاركة في الحكومة والمعارضة معا، وهي
لجنة تُعّرف نفسها بأنها مستقلة تماما.
جاء الالتماس الذي جُمعت توقيعاته بسرعة كبيرة أثناء هجوم الكيان
الصهيوني الأخير على غزة الذي أسفر عن مقتل 48 شهيدًا – 17 منهم من
الأطفال – وجرح حوالي 360 ، من بينهم ما لا يقل عن 151 طفلاً، والهجوم
على مدينة نابلس حيث اغتيل ثلاثة من المقاومين هم إبراهيم النابلسي
وإسلام صبح وحسين طه. خلال هجوم الكيان الصهيوني المسعور، استقبلت
مستشفيات غزة المُحاصرة، أعدادا كبيرة من الإصابات الناجمة عن
الانفجارات المباشرة وشظايا الصواريخ وتساقط الأنقاض من المباني
المنهارة، وهي التي تعاني أساسا من قلة الأدوية والمعدات والعلاج
الطبي، وإعادة التأهيل، والحاجة الماسة لدعم الصحة العقلية للأشخاص
الذين يعانون من صدمات نفسية أما بسبب إصاباتهم أو فقدان أحبائهم.
والمعروف أن أكثر من 40 ألفا من سكان غزة أصيبوا بجروح جراء القصف
والهجوم الصهيوني خلال الأربع سنوات الأخيرة.
استند موقعو الالتماس في مطالبتهم إعادة النظر في السياسة الخارجية على
تقارير منظمات حقوقية دولية وثقّت سياسة التمييز العنصري التي يمارسها
الكيان بشكل يومي بحق المواطنين الفلسطينيين والانتهاكات التي يتعرضون
لها جراء الاحتلال.
وقَع أكثر من مائة ألف شخص التماسا طالبوا فيه أن تقوم المملكة
المتحدة بمراجعة سياستها الخارجية «في ضوء التقارير عن الفصل العنصري
الإسرائيلي»
ثبّت اعتراف المنظمات بممارسات الكيان العنصرية، ما كان الفلسطينيون
يعيشونه ويوثقونه بأنفسهم على مدى سنين، وهو مطابق لممارسات نظام
التمييز العنصري «الأبارتهايد» في جنوب أفريقيا.
تلقت لجنة الالتماسات الالتماس. وحسب السيرورة المرسومة في النظام
«الديمقراطي»، ألقت نظرة عليه، وجاء الرد الحكومي باسم حكومة وبرلمان
المملكة المتحدة ليضع حدا لأي أمل خالج الموقعين في أن يكون الالتماس،
كما هي العادة الجارية، أداة ضغط على الحكومة لاتخاذ إجراء معين وجمع
الأدلة.
فما الذي تضمنه الرد؟ لا شيء جديدا وإن كان من الضروري قراءته من باب
التذكير بموقف حكومة كانت ولاتزال تمارس ازدواجية المعايير بلا مقياس
أخلاقي. جاء في الرد أن «المملكة المتحدة ملتزمة بدفع عملية السلام في
الشرق الأوسط إلى الأمام … وأن استئناف المفاوضات الثنائية الهادفة،
بدعم دولي، هو أفضل طريقة للتوصل إلى اتفاق»، وأنها مُطلعة على
التقارير الدولية (تعني تلك التي تُثبت أن النظام الإسرائيلي هو نظام
تمييز عنصري) إلا أنها لا تتفق مع المصطلحات المستخدمة فيها، مكتفية
بذلك بدون التطرق إلى تفاصيل التقارير أو محاججتها.
يلجأ الرد بمجمله إلى الموقف المعتاد في المساواة بين الجلاد والضحية
بل ويتعداه ، غالبا، بلغة صريحة أو مبطنة إلى إلقاء اللوم على الضحية
وبالتالي استحقاقها ما يقع عليها. هذا هو الملمح العام للرد مغلفا
بمفردات «عملية السلام» و»التسوية التفاوضية» و»الالتزام بالقانون
الإنساني الدولي وتعزيز السلام والاستقرار والأمن»، وأن تُجرى مفاوضات
بإشراف دولي، يضم بالتأكيد الحكومة البريطانية التي لا تخاطب نظام
التمييز العنصري إلا «كصديق». مرتان تكررت مخاطبة الكيان الصهيوني
كصديق . الأولى بالقول « كأصدقاء لإسرائيل ، لدينا حوار منتظم مع حكومة
إسرائيل» والثانية في معرض الغزل بـ» التزام إسرائيل طويل الأمد بالقيم
الديمقراطية» وكيف أن إلتزامها «هو أحد نقاط قوتها العظيمة كديمقراطية
زميلة … كصديق لإسرائيل ، نشعر بالقلق من أي تطورات قد تقوض هذا
الالتزام».
ويتضح من قراءة الرد، بوضوح لم تنجح اللغة الدبلوماسية بتمويهه، أن
هناك موقفين مختلفين تماما من النظام العنصري والشعب الفلسطيني: الأول
هو موقف الصديق القلق على أمن وسلامة صديقه مما يستدعي «الاعتراف بحاجة
إسرائيل المشروعة لاتخاذ تدابير أمنية» و»تظل المملكة المتحدة حازمة في
التزامها بأمن إسرائيل». كما «يستحق شعب إسرائيل أن يعيش في مأمن من
ويلات الإرهاب والتحريض اللاسامي الذي يقوض بشكل خطير احتمالات حل
الدولتين. لقد أذهلتنا الهجمات الإرهابية الأخيرة ضد المواطنين
الإسرائيليين. لا يمكن أن يكون هناك أي مبرر لأعمال العنف هذه». وإذا
حدث و»وُجهت اتهامات بالاستخدام المفرط للقوة، تدعو المملكة إلى إجراء
تحقيقات سريعة وشفافة».
وكأن كاتب الرد خشى أن يٌتهم بـ «معاداة السامية»، وهي التهمة الجاهزة
فورا ضد أي شخص يحاول الإشارة من قريب أو بعيد إلى احتلال فلسطين
وجرائم المحتل، فقام بتدوين سرد لقائمة مواقف بريطانيا الداعمة للكيان.
ومن بينها وقوف «المملكة المتحدة إلى جانب إسرائيل عندما تواجه تحيزًا
وانتقادًا غير معقول» مع ذكر أمثلة عن منع تمرير قرارات للأمم المتحدة
مؤيدة للشعب الفلسطيني. وفي الوقت الذي لعبت فيه الحكومة البريطانية
دورا رئيسيا في فرض العقوبات والحصار الشامل على الشعب العراقي على مدى
13 عاما، وبينما لا تجد ضيرا في حصار الإبادة المفروض ضد سكان غزة،
نجدها تصرح «نحن نعارض بشدة المقاطعات / العقوبات في حالة إسرائيل «.
لماذا؟ لأنها ترى أن المقاطعة ستعيق جهودها « للتقدم في عملية السلام»!
أما الموقف من معاناة الشعب الفلسطيني جراء الاحتلال والممارسات
العنصرية فإنه لا يعدو كونه ناتجا طبيعيا لما يوصف بأنه « نزاع» أو
«صدام» . أما مقاومة الاحتلال فإنها إرهاب يُسّوغ اعتقال وسجن وإغتيال
المقاومين. ولا يأتي ذكر ما يتعرض له الشعب الفلسطيني إلا كهامش في جمل
فضفاضة مبتذلة لفرط عُريها، على غرار: « لكل إسرائيلي وفلسطيني الحق في
العيش بسلام وأمن». وإن كانت بريطانيا لا تغفل عن ذكر كرمها في «تحسين
حياة الفلسطينيين» مركزة بشكل خاص على تزويق «المساعدات الإنسانية
لغزة»، لتغطية بثور النظام الصهيوني العنصري الذي جعل من غزة سجنا
لمليوني فلسطيني.
ما هي، إذن، أهمية المشاركة في توزيع وتوقيع الالتماس، وواقع الحال
يشير إلى معرفة الجميع بما سيكون عليه الرد الحكومي؟ إن استمرارية
النشاطات المناهضة للاحتلال، بكافة المستويات، ضرورية لا من أجل تحقيق
غايتها النهائية فحسب بل في سيرورتها وكونها أداة توعية وتضامن عالمي
مع المقاومة التي يتحمل الفلسطينيون عبأها الأكبر، ويدفعون ثمنها غاليا
من حياة الناس اليومية ودماء الشهداء والجرحى والمصابين.
كاتبة من العراق
استقبال نتائج الانتخابات الديمقراطية
في الجزائر وفلسطين والعراق
هيفاء زنكنة
في تطور لعملية إقتحام مبنى البرلمان العراقي، بعد أسبوع من النوم
والأكل وإقامة الشعائر الحسينية، صار مطلب المقتحمين، إجراء انتخابات
جديدة بدلا من المطلب الذي دعاهم أساسا إلى اقتحام البرلمان وهو
الاحتجاج على ترشيح محمد السوداني المنتمي إلى جهة سياسية منافسة لقائد
المقتحمين مقتدى الصدر، رئيسا للوزراء. يأتي مطلب إعادة الانتخابات
ليتصدر الأجواء المشحونة بالتهديد والتُهم المتبادلة بعد أن برز على
السطح سؤال لم يخطر على بال المقتحمين الذين كان جُل ما فعلوه هو تلبية
أمر قائدهم، وهو: ما هي الخطوة التالية بعد نجاح الاقتحام؟ وهل من
برنامج لما بعد الاقتحام أو هل هناك برنامج أساسا للتيار الصدري الناشط
تحت قيادة زئبقية؟
ردا على السؤال، ظهرت دعوة مقتدى الصدر لحل البرلمان الحالي وإجراء
انتخابات مبكرة، حاثّاً المتظاهرين المعتصمين إلى الاستمرار باعتصامهم
لحين تحقيق المطالب. الأمر الذي وفر للساسة المنخرطين بالعملية
السياسية الموسومة بالفساد والطائفية وتفتيت العراق، بضمنها ساسة
التيار الصدري، فرصة الجلوس في استديوهات الفضائيات لساعات وساعات
والادعاء بأن هذا هو ما « يريده الشعب»، بل أن ما يأمر به السيد (وهو
لقب ديني لمقتدى) هو ما يريده «الشعب»، وأمره باقتحام البرلمان أكبر
دليل على ذلك.
ولنفترض أن الشعب لا يعاني من هيمنة الفساد المؤسساتي وانعكاساته على
تفاصيل التعامل اليومي، وأنه لا يعيش أجواء الارهاب وهيمنة الميليشيات،
وأنه لا يهتم بانقطاع الكهرباء وقلة مياه الشرب والتصحر وانتشار
الامراض السرطانية، والنزوح القسري، وانخفاض مستوى التعليم والصحة،
ومخاطر الاختطاف والاعتقال والتعذيب، ومعاناته من الفقر وهو في بلد غني
جدا، ولنفترض بأن ما يريده ويطمح إلى تحقيقه، هو إجراء إنتخابات جديدة
لا غير لأنه كما قال الصدر في 3 آب/ أغسطس، قد سئم الطبقة السياسية
الحاكمة، مخاطبا الشعب «استغلوا وجودي لانهاء الفساد، ولن يكون للوجوه
القديمة وجود بعد الآن من خلال عملية ديمقراطية ثورية سلمية، وعملية
انتخابية مبكرة». ولنفترض صدق الصدر هذه المرة ونسيان كونه قد شارك في
الانتخابات السابقة، كما كان شريكا دائما في كل الحكومات الفاسدة
المتعاقبة منذ احتلال البلد عام 2003، ليبقى السؤال عن ماهية
الانتخابات التي يدعو إليها؟ سيرورة تنظيمها وتكلفتها، والأهم من ذلك
ما الذي ستحققه بالمقارنة مع الانتخابات السابقة؟
كان فوز التيار الصدري، ضربة لم يتحملها منافسوه من الأحزاب الإسلاموية
المنتمية إلى ذات المذهب، وإن كانت نسبة المشاركة حوالي 20 بالمئة فقط.
فبرزت على السطح، منذ ما يزيد على العشرة أشهر، الخلافات والتهديدات
بين الفائزين والخاسرين، مدعومة باستعراض سلاح الميليشيات والتحشيد
الشعبوي وتقزيم دور الشعب
قد تساعدنا العودة إلى مجريات الانتخابات السابقة للاجابة على الأسئلة.
من الضروري، بداية، التذكير بحجم الثناء الذي أٌهيل على الانتخابات
التي أُجريت في العاشر من أكتوبر 2022. إنها انتخابات «مفصليةٌ مصيريةٌ
وتأسيسية» و«واحدةٌ من أهم العمليات الانتخابية في تاريخ العراق
الحديث» قال برهم صالح رئيس الجمهورية. «بها يتفادى خطر الوقوع في
مهاوي الفوضى والانسداد السياسي» قالت المرجعية الدينية. إنه «طريق
نأمل أن يؤدي إلى عراق أكثر ازدهارًا وأمناً وعدالة» قالت جينين هينيس-
بلاسخارت مسؤولة بعثة الامم المتحدة بالعراق. وهنأت السفارة الإيرانية
ووزارة الخارجية الروسية الحكومة والشعب بالنجاح، وأشادت بريطانيا
«بالتسيير السلس» للانتخابات. وأرسلت جامعة الدول العربية، برقية تهنئة
الى الحكومة والشعب. وردد رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي «لقد أتممنا
واجبنا بإجراء انتخابات نزيهة وشفافة». وأكدت المفوضية المستقلة
للانتخابات أنها «كانت مفخرة لنا، وسُررنا بالمؤسسات الداعمة التي
أمّنتها».
اتفق، إذن، كل المشاركين، بضمنهم التيار الصدري المشارك بقوة، أن عملية
الاقتراع، سارت «بشكل انسيابي» وهي «مختلفة عما جرى عام 2018». حيث تمت
بحضور أكبر بعثة انتخابية للأمم المتحدة في جميع أنحاء العالم، وبعد
إجراء أربع عمليات محاكاة انتخابية، وصرف مبالغ خيالية، وبعد توقيع كل
الأحزاب المشاركة على «مدّونة قواعد السلــوك الانتخابي» التي تعهدت
بموجبها «بنبذ التعصب والعنف وخطاب الكراهية».
إلا أن هذا كله تهاوى حالما أُعلنت نتائج الانتخابات، وفيها الخاسر
والرابح، كما هو متوقع من الانتخابات الديمقراطية، باستثناءات عربية
ودولية قليلة. من بينها قرار المجلس الأعلى للأمن الجزائري إلغاء نتائج
الانتخابات التشريعية، التي فازت فيها الجبهة الإسلامية للإنقاذ
(الفيس) بالأغلبية، عام 1992، بذريعة إنقاذ الدولة من وصول إسلاميين
متطرفين إلى الحكم. فكانت النتيجة الاقتتال لمدة عشر سنوات أُطلق عليها
اسم « العشرية السوداء». وفي فلسطين، رفض الكيان الصهيوني والولايات
المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي، الإعتراف بنتائج الانتخابات
التشريعية لعام 2006، بعد فوز حركة المقاومة الإسلامية (حماس) بحصولها
على 76 مقعدا من أصل مقاعد المجلس التشريعي البالغة 132. كما رفضت حركة
فتح (الخصم السياسي لحماس) وبقية الفصائل، المشاركة في الحكومة التي
شكلتها حماس، مما أدى عام 2007 إلى الاقتتال الذي انتهى بإدارة حماس
لقطاع غزة فقط وفرض الكيان الصهيوني الحصار الشامل على غزة وإخضاع
اهلها لأسوأ الظروف المعيشية واستهداف قيادات المقاومة المسلحة. أما
النموذج العالمي فيمثله رفض الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لنتائج
الانتخابات الرئاسية وتشجيع أنصاره على إحتلال مبنى الكونغرس في حدث لم
تشهد له أمريكا مثيلا سابقا.
على ذات المنوال، كان فوز التيار الصدري، ضربة لم يتحملها منافسوه من
الأحزاب الإسلاموية المنتمية إلى ذات المذهب، وإن كانت نسبة المشاركة
حوالي 20 بالمئة فقط. فبرزت على السطح، منذ ما يزيد على العشرة أشهر،
الخلافات والتهديدات بين الفائزين والخاسرين، مدعومة باستعراض سلاح
الميليشيات والتحشيد الشعبوي وتقزيم دور الشعب باسم الشعب. وهاهو
الصدر، يطالب باستحقاقه الانتخابي في تشكيل الحكومة بطريقة خَلقت، حتى
الآن، بين المواطنين جوا من الخوف والرعب من نشوب القتال مع ذات القوى
السياسية المنافسة له والتي ستشاركه الانتخابات المقبلة، إن حدثت،
لأنها لا تقل عن تياره تغلغلا وفسادا في مؤسسات الدولة فضلا عن كونها
لا تختلف عن تياره بقوتها القتالية وتعطشها للدماء. ويبقى الأمل
المنشود، وهنا المفارقة، أن يقرر الصدر فجأة، كعادته أثناء الأزمات
التي يلعب دورا في إثارتها، الانسحاب والانكفاء في صومعته أما لكتابة
الشعر أو إنهاء دراسته.
كاتبة من العراق
اقتحام البرلمان…
كوميديا العراق السوداء
هيفاء زنكنة
لماذا لا يثير إحتلال مبنى البرلمان العراقي، في المنطقة الخضراء في
بغداد، مشاعر الحماس كما أثار إحتلال المحتجين القصر الرئاسي في
سريلانكا والذي وصل الحماس له إلى الشعوب العربية ليمنحها بعض التفاؤل؟
هل لأن محتلي المبنى، ببغداد، لا يمثلون الشعب على الرغم من إدعائهم
بأنهم الشعب المسحوق؟ أم لعلها الطائفية التي بعد أن حققت نجاح استقطاب
السلطة لصالح الأحزاب والميليشيات الإسلامية ذات المذهب الواحد، في
السنوات العشرين الأخيرة ومنذ غزو العراق عام 2003، وفي غياب العدو
المشترك الموحد لها، أوصلت دودة الأرضة / الفساد إلى أرض «أهل البيت»
لتنخر «البيت» من الداخل؟ ولكن… ماذا عن راية الإصلاح التي رفعها
المقتحمون داخل المبنى وهم يتقافزون على الكراسي، وداخل المكاتب
ويصورون أنفسهم داخل المرافق الصحية متحدثين عن توفر الماء والكهرباء
للبرلمانيين بينما يُحرم الشعب منها؟
أليست هذه هي روح الشعب المسحوق المُنتفض ضد الفساد، ومن حقه استعادة
ملكية المبنى وتحويله، إلى ما يشاء، ولو كان ما يريده ساحة إضافية أخرى
لأداء طقوس النواح واللطم؟ أم أن غياب الحماس باقتحام مبنى هو رمز
للفساد، الموجود في منطقة محصنة هي رمز للاحتلال، سببه اليأس من
إسطوانة مشروخة، لكثرة التكرار، من قبل قائد التيار الصدري، حتى بات
تجسيدا لبيضة لن يخرج منها عصفور، كما يقول الشاعر الراحل مظفر النواب؟
هناك أسباب كثيرة تدعو إلى عدم التفاؤل باقتحام البرلمان ليس من بينها
عدم الإيمان بضرورة التغيير وقدرة الشعوب على التغيير والعيش الكريم في
وطن يتسع للجميع. إلا أن اقتحام البرلمان العراقي يختلف عن اقتحام
المتظاهرين للقصر الرئاسي في سريلانكا، الذي وقع بعد احتجاجات جماهيرية
ومظاهرات عارمة، استمرت لفترة طويلة وعّمت أرجاء البلاد، مطالبة
باستقالة رئيس الدولة ورئيس الوزراء، بعد أن أعلن الأخير انهيار اقتصاد
البلد بالكامل، في أسوأ أزمة اقتصادية منذ استقلال البلاد عام 1948،
بالإضافة إلى معاناة الناس من نقص حاد في الغذاء والوقود والأدوية.
وعلى الرغم من معاناة العراقيين من نقص الأساسيات، وهي نقطة تشابه مع
سريلانكا، إلا أن حيثيات اقتحام البرلمان تختلف من عدة نواح لعل أبرزها
أولا: أن العراق واحد من الدول الغنية في العالم، وقد وصل دخله من
النفط، حاليا، أعلى نسبة في تاريخه. ثانيا أن عملية الاقتحام اقتصرت
على أتباع مقتدى الصدر، قائد التيار الصدري وميليشيا سرايا السلام
الشيعية.
ثالثا: جاء الاقتحام احتجاجا على ترشيح منافس للتيار الصدري، من قبل
تكتل شيعي آخر يُدعى الإطار، لمنصب رئيس الوزراء، بناء على مناورات
سابقة أرادها الصدر استعراضا لشعبوية قيادته للتيار والميليشيا. من بين
المناورات التي شغلت البلد وعطلت حياة الناس: الأمر بانسحاب
البرلمانيين الصدريين، صلاة الجمعة الموحدة، والإعلان عن مؤامرات تهدف
إلى اغتيال الصدر بعد أن قام الناشط الحقوقي علي فاضل بتسريب أشرطة
لرئيس الوزراء السابق نوري المالكي احتوت لخطورة تحريضها على العنف، ما
كان يجب أن يُقدم على أثرها المالكي للمحاكمة. رابعا: أن قائد مقتحمي
البرلمان لا يمثل الشعب ولا حتى الأغلبية، بل غالبا ما يتم تضخيم دوره
حسب الحاجة لإثارة العنف والفوضى.
لماذا لا يثير احتلال مبنى البرلمان العراقي، في المنطقة الخضراء في
بغداد، مشاعر الحماس كما أثار إحتلال المحتجين القصر الرئاسي في
سريلانكا والذي وصل الحماس له إلى الشعوب العربية ليمنحها بعض التفاؤل؟
وما يزيد من محدودية «التيار الصدري»، تقّلب سلوك زعيمه من أقصى اليمين
إلى أقصى اليسار بسبب حالة الصعود والهبوط النفسي الحاد الذي يعاني منه
منذ طفولته ويتبدى بشكل واضح في خطبه ولغته وسلوكه. خامسا: أن عدد
المرات التي ساند فيها الصدر الفاسدين ومجرمي الحرب وأبرزهم عدوه
الحالي نوري المالكي تجاوزت اصابع اليد الواحدة، بل والأدهى من ذلك أنه
كان أحد الاسباب الرئيسية التي لعبت دورا حاسما في القضاء على مظاهرات
تشرين/ أكتوبر 2019 لأنها مثّلت صوت الشعب العراقي فعلا، وأحيت الأمل
باسترداد الوطن إلى أن أدرك الصدر وأتباعه أنها ستُحدث تغييرا سياسيا
حقيقيا مما يهدد شعبويته، فأرسل أتباعه وميليشياته لتفريقها.
ومقتدى الصدر ليس فريدا من نوعه في مزاجيته المرضية المنعكسة بقوة على
الوضع السياسي، فالفضل الأول يعود الى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب
الذي حفّز بخطبه وتلفيقاته مشاعر العنصرية و«الوطنية» الزائفة. حتى
يكاد اقتحام البرلمان العراقي مطابقا للهجوم على مبنى الكونغرس بواشنطن
وأحتلاله من قبل أتباع ترامب، المطالبين بإيقاف التصديق على فوز جو
بايدن في الانتخابات الرئاسية، وبقوا في المبنى لأكثر من ثلاث ساعات
قبل أن يطلب منهم ترامب، الذي كان متمتعا بمراقبتهم عبر شاشة
التلفزيون، العودة إلى ديارهم. بذات الايقاع، بقي أتباع الصدر في
البرلمان، في الاقتحام الأول، مدة ثلاث ساعات، إلى أن وصلهم أمر مقتدى،
مغردا «وصلت رسالتكم… أيها الأحبة فقد أرعبتم الفاسدين عودوا لمنازلكم
سالمين».
في ذات الوقت، سرّب نوري المالكي، منافس الصدر الأقوى في احتلال
المناصب الوزارية والمؤسساتية من «البيت الشيعي»، صورا له وهو يحمل
سلاحا وسط مجموعة من حراسه داخل المنطقة الخضراء. كانت رسالة الصور
المُسرّبة واضحة. أنها تُعبرعن جدية المالكي في تطبيق ما صرح به ذات
يوم بأنه «لن يعطي» السلطة لغيره، وإن كانت رسالته حينئذ موجهة كتهديد
لمن يتجرأ على معارضته من السنة وليس الشيعة كما يحدث الآن، مما يُثبت
أن كوكتيل التشبث بالسُلطة والفساد أقوى من الولاء المذهبي. فأيقن
الصدر أن الاقتحام الأول لم يُحدث التأثير المطلوب بل جاء لصالح
منافسيه، فكان الاقتحام الثاني مدعوما هذه المرة بحضور المسؤول العام
لميليشيا «سرايا السلام» لاستعراض قوة السلاح بمباركة الصدر الذي نُشرت
له صورة وهو يقرأ القرآن ومخاطبا المقتحمين «داعياً الله.. لكم أيها
الأحبة بالحفظ والسلامة والنجاح». ليواصل وأتباعه التظاهر بالنزاهة
والتدين والوطنية بينما، كانوا ولايزالون، يتحكمون بأكثر إدارات الدولة
ومؤسساتها فسادا وإرهابا، وما يقومون به الآن من اعتصام هو مجرد
استمرارية لكوميديا سوداء يدفع العراق ثمنها غاليا تحت مٌسميات مُتغيرة
حسب جهة التسويق.
كاتبة من العراق
لماذا تختار الشعوب الغربية مسايرة
السياسة الخارجية لحكوماتها؟
هيفاء زنكنة
صحيح أن روسيا وقعت إتفاقية مع أوكرانيا تتيح لأوكرانيا إعادة فتح
موانئها على البحر الأسود لتصدير أطنان الحبوب العالقة في فيها بسبب
الحرب، وقد يكون هذا الاتفاق على الرغم من إمكانية خرقه، خطوة، نحو
تبني دبلوماسية لتخفيف الاقتتال بين الدولتين، ولكن… هل سيكون لهذا
التقارب، الذي تم عبر وسطاء، وستكون له نتائج اقتصادية إيجابية عالمية،
انعكاسات نفسية ومجتمعية إيجابية، أيضا، على الشعوب الغربية التي تمت
تغذيتها بحملات سياسية وإعلامية مكثفة، ضد روسيا، منذ الغزو الروسي
وتبني حلف الناتو بقيادة أمريكا وبريطانيا لأوكرانيا؟
سبب التساؤل هو أن الآثار المجتمعية، خاصة المبنية على التمييز، أبعد
وأعمق بكثير من التغيرات الآنية المتسارعة الناتجة عن التحشيد الدعائي
السياسي والإعلامي، المؤجج لنار ليست خامدة تماما. إذ لم يقتصر احتضان
قضية الدفاع عن أوكرانيا ضد الغزو الروسي على الحكومات وأجهزة الإعلام
والمنظمات الدولية والمثقفين، سواء كانوا أوكرانيين ( من داخل وخارج
أوكرانيا) أو من المثقفين الروس المعارضين للغزو، بل امتد متجذرا في
حياة الناس اليومية، بأدق تفاصيلها، في البلدان الغربية. وهو ما لم
يحدث عند غزو العراق أو حصار غزة وتحويلها إلى سجن لما يزيد على
المليوني شخص.
فالصحف المحلية المجانية ببريطانيا، مثلا، وهي التي تقتصر عادة على
أخبار سكان « محلة / حي» معين، وتراوح في تغطيتها بين أخبار سرقة دراجة
أو كلب ضائع والإعلانات عن دور العجزة وعمال التظيف وألشكاوى من
الإدارة المحلية، باتت تتصدرها أخبار تأليف قطعة موسيقية مهداة يتم
التبرع بواردها لأوكرانيا أو سفر ناشطين إنكليز، للمرة الرابعة، إلى
أوكرانيا « لايصال تبرعات إلى ضحايا الغزو الروسي». قارنوا ذلك بالحكم
على رافل ظافر، الطبيب الأمريكي من أصل عراقي، بالسجن 22 عاما، في 28
أكتوبر 2005، لأنه أرسل أموالا إلى المحتاجين من ضحايا الحصار في
العراق. وماذا عن خبر فوز فرقة أوكرانية في مسابقة «يوروفيجن» 2022،
وبيعها الكأس الذي حصلت عليه لشراء طائرات بدون طيار لـ «مقاومة»
المحتل الروسي، بينما وُسم كل من قاوم احتلال العراق بالإرهاب ويُسجن
كل فلسطيني يقاوم الاحتلال الإستيطاني متهما بالإرهاب؟
لقد لعبت، ولاتزال، بلا شك، التغطية الإعلامية لغزو أوكرانيا دورا
كبيرا في تشكيل الوعي الجماعي للشعوب الغربية. فهي أكبر وأكثر تعاطفاً
من تغطيتها للبلدان «غير البيضاء» وتنضح بالعنصرية أحيانا، مما وفر
لأوكرانيا فرصة الاستفادة من الامتياز الأبيض في العلاقات الدولية، كما
وفرت لها حليفتها أمريكا، وهي القوة الإمبريالية الأكثر هيمنة في
العالم، الدعم العسكري والمساعدات بكافة أنواعها ومستوياتها. لهذه
العوامل مجتمعة دور أساسي في منظومة تسيير الحياة اليومية الغربية
وتشكيل ما يطلق عليه المفكر اليساري الأمريكي نعوم تشومسكي مصطلح
«صناعة الرضا» إلا أنه من الصعب إلقاء اللوم الكلي عليها في انجذاب
معظم الناس، في الغرب، إلى دعم أوكرانيا وحلفائها بينما لم يحدث الأمر
ذاته في أفريقيا وأمريكا اللاتينية والشرق الأوسط.
أما الشعوب الُمُستعمِرة فإن ما بقي متجذرا في صُلب تكوينها، هو المنطق
العنصري، الأبوي، والتفوق الأبيض المشترك الذي وفر الأسس الأيديولوجية
للاستعمار الأوروبي
فهل هي روح المُستعمِر الأوروبي بعنجهيته وعنصريته، الذي كانت الغالبية
العظمى من دول العالم مُستعمَرة من قبله، لا تزال متجذرة عميقا في نفوس
السكان، حتى بعد زوال الامبراطوريات الاستعمارية وتحرر البلدان من
سطوتها ؟ وهل انتهت العلاقات القديمة المبنية على الاستغلال بعد تخلص
الشعوب من قيودها لتحل محلها علاقات جديدة مبنية على الاحترام المتبادل
والمساواة الإنسانية بعيدا عن عنصرية اللون والدين والعرق؟ وماذا عن
أمريكا التي لا يحمل سكانها، وهم خليط من جميع أنحاء العالم، الإرث
الامبراطوري؟ أم أن ما يتحكم بالنفوس، الآن، هو تزاوج المصالح
الأقتصادية مع السياسة الخارجية والتي يتم تقديمها مُعلبة بتسمية
«المساعدات الإنسانية» على مستوى الحكومات و«الإحسان» والتبرعات
الخيرية على مستوى الأفراد، وهو ما يتيح للحكومات تسويق الادعاءات
بأنها إنما تدافع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان، والانسانية بشكل عام؟
ان حجم التعاطف الشعبي الغربي اليومي العام الكبير المستمر مع ضحايا
الغزو الروسي بالمقارنة مع مستوى ما شهدناه إزاء محنة الشعب العراقي،
ضحية الغزو الانكلو أمريكي، بعد حصار قاتل دام 13 عاما، ومأساة الشعب
الفلسطيني الذي يعيش احتلال ما يزيد على السبعين عاما، يبين أن تحطم
الشكل الاستعماري المباشر لا يعني بالضرورة وضع حد لتأثيرها سواء على
الشعوب المُستعمَرة أو المُستعمِرة. وتتبدى تأثيرات الامبريالية طويلة
المدى على الشعب المُستعمَر بتنصيب حكومات وفق قالب جاهز يعكس المصالح
الأوروبية، والتغيرات الاقتصادية التي تساعد على ديمومة الديناميكية
الرأسمالية وأعباء الديون، والتغيرات الثقافية المُهّمِشة لدين لصالح
دين آخر.
أما الشعوب الُمُستعمِرة فإن ما بقي متجذرا في صُلب تكوينها، وإن حاول
البعض تحديه، هو المنطق العنصري، الأبوي، والتفوق الأبيض المشترك الذي
وفر الأسس الأيديولوجية للاستعمار الأوروبي. وإذا حدث ونجح ( غير
الأبيض) في تسلق سلم النجاح السياسي، بريطانيا نموذجا، فإن سبب القبول
به هو كونه قيصريا أكثر من قيصر، بإيمانه بأن الثقافة والحكومة
البريطانية هما من أسمى أشكال الحياة والحكم. توارث هذه العنجهية،
لخصته وزيرة خارجية بريطانيا ليز تروس، في خطاب لها عن دعم بريطانيا
المطلق لأوكرانيا بقولها إن بريطانيا مستعدة «لفعل الأشياء بشكل مختلف،
والتفكير بشكل مختلف والعمل بشكل مختلف… لإنجاز الأمور». بذات الوقت
الذي سلط فيه تقرير « تشاتام هاوس» عن الفساد، الضوء على مدى استفادة
السياسيين في المملكة المتحدة – وخاصة المحافظين الحاكمين – من الأموال
الروسية، وكيف بُذلت جهود مضنية لتأخير ثم التقليل من شأن تقريرين
برلمانيين حاسمين عن فضيحة أطلق عليها أسم «لندن غراد».
إزاء توفر هذه المعلومات كلها، المُحّفزة للتفكير الواعي، لماذا تختار
الشعوب الغربية، إذن، مسايرة السياسة الخارجية لحكوماتها؟ هل يكمن
التوضيح في ما كتبه الرئيس الأمريكي أيزنهاور في 20 كانون الثاني 1953
معترفا بصراحة « نحن نعلم… بأن الذي يربطنا بكل الشعوب الحرة، ليس فقط
مثالا شريفا أعلى، ولكن أيضا، وبكل بساطة، الحاجة. فعلى الرغم من كل
قدرتنا المادية، نحتاج في العالم لأسواق لتصريف الفائض من إنتاجنا
الزراعي والصناعي، ونحتاج كذلك لزراعتنا وصناعتنا لمواد أولية ومنتوجات
حيوية توجد في اماكن بعيدة»؟
كاتبة من العراق
هل صلاة الصدر
الموحدة عبادة خالصة فعلا؟
هيفاء زنكنة
اذا كان التساؤل الشكسبيري « أن تكون أو لا تكون هو السؤال» قد أصبح
جزءا من الثقافة الشعبية البريطانية، فإن الشعارات والمفردات «الصدرية»
التي يطلقها (سماحة السيد) مقتدى الصدر، منذ بروزه على سطح الحياة
العراقية بعد غزو وإحتلال البلد عام 2003، باتت جزءا من الثقافة
الشعبية العراقية بجانبيها المبكي والمُضحك. فهو القائد الذي منح مفردة
(حبيبي) نكهة التداول اليومي، وأدخل شعار « شلع قلع» قاموس السياسة،
وأصبحت « مليونية» التظاهرات مرتبطة به، وتغيير اسم الميليشيا/ الكتلة/
التيار يتم حسب مزاجه وحاجة السوق السياسي ـ الطائفي.
من هذا المنطلق، قال الصدر، يوم الجمعة، إن العراق يعيش «ملحمة عبادية
وطنية مليونية إصلاحية». وهو توصيف بحاجة إلى توضيح. بداية، علينا
الاعتراف بأن للصدر مخيلة وقدرة على إطلاق تعابير غير مألوفة سياسيا
واقتصاديا ودينيا، في مخاطبته الحشود من أتباعه. ثانيا، أن هناك من
يترجم ويُنظم ما يريده بشكل تفوق على قدرة الحزب الشيوعي التنظيمية
التقليدية. وقد تبدت هذه القدرة، يوم الجمعة، عند إقامة ما أطلق عليه
مقتدى اسم «صلاة الجمعة الموحدة» إحتفاء بذكرى إقامة والده الراحل صلاة
الجمعة في مسجد الكوفة أثناء حكم صدام حسين. أمر مقتدى بجمع أتباعه
لأداء الصلاة، في المدينة المسماة باسمه، أي مدينة الصدر، الواقعة شرق
بغداد. سبب الدعوة الظاهري، كما جاء في تغريدة له على تويتر لأن صلاة
الجمعة «عبادة خالصة لله» وأن «صوت الجمعة أعلى من أي احتجاج آخر»
ليبين أنه يحتج ضد السيرورة السياسية للبرلمان الحالي، متعاميا عن
حقيقة أنه، بواسطة الميليشيا التابعة له، قد ساهم في إجهاض احتجاجات
المتظاهرين في تشرين الأول / أكتوبر 2019، حالما أدرك أنها تشكل خطوة
للتغيير الحقيقي بالبلد، بعد أن قدمت الانتفاضة مئات الضحايا وعشرات
الآلاف من الجرحى والمُقعدين.
وكما أمر مقتدى الصدر أتباعه من أعضاء البرلمان العراقي، قبل أسابيع،
وعددهم 73 بالانسحاب الجماعي من البرلمان فلبوا النداء، لبى الأتباع
أوامر السيد للتجمع وأداء الصلاة. مُدّعيا، مثل بقية الساسة على اختلاف
أعراقهم وطوائفهم، بأن ما يقوم به هو باسم الشعب « والخيار للشعب» وأن
دوره يقتصر على دعم الشعب « إن أراد الشعب الوقوف من أجل مناصرة
الإصلاح».
فقام الشعب المعني، ملبيا النداء، وتوجه يوم الجمعة، إلى شارع حددته
لجنة أوصى الصدر بتشكيلها للإشراف على تحشيد الأتباع وتنفيذ الأوامر.
أشرفت اللجنة بالتعاون مع فروع مكتب الصدر بمختلف المحافظات على ترتيب
حافلات لنقل الأتباع إلى بغداد، وتوفير احتياجاتهم، وشراء وتفصيل
وتوزيع الأكفان البيضاء ليرتدونها جميعا، مثل الصدر، أثناء الصلاة،
دلالة على استعدادهم للاستشهاد. وشملت التحضيرات «تكثيف الاجتماعات مع
القيادات الأمنية… لاستكمال جميع الاستعدادات مع بدء توافد المصلين وسط
إجراءات أمنية مشددة ودعم لوجستي ومعنوي وشعبي».
إبقاء العراق مقادا بمنظومة طائفية تأتمر بتقلبات شخص يساعد، في
الواقع، من يدّعي محاربتهم، على تلهية الناس بمشاغل مختلقة، تعيق
القدرة على التفكير بما هو أبعد من التحشيد الغرائزي وتأجيج مشاعر
الخوف والانتقام
وكأن القوم سيتوجهون لخوض معركة تحرير شرسة، وليس لأداء الصلاة
والاستماع الى خطيب كما يفعل المسلمون في أرجاء المعمورة كل يوم جمعة،
في كل فصول العام، بلا أكفان أو إجراءات أمنية مشددة. ولم ينس المنظمون
تكرار مفردة السيد المفضلة في وصف كل تظاهرة يقودها أو يدعو اليها
بأنها «مليونية» وهو رقم حاول النائب باسم الخشان تفنيده عن طريق ذكر
قياسات شارع الفلاح الذي تمت فيه الصلاة، متوصلا بالنتيجة إلى استحالة
جمع هذا العدد الهائل من الناس في مكان واحد. وأن العدد الذي يدًّعيه
الصدريون يساوي أضعاف العدد الحقيقي.
ما تجدر الإشارة اليه أن تكرار أجهزة الأعلام لأي خطاب سياسي أو حدث
بدون تمحيص، يجعله حقيقة واقعة، ويترسخ في الأذهان بصيغته الأولى حتى
لو تم تكذيبه فيما بعد، فكيف إذا كان التكرار والاستنساخ مستمرا على
مدى أسابيع من قبل قنوات تستهدف جمهورا معينا، يحمل عقيدة جاهزة بل
وتأسيس قناة تلفزيونية خاصة للتحشيد للصلاة ومن ثم بثها بشكل حي؟
بهذه الطريقة، تُصبح الحقيقة غير مهمة إزاء خلق واقع يسود فيه التلفيق
السياسي – الديني، ويرتبط بصعود الشعبوية الطائفية في مجتمع، مهيأ
لاستقبال ما يُقدم اليه، حيث يتم إيهامه بأنه مُهدد بالأخطار، فيتجاذبه
الخوف من « الآخر» ليتشبث بمن يوفر له الحماية الجسدية، مُغّلفة بطقوس
«الجماعة» والعصمة من المسؤولية، والتدريب المسلح الدائم إستعدادا
للدفاع عن النفس، بالاضافة إلى الدخل المادي.
حيث يُشكل توفير الدخل، سواء عن طريق التوظيف بلا كفاءة أو ُمنح
الدراسة في الحوزة أو توزيع النقود بشكل مباشر وتعزيز الانطباع بقوة
التيار الشيعي الصدري، جانبا رئيسيا في تنامي شعبوية مقتدى الصدر، خاصة
مع ازدياد نسبة الفقر وتدهور الخدمات الأساسية. ولا يهتم أتباع الصدر
بمصدر ثروته سواء كانت عن طريق السيطرة على الوزارات والمناصب، وفساد
العقود التجارية وتهريب النفط والسرقة والنقد مقابل الخدمات – بما في
ذلك الحماية المسلحة للتجار والشركات، أو عن طريق إيران.
تحت هذه الظروف، تصبح تعبيرات القائد/ الرمز اللغوية المعبرة، عن قدرته
العقلية المحدودة، ميّزة ذات فائدة لتسهيل التلاعب به من جهة وتسويقه
شعبويا. فالشعبوية، مرغوب بها لتسهيل وتمرير سياسات وأجندات خارجية
تتقاطع مع مصالح عدد من الساسة المحليين، لا ضرر إطلاقا من إلقائهم
الخطب عن مقاومة الاحتلال. وهنا تكمن أحد أوجه قوة المحتل في تأسيسه
منظومة تتشابك فيها المصلحة المشتركة مع قوى محلية لخلق هويات مفتعلة
ومزورة، للتغطية على هيمنتها، خاصة مع ضعف أو غياب البدائل الوطنية.
ليس مهما، إذن، غياب البرنامج السياسي والاقتصادي لما تسمى « الكتلة/
التيار/ الحركة الصدرية». المهم هو ترويج الصلاة كمليونية إستعراضا
للعضلات ضد منافسي مقتدى في «البيت الشيعي». والأكثر أهمية من ذلك،
إبقاء العراق مقادا بمنظومة طائفية تأتمر بتقلبات شخص يساعد، في
الواقع، من يدّعي محاربتهم، على تلهية الناس بمشاغل مختلقة، تعيق
القدرة على التفكير بما هو أبعد من التحشيد الغرائزي وتأجيج مشاعر
الخوف والانتقام، ما لم يعمل الجميع من أجل دولة مواطنة في عراق يتسع
للجميع بلا إستثناء.
كاتبة من العراق
عاجل… نشرات
الأخبار مضرة بالصحة!
هيفاء زنكنة
« أنقذ رجال المطافئ قطة تسلقت شجرة عالية ولم تتمكن من النزول لساعات»
صاحبت الخبر لقطات أظهرت ثلاثة من رجال المطافئ المبتسمين وهم يحيطون
بصاحبة القطة محتضنة قطتها بحب. كان هذا آخر خبر في نشرة أخبار عالمية
غربية يراقبها ملايين الناس، قدمته الصحافية متمنية للمشاهدين أمسية
سعيدة وهي تبتسم. الملاحظ، أن معظم مقدمي نشرات الأخبار، في العالم،
باتوا، في العقد الأخير على الأقل، يُنهون النشرات بخبر مُفرح ومٌسل.
قد يكون الخبر عن إنقاذ حيوان أو العثور على طفل ضائع أو نجاح عجوز
مٌقعد بالسير مائة خطوة لجمع التبرعات لهدف إنساني. وفي نشرة للأخبار
في القناة الوطنية التونسية الأولى، مثلا، وفي موسم إعلان نتائج
امتحانات البكالوريا، كان خبر نجاح أم عاودت الدراسة مع بناتها هو لحظة
الختام. وهناك ما يشير إلى استنساخ النسق نفسه في قنوات عربية أخرى،
مما يثير التساؤل عن الأسباب التي تدفع القنوات التلفزيونية، واجهزة
الأعلام، عموما، إلى تكريس وقت ثمين، قد يُكلف عشرات الآلاف من
الدولارات، ومساحة إعلانية مُكلفة في الصحف العالمية، لأخبار تبدو،
أحيانا، لفرط هامشيتها، وعدم تماشيها مع بقية الأخبار الرئيسية المؤثرة
في العالم، بلا معنى؟
تشير أحدث الأبحاث العلمية إلى أن الأخبار يمكن أن تؤثر بمتابعيها
الدائمين بطرق مختلفة، بدءا من التماهي مع ذات الأخطار إلى التسلل إلى
محتوى الأحلام إلى إحتمال الإصابة بنوبة قلبية. ففي دراسة أجراها علماء
في جامعة كاليفورنيا ونشرتها البي بي سي، تبين أن متابعة الأخبار
السيئة، وتكرار بث الصور واللقطات المأساوية كما في الزلازل والفيضانات
والتفجيرات وضحاياها بأجسادهم الدامية والشوارع الملطخة بالدماء،
يُعّرض أولئك الذين لم يروا الانفجار بأنفسهم، لكنهم استهلكوا ست ساعات
أو أكثر من التغطية الإخبارية يوميًا في الأسبوع الذي تلاه، لضغوط
نفسية شديدة تؤثر على صحتهم العقلية.
كما تُثبت الدراسة أن التغطية الإخبارية هي أكثر بكثير من مجرد مصدر
جيد للحقائق. أنها عامل أساسي في تشكيل وعينا ومواقفنا تجاه الواقع. إذ
أن بإمكانها، من خلال تسللها إلى العقل الباطن، التدخل في تفاصيل
الحياة بشكل مذهل، يمكن أن يؤدي إلى سوء تقدير بعض المخاطر، وتشكيل
وجهات النظر بشأن الدول الأجنبية، وربما التأثير على صحة الاقتصاد
بأكمله، مما يمكن أن يزيد من خطر الإصابة بحالات القلق والاكتئاب.
وتؤكد الدراسة، وهي واحدة من عدة دراسات نُشرت في السنوات الأخيرة، أن
هناك ما يدل على أن التداعيات العاطفية للتغطية الإخبارية يمكن أن تؤثر
حتى على الصحة الجسدية، مما يزيد من فرص الإصابة بنوبة قلبية أو
الإصابة بمشاكل صحية على المدى البعيد. ترتبط هذه التأثيرات، بطبيعة
الحال، بعدد الساعات المكرسة أسبوعيا لمتابعة الأخبار ونوعيتها.
برز نهج جديد في في عالم الإعلام، أطلق عليه مصطلح «الصحافة البناءة»
يُعنى بتقديم الأخبار الإيجابية ذات المصداقية مع التركيز على التقدم
الإنساني وتوفير الإمكانيات والحلول
وإذا كانت الأخبار السيئة هي المصدر الرئيسي للتأثيرات المؤذية فأنه
لايمكن تبرئة المتابع من المسؤولية إزاء مواصلة متابعتها، بلهفة كبيرة.
فمن الحقائق المعروفة أن معظم الناس يولون إهتماما أكبر للأخبار
المأساوية أو الدرامية من الأحداث العادية التي قد تثير الضجر، وكما
قال كاتب الخيال العلمي آرثر سي كلارك «إن صحف المدينة الفاضلة ستكون
مملة بشكل رهيب».
وهو أحد الأسباب التي تدفع أجهزة الإعلام، المتنافسة على جذب
المشاهدين، والتي تعتمد على عائدات الإعلانات، ومذيعو أخبارها من متلقي
أعلى الرواتب، على زيادة الإحساس بالدراما والتوتر لجذب المشاهدين
وإبقائهم ملتصقين بمقاعدهم أمام الشاشة حتى عند الإبلاغ عن حوادث صادمة
بالفعل. حيث غالبا ما تتم سيرورة بناء الترقب لما هو آت من تفاصيل قد
تكون أكثر دموية عن طريق إضافة شريط أحمر أو كلمة «عاجل» أو «تفاصيل
جديدة» كما تفعل القنوات الإخبارية العربية.
إزاء هذه التأثيرات السلبية جراء متابعة الأخبار المشوهة لتصور الناس
للواقع، وليس بالضرورة إلى الأفضل، برز نهج جديد في في عالم الإعلام،
أطلق عليه مصطلح «الصحافة البناءة» يُعنى بتقديم الأخبار الإيجابية ذات
المصداقية مع التركيز على التقدم الإنساني وتوفير الإمكانيات والحلول.
فبادرت بعض المؤسسات الإعلامية الكبيرة، إلى تكريس صفحات للأخبار
الجيدة الايجابية، كما تم تأسيس صحف ومجلات ومواقع ألكترونية، في أرجاء
العالم، خاصة بهذا النوع من الأخبار. مثالها «صحيفة الأخبار السعيدة»
الفصلية المليئة بالقصص المتفائلة من جميع أنحاء العالم، و « بوزتيف
نيوز» أي الأخبار الإيجابية، التي أسستها الصحافية شونا كريكيت بوروز
عام 1993 كصحيفة تهدف إلى تغيير كيفية إختيار الأخبار ونشرها. حققت
الصحيفة نجاحا كبيرا وسرعان ما تطورت إلى « أول مؤسسة إعلامية في
العالم مكرسة لتقديم تقارير عالية الجودة ومستقلة حول ما يجري بشكل
صحيح حين تمتلئ معظم وسائل الإعلام بالحزن والكآبة «.
هل يناقض نجاح مواقع وتداول الأخبار الإيجابية ما توصلت إليه دراسة
جامعة كاليفورنيا وغيرها حول تأثير الأخبار السيئة على متابعيها
واستغلال أجهزة الإعلام لعامل الشد الدرامي بالكوارث والفواجع، كطريقة
لاغواء اكبر عدد ممكن من المشاهدين يساعدها على تحقيق مردود مالي أكبر،
بعيدا عن إيصال الاخبار كما هي؟ لا يوجد ما يدل على التناقض، إذ تمكنت
أجهزة الإعلام الكبيرة من إحتواء نتائج البحوث الدالة على أن الأخبار
المأساوية مضرة بالصحة وأن الأخبار الجيدة توفر طريقًا إيجابيًا للمضي
قدمًا في الحياة لأنها تجعل الناس سعداء مما يشيع التفاؤل وبالتالي
تحسن الصحة العقلية والجسدية، احتوتها عن طريق تضمين فقرة في نهاية
نشرات الأخبار أو صفحة في جريدة لقصص إنسانية إيجابية تتعلق بانجازات
فردية أو جماعية، مهما كانت صغيرة، كإنقاذ قطة أو النجاح في زراعة
طماطم على سطح مبنى، أو أي شيء مماثل لمنح المتابعين الثقة والأمل في
الجنس البشري، بعيدا عن «عاجل» الأخبار الدموية.
كاتبة من العراق
إعترف وإلا…
ثقافة التعذيب في العراق
هيفاء زنكنة
يُصر المسؤولون العراقيون في لقاءاتهم الدورية مع ممثلي المنظمات
الحقوقية الدولية على إنكار ممارسة التعذيب في أماكن الاحتجاز. وحالما
يواجهون بشهادات ووثائق تثبت العكس يلجأون إلى القول بأنها حالات
منعزلة وليست ممارسة منهجية أو واسعة النطاق. وهو ذات التبرير الذي
طالما قدمته إدارة الاحتلال الأمريكي حين كانت قواتها تمارس الانتهاكات
والتعذيب ضد المعتقلين العراقيين، أو حتى القتل، ملقية اللوم على « بضع
تفاحات فاسدة». ولا تختلف صيغ الانكار من وزارة إلى أخرى، ومثالها
النفي المطلق لحدوث حالات تعذيب في السجون كما فعل المتحدث باسم وزارة
العدل، قائلا إن «السجون التابعة لوزارة العدل تخلو من التعذيب» حين
جوبه بتقرير للأمم المتحدة أوضح أن أساليب التعذيب تشمل «الضرب المبرح،
والصعق بالكهرباء، والوضعيات المجهدة، والخنق» بالإضافة إلى العنف
الجنسي وما وصفه بعض المحتجزين، خجلا، بأنه معاملة «لا يستطيعون التحدث
عنها».
ولنفترض صحة التصريحات الحكومية العراقية عن الحالات الفردية المنعزلة
لبعض الجلادين المصابين بعُقد سادية، وأن التعذيب هو الاستثناء، فلِم
لَم يتم تنظيف السلة من التفاح الفاسد في السنوات العشرين الأخيرة في
ظل النظام الحالي؟ ولِم تواصل المنظمات الدولية والمحلية إصدار التقرير
تلو التقرير موِثِقة حالات تعذيب مرعبة، بلا توقف، على مر السنين، من
بينها سبعة تقارير أصدرها مكتب حقوق الإنسان التابع لبعثة الأمم
المتحدة لمساعدة العراق ( يونامي)؟
يكمن الجواب البسيط لمثل هذه التساؤلات في أن ممارسة التعذيب في العراق
ثقافة شائعة ومبررة ومستساغة لدى القوات الأمنية وأجهزة الشرطة
والمليشيات، بكافة مستوياتها، وبكل مواقع الاحتجاز والسجون، يعززها
مناخ الإفلات من العقاب، والايمان بأن التعذيب هو الوسيلة الأفضل
والأسرع لاستخلاص الاعتراف، أيا كانت طبيعته. كما أن الإعدام هو الحل
الأفضل للتخلص من المتهمين الذين، غالبا، ما يعترفون بارتكاب كل
الجرائم المطلوب منهم الاعتراف بها، جراء التعذيب حتى يقال أن متهما
اعترف بتفجير نفسه مرتين!
وزاد التعذيب إنتشارا دور المحتل الأنكلو أمريكي في إبداع أساليب
معاملة مبتكرة بحق المعتقلين، رجالا ونساء، كما شاهدنا في أبو غريب
والمعسكرات الأمريكية والبريطانية. وحين زكمت الأنوف رائحة الانتهاكات
والاعتداءات الفاضحة قررت إدارة الاحتلال غسل يديها من دماء المعتقلين
فقامت بتسليمهم إلى جلادين محليين متواطئين معها، مانحة الضوء الأخضر
باستمرارية الاستخدام الممنهج للتعذيب والتغاضي عنه. فلم يعد السؤال
بصدد معاملة المعتقلين جراء كثرة الانتهاكات هو هل هناك تعذيب أم لا بل
أصبح السؤال عن مدى منهجية التعذيب وشموليته وأنواعه، حيث أصبح التعذيب
حقيقة واقعة لا تقبل الانكار مهما كانت تبريرات الساسة العراقيين.
حسب بيان صادر عن وزارة العدل، فإن السلطات تحتجز ما يقرب من 50 ألف
شخص للاشتباه بصلاتهم بالإرهاب، وحُكم على أكثر من نصفهم بالإعدام
من مفارقات الوضع المأساوي أن العراق وقع على اتفاقية الأمم المتحدة
لمناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو
اللاإنسانية أو المهينة (UNCAT)
في عام 2011. من هذا المنطلق، بحثت لجنة مناهضة التعذيب التابعة للأمم
المتحدة، في 26 نيسان/ أبريل 2022، التقرير الدوري الثاني للعراق،
والذي تشرح فيه السلطات العراقية الخطوات المتخذة لتنفيذ اتفاقية الأمم
المتحدة لمناهضة التعذيب. أثناء الحوار التفاعلي مع اللجنة، وكالعادة،
أنكر ممثلو العراق وجود التعذيب على الرغم من تلقي اللجنة «تقارير تشير
إلى أن الأشخاص المحتجزين، بما في ذلك في المنشآت الخاضعة لسلطة القوات
الأمنية والمرافق التي يُقال إنها غير معروفة للمحتجزين، يتعرضون
للتعذيب أو سوء المعاملة «.
كما فنّدت اللجنة عديد الادعاءات الرسمية ومن بينها إدعاء السلطات أن
«الأحكام الصادرة عن المحاكم العراقية لا تعتمد على الاعترافات وحدها
بل على مجموعة شاملة من الأدلة» حيث وجد أعضاء اللجنة أن الاستجوابات
التي تجريها قوات الأمن، في الممارسة العملية، تهدف بشكل عام إلى
انتزاع الاعترافات، مما يساهم في إجراءات قسرية. وأن الآليات القائمة
لتلقي شكاوى التعذيب والتحقيق فيها «لا تؤدي عملياً إلى مساءلة جادة
لمرتكبي التعذيب».
بعد مناقشة الإطار القانوني العراقي لمكافحة التعذيب وعدم مراعاة
الضمانات القانونية، أعرب خبراء الأمم المتحدة عن قلقهم إزاء مزاعم
التعذيب أو سوء المعاملة على نطاق واسع وعدم المساءلة عن مثل هذه
الأفعال. كما تم أيضًا التطرق إلى معاملة السجناء المحكوم عليهم
بالإعدام وكذلك الانتهاكات التي حدثت في سياق احتجاجات 2019-2020.
فتوصلت اللجنة إلى حصيلة مفادها أن العراق لم يحرز أي تقدم، في هذا
المجال، منذ آخر مراجعة في عام 2015.
استوقفت اللجنة، كما في كل التقارير الدولية الأخرى، سرعة إصدار أحكام
الأعدام وكثرتها وتنفيذها. فعلى الرغم من حقيقة أن نظام العدالة
الجنائية معروف بالاستخدام الواسع النطاق للتعذيب والإكراه على
الاعترافات، وعلى الرغم من الانتهاكات الجسيمة للإجراءات القانونية
الواجبة، نفذت السلطات العديد من عمليات الإعدام.
وحسب بيان صادر عن وزارة العدل في سبتمبر / أيلول، فإن السلطات تحتجز
ما يقرب من 50 ألف شخص للاشتباه بصلاتهم بالإرهاب، وحُكم على أكثر من
نصفهم بالإعدام.
وهو رقم مذهل بكافة المقاييس، مما يضع العراق بين الدول الست الأولى في
العالم المسؤولة عن 85 بالمئة من تنفيذ أحكام الإعدام بمتهمين، غالبا،
ما يعترفون بالجرائم نتيجة تعرضهم للتعذيب، مما يعني أن السلطات نفسها
تنتهك القانون بحجة محاربة الإرهاب واستتاب الأمن. وهو ما يدحضه الواقع
الأمني العراقي، إذ لم تؤد ممارسة التعذيب وتنفيذ الإعدام إلى استتاب
الأمن أو ما تدّعيه السلطات من وضع حد للإرهاب، خاصة مع تفشي انتهاكات
وجرائم الميليشيات الداعمة لأحزاب فاعلة ضمن السلطة. وستبقى نافذة
الأمل مغلقة أمام المعتقلين وذويهم، مهما كانت التهم الموجهة إليهم، ما
لم يتم تطبيق القوانين والالتزام بها بالإضافة إلى العمل الجاد على
تغيير القبول المجتمعي لثقافة التعذيب. وكما يُذّكرنا رئيس جنوب
أفريقيا الرحل نلسون مانديلا أن بالإمكان منع العنف لأنه خلافا لافتراض
العديد من الناس الذين يعيشون مع العنف يومًا بعد يوم ليس جزءا من
الحالة الإنسانية. وبالإمكان قلب الثقافات العنيفة… وبإمكان الحكومات
والمجتمعات والأفراد إحداث التغيير، إذا كنت النية صادقة.
كاتبة من العراق
قراءة
في خطاب
سماحة
السيد القائد
هيفاء زنكنة
هل صحيح ما يقال إنه لم يعد هناك
ما يثير الدهشة في « العراق الجديد»؟
الأسابيع الأخيرة تُثبت بما لايقبل الشك أن بإمكان ساسة العراق دحض حتى
ما قاله أب الحركة السوريالية أندريه بريتون حين وصف خيبته بالعالم،
ذات مرة، قائلا بأنه لم يعد هناك ما يثير الدهشة. ففي فترة قياسية أضيف
إلى قائمة المصطلحات المستحدثة في العراق الجديد مثل «العملية
السياسية» و»البيت الشيعي» و»المكونات» و»أذرع إيران»، مصطلح
«الإطاريون» و»النواب البدلاء». بدأ وسم العراق بمصطلح «النواب
البدلاء» بعد إلقاء خطاب يترك المرء بين منزلتي الضحك والبكاء، وعدم
التصديق إلى حد ما، حيث أمر مقتدى الصدر (سماحة السيد القائد أعزه
الله)، أتباعه من أعضاء البرلمان العراقي، بالاستقالة الجماعية،
مُستَّهلا خطابه بأبيات « شعرية» من نظمه قائلا: « أنا ابن النجف
والحنانة/ أنا ابن محمد الصدر الذي رفض الظــلم والمهانة/ أنا الذي
واجه الاحتـلال فأذلهُ وأهـانه/ أنا للإصلاح إستل سيـفه وأظهر أسنانه».
وفعلا، لبى النواب البالغ عددهم 73 نائبا، النداء بلا تردد هاتفين «
نعم… نعم يا سيد». متجاهلين في فورة حماسهم الشعب الذي طالما كرروا أنه
انتخبهم، وليس (القائد أعزه الله).
هل بإمكان نواب انتخبهم الشعب (مهما كانت نسبة المصَّوتين) بانتخابات
وُصفت بالنزيهة، الانسحاب جماعيا أو حتى فرديا بناء على أمر أصدره قائد
الحزب؟
ليست هذه هي المرة الأولى أو
الثانية أو الثالثة (أو … لنتوقف هنا فالقائمة طويلة) التي ينسحب فيها
الصدر من العملية السياسية، التي أسسها الاحتلال الأنكلو أمريكي بعد
غزو العراق، منذ عشرين عاما تقريبا. إلا أن سبب إثارة الدهشة، هذه
المرة، على الرغم من تعّود العراقيين على صعود وهبوط مزاج السيد القائد
وكثرة انسحابه وعودته وإنكفائه إما في العراق أو إيران أو لبنان، بحجج
تراوح بين إكمال الدراسة، حينا، وكتابة الشعر حينا آخر، كلما واجه أزمة
لا يعرف كيف يتعامل معها، ما يثير الاستغراب، هذه المرة، قراره ألا
ينسحب لوحده، إلى شرنقته، بل أن يأخذ معه 73 من نواب يُشكلون كتلة
فائزة في الانتخابات. انتخابات وُصفت محليا وعالميا، بأنها الأكثر
سلاسة ونزاهة، وأن شارك فيها 20 بالمئة فقط من المصّوتين، وكلّفت
العراقيين ثروة كانوا بأمس الحاجة لها للتزود بأساسيات الحياة. وكما
كان متوقعا، عززت الانتخابات بقاء معظم الوجوه، تقريبا، التي اعتلت
السلطة في عقدي الغزو والاحتلال. ذات الوجوه المهيمنة بقوة الدعم
الخارجي والفساد المالي والإداري الكبير، بضمنهم أتباع الكتلة الصدرية
بلا استثناء. وكما كان متوقعا باتت نتائج الانتخابات أداة فعالة لصالح
تمديد عمر منظومة الفساد بهامش تغيير بسيط لإعادة توزيع أدوارها،
انسجاما مع التوازنات الإقليمية. ولم يُغّير الخلاف الحالي حول منصبي
رئيس الوزراء والجمهورية، بعد مرور ثمانية أشهر على انتهاء التصويت
وإعلان النتائج، من جوهر الهيكلة الأصلية. وأقصى ما حدث هو تغيير أسماء
بعض الأحزاب والتحالفات، فتصاعدت على سطح المياه الراكدة فقاعات
بمسميات على غرار الإطار التنسيقي، ومن هنا منشأ مصطلح إطاريون (قيادة
ميليشيات الحشد الشعبي الموالية لإيران مع أحزاب وتكتلات مما يسمى
البيت الشيعي) مقابل الكتلة الصدرية التي يتزعمها مقتدى الصدر وراثة عن
أبيه الراحل، وبشكل غير مباشر عن « المهدي المنتظر»، ليسود النزاع
المسرحي في أستوديوهات التلفزيون، كبديل للبرلمان، حول بأي شكل سيتم
التهام ثروة العراق، وبأي واسطة؟ هل هي «الأغلبية» أم «التوافقية»؟
هذا الحال المضحك المبكي، ومع تدوير أسطوانة الانسحاب الجماعي إعلاميا،
ومن ثم صعود «نواب بدلاء»، يستدعي سؤالا إفتراضيا، قد لا يقل عبثية عن
إصدار الصدر أمر الانسحاب وكيفيته، وهو: هل بإمكان نواب انتخبهم الشعب
(مهما كانت نسبة المصَّوتين) بانتخابات وُصفت بالنزيهة، الانسحاب
جماعيا أو حتى فرديا بناء على أمر أصدره قائد الحزب؟ وكيف يُقارن هذا
الوضع مع انسحاب/ استقالة نواب منتخبين في بلدان أخرى؟ لو نظرنا إلى
الوضع ببريطانيا لوجدنا أنه، تاريخيا، لم يُسمح أبدًا بالاستقالة من
مجلس العموم، وأن سُمح لخمسة نواب بالاستقالة في أوائل القرن السابع
عشر بسبب اعتلال صحتهم. وفي 2 آذار/ مارس 1624، قام البرلمان بإضفاء
الطابع الرسمي على الحظر من خلال إصدار قرار مفاده « لا يمكن للنائب،
بعد أن يتم اختياره على النحو الواجب، التنازل عنه». إلا أن الاستقالة
ممكنة لأسباب كالمرض والموت والتسبب بفضيحة أو اتخاذ موقف سياسي يتناقض
تماما مع الموقف الحكومي. كما حدث عندما استقال روبن كوك، وزير خارجية
المملكة المتحدة الأسبق، استنكارا لوقوف الحكومة برئاسة توني بلير
بجانب أمريكا في غزوها العراق. ويترتب على الاستقالة الفردية إيجاد
البديل عبر انتخابات في المنطقة التي يُمثلها النائب المستقيل.
هناك، أيضا، أمثلة لاستقالة مجموعة نواب من أحزابهم بسبب خلافات حول
سياسات أحزابهم. ففي 18 فبراير 2019، استقال سبعة نواب من حزب العمال،
وشكّلوا جمعية سياسية، إلا أنهم واصلوا عملهم كنواب. مما دفع الصحافة
إلى مطالبة النواب المغادرين أن يستقيلوا أيضًا من مقاعدهم. بل وجادل
البعض بضرورة الدعوة إلى انتخابات عامة كوسيلة لتصحيح الانحراف، وإلا
أدت إلى تقويض المبادئ الديمقراطية الأساسية، لأن التغييرات لم تتم
المصادقة عليها من قبل الناخبين في صندوق الاقتراع. وتشير أمثلة أخرى
من عديد البلدان، حول العالم، أنه في حال استقالة جميع أعضاء المعارضة
في البرلمان، فإن الحل الوحيد هو إجراء انتخابات جديدة. ويكاد لا يوجد
نموذج يطابق ما يجري في العراق إذ لم ترد مفردة «استقالة» بل انسحاب،
مما يبقي مجال العودة مفتوحا، وإن هدد الصدر بالانسحاب من العملية
السياسية كي لا يشترك « مع الفاسدين بأي صورة من الصور لا في الدنيا
ولا في الآخرة». وكأنه كان مشتركا مع الأنقياء الطاهرين منذ مأسسة
العملية السياسية وحتى اليوم، متسائلا لدعم دعوته إلى إنهاء الفساد
والتوافق « الى متى يبقى البعير على التل». وهي جملة يرددها الأطفال،
بمستوى الصفوف الأولى في المدرسة الابتدائية، في «القراءة الخلدونية»،
لتعلم قراءة الحروف. وتأخذنا الجملة المقتبسة إلى تساؤل تثيره خطابات
الصدر وسلوكه، عما إذا كان قائد أكبر كتلة سياسية في العراق لايزال،
عقليا ونفسيا، بمستوى تلميذ بمدرسة إبتدائية أم أن من يأمرهم ويخاطبهم
ويلبون أوامره هم الذين لا يزالون هناك؟
كاتبة من العراق
عقدة وزيرة الداخلية
البريطانية وشيطنة طالبي اللجوء
هيفاء زنكنة
للمرة الأولى، منذ فترة طويلة، احتل بلدان عربيان حيزا في النقاشات
الدائرة بحرارة في مجلس العموم البريطاني ومجلس اللوردات.
جاء ذكر البلدين أثناء إدلاء وزيرة الداخلية بريتي باتيل في 15 حزيران
/ يونيو ببيان حول ما أسمته «شراكة الحكومة الرائدة عالميًا في مجال
الهجرة والتنمية الاقتصادية مع رواندا». بعيدا عن العنوان «الحضاري»،
تهدف هذه «الشراكة» إلى وضع حل لمنح حق اللجوء لمن تصفهم باللاجئين غير
القانونيين، وإرسالهم بدلا من ذلك إلى رواندا. وقد تكرر ذكر العراق
وسوريا باعتبارهما من البلدان المُصّدرة للاجئين، فقط لا غير. كالعادة،
بدون التطرق إلى الأسباب ومن هو المسؤول عن المأساة.
تبرر باتيل إصرارها على تنفيذ خطة الترحيل، على الرغم من كل الاعتراضات
القانونية والإنسانية، بأنها إنما تُنفذ بذلك ما «صِّوت له الشعب
البريطاني مرارًا وتكرارًا» وأن ما تقوم به هو الاصغاء لما يريده
الشعب. وادعاء الاصغاء للشعب، خدعة قديمة، معروفة إلى حد الابتذال، إلا
أنها لا تزال سارية المفعول، يمارسها عديد السياسيين حين يواجهون
معارضة قوية لقراراتهم. وهو التبرير الذي تُفضل باتيل التعكز عليه،
خاصة بعد صدور قرار المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان في ستراسبورغ،
بإيقاف مغادرة الطائرة الأولى المغادرة إلى رواندا وعلى متنها عدد من
طالبي اللجوء، ومنع عملية ترحيلهم. من بين الذين كانوا على وشك الترحيل
إلى رواندا سوري وعراقي، لم يُثر وجودهما أكثر من ذكر عابر.
أثار الحكم غضب باتيل فوقفت في مجلس العموم لإلقاء بيانها المكتظ
بالتضليل والعنصرية. وكما يقول عالم الاجتماع الأمريكي دي شان ستوكس
«عندما تتعامل مع محتالين وكذابين، أصغي إلى ما لا يقولونه أكثر مما
تصغي إلى ما يقولونه». فما الذي لم تقله باتيل وهي تحاول إقناع
البرلمان والشعب البريطاني، فضلا عن العالم، بصحة موقفها تجاه واحدة من
أكثر المشاكل الإنسانية حاجة للتعامل بشكل إنساني وأخلاقي؟ وما هو الرد
على تسويغها بأنها إنما تحاول إنقاذ الناس من الغرق والتهريب وأن طالبي
اللجوء «يجعلوننا أقل أمانا كأمة» ويكلفون دافعي الضرائب البريطانيين
فاتورة مصاريف كبيرة؟
معظم طالبي اللجوء هم من شعوب، ذاقت الأمرين من الدول الاستعمارية،
المُغذية للحروب والصراعات، والعمل بجد على تنصيب حكام محليين، ينفذون
سياستها وربط البلدان بعقود وقروض بأكثر الأساليب «الديمقراطية» قمعية
إن ما لم تذكره باتيل هو أن معظم طالبي اللجوء هم من شعوب، ذاقت
الأمرين من الدول الاستعمارية، المُغذية للحروب والصراعات، والعمل بجد
على تنصيب حكام محليين، ينفذون سياستها وربط البلدان بعقود وقروض بأكثر
الأساليب «الديمقراطية» قمعية، وبكافة الطرق من الغزو والاحتلال إلى
تغيير الأنظمة. مما يجعل سبب مغادرة البلدان الأصلية ليس بالضرورة
اقتصاديا فقط، كما تقول باتيل، بل وسيلة يخاطر فيها اللاجئون بحياتهم
هربا من القمع والاضطهاد، السياسي المدعوم غربيا، حفاظا على حياتهم.
في تفنيد ادعاءاتها، لخّص ستيوارت ماكدونالد شادو، المتحدث الرسمي
للحزب الوطني الأسكتلندي، موقف عديد النواب واصفا الخطوة، بمفردات
غاضبة، بأنها غير عملية وغير قانونية وغير أخلاقية. لن توقف المهربين
بل ستلحق ضررًا جسيمًا بالضحايا. وبحساب بسيط سيتضح أن الأموال التي
ستدفع لحكومة رواندا هي إهدار طائش لأموال دافعي الضرائب. وتُعد الخطوة
انتهاكا لشرعية اتفاقية اللاجئين الموقعة مع المفوضية السامية للأمم
المتحدة لشؤون اللاجئين بالإضافة إلى الاتفاقية الأوروبية لحقوق
الإنسان، التي ساعدت بريطانيا في صياغتها والمصادقة عليها منذ عقود.
من ناحية رواندا، المعروف أنها غير مهيأة للتعامل مع اللاجئين بشكل
عادل، كما صرح مفوض الأمم المتحدة السامي لشؤون اللاجئين. إذ لديها
ضابط أهلية واحد فقط يقوم بالتحضير للحالات، وهناك نقص في المترجمين
الفوريين والمستشارين القانونيين. ومن المفارقات أن هناك حاليا 50
روانديا تقدموا بطلب اللجوء إلى بريطانيا جراء تعرضهم للقمع السياسي،
وحقيقة أن السلطات أطلقت النار على 12 لاجئًا في عام 2018 للاحتجاج على
قطع وجبات الطعام عنهم. أما طالبو اللجوء الأفغان والسوريين فقد
أعادتهم رواندا إلى بلدانهم ليواجهوا الموت. وأثار الأسقف كريستوفر
شيسون، الانتباه في مجلس اللوردات، حول حقيقة أنه «لا يوجد شيء في
القانون يسمى «طالب لجوء غير قانوني» بل فقط طالب لجوء».
إزاء هذه المعارضة الكبيرة، حتى بين عدد من أعضاء حزبها، حزب المحافظين
الحاكم، لماذا تُصر باتيل على الترحيل اللاإنساني لطالبي اللجوء،
وتمديد محنتهم، وهي نفسها ابنة عائلة هندية مهاجرة إلى بريطانيا، عمل
والدها في محل للبقالة ليوفر العيش لأسرته، والمفترض أن تكون متفهمة
لوضع اللاجئين أكثر من غيرها؟
في كتابه «بشرة سوداء.. أقنعة بيضاء»، يقدم الكاتب والطبيب النفسي
فرانز فانون، تحليلا عن نفسية أبناء المُستعمَرات وإحساسهم بعقدة النقص
(الدونية)، من ناحية اللون واللغة والثقافة، تجاه الشعوب المُستعمِرة.
يحمل التحليل مُقاربة معقولة لفهم سلوك باتيل، وهي من عائلة عاشت في ظل
الاستعمار، حيث اختارت الانضمام إلى حزب المحافظين الذي يشكل أتباع
الكنيسة الإنكليزية واليهود غالبية أعضائه. وسياسة الحزب مبنية على
تعزيز الملكية الخاصة، والحفاظ على القيم والمؤسسات الثقافية التقليدية
للمجتمع البريطاني (غالبا الإنكليزي)، واستمرارية تسليح جيش قوي كذراع
للهيمنة الاستعمارية والتوسع الإمبريالي. وهي من الناحية الأيديولوجية
من الجناح اليميني في حزب المحافظين، وترى في السيدة ثاتشر، رئيسة
الوزراء الملقبة « السيدة الحديدية» النموذج الذي تقتديه. ولباتيل
علاقة حميمة بكيان الاستيطان الصهيوني. من بينها زيارتها إلى إسرائيل،
عام 2017، وإجرائها اجتماعات غير مصرح بها مع مسؤولين حكوميين مما
أجبرها على الاستقالة من منصبها كوزيرة للتنمية الدولية.
قد تشكل هذه السيرة تجسيدا لنظرية فانون عن عقلية ووعي ونفسية المثقف
المُستعمَر، خاصة حين يترعرع ويتعلم في بلد المُستعمِر، حيث يتوجب عليه
مواجهة عنصرية المجتمع والتهميش وأن يثبت، بمختلف الطرق، أنه لكي تكون
إنسانا عليك ان تكون أبيض. وهو ما تابعه الصحافي والباحث الهندي أشوين
فينكاتاكريشنان، الذي ترعرع مثل باتيل في بريطانيا بعد هجرة عائلته
اليها، سيرة باتيل وطموحها في أن تكون كالسيدة ثاتشر في قوتها وقسوتها،
ليتوصل للإجابة على السؤال حول مواقف باتيل، بأنه «قد تكمن الإجابة في
خلفيتها عندما كانت طفلة تواجه التمييز العنصري، ورغبتها في محاربة
ذلك. فسَعّت إلى محاربة الاتهامات بأنها ليست إنجليزية من خلال كونها
إنكليزية».
كاتبة
من
العراق
وأخيرا… زيارة دولية لبحث
الاختفاء القسري في العراق
هيفاء زنكنة
ما أن يُعقد مؤتمر دولي لبحث انتهاكات حقوق الإنسان إلا وكان العراق
على قائمة الدول التي يتعرض فيها المواطن لكافة أنواع الانتهاكات،
بدرجات مختلفة. فمن استهداف الصحافيين إلى نقص الخدمات الأساسية
والحرمان من حق الحياة. ومن الجوع إلى الفساد وتخريب البيئة. ومن
الاعتقال والتعذيب إلى الاختطاف والاختفاء القسري. وها نحن على مشارف
اليوم الدولي لضحايا الاختفاء القسري، لترتفع الأصوات دوليا، من جديد،
مطالبة بالتقصي عن مصير المختفين، في أرجاء العالم ومن بينها العراق
الذي، حسب «اللجنة الدولية للصليب الأحمر» يوجد فيه واحد من أكبر أعداد
الأشخاص المفقودين في العالم.
وتقدّر «اللجنة الدولية للمفقودين» أن العدد قد يتراوح بين 250 ألف
ومليون شخص. ويؤكد مركز جنيف الدولي للعدالة أن العدد يقارب المليون.
وتوثّق منظمة «هيومن رايتس ووتش» منذ عام 2016، عمليات الإخفاء القسري
المستمرة على أيدي قوات الأمن العراقية، لتخلص في تقريرها الجديد لهذا
العام بأن السلطات، في بغداد وإقليم كردستان، لم تفعل ما يكفي لمعاقبة
الضباط والعناصر المتورطين في حالات الإختفاء، وفي كل حالة راجعتها
المنظمة، لم ينجح أقارب ضحايا الإختفاء القسري في الحصول على معلومات
من السلطات حول مكان المفقودين.
ليس تقرير المنظمة فريدا من نوعه. فاستمرار المضايقات التي يتعرض لها
المدافعون عن حقوق الإنسان، وأقارب الضحايا، والشهود، والمحامون الذين
يعنون بقضايا الاختفاء القسري؛ واستغلال الدول أنشطة مكافحة الإرهاب
كذريعة لانتهاك التزاماتها؛ واستمرار مرتكبي أعمال الاختفاء القسري في
الإفلات من العقاب على نطاق واسع، جزءا من ظاهرة عالمية، فبعدما كانت
هذه الظاهرة في وقت مضى نتاج دكتاتوريات عسكرية أساساً، فإنه يستُخدم،
حاليا، كاستراتيجية لبث الرعب داخل المجتمع، حسب منظمة الأمم المتحدة
التي تبين أيضا الشعور بانعدام الأمن الذي يتولد عن هذه الممارسة لا
يقتصر على أقارب المختفي، بل يصيب أيضا مجموعاتهم السكانية المحلية
ومجتمعهم ككل.
وتتجلى خصوصية الوضع العراقي في جانبين هما أولا: ازدياد عدد الضحايا
بشكل مستمر وعلى اختلاف الحقب الزمنية وثانيا: تجزئة القضية حسب
الأجندة السياسية لتلك الحقبة. ففي حزيران/ يونيو 2020، أصدرت بعثة
الأمم المتحدة بالعراق ( يونامي) تقريرا موثقا عن المفقودين بالعراق.
كانت صورة الغلاف: لقطة ثابتة من مقطع فیدیو للمفوضیة العراقیة العلیا
لحقوق الإنسان يظهر فيها أطفال من محافظة الأنبار یحملون صورا ووثائق
ثبوتیة لأقارب مفقودین. وتكاد الصورة تتكرر في معظم التقارير الدولية،
السابقة واللاحقة، مع تغيير بسيط. كأن يُستبدل الاطفال بمجموعة من
النساء، يلتحفن السواد، وهن يرفعن صور أقارب مفقودين، أو تغيير عنوان
التقرير لتتراوح العناوين بين مفقودين ومغيّبين ومختفين قسرا. ويبقى
الوضع المأساوي، كما هو بلا تغيير، على مر السنين.
يتعرض المواطن في العراق لكافة أنواع الانتهاكات، بدرجات مختلفة. فمن
استهداف الصحافيين إلى نقص الخدمات الأساسية والحرمان من حق الحياة.
ومن الجوع إلى الفساد وتخريب البيئة. ومن الاعتقال والتعذيب إلى
الاختطاف والاختفاء القسري
وتواصل العوائل، أو النساء في معظم الاحيان، لأن المغيبين هم غالبا من
الرجال، ملء استمارات بيانات بالمفقود: عمره، شكله، تاريخ الاختفاء،
مكان الاختفاء، تاريخ آخر مشاهدة، وظروف الاختفاء. ثم ينتظرن وضع حد
لانتظارهن الذي، كما تشير شهادات العديد من النساءـ يمتد لسنوات، يبقين
فيه معلقات بين الحياة والموت، بلا شهادة وفاة أو ما يمنح الأمل
بالحياة.
وتصبح المأساة مضاعفة إذا كان الرجل هو معيل الأسرة. واذا إفترضنا أن
عدد المفقودين هو نصف مليون، وليس مليونا، وبما أن معدل أفراد الاسرة
العراقية هو (5.7) حسب نتائج المسح لعام 2021 الذي نفذه الجهاز المركزي
للاحصاء بالتعاون مع صندوق الأمم المتحدة للسكان، فهذا يعني أن اختفاء
النصف مليون رجل يمتد سيؤثر على حياة ما يقارب الثلاثة ملايين شخص
أُسريا وعاطفيا واقتصاديا.
يتبدى رد الفعل الحكومي ـ السياسي على المأساة الموثقة دوليا ومن قبل
منظمات المجتمع المدني، بشكل يراوح ما بين الاقرار والانكار، وفقا
لأجندة النظام السياسية وطائفية الأحزاب والميليشيات. فبينما يركز
النظام على المُغيّبين والمفقودين في حقبة ما قبل الاحتلال عام 2003،
ولا يذكر ضحايا سنوات الاحتلال، ينبري آخرون لتوثيق ضحايا داعش، وبينما
تتبنى أحزاب ضحايا جريمة داعش في سبايكر منكّرة وجود ضحايا في
المحافظات الغربية، يُهمل ضحايا الميليشيات والقوات الأمنية المحتمية
بالإفلات من العقاب. وكان مصطفى الكاظمي، قد أعلن منذ توليه منصبه في
مايو/أيار 2020، أن حكومته ستعمل على إنشاء آلية جديدة لتحديد مكان
ضحايا الاختفاء القسري، متعهدا بالعمل بجدية لمتابعة ملف المفقودين في
البلاد، إلا أن الوعود بقيت، كما هي، مجرد ألفاظ تلاشت مع سابقاتها.
مما دفع اللجنة المعنية بحالات الاختفاء القسري بالأمم المتحدة، وهي
هيئة تتألّف من عدد من الخبراء المستقلين، وترصد أعمال الاتفاقية
الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري من جانب الدول
الأطراف، إلى مطالبة الحكومة العراقية، وبضغط مستمر، على مدى سنوات، من
منظمات حقوقية محلية ودولية، للسماح لها بزيارة العراق وتنظيم لقاءات
مع أهل الضحايا ومنظمات المجتمع المدني والتجمعات والجهات الفاعلة
الأخرى ذات الصلة. وحصلت اللجنة على الموافقة، أخيرا، وستتم الزيارة في
تشرين الثاني / نوفمبر 2022.
قد لا تكون هذه الزيارة الدواء السحري لمحنة الاختفاء القسري، إلا أنها
خطوة إيجابية وبالاتجاه الصحيح، إذا ما نشطت منظمات المجتمع المدني
والمؤسسات الوطنية لحقوق الإنسان والأوساط الأكاديمية من تقديم طلباتها
للاجتماع باللجنة أثناء زيارتها وتوفير بيانات الضحايا. وبإمكان
اللجنة، في حال تلقت معلومات تستند إلى أدلة صحيحة بأن ممارسة الاختفاء
القسري جارية على نطاق واسع وبصورة منهجية، أن تعرض المسألة على
الجمعية العامة. حيث ينص عمل اللجنة على أن الاختفاء القسري جريمة، إذا
ما تمَّت ممارسته بطريقة «واسعة النطاق» أو «ممنهجة» فإنها قد ترقى إلى
مستوى الجرائم ضد الإنسانية.
كاتبة من العراق
شكرا لعلماء البيئة
والدكتور العّشاب
هيفاء زنكنة
في واحدة من أكبر الحفلات العامة التي شهدتها لندن، يوم السبت الماضي،
احتفالا بمرور 70 عاما على تنصيب إليزابيث الثانية ملكة على المملكة
المتحدة ودول الكومنولث، ومن بين المساهمات الغنائية والراقصة ورسائل
التهنئة من قبل شخصيات سياسية وثقافية بارزة، كانت هناك رسالة واحدة
اختلفت عن البقية، التي ركزت كلها على شكر الملكة لتفانيها في أداء
واجبها ولبقائها كـ « أم» راعية على رأس المملكة والكنيسة أطول من أي
ملك آخر ورث الحكم.
استغرقت الرسالة بضع دقائق إلا انها كانت مختلفة في مضمونها عن بقية
البرنامج الحافل. كان صاحبها سير ديفيد آتينبارا وكانت موجهة، وهنا سبب
فرادتها، ليس إلى الملكة لشكرها فحسب، وليس لتسلية أفراد العائلة
المالكة الجالسين في الصفوف الأمامية للحفل، وليس إلى المحتفلين
بالشوارع المحيطة بقصر الملكة، فقط، بل إلى العالم كله.
تضمنت رسالته تحذيرا عالميا عن مسؤولية الناس في تدمير الأرض. وهي
استمرارية لأفلامه الوثائقية التي استهلها عام 1979 في برنامج « الحياة
على الأرض» وما تلاه من سلسلة برامج، حملت عناوين مثل « الكوكب الحي»
جعل محورها علم البيئة وتكّيف المخلوقات الحية مع بيئاتها. حققت
البرامج والأفلام نجاحا كبيرا إذ إستقطبت جمهورا واسعا لم يقتصر على
القلة من العلماء والمتابعين، وفتحت الأبواب أمام معرفة جماهيرية أكثر
تخصصاً عن الطبيعة مثل حياة النباتات الخاصة وإصدار أفلام عن مناطق
قلما تمكن أحد من الاطلاع على مجرى الحياة فيها سابقا. وجاء تحذيره في
حفل الملكة تكرارا لما ذكره في خطاب ألقاه أمام مجلس الأمن في الأمم
المتحدة أثناء نظر المجلس في المخاطر الأمنية التي تشكلها حالة الطوارئ
المناخية، قائلا « بغض النظر عما نفعله الآن، فقد فات الأوان لتجنب
تغير المناخ، ومن المؤكد أن الأشخاص الأشد فقرًا وضعفًا – أولئك الذين
لديهم أقل مستوى من الأمان – سيعانون الآن». ولم يكتف بذلك، بل عاد الى
الثيمة نفسها، عند استلامه جائزة برنامج الأمم المتحدة للبيئة لتفانيه
في البحث والتوثيق والدعوة لحماية الطبيعة واستعادتها، تساهم دعوته
للحفاظ على التنوع البيولوجي وإصلاحه، والانتقال إلى الطاقة المتجددة،
والتخفيف من تغير المناخ وتعزيز النظم الغذائية الغنية بالنباتات في
تحقيق العديد من أهداف التنمية المستدامة. مُذكرا بالمسؤولية الدولية،
بقوله « على العالم أن يجتمع. هذه المشاكل لا يمكن حلها من قبل أمة
واحدة، بغض النظر عن حجم تلك الأمة الواحدة، نحن نعلم ما هي المشاكل
ونعرف كيفية حلها. كل ما نفتقر إليه هو العمل الموحد».
لا يمكن، بطبيعة الحال، التقليل من أهمية عمل ديفيد آتينبارا واستمراره
بأداء العمل وهو بعمر 96، إلا أن دعوته للعمل الموحد لحل مشاكل البيئة،
ينقصها البحث في بعض جذور الكارثة التي قلما يتم التطرق اليها في
أمريكا وعموم العالم الغربي مما يعيق تحقيقها.
على العالم أن يجتمع. هذه المشاكل لا يمكن حلها من قبل أمة واحدة، بغض
النظر عن حجم تلك الأمة الواحدة، نحن نعلم ما هي المشاكل ونعرف كيفية
حلها. كل ما نفتقر إليه هو العمل الموحد
من بين ما يتم التعامي عنه الكوارث التي تسببها الحروب الامبريالية
وعسكرة المجتمعات والاستخدام المنهجي للأسلحة وإحتلال البلدان وما
يترتب عليه من تدمير للبنية التحتية، بكافة المستويات، وتلويث البيئة
وإغتيال العلماء وتهديم المشاريع الوطنية ومنع المبادرات الفردية
الحامية للبيئة والإنسان. وهي مسؤولية جسيمة لا يمكن ان تُعزى بأي شكل
من الاشكال، كما يُشاع عادة، إلى تخلف العالم الثالث.
ففي فلسطين، مثلا، قام العالم والمؤلف مازن بطرس قُمصية، بتأسيس متحف
فلسطين للتاريخ الطبيعي ومعهد فلسطين للتنوع البيولوجي والاستدامة في
جامعة بيت لحم، بمبادرة شخصية. ولان قُمصية يعيش يوميات الاحتلال
الاستيطاني الصهيوني، فإنه يُشخص بوضوح أسباب التدهور البيئي، متجنبا
الفصل المتعمد، غالبا « ويربط بين الأضرار السابقة والتهديدات الراهنة
وطاقات الاستدامة الكامنة، بتأثير السياسات والممارسات الاستعمارية
والنيوليبرالية من جهة، ودور الفرد والمجتمع في الحفاظ على الانسجام مع
بيئتهم وطبيعتهم، من جهة أخرى». ويذكر قُمصية، في مقابلة صحافية مع
صحيفة الاتحاد، أن مشاريع الحفاظ على البيئة والاستدامة مشاريع مقاومة
لأنها تساعد في بقاء الإنسان على أرضه « في ظل إصرار الاستعمار
الإسرائيلي على اقتلاعنا من أرضنا، وتهويد تراثنا الطبيعي».
وإذا كانت المحافظة على النباتات جزءا لا يتجزأ من ديمومة الحياة على
الأرض، كما يُرينا آتينبارا في أفلامه الوثائقية، فإن محاولات علماء
النبات بالعراق لتوثيق الموجود منها وتكثيرها وإغناء استخداماتها،
واجهت من العوائق ما جعل استمرار العمل، جراء تعرض العلماء أنفسهم
للمخاطر، مستحيلا. وهو وجه مُهمل آخر للنظر في سيرورة تدمير الارض.
من بين العلماء الذين خسرهم العراق، في ظل الاحتلال الأنكلو أمريكي، هو
عبد الجليل إبراهيم القره غولي، الذي كان يطلق عليه تحببا « الدكتور
العّشاب». وقد قام عبد الجليل، خلال فترتي الحرب والحصار وندرة الأدوية
االمسموح باستيرادها، بتوثيق النباتات واستخداماتها الطبية. كما افتتح
عيادة محلية في عام 1990، ولمدة ست سنوات قام بتوزيع الأدوية العشبية
عندما كان المرضى في أمس الحاجة إليها. كانت حصيلة عمله الدؤوب توثيق
النباتات الطبية من أرجاء البلاد في ثلاثة مجلدات تحتوي على ثروة من
المعلومات عن 834 نباتًا واستخداماتها التقليدية. وتوقف عمله حين قُتل
في هجوم إرهابي عام 2009.
إلا أن وثائقه ونتائج بحوثه التي تشكل ثروة معرفية وتراثا ثقافيا، نجت،
لحسن حظ العراق والعالم، من التخريب، فقامت إبنته رنا، من متحف تاريخ
العلوم بجامعة أكسفورد، بالمحافظة عليها وإصدار نماذج منها في كتاب صدر
أخيرا باللغتين العربية والانكليزية بعنوان « عشبة العراق».
قام بتحريره خبراء من جامعة أكسفورد والحدائق النباتية الملكية ( كيو).
يصف الكتاب خمسين نباتًا واستخداماتها في طب الأعشاب التقليدي في
المنطقة. وبالإضافة إلى ثروة المعلومات، تم توضيح الأعشاب برسوم رائعة
الجمال، مما يجعل الكتاب مصدرا ثمينا للمعلومة البيئية ولوحة للجمال.
أملا، كما جاء في الكتاب « أن يساعد نشره في الحفاظ على استمرار الطب
الإسلامي التقليدي، وأهميته العميقة في علاج الأمراض، في المناطق التي
فُقدت فيها معرفة الأجيال بسبب الحرب».
كاتبة من العراق
العراقي لا يفهم ما يقرأ!
هيفاءزنكنة
هل تشكل معرفة أن 90 في المئة من التلاميذ العراقيين لايفهمون ما
يقرأون صدمة لمن يفتخر، عراقيا وعربيا، بالتعليم العراقي والعقول
العراقية؟ وهل ما يذكره البنك الدولي في آخر تقاريره عن الوضع التعليمي
في العراق وموافقته على مشروع بقيمة 10 ملايين دولار أمريكي «لدعم
الابتكارات من أجل التعلم في ثلاث من المحافظات العراقية المتعثرة «،
سيساعد فعلا على تعزيز ممارسات التدريس لمعلمي اللغة العربية
والرياضيات، وتحسين مهارات القراءة والكتابة والحساب لدى طلاب المرحلة
الابتدائية في المحافظات المنتقاة؟
لايثير تقرير البنك الدولي الصدمة لأنه لا يكشف شيئا جديدا. فالحقائق
المؤلمة التي يشير اليها معروفة لكل من يتابع إزدهار التعليم ومن ثم
تدهوره، بكافة مراحله، بدءا من سنوات الحصار الجائر (1991 – 2003) وحتى
الانهيار شبه الكلي منذ احتلال البلد. والحقيقة التي لا يشير اليها
التقرير هي أن التدهور يشمل جميع المحافظات، بضمنها بغداد التي طالما
افتخر عديد المثقفين والعلماء العرب بكونهم من خريجي جامعاتها، مما أدى
إلى إضعاف رأس المال البشري، وهو أساس تحقيق النمو الاقتصادي المستدام،
ليشكل 15 في المئة فقط من إجمالي الثروة، وهو أحد أدنى المعدلات في
منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. يخلص التقرير إلى أن النظام
التعليمي عاجز عن تقديم المهارات الأساسية إلى الطلاب والتي تشكل أساس
التعلم وتنمية المهارات. ويعزو أسباب القصور وتفاقمها إلى ما يسميه «
فترة الصراع» بالاضافة إلى جائحة كورونا وإغلاق المدارس. وأن مبلغ
العشرة ملايين دولار الممنوحة، على مدى عامين، سيساعد على « تحسين
نواتج تعلم القراءة والرياضيات لتلاميذ ومُدرسي مادتي الرياضيات واللغة
العربية في محافظات العراق الثلاث الأشد فقراً». حسب ساروج كومار جاه،
المدير الإقليمي لدائرة المشرق في البنك الدولي.
يثير التقرير، بتفاصيله، والمبلغ الضئيل نسبيا المخصص له، ومدى تطبيقه،
عديد التساؤلات. إذ يكتفي، عند التطرق إلى أسباب التدهور، وهي نقطة
مهمة جدا لأيجاد الحلول، بلمس السطح تاركا الأسباب الحقيقية جانبا. وهي
أسباب طالما تناولها باحثون وأكاديميون عراقيون، قبل صدور هذا التقرير
بسنوات عديدة، في محاولاتهم الوطنية لأنقاذ التعليم وتطويره. ففي ورقة
بحثية نُشرت عام 2009، مثلا، بعنوان «أولويات التعليم العراقي في
المرحلة الراهنة» للأكاديمي منذر الأعظمي، المختص في مجال تطوير
القدرات الذهنية والمهارات الأساسية التعليمية، عالج المقترح ذاته في
مشروع البنك الدولي، مع فارق السنوات المهدورة وتخصيص «مساعدة» بإمكان
العراق، وهو من دول العالم الغنية، توفيرها بسهولة لو توفرت النية
الصادقة لإنقاذ التعليم، وإنقاذ 3.2 مليون طفل عراقي في سنّ الدراسة
خارج المدرسة، حسب تقرير لليونسيف.
يعزو التقرير سبب تزايد تدهور مستوى التلاميذ إلى جائحة كورونا وإغلاق
المدارس أثناءها، والحقيقة هي أن الكثير من مباني المدارس أما تدهورت
أثناء حقبة الحصار أو أستولت عليها القوات الأمريكية في بداية الاحتلال
للتمركز داخل كل مدينة وحي، ومنع تجمع السكان في تلك المراكز. ولم تعبأ
الإدارة الأمريكية لا باتفاقيات جنيف، التي تمنع قوات الإحتلال من
تغييرالمعالم المدنية للمناطق التي تحتلها، ولا بقواعد القانون
الإنساني ولا للوعود التي رافقت الحرب من تطوير الحياة المدنية. ثم
استلمتها منها الميليشيات والجهات السياسية، لكون أغلبها في وسط المدن.
وهي مشكلة تناولها منذر الأعظمي، في دراسته، كواحدة من ثلاثة مستويات
تتوجب معالجتها في مجال التعليم. «المستوى الأول هو خراب المدارس
كأبنية، وتهميشها كمراكز حضارية في حياة المدن. والمستوى الثاني هو
تدهور الإدارة التعليمية في المدارس والمحافظات والامتحانات والسياسات
التعليمية للدولة. والمستوى الثالث هو في المحتوى، أي تدهور المستوى
المعرفي في التعليم، طلابا ومعلمين» مبينا أن هناك عملية مستمرة لإفراغ
التعليم من أهم محتوياته في تطوير قدرات الطلبة على التفكير، ونمو
كفاءاتهم ومواهبهم المتعددة في أطر المسؤولية العامة».
واستند الباحث إلى آخر الدراسات موثقا أن من لا يدخل المدارس يتراجع
مستواه العقلي سنويا بنسبة 3 – 5 في المئة عمن يدخلونها في المعدل، أي
أن من المحتمل أن مستوى الذكاء لمن تسرب من المدارس لعشر سنوات هو
حوالي 70 في المئة من المعدل وهو ما يمكن اعتباره تخلفا عقليا لهم في
المعارف العامة، إن لم يكن في الأمور الحياتية العملية الروتينية. وهي
الصورة المؤسفة ذاتها التي يذكرها البنك الدولي في تقريره، ولكن بعد 13
عاما من التأخر في اتخاذ خطوات العلاج التي يعرف الجميع، من عراقيين
وأجانب، أنها ليست مستحيلة.
هناك، أيضا، علامة استفهام حول مناهج التدريس التي يبين الأعظمي أنها
أما أستورثت من الغرب أو تُرجمت من اللغة الانكليزية في الغالب، حسب
الارتباطات بدول كنا إحدى مستعمراتها. وهذه المناهج، غالبا، هي الأكثر
شيوعا في البلدان العربية، أي أنها قُررت أما بدون صياغتها وطنيا أو
اعتباطيا أو بدون تمحيص لمناهج أخرى في البلدان نفسها وخصوصا البرامج
الحديثة والتجريبية هناك والتي، على أهميتها، لن تحقق النجاح كما في
البلدان المتقدمة، لأن هذه البلدان مع كونها تتخذ مناهج عامة غالبا فهي
تسمح بالإضافة اليها بالعديد من المناهج التجريبية التي تُغني بمرور
الزمن المناهج الأصلية.
تكمن أهمية صدور تقرير البنك الدولي والمشروع، بعد عشرين عاما من
الأحتلال تقريبا، تأكيد صحة موقف التعليميين العراقيين الوطنيين، كما
يؤكد أن تآكل الوضع التعليمي وتأثيره على تدهور القدرة العقلية لما
يقارب 13 مليون عراقي وُلدوا وعاشوا فترات الحصار والاحتلال، وصل حدا
لم يعد بالامكان التستر عليه، بحيث بات إطلاق أي مبادرة، وإن كانت من
قبل ذات الدول والجهات التي عملت على تحطيمه، يُنظر اليها كمساعدة
إنسانية تستحق الشكر، وهو ما سيستمر ما لم، كما يخلص الأعظمي في بحثه،
يعمل أهل العراق، أنفسهم، على التطوير التدريجي للبدائل الحضارية التي
تخدم جميع فئات الشعب وتطور مواهب أبنائه لخدمة الأمة والبلد، فتحرير
البلد من الاحتلال المباشر لا يعفي من الصراع مع مخلفاته، ومع ما
استنفره من ردود فعل مرضية أو صحية، ومع امتداداته التعليمية والثقافية
والاجتماعية.
كاتبة من العراق
مذبحة الزفاف والمرصد الأمريكي
لجرائم الحرب في أوكرانيا
هيفاء زنكنة
أعلن المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية نيد برايس، في 18 أيار/
مايو الحالي، عن إنشاء مرصد لتوثيق الجرائم التي ترتكبها روسيا
بأوكرانيا، واستخدام المعطيات « لمحاسبة المسؤولين عن الفظائع
وانتهاكات حقوق الإنسان والضرر الذي يلحق بالبنية التحتية المدنية، بما
في ذلك التراث الثقافي الأوكراني «. مبينا أن ذلك لن يقتصر على المحاكم
المحلية بأوكرانيا بل المحاكم الأمريكية وغيرها من دول العالم.
وهي خطوة ضرورية. فغزو واحتلال البلدان، أمر مرفوض حسب القوانين
الدولية والإنسانية، وتطبيقاتهما في حماية حياة الناس والبنية التحتية
والتراث الثقافي في البلدان الخاضعة للاحتلال. وإدانة الاحتلال، وتوثيق
جرائمه، ومحاسبة المسؤولين أمر مفروغ منه ويجب أن يتم بلا تردد،
عالميا، لئلا يُمنح البلد المعتدي مساحة لتبرير عدوانه غير الشرعي وطمس
جرائمه. وهو ما يُفترض القيام به، عالميا أيضا، مهما كانت طبيعة وقوة
الدولة المُعتدية، منعا لإعطاء الضوء الأخضر للدول القوية عسكريا في حق
غزو واحتلال الدول الأضعف للاستيلاء على مواردها الطبيعية أو لدوافع
جيوسياسية.
ولكن، هل هذا ما يحدث فعلا إزاء كل البلدان أم أن مقولة « كل الحيوانات
متساوية لكن بعضها أكثر مساواة من غيرها» حسب الكاتب الانكليزي جورج
أورويل، هي السائدة، مهما كان إقتناعنا بأهمية القانون الدولي وما
يتمخض عن تطبيقه من عدالة تطمح الشعوب إلى تحقيقها؟ فزيف ما يُعاش،
أوصل معظم الشعوب إلى القناعة بأن الإيمان بالقانون الدولي يماثل
محاولة الإمساك بسراب. مادامت آلية تطبيقه تمر عبر المنظمات الدولية،
الخاضعة في النهاية، وإن بدرجات متفاوتة، للولايات المتحدة الأمريكية
وقوتها العسكرية. مما يوفر لأمريكا حصانة من المساءلة، تكاد تكون
مطلقة، بينما تستقوي ذات المنظمات على دول أخرى تُصنف بأنها مارقة أو
إرهابية، ويجب محاسبتها لارتكابها انتهاكات جسيمة ترقى الى مستوى جرائم
حرب. الأمر الذي أدى، تدريجيا، إلى خلق نظام عنصري في مجال تطبيق
القانون الدولي، يتناسب مع القوة العسكرية والهيمنة الاقتصادية للدولة
أو الدول التي تروم تفعيله.
من هذا المنطلق، تقودنا المفارقة السوداء في توقيت الإعلان الأمريكي،
عن تأسيس مرصد لتوثيق جرائم روسيا في أوكرانيا ومحاسبة المسؤولين، بعد
إحتلال ثلاثة أشهر فقط، إلى الغزو والاحتلال الانكلو أمريكي للعراق،
الذي سيبقى مع الاحتلال الصهيوني لفلسطين، حيا في وجدان وذاكرة الشعوب
عن الزيف والعنصرية. ليس لأن أمريكا تعامت عن غزو واحتلال العراق، كما
تفعل بعض الدول حماية لنفسها عادة بل لكونها البلد الذي هدم البنية
التحتية، وحبس مئات الآلاف بشكل غير قانوني، في ظروف لاإنسانية مهينة (
ولنتذكر أبو غريب كمثال) وسبّب قتل مايقارب المليون عراقي، أما بشكل
مباشر أو غير مباشر، ونهب الآثار وحرق الموروث الثقافي فضلا عن مأسسة
الفساد والارهاب على مدى عشرين عاما.
غزو واحتلال البلدان، أمر مرفوض حسب القوانين الدولية والإنسانية،
وتطبيقاتهما في حماية حياة الناس والبنية التحتية والتراث الثقافي في
البلدان الخاضعة للاحتلال. وإدانة الاحتلال، وتوثيق جرائمه، ومحاسبة
المسؤولين أمر مفروغ منه
ولا يمكن المرور على توقيت الإعلان الأمريكي عن إنشاء مرصد للجرائم
الروسية بدون التوقف عند مجزرة حفل الزفاف التي إرتكبتها قوات الاحتلال
الأمريكي بذات التاريخ، تقريبا، أي يوم 19 أيار/ مايو من عام 2004. حيث
قامت مروحية أمريكية باطلاق النار على حفل زفاف في قرية مقر الذيب، قرب
بلدة القائم، غربي العراق. مما أسفر عن مقتل أكثر من 40 شخصًا، من
بينهم العديد من الأطفال. خلال ساعات أصدرت وزارة الدفاع الأمريكية
(البنتاغون) بيانا إدّعت فيه بأنه لم يكن هناك حفل زفاف بل « مخبأ
مقاتلين أجانب» وأنهم « كانوا معادين لقوات التحالف وأطلقوا النار
أولاً، وأن القوات الأمريكية ردت على النيران ودمرت عدة سيارات وقتلت
عددًا منها». تثير قراءة هذه البيانات الأمريكية لتسويغ جرائم قتل
المدنيين الغثيان لفرط تكرارها وشبهها، إلى حد أدق التفاصيل، تبرير
الكيان الصهيوني لجرائمه بفلسطين بحجة «حق الدفاع عن نفسه وأمنه». حيث
يبرر الجنرال الأمريكي المذبحة بلا لحظة تفكير أو ندم. وهو يرى أن قتل
العراقيين ضروري وهم يستحقون الموت. ولا يجد في المذبحة ما يدعوه إلى
التشكيك بصحة قراره وأخلاقيته على الرغم من وجود شهود عيان، أكدوا أن
الضيوف كانوا يطلقون النيران في الهواء وهو تقليد محلي إحتفالا
بالزفاف، حين هجمت المروحية الأمريكية فهدمت دارين وقتلت الموجودين.
وأكد نائب رئيس شرطة الرمادي، لوكالة « أسوشيتد برس» أن القتلى بينهم
15 طفلاً و10 نساء. وقال صلاح العاني، الطبيب في مستشفى الرمادي، أن
عدد القتلى كان 45 شخصا.
وإذا اخذنا في الحسبان نظرة المحتل الدونية لشهود العيان العراقيين،
ماذا عن وكالة « أسوشيتد برس» وروري مكارثي، مراسل صحيفة « الغارديان»
البريطانية، الذي كتب بالتفصيل عن المجزرة يوم 20 أيار/ مايو، أثناء
وجوده ببغداد؟ قائلا « وأظهرت لقطات تلفزيونية شاحنة تحمل جثث القتلى
وهي تصل إلى الرمادي أقرب بلدة كبيرة. من الواضح أن العديد من القتلى
كانوا من الأطفال». مذكرا بأن للهجوم « بصمات حادثة مماثلة في
أفغانستان، قبل عامين، أطلقت خلالها طائرة أمريكية النار على حفل زفاف
في إقليم أوروزغان في الجنوب، مما أسفر عن مقتل 48 مدنيا أفغانيا
وإصابة أكثر من 100 آخرين. تم استهداف حفل الزفاف لأن الضيوف كانوا
يطلقون النار في الهواء كتقليد احتفالي».
أليس هذا كله توثيقا لجريمة يجب أن تستخدم معطياتها لمحاكمة المسؤولين
عن إرتكابها كما تفعل أمريكا، حاليا، في رصدها الجرائم الروسية ضد
الأوكرانيين؟ لا يبدو ذلك. ففي حالتي العراق وأفغانستان، أعلنت القوات
الأمريكية عن إجراء تحقيق، على غرار أن يقوم المتهم بالتحقيق في
الجريمة التي إرتكبها. فكانت النتيجة تبرئة الطيارين تماشيا مع شهادة
جنود أمريكيين قالوا إنهم تعرضوا لإطلاق النار. مما يترجم على أرض
الواقع أن قتلهم المدنيين، وبينهم عشرات الأطفال، في العراق
وأفغانستان، فعل ضروري للدفاع عن النفس في معركة بدأها إرهابيون ضد
الحضارة. وهو منظور « يشمل كل من يطالب الغرب بالنظر في ماضيه» بكلمات
المفكر الفلسطيني ادوارد سعيد.
كاتبة من العراق
شيرين فلسطين
تكتب تاريخها بنفسها
هيفاء زنكنة
من بين الاسئلة التي نواجهها، ونحن نعيش حقبة تزوير وتضليل سياسي ـ
إعلامي مذهل، فضلا عن إزدواجية المعايير، بعد جريمة إغتيال الصحافية
الفلسطينية الشهيدة شيرين أبو عاقلة، تحت أنظار العالم، مع استمرارية
حرب أُريد لها ان تكون عالمية، هو كيف تتم عملية تقطير الأحداث
المعاصرة لتصبح الخلاصة، ملائمة للمنتصرين أو أصحاب القوة؟ وكيف تُدّرس
على هذا الأساس وإن كان من عايشها، من أفراد وحتى شعوب، لايزال على قيد
الحياة؟
في عديد الكتابات والنقاشات والآراء المتبادلة اليوم، في حلقات
المثقفين العرب، خاصة العراقيين والفلسطينيين، يحضر التاريخ بقوة تنافس
الحاضر، بمستوياته من التاريخ الشخصي والعام، وعلى إختلاف مستوياته
المتعددة، من كتابة المذكرات إلى البحوث والدراسات، لتنشر أما بشكل كتب
أو على صفحات التواصل الاجتماعي. الحاضر، في معظم الحالات تائه بين
محاولات فهم التاريخ والأدلجة وإثبات الهوية وتجزئة القضايا. مما ينعكس
بقوة على توثيق الحقيقة وجهود إثبات المصداقية.
فلسطينيا، يعتبر التوثيق الآني الفردي والعام والتاريخي المتضمن، أيضا،
كتابة اليوميات والمذكرات وتسجيل الشهادات المحكية، أداة مقاومة
للسردية الصهيونية المختلقة، ولعل آخرها المُختلق الصهيوني لتغطية
جريمة إغتيال شيرين. لذلك نجد اهتماما جديا، يتنامى بشكل متزايد، خاصة
في المجالات الأكاديمية، بدراسة التاريخ وتوثيق كل ما يرتبط بفلسطين،
بشكل علمي يتوخى المحافظة على المصداقية بمواجهة «الأسطورة» والأكاذيب
الصهيونية والتركيز على حفريات «الذاكرة» المصطنعة. ويمتد الاهتمام
ليشمل كيفية دراسة وتدريس التاريخ، وهي حقول معرفية تغتني بالبحث
والتحليل والمقارنة، والربط الموضوعي بين الأحداث.
عراقيا، لدينا فقر حقيقي في مجال كتابة التاريخ. ينعكس في البحوث
والدراسات الأكاديمية كما نراها، بأوضح صورها، في الكتابات المنشورة
كأوراق بحثية أو المتداولة في مواقع التواصل الاجتماعي وهي تحمل توقيع
« مؤرخ» أو «مفكر». إذ قلما نجد من يكتب عن حدث ما بدون السقوط في فخ
الأديولوجية بقوالبها الجاهزة، وانتقائية الحدث حسب الظرف الاجتماعي
والسياسي الذي يمر به الشخص/ البلد، وطغيان نفي كل ما لايتماشى مع ما
يراد إنتقائه. لتصبح كتابة التاريخ المعاصر، تحديدا، عملية شخصنة تمر
عبر مراحل تجميل أو تشويه، كل حسب وجهة نظره وخلفيته السياسية
والاجتماعي، والدور الذي تلعبه الذاكرة الشخصية في إضفاء المديح
والوطنية أو التشكيك والتخوين. في بحث له، يذكر حيدر لشكري هو أستاذ
مساعد للتاریخ الإسلامي الوسیط في جامعة کویه ـ إقليم کردستان العراق:
« يقع الباحثون، بسبب تكوينهم الإيديولوجي، في دوامة المسائل المنهجية،
لأنهم يتجاهلون كيفية تكوّن النص التاريخي، ويأخذون من هذه الروايات ما
يساعدهم على تجميل الصورة التاريخية لهويتهم وما يؤكد فاعلية جماعتهم
في الذاكرة العراقية».
يعتبر التوثيق الآني الفردي والعام والتاريخي المتضمن، أيضا، كتابة
اليوميات والمذكرات وتسجيل الشهادات المحكية، أداة مقاومة للسردية
الصهيونية المختلقة
تقودنا هذه الملاحظات إلى التساؤل عن كيفية تكوين المؤرخ العراقي،
بالمقارنة مع نظرائه في العالم، هل هو وليد تدريس التاريخ في الجامعات
العراقية أم أنه عصامي التكوين؟ وماهي منهجية إعداد «المؤرخ» جامعيا؟
تطغى الانتقادات الموجهة بشكل كبير على كيفية ومنهجية تدريس التاريخ،
وإن كان النظر إلى أهمية دور المؤرخ لايشوبه الشك. من بين الانتقادات
التي تكاد تنطبق على عموم التدريس بالعراق «أن تدريس التاريخ يتم
بالطريقة اللفظية الاستظهارية» ويُنظر الى التاريخ «باعتباره مادة
تقريرية تتألف من مجموعة نصوص وأحداث مسطرة في الكتاب المدرسي» بدون
مراعاة ضرورة» تنمية القدرة على التعامل مع المفاهيم الزمنية وادراكها
واكتساب القدرة على تمحيص الأحداث والقراءة النقدية للتاريخ». وتلخص
إطروحة دكتوراه أحمد هاشم محمد، في فلسفة التربية، المعنونة «طرق تدريس
التاريخ» بعض مشاكل تدريس مادة تاريخ العراق المعاصر من وجهة نظر 247
من طلاب وطالبات السنة الأخيرة، بقسم التاريخ بجامعة بغداد. توصّلَ
الباحث إلى نتائج تساعد على إلقاء الضوء على كيفية إعداد ونوعية مدرسي
التاريخ و« مؤرخينا» مستقبلا.
ففي مجال الأهداف العامة للمادة كانت المشكلة الأولى ضعف تنمية التفكير
النقدي عند الطلبة. وشكلت أساليب التدريس كإعتماد الطريقة الالقائية
عند تناول الموضوعات التاريخية، وافتقار مدرسي المادة إلى مهارة
التمهيد للدرس، وقلة زيارة الطلبة إلى المتاحف التاريخية، وقلة اللجوء
إلى استخدام الوسائل التعليمية والتقنيات التربوية المتمثلة بالمصورات
والخرائط والأفلام ذات العلاقة بمضمون التدريس، بالاضافة إلى غموض
الأهداف الداعية إلى دراسة تاريخ العراق المعاصر، تشكل هذه العوامل
عائقا في عدم تنمية رغبة الطلبة في فهم المادة وأحداثها بشكل عام، مما
إنعكس، على عدم رغبة الطلاب في التخصص بتاريخ العراق المعاصر، وبالتالي
على كتابتنا لتاريخنا المعاصر بأنفسنا.
إن عدم كتابتنا لتاريخنا لا يعني فقط عجزنا عن فهم الحاضر والمستقبل
معا، فالتاريخ كما يذكر أستاذ التاريخ البريطاني جي كورفيلد « لا مفر
منه». وهو خلافا لما يشاع في مدارس ما بعد الحداثة الفكرية، ليس
موضوعًا ميتًا، لذلك يشكل قرار طلاب التاريخ العراقيين عدم جدوى دراسة
تاريخ بلدهم المعاصر كارثة حقيقية، لا من ناحية عدم الدراسة والتدريس
فقط وإنما لفسحه المجال واسعا أمام الآخرين لكتابة تاريخنا، وفق ما
يريدون، بشكل انتقائي، يُبرز أحداثا تُحفر في الذاكرة الجماعية بينما
يتم حذف أحداثا أخرى. ويتم ذلك كله وفق ميزان القوى الخارجية والجهات
المتحكمة بالسلطة داخليا المتزامن مع غياب المؤرخين.
وهذا ما نواجهه في بلداننا، عموما، وهو منبع القصور في فهم الأسئلة
والمعضلات الحالية وتوليفة العلاقات العالمية والوطنية والمحلية بين
المجتمعات والأفراد وكيفية التعامل معها. إذ لانزال خاضعين بشكل مباشر
أو غير مباشر، لكتابة الاحداث وتحليلها وصياغتها وحتى تدريسها لنا،
إنتقائيا، كما أراد المستعمر، على حساب مسح الذاكرة الجماعية.
كان الاستعمار ولايزال، بتركيبته الاستيطانية العنصرية في فلسطين،
يتغذى على تدمير الثقافة وطرق فهم العالم وإبادة الانسان. وكلما ينتهي
من إرتكاب واحدة من جرائمه يشرع بعملية محو جرائمه من الذاكرة العامة
واستبدال الحقائق الآنية لئلا تُصبح تاريخا كما يشاء. وهو ما نشهده،
الآن، بعد اغتيال الشهيدة شيرين. وسينجح في تحويلها إلى صورة تضاف إلى
قائمة صور الشهداء المرسومة على جدران المخيمات، ما لم تواصل الاصوات
الغاضبة المستنكرة مسار شيرين / فلسطين في كتابة تاريخها بنفسها.
كاتبة من العراق
من المسؤول عن صبغ
العراق بالغبار الأحمر؟
هيفاء زنكنة
سببت
عاصفة ترابية، غطت سبع محافظات عراقية، من بينها بغداد، أكثر من 5 آلاف
حالة اختناق ووفاة شخص واحد. تناقلت مواقع التواصل الاجتماعي صورا
مذهلة، عن الغبار الأحمر الذي غّلف الجو والناس والأماكن، للمرة
السابعة، خلال شهر. رافقت الصور، تحليلات ونظريات، جمعت ما بين العلمي
والتهويلي والرسمي الدعائي المُطّعم بالتبريرات بدرجات مختلفة.
ركزت التصريحات الرسمية على التغير المناخي وقلة الأمطار والتصحر، وهي
أسباب حقيقية على مستوى العالم، إذ لم يعد الدمار الذي ألحقه الإنسان
بالبيئة خافيا على أحد، ومن أعراضه المتزايدة، الأعاصير والفيضانات
وإرتفاع درجات الحرارة، والتصحر، وجفاف الأراضي الزراعية، والحرائق
المهددة للغابات، وتزايد الغازات وتلوث الهواء. وهي ظواهر طالما حذر
علماء البيئة من حدوثها ووجوب إيجاد حلول جذرية لها. حلول أكد العلماء
ونشطاء البيئة على ضرورة أن تُلزم جميع الدول بلا إستثناء بشكل عام وأن
نبهوا، في الوقت نفسه، إلى مراعاة خصوصية كل بلد على حدة، أيضا، تسريعا
لإصلاح الأضرار.
عند النظر إلى الوضع البيئي في العراق بالاضافة إلى قبولنا بحقيقة
الضرر العالمي العام، سنجد تميزه بخصوصية تميزه عن أمريكا و أوروبا
وحتى عديد البلدان الإقليمية، مثلا، مهما حاولت التصريحات الرسمية
العراقية والدولية تعليبه في ذات العلبة، مع إضافة بعض التحذيرات، على
غرار تصنيف العراق من الدول الخمس الأكثر عرضة لتغير المناخ والتصحر في
العالم خصوصا بسبب تزايد الجفاف مع ارتفاع درجات الحرارة التي تتجاوز
لأيام من فصل الصيف خمسين درجة مئوية. وتحذير البنك الدولي في تشرين
الثاني/نوفمبر الماضي من انخفاض بنسبة 20 في المئة في الموارد المائية
للعراق بحلول عام 2050 بسبب التغير المناخي.
نلاحظ، عند متابعة التصريحات الرسمية المحلية وقراءة التقارير الدولية
والتحذيرات من مستقبل قريب مظلم، خاصة بعد إرتفاع عدد الأيام المغبرة
إلى 272 يوماً في السنة، في العقدين الأخيرين، أنها، باستثناء النادر
منها، لا يمس جذور الكارثة البيئية بالعراق ومسؤولية السياسة الغربية
الاستعمارية بل يكتفي بخدش السطح، وإقتراح تشكيل لجان، لا يعرف أحد
مصيرها بعد غياب الضجة الإعلامية، مما يعيق إيجاد حلول حقيقية تساعد
على إيقاف التدهور أولا وتحسين الوضع ثانيا.
إن خصوصية الوضع الكارثي نابعة من كون الكارثة البيئية، بالإضافة إلى
الخراب العام، ناتجة عن صناعة الحرب والاحتلال والسياسات الاستعمارية
الجديدة، الدولية والإقليمية المستقوية بنظام اللادولة بالعراق،
المؤدية إلى تقويض الأساس الاقتصادي للحياة في المنطقة. تظهر آثار هذه
الحروب والسياسة الاستعمارية فضلا عن تجاهل النظام الكلي لمسؤوليته
الوطنية في تغير المناخ المدمر، واستنفاد الموارد الطبيعية، وندرة
المياه، وتلوث الهواء والتربة جراء استخدام الذخيرة الحديثة،
كاليورانيوم المنضب.
تشير التقديرات إلى أن الحرب ضد العراق سببت إطلاق 141 مليون طن متري
من ثاني أكسيد الكربون، بين عامي 2003 و2007، أي أكثر من 60 بالمئة من
جميع دول العالم
وتشير التقديرات إلى أن الحرب ضد العراق سببت إطلاق 141 مليون طن متري
من ثاني أكسيد الكربون، بين عامي 2003 و2007، أي أكثر من 60 بالمئة من
جميع دول العالم. وكانت العالمة العراقية د. سعاد العزاوي والدكتورة
المصرية بياتريس بقطر قد وثقتا في عديد بحوثهما انتهاك الولايات
المتحدة للقوانين الدولية أثناء حرب الخليج، وفي وقت مبكر، عن طريق
إستخدام أسلحة ذات قابلية للتأثير على المدى البعيد مما يسبب تدميرا
دائما للبيئة الطبيعية حتى بعد إنتفاء الحاجة العسكرية لها، وهو ما
أثبتت الأيام صحته، خاصة بعد أن واصلت أمريكا خرقها لقوانين الحروب
والقوانين الإنسانية في السنوات التالية وحتى غزوها العراق عام 2003.
ومن بين الأسباب المدمرة للبيئة العراقية، المسكوت عنها بشكل متعمد، هو
كيفية تخلص القوات الأمريكية من النفايات العسكرية، وذلك عن طريق حرقها
في حفر كبيرة في الأرض.
احتوت النفايات، باعتراف الجنود، الإمدادات الطبية المستعملة، والطلاء،
وزجاجات المياه البلاستيكية، والبطاريات، وحتى عربات همفي بأكملها. أدى
الحرق إلى إصابة الجنود بأمراض خطيرة. يقول الضابط المتقاعد بروير «كان
الدخان سامًا، إنه قاتل صامت، وقد لا يقتلك في ساحة المعركة غدًا، إلا
أنه سيتسبب في أضرار صحية طويلة المدى. ونحن نرى ذلك الآن، نرى ذلك
كثيرًا». وقد أدى تزايد ظهور الأعراض المرضية على الجنود إلى تأسيس
جمعية للمطالبة بالرعاية الخاصة وتعويض المصابين من الجنود، بينما لم
يحدث إطلاقا أن طالب أحد سواء من الساسة العراقيين أو الأجانب أو حتى
أعضاء منظمات حقوق الإنسان المحلية والدولية بالتحقيق في الأعراض
المرضية التي تعرض لها المواطن العراقي جراء حرق النفايات السامة،
ناهيك عن المطالبة بالتعويضات. لتبقى إزدواجية المعايير هي اللغة
السائدة خاصة مع غياب المطالبة بالحقوق.
وفي الوقت الذي لا يختلف فيه إثنان حول تعقيد الوضع البيئي العراقي
وكونه حصيلة عقود من التخريب، إلا أن التغاضي عن تحميل الغرب المسؤولية
الاولى وطرح حلول لا تحيد عن صراط ذات الأنظمة التي سببت الخراب لن
يؤدي إلى تنظيف البلد وإيقاف التدهور نحو الحضيض. وتشكل قلة المياه في
نهري دجلة والفرات، جراء بناء إيران وتركيا السدود، خلافا للاتفاقيات
الدولية، مشكلة جسيمة، تناولتها د. سعاد العزاوي في بحث أخير لها منبهة
إلى حتمية جفاف النهرين. هذه الكارثة، لن توقف ما دام النظام الحاكم
عبارة عن أحزاب وميليشيات، تتنازع إلى حد الاقتتال فيما بينها، مما جرد
الدولة من أية قوة وسلطة مركزية. وبقيت الحلول، حتى البسيطة منها، على
غرار تشريع قانون يمنع عمليات الحفر غير المنظمة، وتجريف البساتين
وتحويلها إلى مبان، ومنع قلع الأشجار، بل العمل على تشجيع زراعة
الأشجار الكثيفة وعودة المزارعين إلى أراضيهم التي تركوها بسبب موجات
الجفاف والعواصف، معلقا بلا تنفيذ. ليبقى العلاج الحقيقي مرتبطا بتوفر
الإرادة السياسية الصادقة، النابعة من صميم المجتمع والممثلة لمصالحه
والمفروضة فرضا من قبل أبناء الشعب أنفسهم.
كاتبة من العراق
الإعلام الغربي:
من غزة وملجأ العامرية إلى أوكرانيا
هيفاءزنكنة
ما هو طول الفترة الزمنية التي تكرسها أجهزة الإعلام الغربية لتغطية ما
يدور من أحداث كارثية في فلسطين والعراق بالمقارنة مع تغطيتها لما يدور
حاليا في أوكرانيا؟ ليست هناك دراسات وإحصائيات دقيقة توفر الإجابة
العلمية بعد، لكن متابعة نشرات الأخبارواللقاءات والبرامج الإذاعية
والتلفزيونية البريطانية، مثلا ناهيك عن الأمريكية والدول الأوروبية،
توضح، بما لا يقبل الشك، أن هناك تحيزا إعلاميا فاضحا لصالح تغطية
الغزو الروسي لأوكرانيا بالمقارنة مع تغطية ممارسات وجرائم الكيان
الصهيوني اليومية بفلسطين، والغزو الانكلو أمريكي للعراق وما سببه من
تخريب ينوء تحت آثاره الشعب العراقي حتى اليوم.
مثل زخات من المطر، تُبث البرامج « الإنسانية»، البريطانية والأمريكية،
متسللة إلى عقول المشاهدين والمستمعين، منذ لحظات الغزو الروسي الأولى.
يتم خلالها سرد تفاصيل معاناة الأوكرانيين بالدقائق، جراء القصف الروسي
وتهديم المباني وتهجير السكان، وبطولة مقاتلي المقاومة الأوكرانية ومن
ثم «صعوبة» وصول المهاجرين الى بلدان اللجوء وتأخر قبولهم مدة أسبوع أو
أسبوعين، متجاهلين المشروع البريطاني بإرسال اللاجئين إلى رواندا.
تصاحب هذه التغطية المكثفة المستمرة، على مدى 24 ساعة يوميا تقريبا،
حملة شيطنة منهجية للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وإغلاق لكافة المنافذ
الإعلامية الروسية، وحتى منع المشاركات الرياضية والفنية والأدبية،
وحجب المحاضرات الأكاديمية الروسية.
تغطية مكثفة مستمرة، على مدى 24 ساعة يوميا تقريبا، تصاحبها حملة شيطنة
منهجية للرئيس الروسي
التساؤل الذي تثيره هذه السيرورة الإعلامية، بعيدا عن أحقية روسيا
باحتلال أوكرانيا وهو فعل مدان، خاصة، لما سببه من معاناة للشعب
الأوكراني، هو لماذا لا نشهد ذات التغطية والمتابعة ومشاركة الاحاسيس
الإنسانية عن الفلسطيني الذي يعيش إحتلال أرضه صهيونيا منذ عام 1948 ،
ويقاوم بكل السبل الممكنة عنصرية المحتل وانتهاكاته وجرائمه وتهجير أهل
البلد في مخيمات، استحدثت كحل مؤقت تحول إلى واقع دائم، ولايحق له
العودة إلى أرضه، بينما يمنح المحتل أرضا اغتصبها لحثالات العالم؟
لماذا لا نشهد ذات التغطية عن النظام الإسرائيلي الصهيوني الذي صنفته
التقارير الحقوقية الدولية بأنه نظام فصل عنصري بعد رصد دقيق لممارساته
التي ، كما ذكر كينيث روث، المدير التنفيذي لمنظمة « هيومان رايتس
ووتش» في مقابلة له مع البي بي سي، منذ أيام، مؤكدا « أن إسرائيل لم
تتمكن من دحض أي من الوثائق التي استندنا إليها في تقريرنا». وكان
تقرير منظمة « العفو الدولية» قد ثبت الحقيقة نفسها قبل ذلك بأشهر.
لماذا باتت الإشارة الى جرائم الكيان الصهيوني، من بينها جرف البيوت
وقتل المدنيين وتدنيس الاماكن الدينية، وآخرها إقتحام المسجد الأقصى،
وإطلاق الرصاص الحيّ والغاز المسيّل للدموع وإلاعتداء على المصلّين، في
إنتهاكٍ صارخ لكلّ القواعد والأعراف الدولية، لا تذكر الا في حيز
أخباري عابر وبيانات تخلص، عادة، إلى مساواة المجرم بالضحية؟
لماذا باتت الإشارة الى جرائم الكيان الصهيوني، لا تذكر الا في حيز
أخباري عابر وبيانات تخلص، عادة، إلى مساواة المجرم بالضحية؟
وفي الوقت الذي سارع فيه المجتمع الدولي، خلال دقائق، لإدانة روسيا
ودعم أوكرانيا، فانه لايزال صامتاً، بعد مرور 19 عاما، إزاء الغزو
الأنكلو أمريكي للعراق ونتائجه الكارثية المتبدية في تخريب البنية
التحتية للبلد، ودعم نظام طائفي فاسد، وانتهاكات حقوق الإنسان الجسيمة.
ولايزال المسؤولون عن التخطيط للغزو وتنفيذه والمتعاونون معهم يتمتعون
بغنائم الثروة النفطية، بلا محاسبة في بلد يعيش ثلث سكانه تحت خط
الفقر، بلا حماية قانونية في ظل انتشار السلاح بيد ميليشيات ترتدي
أقنعة أحزاب ومنظمات سياسية.
وإذا كان للفترة الزمنية المكرسة للتغطية الإعلامية قيمتها وتأثيرها،
ما الذي تعنيه تغطية أجهزة الإعلام البريطانية ، البي بي سي خاصة ،
الموسومة بـ « حياديتها «، المتعاطفة ، كلية، مع الأوكرانيين ، ضحايا
الغزو الروسي، منذ 68 يوما فقط ، ومعاناتهم من حالات الاكتئاب والصدمة
النفسية، بالمقارنة مع حرمان الفلسطيني من أرضه وبلده ومعاقبته بعدم
العودة الممتدة من الأجداد إلى الابناء والاحفاد منذ ما يزيد على
السبعين عاما؟ وكيف يُفسر رفض البي بي سي بث النداء الموجه من لجنة
طوارئ الكوارث البريطانية لصالح أهل غزة لعد تعرضهم للعدوان الإسرائيلي
عام 2009؟
وتبرز المساحة الزمنية التي كُرست لدعم الغزو الانكلو أمريكي للعراق
حجم التأثير الإعلامي لتحشيد العواطف تأييدا لايديولوجيا الخطاب.
فبينما لا تكف اجهزة الإعلام الغربية عن وصف مناهضة الاحتلال الروسي
بالمقاومة مُنعت / إختارت اجهزة الإعلام ذاتها وصف مناهضة العراقيين
للاحتلال الانجلو امريكي عام 2003 بالإرهاب، بل واكتفت القنوات
البريطانية مثلا، على مصادر الحكومة أو الائتلاف العسكري ، في أسابيع
الغزو الاولى . وحسب دراسة أكاديمية أجرتها جامعة كارديف شكل ذلك 11
بالمئة من التغطية وهي أعلى نسبة من بين جميع المذيعين التلفزيونيين
الرئيسيين. وكانت البي بي سي الأقل نسبة في اقتباس مصادر عراقية رسمية
، وأقل في استخدام مصادر مستقلة (وغالبا متشككة) مثل الصليب الأحمر.
ووجدت الدراسة أن هيئة الإذاعة البريطانية ركزت بشكل أقل على الضحايا
العراقيين ، الذين ورد ذكرهم في 22٪ من قصصها عن الشعب العراقي، كما
كانت الأقل احتمالاً للإبلاغ عن استياء العراقيين من الغزو.
وقام الباحث الاستقصائي المستقل توم ميلز بتوثيق تركيز البي بي سي، على
أسلحة «الدقة» عالية التقنية التي إستخدمتها القوات الامريكية ضد
العراق في حرب الخليج ، مما يوحي بأن كل ما أستخدم كان دقيقا . بينما
تبين، فيما بعد، أنها شكلت نسبة 9 بالمئة فقط من القنابل التي ألقيت
خلال الحرب. بل وحتى القنابل «الذكية» أخطأت أهدافها في 40 بالمئة من
الحالات. وكان الهجوم الأكثر دموية هو الذي تعرض له المدنيون العراقيون
دون سابق إنذار في الصباح الباكر من يوم 13 فبراير / شباط 1991، إذ
قصفت مقاتلتان أمريكيتان ملجأ العامرية، وسط بغداد. تم القصف بقنابل «
ذكية»، راح ضحيتها نحو 408 أشخاص، بينهم 52 طفلًا، عمر أصغرهم سبعة
أيام. لقد أدى تركيز أجهزة الإعلام على استخدام « الاسلحة الذكية» على
إضفاء النقاء على حرب دموية، حسب تعبير ميلز. بهذا المقياس، قد تُبرز
لنا الأيام المقبلة، بعيدا عن التضليل الإعلامي، مدى دموية كل الجهات
المشاركة في الحرب الروسية الأوكرانية وليست جهة واحدة.
كاتبة من العراق
بعيدا عن أوكرانيا… مبادرة
جديدة تتحدى شرطي العالم
هيفاء زنكنة
لتحدي سياسة فرض العقوبات الاقتصادية التي ترتكبها الولايات المتحدة من
خلال استخدام القانون، ولتسليط الضوء على الطبيعة غير القانونية،
والظالمة، والاستعمارية للتدابير الاقتصادية القسرية، أعلنت مجموعة من
المنظمات عن تأسيس ” المحكمة الشّعبية الدوليّة حول العقوبات
الإمبرياليّة الأمريكيّة”. من بين المنظمات الدولية : “معهد سيمون
بوليفار للسلام والتضامن بين الشعوب”، و”جمعية المحامين الوطنية”،
و”الجمعية الدولية للمحامين الديمقراطيين”، و”تحالف حقّ العودة
الفلسطيني في الولايات المتحدة”، و”صامدون” شبكة التضامن مع الأسرى
السياسيين الفلسطينيين، و”تحالف السود من أجل السلام”، و”مؤسسة فرانز
فانون”، وحركة “المسار الثوري الفلسطيني البديل”، و”التحالف من أجل
العدالة العالمية”.
تأتي المبادرة بناء على واقع تزايد فرض العقوبات، أمريكيا، على الدول
والحكومات والأفراد، آخرها منذ الغزو الروسي لأوكرانيا. وهي عقوبات
تهدف إلى إلحاق الضرر، بأقصى درجة ممكنة، على النظام المعتدي في ذات
الوقت الذي يضمن عدم إلحاق الضرر بالدولة أو الدول المشاركة في فرض
العقوبات، كما يتوخى قانونيا، عدم إلحاق الضرر بالشعوب. وهو ما لم
يحدث، وغالبا، كما يدل تاريخ فرض العقوبات، على أنظمة توصف بأنها
مارقة، لتعيش الشعوب عبء ضنك العيش وهدر الكرامة. حتى ولو كانت الأنظمة
لا تمثلها والمراد من فرض العقوبات استهداف رؤساء الأنظمة، في حقبة
زمنية معينة، بعد انتهاء صلاحيتهم، ومع تسارع عملية شيطنتهم. الأمر
المهم في هذه السيرورة المبنية على الضخ الإعلامي المؤدلج، والتزوير
وفبركة الأخبار والتلفيق المنهجي، من كل الجهات المتحاربة، هو تجاهل
وجود الشعوب المعرضة ليوميات العقوبات كشكل جديد من أشكال الحصار،
بتفاصيله المريرة، والذي لا يختلف إلا بالتسمية عن حصار التجويع
وانتشار الأمراض في القرون الوسطى. مما يجعل فرض العقوبات الاقتصادية
حربا من نوع آخر أو سلاحا لأخضاع الشعوب.
الأمر المهم في هذه السيرورة المبنية على الضخ الإعلامي المؤدلج،
والتزوير وفبركة الأخبار والتلفيق المنهجي، من كل الجهات المتحاربة، هو
تجاهل وجود الشعوب المعرضة ليوميات العقوبات كشكل جديد من أشكال
الحصار، بتفاصيله المريرة
حاليًا، تقوم الولايات المتحدة الأمريكية، بدعم من الأمم المتحدة
والاتحاد الأوروبي، بفرض عقوبات وتدابير اقتصادية قسرية أخرى على أكثر
من 30 بالمئة من سكان العالم، معظمهم في آسيا وأفريقيا وأمريكا
اللاتينية، على الرغم من فشل العقوبات في تغيير سلوك أنظمة البلدان
الخاضعة للعقوبات؛ لكنها نجحت بالحاق الأذى بأفقر الناس في تلك
البلدان.
المعروف، أيضا، أن ثلثي العقوبات الـ 104 التي فُرضت في جميع أنحاء
العالم من عام 1945 إلى عام 1990، كانت من قبل أمريكا، وأحادية الجانب
دون مشاركة دول أخرى. وتشمل قائمة البلدان التي فرضت عليها عقوبات
طويلة الأمد كل من كوبا وإيران وكوريا الشمالية وسوريا.
ولا يمكن الحديث عن تأثير تطبيق العقوبات أو التدابير القسرية
الانفرادية على تمتع السكان المتضررين بحقوق الإنسان، ولا سيما تأثيرها
الاجتماعي والاقتصادي على النساء والأطفال، في الدول المستهدفة، إلا
ويأخذنا المسار إلى العراق. حيث عاش الشعب العراقي 12 عامًا و8 أشهر من
“الحصار”، بموجب قرار الأمم المتحدة رقم 661 الصادر في 6 أغسطس / آب
1990. أثر الحصار على كل جانب من جوانب الحياة العراقية، مما تسبب في
تدهور اقتصادي سريع أدى إلى تدهور عموم الأوضاع. من التعليم والصحة
والخدمات العامة الأخرى، إلى البطالة الهائلة، والوفيات الزائدة
وتقريبا نهاية أي نوع من التنمية البشرية. إن دراسة آثار الحصار في ضوء
إعلان حقوق الإنسان، يبين بوضوح حجم وكيفية انتهاك حقوق الإنسان لجميع
العراقيين، النساء والأطفال على وجه الخصوص.
وقد قدرت منظمة ” اليونيسف” أن السنوات الخمس الأولى من العقوبات ضد
العراق أسفرت عن مقتل نصف مليون طفل دون سن الخامسة. كان ذلك في عام
1996، أي أقل من نصف الطريق خلال سنوات العقوبات، عندما كانت مادلين
أولبرايت، سفيرة الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة آنذاك، التي صرحت،
عند مواجهتها بهذه الحقيقة، قائلة أن “الثمن يستحق” تغيير نظام صدام
حسين.
ويأخذنا المثال الصارخ الآخر إلى فلسطين المحتلة التي تعيش حصارا
شاملا، يتبدى خاصة في قطاع غزة، الذي تحول منذعام 1994 من معسكر لاجئين
كبير إلى أكبر سجنٍ مفتوحٍ على سطح الكرة الأرضيّة يتعرض فيه السكان
للعدوان المستمر على كافة جوانب الحياة، حيث تتفاقم الآثار الاقتصادية
والصحية وارتفاع معدلات البطالة وانهيار المنظومة الصحية أمام الاصابات
والضحايا، فلم تعد المستشفيات ولا الأدوية ولا الأطباء قادرين على
مواجهة الكارثة الإنسانية. وتحولت حياة الناس إلى جحيم لا يطاق مُغّلف
بصمت المجتمع الدولي أما بقيادة أو مباركة أمريكية، لسياسة الإبادة
التي يمارسها كيان الاستيطان الصهيوني.
لذلك، يبدو تأسيس ” المحكمة الشّعبية الدوليّة حول العقوبات
الإمبرياليّة الأمريكيّة”، ضروريا. حيث ستستضيف المحكمة الشعبية، على
مدى ستة أشهر، من يناير/كانون الثاني إلى يونيو/حزيران 2023، شهودا
خبراء، وقانونيين دوليين، ومقررين من 13 دولة مستهدفة حاليا بالعقوبات
والإجراءات القسرية، باعتبارها إحدى الأدوات الرئيسية لهيمنة
الإمبريالية الأمريكية، وكونها تسبب مجاعات ومعاناة جماعية للشعوب في
الجنوب العالمي، بينما تفتح الأسواق للشركات الأمريكية والأوروبية.
يُدرك منظمو المحكمة من محامين ونشطاء وعلماء، محدودية قدرة المحكمة
الشعبية القانونية على تحدي ما ترتكبه الولايات المتحدة من انتهاكات
وجرائم من خلال إجراءات قسرية متعددة الأطراف أو أحادية الجانب، إلا
انهم يؤمنون، بأن “المحكمة ليست مجرد تكتيك قانوني بل إنها أيضا أداة
تنظيمية”. قد تدفع مستقبلا إلى تطبيق القانون الدولي والإنساني بشكل
ينطبق على جميع الدول بلا استثناء، وألا يُستغل فرض العقوبات كأداة
لمعاقبة دول وحكومات وشعوب تحيد عن صراط أمريكا كشرطي للعالم، مهما
كانت طبيعة الحكومات، كما يجب عدم السكوت على انتهاكات حقوق وحياة
السكان لأن حكوماتهم في صراع مع دول قوية أو مؤسسات متعددة الملكية،
ووفق إنتقائية مخالفة للقوانين الدولية والإنسانية.
٭ كاتبة من العراق
نزيف العقل العراقي…
رحيل العلماء في الشتات
هيفاء زنكنة
كم من العلماء والأكاديميين وعموم المثقفين أجبروا على الرحيل من
العراق، على مدى العقود؟ يُجبر على الرحيل إما قمعا أو إهانة وإهمالا
أو لتلقيه طلقة في مظروف تستهدف حياته. في كل حقبة، يُنتزع من جسد
الوطن عقل ومحظوظ من بقي حيا تحت سياط القمع والغزو وتصفيات الاحتلال.
في المنفى، الذي غالبا ما يمتد ليشمل سنوات العمر كله، إما أن تتاح
للمنفي فرصة أن يترعرع ويزدهر في البلد الثاني، أو يذوي بعيدا عن
منبعه، يُدفن في أرض غريبة ملتفا بوجع القلب، حنينا إلى بلده. كم من
العقول العراقية ترجلت من قطار الحياة في محطات الشتات؟ قائمة الأسماء
طويلة لخسارة كبيرة كأشخاص وثروة وطنية. أليس الأنسان هو أغلى رأسمال،
فكيف به إذا كان عقلا منتجا للمعرفة؟
آخر الراحلين العراقيين في الشتات هو الأكاديمي منذر نعمان الأعظمي،
المتخصص في حقل تعليم الرياضيات إستنادا إلى علم النفس المعرفي
والابستيمولوجيا وعلم النفس الاجتماعي. رحل وهو يعمل، آخر أيامه، مع
أساتذة من جنوب أفريقيا لتطوير فهم وتعليم الرياضيات هناك، استمرارا
لما قام به طوال حياته في مجال الرياضيات وتطوير الذكاء.
في رثائه، كتبت بروفسورة مارغريت براون، رئيسة جامعة « كينغز كوليدج
للتعليم» – بجامعة لندن، لصحيفة « الغارديان» البريطانية « كان زميلي
وصديقي منذر الأعظمي، رائدا في مجال تعليم الرياضيات وناشطا سياسيا،
ركز على دعم المدرسين وحثهم على تنمية قدرة التلاميذ على التفكير،
وإعداد الدروس التي تشجع على المشاركة النشطة في التفكير الرياضي لجميع
الأطفال وتطوير الذكاء… كان منذر ناشطًا فكريًا، يحاول بلا كلل فهم
العالم وينخرط في نشاطات لتحسينه، سواء في التعليم أو السياسة. لقد كان
سخيا بوقته وتعاونه مع الآخرين، وكانت شراكته في العمل محفزة دائما،
وإن كانت مرهقة في بعض الأحيان».
وكان منذر قد عمل مع بروفسورة براون في الثمانينيات وحتى 1993، في
برنامج « التقييم المتدرج في الرياضيات» الذي أصدر 11 مجلدا يجمع بين
النظرية والتطبيق. وكان الباحث الرئيسي لبرنامج « التسريع الفكري عبر
الرياضيات» الذي أصدر مجلدات تعليمية، اعتُمِدَت رسميا من قبل وزارة
التربية البريطانية.
وحتى رحيله، كان منذر مديرا لـ« هيئة التنمية الفكرية» وهي مؤسسة خيرية
بريطانية مقرها لندن، تهدف إلى الاستثمار الكامل للإمكانات المعرفية
لدى التلاميذ من خلال إغناء المناهج الدراسية، وطرق التدريس والتطوير
المهني للمدرسين في المواد الدراسية الأساسية في المدارس الابتدائية
والثانوية.
كم من العلماء والأكاديميين وعموم المثقفين أجبروا على الرحيل من
العراق، على مدى العقود؟ يُجبر على الرحيل إما قمعا أو إهانة وإهمالا
أو لتلقيه طلقة في مظروف تستهدف حياته
من التعليم إلى السياسة، عمل منذر على صياغة برنامج « التدرج في
المساهمة الديمقراطية» مركزا على مجالات الخدمات غير السياسية التي
يمكن لمؤسسات المجتمع المدني تقديمها فيما أطلق عليه مصطلح « الاستثمار
الاجتماعي». وعن دور التعليم في البناء الديمقراطي في بلداننا، كان
سؤاله الأبرز: « من يُعلم المعلمين؟». هل بإمكانهم نقل قيم لم يتربوا
هم أنفسهم عليها، إلى طلابهم؟ وكيف يمكن حل هذه المعضلة في غياب النشاط
الصفي المحفز لصياغة أسئلة من قبل الطلاب أنفسهم، حيث تجري غربلتها
وبلورتها؟ هل يمكن الاعتماد على معلمين من بلدان وثقافات ولغات أخرى أم
علينا ابتداع طريق تجريبي يساهم فيه المعلمون والطلاب سوية يجمع بين
التفكير النقدي والتحليلي والتفكير الإبداعي التركيبي، مما يقود ضمنيا
إلى تقبل الاختلاف وبالتالي المواطنة والديمقراطية؟
من هذا المنطلق، ولأنه أراد نقل خبرته الى العالم العربي، حاول تقديم
دروسا نموذجية لتطبيق برنامج التسريع الذهني، مع أمثلة للرياضيات
الاستكشافية والتدرجية، بمدارس في تونس العاصمة، كما تمكن من إقناع
زملاء بريطانيين بالمجيء إلى تونس لإدارة ورشات تعليم دورية، الا أن
اهتمام المعلمين وأهالي التلاميذ بالنتائج السريعة لم يساعد على
استمرار المشروع أو الحلم الذي أراد من خلاله التعويض عما كان بالإمكان
إنجازه في العراق، كمبادرة فردية ـ تطوعية تحث وتحفز بمواجهة غياب
الإرادة السياسية للإصلاح التربوي،الذي يكاد يكون في إهماله « عاديا»
ومقبولا في معظم البلدان العربية. حاول منذر طوال مسيرته المهنية إيجاد
السبل لعلاج ظاهرة الخوف والنفور من الرياضيات الشائعة بين التلاميذ
وحتى المهنيين. استنادا الى قناعته « بأن سبب القلق والنفور هو أسلوب
التعليم نفسه، بحيث يتم إعادة إنتاج أو بث هذا القلق بين الأجيال
الجديدة من المعلمين أنفسهم دون قصد منهم».
وقد جعله شغفه وفضوله الفكري بالتساؤل في كل المجالات، وعمله على إيجاد
السبل لكي يسترد العراق عافيته، أقرب ما يكون الى رجل عصر النهضة في
اهتماماته الممتدة من ترجمة الشعر والكتابة الصحافية إلى الموسيقى
وكتابة مسرحية عن عائلة لا تلتقي، والرسم بمهارة وروح تليق بفنان.
أراه حاضرا، كما لو كان واقفا أمام مرآة، في ملاحظات سريعة كتبها عن
معرض حضره، بلندن، للوحة واحدة من لوحات ليوناردو دافنشي «اهتمامات هذا
الرجل متعددة بدءاً بالجيولوجي وانتهاء بالفن والمعاني الرمزية وتجاوز
زمانه. أعتقد أن دافنشي أقرب الفنانين للعلم كما هو للفن. لقد نجح فعلا
في تصوير البعد الثالث عبر الظلال وتقنيات اخرى يصعب فهمها».
في تونس، أغمض منذر عينيه للمرة الأخيرة. « في أرض الله الواسعة بعد
تشتت العراقيين. لا ضير في ذلك غير أن أجسادنا لن تزيد من خصوبة أرض
العراق». هو الذي غادر العراق ولم يغادره أبدا، حاملا فلسطين في قلبه،
مرددا أنها قضية ألعالم أجمع إذا أراد العالم أن يحافظ على إنسانيته.
على ضريحه، حُفرت ترنيمة تجمع بينه وبين رفيقه مظفر النواب والشاعر
التشيلي بابلو نيرودا وبدر شاكر السياب. « عراق… عراق… قلنا: يا هذا
الضالعُ بالهجرات / هل يوصلك البحر إلى العراق؟ / قال: أحمل كلَ البحر
وأوصِلُ نفسي».
كاتبة من العراق
يوم وطأ الغزاة أرض بغداد
هيفاء زنكنة
في التاسع من نيسان/ أبريل 2003، تسلق أحد جنود الغزو الأمريكي تمثالا
ضخما لرئيس العراق السابق صدام حسين، في ساحة بوسط بغداد، ليرفع العلم
الأمريكي، فوقه. معلنا الانتصار الأمريكي في لحظة إنتشاء، عاشها الرئيس
الأمريكي جورج بوش فيما بعد على ظهر باخرة عسكرية، قائلا «معركة العراق
انتصار واحد في الحرب على الإرهاب التي بدأت في 11 سبتمبر 2001 وما
زالت مستمرة» وأن قتال أمريكا هو «من أجل الحرية والسلام في العالم».
لخص بوش بذلك جوهر السياسة الأمبريالية تجاه العراق ودول الجنوب، مثيرا
في تلك اللحظة نفسها تساؤلا لا يزال حيا في ذاكرة الشعوب العربية
والإسلامية ومناهضي الحرب العدوانية في أرجاء العالم، مفاده الانتصار
على من؟
هل هو انتصار على رئيس دولة تم تضخيم خطره بواسطة آلة إعلامية باتت منذ
منتصف التسعينات سمة عصر ما بعد الحقيقة؟ أم على شعب أنهكته الحروب
والحصار الأشمل في التاريخ على مدى 13 عاما، بحيث تم إجبار مواطني
واحدة من الدول الأغنى في المنطقة على بيع كل ما يملكون فقط للبقاء على
قيد الحياة، وصار رفع العقاب الجماعي عن الشعب مشروطا بتغيير النظام؟
ويبقى السؤال الأهم، بعد مرور 19 عاما، من الغزو والاحتلال، عما تم
تحقيقه عراقيا وعربيا وغربيا، معلقا بارتفاعات وثقل غير متساو، على
رؤوس الشعوب، في مختلف المجالات. تم خلالها نشر آلاف الكتب والدراسات،
وإنتاج مئات الأفلام والمسرحيات، وإقامة المعارض. معظمها يحلل ويبرر
ويتغنى، في حالة الأفلام الامريكية، ببطولة وتضحيات القوات الامريكية
في محاولتها نشر «الديمقراطية» وإنقاذ العالم من خطر عراقي إرهابي
محتم. وفي مجال الغناء وتأليف الموسيقى، تراوح الإنتاج ما بين أغنية
الجندي الأمريكي الذي يتباهى بقتله مواطنين عراقيين والتي تطلق على
العراقيين نعوتا تسلخهم من إنسانيتهم ، ليسهل قتلهم، إلى الحفل
الموسيقى، وهو الأكثر شهرة، الذي أقيم في كانون الأول/ ديسمبر 2003 ،
بواشنطن إحتفاء بـ»الانتصار» الأمريكي بحضور مهندسي ومنفذي غزو العراق
من الرئيس بوش، والسيدة الأولى لورا بوش ، ووزير الدفاع دونالد
رامسفيلد ، ومستشارة الأمن القومي كوندوليزا رايس، إلى رند رحيم فرانكي
التي كوفئت على تعاونها مع الاحتلال بتعيينها سفيرة لدى الولايات
المتحدة. حضرت الحفل، أيضا، « النخبة» العراقية التي مهدت للغزاة طريق
الوصول إلى بغداد وفتحت أبواب الجحيم على العراقيين. هذه « النخبة»،
التي كان يجب إخضاعها للمساءلة والعقاب، جراء « خيانتها» والتعاون مع
العدو، كما فعلت فرنسا، مثلا، تجاه المتعاونين مع الاحتلال النازي،
صارت هي الرحم الخصب الذي أنجب للغزاة وكلاء يتكاثرون حتى الآن لتخريب
العراق وتركيع أهله.
لقد سقط الكثير من العراقيين ضحايا التضليل السيكولوجي الإعلامي الذي
مهد للغزو باعتباره خلاصا من الدكتاتورية وتحقيقا لحلم الديمقراطية،
و»مذاق الحرية الحلو» كما وعد كولن باول. واختارت غالبية الشعوب
الغربية أما تأييد حكوماتها المدافعة عنها ضد «أسلحة الدمار الشامل» أو
إنتظار جني الغنيمة الاقتصادية أو الصمت لأن ما يحدث في أماكن نائية لا
يعنيها. كان هذا واقع عام 2003، عام اعلان « الانتصار الأمريكي»، فما
الذي تغير حاليا؟ عراقيا وعالميا؟ ما هي سردية الشعب الذي ذاق يوميات
الاحتلال ونتائجه من القضاء على الدولة، وتنصيب وكلاء متعددين معززين
بالميليشيات إلى نثر بذور الإرهاب ونمو أعشاب الطائفية والمحاصصة
الضارة؟
فرض مسار التدهور الداخلي العام، بكل المستويات، من السياسي الى
الاقتصادي وكل ما له علاقة بتوفير اساسيات الحياة بكرامة، ومع نمو جيل
جديد من الشباب ( ربع سكان العراق لم يكونوا مولودين في عام الغزو) ،
تغيرا محسوسا في الموقف من النظام السابق والحالي والأحزاب القديمة
المتآكلة والجديدة المولودة حسب الطلب. تبدى التغير بأوضح صوره في
إنتفاضة تشرين الأول/ أكتوبر 2019، التي طالبت بوطن خال من «الوكلاء»
المعتمدين خارجيا، الذين لا يمثلون أبناء الشعب وإن أجادوا رطانة
الادعاء بذلك بلغة تجمع ما بين التستر بالدين وممارسات الفساد المادي
والأخلاقي. وهي وليدة تجذر الهيمنة الامبريالية بشكل عقود و»استثمارات»
في بلد بات مقسما، عمليا، بين ثلاث حكومات يُطلق عليها تسميات: حكومة
بغداد وحكومة إقليم كردستان بفرعيها في أربيل والسليمانية. ينخرها كلها
التهافت على السلطة والوقوف متفرجة على تحويل البلد الى ساحة للتفاوض
واستعراض العضلات بين أمريكا وإيران.
أمريكيا، يلخص أنتوني كوردسمان الذي شغل مناصب عليا في الإدارة
الأمريكية كمختص بالأمن الأمريكي، وسياسات الطاقة، وسياسة الشرق الأوسط
المنظور السائد في التقييم الغربي لما يطلقون عليه مصطلح حرب العراق،
تزويرا لحقيقة إنها حرب ضد العراق، قائلا: «منذ سقوط صدام حسين في عام
2003 وحتى الوقت الحاضر، لم يكن لدى الولايات المتحدة مطلقًا
استراتيجية كبيرة قابلة للتطبيق للعراق أو أي خطط وإجراءات متسقة
تجاوزت الأحداث الجارية.» وهو منظور لا يتماشى إطلاقا مع وجهة النظر
السائدة، عموما، في العراق وكل البلدان التي تعيش محنة تغيير أنظمتها،
مهما كانت طبيعتها، أو احتلالها، أو معاقبتها بفرض العقوبات
الاقتصادية.
هناك بالتأكيد استراتيجية أمريكية تجاه العراق. وهي التي صاغها
المحافظون الجدد في مشروع القرن الأمريكي الجديد ونفذها مسؤولو الإدارة
الامريكية برئاسة بوش وواصل العمل بها من تلاه من رؤساء. إنها
استراتيجية شاملة تهدف الى إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط. كان العراق
نقطة البداية فيها، وصاحب المصلحة الأولى فيها، بعد أمريكا، هو كيان
الاحتلال الصهيوني. فحركة توقيع الاتفاقيات والتطبيع مع المحتل
الصهيوني وتسارع الهيمنة الامبريالية وفرض السياسات الاقتصادية
الاستغلالية هو وجه من أوجه تلك الاستراتيجية خاصة بعد تفكيك الدولة
العراقية وما تلاها من خراب في ليبيا واليمن ولبنان وسوريا.
وإذا كانت الاستراتيجية قد تعثرت جراء مقاومة الشعب العراقي فإن هذا لا
ينفي وجودها. وتتطلب مواجهتها وجود مقاومة تجمع بين المقاومة المحلية
وحركات التضامن العالمية النابعة من بطن الوحش نفسه.
كاتبة من العراق
في الغزو الأمريكي للعراق
كانت مفردة “المقاومة” ممنوعة
هيفاء زنكنة
هل نقول شكرا لبوتين لأنه جراء غزوه لأوكرانيا، أيقظ العالم ربما
للحظات، على مآس تُسّطرتها آلة الناتو، بقيادة أمريكا، الواحدة تلو
الأخرى، من غزو وإحتلال وتغيير أنظمة، وكأن التاريخ يكرر نفسه لا لشيء
إلا لأنه يكرر نفسه أو ربما لأن العالم لا يتعلم؟
هل ما يتم تداوله، الآن، بغضب وألم يماثل آلام من تلقى ضربة قوية على
رأسه، جديد؟ أعني التصريحات العنصرية، من معلقين وصحافيين، يرون في غزو
أوكرانيا وتهجير أهلها موقفا غير حضاري لأن الأوكرانيين ليسوا مثل
العراقيين والأفغان وعموم سكان الشرق الأوسط، لأنهم من جنس ” منا”
وليسوا من ذلك الجنس غير الحضاري ” منهم”؟ لأنهم من مواطني العالم
الأول وليسوا من العالم الثالث؟
هل طفت التعليقات العنصرية في لحظات تأثر إنساني بما يجري في أوكرانيا
حقا أم أنها العنصرية المستدامة، مثل فايروس يستوطن الجسد، قد يركن
للسبات حينا إلا انه سرعان ما يعود إلى الظهور بقوة حين تكون الظروف
ملائمة؟
إن جذور العنصرية حية على الرغم من قدمها والادعاءات التي يتم تسويقها
بأنها على وشك الانقراض. ويكفينا إلقاء نظرة واحدة على موقف العالم ”
الحضاري” من الشعب الفلسطيني، وكيف أنه يمد المستعمر الصهيوني
الاستيطاني بمليارات الدولارات شهريا ليواصل إبادة الشعب الفلسطيني
باسم حق إسرائيل في الوجود ومواجهة الإرهاب الفلسطيني، لندرك أن كل ما
حدث، في العقود الأخيرة، هو منح العنصرية أسماء جديدة وتعليبا مغايرا
يبيعها بشكل ” إنساني”. ربما ما نحتاجه الآن للتعرف على وجه العنصرية –
الحضاري” الأبيض”، العاري الآن، العودة إلى حقبة استعمار الجزائر
وأفريقيا، والنظر أبعد من السطح الإعلامي الذي يحجب الرؤية، وقراءة
كتابات المفكر فرانز فانون، المعروف بنضاله من أجل الحرية ومناهضة
الاستعمار والعنصرية. كما سيساعدنا تذكر (إن حدث ونسينا) تفاصيل غزو
واحتلال العراق من قبل ذات التحالف الأمريكي البريطاني – الدولي، الذي
يتباكى حاليا على غزو أوكرانيا.
لا تختلف التغطية الإعلامية الشاملة لصالح أمريكا ودول الناتو، هذه
الأيام، عن التغطية التي تم تصنيعها قبل وأثناء وبعد غزو العراق عام
2003
لاحظت وأنا اتابع البث المباشر لما يجري في أوكرانيا، محاولة القنوات
الغربية نقل عدة أحداث في آن واحد من خلال تقسيم الشاشة إلى أربعة
أقسام. يبين أحدها حجم الخراب الذي يسببه القصف الروسي والثاني هرب
السكان مع إبراز صور النساء والأطفال خاصة، والثالث تصريحات الرئيس
الاوكراني البطولية. والرابع مكرس لشباب وصبيان يتدربون على السلاح تحت
عنوان ” المقاومة”. أعادني هذا التدريب على السلاح وبضمنه تصنيع قنابل
المولوتوف الحارقة بعنوان المقاومة، إلى الاعوام التالية للغزو
الأمريكي للعراق وكيف طُلب مني، حين كنت أكتب لصحيفة “الغارديان”
البريطانية، كتابة رأي لصحيفة ” لوس أنجلوس تايمز” الأمريكية، عن الوضع
في العراق، فعلمت بأن إدارة الصحيفة كانت قد أصدرت توجيها داخليا لكل
الصحافيين بعدم استخدام مفردة ” المقاومة” عند وصف مقاومة العراقيين
للاحتلال الأمريكي بل: “تمرد” أو ” عصيان” أو ” إرهاب”. بررت الصحيفة
موقفها بأن مفردة المقاومة مرتبطة في أذهان الناس بمقاومة الشعب
الفرنسي للغزو النازي وهي مفردة إيجابية، وهذا ما لا يراد بالنسبة الى
العراق. وتحدث الإعلامي والكاتب التروتسكي المعروف كريستوفر هتشنغ عن
شعوره بالغثيان عند استخدام البعض” المصطلح الوصفي “المقاومة العراقية”
لوصف المسؤولين عن مهاجمة القوات الأمريكية… لأن العديد من أولئك الذين
يقاتلون هم إما جزء من الشرطة السرية السابقة للنظام أو تم استيرادهم
من الجماعات الجهادية خارج البلاد”!
أما في المقابلات التلفزيونية الأمريكية والبريطانية، فإن أي ذكر
لأسباب الغزو الحقيقية، وأي إشارة إلى تصنيع الأكاذيب المبررة للغزو
كأسلحة الدمار الشامل، والتشكيك بوجود علاقة بين النظام العراقي
والقاعدة، كان غالبا ما يقود، أما إلى إنهاء المقابلة بشكل سريع أو
مطالبتي بالجواب بصيغة نعم أو لا، أو وضعي في قفص الاتهام الجاهز
كمساندة لنظام صدام حسين.
ولا تختلف التغطية الإعلامية الشاملة لصالح أمريكا ودول الناتو، هذه
الأيام، عن التغطية التي تم تصنيعها قبل وأثناء وبعد غزو العراق عام
2003، مع فارق أساسي، وهو أن القوات الغازية لم تكن روسية بل أمريكية –
بريطانية ومعها الأوكرانية. أيامها أُطلق على الغزو، وحملة” الصدمة
والترويع”، وقصف البنية التحتية، وقتل المدنيين أسم يليق بحضارة الغزاة
وهو ” عملية حرية العراق”.
وحين قاوم العراقيون الغزاة لم تُكتب المقالات، ولم تُعرض الأفلام
الإنسانية المؤثرة عن استعداد وتهيئة الشباب وتدريبهم للانضمام الى
المقاومة. لم تُنشر صورهم أو يُكتب عن حبهم للوطن ودفاعهم عنه. كانت
معظم القصص المنشورة والمتلفزة عن شجاعة الجنود الأمريكيين
والبريطانيين أثناء مواجهتهم ” الإرهابيين العراقيين”. ولم يتم ذلك
اعتباطا بل جاء جراء تدريب مكثف لحوالي 600 صحافي وإعلامي، قامت وزارة
الدفاع الامريكية بتدريبهم في برنامج خاص للتعايش، بشكل كامل، مع قوات
كانت تتهيأ للقتال في العراق. حيث خلقت المعايشة حالة تماهي بين الجنود
والصحافيين الذين سُمح لهم بالبقاء مع القوات اثناء الغزو الفعلي وفي
المعسكرات داخل العراق، بعد أن وقع المراسلون عقدا ينص على “القواعد
الأساسية”، أي السماح بمراجعة تقاريرهم من قبل المسؤولين العسكريين،
وأن تتم مرافقتهم في جميع الأوقات من قبل عسكريين، والسماح بطردهم في
أي وقت ولأي سبب. فكان من الطبيعي أن يقوم المراسل المتعايش مع القوات،
بسرد قصة الحرب من وجهة نظر الجنود والتأكيد على النجاحات العسكرية
وبطولات جنود الاحتلال، وليس على عواقب الغزو على الشعب العراقي. وقد
بينت دراسة أجراها الأكاديمي الأمريكي أندرو لندنر عن السيطرة على
الاعلام في العراق، أن رصد 742 مقالاً بقلم 156 صحافياً بينت أن 93
بالمئة من المقالات التي كتبها صحافيون متعايشون مع قوات الاحتلال
استخدموا جنودا كمصادر لأخبارهم، بينما أشارت 12 في المائة فقط من
المقالات إلى الخسائر البشرية التي سببتها الحرب على الشعب العراقي.
أن عملية خداع الجماهير التي هندّستها أمريكا ودول الناتو لأنجاح غزوها
العراق، تلاقي هذه الأيام، وفي ذات الشهر، انعكاس صورتها في الغزو
الروسي لأوكرانيا. وسترينا الأيام المقبلة، في خضم الاحداث المتسارعة،
إذا كان الرئيس الأمريكي جو بايدن، سيقف كما وقف جورج بوش، على دماء
الضحايا ليعلن الانتصار الأمريكي.
٭ كاتبة من العراق
غزو أوكرانيا
بتعليقات عراقية
هيفاء زنكنة
إذا كانت مؤسسات سبر الرأي العربية والعالمية غير قادرة على تزويدنا
بوجهة نظر الشعوب إزاء حدث دولي بسرعة توازي وقائع الحدث نفسه، كما
يحدث حاليا حول مجريات الأمور في أوكرانيا، فإن صفحات التواصل
الاجتماعي بأنواعها، استلمت عجلة القيادة، لتصبح فضاء مفتوحا لكل من لا
تستهدفه مؤسسات سبر الآراء، عادة، لأبداء الرأي. حيث تُلزم مؤسسات سبر
الآراء المشاركين بالإجابة على أسئلة تحددها المؤسسة لتُشكل الخلاصة
جزءا من صناعة الرأي المقنن، وهذا ما لا يلتزم به كتاب التعليق
والتحليل على صفحات التواصل، المفتوحة لكل أنواع الكتابة، وإبداء الرأي
بحرية وعفوية وشاعرية وتوليفة مشاعر متأججة تراوح بين الصدق والابتذال،
بين المديح والهجاء، بين اللغة الجادة والسطحية، بين نقل الخبر المتميز
بموضوعية الرصد وتدقيق فحوى ما يتم والخبر الملفق مع إضافة الصور
المزورة.
من هذا المنطلق، في العالم الفيسبوكي المتسع لكل البلدان، الغني
المتأجج بديناميكية سرعة الأحداث حول العالم، وما تحفزه من تحليلات
عميقة لدى البعض، وما تثيره من شحنات عاطفية قد تطغي، أحيانا، لفرط
سرعتها، على التأمل وحتى القدرة على التفكير الموضوعي، لدى البعض
الآخر، يُسطّر العراقيون، وجهات نظرهم عما يجري في العالم. آخر ما
استحوذ على اهتمامهم، سيرورة الاستعداد لشن الحرب في أوكرانيا وتفاصيل
وقوعها. وهل هناك من هو أكثر فهما لأسباب الحروب وما تُسببه من العراقي
الذي عاش، عبر أجيال، حروبا وُصفت الأولى منها، أي الحرب العراقية
الإيرانية، بأنها الأطول في التاريخ المعاصر، وتم تعبيد الثانية، أي
حرب الخليج الأولى، بطريق الموت وفرض الحصار ورش المواطنين باليورانيوم
المنضب (1991 ـ 2003) وتلاها حملة « الصدمة والترويع» ـ الغزو
والاحتلال (2003) ليواصل العراقي رحلة بقائه وفي داخله جرح لم يلتئم في
بيئة مُدمِرة بتأثير أكثر ضررا من آثار القاء القنبلة الذرية على
هيروشيما وناكازاكي؟
من واقع الحروب المضني، وسياسة بذر الشقاق تحت الاحتلال، كُتبت
التعليقات العراقية. منها ما هو مؤيد للرئيس الروسي بوتين في إحتلاله
أوكرانيا. لا حبا ببوتين وسياسته ولكن « هكذا يتم تأديب الإمبريالية
والصهيونية والرجعية» خاصة وأن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي/
الذي يعرفه أحد المعلقين بأنه «نازي صغير، عميل لأمريكا والغرب، مغرر
به» معروف بمساندته للمحتل الصهيوني، وجاء إعلان «الكيان الصهيوني
الغاصب موقفه بجانب أوكرانيا» ليؤكد صحة موقف الرئيس بوتين. ولأن ذاكرة
الشعوب، خلافا لما يعتقده الساسة، طويلة وجرائم الإبادة لا تُنسى بل
تبقى بوحشتيها ولا عدالتها متجذرة من جيل إلى آخر، استعادت التعليقات
مشاركة أوكرانيا في غزو العراق عام 2003 وكانت القوات الأوكرانية
متمركزة في محافظة واسط. ونشرت صور دبابات تحمل العلم الأوكراني أثناء
الغزو مع تعليق شامت» الحياة تدور. ذُق ما صنعت يداك في حرب العراق».
ورأى عدد من المعلقين في خطوة بوتين «هل أشعلت روسيا النيران في البيت
الأمريكي باجتياحها أوكرانيا ليبدأ العد التنازلي بانهيار امبراطورية
الشر والجماجم؟».
من قلوب عراقية ذاقت معنى الحرب وما تسببه من خوف وجوع وحصار وموت،
وتعرف جيدا حجم الخراب البشري والعمراني الذي يستمر زمنا طويلا بعد
انتهائها، انطلقت الأصوات داعية «أن ترتفع راية الأمن والسلام في
العالم كله
وكان للرئيس الأمريكي السابق جورج بوش، حصة الأسد في التعليقات المفككة
لازدواجية المعايير في إعلان التضامن الأمريكي «الإنساني» مع الشعب
الأوكراني، حيث وصف احتلال أوكرانيا بالبلطجة داعيا الى حل الأمور
بالتفاهم والسلام، بينما سجل له التاريخ إصراره المسعور، سوية مع رئيس
وزراء بريطانيا توني بلير، على شن الحرب على العراق، التي لايزال
العراقيون يعيشون آثارها وانعكاساتها. تشارك الإدارة الأمريكية في
تباكيها على استقلال وسيادة أوكرانيا ذات الدول الأوروبية «التي شاركت
في غزو العراق وكأن مشاركتهم كانت قانونية وضمن الشرعية الدولية. كم هم
منافقون ولاأخلاقيون».
استرجعت بعض التعليقات شجاعة الجيش العراقي بمواجهة الغزو الأمريكي
بالمقارنة مع انهيار الجيش الأوكراني أمام الهجوم الروسي، على الرغم من
ضعف تسليحه خلال سنوات الحصار والتفوق الجوي لقوات التحالف بقيادة
أمريكا. وفي الوقت الذي رحب فيه معلقون بخروج تظاهرات في قلب سان
بطرسبرغ في روسيا ضد الحرب ونشر أحدهم مخاطبا المتظاهرين «تتظاهر في
قلب سلطة ديكتاتور مجنون قاتل في يوم إعلانه للغزو؟ أنت شجاع» رأى آخر
أن ما قام به بوتين « مقدمة لولادة بلاشفة جدد وحركات ثورية في وسط
أوروبا، وفي العالم، تكنس اليسار المتهالك الحالي والعاجز لمواجهة
عدوان إمبريالي أمريكي غربي صهيوني مستمر لا ينتهي إلا بالإطاحة بهذا
الغول الإمبريالي».
ولم تخل التعليقات من روح النكتة والسخرية السوداء والتهكم الذي برع
فيه العراقيون في العقدين الأخيرين كأداة لمداواة جروحهم ومقاومة
لامعقولية الواقع. من بين التعليقات ومعظمها يتناول الرئيس الأمريكي جو
بايدن وأمريكا: « حكمة تعلمتها من أوكرانيا أن البيت الأبيض لا ينفع في
اليوم الأسود». وفي تصريح لبايدن: بوتين بدأ غزو الأراضي الأوكرانية
والعراق سيدفع ثمنا باهظا! وخبر عاجل: بايدن يحذر الجيش الروسي من دخول
أوكرانيا بدون فحص بي سي آر! أما بوتين فقد نشرت عدة مواقع صورته
مرتديا الزي العراقي العشائري تأكيدا لقوة مكانته وقدرته على مواجهة
التحديات وعدم تنازله عن حقه. أثناء ذلك كله علق مهندس عراقي يعيش في
كييف، عن حاله تحت القصف الجوي: استيقظت وكأنني في بغداد.
عموما، أجمعت التعليقات على شجب الغزو الروسي وتصعيد دول الناتو، خاصة
أمريكا «ذات السجل الدامي في استهانتها باستقلال وسيادة الدول وغطرستها
العسكرية». واقتصرت التعليقات الساخرة على الرؤساء، مستهدفة الرئيس
الأمريكي والروسي، وإن بدرجة أقل، وكأن هناك إتفاقا عاما على التمييز
بين تطلعات الشعوب في العيش بلا حروب وسياسة الحكومات التي لم يعد
أغلبها ممثلا حقيقيا للشعب، على الرغم من كل ادعاءات الديمقراطية وحقوق
الإنسان.
ومن قلوب عراقية ذاقت معنى الحرب وما تسببه من خوف وجوع وحصار وموت،
وتعرف جيدا حجم الخراب البشري والعمراني الذي يستمر زمنا طويلا بعد
انتهائها، انطلقت الأصوات داعية «أن ترتفع راية الأمن والسلام في
العالم كله» ووضع حد لحرب مجنونة، أخرى، لن يخرج أحد منها منتصرا.
كاتبة من العراق
دفع التعويضات… حين تكون
أمريكا هي القاضي والجلاد
هيفاء زنكنة
في الوقت الذي أعلنت فيه الأمم المتحدة حاجتها إلى 5 مليارات دولار
لتجنب كارثة إنسانية في أفغانستان، أصدر الرئيس الأمريكي جو بايدن،
قرارا برفع الحجز عن 7 مليارات دولار من الأصول التابعة للبنك المركزي
الأفغاني، وتخصيص 3.5 مليار دولار منها لعائلات ضحايا اعتداءات 11
سبتمبر. ومن باب المفارقة السوداء يتزامن هذا القرار مع إصدار مجلس
إدارة لجنة التعويضات في الأمم المتحدة تقريرا يبين أن «حكومة العراق
قد أنجزت كامل التزاماتها الدولية لتعويض كل المطالبين الذين منحت لهم
التعويضات من قبل اللجنة للخسائر والأضرار التي عانوا منها في نتيجة
مباشرة لغزو العراق غير القانوني للكويت». وقد دفع العراق تعويضات
قدرها 52.4 مليار دولار لقرابة 2.7 مليون مطالبة من أفراد وشركات
وحكومات ومنظمات دولية، بعد إصدار مجلس الأمن برئاسة الولايات المتحدة
الأمريكية قرارا بوجوب دفع التعويضات من نسبة مئوية من العائدات
المتأتية من مبيعات تصدير النفط والمنتجات النفطية العراقية. وقد
حُدِّدت هذه النسبة المئوية في الأصل بنسبة 30 في المائة وتم تخفيضها
على مر السنين. ولم يُحسم القرار النهائي بعد، بانتظار تقديم إحاطة إلى
مجلس الأمن في 22 شباط/ فبراير.
وما يجعل المفارقة أشد إسودادا، أن تكون أمريكا هي التي اخترعت فكرة
دفع التعويضات والديون المترتبة على بلدان متحاربة بعد أن كانت السياسة
العامة، وحتى نهاية الحرب العالمية الأولى، هي إلغاء ديون كل الأطراف
المساهمة في أي حرب كانت، استمرارا لما سنته شريعة حمورابي، في بابل
(العراق) حوالي 1800 سنة قبل الميلاد. وقضت تلك الشريعة بأن الحروب تضر
الجميع ولا بد من بدء صفحة جديدة بدون ديون وانتقام. إلا أن إصرار
أمريكا على استعادة ديونها المترتبة على بريطانيا وفرنسا بعد الانتصار
على ألمانيا، دفع بريطانيا إلى إجبار ألمانيا على دفع تعويض لكل
الخسائر التي سببتها الحرب حتى تتمكن بريطانيا من دفع ديونها لأمريكا.
وكان إجبار المانيا ذلك أهم أسباب صعود النازية والحرب العالمية
الثانية. ومع مأسسة سياسة التعويضات جاءت سياسة العقوبات الاقتصادية
وحجز الأموال. كانت هذه بذرة تأسيس مكتب مراقبة الأصول الأجنبية التابع
لوزارة الخزانة الأمريكية، لإدارة وتنفيذ العقوبات الاقتصادية
والتجارية « بناءً على السياسة الخارجية وأهداف الأمن القومي ضد الدول
والأنظمة الأجنبية المستهدفة والإرهابيين ومهربي المخدرات الدوليين
والمتورطين في الأنشطة المتعلقة بانتشار أسلحة الدمار الشامل
والتهديدات الأخرى للأمن القومي أو السياسة الخارجية أو الاقتصاد
للولايات المتحدة». ومن يراجع تفاصيل تطبيق هذا القانون سيجد أن الوجه
الآخر لسياسة الردع المعلنة هو حصول أمريكا على مورد مادي جراء ما
تسميه « الانتهاكات» يساعد مهما كان صغيرا، على تعزيز مكانتها كشرطي
عالمي لا يقبل الاخلال بسلطته على « الآخرين» سواء كانوا افرادا أو
حكومات.
فقد فرض مكتب مراقبة الأصول الأجنبية غرامة قدرها 20 ألف دولار على
منظمة «أصوات في البرية» المؤلفة من متطوعين شبان رائعين في بريطانيا،
لتبرعها بأدوية للعراقيين في الفترة التي فُرض فيها الحصار (1991-
2003).
إن القرار الأمريكي بتجميد الأرصدة الأفغانية، ومنح نصفها كتعويضات
لضحايا 11 أيلول/ سبتمبر، بينما يعيش الشعب الأفغاني مأساة الحاجة
الإنسانية والكفاح للحصول على أبسط مقومات الحياة
كما فرض المكتب قدرها 10 آلاف دولار بالإضافة إلى الفائدة، ضد ناشط
السلام بيرت ساكس لأخذه أدوية لسكان البصرة؛ وأسقطت المحكمة التهم
الموجهة إليه في ديسمبر / كانون الأول 2012، بعد أن قضى سنوات من عمره
مفندا القرار بل ورفع دعوى ضد المكتب، متهما الحكومة الأمريكية
بالإرهاب استنادا الى تعريف القانون الأمريكي للإرهاب، والذي ينص بأنه
« فعل يشكل خطرًا على حياة الإنسان أو يُحتمل أن يدمر البنية التحتية
أو الموارد، ويبدو أنه يهدف إلى تخويف أو إكراه السكان المدنيين ؛
للتأثير على سياسة الحكومة بالترهيب أو الإكراه ؛ أو للتأثير على سلوك
الحكومة بالدمار الشامل أو الاغتيال أو الاختطاف». قدم بيرت دعما
لقضيته مئات التقارير الطبية والأدلة التي تُثبت مسؤولية أمريكا عن موت
مئات آلاف الأطفال العراقيين واستهداف المدنيين عمدا، وتدمير البنية
التحتية، وفرض الحصار الاقتصادي، الذي وصفه عدد من مسؤولي الأمم
المتحدة بأنه إبادة جماعية، مستشهدا بتقرير كشف ان هدف أمريكا هو « من
خلال جعل الحياة غير مريحة للشعب العراقي، ستشجعهم العقوبات في النهاية
على إزاحة الرئيس صدام حسين من السلطة».
ولتحقيق ذات الغرض، تواصل أمريكا سياستها الخارجية المستهدفة، في
حقيقتها، للشعوب وليس الأنظمة، من خلال فرض العقوبات الاقتصادية وتجميد
الأرصدة ودفع التعويضات. بينما تواصل سياستها الخارجية نفسها، على
إختلاف الرؤساء، في شن الحروب وإسقاط أي نظام يبادر لتحقيق الاستقلال
الحقيقي وتمثيل مصالح شعبه. فمنذ عام 1947 حتى 1989، مثلا، حاولت
أمريكا 72 مرة تغيير حكومات دول أخرى. سبقها قصف جماعي لمدن يابانية
وألمانية خلال الحرب العالمية الثانية، وقصف نووي لهيروشيما وناغازاكي،
وتلاها رش فيتنام بالعامل البرتقالي السام، وذخائر اليورانيوم المنضب
على العراق، والعقوبات الاقتصادية على كوبا وإيران وسوريا. كل هذا ولم
يحدث ودفعت أمريكا تعويضا لضحاياها في البلدان التي عملت على تدميرها.
وكما فُرض على الشعب العراقي دفع تعويضات خيالية، حيث تم، مثلا، تسعير
رأس الخس الذي تناوله الجندي الأمريكي بـ35 دولارا، تواجه كوبا حاليًا
5911 دعوى قضائية أقامتها شركات وأفراد فيما يتعلق بمصادرة ممتلكات
وأصول أخرى في الجزيرة بعد عام 1959، وتسعى معًا للحصول على تعويض
يقارب 7 مليارات دولار، بعد أن جمدت أمريكا 253 مليون دولار من الأصول
الكوبية في عام 2012.
إن القرار الأمريكي بتجميد الأرصدة الأفغانية، ومنح نصفها كتعويضات
لضحايا 11 أيلول/ سبتمبر، بينما يعيش الشعب الأفغاني مأساة الحاجة
الإنسانية والكفاح للحصول على أبسط مقومات الحياة، هي عملية نهب تماثل
نهب العراق المتواصل سواء عن طريق العقوبات الاقتصادية ودفع التعويضات
أو الغزو وتحطيم البنية التحتية وتنصيب حكومات فساد بالنيابة.
كلاهما استمرار لسياسة استعمارية قديمة ولكن بتبريرات جديدة تُسوغ
الإبادة الجماعية، بشعارات نبيلة مثل التدخل الإنساني وحماية حقوق
الانسان، خاصة المرأة. وستبقى أمريكا تتصرف باعتبارها القاضي والجلاد
ضد من تشاء، حتى تتمكن الشعوب وحكوماتها الوطنية المستقلة الممثلة لها
بشكل حقيقي، من تطبيق القانون الدولي ومساءلة أمريكا على جرائمها ودفع
التعويضات لضحاياها.
كاتبة من العراق
هل من جدوى لليوم
العالمي للعدالة الاجتماعية؟
هيفاء زنكنة
في ظل وضع يُهان فيه المواطن، في معظم بلدان العالم، على مدى أيام
السنة، تبّنت منظمة الأمم المتحدة، في عام 2007، تخصيص يوم 20
شباط/فبراير، من كل عام، للاحتفال باليوم العالمي للعدالة الاجتماعية،
تحت شعار « العدالة الاجتماعية والحياة الكريمة للجميع». وهو شعار
اقترحه اتحاد العمال الروسي. عرَّفت منظمة الأمم المتحدة العدالة
الاجتماعية بأنها « المساواة في الحقوق بين جميع الشعوب، وإتاحة الفرصة
لجميع البشر، من دون تمييز، للاستفادة من التقدم الاقتصادي والاجتماعي
في جميع أنحاء العالم». مؤكدة في بياناتها وبالاتفاق مع مائة من رؤساء
الدول، بـأن لا غنى عن التنمية الاجتماعية والعدالة الاجتماعية لتحقيق
السلام والأمن وصونهما داخل الدول وفيما بينها. وهو ما لن يتم بدون أن
تضع الحكومات خططا تسعى من خلالها للقضاء على الفقر والبطالة،
والتمييز، بسبب الجنس أو السن أو العرق أو الدين أو الثقافة أو العجز.
واعتمدت منظمة العمل الدولية، الإعلان تحت شعار « عولمة عادلة « للجمع
بين مسؤولية الحكومات المحلية والعالمية، بعد أن تسللت العولمة إلى كل
الدول في جميع أرجاء العالم، ومع تزايد حجم الفجوة الاقتصادية بين
الدول المتقدمة والنامية.
ومثل كل المواثيق والإعلانات الصادرة عن الأمم المتحدة، سارعت
الحكومات، بضمنها حكومات عربية، إلى الترحيب بالإعلان (وهو بالتأكيد
نبيل المضمون) ومن ثم استخدامه كواجهة لتزيين واقع لا تتوفر الإرادة
السياسية لتغييره، أو لا قدرة للنخبة الحاكمة على تغييره، جراء انتشار
وباء الفساد من جهة وقدرة الرأسمال الاحتكاري الدولي على إجهاض أية
خطوة تتجه نحو القضاء على التفاوت أو اللامساواة الاقتصادية من جهة
أخرى. فكما هو معروف يرتبط مفهوم العدالة (أو الإنصاف) بشكل رئيسي
باللامساواة الاقتصادية، وغالبا ما يكون التوزيع العادل للثروة وما
يترتب على ذلك من تكافؤ في الفرص هو الأساس الذي تُبنى عليه المساواة
السياسية والتمتع بحقوق الإنسان وتعزيز التنمية والكرامة الإنسانية.
ولأن لمفهوم العدالة الاجتماعية، بنوعيها القانوني المفترض معاملة
الفرد كمواطن، والعادات والتقاليد المتجذرة في المجتمع المتجاوزة
للقوانين، تعريفات تجمع ما بين الحرية الفردية وتكافؤ الفرص بالإضافة
إلى الاستغلال الاقتصادي من قبل البلدان الرأسمالية للأيدي العاملة في
البلدان النامية، ولأن تعريف الأمم المتحدة لا يغطي كافة الجوانب من
ناحيتي الأسباب وطرق العلاج، خاصة بالنسبة إلى اللامساواة، قد تحمل
الإجابة على سؤال « لماذا تعتبر اللامساواة مهمة» إضاءة للجوانب
والنتائج غير المتطرق اليها، وهو ما يناقشه الفيلسوف الأمريكي تي أم
سكانلون المتخصص بنظريات العدالة والمساواة والنظرية الأخلاقية، في
كتابه عن اللامساواة. حيث حدد سكانلون ستة أسباب تدفع إلى الاعتراض على
الأشكال المختلفة لعدم المساواة والسعي إلى القضاء عليها أو الحد منها.
عدم المساواة يُمكن أن تُحدث فوارق مهينة في المكانة الاجتماعية
والأنظمة الطبقية، لأنه يمنح الأغنياء أشكالا غير مقبولة للسلطة على
أولئك الأقل حظا
ويمكن تلخيص أسباب الاعتراض بما يلي: لأن عدم المساواة يُمكن أن تُحدث
فوارق مهينة في المكانة الاجتماعية والأنظمة الطبقية، لأنه يمنح
الأغنياء أشكالا غير مقبولة للسلطة على أولئك الأقل حظا، لأنه يُضعف
تكافؤ الفرص الاقتصادية، لأنه يُقوّض نزاهة المؤسسات السياسية، لأنه
ينتج عن انتهاك مطلب المساواة في الاهتمام بمصالح أولئك الذين تلتزم
الحكومة بتقديم منفعة ما لهم. لأنه ينشأ عن المؤسسات الاقتصادية غير
المُنصفة. وإذا كان التفاوت على أساس الطبقة أو العِرق أو الجندر، فإن
للقوانين أو العادات والمواقف الاجتماعية الراسخة تأثيراتها، مما يدفع
إلى النظر في المساواة المجتمعية الأخلاقية. ولعل المثال الأفضل عن
اللامساواة الأخلاقية ضمن منظومة العدالة الاجتماعية والذي لا يتطرق
اليه إعلان الأمم المتحدة هو التمييز العنصري المفروض من الخارج، وهو
الوجه الأكثر وضوحا للسياسة الاستعمارية والاحتلال، حين يُنظر إلى سكان
البلد الأصليين بأنهم أدنى منزلة من المُستَعمِرين وحرمانهم من الحقوق
الأساسية أو حتى إحالتهم إلى مهن يُنظر اليها بأنها حقيرة ولا تليق
بمكانة المُستعمِر، كما كان الحال في جنوب أفريقيا سابقا وفي فلسطين
حاليا.
بالنسبة إلى إعاقة تحقيق العدالة في مجتمع بلد واحد وبلدان أخرى، يحتل
الفساد مكانة متميزة. وبالإمكان اعتبار العراق نموذجا تضمحل فيه حقوق
الإنسان الأساسية كالتعليم والصحة والسكن والعمل، ناهيك عن تأمين
الضمان الاجتماعي لكل أفراد المجتمع، وتأمين ظروف عمل صحية وآمنة،
كخطوة ضرورية للقضاء على الفقر، إزاء شراهة النظام الفاسد اقتصاديا
وسياسيا، فضلا عن استغلال وجشع المنظومة الاحتكارية الدولية، وتشجيع
الشقاق. وهو وضع يتنافى، تماما، مع مفهوم العدالة الاجتماعية كمبدأ
أساسي من مبادئ التعايش السلمي والاستقلال الاقتصادي والاجتماعي
والسياسي داخل الأمم وفيما بينها.
ينص العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية على إمكانية
تحقيق العدالة الاجتماعية من خلال إعادة توزيع الثروة وتنفيذها من قبل
الهيئات العامة في الدولة، مما يثير تساؤلا عن الآليات التي يتوجب
تطبيقها لتحقيق ذلك فعلا. يظهر على السطح هنا مفهوم المساءلة
الاجتماعية أي إخضاع المسؤولين الحكوميين للمساءلة عن أفعالهم، سيما
المتعلقة بإدارة الموارد العامة، والقيام بدور المحاسب والمُسائل في
القضايا التي تدور حولها شبهات الفساد، من قبل منظمات المجتمع المدني
والمجتمع الأهلي ومشاركة المواطنين وفق آليات مراقبة.
هل سيؤدي الاحتفال بيوم واحد للعدالة الاجتماعية إلى تحقيقها عالميا،
آخذين بنظر الاعتبار أنه مطلب قديم، ذكره للمرة الأولى في شهر كانون
الأول/ديسمبر عام 1784، الملك الفرنسي لويس السادس عشر عندما قال:
«هناك حقوق مقدسة للبشرية، ومن بينها العدالة الاجتماعية»؟ آخذين بنظر
الاعتبار، أيضا، عراقيا، أن انتفاضة تشرين / أكتوبر 2019 في العراق
ألتي قام بها شباب رفعوا شعارات طالبوا فيها بحقوقهم في وطن بلا فساد
وقمع، وهي من صلب العدالة الاجتماعية، جنت ثمارها قوى حزب الفساد محليا
وعالميا؟
الجواب المباشر هو كلا. إلا أن استمرارية المطالبة بالعدالة
الاجتماعية، على مر العصور، ومع كل التغيرات السياسية والاقتصادية،
يعني أنها مطلب أساسي لحفظ كرامة الإنسان، وتكريس المواطنة والمساواة
الفعلية، ولايزال الكثيرون، حول العالم، يعملون على تحقيقه، مما يعني
أنه قد يكون صعب المنال إلا انه ليس مستحيلا.
كاتبة من العراق
ديكتاتورية الحزب الواحد…
«حزب الفساد» العراقي
هيفاء زنكنة
بلمسة تكاد تكون سحرية، أصبحت مشكلة العراق الوحيدة هي اختيار رئيس
الجمهورية. سبقتها مشكلة الخلاف، صحبة التهديد والتفجير، بين الفائزين
والخاسرين بالانتخابات. الانتخابات التي كان يفترض أن تكون حلا لمشاكل
الطائفية والعرقية والفساد، تلبية لمطالب متظاهرين دفعوا ثمنها أرواح
مئات الشهداء، أصبحت هي المشكلة. شهور من النزاعات الشرسة بين
المشاركين في انتخابات لم يتجاوز المصوتون فيها العشرين بالمئة.
أُختزلت العملية بمنصب رئيس الجمهورية والمنافسة بين اثنين هما وزير
المالية السابق هوشيار زيباري (الحزب الديمقراطي الكردستاني) والرئيس
الحالي برهم صالح (الاتحاد الوطني الكردستاني) تكريسا لمحاصصة أسسها
الاحتلال ووكلاؤه، منحت منصب رئاسة الجمهورية للكرد. إلا أن دعوى
قضائية رُفعت ضد زيباري أمام المحكمة الاتحادية أدت إلى تعليق ترشيحه
«مؤقتا» الى حين البت بتهم تتعلق بالفساد، مع إبقاء المحاصصة حية ترزق،
وهي أحد أوجه الفساد الكبير الذي يغمر العراق.
ذات الوجوه، تقريبا، التي اعتلت السلطة منذ ما يقارب العشرين عاما من
الغزو والاحتلال بقيت ملتصقة بغراء الفساد الداخلي ودعمه الخارجي. من
هو الفائز ومن هو الخاسر؟ من الذي يقرر وكيف؟ هل هي «الأغلبية» أم
«التوافقية»؟ هل هي ما يسمى بالإطار التنسيقي (قيادة ميليشيات الحشد
الشعبي الموالية لإيران مع حزب الدعوة) أم الكتلة الصدرية التي يتزعمها
مقتدى الصدر وراثة عن أبيه الراحل، وبشكل غير مباشر عن «المهدي
المنتظر»؟ «البيت الشيعي» أو نصف البيت الشيعي (ومفردة البيت بتونس
تعني الغرفة وليس الدار كلها، ولعلها الأصح في الواقع السياسي
العراقي)؟ التحالف السني والكردي مع نصف البيت الشيعي؟ لماذا يُصّنف
الكردي كرديا وليس سنيا بينما السنة والشيعة ليسوا عربا كلهم؟ أسئلة
ستبقى معلقة، بلا أجوبة، في فوضى استنباط المفردات والمصطلحات
التجميلية التي يراد منها إخفاء الصديد المتفشي في جسد منظومة الحكم،
وأساسه هو الفساد الحكومي، المؤسساتي، الممنهج، المُهدد لبنية المجتمع
والعلاقات الإنسانية في البلد.
الملاحظ أن العراق لم يشهد، عبر تاريخه، انتشار مفردة كما « الفساد»
مقابل تراجع مفردة « الوطن» باستثناء فترة مقاومة المحتل الأمريكي
وأثناء انتفاضة تشرين/ أكتوبر 2019 التي كان شعارها «نريد وطن». الكل
يتهم الكل بالفساد. الكل لديه ملفات، سرية، لفضح فساد الكل.
الساسة، الوزراء، رجال الدين، المرجعية الدينية (التي شرعنت نهب المال
العام دينيا باعتباره «مجهول المالك» ما دام خُمسه يدفع لها ومشاريعها)
التكنوقراط، وأجهزة الإعلام، الكل يُدين الفساد والكل منغمس فيه من
أعلى راسه حتى أخمص قدميه. من أعلى سلطة سياسية إلى أصغر موظف في
الدولة.
تمتع أعضاء «حزب الفساد» العراقي، بإثراء أنفسهم بمختلف الطرق: من
الرشوة، وتوقيع العقود الزائفة، والابتزاز، والمحسوبية والمنسوبية، إلى
الدعم السياسي
لعل أفضل مثال يُقّرب حجم الفساد بالعراق للأذهان، ومدى هيمنته على
حياة الناس اليومية وبالتالي المستقبلية، هو اعتباره نظام حزب واحد، ذي
تراتبية هرمية، تُجبر الكل على الانخراط في عضويته، كما في كل الأنظمة
الشمولية، تقريبا، عن طريق استخدام سياسة الجزرة والعصا. حيث يُكافأ من
ينضم اليه ويُروج له، ويعاقب من يرفض وينأى بنفسه رافضا المشاركة عن
طريق الاختطاف والاعتقال والقتل. بهذه السياسة المنهجية، ازداد عدد
أعضاء « حزب الفساد» اتسعت مظلته، تدريجيا، وانغرزت أكثر فأكثر في جسد
المجتمع، وفق علاقة ديناميكية بين الفساد الأعلى وانخفاض الثقة
الاجتماعية، وبالتالي زيادة الميل للانخراط في أنشطة فاسدة، خاصة في
مجتمع كان منهكا أساسا، وليس لديه ما يكفي من القوة لمواجهة طبقة
سياسية / دينية تتحكم بالمورد الاقتصادي الريعي أو ما بات يُسمى « لعنة
الموارد الطبيعية» وفي حالة العراق «لعنة النفط». وكما هو معروف، يقلل
الاقتصاد الريعي من حاجة النظام الى الشعب بشكل حقيقي مكتفيا بادعاء
تمثيله تزويقيا، وترسيخ تصور، شائع، بأن الخدمات العامة هي خدمة من
الدولة بدلاً من كونها حقا يمكن المطالبة به.
تمتع أعضاء «حزب الفساد» العراقي، بإثراء أنفسهم بمختلف الطرق: من
الرشوة، وتوقيع العقود الزائفة، والابتزاز، والمحسوبية والمنسوبية، إلى
الدعم السياسي. ساعدهم في ذلك، تمتعهم بالإفلات من المساءلة والعقاب،
على مدى ما يقارب العشرين عاما الأخيرة. وما كان ذلك سيتم لولا توفر
الدعم من منظمات ودول أجنبية، أما ساهمت بشكل فعال يتماشى مع أجندتها
السياسية لإبقاء «حزب الفساد» في السلطة أو عن طريق غض الطرف عن
ممارسات الفساد وتشجيع استمراره.
وعلى الرغم من إصدار المنظمات الحقوقية المحلية والدولية، مئات
التقارير عن تأثير الفساد السلبي المدمر على العراق، من عدة نواح من
بينها عدم المساواة وتوفير الخدمات الأساسية، مما يؤثر على الفقراء
بشكل غير متناسب، وكون الفقراء هم الأكثر عرضة لدفع الرشاوى لتسيير
شؤون حياتهم اليومية وتوفير الضروريات، حيث أظهرت العديد من الدراسات،
على مر السنين، ارتباطًا واضحًا بين زيادة الجريمة مع ارتفاع عدم
المساواة الاقتصادية، وعلى الرغم من توثيق قائمة انعكاسات الفساد،
الآنية وبعيدة المدى مثل انتشار شبكات الدعارة، والمخدرات، الجرائم
بأنواعها، المتاجرة بالفتيات والأعضاء البشرية، تزوير الشهادات ( تم
اكتشاف 40 ألف موظف حكومي، من بينهم وزراء، بشهادات مزورة) والانضمام
إلى الميليشيات وأنواع المنظمات الإرهابية الأخرى، لا يزال عدد من
الدول، على رأسها أمريكا وبريطانيا، يمد النظام بالدعم السياسي
والإعلامي، مما يساعد على إستدامة وإعادة خلق، وتدوير الفساد، وترسيخ
قوة الفاسدين. وهذا هو ما حصل أثناء اجراء الانتخابات ويستمر حاليا.
إن هذا الطابع المنهجي للفساد وحاجة النظام المتزايدة له، على اختلاف
مكوناته، هو ما يجعله مترسخًا أكثر من بقية العوامل المؤثرة على
المجتمع. أما المنافسة بين مكونات النظام، من أحزاب وميليشيات، عرب أو
كرد، سنة أو شيعة، فإن جوهرها هو شراهة كل جهة منها لالتهام أقصى ما
تستطيع من ثروة البلد، وبذلها كل الجهود الممكنة لنشر ثقافة الفساد.
وغالبا، ما تتدفق ثقافة الفساد المنسوجة بالإجرام، سواء كانت مؤسساتية
أو سياسية، من أعلى إلى أسفل. وخلافا لما يُشاع، لا تضع الديمقراطية،
حدا للفساد، مهما كان حجم الترويج لانتخاباتها. وعلينا الاعتراف بأن
«حزب الفساد» الذي استطاع نهب360 ملياردولار من ثروة البلد، للترويج
لحملته الانتخابية، واستهداف النسيج المجتمعي على مستوى البقاء والحقوق
الأساسية، سيُتّوج إنجازاته برئيس جمهورية يليق به، كما الحكومة ورئاسة
البرلمان.
كاتبة من العراق
بذر الشقاق في العالم…
هل تحصد أمريكا ما زرعته؟
هيفاء زنكنة
هل ما يجري في الولايات المتحدة الأمريكية، منذ خسارة الرئيس دونالد
ترامب الانتخابات الرئاسية، هو شكل من أشكال الشقاق المجتمعي (تصدع
وانهيار العلاقات) الذي طالما اقتصر على بلدان العالم الثالث؟
وإذا كان سبب الشقاق في العالم الثالث، خاصة في البلدان العربية، هو
أمريكا، فمن هي الجهة المسؤولة عن بوادر ما يُسمى بالشقاق الأمريكي
المستمر حتى بعد التخلص من ترامب؟ أم أن أمريكا باتت تحصد ما زرعته من
في بلدان أخرى، كما نرى من انعكاس سياستها في العراق؟
هناك، طبعا، أجوبة جاهزة تواجهنا عند النظر في بروز الانقسامات،
المفاجئ، أحيانا، في البلدان العربية، ومن بينها أن الانقسامات
الطائفية والعرقية والمناطقية، موجودة ومتجذرة في المجتمعات، إلا أنها
حبيسة الأنظمة الدكتاتورية التي نجحت في قمعها، أو أحكمت تغطيتها وما
أن أزيح الغطاء، بسقوط الدكتاتورية، حتى برزت إلى السطح بقوة كبيرة.
لا تقتصر هذه الأجوبة على القوى الاستعمارية لتبرير سياستها بل
تتجاوزها الى النخبة في البلدان المُحتلة بعد تسللها، جراء عدم الفهم
أو الكسل العقلي، إلى وعيهم أو لا وعيهم. حيث يصبح المثقف أو الباحث
الأكاديمي أداة جلد للذات وإقناع بأن الشعب المُستَعمَر هو مُرتكب
الخطيئة الأصلية، والسياسة الاستعمارية، فعل اُريد منه، تحرير الناس من
خطاياهم بحسن نية. ولا يُشار، إطلاقا، ولو من باب التحفيز العقلي
للنقاش، إلى أن هذه الانقسامات المجتمعية، إن وجدت حقا، كانت في طريقها
الى الاضمحلال.
لكن السنوات الأخيرة، تزامنا مع تزايد الأسئلة عن الشقاق في داخل
أمريكا وتصاعد أصوات التحذير من التدخل الروسي والصيني، كما لاحظنا في
فترة الانتخابات الرئاسية، طفا على سطح البحوث الأكاديمية ومنها إلى
أجهزة الإعلام، مصطلح قديم كان قد دُفع جانبا بعد أن بات واقعا يوميا
في عديد البلدان، في أرجاء العالم، ومنها البلدان العربية. المصطلح
باللغة الإنكليزية هو « شيزموجَنسيس» وأصله يوناني. تم تطويره من قبل
عالم الأنثروبولوجيا الموسوعي غريغوري بَيتسون، في ثلاثينيات القرن
الماضي، لتفسير أشكال معينة من السلوك الاجتماعي بين المجموعات. معنى
المصطلح هو « الانشقاق» وما يتمظهر بشكل انهيار علاقة أو نظام جراء زرع
الانقسامات. وللتوضيح أكثر، أنه ببساطة خلق الانقسام أو سياسة «فّرق
تسُد» المتعارف عليها عند توصيف السياسة الاستعمارية في البلدان
المُستَعمَرة.
طوّر بَيتسون مفهوم الشقاق/ الانقسام، لأول مرة أثناء مراقبة التفاعلات
الاجتماعية لقبيلة في غينيا الجديدة. وسرعان ما تحول ما بدا في ظاهره
خلاصة أنثروبولوجية بريئة، لدراسة ميدانية عن قبيلة نائية وشبه معزولة
عن العالم الخارجي، إلى سياسة قام بَيتسون، فيما بعد، بتطبيقها أثناء
عمله في مكتب الخدمات الاستراتيجية، التابع لوكالة المخابرات المركزية
الأمريكية (السي آي أي) في الأربعينيات. ولا يهمنا هنا أن بَيتسون ندم
بشدة فيما بعد على هذا المسار في عمله وهاجم انخراط العلماء في سياسات
الدول، مثلما فعل الكثيرون من علماء الذرة بعد إلقاء القنبلة الذرية
على هيروشيما.
إن رصد انعكاسات سياسة زرع الانقسام في العراق، لا يترك شكا في قدرة
هذه السياسة على استهلاك طاقة الشعب، وإدخاله في دائرة مغلقة، السبيل
الوحيد للخروج منها هو قدرة الشعب على البحث عن جذور الخلافات المزعومة
داخل الدائرة
وجد بَيتسون أن بعض السلوكيات الطقوسية أما تثبط أو تحّفز العلاقة
الانشقاقية في أشكالها المختلفة. وبالإمكان رؤية تطبيق ذلك، في العراق
منذ التسعينيات تهيئة لغزوه عام 2003. وتطور ذلك تحت الاحتلال، حيث تم
التركيز على تحفيز الانقسام بين السنة والشيعة، مثلا، مع تقليص الرغبة،
بشكل تدريجي، من كل الجوانب، لاتخاذ خطوات قد تساعد على تخفيف التوتر
في العلاقة المتأزمة، بشكل متزايد، خاصة، مع قيام أحد الطرفين أو
كليهما بإرتكاب أعمال انتقامية، تُضّخم تأثيرات التفاعلات السلبية
السابقة، والتذكير المستمر بها. لتصبح آلية التعامل اليومي مبنية على
هوس « نحن» الأخيار و «هم» الأشرار، وتجريد «الآخر» من إنسانيته لتسهيل
عملية « إجتثاثه».
قد لا تكون أبحاث بَيتسون الأنثروبولوجية العلمية نقطة الانطلاق الأولى
لسياسة فرق تسد القديمة، إلا أنها ساعدت على أن يكون المفهوم ونجاحاته
الاستراتيجية في مجالات متعددة، في أنحاء العالم، مادة تُدرس في
الدوائر الاستخبارية والوكالات الحكومية والكليات العسكرية، سوية مع
مادة التحليل النفسي المجتمعي كأداة فاعلة في خلق الانقسامات، تؤدي
بالنتيجة إلى توليد سلوكيات مدمرة للذات والرضوخ للهيمنة في آن واحد.
وتبين الدراسات أن المذابح البشعة، بين قبائل الكونغو ومحيطها، قبل
سنوات، كانت نتيجة مباشرة لسياسة فرنسية مدروسة للسيطرة على المنطقة.
ولا يخلو المنهج التدريسي من استمرارية تلقي نتائج الأبحاث الميدانية
لعلماء أنثروبولوجيا متعاونين مع السي آي أي، كما فعل بَيتسون. فأثناء
التهيئة لغزو العراق وما بعده، جنّدت الوكالة علماء في برنامج يساعدهم
على فهم نفسية من يسمونهم «سكان البلد المُضيّف» وكيفية التعامل معهم
لـ «محاربة التمرد» أي مقاومة الاحتلال، متجاهلين بذلك العهد المهني
الأخلاقي حول عدم إلحاق الضرر بأحد. وتلعب وحدات الحروب النفسية للكيان
الصهيوني، بشتى مسمياتها، دوراً كبيراً هنا، بتوظيف كبار علماء النفس
من بينهم من حصل على جائزة نوبل، عندما ترك عمله في جيش الكيان، ليختص
بالاقتصاد مثل دانييل كانيمان.
هل تحصد أمريكا، الآن، ما بذرته من شقاق في أرجاء العالم؟ تؤكد
الدراسات والمقالات الصحافية، أن هناك ما يشير إلى تطبيق ذات السياسة
التي كانت أمريكا تنتهجها ولكن، هذه المرة، من قبل أعدائها. حيث يُعزى
صعود السياسات المتطرفة في أمريكا وأوروبا الغربية إلى «سياسة مدفوعة
من قبل روسيا والصين والعديد من الجهات العدائية الأخرى التي يمكن أن
تستفيد من الطريقة الفعالة، من حيث التكلفة، لإضعاف الأنظمة بدون
مواجهة الغرب مباشرة «. وكان الاقتصادي الأمريكي المعروف جيمس غالبريث
قد حذر في عام 2011 من سقوط أمريكا قائلا: «يمكن للدول الكبيرة أن
تفشل، لقد تم ذلك في عصرنا». إلا أنه لم يوجه اللوم إلى «الأعداء» بل
إلى سياسة أمريكا الخارجية، خاصة شن الحرب العدوانية ضد العراق، موضحا
أن «هناك سببا لضعف الإمبراطوريات. فالحفاظ على الإمبراطورية يتطلب
حربًا دائمة بلا نهاية. والحرب مدمرة، من وجهة نظر قانونية وأخلاقية
واقتصادية».
سواء كان الشقاق المتهمة روسيا والصين بتجذيره في أمريكا أو الحروب
التي شنتها وتشنها أمريكا ضد عشرات الدول منذ نهاية الحرب العالمية
الثانية السبب الرئيسي لضعفها، فإن رصد انعكاسات سياسة زرع الانقسام في
العراق، مثلا، لا يترك شكا في قدرة هذه السياسة على استهلاك طاقة
الشعب، وإدخاله في دائرة مغلقة، السبيل الوحيد للخروج منها هو قدرة
الشعب على البحث عن جذور الخلافات المزعومة داخل الدائرة، والوعي
بسيرورة وكيفية التحكم بالعلاقات المجتمعية من خارج الدائرة، وإلا
انتهى الشعب بتدمير نفسه.
كاتبة من العراق
ثورة الوحش على خالقه…
عودة تنظيم داعش
هيفاءزنكنة
كانت صباحات الأيام الماضية، مغطاة لا بتساقط الثلوج في بلدان قلما
عرفت اللون الأبيض سابقا، ولكن بصوت موحد معلنا عن» عودة داعش». شاركته
التصريحات وأجهزة الإعلام الأجنبية بعناوين مختلفة من ناحية الاسم. حيث
استمرت باطلاق تسمية «الدولة الإسلامية» بدلا من داعش. هل لهذا مغزى
عميق أم أنه مجرد الصعوبة في لفظ الحروف العربية أو كون داعش مختصرا
للحروف العربية؟ هل من احتمال للسذاجة البريئة في زمن الخطيئة المتبدية
في إعادة رسم الخرائط وتفكيك الوطن وصناعة الهويات؟
«عودة داعش» هو العنوان الرئيسي في الصحافة واستوديوهات الأخبار
المفتوحة على مدى 24 ساعة، لجمهور يلتهم « عاجل» الأخبار. جمهور لم يعد
قادرا على هضم التحليل وتمحيص ما يُقدم إليه وبالتالي التساؤل،
باستثناء ما هو جاهز، غالبا، لفرط تعوده على استهلاك وجبات الأكل
السريعة وما تخلقه من حالة خدر جسدي وفكري.
عراقيا، وإلى حد كبير، عربيا وعالميا، طُمر سؤال مهم: هل غادرنا تنظيم
داعش (الدولة الإسلامية) فعلا؟
إذا بقينا في العراق، نموذجا، سنجد عند إزالة طبقات الفساد السياسي
والإداري الذي نجح في التسرب إلى مختلف شرائح المجتمع، تدريجيا، ووصوله
الذروة المستدامة منذ احتلال العراق عام 2003، جواب هذا السؤال مدفونا،
عميقا، في خضم تلاعب ومناورات طبقة سُراق تبنتها قوى الاحتلال لتحكم
بالنيابة. ولا تخلو الساحة من إعلاميين عملوا على أدلجة التغييب
والاستحضار، عند الضرورة، وفق المتغيرات السياسية في الداخل والخارج.
الحقيقة التي عمل الساسة العراقيون، بدعم المتنازعين على غنيمة العراق،
على طمرها، هي أن تنظيم داعش (الدولة الإسلامية) هو وليد الاحتلال
الانكلو أمريكي، بإجماع عربي قلما حظيت به قضية فلسطين، ضد الاحتلال
الصهيوني، طوال عقود المقاومة. كانت فترة الحمل قد بدأت مع حملة
التهيئة للغزو وشرعنتها قانونيا. هكذا جلس كولن باول، وزير الخارجية
الأمريكية، في شباط/ فبراير 2003، في الأمم المتحدة، ليقدم سردية خطر
أسلحة الدمار الشامل وإرهاب القاعدة في العراق، التي وصفها فيما بعد
بأنها كانت أحد أكثر إخفاقاته جسامة وكان لها تأثير واسع النطاق. هز
الحاضرون، من ممثلي الحكومات، يومها، رؤوسهم موافقين. فصارت الكذبة
حقيقة لا يمكن التشكيك بها. وشهادة ميلاد لتنظيم مستقبلي، ستنمو الحاجة
إليه بمرور الوقت، ومع تصاعد نشاط المقاومة ضد الاحتلال. وهل هناك ما
هو أفضل من تأطير وتقديم المقاومة بشكل مشوه، يجمع ما بين منظمات تم
صرف ملايين الدولارات على تغطية وجودها وإرهابها، إعلاميا ومخابراتيا،
بمسميات القاعدة ـ الإرهاب السني، في العقد الأول من الاحتلال، ومن ثم
داعش عند إعلان ميلاده الرسمي في 2014.
ظهور واختفاء التنظيمات، لا يعني أنها وليدة حاجة القوى الخارجية فحسب
بل إنها، أيضا، وليدة عوامل أساسية أخرى يتم تجاهلها أو تغييبها،
عموما، ومن بينها الظلم، والغضب الشعبي
في الوقت الذي قد تبدو فيه توليفة خلق وصناعة «التنظيمات الإرهابية» من
قبل قوى خارجية (السي آي أي مثلا) منطقية، لأنها تتماشى مع العقلية
والسياسة الاستعمارية، إلا أنها تحمل، في الوقت نفسه، ما يلقي بظلال
الشك على صحتها المطلقة. إذ لا يكف التاريخ عن تذكيرنا بأن ظهور
واختفاء التنظيمات، على اختلاف أنواعها، في مناطق الحروب والاحتلال، لا
يعني أنها وليدة حاجة القوى الخارجية/ الاحتلال، وصناعتها فحسب بل
أنها، أيضا، وليدة عوامل أساسية أخرى يتم تجاهلها أو تغييبها، عموما،
ومن بينها الظلم، والغضب الشعبي، وعدم الاستقرار، وهيمنة نزعة
الانتقام، والبيئة غير الصحية للحياة الإنسانية بشكل عام، وتنامي طبقة
تحترف الاستغلال المادي والبشري. كما يجدر التذكر، أيضا، أن إصدار حكم
مطلق، بقدرة أمريكا مثلا على إنجاز كل ما تطمح إليه، يعني في الواقع
إلغاء دور الشعب، وحتى وجوده، بتاريخه وحاضره وتناقضاته وتعدد مستويات
نضاله. وهو موقف يؤدي الايمان به، ونشره إلى ترسيخ مفهوم العبودية
والإحباط والعجز عن اتخاذ أية بادرة فردية أو جماعية في مسيرة النضال
من أجل الحرية. فيكون البديل، لدى البعض، ومع تهيؤ الأرضية لاستقبال
أية بذرة، هو الانصياع إلى قوى، قد تكون من داخل المجتمع او خارجه،
تُقدم للمرء ما يفتقده في حياته اليومية بل وتعده بمغفرة وفردوس،
يمتدان أبعد من الحياة نفسها، مهما فعل. تجّسد البديل، المُستثمر في
العراق لـ « العودة» وتنفيذ العمليات، بين الحين والآخر، بعد إستنزاف
كرنفال النصر عليه، بتنظيم داعش ووجهه الآخر المُسمى الحشد الشعبي.
كانت تكلفة إعلان تأسيس الدولة الإسلامية وما ارتكبته من جرائم ضد
المدنيين، وتكلفة دحرها، خاصة بواسطة الهجمات الجوية الأمريكية، التي
بلغت 50 ألف طلعة جوية عام 2016 على مدينة الموصل لوحدها، بالإضافة إلى
حملات انتقام الحشد الشعبي، خسارة فادحة في الأرواح والتخريب العمراني،
يبين مدى قدرة الإنسان على السلوك الوحشي والتدمير بمواجهة « الآخر».
إن « عودة داعش» المُعلن عنه حاليا، كما خلال الأعوام الماضية، ضروري
لعديد الحكومات العربية والعالمية. فهو الغطاء الجاهز الذي طالما
استخدم في العراق لتبرير آلاف الاعتقالات وحالات التهجير والاختفاء
القسري، ناهيك عن التعذيب في معتقلات متناثرة على وجه العراق كالدمامل
الصديدية، المُهددة بالانفجار. وهو الجدار العازل الذي تستخدمه الدول
الأوروبية للحد من وصول المهاجرين إليها، وفرض قوانين عنصرية ضد
المسلمين، بينما تواصل الولايات المتحدة الأمريكية إما تنفيذ عمليات
خاصة يُعلن عنها باسم داعش أو خلق أزمات سياسية تستدعي تمديد بقائها،
في البلدان المتواجدة قواتها العسكرية فيها، بذريعة التدريب والاستشارة
والتعاون.
وإذا تغاضينا عن الأسباب الأساسية التي تؤدي إلى بقاء تنظيم داعش حيا
سواء تحت هذا الاسم أو غيره، ورضينا بأن جهاز الاستخبارات الأمريكية
صنّعَه، كما الوحش في المختبرات، لإعطاء الخوف وجهاً، وإرهاب الشعوب
فإن علينا أن نتقبل، أيضا، حقيقة أن أول ما يفعله الوحش المخلوق في
فضاء مختبري، هو الثورة على خالقه.
كاتبة من العراق
هل يوقف مليون
توقيع تكريم مجرم حرب؟
هيفاءزنكنة
يقول رئيس حزب العمال سير كير ستارمر أن السيد بلير يستحق أن ينال وسام
الفروسية، ولقب «سير» الذي منحته إياه الملكة، أخيرا، وهو الأعلى
تكريما في المملكة المتحدة، لأنه «جعل بريطانيا دولة أفضل». بالمقابل،
يقول ما يزيد على المليون مواطن بريطاني (بضمنهم من أصول عربية
وإسلامية) وقعوا على عريضة تطالب بسحب تكريمه من قبل الملكة، أنه «مجرم
حرب». يوافقهم الرأي عدد من الصحف التي تصدرتها عناوين على غرار «تكريم
توني بلير؟! يجب أن يُحاكم بسبب الكارثة في العراق». تساهم منظمة
«أوقفوا الحرب» البريطانية، وهي الأكثر شهرة في مناهضتها سياسة الحكومة
البريطانية الخارجية في شن الحروب والتوسع الإمبريالي، منذ إعلان
أمريكا « الحرب على الإرهاب» وغزوها أفغانستان والعراق، في حث الناس
على الاحتجاج ضد التكريم.
ما نعرفه جميعا، هو أنه وعلى الرغم من صرخة الاحتجاج العالمية المناهضة
للحرب، وعلى الرغم من مشاركة مليوني مواطن بريطاني في أكبر مسيرة
احتجاجية شهدتها بريطانيا على الإطلاق، وهي الأولى من نوعها التي
يتظاهر فيها الناس على حرب قبل شنها، اختار بلير تجاهل المحتجين وبدأ
الحرب. بتهم مفبركة، تم فضحها للعموم بعد الغزو، وتثبيت القدم الأنكلو
أمريكية على الأراضي والموارد العراقية، وتحطيم الدولة وتحييد الموقف
العراقي المبدئي من القضية الفلسطينية. مما يضعنا أمام أسئلة مهمة حول
أهمية المبادرات الشعبية للضغط على الحكومات أو الجهات المتنفذة لتغيير
سياستها تجاه قضية معينة. فهل سينجح الموقعون على العريضة الآن في
الضغط على رئيس الوزراء، وهو من حزب المحافظين، لكي يحاول إقناع الملكة
سحب تكريمها لتوني بلير؟ وما هو عدد المواطنين الذين يجب أن يوقعوا
ليكون لصوتهم تأثير حقيقي؟ وهل من أمل بتغيير القرار الملكي؟ وإن لم
يحدث ذلك، يواجهنا السؤال الأهم وهو ما جدوى توقيع العرائض؟
يبدو الأمر مستحيلا من ناحية الضغط على الملكة لتغيير قرارها بتكريم
بلير فهو متعلق، أساسا، بتقليد ملكي بريطاني مفاده أن يحصل رؤساء
الوزراء السابقون على وسام الفروسية، مهما كان حزبهم أو سياستهم
الداخلية أو الخارجية. بل غالبا، ما يُقاس نجاح رئيس الوزراء وحكومته
بمقياس السياسة الخارجية المبنية على ما تحققه من رفاه اقتصادي للبلد،
وهل هناك ما هو أكثر ربحا من الصناعات المرتبطة بالحروب والاستيلاء على
موارد الدول التي تنهشها الحروب والنزاعات، بأنواعها، أي ما أنجزه
بلير؟
على الرغم من صرخة الاحتجاج العالمية المناهضة للحرب، وعلى الرغم من
مشاركة مليوني مواطن بريطاني في أكبر مسيرة احتجاجية شهدتها بريطانيا
على الإطلاق، اختار بلير تجاهل المحتجين
من هذا المنظور التوسعي الإمبريالي، من غير المعقول قيام الملكة بسحب
التكريم، خاصة، وأن هذا سيعني، بالضرورة، الاعتراف بأن توني بلير مجرم
حرب أو على الأقل محاكمته، لأنه قرر شن حرب ألحقت الضرر ببريطانيا
نفسها وليس العراق. ومن الصعب، أيضا، إثبات إلحاقه الضرر ببريطانيا
كدولة لأن الشعب البريطاني أعاد انتخابه في الفترة التالية لغزو
واحتلال العراق، في الوقت الذي كانت جيوش الاحتلال تتلقى الضربات من
المقاومة العراقية. مما يمكن ترجمته، على أرض الواقع، أن توني بلير نجح
في استقطاب المشاعر «الوطنية» للدفاع عن جنود بريطانيا المدافعين عن
«القيم الديمقراطية» وحماية بريطانيا من خطر سيستهدفها خلال 45 دقيقة،
حسب تعبير بلير.
توصل تقرير اللورد تشيلكوت حول حرب العراق، بعد تحقيق دام سبع سنوات،
إلى استنتاجات شككت بمصداقية ادعاءات بلير، خاصة حول الخطر المهدد
للشعب البريطاني، إلا أنه توقف عند ذلك الحد، ولم يتجاوزه ليتم تقديم
بلير للمحاكمة لمساهمته في شن حرب سببت مقتل مليون عراقي و179 جنديًا
بريطانيًا، وأدت إلى تأسيس تنظيم الدولة الإسلامية وديمومة العنف
المستدام في العراق اليوم. من بين الاستنتاجات التي توصل إليها التقرير
أن الرئيس العراقي لم يشكل تهديدًا عاجلاً للمصالح البريطانية، في وقت
غزو العراق عام 2003، ولم تثبت المعلومات الاستخباراتية، بلا شك، وجود
أسلحة دمار شامل، وكانت هناك بدائل للحرب لم يُستنفد النظر فيها مما
سبَّب قتل جنود بريطانيين ومئات الآلاف من العراقيين.
لم، إذن، لا يُحاكم توني بلير كمجرم حرب، أو على الأقل لم لا يتم سحب
تكريمه الملكي؟ جوابا على السؤال الثاني الذي يصح على السؤال الأول
أيضا، يقول الصحافي ومقدم البرامج البريطاني جيريمي كلاركسون أن توقيع
مليون شخص على عريضة للمطالبة بسحب وسام التكريم من بلير، في بلد مجموع
سكانه 70مليونا، يعني أن 69 مليونًا لم يفعلوا، على الرغم من أن توقيع
العريضة، إلكترونيا، لا يتطلب جهدا. بمعنى آخر أنهم إما لا يرغبون بذلك
أو أنهم لا يهتمون بالمسألة كلها. ويوضح كلاركسون بأن الطريقة الواقعية
الوحيدة لمنع بلير من الحصول على التكريم هي إجراء استفتاء رسمي عام
حول هذه المسألة. ولكن بعد كارثة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي،
لا يبدو في الأفق ما يشير إلى حدوث ذلك.
هل يقودنا هذا الاحساس المسبق بالفشل إلى عدم المشاركة في أية مبادرة
جماعية للتغيير؟ هناك من النجاحات، على قلتها، ما يدحض « قدرية» الفشل.
ففي 10 أكتوبر / تشرين الأول 1998، مثلا، أُلقي القبض على الدكتاتور
التشيلي بينوشيه بتهمة «الإبادة الجماعية والإرهاب التي تشمل القتل»
أثناء زيارته للندن بالذات، بموجب مذكرة توقيف نجح ناشطون حقوقيون في
تفعيلها، مستفيدين من مبدأ سلطة القضاء العالمية، الذي يسمح للدول
بمتابعة القضايا التي تنطوي على أعمال تعذيب وإبادة جماعية وغيرها من
الجرائم ضد الإنسانية دون النظر إلى المكان الذي تم ارتكاب الجريمة
فيه، وبغض النظر عن جنسية مرتكبي تلك الجرائم أو جنسيات ضحاياهم. وألغى
موشيه يعالون، نائب رئيس وزراء الكيان الصهيوني، في تشرين الأول/
أكتوبر 2009، رحلة إلى بريطانيا خشية اعتقاله بتهمة ارتكاب جرائم حرب
ضد الفلسطينيين. وفي كانون الثاني 2010، ألغت الوزيرة الإسرائيلية
السابقة تسيبي ليفني زيارتها إلى بريطانيا بعد صدور مذكرة توقيف بحقها.
والمعروف أن توني بلير لم يعد يجرؤ على السير في شوارع بلده بريطانيا
تفاديا لغضب الناس. ومن يدري، مع تغير موازين القوى العالمية والمحلية،
قد تتمكن مجموعة حقوقية عراقية بريطانية مثابرة من تقديمه للمحاكمة، في
المستقبل القريب، كمجرم حرب مهما كان لقبه.
كاتبة من العراق
جدوى عرائض الاحتجاج
من الغارديان إلى أسانج
هيفاء زنكنة
عريضتان تم تداولهما في الأسبوع الماضي عبر كل أنواع التواصل
الاجتماعي. رافقهما طلب التوقيع بسرعة لتحقيق الغرض من العريضتين. كانت
العريضة الأولى احتجاجا على موقف صحيفة «الغارديان» البريطانية التي
نشرت نعي رئيس أساقفة جنوب أفريقيا ديزموند توتو (في 26/12/2021)
المعروف بنضاله الدؤوب ضد الاضطهاد والعنصرية بجميع أنواعها، وضد
ممارسة الفصل العنصري على وجه الخصوص. ومع ذلك، اختارت الصحيفة حذف
انتقادات توتو المتكررة لسياسات الفصل العنصري الإسرائيلية التي شبهها
بسياسة النظام العنصري في جنوب أفريقيا سابقا. ذكرت العريضة أن الحذف
لم يكن سهوا بل سياسة متعمدة. مما يفتح الباب أمام افتراض أن صحيفة «
الغارديان» ترى الآن أن أي إشارة إلى طابع الفصل العنصري للسياسات
الإسرائيلية معاد للسامية. ويقود إلى خلاصة منطقية تنص على «أن وجهة
نظر الصحيفة الآن هي أن ديزموند توتو، الذي رأى أن القمع الإسرائيلي
للفلسطينيين كان أسوأ من الفصل العنصري في جنوب إفريقيا (كما كتب
لصحيفتك في عام 2002) كان معاديًا للسامية». طالبت العريضة بتصحيح
التحريف وتقديم اعتذار لعائلة توتو ولقراء الصحيفة. فهل نجحت العريضة
التي وقعها آلاف الناس وممثلو منظمات حقوقية، بضمنها يهودية مناهضة
للنظام الصهيوني العنصري، وأخرى تمثل اليهود داخل حزب العمال، تزامنا
مع رسالة وجهتها منظمة «حملة التضامن الفلسطينية» إلى الغارديان، في
تحقيق ما هدفت إليه؟ وهل لأسلوب توقيع العرائض أو الالتماس العام،
كأسلوب ضغط مجتمعي لتغيير سياسة ما، فائدة تُرجى أم أنه مضيعة للوقت
وامتصاص للنقمة والغضب؟
كان رد فعل الصحيفة سريعا إذ قامت بنشر مقال يتناول دعم توتو لحقوق
الفلسطينيين كما أعادت نشر التعليقات المحذوفة على مقالها، واعترفت
بشكل خاص بأنه ما كان ينبغي حذفها، إلا أنها لم تعتذر، كما لم تنشر
الرسالة الموقعة من قبل أكثر من 30 شخصية بارزة بما في ذلك العديد من
الذين كانوا نشطين في النضال ضد الفصل العنصري في جنوب أفريقيا. رحبت «
حملة تضامن فلسطين» بنشر المقال وتنفيذ طلبها الرئيسي وهو إعادة نشر
التعليقات، وفي الوقت نفسه كتبت الى الصحيفة ثانية مطالبة إياها بتجنب
ما حدث مستقبلا جراء الخضوع للوبي الصهيوني. يدل تراجع الصحيفة، وهي من
الصحف المؤثرة عالميا، أن استخدام مستويات متعددة، من ضمنها توقيع
العرائض وكتابة الرسائل والتعليقات، يضمن حراكا شعبيا مؤثرا وقوة ضغط
لا يستهان بها سياسيا، إن تم إجراؤها بشكل صحيح. صحيح أنها قد لا تؤدي
دائما إلى تحقيق النتائج المتوخاة كلها بل جزء منها أو لا تحقق شيئا
أحيانا، إلا أن مجرد الاطلاع على فحواها ومتابعتها وحث الآخرين على
المشاركة هو سيرورة توعية وتنظيم، في داخل البلد الواحد أو عابرة
للحدود، للتعبير عن حق الفرد في التغيير السياسي والمجتمعي.
استخدام مستويات متعددة، من ضمنها توقيع العرائض وكتابة الرسائل
والتعليقات، يضمن حراكا شعبيا مؤثرا وقوة ضغط لا يستهان بها سياسيا، إن
تم إجراؤها بشكل صحيح
العريضة الثانية ألتي تستحق وصفها بأنها عابرة للقارات، هي الداعية إلى
إطلاق سراح الصحافي جوليان أسانج. والمعنونة «حرروا جوليان أسانج قبل
فوات الأوان. قم بالتوقيع على وقف تسليم المطلوبين للولايات المتحدة
الأمريكية». تهدف العريضة إلى منع مأسسة سابقة قانونية ستؤدي إلى تسليم
صحافي غير أمريكي فضح جرائم الحرب الأمريكية إلى الحكومة الأمريكية.
والمعروف أن أسانج، مؤسس ويكيليكس، قد نشر ملايين الوثائق السرية ألتي
كشفت جرائم أمريكا أثناء غزو واحتلال أفغانستان والعراق، وبعدها. وهو
معتقل ببريطانيا، حاليا، إلا أن أمريكا تطالب بتسليمه إليها ليواجه
عقوبة السجن 175 عامًا وإعدامًا محتملًا. وكانت المحكمة العليا في لندن
قد حكمت في 10 ديسمبر/ كانون الثاني 2021 لصالح الإدارة الأمريكية
بتسليم أسانج بناء على تأكيدات تلقتها من أمريكا حول ضمان سلامته.
استأنف فريق الدفاع عن أسانج الحكم استنادا إلى هذه النقطة هذه المرة.
إلى جانب كل تصريحات المنظمات الحقوقية الدولية، والشخصيات العالمية،
ومنتديات الصحافة المتضامنة مع أسانج، باعتباره صحافيا لم يرتكب أية
جريمة بل مارس عمله، وفق حرية التعبير، في إطلاع الرأي العام على جرائم
حرب ارتكبتها الحكومات المضللة له، بات للعريضة الملتمسة إطلاق سراحه
مكانتها. إذ وقعها حتى العاشر من آب (أغسطس) 2021، حين تم تقديمها إلى
المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية 619،900 توقيع، جنبًا إلى جنب
مع أكثر من 570.000 موقع على الالتماس للمحكمة الجنائية الدولية (ICC)
في 15 يناير 2021. وهي أكبر عريضة قُدمت إلى المحكمة الجنائية الدولية
على الإطلاق منذ إنشائها، هادفة إلى إطلاق سراح أسانج والتحقيق في
حالات التعذيب النفسي التي تعرض لها. وكانت المحكمة الجنائية الدولية
قد حددت التعذيب النفسي بأنه يشكل «جريمة ضد الإنسانية». وتدفع
العريضة، أيضا، بمقاضاة «الموظفين الحكوميين» من المملكة المتحدة
والسويد والإكوادور وأستراليا، الذين يُزعم مشاركتهم في خلق وضع أخضع
أسانج عن عمد للتعذيب النفسي، على الرغم من التصريحات العلنية التي
أدلى بها المقرر الخاص للأمم المتحدة المعني بالتعذيب والتي خلصت إلى
أن جوليان أسانج قد تعرض لمعاملة قاسية ومهينة، أدت إلى حالة تعذيب
نفسي تم التحقق منه على النحو المحدد في تنفيذ الاتفاق المعترف به
دوليًا.
يُحذر كُتاب العريضة من أن السماح بتسليم جوليان أسانج، بسبب نشره
وثائق من أجل الصالح العام، «من شأنه أن يضع كل امرأة وطفل ورجل في
المجتمع الغربي تحت حكم استبدادي خارج الحدود الإقليمية للولايات
المتحدة. يثبت التاريخ أن هذا يؤدي دائمًا إلى الديكتاتورية الوحشية
التالية التي ستغتال أو تَعدم أو تُسكِت بشكل دائم أي شخص ينشر
دليلايفضح إجرام «السلطات».
لقد أثبتت الأيام الأخيرة أن لحملات الضغط، بضمنها توقيع العرائض، حظها
من النجاح كما في حملة التضامن مع فلسطين، فهل ستنجح أصوات مئات الآلاف
من الموقعين على عريضة الصحافي أسانج، في إيقاف تسليمه إلى شرطي العالم
أمريكا؟ سترينا الأسابيع المقبلة النتيجة، وهي وإن لن تحقق المطالب،
ستؤكد أن أسانج ليس إنسانا فريدا من نوعه في الدول الامبريالية، بل
هناك المزيد من أمثاله يتكاثرون في بطن الوحش، خصوصاً وأن أمثاله
يتمتعون بدعم عابر للأوطان والتيارات السياسية على إختلافها.
كاتبة من العراق
ترنيمة حب للصديق
الراحل ديزموند توتو
هيفاء زنكنة
حين اجتمعنا في تضامن المرأة العراقية، لاطلاق مبادرة « شهر التضامن مع
العراق» بعد مرور 15 عاما على احتلال وطننا، لم نتردد كثيرا في اختيار
ما نستهل به ديباجة المبادرة.
كانت صورة ديزموند توتو، رئيس أساقفة جنوب إفريقيا وناشط السلام
المخضرم الذي فاز بجائزة نوبل للسلام عام 1984 تقديراً لحملته ضد الفصل
العنصري، ماثلة أمام أعيننا، صديقا رافقنا في رحلة استغرقت سنوات فرض
الحصار الهمجي على العراق (كما غزة اليوم) مدة 13 عاما، وفي مناهضة
الغزو والاحتلال الأنكلو أمريكي. رافقنا، أيضا، في تعرية نظام الاحتلال
الصهيوني لفلسطين، بعد زيارته للأراضي المقدسة في عام 2002، في مقاربة
قلما تجرأ أحد على استخدامها أمام اللوبي الصهيوني في أمريكا، واصفا
إياه بأنه نظام فصل عنصري، وكيف إنه رأى «إذلال الفلسطينيين عند نقاط
التفتيش وحواجز الطرق» كما كانت معاناة السود، في بلادهم، عندما كان
ضباط شرطة شباب من البيض يمنعونهم من التحرك. مضيفا « أن إسرائيل لن
تنال أبدًا الأمن والسلامة الحقيقيين من خلال قمع شعب آخر». وتفنيدا
لتهمة معاداة السامية الجاهزة، قال إن انتقاده للحكومة الإسرائيلية لا
يعني أنه معاد للسامية. كما أنه ليس معاديا للبيض» على الرغم من جنون
تلك المجموعة».
أردنا، في مبادرتنا الهادفة إلى التذكير بالظلم الذي سببه غزو العراق،
شخصا يجمع بين الإنسانية وحب الحياة، يتحدث لغتنا، لغة التضامن
والمساواة، لا على المستوى الفردي أو مستوى البلد الواحد الذي ينتمي
إليه الشخص فقط، فهذه ميزة شائعة بين السياسيين بحجة التأهل للمنصب
«السياسي الجيد» بل من يحتضن كل البلدان المقهورة ليحقق حرية بلده،
لأنه يعرف جيدا معنى القهر والظلم والتمييز، لأنه ناضل طوال حياته
ليتخلص من طعم العبودية والتمييز العنصريين، واثقا من إشراقة الشمس بعد
ليل طويل. وهل هناك ما هو أكثر إنسانية من أن ترى نفسك في روح إنسان.
لهذا اخترنا كلمات ديزموند توتو لتكون في المقدمة. لا لأنها عبرت عن
موقفه المناهض لغزو واحتلال العراق فقط، بل لأنه تمكن، ببصيرته
الأخلاقية أن يرى أبعد من كثير من القادة والحكام وحتى المثقفين (ضمنهم
عراقيون) وأن يستشف اكذوبة القوة العظمى المتمثلة بتصريحات الساسة
والتزوير الإعلامي، وخطرهما على العالم كله، قائلا: « إن لا أخلاقية
قرار الولايات المتحدة وبريطانيا العظمى بغزو العراق في عام 2003، على
أساس كذبة أن العراق يمتلك أسلحة دمار شامل، قد أدت إلى زعزعة استقرار
العالم واستقطابه إلى حد أكبر من أي صراع آخر في التاريخ «. أيامها،
شارك ملايين الناس، من جميع أنحاء العالم، ديزموند توتو إدانته لشن
الحرب على العراق، متظاهرين ولأول مرة في التاريخ، ضد حرب قبل وقوعها.
ديزموند توتو يعرف جيدا معنى القهر والظلم والتمييز، لأنه ناضل طوال
حياته ليتخلص من طعم العبودية والتمييز العنصريين، واثقا من إشراقة
الشمس بعد ليل طويل
ولم يكتف بتصريحاته وتحذيره بريطانيا وأمريكا في الفترة التي سبقت شن
الحرب العدوانية بل واصل نشاطاته المناهضة للسياسة الامبريالية وهو
يرصد عمق الخراب الذي سببه الاحتلال، وتزايد عدد الضحايا الأبرياء.
صارخا بلغة تُذكرنا بأنه رجل دين» أين الرحمة، أين الأخلاق، متى تأتي
الرعاية؟».
ويأتي موقف توتو كناشط حقوقي ورجل دين، في آن واحد، مماثلا لعدد كبير
من رجال الدين المنتمين إلى الكنيسة الكاثوليكية في أمريكا اللاتينية
(على الرغم من أنه لم يكن كاثوليكيا) الذين لعبوا دورا رئيسيا في حركات
التحرير والنضال من أجل حقوق سكان الريف والفقراء، والضغط على الكنيسة
لمواجهة دورها في انتهاكات حقوق الإنسان ألتي ارتكبت أثناء حقبة
الاستعمار. ففي سنوات الحكم العسكري الدموي للجنرال بينوشيه في تشيلي،
مثلا، كان الكهنة الناشطون أعلى صوت للمعارضة ومن قادوا الجهود للبحث
عن الأشخاص المختفين قسراً. وانضم القس كاميلو توريس ريستريبو، رائد
لاهوت التحرير في كولومبيا، إلى جيش التحرير الوطني اليساري، حيث ساهم
في حرب العصابات وقُتل في عملية خاصة وصادر الجيش جثته، ولايزال موقع
دفنه مجهولا حتى اليوم. وقد ألهم فكره أجيالامن الحركات والمنظمات
الاجتماعية.
في أغسطس/ آب 2012، إنتقل ديزموند توتو إلى مستوى آخر من النشاط، حين
رفض مشاركة توني بلير المنصة في قمة قادة للاستثمار، في جوهانسبورغ،
محاججا بأن قرار بلير دعم الغزو العسكري للولايات المتحدة للعراق، على
أساس مزاعم غير مثبتة بوجود أسلحة دمار شامل فيه، أمر لا يمكن الدفاع
عنه أخلاقيا. وبما أن محور القمة هو القيادة، فإن الأخلاق والقيادة غير
قابلين للتجزئة. وسيكون من غير المناسب ولا يمكن الدفاع عن رئيس
الأساقفة مشاركة منصة مع السيد بلير، حسب بيان لمكتب توتو.
وفي ديسمبر/ كانون الأول 2012، رافعا إصبعه محذرا من غضب الشعوب،
المتطلعة للحرية، أينما كانت، وواقفا بصلابة من أجل العدالة مهما كانت
سلطة الظالم وقوته العسكرية، أو جنسه أو لونه، إلتفت رئيس الأساقفة إلى
الجانب القانوني، مطالبا بتقديم الرئيس الأمريكي جورج بوش ورئيس
الوزراء البريطاني توني بلير للمحاكمة كمجرمي حرب في لاهاي. «لأنهما
قاما باختلاق الأسباب للتصرف مثل المتنمرين في الملعب لتفريقنا. لقد
دفعونا إلى حافة الهاوية حيث نقف الآن – مع شبح سوريا وإيران امامنا.
بالإضافة إلى عدد القتلى نتيجة العمليات العسكرية منذ عام 2003… على
هذه الأسس، في عالم متوازن، يجب أن يسلك المسؤولون الغربيون نفس المسار
الذي سلكه بعض أقرانهم الأفارقة والآسيويين الذين أجبروا على تحمل
مسؤولية أفعالهم في لاهاي».
بقي ديزموند توتو، طوال حياته، مؤمنا بقدرة الشعوب على تحقيق العدالة
المنشودة التي تليق بنضالها، في جميع أنحاء العالم، بضمنها فلسطين
والعراق، مذكرا من يشكك بالأمر أن «حكومة الفصل العنصري كانت قوية
للغاية، لكنها لم تعد موجودة اليوم… وأن هتلر وموسوليني وستالين
وبينوشيه وميلوسيفيتش وعيدي أمين كانوا جميعًا أقوياء، لكنهم في
النهاية سقطوا وأكلوا التراب «.
كاتبة من العراق
لماذا يتصدّر العراق
قوائم الدول «الأسوأ» في العالم؟
هيفاءزنكنة
لم يعد الدمار الذي ألحقه الإنسان بالبيئة خافيا على أحد، بعد أن بدأت
الطبيعة توجه ضرباتها الموجعة إليه، بعد عقود من تحذيرات العلماء
بالمستقبل الكارثي الذي يستوجب حلولا جذرية سريعة. لم يعد هناك مجال
للمماطلة والتسويف إزاء الأعاصير والفيضانات وإرتفاع درجات الحرارة،
والتصحر، وجفاف الأراضي الزراعية، والحرائق المهددة للغابات، وتزايد
الغازات وتلوث الهواء.
وصلت أخطار التغير المناخي، في الأعوام الأخيرة، إلى قمة المشاكل
والشغل الشاغل لمعظم الدول، سواء في العالم الأول أو الثاني أو الثالث.
فأمام غضب الطبيعة تشهد الحدود الفاصلة بين البلدان انهيارا، تزداد
سرعته في بلدان العالم الثالث بشكل خاص. صحيح أن الانعكاسات الكارثية
باتت تمس الجميع إلا أن دول العالم الثالث، الدول العربية من بينها،
تتحمل عبأها الأكبر. لا لأن غضب الطبيعة ينتقيها دون أمريكا وأوروبا
مثلا، ولكن لأسباب داخلية وخارجية متراكمة، تتفاعل من خلالها الكوارث،
طبيعية كانت أو من صنع الإنسان، لتزيد من تأثير وحجم أية أزمة تصيب أهل
البلد.
ويشكل العراق، مع فلسطين، نموذجا واضحا للأزمة البيئية الناتجة عن
صناعة الحرب والاحتلال والسياسات الاستعمارية الجديدة في العالم
العربي، المؤدية إلى تقويض الأساس الاجتماعي والاقتصادي للحياة في
المنطقة. تظهر آثار هذه الأزمة البيئية في تغير المناخ المدمر، وتلوث
الصناعات الاستخراجية، واستنفاد الموارد الطبيعية، وندرة المياه، وتلوث
الهواء والتربة جراء استخدام الذخيرة الحديثة، كاليورانيوم المنضب،
والفوسفور الأبيض، كما في العراق وغزة. وتشير التقديرات إلى أن الحرب
ضد العراق سببت إطلاق 141 مليون طن متري من ثاني أكسيد الكربون، بين
عامي 2003 و2007، أي أكثر من 60 بالمئة من جميع دول العالم.
على الرغم من توفر هذه المعطيات وتوثيقها من قبل منظمات حقوقية دولية،
وكون الوضع البيئي الداخلي مرتبطا، إلى حد كبير، بالعالم الخارجي، بقي
العراق، حتى الأشهر الأخيرة، في أسفل الاهتمامات الحكومية والشعبية.
ولا يكاد يُذكر إلا كهامش في المؤتمرات الدولية أو ضمن قوائم الدول «
الأسوأ» في التقارير والاحصائيات الصادرة عن منظمات الأمم المتحدة
وغيرها من المنظمات المعنية بالبيئة وانعكاساتها الاقتصادية
والمجتمعية. حينئذ فقط، والحق يقال، غالبا ما ينجح في إحراز مكانة
متقدمة لا يضاهيه فيها أحد.
فالعراق مستقر في موقع متقدم في قائمة الدول الأكثر فسادا في العالم،
ويتصدر قائمة الدول العربية الأكثر فسادًا. مما جعل حتى الرئيس العراقي
برهم صالح، عاجزا عن تغطية حجم الخسارة المالية التي تسبب بها الفساد
في البلاد على مدى سنوات. وأعترف بأن العراق خسر عشرات، او مئات
مليارات الدولارات، إضافة إلى 150 مليار دولار هُرِّبت من الصفقات إلى
الخارج منذ 2003، وهو رقم يبدو أصغر من أرقام تختلط فيها التريليونات
مع المليارات والملايين، كما يختلط الدينار والدولار.
لفهم الكارثة البيئية الحالية في العراق، من الضروري النظر في الوضع
السياسي وخاصة تجزئة الدولة بين تكتلات سياسية، تتنازع إلى حد الاقتتال
فيما بينها، مما جرد الدولة من أية قوة وسلطة مركزية
ويُعد العراق من بين الدول الأكثر خطورة حسب مؤشر المخاطر الأمنية،
متنافسا مع ليبيا وسوريا واليمن والصومال ومالي وأفغانستان. استنادا
إلى جدولة حالة الحرب والمعلومات عن الإرهاب والاقتتال المجتمعي وحركات
التمرد والاضطرابات ذات الدوافع السياسية. وفاز العراق بلقب ثاني أكثر
دول العالم فتكًا بالصحافيين في عام 2020، حسب منظمة «مراسلون بلا
حدود» ولم تسلم بغداد الجميلة، ذات الحضارة العريقة، من ضمها الى قائمة
المدن الأقل نظافة في العالم لما تعيشه من إهمال في إعمار ما خرّبه
الاحتلال من مبان والبنية التحتية من المجاري والطرق وتصريف المياه
ومحطات تزويد الكهرباء.
وفي تقرير، أخير، لبرنامج البيئة التابع لمنظمة الأمم المتحدة، إحتل
العراق المرتبة الخامسة لأكثر دول العالم تأثرا بظاهرة تغير المناخ
والاحتباس الحراري في العالم. ويمكن تلخيص انعكاساته بنقص المياه
الصالحة للشرب والري، والتوظيف العشوائي للمياه الجوفية، وقلة المياه
في نهري دجلة والفرات جراء بناء إيران وتركيا السدود، خلافا للاتفاقيات
الدولية. مما سبّب ترك الزراعة والنزوح إلى المدن غير المهيأة أساسا
لاستقبال النازحين.
على الرغم من هذه التقارير، المرتبطة بالتغير المناخي والبيئي العالمي،
وانعكاساته على الحياة، بكافة جوانبها، في العراق، والتي دفعت منظمة
«المجلس النرويجي للاجئين» إلى التصريح، في الأسبوع الماضي، بأن نصف
سكان العراق تقريبا في حاجة إلى مساعدة غذائية في المناطق المتضررة من
الجفاف، لاتزال الحكومة أو بقاياها تتأرجح بين الفساد والاقتتال حول
نتائج الانتخابات الأخيرة، مستفيدة في الوقت نفسه من فرصة تزويق موقعها
إعلاميا، والانضمام إلى جوقة المنادين بتحسين البيئة، في المؤتمرات
الدولية، بدون إتخاذ أي إجراء حقيقي. كما فعل وزير البيئة العراقي عشية
انعقاد قمة غلاسكو المناخية والمعروفة بمؤتمر منظمة الأمم المتحدة
لتغير المناخ، حين اختار الحديث عن التداعيات الكارثية لتغير المناخ
على الأمنين الغذائي والمائي. ولم يشر الى القصور في تنفيذ البرامج
الإصلاحية والتنموية التي قلما يتم تنفيذها.
ولفهم الكارثة البيئية الحالية في العراق، من الضروري النظر في الوضع
السياسي وخاصة تجزئة الدولة بين تكتلات سياسية، تتنازع إلى حد الاقتتال
فيما بينها، مما جرد الدولة من أية قوة وسلطة مركزية تؤهلها لاعمار
البنية التحتية ووضع حد لنزاعات المحاصصة الطائفية والعرقية المنعكسة
على توزيع الموارد فضلا عن الفشل في إجبار الدول المجاورة على إحترام
حقوق العراق. وفي الوقت الذي صنّفت فيه « منظمة الأغذية والزراعة للأمم
المتحدة» العراق ضمن 44 بلدًا في حاجة لمساعدات خارجية مُلحة من
الغذاء.
هذه الحالة المأساوية معروفة الأسباب محليا وعالميا، فعدم تطبيق سبل
العلاج الناجعة (وما أكثر ما كُتب عنها) وبناء البدائل، بالإضافة إلى
تواطؤ الحكام المحليين سياسيا واقتصاديا مع منظومة الدول الامبريالية،
وتشجيع سياسة السكوت والاستسلام والرضا بالواقع المأساوي، بدلا من
الرفض والمقاومة، وتنامي الاحساس بالهوية الفرعية بديلا للوطنية، مسؤول
عن خلق مناطق النزاع حتى بين الضحايا، حيث تحتل النزاعات الاجتماعية
البيئية حول الأراضي والموارد وسبل العيش مركز الصدارة.
كاتبة من العراق
عن غيفارا وانسحاب
القوات الأمريكية من العراق
هيفاء زنكنة
ثلاثة أحداث تستحق التوقف عندها هذا الأسبوع، على الرغم من عشرات
السنين وآلاف الأميال التي تفصل بينها. الحدث الأول هو الإعلان العراقي
الرسمي عن «انتهاء المهمة القتالية لقوات التحالف وانسحابها من
العراق».
أثار الإعلان بدلا من الفرحة الشعبية العارمة بالتخلص النهائي من قوات
الاحتلال، ردود أفعال متباينة، إقتصرت على الأحزاب والميليشيات، مع
بقاء الشعب المُدرك لزيف ما يجري متفرجا، خاصة بعد أن صرح جون كيربي،
المتحدث باسم البنتاغون، بأن انتهاء المهمة القتالية في العراق لا يعني
انسحاب القوات الأمريكية من البلاد. وأنه «لن يكون هناك تحول
دراماتيكي» متمنيا للشعب العراقي « استمرار كفاءة وثقة قواتهم الأمنية
في ميدان القتال ضد داعش».
يشكل الحدث الثاني أو الأصح مناسبة ذكراه، الخلفية التي لم تفقد قدرتها
على إضاءة ما يجري، حاليا، من وقائع لتساعد على التحليل والفهم العميق،
من خلال ربطها مع بعضها البعض، بعيدا عن عقلية « الغيتو» السائدة، في
التحليل السياسي والاجتماعي والاقتصادي، عند النظر في واقع بلداننا.
وإذا ما حدث الربط فإنه لا يخرج عن محيط الربط ببلدان الاستعمار القديم
واستمراريتها بالنيوكولونيالية، والهيمنة الاقتصادية العالمية. فكل ما
يحدث، يُربط فورا بأمريكا وبريطانيا وفرنسا، مثلا، أما أفريقيا وأمريكا
اللاتينية وجنوب شرق آسيا والهند وحتى الصين، فإنها مجرد أماكن قلما
تُذكر إلا إذا حدث وانطلق منها، حسب وجهة نظر شرطة العالم، ما يُهدد «
أمنها».
الحدث الثاني هو الذكرى السنوية لخطاب تشي غيفارا، أمام الجمعية العامة
للأمم المتحدة في نيويورك – 11 ديسمبر/ كانون الأول 1964. الخطاب الذي
بات معروفا بجملته الأخيرة « الوطن أو الموت». الجملة التي لا يزال
الشباب يرددونها في فلسطين والعراق وبقية البلدان العربية وفي أرجاء
العالم، بمواجهة الاحتلال والقمع والاستغلال والهيمنة الإمبريالية.
شباب قد لا يعرفون شيئا عن خطاب غيفارا إلا أنهم يُدركون جيدا معنى
النضال من أجل الحرية والكرامة، الذي يتجاوز حدود الزمان والمكان،
للتمتع « بحياة جديدة والمطالبة بحقهم المطلق في تقرير المصير والتنمية
المستقلة لدولهم». وهنا تكمن قوة خطاب غيفارا وقدرته الساحرة على رؤية
ما هو أبعد من الآني في مختلف البلدان، بضمنها الدول الرأسمالية.
« كيف ننسى خيانة الأمل؟ «، جاء هذا التساؤل المرير في خطاب غيفارا عن
جريمة إغتيال القائد الأفريقي باتريس لومومبا، الذي وضع ثقته بالأمم
المتحدة. وهو تساؤل لا يزال يُطرح حول دور الأمم المتحدة الذي تريد
الإمبريالية تحويله « إلى بطولة خطابية لا طائل من ورائها، بدلاً من حل
مشاكل العالم الخطيرة».
للحركات الشعبية أدوات نضالية استحدثتها الأجيال الجديدة مع الإبقاء
على ذات القيم الإنسانية التي بقيت منغرزة بالوجود الإنساني عبر
تاريخه، بشرط الحفاظ على الوحدة الداخلية ، والإيمان بالعدالة، وذلك
التوق المستدام للحرية والكرامة والمساواة
يُضيء التساؤل الحدث الثالث الذي تصادف ذكراه هذه الفترة أيضا. ففي عام
2004، عاشت الفلوجة، مدينة المقاومة، وحشية قوات الغزو الامبريالي،
بأبشع صورها من القصف باليورانيوم المُنضَب وتدمير حوالي 70 بالمئة من
المدينة إلى قتل وجرح وتهجير الآلاف من السكان. ولم تكن قوات الاحتلال
لوحدها مسؤولة عن الجرائم بل شاركتها طبقة من المتعاونين العراقيين، من
« العبيد الاستعماريين». طبقة يُعرفّها غيفارا، بأنها تساهم في تجميل
صورة « الحضارة الغربية» المكونة في حقيقتها، من الضباع وابن آوى. « من
حيوان يتغذى على لحوم الشعوب العزّل. هذا ما تفعله الإمبريالية
بالرجال.» موضحا بأنه « ربما يعتقد العديد من هؤلاء الجنود، الذين
حولتهم الآلة الإمبريالية إلى أقل من البشر، بحسن نية أنهم يدافعون عن
حقوق جنس متفوق».
وتكاد الصورة التي رسمها غيفارا عن إستخدام المرتزقة في منطقة البحر
الكاريبي، في حقبة الستينيات من القرن الماضي، تنطبق بحذافيرها على
توظيفهم في العراق « يجب أن نلاحظ أن أخبار تدريب المرتزقة في أجزاء
مختلفة من منطقة البحر الكاريبي ومشاركة حكومة الولايات المتحدة في مثل
هذه الأعمال يتم تقديمها على أنها طبيعية تمامًا في الصحف في الولايات
المتحدة». كما تنطبق على ارتكابهم الجرائم بحق المدنيين بموافقة أو صمت
الساسة العراقيين، ومن قبلهم حكام أمريكا اللاتينية، مما يدل، تاريخيا
وحاليا، على « مدى الاستهانة التي تحرك بها حكومة الولايات المتحدة
بيادقها.»
هل صحيح أن التاريخ يُعيد نفسه بشكل كوميدي؟ أي تعريف للتاريخ ينطبق
على العراق؟ تُبين مراجعة حقبة الستينيات، بتعقيداتها السياسية
والاقتصادية، وما صاحبها من آمال كبيرة بإمكانية التغيير، عند مقارنتها
بالأوضاع الحالية، أن التاريخ مكون من صفحات / حقب، قد تكون منفردة الا
ان تراكمها كما التلة المكونة من طبقات أثرية، متراكمة على مر العصور،
تجعله يتشكل من خلال التراكم والتواصل المعرفي للمجموعات البشرية
والأجيال المتعاقبة. فلا غرابة أن تنقلنا مقولة الرئيس الكوبي الراحل
فيدل كاسترو «ضعوا حداً لفلسفة النهب وستنتهي فلسفة الحرب أيضاً « إلى
القرن الواحد والعشرين، لنجد ان فلسفة النهب لم تنته وخطاب الرأسمالية
الاحتكارية، المُشّجع لفساد الحكومات المحلية، أقوى من أي وقت مضى. كما
أنها لاتزال تتعامل مع التعايش السلمي كأنه « حق حصري لقوى الأرض
العظمى» يُفرض، وفق إرادتها، وبقوانين دولية تُطبق بشكل انتقائي. أما
الانتخابات « الديمقراطية» فهي « وهمية دائمًا تقريبًا ويديرها ملاك
الأراضي الأثرياء والسياسيون المحترفون» بالإضافة إلى كونها وسيلة
للمراوغة وكسب الوقت لضمان إنقياد الشعب لحكومة جديدة تم إختيارها سرا
« من أجل حرية مخصية للبلد».
لمواجهة هذا الواقع المحبط، بل ومتحدية إياه، هناك حركات شعبية عديدة
تنمو وتتكاثر، ليس في البلدان التي كانت خاضعة للاستعمار القديم،
ولاتزال بأشكاله الجديدة، بل وفي بطون ذات البلدان التي ولدت
الإمبريالية، خاصة، أمريكا. لهذه الحركات، أدوات نضالية استحدثتها
الأجيال الجديدة مع الإبقاء على ذات القيم الإنسانية التي بقيت منغرزة
بالوجود الإنساني عبر تاريخه، بشرط الحفاظ على الوحدة الداخلية ،
والإيمان بالعدالة، وذلك التوق المستدام للحرية والكرامة والمساواة
للجميع بلا تمييز.
كاتبة من العراق
اليوم العالمي لمناهضة العنف
ضد المرأة… جعجعة بلا طحين!
هيفاء زنكنة
بين اليوم العالمي لمناهضة العنف ضد المرأة في 25 نوفمبر / تشرين
الثاني واليوم العالمي لحقوق الانسان في 10 ديسمبر/ كانون الأول، ولدت
حملة 16 يوما لمناهضة العنف ضد المرأة، حيث تقام في عديد البلدان، في
أرجاء العالم، ندوات وفعاليات تجمع بين الاستنكار والمطالبة، أما بشكل
رسمي أو من قبل منظمات المرأة خاصة. وإذا كانت مشاركة منظمات المرأة
مفهومة، إلا أن الخطاب الرسمي، دخل على الخط في السنوات الأخيرة، جراء
ضغوط دولية سياسية واقتصادية. فلا يكاد يخلو بلد، خلال حملة 16 يوما،
من خطاب لرئيس دولة أو رئيس وزراء أو مسؤول كبير، لا يندد فيه بالعنف
ضد المرأة مستنكرا إستهدافها، لأنها « تشكل نصف المجتمع ولولاها لما
كانت للأمة قيمة» وتأكيدا « على دور المرأة ومكانتها الرفيعة». بل وصار
المسؤولون الذين ينظرون إلى المرأة، طوال أيام السنة، باستثناء أيام
حملة 16، بشكل دوني، يوجهون منظمات المجتمع المدني لتنفيذ « أنشطة
وفعاليات خلال فترة حملة الـ 16 يوما يرتكز على إدراك عميق بالدور
المتميز لها».
أشير هنا الى دور الحكومات في البلدان العربية، حيث تتبدى الهوة بين
النص والتطبيق بأوضح تفاصيلها. وتمتد إزدواجية المعايير والاستخدام
المزور لنضالات المرأة التاريخي لتشمل كل البلدان العربية من شمال
أفريقيا إلى الخليج. فمن يتابع فعاليات حملة 16 يوما سيجد أن أكثرها
جذبا للتغطية الإعلامية هو تصريحات المسؤولين وحضورهم هذه الفعالية أو
تلك. وكلهم يستنكرون العنف ضد المرأة. مما يستحضر، في الاذهان، صور
الاستنكار الرسمي العربي بالاحتلال الصهيوني لفلسطين.
ما نراه اليوم يتكرر منذ سنوات. يُردد المسؤولون خطبهم العام تلو العام
في قاعات كبيرة تغص بالرجال وعدد من النساء اللواتي يحظين بمقاعد الصف
الأمامي، ربما لأول مرة، لأغراض العرض والتزويق، في ذات الوقت الذي
تشير فيه الاحصائيات إلى تزايد مستوى العنف ضدها أضعافا. وتكاد الصورة
أن تتطابق، في معظم البلدان العربية، مع إختلاف بسيط في التفاصيل حول
تعريف العنف وما ينص عليه الدستور، ومجلة الأحوال الشخصية، وما وقعته
الحكومات من قوانين واتفاقيات دولية، باتت تتناول موضوع العنف من عديد
الجوانب، والتي لم يعد تعريف العنف فيها يقتصر على الاعتداء الجسدي، بل
تعداه إلى المادي والفكري والسياسي. لا أحد ينكر، بطبيعة الحال، أهمية
التشريعات والقوانين المحلية وما تنص عليه الدساتير في حماية حقوق
المواطنين، كما لا يمكن إنكار دور القوانين الدولية المناهضة للعنف.
إلا ان إبقاء عنف الدول والأنظمة على الهامش، وهو الأكثر شمولية ضد
المرأة كمواطنة في مجتمع يضمها مع الرجل سوية، وعلى قدم المساواة، هو
جوهر إشكالية قراءة القوانين والاتفاقيات من منظور محلي، خصوصا حين لا
تجد الدول العظمى، المؤطرة للقوانين، حرجا أما في ممارسة « العنف»
بنفسها، بشكل غزو وإحتلال لشعوب بكاملها، كما في العراق، أو المساهمة
بارتكابها، بالتعاون مع حكومات محلية، أو النظر جانبا، مع توفير الدعم
الاقتصادي والسياسي للأنظمة القمعية، حين يتم خرق وانتهاك حقوق الشعب،
بضمنه المرأة. والتعامل مع المرأة وكأنها كائن، منعزل تماما عن بقية
الشعب. لكل هذا، طبعا، تبريراته الرسمية الجاهزة، المتسربلة بلغة
الأقناع، ما دامت تحدث في بلدان « أخرى» غير بلدانها ومن قبل حكومات
تقدم نفسها كممثلة للشعب.
تمتد إزدواجية المعايير والاستخدام المزور لنضالات المرأة التاريخي
لتشمل كل البلدان العربية من شمال أفريقيا إلى الخليج
يُقدم لنا العراق، عند مراجعة الفعاليات الرسمية والمنظماتية، نموذجا
لفهم التردد وقلة الاقتناع في الاحتفال المناسباتي، بحملة 16 يوما. كما
تقدم لنا نوعية الفعاليات المقامة، حتى الآن، بعض الأجوبة المحددة،
بعيدا عن العموميات. إذ تعكس فعاليات المناسبة أولا كون العراق مقسما،
فعليا، الى نظامين وعاصمتين هما بغداد وأربيل (عاصمة كردستان
الجنوبية). كما تعكس، عمليا، تجزؤ هوية المرأة كمواطنة عراقية. حيث
تقدمت الهوية الفرعية، القومية، الدينية، المذهبية، تدريجيا (المفترض
فيها ان تُكمل وتُغني الهوية العراقية الجامعة) لتصبح لدى عديد منظمات
المجتمع المدني، بوابة شاسعة للحصول على الدعم المادي من قبل منظمات
وأنظمة أجنبية، وتسويق بديل للهوية العراقية. مما أدى بدوره، جراء
التهافت على الدعم المادي، حتى بين المنظمات نفسها، إلى مأسسة حالة لا
مبالاة بقضايا المرأة ككل والتركيز على المتجزأ، حسب قاعدة « معاناتي
هي الأكبر وما أتعرض له هو الأخطر».
أما على مستوى الاحتفال الرسمي، فقد أصدر رئيس حكومة إقليم كردستان
مسرور بارزاني، بياناً غَيّبَ فيه العراق والمرأة العراقية. آملا أن
يغدو إقليم كردستان، مثالاً ناصعاً عن حماية حقوق الإنسان، وإنهاء جميع
أشكال العنف. ويأتي بيانه، بذات الوقت الذي تعامل فيه قوات الشرطة
الطلاب والطالبات الجامعيين في السليمانية المطالبين بحقوقهم بالعنف
والاعتقال. وكان نائب رئيس المفوضية الأوروبية قد اتصل بالبارزاني، قبل
يوم، لمناقشة أوضاع « المهاجرين الكرد» المأساوية على الحدود بين
بولندا وبيلاروسيا. فَحَثَ بارزاني النائب على حشد الدعم من الاتحاد
الأوروبي لتأمين الإغاثة الإنسانية العاجلة للعائلات التي تقطعت بها
السبل!
وفي بغداد، سارع رئيس الوزراء، مصطفى الكاظمي إلى إصدار بيان عن وجوب
العمل الجاد على مناهضة العنف ضد المرأة، بينما لا تزال قضايا آلاف
الشهداء والمختطفين والمعوقين من الشباب/ الشابات، المتظاهرين في
انتفاضة تشرين 2019، بلا مساءلة.
وتعطينا عناوين نشاطات بعض المنظمات النسوية، مثل «حول دور الناجيات
الأيزيديات والشبك» وندوة « نساء كردستان» فكرة عن تقسيم المرأة، في
البلد الواحد، إلى جزئيات ولكل جزئية مظلوميتها الخاصة. كما يعطينا
بيان منظمة « رابطة المرأة» التابعة للحزب الشيوعي، نموذجا لأختيار
المنظمات النسوية عدم التطرق الى عنف الدولة وماجره غزو البلد
واحتلاله، وإلقاء اللوم، غالبا، على «العنف الأسري والمجتمعي». وكأن
ضحايا الاحتلال، الذين يُقدر عددهم بما يقارب المليون، ولنفترض أنهم
جميعا من الرجال، لم يكونوا ينتمون الى عائلة، تُركت بعد قتلهم، في
رعاية إمرأة. هذه المرأة، مهما كانت هويتها الفرعية، عراقية تستحق أن
تعامل كمواطنة في بلد يحترم حقوق مواطنيه إناثا وذكورا، ولن يتم ذلك من
خلال تفتيت القضايا، والعزل الجنسوي، وتسكين الآلام آنيا، بل من خلال
النضال المشترك لإيجاد الحلول الجذرية النابعة، عضويا، من داخل
المجتمع، وبالتضامن مع شعوب تلتزم، فعلا، بحقوق الإنسان والقوانين
الدولية، لها وللآخرين.
كاتبة من العراق
العراق… الشعب يريد
وطنا والميليشيات تريد وطنا
هيفاء زنكنة
هل بالإمكان «إختطاف» ما يريده الشعب من حقوق وطموحات بواقع ومستقبل
أفضل مما يعيشه؟ بمعنى الاستحواذ على ما يطالب به الناس وتعابيرهم عما
يريدون؟ تعاني أغلب البلدان في لحظتنا التاريخية هذه، ومنها حتى دول
متقدمة كأمريكا منذ انتهاء الحرب الباردة، مرورا بولاية دونالد ترامب
وحتى الان، من اختلال في وعي المجتمع المنقسم على نفسه، والانجرار الى
ما يحشد له الإعلام السياسي المتطرف إستخداما للعواطف والاكاذيب
والتخويف والترغيب، حتى بما هو واضح أذاه للناس مباشرة او في المنظور
القريب. فهل نجح نظام ما بعد الاحتلال في تحقيق ذلك عبر إختطاف روح ما
يريده الشعب فعلا؟
من يراجع إنجازات النظام العراقي الحالي، منذ غزو البلد وتركه عرضة
للنهب وساحة للصراعات الخارجية، سيجد أن ذلك ممكن وأنه تجاوز حدود
الاختطاف الجسدي للمواطنين. حيث بينت مظاهرات ميليشيات الأحزاب،
المتربعة على السلطة، في أسابيع ما بعد إجراء الانتخابات بأن من بين
مهاراتها متعددة المستويات، قدرتها على إختطاف أساليب النضال الجماهيري
والتلاعب بها إلى حد يصعب فيه، أحيانا، التمييز ما بين الحقيقي
والزائف. فالانتخابات التي تم الترويج لها بقوة إعلاميا وماديا، بدعم
دولي لا مثيل له، ناهيك عن تشجيع المرجعية الشيعية الداعية الى
المساهمة في الانتخابات، بعد أن اختارت غالبية الجماهير مقاطعتها،
والتي تم وصفها بأنها من أكثر الانتخابات التي شهدها العراق نزاهة
وشفافية وسلاسة، سرعان ما تحولت، حال إعلان النتائج بخسارة عدد من
ميليشيات الاحزاب، الى انتخابات زائفة ومزورة ولا يمكن القبول بها
إطلاقا.
وكما هو واضح من نزول متظاهرين من الميليشيات الحزبية الخاسرة إلى
الشوارع والاشتباك مع قوات أمنية، والتهديد باقتحام المنطقة الخضراء،
رمز المحتل الأمريكي والحكومة العراقية بالنيابة معا، بأن خبرة ما
يقارب العشرين عاما من إستلام الأحزاب المليشياوية السلطة، قد أثمرت من
ناحية سرقة جوانب من آلية النضال الجماهيري الذي عاشه العراق، بشكل
متواصل، منذ أيام الاحتلال الأولى عام 2003، في النزول الى الشوارع
والاعتصام ومقاومة المحتل بكل السبل الممكنة وتحرير الوطن. وحقق النظام
نجاحا معقولا، في استغلال المطالب والحقوق، وإعادة تدويرها وتقديمها
بشكل شعارات شعبوية، مغلفة بقدسية ذات بعد مذهبي، تُساعد على تقبلها
وكأنها من صلب حقوقها التاريخية.
فالانتخابات المبكرة ألتي نادى بها المتظاهرون والمعتصمون على مدى عام،
للتخلص من الفساد والطائفية والإصلاح العام والتحرر من الأحتلالين
الأمريكي والإيراني، خلال إنتفاضة تشرين/ أكتوبر 2019، مثلا، سرعان ما
إستولت عليها واحتوتها أحزاب الميليشيات، من خلال تعبئة وتحشيد وتخويف
أفرادها من « الآخر» وتجريدهم من إنسانيتهم. وتحول الثمن الغالي الذي
دفعته الجماهير، متمثلا باستشهاد وإصابات واعتقالات وتعذيب تجاوز عشرات
الآلاف من المحتجين، تحول الى عملة مقايضة لصالح الأحزاب ذاتها التي
ساهمت بارتكاب الجرائم بلا مساءلة. وهي المشاركة في ماسسة العملية
السياسية ومتقاسمة للحكومة، بدءا من تيار الصدر وحزب الدعوة والحزب
الأسلامي إلى كتائب حزب الله والحشد الشعبي. كما استولت أحزاب
الميليشيات على أهم شعار جَسّد الانتفاضة وهو « نريد وطنا». فصار
لمفردة « الوطن» معاني تم تطويعها وفق استخداماتها الحزبية.
كان بإمكان هذه الأحزاب، تمرير أجندتها الزائفة، على نسبة من السكان،
خاصة بعد إختطاف وإعادة تدوير مطالب منتفضي تشرين، لولا لجوئهم إلى ما
يجيدون ممارسته، فعلا، وهو استخدام العنف بأشكاله المتعددة
وأخذت معنى جديدًا لتثير ردود افعال مختلفة تمامًا عما إعتبره
المتظاهرون حقا من حقوقهم الأساسية ويجب إستعادته. بينما حملت المفردة،
بعد تدويرها حزبيا ومليشياويا، معنى هلاميا يخلط ما بين الوطن والسلطة.
الوطن إذن موجود، ونحن مالكوه، ما دمنا نتحكم بالسلطة. ويجب الدفاع
عنها بأي ثمن ولن نتخلى عنها، كما صرح رئيس الوزراء السابق نوري
المالكي قائلا بطائفيته المقيتة وعباراته عن أبناء الحسين مقابل أبناء
يزيد، التي يستحق عليها العقاب لتأجيجه خطاب العنصرية والكراهية
والتحريض على القتل.
تم تحوير صوت الشعب الحقيقي المطالب باستعادة الوطن الى صيغ جاهزة،
مبتذلة لفرط التكرار من قبل ساسة فاسدين، لصالح أجندة سياسية لهذا
الحزب المدعوم أمريكيا، الذي لا برنامج لديه غير مهاجمة إيران، ضد
الحزب المدعوم إيرانيا والذي لا يملك برنامجا غير مهاجمة أمريكا.
كلاهما يدعيان تمثيل الشعب العراقي بينما، هما في الحقيقة، يعملان وفق
أجندات ومصالح فئوية لا علاقة لها بمصلحة الشعب على المدى القريب أو
البعيد، وإبقاء حياة العراقيين مؤجلة ومحكوم عليها بالمخاوف والقلق
وعدم الاستقرار، في أجواء دعائية غايتها « أن تخلق مستوى القلق الأمثل»
حسب مهندس الإعلام النازي غوبلز.
فحين يصرح هادي العامري، المسؤول الفعلي لميليشيا الحشد الشعبي، قائلا
« سندافع عن اصوات مرشحينا وناخبينا بكل قوة» و « اننا لا نقبل بهذه
النتائج المفبركة مهما كان الثمن». فأنه لا يأتي بجديد بل ان صوته صدى
لما قاله المالكي قبل سنوات بصدد عدم التخلي عن السلطة. وهو يعمل على
تعبئة العواطف المتمثلة بشخصه « الرافض» أكثر منه طرح برنامج للإصلاح
والبناء، أو بديلا للانتخابات التي تأرجح ما بين دعوة أتباعه للمشاركة
فيها بقوة أولا ورفضها بقوة أكبر حين خسرها. وإذا كان العامري، خلافا
لمقتدى الصدر، لا يملك القدسية المحيطة بالصدر كوريث للصدر الأول،
وتصنيمه من قبل اتباعه، كمرجع ديني واجب الطاعة، فانه بتجسيده لشخصية
المقاتل من أجل « الإمام « الخميني ومن حكم بعده، وباستغلال دعائي ناجح
لإعلان الانتصار على داعش، جراء القصف الجوي المستمر للتحالف الدولي
والقوات العراقية على الأرض، نجح العامري في إضفاء صفة القدسية على
مليشيا الحشد الشعبي ليتمتع بوسم الإفلات من العقاب مهما إرتكب.
ولم تقتصرعملية إختطاف حقوق ومطالب متظاهري إنتفاضة تشرين على الشعارات
واللافتات، والنزول الى الشوارع ونصب الخيام، والاعتصام، بل إمتدت إلى
جوانب ثقافية ذات خصوصية دينية وتأثير يحفز عواطف الشباب كالرادود
المعتاد في مجالس العزاء وزيارات مراقد الأئمة ومناسبات الاستشهاد
التاريخية. ومع توفر الدعم المادي الكبير ووجود التغطية الإعلامية عبر
قنوات تملكها الأحزاب أو مدفوعة الأجر، كان بإمكان هذه الأحزاب، تمرير
أجندتها الزائفة، على نسبة من السكان، خاصة بعد إختطاف وإعادة تدوير
مطالب منتفضي تشرين، لولا لجوئهم إلى ما يجيدون ممارسته، فعلا، وهو
استخدام العنف بأشكاله المتعددة، من اختطاف وتعذيب وحملات الاغتيال
بشكل علني.
كاتبة من العراق
لا صديق للكرد
المهاجرين على حدود بولندا
هيفاء زنكنة
الرئيس الأمريكي جو بايدن قلق هذه الأيام، يشاركه القلق الرئيس الروسي
فلاديمير بوتين، ليس بسبب «محاولة اغتيال» رئيس وزراء حكومة تصريف
الأعمال، في العراق، مصطفى الكاظمي، في الأسبوع الماضي. فمشاعرهما،
ومعهما كل من هب ودب من المسؤولين الأمريكيين والأوربيين والشرق
أوسطيين، كانت أعمق من مجرد القلق ولغة الإدانة والاستنكار ونعوت
الإرهاب. بل ووصل رذاذها مجلس الأمن المعروف بصمته، عادة، تجاه جرائم
الإبادة الصهيونية بحق الشعب الفلسطيني أو حتى إدانة سياسة الاستيطان
على الرغم من كونها مخالفة للقانون الدولي، وإذا ما أخذنا حالة العراق،
مثالا، فإن صمت مجلس الأمن مُدّوٍ إزاء جرائم التطهير المذهبي والتهجير
القسري في محافظة ديالى، شرق العراق، في الأسابيع الأخيرة، بمشاركة
«الحشد الشعبي» المنخرط في القوات الأمنية الحكومية.
مصدر قلق الرئيس بايدن وبوتين هو أن «وضع الأطفال مؤسف وخطير» عند
الحدود بين بيلاروسيا وبولندا حسب تعبير بوتين، على الرغم من أن وضع
الأطفال المؤسف على حدود البلدين ليس وليد الأسبوع الماضي. بل بدأ، في
العام الماضي، حين سمحت حكومة بيلاروسيا بدخول العراقيين أراضيها بلا
تأشيرة. وهي مسألة نادرة الحدوث للعراقيين الذين يعانون الأمّرين
للحصول على أي فيزا، باستثناء ما تمنحه قلة من دول تُعد على أصابع اليد
الواحدة. وبتسهيلات غير عادية، قامت شركات بتنظيم «رحلات سياحية»
بالمئات. فكان من الطبيعي أن تصبح هذه السفرات فرصة عمر لمن يريد
مغادرة العراق، والهجرة مرورا من بيلاروسيا الى بولندا ومنها الى
ألمانيا أو أي بلد أوروبي آخر. فكانت النتيجة، بعد نجاح عبور الآلاف،
إغلاق بولندا حدودها مع بيلاروسيا واتخاذ قرار بأطلاق النار على كل من
يحاول العبور. فبقيت أعداد كبيرة من المهاجرين، بينهم عوائل بكاملها،
معلقة على الحدود بين البلدين. أصبح المهاجرون بيادق تتلاعب بحياتهم
حكومتا بيلاروسيا وبولندا ضمن أجندة الخلافات السياسية. حيث يتهم
الأوروبيون، وهم يسرعون بإصدار القوانين ومد الأسلاك وحشد الحراس للحد
من أعداد المهاجرين إليها، الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو بمنح
تأشيرات للمهاجرين ووضعهم على الحدود، كرد فعل على العقوبات الأوروبية
التي فرضت على بلده، لقمعه حركة معارضة بعد الانتخابات الرئاسية في
2020.
يُشكل العراقيون، غالبية المهاجرين المحصورين، حاليا، في وضع لا
أنساني، في درجات حرارة وصلت الصفر مئوي، مما دفع مفوضة الأمم المتحدة
السامية لحقوق الإنسان إلى توجيه نداء إلى الدولتين والعالم مشددة على
ضرورة ألا يقضي اللاجئون ليلة أخرى عالقين بين البلدين. كان ذلك يوم
الأربعاء الماضي، ولم تتجاوز الإجراءات المتخذة توزيع الخشب للتدفئة
ووجبات طعام رُميت على المهاجرين بشكل مهين. وإعلان حكومة الكاظمي
تبرعها ببضعة دولارات للمساعدة. ولا يزال نحو أربعة آلاف شخص عالقين
هناك في برزخ البرد واليأس والانتظار، بعيدا عن أوطان تُعامل أبناءها
بقسوة تجعلهم، يُفضلون الموت على الحياة فيها أو كما يقول المثل
الجزائري الذي يكرره الشباب المهاجرون في قوارب الموت «يأكلني الحوت
ولا يأكلني الدود» وهو ما ينطبق أيضا على الشباب التونسي ألذي تجاوزت
ظاهرة «الحرقة» كونها حلم أبناء الطبقة الفقيرة لتصبح طموحا يسعى إليه
الخريجون من أبناء الطبقة المتوسطة، بحثا عن فرص العمل.
هربا من واقع يجرده من إنسانيته ويُجّمده في قاع مظلم بلا أفق يخاطر
المهاجر بحياته وحياة أطفاله
ولا يكف الشباب عن محاولات الهجرة، على الرغم من كل المخاطر والصعوبات
الجسيمة. وهو ما يُجمع الشباب على تنفيذه في العراق بأعداد مذهلة. حيث
غادره نحو 28 ألف مهاجر، منذ مطلع عام 2021، تم إلقاء القبض على 803
منهم وإعادتهم إلى العراق، ووفاة 33 منهم، في طرق الهجرة، حسب جمعية
اللاجئين في إقليم كردستان العراق.
تُبين متابعة تفاصيل مأساة المهاجرين على الحدود البيلاروسية البولندية
إن إلقاء اللوم على الصراع الدولي وحده ليس كافيا. فجذر المأساة يمتد،
في عمقه، إلى بلدانهم ومسؤولية حكوماتهم، مهما كانت طبيعتها. بالنسبة
إلى المهاجرين العراقيين، تشير تقارير المنظمات الحقوقية إلى أن معظم
المهاجرين هم من الكرد الهاربين من إقليم كردستان العراق الأمر الذي
يثير عديد التساؤلات حول صورة الإقليم الديمقراطية المزدهرة، غير
الملوثة بفساد بقية العراق، التي تروّجها أجهزة إعلام رئاسة الإقليم.
الإقليم المتقاسم سياسيا واقتصاديا بين عائلتين هما البارزاني ومقرها
أربيل، وعائلة طالباني ومقرها السليمانية. تتصرف العائلتان بكل ما هو
موجود في الإقليم ولا يمكن تجاوز أفرادهما المستحوذين على مراكز
السلطة، بأي شأن كان، خاصة عقود النفط. نجحت العائلتان بتكوين طبقة
ملياردية، في فترة قياسية، على حساب العاطلين عن العمل، فقط لكونهم،
غالبا، لا ينتمون الى أي من العائلتين ـ الحزبين. وهو السبب ذاته الذي
يعاني منه الخريجون، الذين لا ينتمون لأحزاب الحكم الفاسدة في بقية
أنحاء العراق. إذا أضفنا الى واقع الإقليم ثالوث الطائفية والتهجير
القسري والإرهاب، المستشري في بقية البلد، لفهمنا نفسية الشباب
والعوائل في محاولاتها الهرب بحثا عن المستقبل وإن كان محفوفا
بالمخاطر، ومع كل هرب ينكشف زيف إدعاءات الحكومات المحلية بأنها تمثل
أبناء الشعب وتحمي مصالحهم. وهي إدعاءات حكومات تستمد مرجعيتها من
الاستقواء بدول مَكَنّتها من السلطة أولا وباتت درعا لحمايتها من غضب
شعوبها ثانيا. وهذا الغضب هو منبع قلق جو بايدن وبوتين الحقيقي. أما
الخوف على أطفال المهاجرين فهو لا يزيد عن كونه تعبيرا جاهزا وجزءا لا
يتجزأ، من عالم السياسة، بمناوراتها ومصالحها وتحالفاتها الظاهرة
والخفية. وضحايا هذه اللغة الناعمة ـ المغموسة بالإنسانية الزائفة،
المتأخرة، غالبا، التي لا يَطّلع عليها العالم، ما لم تصل حد الكارثة
والموت، هم الأطفال وعوائلهم، المُجبرة على الهجرة من بلدانهم إلى
بلدان يرون فيها مستقبلا أفضل من واقعهم اليومي بتفاصيل الحروب،
والصراعات والفساد والبطالة، وتردي كل أساسيات الحياة التي يجب أن
يتمتع بها كل مواطن في بلده. هربا من واقع يجرده من إنسانيته ويُجّمده
في قاع مظلم، بلا أفق، يخاطر المهاجر بحياته وحياة أطفاله، المرة تلو
المرة، كي يتشبث بما يراه المنفذ الوحيد للحياة، ويبقى البديل، واحدا
على مر تاريخ الشعوب وحاضرها، وهو استمرارية النضال، بأشكاله المتعددة،
لاستعادة الأمل المتمثل بوطن يتسع للجميع بلا استثناء.
كاتبة من العراق
الصراع على السلطة بين
العوائل الحاكمة في العراق
هيفاء زنكنة
كيف يمكن فهم ما يجري حاليا في العراق من عنف تجسد بالتخريب والاقتتال
بالرصاص الحي أو بالطائرات المسيرة المفخخة، في أعقاب انتخابات تم
تسويقها باعتبارها من أكثر الانتخابات التي عرفها العراق نزاهة
وشفافية، منذ غزوه عام 2003، ورُحب بها، عالميا، كأعلى مراحل «العملية
السياسية الديمقراطية» التي أسستها الولايات المتحدة الأمريكية
وبريطانيا، بمساهمة أحزاب وشخصيات عراقية، وباركتها عشرات الدول
والمنظمات الحقوقية من أرجاء العالم؟ ماذا عن الأحزاب التي حشّدت
للانتخابات كما لو كانت الحل السحري لكل المشاكل ثم عادت ورفضتها
بكليتها، باحتجاجات وهجوم على القوات الأمنية، حالما دلت النتائج على
عدم فوزها بها؟ هل هي العنجهية الناجمة عن الاستقواء بالخارج؟ أم أنه
السياق الطبيعي لنمو بذرة هجينة، زُرعت في غير تربتها، بمساعدة هرمونات
اصطناعية؟ وها هو الحصاد: محصول لا يتعرف عليه، لفرط تشوهه، حتى من
زرعه، ولا علاقة للحقل الذي نُثرت فيه بذور الغزاة بالنمو العضوي
المتعارف عليه للطبيعة.
لينأى بنفسه عن الفساد ومن يمثله، اختار أغلب العراقيين مقاطعة
الانتخابات، باستثناء نسبة من المحتجين في انتفاضة تشرين الأول/اكتوبر،
تاركين الساحة للمتقاتلين على المحاصصة الطائفية، والعرقية، والفساد
المالي والإداري، بالإمكان تقسيمهم إلى نوعين. يضم النوع الأول أحزابا
صار لديها باع طويل، يقارب العشرين عاما، في تمثيل أما السياسة
الأمريكية أو الإيرانية بالنيابة، بالإضافة إلى تجذير مصالحها
وطموحاتها الخاصة. من بين هذه الأحزاب: حزب الدعوة والحزب الإسلامي
والحكمة والاتحاد الوطني الكردستاني والديمقراطي الكردستاني. ويضم
النوع الثاني الميليشيات المسلحة التي تمت شرعنتها كأحزاب، بعد أن
تكاثرت بسرعة الفايروس، مع تزايد الولاء لهذه الجهة أو تلك ومع تنوع
مصادر سلاحها، فأصبحت أكثر قوة وسيطرة على الشارع من الحكومة. وحازت
على دعم الأحزاب (الأم) التي احتاجتها للقضاء على أي مقاومة للاحتلال،
فضلا عن القضاء على الجيل الجديد من أبناء انتفاضة تشرين المطالبين
بوطن.
من بين أبرز أحزاب الميليشيات: سائرون (وجه سرايا السلام وما يسمى
بالتيار الصدري) و«الحشد الشعبي» المكون من 45 فصيلا، أبرزها حزب الله/
العراق، وعصائب أهل الحق. وكلها، بلا استثناء، مسؤولة عن جرائم
وانتهاكات مذهبية وحملات تطهير، موثقة بالأرقام والتواريخ، في عديد
التقارير الحقوقية المحلية والدولية، بضمنها مجلس حقوق الإنسان التابع
للأمم المتحدة.
وبينما يتظاهر المحتجون على خسارتهم الانتخابات ويهددون باقتحام
«المنطقة الخضراء» ومع تصاعد العنف بينهم والقوات الأمنية، قام مقتدى
الصدر، زعيم التيار الصدري، الفائز بأقل مما توقعه من المقاعد (73 بدلا
من 120 من مجموع 329) وإن أكثر من الكتل الأخرى، باتخاذ خطوة تتماشى مع
سيرته المضحكة المبكية، المعتادة، في معالجة الأزمات. حيث «قَطعَ
سماحته زيارته للعاصمة بغداد، استنكاراً لِما يحدث من عُنف غير
مُبَـرَّر، ومن إضعاف الدولة المُتَعَمَّـد» كما جاء في بيان لمكتبه.
اختار أغلب العراقيين مقاطعة الانتخابات، باستثناء نسبة من المحتجين في
انتفاضة تشرين الأول تاركين الساحة للمتقاتلين على المحاصصة الطائفية،
والعرقية، والفساد المالي والإداري
لعل أفضل مقاربة لفهم الصراع الدائر، حاليا، بسِمَته التراجو كوميدية،
بما في ذلك اللجوء إلى التصفيات الجسدية والابتزاز وتأجير الحماية، بين
عوائل تنتمي الى المذهب ذاته، وتتبع أو تَدّعي إتباع المرجعية ذاتها،
هي الموجودة في فيلم «العراب».
الفيلم الذي يُبين صراع عوائل المافيا واقتتالها الشرس وترويعها
الآخرين، للاستحواذ على المال، مهما كان مصدره، والسلطة مهما كانت
السبل، واستكشاف طبيعة القوة، والاختلاف بين ما يمكن تسميته بالسلطة
المشروعة وغير المشروعة، بين سلطة الدولة والمؤسسات الشرعية وسلطة
المافيا. ولا يخلو صراع عوائل المافيا، كما في أحزاب عراق اليوم، التي
هي في حقيقتها عوائل تتصرف كأحزاب بقيم عشائرية، من مفهوم الشرف
المتوارث ضمن أفراد عائلة واحدة، بموازاة التحالفات السرية والتكتلات
مع بقية العوائل، وما قد تجلبه من صفقات تجارية وسياسية لهذه العائلة
أو تلك.
ولنأخذ كمثال على المناورات واللقاءات الدائرة، الآن، في بغداد بين
أحزاب النظام وميليشياته لتقاسم المراكز السياسية وما تدره من أموال،
الاجتماع المشهور الذي تم عام 1948، بين رؤساء عوائل المافيا، في
نيويورك، بعد مقتل ابن عراب المافيا فيتو كورليوني. عُقد الاجتماع
للتوسط وإحلال السلام بين عائلتي كورليوني وتاتاغليا المتحاربتين. ترأس
الاجتماع وسيط، سرعان ما أدرك فيتو أن العوائل الأخرى تحالفت معه سراً،
لإجبار عائلة كورليوني على مشاركتهم الحماية السياسية، التي حصلت عليها
العائلة بالاتفاق مع أعضاء في الكونغرس ورجال الأمن والشرطة.
وكان الخلاف الرئيسي بين العوائل حول تجارة المخدرات المزدهرة التي
عارضها فيتو. وافق فيتو على مضض على مشاركة نفوذه السياسي لحماية تجارة
المخدرات، لإنهاء حرب العائلات الخمس. وإذا كان كورليوني قد فشل في
إضفاء الشرعية على المافيا فان ابنه الأصغر نجح، بعد استيراثه، في
تحقيق ذلك من خلال تصفية معارضيه بطريقة وحشية. مما يأخذنا إلى نقطة
تشابه مع خصومات ونزاع أحزاب العوائل التي يقودها، الآن، أبناء جيل
المؤسسين الأوائل كعائلة الصدر والحكيم والخوئي وبدرجة أقل البارزاني
وطالباني، بحماية سياسية وعسكرية من أمريكا وإيران.
وكأن اقتتال الانتخابات ليس كافيا، أضيفت إلى محنة الشعب العراقي جعجعة
محاولة اغتيال رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي، التي جعلته، كما أُريد
للانتخابات، محط أنظار العالم، بردود أفعال استنكارية تربع على رأسها
البلدان اللذان يمارسان الإرهاب على أرض العراق. حيث سارعت إيران إلى
تحميل «جهات أجنبية» المسؤولية، في الوقت ذاته، الذي ادانتها الولايات
المتحدة كفعل إرهابي يستهدف الدولة العراقية، مما يثير تساؤلا عن أي
دولة يتحدثون؟ ولم محاولة الاغتيال وقد انتهى الكاظمي من تنفيذ مهمته،
ومن المفترض أن يكون قد أعد حقيبته ليلتحق بعائلته المقيمة خارج
العراق، كما فعل عادل عبد المهدي، رئيس الوزراء الذي سبقه؟
والحل؟ أقتبس هنا جملة للمؤرخ الفلسطيني سلمان أبو ستة، مؤلف «أطلس
فلسطين» التوثيقي لمدن وقرى فلسطينيّة، هدمها المحتل الصهيوني، في
إجابة عن سؤال حول المستقبل، وتكاد تنطبق مقولته على العراق بحذافيرها،
حيث يقول: «بدأت العمليّة تتم للقضاء علينا باستخدام أناس من الشعب
الفلسطيني، يدّعون أنهم يمثِّلوننا وهذه هي الكارثة الكبرى.. ليس لنا
غير الشباب الذين يستشهدون كل يوم، ويُقتلون بدم بارد… إن الوقت قد حان
لتنظيف البيت الفلسطيني بمكنسة ديمقراطية؛ لإزالة كل الفساد، فشعبنا
يستحق الأفضل بكثير مما هو عليه الآن».
كاتبة من العراق
العراق والتطبيع
في مجلس العموم البريطاني
هيفاء زنكنة
في الوقت ذاته الذي يعيش فيه سكان مدينة المقدادية، في محافظة ديالى،
شرق العراق، حملة قتل وتهجير وتطهير عرقي، من قبل ميليشيات حكومية أو
داعش (وجهان لعملة واحدة) وبمرأى القوات الأمنية والحكومة، أبدى مجلس
العموم البريطاني، اهتماما كبيرا، بالعراق، ولكن بطريقة انتقائية،
تجاهل فيها النواب الإشارة إلى يوميات القتل. حيث تم تناول الوضع
السياسي والاقتصادي والأمني، بالإضافة إلى سياسة العراق الخارجية،
بنعومة تتماشى مع مصلحة الحكومة البريطانية في دعم النظام القائم
الراعي لمصالحها بينما تقترح حلولا للصعوبات والعراقيل بأسلوب سياسي
مُغّر يتميز بنُبل مسعاها ووحشية المتقاتلين فيما بينهم من أهل البلد.
قام عدد من أعضاء البرلمان، من حزب العمال المعارض، بمساءلة الحكومة،
ممثلة بوزارة الخارجية ووزارة الدفاع، أولا: عن التقييم الذي أجرته
بشأن الآثار المترتبة على سياساتها للانتخابات البرلمانية الأخيرة،
وثانيا: العلاقات بين حكومة إقليم كردستان والحكومة الاتحادية. كما
طُرحت أسئلة حول « النصائح» التي قدمتها الحكومة لنظرائها في حكومة
الإقليم والحكومة الفيدرالية، بشأن معالجة الفساد وتعزيز حقوق الإنسان
والسماح بحرية التعبير.
بالنسبة إلى سيرورة الانتخابات، كانت بريطانيا من أوائل الدول التي
أثنت على «الانتخابات السلسة» وكيف أنها، من الناحية الفنية و«انعدام
أي حوادث أمنية كبيرة» تُشكل تحسناً واضحاً مقارنة بالانتخابات
السابقة. وتفادى وزير الدولة للشؤون الخارجية في جوابه أي ذكر لعدم
إعلان النتائج النهائية، حتى الآن، ومظاهرات الخاسرين من أبناء النظام،
وإعادة توزيع المقاعد وفقا لقوة سلاح الميليشيات. كما لم يتطرق إلى
المقاطعة الكبيرة التي وسمت الانتخابات على الرغم من حملة الترغيب
والترهيب الكبيرة التي صاحبتها، وبذخ الميزانية «التشجيعية».
وجاءت الأجوبة بصدد معالجة الفساد وحرية التعبير مماثلة للموقف من
الانتخابات من ناحية « نُبل» الموقف البريطاني. «سأستمر في إثارة أهمية
معالجة الفساد وتعزيز حقوق الإنسان، والسماح بحرية التعبير، خلال
ارتباطاتي مع القادة السياسيين العراقيين» حسب وزير الدولة المُصّر على
تنفيذ مهمة بريطانيا «الإنسانية النبيلة» وحمل عبء نشر الديمقراطية مع
السفير البريطاني ببغداد والقنصل العام في أربيل، اللذين « يناقشان
بانتظام هذه القضايا مع محاوريهما في كلا الحكومتين».
ينص الخطاب العام للسياسة البريطانية، المتمثل بكل الأجوبة، على تكرار
الصيغة الاستعمارية، الجاهزة، التي تمنحها بالدرجة الأولى صك البراءة
من مسؤولية غزو البلد وتخريبه، مع الإبقاء على هيكلية النظام الضامن
لمصالح بريطانيا الاقتصادية.
«سنواصل العمل بشكل وثيق مع الأمم المتحدة والشركاء الدوليين لتشجيع
حكومة جديدة في العراق وحكومة إقليم كردستان على حل مشاكلهما، بما في
ذلك الميزانية المستدامة والحدود الداخلية المتنازع عليها».
ولأن السياسة البريطانية مختلفة عن الأمريكية بكونها أقل عنجهية وأكثر
ميلاً لأن تُغّلف السُم بالعسل، وأنها كما يُصرح مسؤولوها أدرى
بـ«الثقافة العربية» وكيفية التعامل مع الحكام العرب، تم، أخيرا، طرح
السؤال الأهم في مجرى الاهتمام بالعراق. « ما هي الخطوات التي تتخذها
وزارة الخارجية والكومنولث والتنمية لتشجيع التطبيع الدبلوماسي بين
إسرائيل والعراق؟» طرحت السؤال نائبة تمثل حزب العمال، الذي بات أقرب
الى المنظمات الصهيونية والمحتل العنصري الاستيطاني، منذ إبعاد رئيسه
السابق جيريمي كوربن المعروف بمناصرته الشعب الفلسطيني ونضاله من أجل
التحرير.
ينص الخطاب العام للسياسة البريطانية، المتمثل بكل الأجوبة، على تكرار
الصيغة الاستعمارية، الجاهزة، التي تمنحها بالدرجة الأولى صك البراءة
من مسؤولية غزو البلد وتخريبه
أجابها الوزير موضحا ترحيب المملكة المتحدة «بحرارة» باتفاقيات التطبيع
بين إسرائيل والبحرين والإمارات العربية المتحدة والمغرب والسودان.
لأنها «خطوات تاريخية تشهد تطبيع العلاقات بين أصدقاء المملكة
المتحدة». مؤكدا بأن المملكة المتحدة « ستواصل تشجيع المزيد من الحوار
بين إسرائيل والدول الأخرى في المنطقة». وهو الجواب الأكثر وضوحا
ومطابقة للحقيقة والواقع تجاه العراق. وهي المرة الأولى التي يتم فيها
طرح سؤال مباشر وصريح، في البرلمان، عن موقف بريطانيا من العراق الذي
يواجه ضغوطا أمريكية – بريطانية كبيرة للتطبيع مع الكيان الصهيوني، منذ
غزوه واحتلاله عام 2003.
وقد جرت محاولات سابقة لسبر الروح العراقية الشعبية تجاه التطبيع،
وخطوات عملية من بينها قيام ثلاثة وفود عراقية مكونة من 15 شخصية
سياسية ودينية، بزيارة الكيان الصهيوني، عام 2019، والتقت بمسؤولين
حكوميين وأكاديميين يهود. والمعروف أن علاقة حكومة إقليم كردستان
بالكيان الصهيوني حميمة على عدة مستويات. وقدمت الحكومة الأمريكية
لرئيس الوزراء مصطفى الكاظمي، اثناء زيارته واشنطن، منتصف العام
الحالي، حزمة إغراءات تضم معالجة المشاكل الاقتصادية المثيرة للنقمة
الاجتماعية، إذ تفاقم الفقر عام 2020 مقارنة بعام 2019، بحيث يعيش ثلث
سكان العراق الآن تحت خط الفقر، حسب الأمم المتحدة، وفتح أبواب
الاستثمار، وتعويض أي انخفاض بأسعار النفط، وتخفيض أعداد القوات
الأمريكية الى حد الغاء وجودها، كل ذلك مقابل الاعتراف بإسرائيل
والمساهمة بعزل إيران.
وتساهم بريطانيا، في حملة الضغط من خلال تقديمها التطبيع، باعتباره
دواء لعلاج المشاكل السياسية والاقتصادية وما تصفه بـ «السخط الشعبي».
إلا ان المحاولات الأمريكية – البريطانية، باءت بالفشل الذريع حين عُقد
في مدينة أربيل، عاصمة إقليم كردستان العراق، يوم الجمعة 24 أيلول /
سبتمبر، مؤتمر بعنوان «السلام والاسترداد» نظمه مركز يدعى «اتصالات
السلام الأمريكي» بحضور عدد من عراقيين تم وصفهم بأنهم « شيوخ عشائر
وكتاب ومثقفون». تزامن عقد المؤتمر الداعي إلى اعتراف العراق بكيان
الاستيطان الصهيوني مع الذكرى السنوية الأولى لـ ( إتفاقات إبراهيم)
التي تواصل الإدارة الأمريكية دعمها على حساب إبادة الشعب الفلسطيني.
كانت ردة الفعل الشعبية العراقية الغاضبة على عقد المؤتمر كبيرة إلى حد
أنكرت فيه قيادة الأقليم علمها بها وسارعت كل الأحزاب والجهات الرسمية
إلى إدانته وإعلان تمسكها التاريخي بالقضية الفلسطينية.
تبين أسئلة المعارضة والأجوبة الرسمية، في البرلمان البريطاني عن
العراق، حول الوضع الاقتصادي المنخور بالفساد والأمني المتهالك، الناتج
بالدرجة الأولى، جراء غزو واحتلال العراق الذي شاركت بريطانيا بقيادته،
استمرارية العقلية الاستعمارية المستهينة، والمحتقرة، لشعوب يختار بعض
أفرادها أما خدمته أو مشاركته النظرة حول إتهام بقية السكان بالجهل
والتخلف وعدم القدرة على إدارة شؤونهم، تبريرا لاستغلالهم وسرقة ثروات
البلد. وهو ما كذبّته إنتفاضة تشرين في 2019 ومقاطعة الانتخابات،
والرفض القاطع لضم العراق الى قائمة موقعي « إتفاقات إبراهيم».
كاتبة من العراق
لماذا تنتخب الشعوب
قادة غير مؤهلين؟
هيفاء زنكنة
ما
الذي يجعل الشعوب، سواء كانت عريقة الديمقراطية كبريطانيا وأمريكا أو
مستحدثة الديمقراطية كالعراق، تختار لقيادتها، في العقد الأخير، خاصة،
حكاما يتميزون بأنهم غير مؤهلين أما سياسيا أو أخلاقيا أو عقليا، أو
كلها معا؟ هل هناك حاجة لقراءة التاريخ البعيد لمعرفة أسباب فوزهم في
عملية باتت تُقدم باعتبارها الخيار الوحيد للشعوب لتفادي الدكتاتورية؟
وهل صحيح أن المصوتين يتماهون، بدرجة أو أخرى، مع شخصيات من يختارونهم
من الفائزين؟
لندع « الفائزين» في بلداننا جانبا. فمفهوم «الديمقراطية» كما بات
معروفا لشعوبنا، يتخذ أشكالا متعددة، ومواصفات تختلف من بلد الى آخر،
عند التطبيق، وان قيل غير ذلك. ثم أن لدينا من النماذج الحاكمة في
البلدان راعية الديمقراطية ما يكفي. ولعل الرئيس الأمريكي السابق
دونالد ترامب هو المثال الأبرز، الذي وفر لآخرين، في جميع أنحاء
العالم، نموذجا يُحتذى به لتخفيض مستوى المطلوب من القيادة.
لقد كُتبت عن شخصية ترامب وفوزه وأسلوب أو لا أسلوب حكمه، كرئيس لأقوى
دولة في العالم، ملايين المقالات، بالإمكان اختزالها، إذا أردنا
استعادة ملامح شخصيته للمقارنة مع آخرين، بالقول بأنه لم يكن مؤهلا
سياسيا أو اقتصاديا. كان يتحرش بالنساء، يسخر من المعاقين، يحتقر السود
والأقليات واللاجئين. شعبوي يغازل رغبات الحشود. يشجع العنصرية كغذاء
روحي للمتعصبين البيض. وحين تقتضي الضرورة، لاستقطاب المتطرفين دينيا،
يتفاخر بقوله «لا أحد يقرأ الكتاب المقدس أكثر مني».
تم وصفه بأنه خطر على العالم، جراء استجاباته السريعة المبنية على
غروره وعنجهيته، وسرعته في إتخاذ القرارات بلا تفكير جدي، وانه خطر على
أمريكا بسبب سرعته في توبيخ الناس، وإهانتهم والانتقام من منتقديه،
بضمنهم مستشاريه. بعض ملامح هذه الصورة كانت معروفة قبل إنتخابه والبعض
الآخر كان بالإمكان الاطلاع عليه عند مراجعة محطات حياته الشخصية
والعامة، خاصة وانه كان معروفا بصيته السيئ في الأوساط المالية
والإعلامية. فلم انتخبه الناس؟
والسؤال ذاته يستحق أن يُطرح لفهم « فوز» تيار سياسي بـ« قيادة» شخص
مثل (سماحة حجة الإسلام والمسلمين القائد السيد أعزه الله) مقتدى الصدر
في انتخابات العراق، على الرغم من تاريخه الشخصي والسياسي المتخبط بين
القرارات الارتجالية، والقفزات السريعة، من موقف الى آخر، المتناقض بين
الخطاب الموعظي ـ التحشيدي ـ الشعبوي بعنوان الاستشهاد والمقاومة
والانكفاء التوحدي. والمراوحة بين الغضب على أحد أتباعه وإنزال العقاب
به أو تسريح الميليشيا التي يقودها باسم والده، أو إعادة تشكيلها تحت
اسم جديد. ويمتد انكفاؤه، أحيانا، شهورا طويلة، في مدينة قم الإيرانية،
بذريعة محاولة إكمال الدراسة الفقهية التي تؤهله، كما ذكر في آخر بيان
له، لإصدار الفتاوى الدينية، أو كتابة الشعر، بالإضافة إلى إرساله
تغريدات تضاهي تغريدات ترامب في نزقها وتدني المستوى العقلي لمرسلها.
إن بروز هذه النماذج، بعيوبها وهذيانها، وأضرارها الآنية وبعيدة المدى،
سيستمر إلى أن تتخلص الشعوب من حقبة الأكاذيب المُغلّفة بالزيف
الدعائي، لتعيش آمالها في الحرية والعدالة والكرامة
هناك، طبعا، أسباب عديدة ومتشابكة الى حد التعقيد لظاهرة انتخاب «
قادة» غير مؤهلين. يأخذنا بعضها إلى دوافع المشاركة في الانتخابات
أساسا لتحقيق فوز مرشح معين. من بينها الانتماء الحزبي أو الديني أو
العائلي. وقد يكون الاعتقاد بأن التصويت هو الطريق الأسلم للتغيير، أو
الدعم المالي والوظيفي الذي يوفره حزب لأتباعه، أو نتيجة الانصياع
لضغوط إعلامية مكثفة تهدف الى «صناعة» موقف. كما يرى علماء الاجتماع
والنفس أن فعل التصويت هو تعبير عن الانتماء إلى مجموعة أو التعبير
«عمن أكون» فضلا عن الأحاسيس المثالية بأن من يُصوت هو مواطن صالح.
مقابل ذلك، توصل عدد من علماء النفس، الى أن العقلانيين الذين يهتمون
بأنفسهم، لا يعيرون الانتخابات أية أهمية ويرونها مضيعة للوقت.
جوابا عن سؤال عدم الأهلية، وصعود اشخاص لا يستحقون موقع القيادة،
يذكرنا من لم يصوت لهم، بأنه لم يتم انتخاب الشخص غير المؤهل من قبل كل
الشعب، وأن أقلية متنفذة تملك المال والاعلام والسلاح استحوذت على
الأصوات. وأن الناخبين يفضلون، عمومًا، السياسات ذات الحلول الآنية
السريعة التي تساعدهم على حل مشاكلهم المعيشية وتعزز رفاهيتهم على حساب
الحلول الاستراتيجية. بينما يذكرنا آخرون بأن للديمقراطية، أمراضها
ومساوئها حتى في « أمهات الديمقراطية». ثم قد يكون الشخص غير المؤهل هو
الأقل ضررا في حالة الفراغ الأخلاقي، وكما أشار أحد المعلقين أثناء
الحملة الانتخابية الرئاسية التي خاضها ترامب مقابل هيلاري كلينتون عام
2016 «لا يوجد مرشح رئاسي جيد أخلاقيا في هذه الانتخابات» وأن ترامب
«مرشح جيد وإن كانت لديه عيوب». في تلك الحالة، حُسمت الانتخابات، من
وجهة نظرهم، باختيار السيئ من الأسوأ أو أهون الشرين. ولا تخلو عملية
الاختيار الديمقراطي من الانتقام العام. حيث يلجأ المواطن للتصويت ضد
مرشح حزبه الذي طالما ناصره حين يُصاب بخيبة أمل في سياسة الحزب تجاه
مسألة أو قضية يعتبرها مبدئية. أو تلجأ الجماهير للتصويت لصالح شخص لا
ينتمي لأي حزب كان وغير معروف نسبيا انتقاما من الأحزاب المنشغلة
بالفساد والمصالح الشخصية، وهو ما حدث في تونس، حين أُنتخب قيس سعيد
رئيسا للجمهورية وبأعلى نسبة من الأصوات.
وإذا كانت الديمقراطية قد وضعت حدا لديمومة حكم الرئيس، مهما كانت
أهليته، فإنها أسقطت، في الوقت نفسه، وهم الرئيس – القائد بما يحمله من
مواصفات تاريخية وبطولية تغذي مخيلة الجماهير على مدى عقود. وظهر رعيل
جديد من الرؤساء، بمواصفات مغايرة لما كان مألوفا. فرئيس الوزراء
البريطاني بوريس جونسون المتقلب المواقف، الذي يتفوه بما يخطر بباله
بلا تفكير، مهما كانت العواقب، لا يجد غضاضة في التراجع عما تلفظ به
ضاحكا، مازحا. مرسخا صورته، وبالتالي دوره، كشخص يعيش اللحظة، بروح
شبابية مرحة، وتسريحة شعر متطايرة، بعيدا عن كوابيس التاريخ الثقيلة
التي طالما غلّفت حزبه، وبعيدا، بالتأكيد عن شخصية منافسه في
الانتخابات جيريمي كوربن، رئيس حزب العمال، المبدئي الجاد. كان فوز
جونسون نجاحا كبيرا للاستنساخ الأول لترامب.
ولن تتوقف عملية الاستنساخ عند هذه النماذج بل تشير نتائج الانتخابات
في عديد البلدان، العراق مثالا، إن بروز هذه النماذج، بعيوبها
وهذيانها، وأضرارها الآنية وبعيدة المدى، سيستمر إلى أن تتخلص الشعوب
من حقبة الأكاذيب المُغلّفة بالزيف الدعائي، لتعيش آمالها في الحرية
والعدالة والكرامة التي طالما ناضلت من أجلها.
كاتبة من العراق
ما وراء نزاهة وشفافية
الانتخابات العراقية؟
هيفاء زنكنة
كان هناك سخاء مذهل في الثناء على مجريات انتخابات العاشر من تشرين
الاول/ أكتوبر، في العراق. إختلطت العبارات والشعارات السياسية
بالدينية وحتى التخويفية. لجأ المرشحون وقادة الأحزاب والميليشيات
ومبعوثو الأمم المتحدة وسفراء دول إلى استخدامها كسلاح للتأثير
والأقناع الجماعي بضرورة المشاركة في الانتخابات. إنها انتخابات
«مفصليةٌ مصيريةٌ وتأسيسية» و«واحدةٌ من أهم العمليات الانتخابية في
تاريخ العراق الحديث» قال برهم صالح رئيس الجمهورية. « بها يتفادى خطر
الوقوع في مهاوي الفوضى والانسداد السياسي» قالت المرجعية الدينية. إنه
« طريق نأمل أن يؤدي إلى عراق أكثر ازدهارًا وأمناً وعدالة» قالت جينين
هينيس- بلاسخارت مسؤولة بعثة الامم المتحدة بالعراق.
استمر المديح والثناء في يوم التصويت نفسه، وحتى الساعات القليلة التي
تلته. تزكية، أسرعت منظمات دولية ودول وجامعة الدول العربية، بإرسال
برقيات التهاني والتبريكات الى الحكومة والشعب. هنأت السفارة الإيرانية
ووزارة الخارجية الروسية الحكومة والشعب بالنجاح، وأشادت بريطانيا
«بالتسيير السلس» للانتخابات. إتفقت الرواية الرسمية في داخل العراق
وخارجه أن عملية الاقتراع، سارت «بشكل انسيابي» وهي « مختلفة عما جرى
عام 2018 «. ولم تبق صيغة تفضيل لم تستخدم لوصف الانتخابات «النزيهة
الشفافة» أو « الكرنفال» الذي دعت اليه المرجعية الدينية العليا، كما
صرح المتحدّث العسكري باسم كتائب حزب الله العراق، وردد رئيس الوزراء
مصطفى الكاظمي «لقد أتممنا واجبنا بإجراء انتخابات نزيهة وشفافة».
هذه اللغة الناعمة الرقيقة عن النزاهة، والشفافية، والمصداقية، وصوتك
هو مستقبلك، سرعان ما بدأت بالتبخر، تدريجيا، بعد إغلاق صناديق
الاقتراع، وإعلان مفوضية الانتخابات أنها ستعلن النتائج بعد ساعات.
تبخرت آخر قطرة من التلاعب بلغة التحشيد السياسي. حل محلها خطاب سياسي
يجمع ما بين الترهيب من العواقب والتشكيك بسيرورة الانتخابات التي تمت
بحضور أكبر بعثة انتخابية للأمم المتحدة في جميع أنحاء العالم، وبعد
إجراء أربع عمليات محاكاة انتخابية، وصرف مبالغ خيالية، وبعد توقيع كل
الأحزاب المشاركة على «مدّونة قواعد السلــوك الانتخابي» التي تعهدت
بموجبها « بنبذ التعصب والعنف وخطاب الكراهية». كل هذا تهاوى لغة
وتنظيما وسلوكا، إنزاح السراب سريعا وباسرع مما توقع المراقبون
«الأمميون» حال بدء المفوضية بإعلان النتائج «الأولية «، الدالة أولا:
على أقل نسبة مشاركة منذ تأسيس « ديمقراطية العملية السياسية» إثر
الغزو الأنكلو أمريكي للعراق عام 2003. مما يعني أن التكرار الآلي لنفس
المفردات والعبارات، وإن تمت صياغتها بعناية، أصبح أقل فاعلية خاصة مع
تنامي الوعي العام وعدم الثقة بالخطاب السياسي.
تشير قراءة مجريات الانتخابات وإعلان نتائجها وردود الأفعال عليها، على
الرغم من تدني نسبة المشاركة فيها، إلى نجاحها الكبير كمسرحية مأساوية
ـ كوميدية بعدة فصول
والدالة ثانيا: على فوز التيار الصدري على منافسيه من الأحزاب
الإسلاموية المنتمية إلى ذات المذهب، ومن أهل ذات البيت. إذ دل التخطيط
الأولي لمرحلة ما بعد إعلان النتائج أن التيار الصدري، برئاسة مقتدى
الصدر، حل بالمركز الأول وتلاه ائتلاف دولة القانون برئاسة رئيس
الوزراء الأسبق نوري المالكي.
وبينما بقيت المفوضية مصممة، لفظيا، على أن الانتخابات «كانت مفخرة
لنا، وسُررنا بالمؤسسات الداعمة التي أمّنتها» بات تاجيلها لإعلان
النتائج النهائية واعادة الفرز جراء الطعونات المتزايدة، محط سخرية
شعبية عامة، أثارت الشك بعملها وأزالت البقية الباقية من وهم مصداقية
الانتخابات. حيث صارت مقاعد البرلمانيين تزداد لهذا الحزب وتنقص لذلك،
كما لو كانت في مزاد علني للمقاعد. فما أن يقف ممثل حزب خاسر مهددا
متوعدا بنشر «صور وفيديوهات» التزييف حتى يتم، خلال ساعات، إعلان فوزه
بمقاعد إضافية. وفي خضم الشكوك والتهديدات والضغوط والابتزاز، وبكائية
الخسارة، طفت على السطح مفردات وعبارات جديدة أبعد ما تكون عن عبارات
المديح الأولية التي كانت تُرش على رؤوس المواطنين كما حلوى الأعراس.
تراوحت المفردات والعبارات لتقييم النتائج بين «اللامنطقية» و« الحيف»
و «التزوير». أما عمل المفوضية فهو «تلاعب» و«احتيال». وأعتبر المتحدث
باسم كتائب حزب الله، أن «ما حصل في الانتخابات يمثل أكبر عملية احتيال
والتفاف على الشعب العراقي في التاريخ الحديث». وصرح المتحدث بأسم
تحالف فتح، بعد يومين من الانتخابات : « النتائج لن تبقى» و«أعلنا بشكل
واضح اننا لن نقبل النتائج لأنه لدينا أدلة وأشرطة حول خلل في جميع
المحطات» وقال مذكرا بضرورة ضمان حصته من المقاعد « نحن أمة الحشد الذي
ضحى بحياته ودافع عن الديمقراطية». وكان لأقليم كردستان دوره في إغناء
لغة التراشق بإتهامات التزوير. حيث صرح متحدث باسم الاتحاد الوطني
الكردستاني بأن «أيادي خارجية تدخلت للتلاعب في النتائج». وأتسعت، في
اليومين الأخيرين، أرضية التهديد بما لا تحمد عقباه، مستقبلا، إذا لم
يحصل التوافق على المقاعد والمراكز بين الأحزاب المشاركة بالانتخابات،
وهي نفسها المهيمنة على الوضع السياسي ومحاصصة الطائفية والفساد منذ
غزو البلد. فحذّر مقتدى الصدر من «استفحال الإرهاب» وأن عدم القبول
بالنتائج « يهدد السلم الأهلي».
تشير قراءة مجريات الانتخابات وإعلان نتائجها وردود الأفعال عليها، على
الرغم من تدني نسبة المشاركة فيها، إلى نجاحها الكبير كمسرحية مأساوية
– كوميدية بعدة فصول، باخراج دولي مشترك وتمثيل محلي. مسرحية تم التهيؤ
لها إعدادا وتنسيقا ومحاكاة على مدى عام تقريبا، مع توفير التغطية
الإعلامية المكثفة لكل خطوة. ويكمن نجاحها الحقيقي في أنها أعادت تدوير
ذات الاحزاب بساستها ومليشياتها وفسادها. فمقتدى الصدر القائل في
خطابه، منذ يومين «لا مكان للفساد والفاسدين بعد اليوم» تعامى عن حقيقة
ان تياره كان في نفس البرلمان الذي يتهمه بالفساد الآن، كما أن تياره،
كما البقية، كان فاعلا في ارتكاب المجازر الطائفية، بل وأمتاز
بابداعاته الخارقة في التمثيل بالجثث واستخدام المثقاب في التعذيب.
وهذه حقيقة لا يتطرق اليها فريق إعداد المسرحية و أجهزة الإعلام، كما
لا تُذكر أوضاعه النفسية والعقلية المضطربة، فالكل منشغل بتقديمه
كشخصية «غير موالية لإيران» مقابل « الموالين لإيران» والتخويف من
إقتتال وسفك دماء بين أحزاب «البيت الشيعي». وهو ما لن يحدث. فقد حققت
مسرحية الانتخابات المرجو منها، وهو تمديد عمر النظام الحالي، بأحزابه،
على حساب دماء شهداء البلد، على مدى 18 عاما الأخيرة، ومن بينهم محتجو
إنتفاضة تشرين، لقاء دية، وقدرها عشرة مقاعد من بين 329 مقعدا.
كاتبة من العراق
المحكمة العليا الأمريكية…
بعيدا عن الانتخابات العراقية
هيفاء زنكنة
بعيدا عن الانتخابات العراقية، المماثلة في ترتيبها ونتائجها، من
يستأجر قاعة للاحتفال بعيد ميلاده، ويُزّينها، ويرتدي أجمل ما لديه
إنتظارا للمدعوين فلا يحضر أحد، بعيدا عنها، ثمة حدث تم ركنه في زاوية
لا تصل إليها أضواء أجهزة الإعلام الساطعة. ربما لأنه لا يتماشى مع
السردية الشائعة عن الأحداث التي عاشها العالم في العقدين الأخيرين،
جراء الاحتلال الأمريكي لأفغانستان والعراق. حيث نظرت المحكمة العليا
الأمريكية، الأسبوع الماضي، وللمرة الأولى، في قضية مواقع الاعتقال
السرية التابعة لوكالة المخابرات المركزية وكان أول شخص تم احتجازه
فيها، هو زين العابدين محمد حسين المعروف بإسم أبو زبيدة. هذه الخطوة
قد تساعد، إذا نجحت القضية، في منح الأمل للعراقيين الذين عاشوا
الاعتقال والتعذيب في سجون الاحتلال وحكامه بالنيابة. فهل هي الخطوة
الاولى في مراجعة تلك الأحداث من منظور يقترب من تحقيق العدالة
الأنسانية، قانونيا؟
تنبع أهمية إنعقاد المحكمة من كونها إشارة ضوء، قد تستمر مستقبليا،
لمعالجة قضايا إنتهاك حقوق الإنسان، بشكل قانوني، مهما كانت قوة
الحكومات التي تمارسها، كسياسة خارجية أو داخلية، بحجة « الحفاظ على
أمن الدولة». كما يؤكد إنعقاد المحكمة، وهو الأهم، بالنسبة إلى الأشخاص
والشعوب التي تعاني من الانتهاكات، إن محاسبة الانتهاكات والجرائم لا
تسقط بالتقادم. فقد مر على قضية أبو زبيدة، مثلا، حوالي العشرين عاما ،
متزامنة مع مرور 20 عاما على أحداث 11 أيلول/ سبتمبر، ومرور 20 عامًا
على الغزو الأمريكي لأفغانستان، و 19 عامًا على إنشاء سجن خليج
غوانتانامو، و 18 عامًا على غزو العراق، وبعد مرور 15 عامًا منذ أن تم
الكشف عن قيام وكالة المخابرات المركزية الأمريكية بإستخدام مواقع
اعتقال سرية في أوروبا. دعم رفع الدعوى وتزويد المحامين بالوثائق مكتب
الصحافة الأستقصائية، بلندن، بالتعاون مع «مشروع التسليم الاستثنائي».
وفحوى القضية هي تفنيد إدعاء حكومة الولايات المتحدة بأن مواقع السجون،
التي تعرض فيها عشرات الأشخاص للتعذيب في سنوات الحرب على الإرهاب، غير
معروفة لديها ولا علاقة لها بها. وهو إدعاء مماثل لنفي قيادة الاحتلال
الأمريكي للعراق قيامها بتعذيب المعتقلين العراقيين في « أبو غريب»
وإصرارها على الرغم من معرفة الكل بذلك، بإنها أفعال «بضع تفاحات
فاسدة» كذلك إدعاء الجيش الأمريكي الذي وصفته الأمم المتحدة رسمياً
بالجهة المحتلة، أنه لا يعرف عدد الضحايا في بلد تحت أمرته لأنه «لا
يقوم بتعدادهم».
أول الدلائل المفندة لادعاء الحكومة الأمريكية بعدم معرفتها بالسجون
والتعذيب، كما يشير ملف محامي الدفاع، المكون من 53 صفحة من الوثائق،
هو تصريح الرئيس جورج بوش، في 6 سبتمبر 2006: « بالإضافة إلى
الإرهابيين المحتجزين في غوانتانامو، هناك عدد من قادة الإرهابيين،
المشتبه بهم، تم احتجازهم واستجوابهم خارج الولايات المتحدة، في برنامج
منفصل تديره وكالة الاستخبارات المركزية».
تحتل ذريعة المحافظة على الأمن، أولوية تكاد تكون مقدسة، لدى الدول
الامبريالية، والحكومات القمعية، لتعمي الشعوب عن المطالبة بحقوقها
كان هذا أول اعتراف رسمي بأن وكالة المخابرات المركزية قامت بتشغيل
برنامج يتم من خلاله احتجاز « الإرهابيين» المشتبه بهم الذين تم القبض
عليهم في الخارج، بمعزل عن العالم الخارجي، في مواقع سرية، خارج
الولايات المتحدة، تسمى «مواقع سوداء». في البداية، اقتصرت المواقع على
بلدان محددة أهمها بولندا ورومانيا وليتوانيا وأفغانستان والمغرب.
ومع تزايد الوعي العام بوجودها، وقيام صحافيين مستقلين بنشر مقالات
تكشف عن الطائرات المرتبطة بالبرنامج، وربطها بسجلات معتقلين أو
مختطفين، كرس د. كروفتون بلاك، من منظمة « ريبريف» (الاعفاء)، وهي
منظمة غير حكومية، جهده بالتعاون مع أستاذين آخرين لجمع وتحليل كل
المعلومات المتاحة عن البرنامج. نُشرت قاعدة البيانات والمواقع، لأول
مرة، في 2013، ثم واصل الثلاثة التعاون لتطوير تحليلهم للسجل العام
ونشروا ملخصا تنفيذيا عام 2014. ليتم نشر النتائج التي توصلوا إليها،
عام 2019، في دراسة مشتركة مكونة من 400 صفحة. من بين الوثائق التي
قدمها الدفاع في قضية أبو زبيدة : وثائق حكومية أمريكية رُفعت عنها
السرية، وسجلات رحلات نقل السجناء إلى وخارج المواقع السوداء، وسجلات
هبوط الطائرات. حيث يُظهر السجل العام تاريخ وصول أبو زبيدة، مثلا، إلى
الموقع الأسود البولندي ثم نقله الى خارج بولندا، والمواقع التي احتُجز
فيها لاحقًا وهي غوانتانامو، المغرب، ليتوانيا وأفغانستان. كما يُظهر
تقرير لمجلس الشيوخ الأمريكي أن استجوابات زبيدة تضمنت 83 حالة من
الإيهام بالغرق، والحرمان من النوم وحبسه لمدة 11 يومًا في صندوق يشبه
النعش. وأثناء احتجازه، فقد أبو زبيدة عينه اليسرى.
وأدى توفر المعلومات عن سلسلة التعاقدات الخاصة بالطائرات المشاركة في
نقل المتهمين إلى رفع عدة دعاوي قضائية ضد مدير وكالة المخابرات
المركزية جورج تينيت، وأصدر المدعي العام الإيطالي مذكرات توقيف بحق 22
عضوًا من فريق الترحيل السري التابع لوكالة المخابرات، وتكرر الشيء
ذاته في إسبانيا. ونشرت صحيفة « الواشنطن بوست» في نوفمبر / تشرين
الثاني عام 2005، تحقيقا عن الدول المتعاونة مع المخابرات الأمريكية،
مقابل ملايين الدولارات. وبيّن تقرير لمنظمة « المجتمع المفتوح «
المشاركة العالمية المذهلة في البرنامج حيث وصل عدد الحكومات المشاركة
إلى 54، من بينها حكومات عربية، شاركت بطرق مختلفة. وكان للمثابرة على
التوثيق وعدم اليأس نجاحه في ثلاث دعاوى قضائية في المحكمة الأوروبية
لحقوق الإنسان.
على الرغم من ذلك، تدّعي الحكومة الأمريكية بأن الدعوى الحالية،
لاتستند الى حقائق بل مجرد تكهنات، وتصريحات غير رسمية من قبل مسؤولين
سابقين وأجانب. والمفارقة أنها تقدمت بطلب الى المحكمة ينص على أن «
أضرارا جسيمة ستلحق بالأمن القومي إذا تأكدت التكهنات العامة حول مكان
وجود المواقع السوداء لوكالة المخابرات المركزية»!
تحتل ذريعة المحافظة على الأمن، أولوية تكاد تكون مقدسة، لدى الدول
الامبريالية، والحكومات القمعية، لتعمي الشعوب عن المطالبة بحقوقها.
وهي الأداة التي بررت بها الولايات المتحدة إحتلالها أفغانستان والعراق
تحت مسمى» الحرب على الارهاب». فكانت النتيجة إزدهار صناعة الإرهاب في
ظل حكومات تُخّرب وتنهب بالنيابة. لذلك قد لا تنجح الدعوى في تحقيق
العدالة للمدعي إلا انه سيكون للحكم تداعيات كبيرة لتحديد حدود حق
الحكومة الأمريكية في السرية. وهو ما يجب التمسك به، كأحد مستويات
النضال، لتحقيق العدالة قانونيا.
كاتبة من العراق
هل نشارك في
الانتخابات العراقية أو نقاطعها؟
هيفاء زنكنة

في تغريدة باللغة الانكليزية خاطب مصطفى الكاظمي، رئيس وزراء حكومة
بغداد، الشعب العراقي بمناسبة إجراء الانتخابات المبكرة، في العاشر من
أكتوبر، قائلا : « أحثكم على الحصول على بطاقات تسجيل الناخبين الخاصة
بكم… أولئك الذين يريدون الإصلاح والتغيير يجب أن يهدفوا إلى إقبال
كبير على التصويت». وهي رسالة، تبدو بفحواها المرتب، وكأنها موجهة الى
شعب يعيش رفاهية التمتع بوجود حكومة أنتخبت ديمقراطيا وعلى وشك تسليم
السلطة لمن سيتم انتخابه ديمقراطيا فعلا. أي إنها موجهة أما لمن لا
يعرف واقع الحال المُعاش سياسيا وإقتصاديا في العراق أو لمن يتظاهر
بأنه لايعرف ومن مصلحته إستمرار الحال على ما هو عليه.
هناك مستويان للنظر إلى مجرى الانتخابات الموسومة بالمبكرة، لأن قرار
إجرائها أُتخذ بعد إنتفاضة تشرين/ أكتوبر 2019 التي أسقطت حكومة عادل
عبد المهدي بتكلفة عالية من حياة مئات المتظاهرين وآلاف الجرحى
والمُقعدين. المستوى الأول هو ما يُقدم كصورة إعلامية مزوقة عن الإعداد
لانتخابات توحي، للعالم الخارجي، بأنها لا تختلف عن عديد البلدان في
أرجاء العالم الديمقراطي. هناك اسطوانة يومية، مثلا، عن مفوضية عليا «
مستقلّة» للانتخابات، وإحصائيات وقانون انتخابات ومراقبة دولية لضمان
النزاهة. إلا أن تفكيك هذه الصورة، وهو المستوى الثاني للنظر، يبين ما
هو مخفي ورائها من تزوير وتزييف للواقع المٌعاش، المؤثر على سيرورة
الانتخابات وإنقسام مواقف أحزاب وميليشيات ومرجعيات دينية أرتبطت
بالاحتلال وحركات ومنظمات وُلدت من رحم إنتفاضة تشرين.
قبل أشهر، أعلنت مفوضية الانتخابات أن عدد الذين يحق لهم التصويت في
الانتخابات البرلمانية، يبلغ ما يقارب 25 مليون شخص. إلا أنها عادت،
بعد طفو ملامح التزوير إلى السطح، إلى حصر عدد من يحق لهم التصويت بمن
يمتلكون البطاقة البايومترية، مع زيادة عدد المراقبين الخارجيين. ومع
اقتراب موعد الانتخابات وزيادة عدد الخروقات في الإعلانات والترويج،
وإطلاق المرشحين (ومعظمهم من ممثلي الأحزاب الفاسدة الموجودين في
البرلمان حاليا) وعودا خيالية زائفة لمداعبة حاجات المواطنين، من الصحة
والتعليم، إلى البناء والإعمار والكهرباء والماء الصالح للشرب، وتعيين
الخريجين، ومع تصاعد أصوات الداعين إلى مقاطعة الانتخابات، ازدهر موسم
إصدار التصريحات والبيانات الداعية إلى إلمشاركة.
حكوميا، صرّح الكاظمي، مثلا، بأنه سيشرف شخصيا على الأمن الانتخابي
وأنه لن يسمح « بأي خرق، أو تجاوز يمكن أن يؤثر على سير العملية
الانتخابية أو نتائجها» متعاميا عن حقيقة إطلاقه الوعود بالأطنان حول
تقديم قتلة المتظاهرين الى القضاء وتقليم أظافر الميليشيات، بداية
تسنمه المنصب. ولم يُنفذ أيا منها. وأصدرت المرجعية الدينية، متمثلة
بمكتب المرجع الديني علي السيستاني، المُصر على أنه لا يتدخل بالشأن
السياسي، بيانا يوم 29 أيلول/ سبتمبر، لتشجيع «الجميع» على المشاركة في
الانتخابات لكي يتفادى البلد خطر الوقوع بـ «مهاوي الفوضى والانسداد
السياسي» مفترضا أن ما يعيشه البلد، حاليا، هو قمة النظام والانفتاح
السياسي. وهو بيان يستحق أن يُقرأ بتأن لسببين. الأول لتوقيت إصداره
قبل أيام من إجراء الانتخابات، وبعد أن بات تغلغل الفساد في كل تفاصيل
التهيؤ لها مكشوفا، فجاء البيان أما من باب رفع العتب أو محاولة إنقاذ،
لنظام فاسد، ما أن يوشك على الغرق حتى يمد مكتب المرجعية له يد
الانقاذ.
كيف يمكن للناخب «أن يكون واعيا ومسؤولا» من أجل «إحداث تغيير حقيقي في
إدارة الدولة» وهو الذي ما إن خرج إلى الشارع مطالبا بوطنه حتى جوبه
«بالاستخدام المفرط للقوة المميتة؟
القراءة الثانية للبيان تبين مهارة «الواعظ» في صياغة خطاب، بلا محتوى
حقيقي، باستثناء دغدغة المشاعر. فكيف يمكن للناخب «أن يكون واعيا
ومسؤولا» من أجل «إحداث تغيير حقيقي في إدارة الدولة» وهو الذي ما إن
خرج إلى الشارع مطالبا بوطنه حتى جوبه «بالاستخدام المفرط للقوة
المميتة، من طرف قوات الأمن لتفريق المحتجين، بما في ذلك القنابل
المسيلة للدموع ذات الاستخدام العسكري، والذخيرة الحية والهجمات
المميتة التي يشنها القناصة» حسب منظمة العفو الدولية التي وثَّقت،
أيضا « حالات الاختفاء القسرية للناشطين». وتنصح المرجعية بانتخاب
المرشح « الصالح النزيه، الحريص على سيادة العراق وأمنه وازدهاره،
المؤتمن على قيمه الأصيلة ومصالحه العليا، الكفوء، غير المتورط
بالفساد، المؤمن بثوابت الشعب العراقي «. وهي مواصفات بضاعة، يعرف مكتب
المرجعية جيدا كما أبناء الشعب، إنها غير متوفرة بين المرشحين،
المغموسين بالفساد، مما يلقي ظلال الشك حول النية من إصدار البيان.
الملاحظ أنه ليس هناك موقف موحد بين المرجعيات بصدد المشاركة. حيث أوضح
المسؤول الإعلامي لمكتب المرجع الديني جواد الخالصي، في مقابلة مع
وكالة ( روداو) بأن البيان لم يصدر باسم السيد السيستاني بل من مكتبه
وهو ليس فتوى، بل بيان تشجيعي، مما يعني أن الالتزام به ليس فرضا. وترى
مدرسة الامام الخالصي أن الاحتلال الأمريكي لايزال موجوداً « وهو
المتحكم والمسيطر والمهيمن على كل تفاصيل العملية السياسية، ومن ضمنها
الانتخابات». و«أن نتائج الانتخابات محسومة والاصوات مفروزة والمقاعد
موزعة».
بعيدا عن المرجعية، أيد «تجمع قوى المعارضة» الذي تأسس من مجموعات
شاركت في انتفاضة تشرين، المقاطعة لأنها «تفتقر إلى النزاهة وتكافؤ
الفرص». وكان الحزب الشيوعي قد إنسحب من المشاركة يوم 24 تموز/ يوليو،
بعد مناورة الانسحاب المؤقت لشريكه « التيار الصدري» يوم 15 تموز/
يوليو. إلا أن الصدر أعلن، بعد أسابيع، عدوله عن قراره السابق وألزم
مرشحي تياره بالتوقيع على تعهد من 28 نقطة أُستهل بشرط « الطاعة
والولاء» للصدر، تاركا حليفه الحزب الشيوعي في عراء اللا مشاركة مع
كونه بعيدا عن تجمع قوى المعارضة التي التزمت منذ البداية برفض العملية
السياسية برمتها.
هل ستؤدي المشاركة في الانتخابات أو مقاطعتها إلى إحداث أي تغيير في
هيكلة منظومة الحكم الحالية؟ نعم، سنرى تغييرا ما إلا أنه في الأغلب،
لن يكون لصالح الشعب المتطلع إلى التخلص من النظام الطائفي الفاسد
وإقامة نظام ديمقراطي حقيقي، بل سيكون لصالح تمديد عمر منظومة الفساد
مع إعادة توزيع لتوازناتها، انسجاما مع التوازنات الاقليمية الجديدة
بين دول الجوار والتحالف الدولي وصفقاتها الداخلية.
كاتبة من العراق
عن التطبيع والكرد
وحسرة القائد الأمريكي
هيفاء زنكنة

عُقد في مدينة أربيل، عاصمة إقليم كردستان العراق، يوم الجمعة 24 أيلول
/ سبتمبر، مؤتمر بعنوان «السلام والاسترداد». حضر المؤتمر الذي نظمه
مركز يدعى « اتصالات السلام الأمريكي» عدد من عراقيين تم وصفهم بأنهم «
شيوخ عشائر وكتاب ومثففون».
تزامن عقد المؤتمر الداعي إلى اعتراف العراق بكيان الاستيطان الصهيوني
مع الذكرى السنوية الأولى لـ ( إتفاقات إبراهيم) التي أبرمتها الإمارات
والبحرين والمغرب والسودان، بمباركة الرئيس الأمريكي السابق دونالد
ترامب. وتواصل الولايات المتحدة برئاسة الديمقراطي جو بايدن سياسة
الجمهوري ترامب الداعمة للاحتلال الصهيوني على حساب إبادة الشعب
الفلسطيني. حيث أكد وزير الخارجية الأمريكية أنتوني بلينكن، يوم
الجمعة، في أجتماعه مع وزراء خارجية دول « إتفاق إبراهيم» الدعم
الأمريكي المستمر للاحتلال من خلالهم. وإذ يتغنى بلينكن بفائدة
الاتفاقات لشعوب المنطقة، فإنه لاينسى تهديد الحكام بنعومة شرطي العالم
بأنه» من مصلحة دول المنطقة والعالم أن يتم التعامل مع إسرائيل كسائر
الدول». لا غرابة، إذن، أن ينعقد، في اليوم، نفسه، مؤتمر يدعو بلسان
متحدثته الرئيسية المدعوة سحر الطائي « لابد للعراق اليوم أن يغير
سياسته. بات أمرا ضروريا ولابد منه الاعتراف بإسرائيل كدولة صديقة «.
تدل التقارير ألتي نُشرت عن المؤتمر وأشرطة الفيديو، بالاضافة إلى خطب
المتحدثين، إلى أن الحاضرين الذين تفادوا إظهار وجوههم أمام الكاميرا،
لا يمثلون، كما ادعى منظمو المؤتمر، الشرائح المجتمعية والدينية أو
المراكز أو المنظمات، أو العشائر العراقية، التي يدّعي منظم المؤتمر
انهم يمثلونها. فالسيدة سحر الطائي القائلة « لا يحق لأي قوة، سواء
كانت محلية أم خارجية، أن تمنعنا من إطلاق مثل هذا النداء» والتي تم
تقديمها وكأنها ناطقة رسمية بإسم وزارة الثقافة، مثلا، دفعت وزارة
الثقافة إلى إصدار بيان تكذيب سريع نفت فيه «صلتها بالتصريحات ألتي
صدرت عن إحدى الموظفات تدعِّي شَغلِها لمنصب في وزارة الثقافة».
وأوضحت الوزارة إنها « ترفض انعقاد مؤتمرٍ للتطبيع مع إسرائيل على أرض
أربيل في كردستان العراق، معتبرة أن انعقاد هذا المؤتمر سابقةٌ خطيرةٌ
تتعدى على الدستور ورأي الشعب العراقي، وتمسّ كرامة القضية الفلسطينية
وحقوق شعبها، وهو ما لايرضى به العراقيون حكومةً وشعباً، مؤكدة وقوفها
المنيع مع أبناء الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة «.
أكد البيان موقف الشعب العراقي، التاريخي والحاضر، ألذي يرى في فلسطين
قضيته العادلة، التي لا تسقط بالتقادم. وأن فلسطين هي البوصلة
الأخلاقية بالأضافة الى القانونية الدولية والأنسانية. وسارعت، عديد
الجهات الشعبية، والمسؤولين الحكوميين، وحتى قيادة الجيش، إلى إستنكار
إنعقاد المؤتمر. وهو موقف جماعي غاضب، قلما توصل اليه العراقيون حول
قضية ما، منذ غزو العراق، بقيادة أمريكا، في 2003، ومأسسة محاصصة
الطائفية والعرقية. وجاء موقف حكومة إقليم كردستان التي إدّعت أن
الاجتماع تم دون علمها وموافقتها ومشاركتها، مثيرا للتهكم، فالمعروف
للجميع أن أي إجتماع، مهما كان حجمه، لا يتم بدون موافقة الجهات
الأمنية، فكيف إذا كان مؤتمرا كهذا، وهو يتماشى مع موقف قادة الإقليم
من الكيان الصهيوني وزياراتهم وحجم توسع المصالح الإسرائيلية المؤيدة
لأنفصال الإقليم عن العراق.
تزامن عقد المؤتمر الداعي إلى إعتراف العراق بكيان الاستيطان الصهيوني
مع الذكرى السنوية الأولى لـ ( إتفاقات إبراهيم)
مع هذا، إذا كان الغرض من إقامة المؤتمر، كما يبدو، هو جس نبض الحكومة
العراقية، بناء على الارتباط بأمريكا، وفق إتفاقية الاطار الاستراتيجي،
فان النتيجة جاءت معاكسة تماما لما كان متوقعا من قبل المنظمين، حيث
استردت القضية الفلسطينية أولويتها، بقوة الأرادة الشعبية وعمق العلاقة
بين الشعبين الفلسطيني والعراقي، خلافا لعنوان « السلام والاسترداد».
كما كانت النتيجة، إفراغ المؤتمر من هدفه، بفضل المتحدثين، أنفسهم، حين
فشلوا في تقديم خطاب موحد يتماشى مع سياسة المركز الذي تكفل بدعوتهم
ودفع إجورهم. إذ إختلط، في خطبهم الركيكة، التأجيج الطائفي ( بين السنة
والشيعة) وأهمية الفيدرالية وتقسيم العراق، والخلط ما بين الدين
اليهودي والصهيونية، ومهاجمة إيران إلى حد تناسوا فيه، أحيانا، التركيز
على «السلام الإسرائيلي».
« السلام» الذي بات مفردة كريهة لحدة تناقضه مع واقع الاحتلال، وسياسة
الاستيطان، والتمييز العنصري، ومنع حق العودة لأهل البلد الشرعيين. وهو
واقع رافق الكيان الصهيوني منذ لحظات تأسيسه الأولى وأصاب رشاشه
العراقيين كما الفلسطينيين. ففي لقاء بين رئيس أركان جيش الدفاع
الإسرائيلي يغئيل يادين والقيادة العليا للجيش الإسرائيلي، عام 1950،
كما جاء في كتاب «عزيزتي فلسطين» لشاي هازكاني، أعرب يادين عن قلقه من
أن معظم الجنود اليهود الذين كانوا مهاجرين حديثًا من العراق، لم
يُظهروا مستوى العداء الذي توقعه تجاه العرب. وحث الاجتماع قائلا:
«علينا أن نحفز مشاعر الكراهية ضد العراقي العربي حتى في أوقات السلام.
ليس لدينا أوقات سلام. بل وعلينا تشجيع روح الانتقام ضد العراقيين».
نظّم مؤتمر أربيل المدعو جوزيف براود، رئيس مركز « إتصالات السلام
الأمريكي» في نيويورك، الذي « طّور لغته العربية خلال عمله مدة سبع
سنوات في الإذاعة الوطنية المغربية وتعلم الفارسية كطالب دراسات عليا
في جامعة طهران» ويهدف في نشاطاته مع آخرين، بينهم صحافية لبنانية ومغن
تونسي، وناشط مدني عراقي كردي، على مكافحة «معاداة السامية» وعلى تطوير
«استراتيجية حول كيفية دحر أجيال من الرسائل المعادية للسامية والرفض
في وسائل الإعلام والمساجد والمدارس العربية» حسب كتاب لبراود.
وقد حاول براود، عبثا، والحق يقال، تلميع صور المساهمين من العراقيين
وإضفاء أهمية كبيرة على مراكزهم ودورهم، أثناء مقابلاته مع أجهزة
الأعلام، تبريرا لالتقاطه إياهم، إلا أن تخبطهم في إيصال دعوته الى
العراقيين لتشجيع التطبيع مع الكيان الصهيوني، لا بد وأن ذكّره بما
قاله قائد إحدى فرق جيش الاحتلال الأمريكي، عام 2006، حين سأله صحافي
عن فشل القوات الأمريكية، بالقضاء على «المتمردين العراقيين» على الرغم
من التفوق العسكري الأمريكي وتجنيد عملاء عراقيين، فأجابه القائد
متحسرا : «المشكلة هي أن أفضل الناس يقاتلون في الجانب الآخر».
كاتبة من العراق
استيزار المرأة في العراق
وأفغانستان… هل هذا هو السؤال؟
هيفاء زنكنة
في الوقت الذي تتعالى فيه أصوات
المسؤولين الأمريكيين والبريطانيين، وأجهزة الإعلام الرسمية في الغرب،
عموما، إستنكارا لعدم إستيزار المرأة الأفغانية في حكومة طالبان، التي
تم تشكيلها مؤخرا، وعدم تخصيص نسبة تمثيل سياسي لها، في أي موقع آخر،
تعيش المرأة العراقية المُغّيبة مثل نظيرتها الأفغانية، في ظل صمت مطبق
من قبل ذات الجهات. وإذا كانت حركة طالبان معروفة، بموقفها من المرأة،
وهناك خوف عام من عدم تغير موقفها، حاليا، على الرغم من تصريحاتها، فان
محنة المرأة العراقية أكبر وأعمق من ذلك. فهي، تعيش، منذ إحتلال
العراق، بقيادة أمريكا في عام 2003، تراجعا مستمرا في ذات الحقوق التي
يُفترض من حركة طالبان تطبيقها بعد توليها الحكم. وهي حقوق لا خلاف
إطلاقا حول وجوب أن تتمتع بها المرأة. فمن المُسّلمات أن حقوق المرأة
هي حقوق الإنسان، وضمانها مسؤولية أخلاقية وقانونية، في عالم يُفترض
فيه العمل على تطبيق حقوق الإنسان، في جميع البلدان، في أرجاء العالم،
بلا تمييز.
إلا أن تجربة 18 عاما في العراق، تجعل من الصعب على أي متابع لوضع
المرأة، ناهيك عن المرأة نفسها، ألا يقارن بين التصريحات والممارسات
الفعلية على الأرض، فيما يخص مدى تطبيق حقوق الإنسان، خاصة المرأة. ومن
الصعب ألا يخلُص المرء إلى الضرر الكبير الذي تسببه سياسة إزدواجية
المعايير التي تمارسها أمريكا وبريطانيا، خاصة، تجاه قضية المرأة في
البلدان المحتلة، وبعد أن بات مفهوم « حقوق الإنسان» مرتبطا بالغرب،
واستغلال ما تتعرض له المرأة، كورقة لعب سياسي لفترة معينة، سرعان ما
تنتهي حال إنتفاء الحاجة اليها، لتنتهي المرأة كخاسرة أولى، في كافة
المجالات من التعليم والصحة إلى العمل وحرية الحركة إلى المساواة في
التمثيل السياسي، بكافة المستويات، كما يبين حال المرأة العراقية بوضوح
شديد. وإذا كانت خسارة العراقيين، نساء ورجالا، فادحة في سنوات
الاحتلال، جراء التخريب المنهجي المتبدي بالطائفية والفساد والاعتقالات
والقتل وانتشار الأرهاب بكافة أنواعه، فأن خسارة المرأة مضاعفة لأنها
باتت المعيل الأول للعائلة، في بلد تحتد فيه المنافسة على العمل، حسب
المحاصصة الطائفية والحزبية، مما أبعدها عن النضال العام.
ويقودنا الجدل الدائر حول عدم إستيزار نساء أفغانيات، إلى متابعة
سيرورة إستيزار المرأة العراقية وتفكيك إدعاءات « تحرير» المرأة
والوعود المبذولة لها بالأطنان عن المساواة، في ظل العملية السياسية
التي أسسها الاحتلال، والتزمت بها الحكومات العراقية المتعاقبة. حيث
تميزت الفترة التي تلت الغزو، مباشرة، بنشاط «نسوة استعماريات» اخترن
أن يكن وجها للاحتلال بخطاب غالبا ما يستبدل أو يعارض القضايا الوطنية
والاجتماعية والطبقية الأساسية، بقضايا التمايزات الأخرى مما أنتج نخبة
تحترف العمل «النسوي» على حساب النشاطات النسائية والنضال الشعبي
المتنامي عضويا من داخل المجتمع نفسه. وما يجعل وضع المرأة العراقية
نموذجا لتفكيك إدعاءات تحسين مشاركتها السياسية مقابل حرمان الأفغانية
أن العراق « شريك» لأمريكا حسب «اتفاقية الإطار الاستراتيجي لعلاقة
الصداقة والتعاون بين الولايات المتحدة الأمريكية وجمهورية العراق».
هل استيزار المرأة، كما يُطرح
عالميا ومحليا، أحيانا، هو الحل لوضع المرأة المتدهور، تعرضها للعنف،
وحرمانها من حقوقها الأساسية في التعليم والصحة والعمل؟
وحسب بيان للادارة الأمريكية في
نيسان/ أبريل من العام الحالي « جدّد الجانبان التأكيد على علاقتهما
الثنائية الوطيدة، والتي تعود بالنفع على الشعبين الأمريكي والعراقي.
في قضايا الأمن ومكافحة الإرهاب، والاقتصاد والطاقة والبيئة، والمسائل
السياسية، والعلاقات الثقافية». مع ملاحظة تفادي ذكر حقوق الإنسان،
خاصة المرأة التي أستخدمت قضيتها لتسويق الغزو، لتُركن جانبا ولم يعد
وجودها في الحكومة ومراكز اتخاذ القرار السياسي، أمرا يستدعي الاهتمام.
بالنسبة الى عدد الوزيرات، ضمت الحكومة الانتقالية برئاسة إياد علاوي
(2004 ـ 2005) ست وزيرات. لينخفض العدد تدريجيا، حتى اختفى تماما، في
حكومة عادل عبد المهدي، في عام 2018. وكان عبد المهدي قد أُجبِر على
الاستقالة تحت ضغوط المتظاهرين في إنتفاضة تشرين/ أكتوبر 2019 التي
ساهمت فيها المرأة بقوة أعادت الأمل بإستعادة المرأة موقعها الطبيعي في
النضال الشعبي العام. وكانت وزارة المرأة قد ألغيت في حكومة حيدر
العبادي (2014 ـ 2018). أما الحكومة الحالية، برئاسة مصطفى الكاظمي،
فتضم وزيرة واحدة من أصل 22 وزارة. وإذا اضفنا الى الإقصاء الوزاري،
فرض رجال الدين السياسي تفسيراتهم الطائفية المتماشية لا مع التدين
كمعتقد شخصي، بل مع سياسة الأحزاب المتبنية لهم، وغالبا ميليشياتها،
على عضوات البرلمان والمرأة عموما، لوجدنا أنفسنا أمام تساؤلات لم تفقد
أهميتها رغم قدمها.
هل استيزار المرأة، كما يُطرح عالميا ومحليا، أحيانا، هو الحل لوضع
المرأة المتدهور، تعرضها للعنف، وحرمانها من حقوقها الأساسية في
التعليم والصحة والعمل؟ كيف يمكن الفصل بين العنف الشخصي والعام حيث
تختلط العائلة، والعشيرة، والتقاليد المجتمعية بعنف الدولة والميليشيات
والمنظمات الإرهابية؟ كيف الفصل ما بين الخاص والعام ؟ وما هو الفرق
بين الوزير والوزيرة اذا كانت العملة اليومية المتداولة، سياسيا
ومجتمعيا، هي الفساد بأنواعه المتمثل بالاحزاب التي ينتمون اليها؟ وهل
يكفي الحصول على المناصب وترداد الشعارات، بدون الأصغاء الى أصوات
النساء على الارض، وعزل النضال النسوي عن الشعبي التحرري العام، لمسح
الحيف الذي تتعرض له المرأة؟ ان متابعة نضال المرأة العراقية
والفلسطينية وكل البلدان التي عاشت أو تعيش الاحتلال والهيمنة
الامبريالية تبين ان تجربة المرأة في بيئتها، ونضالها العضوي المشترك
مع الرجل لترسيخ حق المواطنة، قد يحمل الإجابة على عديد التساؤلات، كما
تُذكرنا الأكاديمية الأيرانية إلهي روستامي بوفي في دراسة لها عن
مقاومة النساء الأفغانيات ونضالهن في أفغانستان ومجتمع الشتات، قائلة :
« مع استمرار العنف ضد النساء والتمييز الجنسي وعلاقات الجندر
التقليدية، تبنت الدول العظمى والمؤسسات المالية والعسكرية لغة النسوية
وخطابها. وقد أُعيد تعريف هذه المفاهيم لتعني ان الغرب، وبالاخص
الولايات المتحدة، متحضر، بينما الثقافات الأخرى تقع على هامش
البربرية. جرى التلاعب بهذه المسائل بنجاح منقطع النظير، لتبرير الحرب
والسيطرة الامبريالية».
كاتبة من العراق
عشرون عاما من الإبداع
الفني في مناهضة الحرب
هيفاء زنكنة
بعيدا عن نيويورك وأفغانستان، عن سنوية الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر،
وما جره التفجير من مصائب على العالم، كان هناك، في لندن، حضور من نوع
آخر. ليس إحتفالا بل تذكيرا بمناسبة، غير رسمية، تقف على الجانب الآخر
من إعلان إدارة بوش « الحرب على الإرهاب» واحتلال أفغانستان والعراق.
في قاعة، بشرق لندن، بدلا من أصوات القنابل والصواريخ ووقع أحذية
القوات العسكرية وصراخ الضحايا، تعالت أصوات المحتجين ضد الحرب ممزوجة
بالفن. بالألوان والموسيقى، والأفلام، والتصوير، والمطبوعات، واللوحات،
واللافتات الخشبية واللافتات المنسوجة باليد. شعارات وملصقات فنية تمثل
بشاعة الحروب التوسعية الإمبريالية، وأخرى يتحدى فيها الفنانون
المشاركون الموقف السياسي الخارجي الذي قاد بريطانيا، على مدى عشرين
عاما الأخيرة إلى حرب مستمرة، ويعطون صوتًا للحركة المناهضة للحرب،
منسوجا بتحقيق العدالة، عبر موقف مبدئي واضح ضد الحرب والأحتلال في
أفغانستان والعراق ونظام الفصل العنصري في فلسطين. كانت الحركة المسماة
«أوقفوا الحرب» قد تأسست في عام 2001، إثر المظاهرات ضد غزو أفغانستان،
ونجحت في تحشيد الملايين ضد الحرب على العراق عام 2003، ولاتزال مثابرة
على تنظيم المظاهرات المطالبة بانهاء إحتلال فلسطين وسياسة الاستيطان
الصهيونية، مساهمة بتشكيل الوعي السياسي لجيل كامل.
في تحشيدها ملايين المواطنين البريطانيين، ضد الحروب الخارجية، ألهمت
حركة « أوقفوا الحرب» عددا كبيرا من الفنانين والمصممين وصانعي الأفلام
والمصورين والموسيقيين الذين ساعدوا الحركة على إبراز رسالتها، لإنشاء
سجل نابض بالحياة لأنشطتها وإنتاج مجموعة من الفنون المناهضة للحرب
التي خاطبت الملايين. حيث وضع المساهمون، جميعا، بأعمالهم، حدا للتساؤل
الذي لاتزال بعض الدوائر الثقافية تجتره وهو: هل بامكان الفن، بأنماطه،
أن يؤدي دورا في التغيير المجتمعي والسياسي؟ وهل بإمكانه تقديم شيء،
مهما كان، في فترات الصراع والحروب خاصة؟
إن سردية عشرين عاما من الإنتاج الفني في الحركة المناهضة للحرب، تقول
نعم لدور الفن في الحث والمساهمة في سيرورة التغيير. إذ تنتفي المسافة
بين العمل الفني والنشاط في الحياة العامة، وهو ما جعل الحركة المناهضة
للحرب تنبض بالحياة وزّودها بالقدرة على التعبئة الجماهيرية غير
المباشرة. فبالاضافة الى العمل السياسي التعبوي المباشر، هناك العديد
من مستويات العمل التي يجب اتخاذها عند السعي من أجل التغيير، وأحدها
هو التعبير الفني. وهو شكل من أشكال النشاط العام، له بحد ذاته القدرة
على مواجهة الظلم، وتجاوزه من خلال تقديم وجهات نظر مغايرة للسائدة
والمتحكمة بالمجتمع. وغالبًا ما تكمن قيمته في تزويد الناس بمنظور وطرق
جديدة لتصور العالم. فالنشاط الفني أداة مهمة لتشكيل الوعي الاجتماعي،
وممارسة ديناميكية تجمع بين القوة الإبداعية للفنون، للتحريك عاطفياً،
مع التخطيط الاستراتيجي للنشاط الضروري لإحداث التغيير الاجتماعي. وهنا
تكمن قوة الفنان الناشط في حركة تدعو وتعمل من أجل التغيير.
من المعروف أن حركات الاحتجاج والانتفاضات الشعبية تُلهم الفنانين
والأدباء. وهذا ما رأيناه بوضوح في إنتفاضة تشرين 2019 في العراق
من هذا المنطلق، تمكن الفنانون الناشطون في الحركة المناهضة للحرب من
إنتاج أعمال أصبحت جزءا من ذاكرة جيل بريطاني يرنو الى تحقيق العدالة
وينأى بنفسه عن تاريخ بريطانيا الاستعماري. من بين الأعمال المعروضة
لافتات مبقعة بالدم ولوحة للفنان بانكسي المعروف بلوحاته وجدارياته ضد
النظام الصهيوني العنصري. في مجال الأفلام، وثق المخرج أمير أميراني
بفيلم « نحن كثرة» واحدة من أكبر المظاهرات بتاريخ بريطانيا، حين خرجت
الجماهير احتجاجا على وقوف حكومة رئيس الوزراء توني بلير الى جانب جورج
بوش في شن الحرب العدوانية ضد العراق. وساهم الموسيقي والمفكر براين
إينو بمقطوعة موسيقية لم تُقدم سابقا، وكان إينو واحدا من أوائل من
كتبوا ونشطوا ضد الحرب متطرقا إلى مستويات مناهضة الحرب المتعددة ومنها
الموسيقى كسلاح قوي له إستخداماته المتناقضة، كما حدث حين أُستخدم
المحققون الأمريكيون أغاني البوب للتعذيب في المعتقلات بالعراق. ولا
يمكن نسيان فوتومونتاج كينارد فيلبس الذي أصبح رمزا للدور البريطاني في
الحرب، المتمثل بتوني بلير المبتسم إبتسامة المنتصر، وهو يحمل هاتفه
الذكي لالتقاط صورة ذاتية، فرحا بنفسه وما فعله، بينما يتصاعد خلفه
دخان حقول النفط المحترقة، مغطيا الأفق كله.
ضم المعرض بطاقات لمصممة الأزياء العالمية فيفيان ويستوود ( عمرها 79
عاما) التي قامت، أخيرا، بتعليق نفسها داخل قفص طيور موضوع على إرتفاع
عشرة أقدام في الهواء، أمام محكمة بوسط لندن، وهي ترتدي بدلة صفراء
كاملة وقبعة بيسبول، صارخة بأعلى صوتها « أنا جوليان أسانج. أنا طير
كناري. إنني نصف مسمومة من الفساد الحكومي وتلاعب الحكومات بالنظام
القانوني، بينما لا يعرف سكان العالم البالغ عددهم 7 مليارات ما كان
يحدث». بعملها الجريء صّورت ويستوود ما قام به أسانج في كشف حقيقة
السياسة الأمريكية من خلال نشره وثائق « ويكيليكس» بأنه مثل طائر
الكناري الكاشف عن السموم في المناجم.
ولم تقتصر نشاطات « أوقفوا الحرب» على تنظيم الندوات والمظاهرات
والتوعية بأطماع الحرب الامبريالية المبنية على الاستغلال وتسويق
السلاح، بل تعدتها إلى إصدار الكتب وإقامة الأمسيات الأدبية، لتجذب
بذلك جمهورا من المهتمين بالادب والشعر. وكان من أهم إصداراتها التي
ساهمتُ فيها، شخصيا، كتاب « حرب بلا نهاية» و« لامزيد من الموت».
من المعروف أن حركات الاحتجاج والانتفاضات الشعبية تُلهم الفنانين
والأدباء. وهذا ما رأيناه بوضوح في إنتفاضة تشرين/ أكتوبر 2019 في
العراق. حيث بلغ المُنتج الإبداعي، من جداريات ولوحات وموسيقى وأغان
ومسرحيات وشعارات ورسوم كاريكاتير، خلال فترة زمنية قصيرة نسبيا، ما
يعادل المُنتج خلال عقد من الزمن. وهذا ما عاشته الحركة المناهضة
للحرب، إذ أبدعت على مدى العشرين عاما الماضية، أعمالا، لم تنجح في
إيقاف الحروب، إلا إنها نجحت في أن تكون العدسة التي يرى من خلالها
الجيل الجديد من البريطانيين والعالم كيف تُشن الحروب، وممارسات
الهيمنة الامبريالية، والعولمة الوحشية، وسياسة تفتيت الشعوب المبنية
على العنصرية والنظرة الفوقية.
كاتبة من العراق
لنأمل ألا تقلد طالبان
سياسة أمريكا في العراق
هيفاء زنكنة
من الصعب، عند متابعة ما يجري في أفغانستان، ألا يستعيد المرء الأحداث
التي عاشها العراق في الأسابيع والشهور الأولى التي تلت الغزو الأمريكي
– البريطاني في عام 2003.
تحضر المقارنة، بقوة، عن الفترة الأولى فقط، وليس سنوات الاحتلال كلها،
بين الممارسات الأمريكية بالعراق وتاريخ السياسة الأمريكية بالعالم،
وممارسات طالبان، الآن، وسياستها الحكومية السابقة. فالعالم كله يرصد
بدقة ما ستفعله طالبان. أما المقارنة ما بين انعكاسات الغزو والاحتلال
الأجنبي على حياة الشعب العراقي خلال 18 عاما، وهي المتوفرة للعيان
والموثقة محليا ودوليا ( بضمنها وثائق دول الاحتلال) وبين ما سيحل
بالشعب الأفغاني في الشهور والسنوات المقبلة، جراء سياسة طالبان أو
التدخلات الأجنبية أو إستحداث منظمات إرهابية وفق الحاجة أو كلها معا،
فهي متروكة للمستقبل، وليد الماضي والحاضر معا.
« نحن لا نأخذ بكلامهم فقط، ولكن من خلال أفعالهم» هكذا لخص الرئيس
الأمريكي جو بايدن، في 31 آب/ أغسطس، الموقف الأمريكي من نظام طالبان.
وكان رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون قد علق على تصريحات طالبان
بشأن العفو عن الموظفين وإعطاء المرأة الحق في العمل، في 18 آب/ أغسطس
قائلا « إن بريطانيا ستحكم على نظام طالبان بناء على أفعاله وليس على
أقواله». الأفعال، إذن، وفق التصريحات الامريكية – البريطانية، هي
المحك في التعامل مع طالبان. ويفترض هنا، لكي تؤخذ القوى العالمية جديا
من قبل الشعوب، ولئلا تفقد الشعوب إيمانها بمصداقية « القيم « التي يتم
تسويقها من قبل هذه الدول، وإذا كانت تريد أن تؤكد على سمو مبدأ سيادة
القانون الدولي، أن تطبق هي نفسها ذات السياسة التي تريد للآخرين
إتباعها.. فهل تحترم أمريكا وبريطانيا معيار القيم هذا، فعليا، أم انها
تتوج حضورها الاستعماري بتكرار الأقوال والمصطلحات عن القيم، العراق
نموذجا؟
أطلقت أمريكا وبريطانيا على غزو العراق إسم «عملية الحرية من أجل
العراق» تأكيدا لما أعلنه الرئيس الامريكي السابق جورج بوش في
يناير/كانون الثاني 2003، أن أمريكا « لا تريد غزو العراق وإنما تحرير
الشعب العراقي». فكيف حررت أمريكا الشعب العراقي؟ في 20 آذار/ مارس، تم
رش بغداد بالصواريخ والقنابل في حملة «الصدمة والترويع» مما أدى الى
تدمير البنية التحتية التي قدّر بول بريمر، رئيس الإدارة الأمريكية في
العراق، أن البلاد في حاجة لمليارات الدولارات لإعادة بنائها. بهذه
الطريقة حصدت الشركات الأمريكية عقود بناء ما هدمه القصف الأمريكي
بأموال عراقية. لاحظوا أن طالبان لم تقصف أفغانستان. في 28 آب / أغسطس،
قال ويسلي كلارك، قائد قوات الناتو، إن السياسة الأمريكية خلقت الفوضى
في العراق، وإن المشكلة الرئيسية هي أن الولايات المتحدة تميل إلى
محاربة الدول للقضاء على «الإرهابيين» بدلا من محاربة «الإرهابيين»
أنفسهم.
لم ينفذ الجرائم الوحشية المهينة، في العراق، أمريكيون مختلون عقليا أو
مجرد « تفاحات فاسدة» كما تدعي الإدارة الامريكية، بل كانت من صلب
السياسة الخارجية
في 9 نيسان/ أبريل ساد النهب والتخريب في بغداد وغيرها من المدن. تعرضت
المتاحف وأهمها متحف بغداد الذي يضم كنوزا أثرية، من أولى الحضارات
التي عرفها العالم، الى سرقة الآثار. بعد ثلاثة أيام بدأ تخريب
المكتبات ومنها المكتبة الوطنية ومكتبة الأوقاف الاسلامية وحرق ما فيها
من كتب قديمة نادرة ومخطوطات ثمينة من الحقبتين العثمانية والعباسية،
في فعل لا يمكن وصفه إلا بأنه جريمة محو ثقافي متعمد. تم ذلك كله تحت
أنظار القوات الامريكية التي لم تتدخل لحماية المتحف أو أي موقع آخر
باستثناء وزارة النفط، خلافا لمسؤوليتها القانونية كقوة إحتلال. يومها،
قال ريتشارد لانيير، مستشار بوش للشؤون الثقافية « إن الولايات المتحدة
تعرف ثمن النفط ولكنها لا تعرف قيمة الآثار التاريخية». برر مسؤولون
أمريكيون عدم التدخل بأنهم « فوجئوا» بمدى ما حصل من أعمال سلب ونهب.
فهل أصبح أستخدام مفردة « المفاجأة» مبررا شرعيا للافلات من العقاب
سواء في العراق أو أفغانستان؟ من يقرأ تصريحات وزير الخارجية دونالد
رامسفيلد، سيجد أنه كان مدركا تمام الإدراك لما يجري وتبريره أن «هذه
أشياء تحدث» و« أن الناس أحرار في ارتكاب الأخطاء وارتكاب الجرائم
والقيام بأشياء سيئة.. وأن النهب ليس غريبا في البلدان التي تعاني من
اضطرابات اجتماعية كبيرة». لاحظوا أن أيا من هذا لم يحدث في كابول الآن
والتخريب الوحيد كان في المطار الذي يديره الأمريكيون. ولكن، هل يحق
لطالبان اليوم إستخدام تبرير رامسفيلد ذاته اذا ما ساد النهب والتخريب
بوجودهم؟ ماذا عن الدولة ومؤسساتها؟
في 16 مايو، صرح بول بريمر أن التحالف مصمم على محو مراكز القوى
القديمة من الوجود. فقام بحل الجيش العراقي واصدار أكثر من 100 أمر
وقرار تشريعي تفصيلي للتحكم بكل مجريات تسيير الحياة. كان من جرائها
تفكيك الدولة وجعل نحو أربعمائة ألف شخص عاطلين عن العمل. ومن ثم تطبيق
سياسة « إجتثاث البعث» التي شجعت على القتل خارج القانون، ومنح المخبر
السري دورا كبيرا في الاتهامات الكيدية، بالاضافة الى حملة الاغتيالات
التي طالت العلماء والأكاديميين والطيارين والفنانين. وكان لأمريكا،
بمساعدة مترجمين عراقيين وعرب، الفضل الكبير في إبداع أساليب تعذيب في
أبو غريب، أدت إلى مساواة المرأة بالرجل تعذيبا.
لم ينفذ الجرائم الوحشية المهينة، في العراق، أمريكيون مختلون عقليا أو
مجرد « تفاحات فاسدة» كما تدعي الإدارة الامريكية، بل كانت من صلب
السياسة الخارجية، حين صاغت إدارة بوش عمليات محاربة الإرهاب في
العالم. ومعظمها يخرق قوانين الحرب والقانون الدولي لحقوق الإنسان، إذ
تشمل تقنيات طالما تدينها أمريكا عندما تمارسها أطراف أخرى.
وفي الوقت الذي لا يمكن فيه الحكم مستقبلا على سياسة أية دولة أو حركة
إلا من خلال قراءة الماضي، فلنأمل أن تتفادى حركة طالبان، بعد تحريرها
أفغانستان من قوات الاحتلال، ما قامت به أمريكا في العراق، وأن تتعامل
مع خروقات حقوق الإنسان كجرائم وليست «خيارات سياسية» أو عقابا جماعيا،
تفاديا لدورات الانتقام.
كاتبة من العراق
قمة بغداد في بورصة
التخويف من الإرهاب
هيفاء زنكنة
احتلت بغداد، يوم 28 آب/ أغسطس، حيزا إعلاميا، يعيد إلى الذاكرة أيام
المؤتمرات الكبيرة الحاضنة للدول العربية والأجنبية في حقبة ما قبل
الاحتلال الأنجلو أمريكي عام 2003. ففي توقيت، تدّعي الحكومات الغربية،
بأنه مفاجئ، فيما يخص استعادة حركة طالبان لأفغانستان والانسحاب المهين
لقوات الاحتلال الأمريكي ـ البريطاني، انعقدت « قمة بغداد للتعاون
والشراكة» بحضور تسع دول جوار وفرنسا بالإضافة إلى الجامعة العربية
ومجلس التعاون الخليجي ومنظمة التعاون الإسلامي.
ألقى ممثلو الحكومات من رؤساء ووزراء خارجية خطبا تكاد تكون في
تشابهها، مثل وجبات مكدونالد. الوجبة نفسها بتعليب مختلف مع إضافة قطعة
مخلل هنا أو شريحة طماطم هناك. حفلت الخطب المعنونة «دعم ومساندة
العراق» بمفردات: الأمن والاستقرار والسلام، مواجهة الإرهاب والتطرف،
إعادة البناء، بناء الجسور والحوار.
وكالعادة، كانت اجتماعات « الحوار» بين ممثلي الدول والمنظمات مغلقة،
واقتصر البيان الختامي على العموميات، لتبقى الشعوب، كما هي، مجرد
هامش، لا يستحق التضمين إلا في حالات ادعاء الحديث باسمها أو مخاطبتها
باسلوب مبطن بالنظرة الفوقية واللوم على التقاعس، كما فعل الرئيس
المصري عبد الفتاح السيسي قائلا «أيها العراقيون أنتم أمة عريقة. ابنوا
مستقبلكم ومستقبل أبنائكم».
وفي الوقت الذي تحدث فيه الخطباء عن « عدم التدخل في الشؤون الداخلية
للعراق» كان التدخل في الشأن العراقي الداخلي هو سيد الموقف، على
مستويين. الأول حول الانتخابات العامة المفترض إجراؤها بداية تشرين
الأول/ أكتوبر المقبل، وهو التاريخ ذاته الذي انبثقت فيه انتفاضة تشرين
الأول/ أكتوبر 2019. وكان المستوى الثاني حول العلاقة بـ «محاربة
الأرهاب».
بالنسبة إلى الانتخابات، كان لمصر والكويت وفرنسا الدور الأبرز في
الدفع باجراء الانتخابات. ذكر الرئيس الفرنسي ماكرون أن بعثات من
الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة ستراقب الانتخابات، متجاهلا حقيقة أن
الانتخابات السابقة تمت بإشراف البعثات ذاتها، وكانت النتيجة كارثية.
أما السيسي فقد أطلق موعظة «شاركوا في اختيار من يقودكم إلى الأمان»
متغافلا عن مساره الفاشي في إرساء «الأمان» في مصر منذ أعوام، فضلا عن
قيامه بدور الحارس، بالنيابة عن الكيان الصهيوني، على أهل غزة، في واحد
من أكبر السجون في العالم. ولم يشر أحد المتحدثين إلى سبب مشاركة 18 في
المئة، فقط، من العراقيين في الانتخابات السابقة، على الرغم من قرع كل
طبول الديمقراطية، وكيف أجبر المتظاهرون رئيس الوزراء عادل عبد المهدي
على الاستقالة، وكيف أغرق من حل محله، أي مصطفى الكاظمي، الشعب بفيضان
من وعود بمعاقبة قتلة المتظاهرين.
تفكيك الانتخابات سيُظهرعقود نهب ومشاريع ووظائف وهمية وأموال رشاوى
يتم غسلها في بنوك الغرب
وكانت الحصيلة المزيد من المختطفين والمعتقلين والتعذيب والقتلى.
وإلقاء نظرة سريعة على تقارير مجلس حقوق الأنسان في الأمم المتحدة،
ومفوضية حقوق الانسان في العراق، بالاضافة إلى منظمة العفو الدولية
وهيومن رايتس ووتش ( في حال عدم ثقة ممثلي الدول بالتقارير المحلية)
كانت ستبين لهم أن كراسيهم الفخمة، في قاعة الاجتماع، غارقة بدماء
العراقيين، وأن خطاب الكاظمي وتصريحات وزير الخارجية يدلان بوضوح، كما
شمس العراق، إلى ما ستتمخض عنه الانتخابات المقبلة: إعادة تدوير الوجوه
نفسها، ربما بأقنعة مغايرة. لا لأن العراقيين لن يختاروا «الأمناء» كما
نصحهم السيسي، بل لأن لغة الانتخابات الأولى والأخيرة هي الفساد. وألف
باء لغة الفساد في العراق الغني هي مليارات الدولارات. وتفكيك
الانتخابات سيُظهرعقود نهب ومشاريع ووظائف وهمية وأموال رشاوى باذخة
يتم غسلها في بنوك الغرب. فالدول التي تُخّرب البلدان غير المطيعة
صباحا، تتظاهر بمد يد الإحسان والمساعدة والبناء مساء.
بالنسبة إلى «مكافحة الأرهاب» وهو المشروع الذي صّنعته وسوّقته
الولايات المتحدة، وتبناه الحكام العرب لكي لا يحيدوا عن الصراط
الأمريكي، قدمه المشاركون في القمة بعنوان «دعم العراق في مواجهة
الإرهاب» لتحقيق الأمن والاستقرار. هنا يتبدى التدخل في الشأن الداخلي
بشكل أوضح. إذ تحدث كل مشارك باستفاضة عن الجهة التي يراها مصدرا
للإرهاب، الذي يستهدف بلده هو، من داخل العراق، وحسب تعريفه هو
للإرهاب. يرى الرئيس الفرنسي إنه الإرهاب العالمي، ويجب مساعدة العراق
للتخلص منه. وصرح وزير الخارجية التركي «لا مكان للإرهاب في مستقبل
العراق» والأرهاب بالنسبة إلى تركيا هو «أي وجود لحزب العمال
الكردستاني على الأراضي العراقية» بينما يتعامى عن عسكرة القوات
التركية على أراض عراقية. وكالصدى كرر وزير الخارجية الإيراني «أن
العراق تضرر كثيرا بفعل الإرهاب» والإرهاب بالنسبة إلى إيران هو «
لتدخلات الأجنبية» على رأسها أمريكا، وكأن تدخل إيران وميليشياتها شأن
عراقي داخلي وطني بحت، مما يذكرنا بتصريح مماثل لوزير الدفاع الأمريكي
دونالد رامسفيلد في واحدة من خطبه، عقب غزو العراق، قائلا بأن مشكلة
العراق هي التدخل الخارجي. وكأن قوات الاحتلال الأمريكية عراقية وطنية
أبا عن جد. وترى السعودية أن محاربة الإرهاب تتم بالتعاون مع قوات
التحالف برئاسة أمريكا.
إن متابعة الخطب والتصريحات والبيان الختامي للقمة، لا يضيف شيئا جديدا
لما سمعناه في خطب وتصريحات سابقة، باستثناء كونها صادرة عن أشخاص
موجودين في قاعة واحدة قاسمهم المشترك، المعلن، هو التخويف من «
الإرهاب «. الإرهاب الذي يقدم كل واحد منهم تعريفه الخاص به، وعجنه
بالخوف واحد من أكثر طرق سيطرة الأنظمة على عقول الشعوب نجاحا.
تم تصوير « قمة بغداد» بأنها ستمنح شعوب الدول المجتمعة الأمل بتحقيق
الأمن والاستقرار. إلا أن ما لم يتم التطرق إليه إطلاقا سواء من قبل
المجتمعين أو إعلاميا هو أن معظم شعوب هذه الدول، وليس العراق وحده،
تعيش خارج قاعات الاجتماعات الباذخة واقعا يراوح ما بين المزري واللا
إنساني، وأن وجود المضاربين، ممثلي شركات المتنافسة بشراسة، في مبنى
البورصة لايعني اتفاقهم حول توحيد الأسعار في الأسواق لصالح
المستهلكين.
كاتبة من العراق
إذا
كانت أفعال طالبان هي المقياس …
ماذا
عن أمريكا في العراق؟
هيفاء زنكنة
هل تفاجأت أمريكا، فعلا، بعودة
طالبان السريعة الى أفغانستان؟ وهل الحقيقة لا تحمل اموراً مخفية بل كل
ما في الأمر هو « أن هذا حدث أسرع بكثير من تقديراتنا»، كما ذكر الرئيس
الأمريكي جو بايدن في خطابه، بعد أيام، من استعادة طالبان للعاصمة
كابول في 15 آب / أغسطس؟ وهل « ما حدث» هو اندحار، استسلام ، انسحاب،
تراجع ؟ أم هو مغادرة، أو عودة، أو إتفاق ؟
وما مدى صدق الطرفين المتفاوضين في تنفيذ الاتفاقية المبرمة،
وانعكاساتها على الشعب الأفغاني، عموما، في الأيام والشهور المقبلة،
بالمقارنة مع الوضع العراقي؟
إذا ما تابعنا مسار المفاوضات في الدوحة، بين الوفدين الأمريكي
وطالبان، سنجد صعوبة في تصديق عنصر المفاجأة وما ترتب عليها من فوضى
بخصوص ترحيل الأمريكيين والبريطانيين، انفسهم، وغيرهم من قوات الناتو
والمتعاونين معهم، ثم انتقلت الى المتعاونين مع الاحتلال ثم عامة
الناس، النساء خاصة، المذعورين من صيت طالبان وما قد يتعرضون له من
انتقام. وأصبحت هذه الأخيرة الصورة الأبرز إعلاميا. وسبب صعوبة تصديق «
المفاجأة» هو أولا الصورة الخارقة في الامكانيات والتنظيم التي ترسمها
الولايات المتحدة الأمريكية عن نفسها وتوزعها على العالم إعلاميا . كما
أن بحث عملية انسحاب القوات الأمريكية لم يكن وليد العامين الأخيرين،
بل عشرة أعوام من المفاوضات المستمرة، على كل المستويات، وإن القرار
الرسمي قد حمل توقيع الرئيس السابق دونالد ترامب الذي حدد موعد
الانسحاب هذا العام، والرئيس الحالي جو بايدن الذي أقره بتعديلات
بسيطة.
لقد بدأت مفاوضات الانسحاب نهاية عام 2013 ، بعد مرور عشر سنوات على
الإحتلال الامريكي لأفغانستان، بعد أن أدركت أمريكا ، حسب روبرت غرينير
« لم ننجز الكثير بعد مرور عشر سنوات… وكان تدخلنا في البداية رمزيا
واعتمدنا على تنظيم « التحالف الشمالي» لمقاتلة طالبان. الا ان
عنجهيتنا دفعتنا الى سياسة مختلفة عام 2005» . كان غرينير رئيس محطة
وكالة المخابرات المركزية الأمريكية ( السي آي أي) في إسلام أباد، في
أخطر مرحلة ، في أعقاب 11 سبتمبر 2001. كان مسؤولا عن تخطيط وإدارة
عمليات سرية لدعم غزو أفغانستان. ثم مدير مهمة العراق في الوكالة ،
لتنسيق العمليات السرية لدعم غزو العراق عام 2003. وترأس مدرسة
«المزرعة» لإعداد الجواسيس التابعة للسي آي أي، وأخيرا مدير مركز
مكافحة الإرهاب في أرجاء العالم.
تصادف اني حضرت أثناء وجودي في مؤتمر ثقافي عالمي عُقد في جزيرة غوا،
بالهند في تشرين الثاني/ نوفمبر 2013، مقابلة مهمة جمعت غرينير بالملا
عبد السلام ضعيف، أحد مؤسسي طالبان، وسفير طالبان في باكستان، الذي
اعتقلته المخابرات الباكستانية بعد الغزو الأمريكي وباعته ( كما
الكثيرين ممن اتهموا بالإرهاب) الى المخابرات الأمريكية مقابل خمسة
آلاف دولار، فسُجن في معتقل غوانتانامو، مدة اربع سنوات ونصف. وكان
الرئيس الأفغاني السابق حميد كرزاي قد أعلن عفوا عاما عن طالبان، كخطوة
نحو استتباب الأمن، إلا أن الادارة الأمريكية جمّدت القرار بعد أسبوع
لتجهض بذلك إمكانية المصالحة بين مختلف القوى الأفغانية.
بحث عملية انسحاب القوات الأمريكية لم يكن وليد العامين الأخيرين، بل
عشرة أعوام من المفاوضات المستمرة، على كل المستويات، وإن القرار
الرسمي قد حمل توقيع الرئيس السابق دونالد ترامب الذي حدد موعد
الانسحاب هذا العام
أدارت المقابلة شوما جاودري، رئيسة
تحرير صحيفة « تهلكا» الاستقصائية الهندية، وأثارت مشاركة ملا عبد
السلام ضجة لأنها المرة الاولى التي يٌسمح فيها لشخص مثله بزيارة الهند
والحديث أمام جمهور واسع. تحدث غرينيرعن نية أمريكا سحب قواتها
والتفاوض مع طالبان. واستفاض ملا عبد السلام بالحديث عن أهمية
الاستقرار الأمني والسياسي في افغانستان وضرورة اللجوء الى التفاوض
الدبلوماسي لتحقيق ذلك ، مركزا على فشل الديمقراطية التي تحاول أمريكا
فرضها عسكريا والتي لم يُسمح بنموها عضويا من داخل المجتمع ، أي
«ديمقراطية إسلامية». خلال المقابلة المتوفرة ألكترونيا، والتي عدت الى
مشاهدتها مجددا، أجوبة على أسئلة تُطرح ، اليوم، وبعد مرور عشرة أعوام
على اجرائها، ومطابقة بتفاصيلها مع التساؤلات الحالية عن تغير طالبان
او قدرة طالبان على التغير، وبالتحديد السؤال الأكثر شيوعا عن الموقف
من المرأة . أكد ملا سلام، المرة تلو المرة، أهمية تعليم المرأة لأنها
نصف المجتمع وأدان ، بعد إلحاح من مديرة اللقاء، تفجير ومهاجمة
المدارس. منبها الى وجود « جهات أخرى» تحاول تشويه صورة طالبان. أما عن
مستقبل أفغانستان ، فتحدث عن الانسحاب الحتمي لقوات الاحتلال الامريكي
مع التنبيه الى تعقيدات الوضع بسبب الموقع الجغرافي للبلد المحصور بين
الصين وروسيا وإيران وباكستان من جهة، والتدخل الأمريكي الذي سيتخذ
أشكالا أخرى كتأسيس المليشيات، كما في العراق.
والمفارقة أن نسمع، حاليا، وبعد الانسحاب العسكري المهين، اطلاق
تصريحات رسمية على غرار « التزامنا تجاه أفغانستان دائم» ، لرئيس
الوزراء البريطاني بوريس جونسون، بدون أن يبين كيف، ومتغافلا عن
الجريمة الكبرى التي ارتكبتها بريطانيا وأمريكا، في شنها حربا عدوانية
لا يزال العراق يعيش تفاصيلها الدامية. وتبلغ ازدواجية المعايير ذروتها
حين تركز كافة أجهزة الإعلام الغربية ، تقريبا، وتجترها الصحافة
العربية ومواقع الفيسبوك، أما تعمدا أو سذاجة، على تقديم صور
كاريكاتيرية عن أشكال مقاتلي طالبان ومظهرهم الخارجي، واستخدام لغة
مبتذلة تحقيرا لهم ، مما يُذكرنا باللغة التي استخدمتها قوات الغزو
الامريكي للعراق لوصف العراقيين بـ»علي بابا « و»حاجي» و»رؤوس الخرقة»
اشارة الى الغترة الشعبية العراقية، ليصبح من السهل تجريدهم من
إنسانيتهم وبالتالي تعذيبهم وقتلهم. ولا يقتصر الحط من القيمة
الانسانية عبر الانتقاص من الشكل، على الصحف الصفراء واجهزة الإعلام
الرخيصة، بل سقطت البي بي سي عربي، أخيرا، في ذات الهوة، مستخدمة
عنوانا بمثابة حكم مسبق وتصنيف جاهز، هو «لم يغيروا ملابسهم أو شعرهم
أو لحاهم، فكيف يمكنهم تغيير أفكارهم؟».
أمام أعضاء البرلمان قال بوريس جونسون « سنحكم على نظام طالبان على
أفعاله وليس أقواله ، وعلى سلوكه حيال الإرهاب والجريمة والمخدرات،
وحقوق الفتيات في الحصول على التعليم»، أليس هذا هو المقياس الذي فشلت
الحكومة البريطانية والإدارة الامريكية، في تحقيقه بالتحديد في عملية
«تحريرالعراق »؟
كاتبة من العراق
إذا كانت أمريكا لم تتغير…
هل تغيرت طالبان؟
هيفاء زنكنة
في ظل إرسال الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا قوات إلى كابول
لترحيل موظفي الدولتين والمتعاونين معها بسرعة بعد دخول قوات طالبان
العاصمة، وفي ظل استعادة العالم، صورة الهرب الأمريكي الكبير من
فيتنام، نقضت إحدى المحاكم البريطانية حكما سابقا بوقف ترحيل مؤسس
«ويكيليكس» جوليان أسانج، إلى الولايات المتحدة. قررت المحكمة منح
الحكومة الأمريكية مجالا أكبر لاستئناف القرار الأول الذي كان يستند
على تدهورالوضع النفسي الذي يعانيه أسانج وقد يدفعه إلى الانتحار، اذا
ما تم ترحيله الى أمريكا، حيث سيواجه فيها 18 تهمة، عن نشر آلاف
الوثائق السرية في عامي 2010 و2011، تصل عقوبتها إلى 175 سنة.
واذا كان الانشغال العالمي بالبحث عن أسباب التغيرات العسكرية المذهلة،
أو ما بات يُعرف بالاندحار الأمريكي ـ البريطاني في أفغانستان، ومحاولة
الإجابة في لحظات الهزيمة المريرة عن تساؤلات كان يجب طرحها، منذ عشرين
عاما، حول طبيعة الغزو، فان التاريخ ينقلنا إلى ذات اللحظات، تقريبا،
إلى فيتنام ولكن من خلال التطابق شبه الكلي مع حياة وجهود أشخاص،
ساهموا في مساءلة ما هو وراء التصريحات الحكومية وكشف الحقيقة معرضين
حياتهم للسجن في أمريكا.
قد لا يكون للصحافي جوليان أسانج دور مباشر في الهزيمة المدوية لأمريكا
وبريطانيا في أفغانستان، وإلى حد أقل في فشلهما السياسي بالعراق، إلا
أنه وآخرين ساعدوا في فضح المخفي والمزيف في غزوها وإحتلالها البلدين.
حيث أسس أسانج مع عدد من الباحثين موقع ويكيليكس لتسريب المعلومات، من
بينها نشر ما يقارب الاربعمائة ألف سجل عسكري سري، من بين سجلات جيش
الاحتلال الأمريكي للعراق، بالاضافة الى نشر وثائق عسكرية أمريكية سرية
عن احتلال العراق وأفغانستان، ولم يشمل ذلك هويات المخبرين الذين كانوا
يساعدون وكالات الاستخبارات في أفغانستان والعراق وأماكن أخرى، وهو
الإدعاء الذي تستخدمه الولايات المتحدة باعتباره فعلا يهدد حياتهم.
كل هذه الوثائق موجودة، الآن، في أرشيف الصحف العالمية مثل
«الغارديان». ولعل ما رسخ في الأذهان وأثار ضجة أكثر من غيره، عن
العراق، هو تسريب شريط فيديو التقطته مروحية أمريكية، في 2007،
يُظهراستهداف طاقم المروحية لمدنيين عراقيين وقتلهم 11 شخصا من بينهم
طفلان وموظفان في شبكة «رويترز» بحجة أنهم إرهابيون.
هل سنحتاج لفهم ما يجري فعلا والكشف عن الحقيقة أشخاصا مثل إلسبيرغ
وأسانج لتسريب «أوراق طالبان» مثلا؟
من سبق أسانج و«ويكيليكس» أثناء الحرب الأمريكية ضد فيتنام، هو دانيال
إلسبيرغ، المحلل الاستراتيجي المتخصص في الاستراتيجية النووية والقيادة
والسيطرة على الأسلحة النووية، الذي ساهم عام 1967، بتكليف من وزير
الدفاع روبرت ماكنمارا، في دراسة سرية، للغاية، لوثائق سرية حول تاريخ
التدخل السياسي والعسكري للولايات المتحدة في فيتنام من عام 1945 إلى
عام 1967. أصبحت هذه الوثائق تُعرف باسم «أوراق البنتاغون». كشفت أوراق
البنتاغون أن أربع إدارات (برئاسة ترومان وأيزنهاور وكينيدي وجونسون)
قد ضللت الجمهور فيما يتعلق بالحرب ضد فيتنام، وأنها كذبت بشكل منهجي
لتضمن استمرارها عن طريق توسيع الحرب، بقصف كمبوديا ولاوس والتي لم يتم
الإعلان عنها اعلاميا. وفي الوقت الذي أعلن فيه الرئيس جونسون أن الهدف
من حرب فيتنام كان تأمين «فيتنام الجنوبية المستقلة وغير الشيوعية»
ووضع حد «لحرب أهلية» إلا أن أوراق البنتاغون كشفت أن السبب الأساسي
«ليس مساعدة صديق، ولكن احتواء الصين «. مما يدفع المرء الى مقارنة هذه
الادعاءات بما أطلقته ادارة جورج بوش بصدد غزو افغانستان والعراق،
وحقيقة الديمقراطية وحقوق الإنسان مقابل السيطرة على مصادر الطاقة
وإنهاء الحظر الذي فرضته حكومة طالبان، عام 2000، على إنتاج الهيرويين،
وأدى إلى إنخفاض ما يقرب من ثلاثة أرباع إمدادات العالم منه.
توصل إلسبيرغ، من خلال دراسة سجلات الحكومة، إلى أن حرب فيتنام لم تكن
«حربًا أهلية» بل حرباً استعمارية. وإن «الحرب التي يتم فيها تجهيز أحد
الأطراف بالكامل ودفع ثمنه من قبل قوة أجنبية ـ والتي فرضت طبيعة
النظام المحلي لمصلحته ـ لم تكن حربًا أهلية… بل عدوانًا خارجيًا،
عدوانا أمريكيا». مثل أسانج، قرر إلسبيرغ أن من حق الشعوب أن تطلع على
حقيقة ما تقوم به الحكومات باسمها. فقام بتسريب نسخ من الأوراق الى
صحيفة «نيويورك تايمز» فنشرت مقتطفات من مجموع الصفحات البالغ عددها
7000. وحين مُنعت الصحيفة من نشر المزيد، سرب إلسبيرج الوثائق إلى
صحيفة «واشنطن بوست» ومن ثم إلى 17 صحيفة أخرى. ألقي القبض على إلسبيرغ
وقُدم للمحاكمة في مايو 1973، إلا أن القاضي رفض إدانته بسبب السلوك
الحكومي المنافي للقوانين وجمع الأدلة غير القانوني.
هل أدى الدور الذي لعبه إلسبيرغ في تسريب أوراق البنتاغون السرية الى
الصحافة والرأي العام الى هزيمة أمريكا العسكرية المتمثلة بالهروب
الكبير؟ كلا. إلا انه ومن خلال الكشف عن أكاذيب التصريحات الحكومية حول
الوضع العسكري في فيتنام، بما في ذلك إختلاق عمليات لم تحدث أبدا، على
غرار قصف زوارق البحرية الأمريكية في خليج تونكين، ساهم تسريبه الوثائق
في تعميق فجوة المصداقية بين الحقيقة وما تقول الحكومة إنه حقيقي، في
تحويل موقف الكثير من الأمريكيين من مؤيدين الى مناهضين للحرب.
واذا كانت تفاصيل الأحداث المتسارعة في افغانستان، اليوم، حبلى بهزيمة
السياسة الأمريكية والبريطانية وقوات الناتو مجتمعة، وهي الأقوى عسكريا
في العالم، فان ظروف ولادة الوضع الجديد المتمثل باستعادة طالبان
الحكم، وتأثيرات ذلك على الدول المجاورة والعلاقة، كما كانت أيام
فيتنام، مع الصين، محاطة بغموض ما اتفقت أو لم تتفق عليه الجهات
المتفاوضة. واذا كانت أمريكا لم تتغير، هل تغيرت طالبان؟ كيف؟ وهل
سنحتاج لفهم ما يجري فعلا والكشف عن الحقيقة أشخاصا مثل إلسبيرغ وأسانج
لتسريب « أوراق طالبان» مثلا؟
كاتبة من العراق
هل هناك 11 ألف
محكوم بالاعدام في العراق؟
هيفاء زنكنة
«كان نفس الروتين، كل يوم يعلقونني ويضربونني. هناك أشياء فعلوها بي
هناك أشعر بالخجل من التحدث عنها، ولكن هناك شيئا واحدا يمكنني أن
أخبرك به هو أنهم جعلوني أجلس على قنينة زجاجية مرتين». هذا بعض ماجاء
في المقابلة رقم 106. ويخبرنا المعتقل في المقابلة رقم 107 «لقد قيدوا
يدي وراء ظهري وعلقوا الأصفاد بخطاف في سلسلة متدلية من السقف. لم
يطرحوا على أية أسئلة، فقط استمروا بالصراخ لأعترف».
في غياهب المعتقلات العراقية، أجريت مقابلات مع 235 محتجزا، تم تضمينها
في تقرير «حقوق الإنسان في تطبيق العدالة في العراق: الشروط القانونية
والضمانات الإجرائية لمنع التعذيب والمعاملة السيئة» الذي أعدّته بعثة
الأمم المتحدة لتقديم المساعدة إلى العراق (يونامي) ومفوضيّة الأمم
المتّحدة السامية لحقوق الإنسان، الصادر في 3 آب/ أغسطس. ويغطي التقرير
من 1 تموز/يوليو 2019 إلى 30 نيسان/أبريل 2020.
«التعذيب حقيقة واقعية في جميع أنحاء العراق» أُسْتُهل التقرير بهذه
الجملة الصارخة في إدانتها للممارسات اللاإنسانية في أماكن الاحتجاز
التي لا تقتصر على وزارتي العدل والداخلية بل، أيضا، وزارة الدفاع،
وجهاز مكافحة الارهاب، وقيادة عمليات بغداد، وجهاز الأمن الوطني، وجهاز
المخابرات الوطني، وقوات الحشد الشعبي، بالاضافة الى أماكن اعتقال أخرى
لم يعرف المحتجزون مكانها. ويحيط الغموض أعداد المحتجزين، فباستثناء
وزارتي العدل التي افادت بوجود 39518 محتجزا عام 2020. من بينهم 2115
إمرأة و11 ألفا و595 مدانا محكوما عليهم بالإعدام، بضمنهم 25 امرأة،
و24853 في منشآت تحت سلطة وزارة الداخلية، لم يتم التحقق من أعداد
المحتجزين في المعتقلات الأخرى، مما يشير إلى أن الأعداد أكبر بكثير.
كما لا تشمل الأرقام إقليم كردستان.
من بين أشكال التعذيب التي يذكرها التقرير: الضرب المبرح، والصعق
بالصدمات الكهربائية، والتعليق من السقف، والتعرض للعنف الجنسي، لاسيما
الصدمات الكهربائية على اعضائهم التناسلية وحشر العصي والقناني
الزجاجية في فتحة الشرج. ولاحظت البعثة أن الكثير من الاشخاص الذين تمت
مقابلتهم تحدثوا عن «أشياء فعلوها بي هناك أشعر بالخجل من التحدث
عنها». ولم يُضمن التقرير اوضاع السجون كفقر الخدمات، والاكتظاظ. فقد
تلقت البعثة معلومات عن وفاة 62 معتقلا في «سجن الحوت» بالناصرية، جنوب
العراق، و355 حالة وفاة في مرافق تابعة لوزارة العدل. يؤكد التقرير
قبول التعذيب وسوء المعاملة مقبولا رسميا كوسيلة لانتزاع «اعتراف». وهي
سياسة منهجية تمارس على نطاق واسع حيث قدم أكثر من نصف المحتجزين الذين
قابلتهم البعثة، روايات موثوقة وذات مصداقية عن تعرضهم للتعذيب.
وللمتظاهرين السلميين حصتهم في سوء المعاملة والتعذيب. حيث وثّق
التقرير شهادات 38 معتقلا بعد اختطافهم. كان من بين ما تعرضوا له «
الصدمات الكهربائية، الضرب الشديد، والتعليق من السقف، والتهديد
بالقتل، والعنف الجنسي ضدهم وضد عوائلهم، والتبول عليهم وتصويرهم
عراة». ويخلص التقرير الى» أن روايات الضحايا لا تترك مجالا للشك في أن
التعذيب وسوء المعاملة متفشيان في جميع أنحاء البلاد على الرغم من أنّ
الإطار القانوني العراقي يجرّم صراحةً التعذيب ويحدّد الضمانات
الإجرائية لمنعه» في اشارة الى انضمام العراق الى اتفاقية مناهضة
التعذيب عام 2011.
في غياهب المعتقلات العراقية، أجريت مقابلات مع 235 محتجزا، تم تضمينها
في تقرير»حقوق الإنسان في تطبيق العدالة في العراق: الشروط القانونية
والضمانات الإجرائية لمنع التعذيب والمعاملة السيئة»
ان الاعلان المباشر والصريح بأن التعذيب في العراق حقيقة لم يعد
بالامكان السكوت عليها، أمر يُحسب لصالح التقرير. ولعلها من المرات
النادرة التي لا يُغلف فيها موظفو الامم المتحدة، تقاريرهم بمفردات
مبهمة تتحمل التأويل المتناقض، والشك في الحقيقة، لتفادي التعرض
المباشر الى الحكومات القمعية. مفردات على غرار «مزاعم» و«ادعاءات»
تقود، في نهاية التقرير، الى خلاصة تُعبر فيها اللجنة عن « القلق»
و«الاستنكار». ولعل موظفي الأمم المتحدة تعبوا من القلق والاستنكار
أمام الواقع المرير الذي يرونه.
صحيح أن التقرير لم يخلُ من الاشارة الى ان الحكومة أجرت بعض التغييرات
القانونية ضد التعذيب الا أن المفوضة السامية لحقوق الإنسان ميشيل
باشيليت نبهت الى إن «السلطات في حاجة إلى التنفيذ الفعال للأحكام
المكتوبة في القانون في كل مركز احتجاز. وإلا فإنها تظل حبرا على ورق».
وهذا هو أساس استمرار الممارسات الهمجية المرعبة في لا انسانيتها. ومن
بينها وجود 11 ألفا و 585 مدانا محكوما بالإعدام، حسب كتاب صادر من
وزارة العدل وموجه الى البعثة. وهو رقم هائل بكل المقاييس، دفعني الى
قراءة التقرير عدة مرات وباللغتين العربية والانكليزية، لأتأكد من
صحته، والعثور على إجابة منطقية لمرور التقرير، بشكل عابر، على هذا
العدد الذي يجعل العراق مسلخا بشريا أو نسخة من المحرقة النازية، في ظل
نظام «تنتهك فيه اغلب الشروط القانونية الاساسية والضمانات الاجرائية
المنصوص عليها في الاطار القانوني العراقي والدولي بشكل منتظم» وحيث
«لا يخشى الجناة حقاً عواقب قيامهم بالتعذيب لأنهم يعلمون أن النظام
الرسمي لن يعاقبهم» برعاية قضاء مهمته شرعنة الأكاذيب الحكومية.
ما لم يتطرق اليه التقرير، على أهميته، هو حجم الضرر الجسدي والنفسي
الذي سيرافق المحتجز المتعرض للتعذيب مدى الحياة أحيانا. فما يهدف اليه
الجلاد هو ليس انتزاع الاعتراف بجريمة ما فحسب بل سلبه إنسانية الشخص
وكرامته والسيطرة عليه بشكل يمتد الى الابتزاز الاجتماعي والسياسي.
فصور المتظاهر السلمي المختطف عاريا، باسلوب مماثل لسياسة التعذيب
الأمريكية في أبو غريب، أداة فاعلة للتخويف والتهديد ومنع المتظاهر،
وآخرين، من المشاركة في اي نشاط كان مستقبلا. من هنا تنبع ضرورة فضح
هذه الاساليب بكل الطرق الممكنة. فالتعذيب فعل اجرامي، والجلاد هو الذي
يجب ان يشعر بالعار وليس الضحية. ومن يكشف عن تفاصيل ما يتعرض له
«هناك» يستحق الاحترام والتقدير. لأنه يساهم بتوثيق جرائم، نأمل أن
تؤدي، مستقبلا، الى محاسبة مرتكبيها ووضع حد لممارستها.
كاتبة من العراق
من الذي يحتضن
مليارات العراق المهربة؟
هيفاء زنكنة
حين سألت كارولاين لوكاس، النائبة البريطانية عن حزب الخضر، وزير
الدولة للشؤون الخارجية والتنمية، عما إذا كانت الحكومة البريطانية
تدعم، ماديا، مشاريع متعلقة بالطاقة الغازية في بلدان أخرى، أجابها
الوزير أن الحكومة مستمرة في دعم مشروع شركة جنرال إلكتريك للطاقة في
العراق. مما يتماشى مع سياسة بريطانيا في العراق. مع العلم أن شركة
جنرال إلكتريك، أمريكية متعددة الجنسيات صُنفت كواحدة من 300 أكبر شركة
في الولايات المتحدة من حيث إجمالي الإيرادات. تمكنت الشركة، بضغوط من
الرئيس الامريكي السابق دونالد ترامب، عام 2017 من الفوز بعقد قيمته
أكثر من 1.2 مليار دولار «لتنفيذ مشاريع قطاع الطاقة التي ستؤمن
إمدادات طاقة موثوقة في جميع أنحاء البلاد». كما اتفقت الحكومة
البريطانية على توفير ضمان للشركة مع أخرى بريطانية بقيمة 155 مليون
دولار «لتعزيز قطاع الطاقة في العراق. كما يوفر إنشاء المشاريع أيضًا
فرصًا ضخمة ـ ومثيرة للغاية ـ للمُصدرين في المملكة المتحدة» حسب وزير
التجارة الدولية الذي تجاهل، وهو يعلن سروره بالاتفاقيات، أن يذكر نسبة
الربح الذي ستحصل عليه بريطانيا مقابل توفير الضمان.
إعتبرت لوكاس جواب وزير الدولة وافيا. فالمهم، من وجهة نظر السياسي
البريطاني، سواء كان يساريا أو محافظا، هو استمرار الإعلان أن الحكومة
البريطانية تتعاون مع الحكومة العراقية في توفير الخدمات والاستقرار
للشعب العراقي، أما الهيمنة الاقتصادية ومن خلالها السياسية، إثر الغزو
والاحتلال، فأمر غالبا ما يتم تجنب الاشارة اليه علنيا. لذلك كان من
الطبيعي ألا تطرح لوكاس، رغم كونها يسارية، سؤالا آخر عن مدى نجاح
المشاريع المدعومة بتحسين وضع الشعب العراقي، فعلا، والذي تتحمل
بريطانيا جزءا كبيرا من انهياره. فاذا كانت الحكومة تدعم مشاريع الطاقة
منذ اسقاط نظام صدام عام 2003 وتوقيع العقود يتجدد مع زيارة كل وزير
كهرباء عراقي إلى لندن، لماذا، إذن، يتظاهر العراقيون، خاصة في الصيف،
وهم يحملون تابوتا يدعى الكهرباء؟ لماذا يُضحي المتظاهرون بحياتهم،
ويسقط الآلاف منهم قتلى وجرحى، في كل المواسم؟ ما مدى استفادة بريطانيا
من دعمها الشركات البريطانية والأمريكية وغيرها ومعظمها يحظى بعقود
خيالية تحت شعار إصلاح وتجديد وزيادة القدرة على تزويد العراقيين
بالكهرباء؟ وكيف بات ما يحصل عليه المواطن من الكهرباء، يوميا، لا يزيد
على الخمس ساعات في بيئة، تصل فيها درجة الحرارة أكثر من 52؟ ولم، مع
كل المشاريع المعلن عنها، لا يزال العراق المستورد الأول للكهرباء من
إيران؟ لماذا لم يتم، حتى الآن، العمل على معالجة حوالي 16 مليار متر
مكعب من الغاز المشتعل لاستخدامه في محطات الطاقة، مما يوفر 5.2 مليار
دولار ويلغي الحاجة للاستيراد من إيران؟ أم أن ذلك هو بالضبط ما يجب أن
يحدث؟
في سردية أسباب انقطاع الكهرباء، على الرغم من صرف ما يزيد على 50
مليار دولار منذ احتلال البلد، تبرر التصريحات الرسمية، العراقية
والبريطانية والامريكية، فضلا عن التقارير ذات الاختصاص، الانقطاع بأنه
ناتج عن أسباب تقنية عدة يعود بعضها الى تسعينيات القرن الماضي، ومن ثم
التخريب الذي لحق البلاد جراء الغزو الأمريكي البريطاني أولا ثم تنظيم
الدولة الاسلامية ثانيا. ومن بين الأسباب التي يُشار اليها، غالبا، هو
زيادة عدد السكان، واستخدام المكيفات وزيادة الاستهلاك وعدم دفع قوائم
الكهرباء والغاز. وهي أسباب، تشير الى واقع سياسي واقتصادي متدهور، بكل
المستويات، يتطلب حلولا آنية سريعة واستراتيجية، لضمان المحافظة على
حياة وكرامة المواطن وليس توجيه اللوم اليه. ولن يتحقق هذا ما لم تتوفر
الإرادة السياسية المستقلة للحكومة، وتمتع البلد بالسيادة، وتنظيفه من
فيروس الفساد.
تحويل أموال الفساد والتهريب من بلدان العالم المضطربة، الغنية منها
والفقيرة، ينتهي في بورصات وبنوك وعقارات بلدان حروب التدخل والغزو
إذ يبقى السبب الرئيسي لعدم تنفيذ أي من المشاريع هو الفساد، كعملة
صعبة، سارية المفعول، في حقل التزود بالكهرباء وعلى مستويين، بواسطة
الاحتيال في العقود الحكومية مع جهات خارجية من جهة ومافيا المّولدات
على المستوى المحلي من جهة أخرى.
محليا، تتحكم مافيا المّولدات، بكل ما له علاقة بالكهرباء من تكلفة
وتوزيع، وللسياسيين والميليشيات حصص فيها. لذلك لايزال معدل تلبية
حاجات الفرد من الكهرباء واحدا من أدنى المعدلات في الشرق الأوسط.
أما العقود الخارجية، فان في تقرير حديث لتشاتام هاوس، بعنوان «الفساد
المقبول سياسياً وعوائق الإصلاح في العراق» أمثلة عن الاحتيال في
العقود الحكومية عن طريق استخدام شركات صورية. أحدها «العقد الذي وقعته
وزارة الكهرباء العراقية مع شركة «باور أنجنز» البريطانية، لبناء 29
محطة كهرباء، في مدينة الناصرية، جنوب العراق. وقد دفعت الحكومة مبلغ
العقد وقدره 21 مليون دولار لتجد أن الشركة مزورة. ومع ذلك لم تقم
الحكومة بفصل أو معاقبة المتورطين في صياغة العقد أو رفع دعوى قضائية.
وكشفت وثيقة رسمية أخرى عن خسارة 8 ملايين دولار من المديرية العامة
لإنتاج الطاقة الشمالية».
ومن يتابع مقابلات الساسة العراقيين التلفزيونية، سيجد أن اتهامات
الفساد المتبادلة حول العقود الخارجية، مع عديد البلدان، تكاد تكون
خيالية، ومع ذلك تمر بلا محاسبة.
ولايقتصر إفلات العراقيين الفاسدين من المحاسبة والعقاب على داخل
العراق لوحده، بل يمتد إلى بريطانيا وأمريكا إذا كان المسؤول الفاسد من
حملة جنسية أحد البلدين أو حاصلا على الاقامة الخاصة برجال الاعمال.
وباستثناء نوفل حمادي السلطان، محافظ نينوى السابق، الذي فرضت عليه
الحكومة البريطانية العقوبات، في الشهر الماضي، لأنه «حّول الأموال
العامة المخصصة لجهود إعادة الإعمار، ومنح العقود وغيرها من ممتلكات
الدولة، بشكل غير صحيح الى بريطانيا» فان «رجال الأعمال» العراقيين
يجدون في بريطانيا وأمريكا ملاذا آمنا إلى حد كبير. ولم لا وقد تم
تهريب 150 مليار دولار من أموال النفط العراقي في صفقات فاسدة منذ
غزوه؟ وهل هناك من هو أكثر احتضانا لهذه الأموال من الغزاة؟ مما يعني
أن تحويل أموال الفساد والتهريب من بلدان العالم المضطربة، الغنية منها
والفقيرة، ينتهي في بورصات وبنوك وعقارات بلدان حروب التدخل والغزو،
مؤشرا إلى أن العالم يعيش مرحلة جديدة من النهب الامبريالي، غير
المباشر، بامتياز. حيث تتنصل هذه الدول من تكلفة الاحتلال أو ضرورات
تأهيل أنظمة تابعة مستقرة، مستبدلة إياها باستمرار الفوضى والتمزق
والنهب، من قبل أنظمة محلية فاسدة، ليست تحت مسؤليتها العسكرية
المباشرة، مع ضمان انتهاء ما يُنهب إلى «الملاذ الاقتصادي الآمن».
كاتبة من العراق
انسحاب القوات الأمريكية
من العراق وتقطيع الأذن
هيفاء زنكنة
« نقول إن العراقيين يستحقون حياة أفضل، ولدينا خيرات نريد أن ينعم بها
أبناء شعبنا، إلا أن الصراع السياسي يكبّل أي تقدم». لنفترض ان هذا
التصريح قد تم تقديمه في برنامج حزورات، يتساءل فيه مقدم البرنامج: «من
قال هذا ؟» وهل هو رئيس اتحاد طلبة أو رئيسة منظمة مجتمع مدني أو مديرة
جمعية خيرية، ما الذي سيكون عليه الجواب؟
هل سيتبادر إلى أذهان المتسابقين وجمهور البرنامج أن قائل التصريح
المتباكي الذي يلقي اللوم في بؤس حياة العراقيين على «الصراع السياسي»
هو رئيس وزراء العراق الذي يُعدّ، وفق شروط وظيفته، وحسب الدستور، وبكل
المعايير، المسؤول التنفيذي المباشر عن السياسة العامة للحكومة والقائد
العام للقوات المسلحة العراقية ؟ مما يعني انه المسؤول الأول عن الوضع
العام في البلد، بكافة مستوياته الاقتصادية والصحية والتعليمية ناهيك
عن الامنية والعسكرية. وهل هناك حاجة الى تذكيره بأنه مسؤول عن تنظيم
عمل الوزارات بما يتماشى والوضع العام من اجل وضع الحلول المناسبة وحل
القضايا العالقة؟ وهل هناك ما هو أكثر الحاحا من القضايا ذات العلاقة
باستمرار الحياة، بشكل طبيعي، ووضع حد لسقوط الضحايا المتزايد إغتيالا،
كما مئات المتظاهرين والناشطين، وحرقا كما في مستشفيات المصابين
بالكورونا، وتفجيرا كما في ضحايا مدينة الصدر، ببغداد، أخيرا؟ وكيف
انتهى العراق برئيس وزراء إما لا يعرف معنى مسؤوليته الوظيفية، ويعتقد
إنها تقتصر على زيارة أهالي الضحايا والتقاط الصور مع أطفالهم، أو يعرف
تماما حجم المسؤولية إلا أنه يتجاهلها، لأنه عاجز عن القيام بها أو
لأنه يستهين بالعراقيين ويجد انهم يستحقون الموت؟
واذا ما نظرنا الى صورة العراق الأكبر وعلاقته بقوات الاحتلال والعالم،
المتشابكة والمتغلغلة بمآسي الحياة اليومية، كيف انتهى العراق برئيس
وزراء، يتعامل مع الأحداث وكأنه رئيس منظمة غير حكومية، ومع ذلك سيفاوض
باسم العراق حول واحدة من أهم الاتفاقيات، وهي الاتفاقية الاستراتيجية
وانسحاب قوات الاحتلال الأمريكي، مما يستدعي المقارنة النوعية مع
شخصيات الوفد الفيتنامي المفاوض للغزاة الأمريكان والجزائري المفاوض
للمستعمر الفرنسي، في ظل الغموض المحيط بتفاصيل الأتفاقية ولا سياسة
حكومة مصطفى الكاظمي.
أعلن الكاظمي أن مهمته هي مناقشة جدولة انسحاب القوات الأمريكية
القتالية ( التعبير الرسمي لقوات الاحتلال) من العراق، إذ لايزال هناك
2500 جندي أمريكي في البلد. والتفاوض حول انسحاب أية قوات أحتلال هو
موقف وطني لا خلاف عليه. باستثناء ان واقع الحال، مغاير تماما، كما تدل
تصريحات الكاظمي ووزير خارجيته المتناقضة مع بيانات قادة الميليشيات
والعشائر وتصريحات مسؤولي الادارة الأمريكية، مما يثير الشكوك
والألتباس حول أبسط المفاهيم كالوطنية والاحتلال والمصالح المشتركة
بالاضافة الى حقيقة ما يتم الاتفاق عليه.
تحت مسمى الشراكة «الناعم» سيبقى، اذن، الوضع كما هو تقريبا، إلى أجل
غير مسمى، تحت الوصاية الأمريكية الإيرانية، مع تعديلات في نسب ومجالات
المشاركة والصراع
فمن جهة أكد وزير الخارجية فؤاد حسين أن القوات الأمنيّة ما تزال في
حاجة إلى البرامج التي تقدمها أمريكا في مجالات التدريب، والتسليح،
والتجهيز، وتقديم المشورة في المجال الاستخباري، وبناء القدرات، وأهمية
ديمومة الجهود الأمريكية العسكرية لمحاربة الأرهاب. وأن العراق يجدد
تأكيده والتزامه بتعزيز شراكته الاستراتيجية مع الولايات المتحدة
الأمريكية بوصفها شريكاً أساسياً في التحالف الدولي لمحاربة تنظيم
داعش. وشكر أمريكا لدعمها إجراءات مُراقبة الانتخابات المقبلة وضمان
نزاهتها، موضحا بأنه، بالاضافة الى ذلك كله، قد تم إبرام العديد من
مُذكرات التفاهم في قطاعات مُتعددة من بينها الاقتصادية والصحية ومجال
الطاقة والاستثمار فضلا عن السياسة الأقليمية. كرر فؤاد حسين في
تصريحاته ومقابلاته أن اتفاقية الإطار الاستراتيجي مبنية على « العمل
المشترك» بين البلدين.
ولكن بدون ان يتطرق الى تفاصيل الفائدة التي سيجنيها « الشريك»
الأمريكي. بل ترك التفاصيل مغيبة ساردا بتفصيل كبير ما سيجنيه العراق،
مستبعدا واقع الهيمنة الكلية الممنوحة لأمريكا بكافة النواحي. مما يوحي
وكأن ما يحصل عليه العراق هبة مجانية من قبل جمعية احسان تدعى الولايات
المتحدة وليس، كما هو معروف تاريخيا، تعزيز لعنصرية المحتل وسيطرته
وأخطرها رعاية التفرقة وتشجيع التمايز في المظلومية والظهور بمظهر حامي
حقوق الانسان وبناء الديمقراطية.
اذا كان الكاظمي، يحاول استغلال مشاعر الميليشيات المدعومة إيرانيا،
الأقوى من القوات الأمنية والجيش، والتي هددته احدى فصائلها بان «الوقت
مناسب جدا لتقطيع أذنيه كما تقطع آذان الماعز» فان لمحاولته حدودا لا
يستطيع تجاوزها. إذ ان الادارة الأمريكية لن تتخلى بسهولة عن بلد لديه
ثاني أكبر احتياطي نفط في العالم، ويمكن الوصول إليه بسهولة، ويقع في
المنطقة الرئيسية المنتجة للطاقة في العالم، وحلبة للمساومة مع إيران
بصدد السلاح النووي. وكما نّوه وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن،
في مؤتمر صحافي، إن الشراكة مع العراق أكبر بكثير من الحرب ضد داعش.
تحت مسمى الشراكة «الناعم» سيبقى، اذن، الوضع كما هو تقريبا، إلى أجل
غير مسمى، تحت الوصاية الأمريكية الإيرانية، مع تعديلات في نسب ومجالات
المشاركة والصراع كما هو حاصل منذ احتلال العراق عام 2003. وسيواصل
المسؤولون الأمريكيون والعراقيون اطلاق التصريحات عن تحول دور القوات
الأمريكية من العسكري القتالي إلى الاستشاري، وهو عمليا ما تقوم به،
حاليا، باستثناء القصف الجوي واستخدام الدرونز، الذي يدار كله من قواعد
موجودة خارج العراق ولن يطرأ تغيير عليه وعلى دور قوات الناتو. وكل ما
سيحدث هو التلاعب ببعض المفردات لأغراض اعلامية. بينما ستبقى الحقيقة
مُغَيبة باتفاق الطرفين الأمريكي والحكومي العراقي على طمس مسؤولية
أمريكا في غزو العراق الذي يشكل جريمة حرب، إذ لم يكن الغزو دفاعًا عن
النفس ضد هجوم مسلح، ولم يقره مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة الذي
يجيز استخدام القوة من قبل الدول الأعضاء، وفقًا للجنة الحقوقيين
الدولية في جنيف. مما يجعل توقيع أي مادة ضمن الاتفاقية الاستراتيجية
شرعنة لجريمة الحرب وتمديدا لهيمنة المحتل والغاء لحق الشعب العراقي في
اي تعويض قد يطالب به جراء الغزو والتخريب وخسارة الحياة الإنسانية.
وكل هذا بموافقة حكومة تدّعي الوطنية.
كاتبة من العراق
تشييع الإمام التاسع
في بغداد في ظل كوفيد 19
هيفاء زنكنة *
مشهد آخر يضاف إلى غرائبية الوضع العام في العراق. يشي المشهد،
بتفاصيله، بالأزمة العميقة ألتي يعيشها البلد على إختلاف المستويات
الدينية والسياسية والاقتصادية، وما يتمخض عنها من تشكيل للوعي
المجتمعي.
ضمن هذه التشكيلة المشهدية إحتشد آلاف الرجال، يوم السبت الماضي،
العاشر من تموز/ يوليو، في بغداد. أجسادهم تكاد تلتصق لفرط الزحام
والتدافع، وجوههم مبللة بالدموع، وهم يحملون تابوتا خشبيا ضخما مغطى
براية خضراء، متجهين نحو صحن الكاظمية ( شمال بغداد) في تشييع رمزي
للأمام محمد الجواد، التاسع من أئمة الشيعة الإثني عشرية، والحادي عشر
من المعصومين الأربعة عشر، في ذكرى استشهاده. المعروف أن الإمام الجواد
كان قد تولى الإمامة بعد أستشهاد أبيه علي الرضا وعمره إما سبعة أو
ثمانية أعوام. وقد أدى صغر سنه إلى الاختلاف في مدى أحقيته بالإمامة
حينذاك. استشهد الإمام الجواد ببغداد، وعمره 25 عاما، ودُفن في
الكاظمية. وتشير الرواية الشيعية الى أن زوجته أم الفضل، ابنة الخليفة
المأمون، دست له السم بتأثير من أخيها المعتصم، بعد توليه الخلافة
أثناء الدولة العباسية.
تحفل أيام العراق، منذ احتلاله عام 2003، بعديد المناسبات الدينية،
الحافلة بالطقوس الجماعية، بعد رفع الحظر عنها. لا شك في أن للطقوس،
بأشكالها، من الدينية الى المناسباتية كالولادة والزواج والموت الى
حضور مباراة لكرة القدم، ومعظمها تعود بداياته الى الطقوس الدينية،
أهمية بالغة، في حياة الأفراد والشعوب. فمن خلالها يؤكد الفرد انتماءه
الجماعي و«نقاء» أو مصداقية رحلته الحياتية حتى اللحظة، وإعادة التأكيد
على أن المسار الذي يسلكه هو الطريق الصحيح، كما تربطه بالأجداد
والتراث، وتمكنه من التواصل مع هويته وتقويتها.
من هذا المنطلق، يمكن إعتبار هذه المسيرة واحدة من الطقوس العادية ألتي
يختار أبناء شعب ما ممارستها. إلا أن الواقع الحالي، الاستثنائي، في
العراق، يضع هذه المسيرة خارج حدود «العادي المألوف «. لتثير عديد
التساؤلات حول توقيتها، وكيفية الإعداد لها، بالإضافة إلى أهميتها
والموقف الحكومي الرسمي منها.
من ناحية التوقيت تم تنظيم المسيرة الحاشدة والبلد يعيش كارثة إنتشار
وباء الكوفيد، التي جعلته يحتل المكانة الاولى في قائمة الدول العربية،
بأعداد المصابين والموتى. ومن أوليات الإجراءات التي يجب اتخاذها
للوقاية من الوباء هو التلقيح والتباعد الاجتماعي وإعلان الحظر العام
عند الضرورة. وهذا ما كان يجب إجراؤه للمحافظة على حياة الناس والتعافي
من الوباء. الا أن ما حدث هو العكس تماما إذ تم تنظيم المسيرة ( وهي
واحدة من عدة) في وقت لا يزال فيه التطعيم دون المستوى المطلوب بكثير.
وإذا كان ما يميز الشعب هو قلة الوعي، وغسل الدماغ، كما يُشاع، فماهو
الدور الحكومي والمراجع الدينية في هذه الحالة؟
بدلا من شن حملة توعية بمخاطر التجمعات، سبقت المسيرة حملة تحشيد منظمة
لحث «الموالين» على المساهمة بل وإقناعهم بوجوب الحضور لتجديد « عهدهم
للأمام «، لكي يضمن لهم الثواب و«الأجر». ساهم في الحملة سياسيون ورجال
دين، ومراكز ومجمعات دينية، وأمناء مجالس العزاء. أُعدّوا خلالها
«منهاجاً خاصاً وحافلاً بالنشاطات الدينية.
إن حماية حياة أبناء الشعب، من جميع المخاطر، مسؤولية الحكومة، بالدرجة
الأولى، وعليها إيجاد أفضل الطرق وصيغ التعاون مع رجال الدين والمنظمات
الدينية لمنع التجمعات الحاشدة
ويشمل إقامة مجالس العزاء الحسيني في رحاب الصحن الكاظمي الشريف على
مدى خمسة أيام بالاضافة الى مشاركة الرواديد الحسينيين «. والرادود هو
الحكواتي الشيعي، المتمرس في تقديم سردية البطولة والشهادة، بلغة يزداد
سحرها بتوظيف المخيلة، لإعادة تمثيل رمزيتها، بأسلوب يستدر التعاطف
والتماهي، إلى حد البكاء واللطم على الإمام الشهيد ومأساته. تُخرج هذه
الطقوس المشارك فيها من واقعه اليومي، ليكون خارج عالم المكان والزمان
العاديين. ويزداد إقترابا من الأئمة وما يحيطهم من قدسية، خاصة إذا كان
واقعه بائسا (اقتصاديا ومجتمعيا) كحال الشريحة الأكبر من الهامشيين
والمسحوقين في العراق، وهو بأمس الحاجة إلى الارتقاء بواقعه، كما
الحالم بالفردوس.
لاضرر في ممارسة الطقوس، عموما، في الظروف العادية للبلد، بل ويتطلع
الناس للمشاركة فيها، كما يحدث في أرجاء العالم، وتتحول بمرور الزمن
إلى احتفالات رمزية تجمعهم، وهو ما وصل العراق اليه، في خمسينيات القرن
الماضي، مع أيام عاشوراء. فاصبحت فضاء مشتركا للاحتفاء بالذاكرة
الجماعية وإبداع المخيلة في أعمال تجمع بين المسرح والطقوس، ولا تٌستغل
لأغراض سياسية واقتصادية وعنصرية.
ان التناول المتوازن للروايات التي تستند عليها الطقوس القديمة، في
خلفية الاحتفالات، جزء من التطور الثقافي التدريجي للأمم. فلا بد من
تمييز التاريخ عن الأسطورة والتزييف المتعمد، وخصوصا ما يمنع تشكل
التكوين النفسي المشترك للشعب، وأخطرها تجريم حقب كاملة من تاريخه، كما
يحدث مع الخلافة العباسية اليوم، مثلا، واسقاطها على الحاضر، بشعبوية
سياسية، هدفها تأجيج العواطف.
لا يمكن، اذن، انكار أهمية الطقوس الدينية الشعبية حتى مع انتشار
الوباء، ما لم يتم من خلالها إيهام المشاركين بأن زيارة المراقد
الدينية والمساهمة في مسيرات طقوسية حاشدة، ستزودهم بالمناعة ضد الوباء
فلا حاجة للتباعد الاجتماعي واللقاح.
إن حماية حياة أبناء الشعب، من جميع المخاطر، مسؤولية الحكومة، بالدرجة
الأولى، وعليها إيجاد أفضل الطرق وصيغ التعاون مع رجال الدين والمنظمات
الدينية لمنع التجمعات الحاشدة، مهما كانت قدسية المناسبة. وهذا ما
فعلته الحكومات والمؤسسات الدينية، في جميع أرجاء العالم. فأغلقت أماكن
العبادة وألغت الشعائر الدينية وحددت التجمعات العامة. وقدمت الكنائس
المسيحية، والكُنُس اليهودية، والمساجد، والمعابد، الشعائر الدينية عبر
البث المباشر أثناء الجائحة. كما ألغت المساجد صلاة الجمعة. وتم إلغاء
احتفالات رأس السنة البوذية، التي غالبا ما تجمع الآلاف من الناس معا،
ليمارسوا طقوسهم في جميع أنحاء جنوب آسيا. بل وأصدرت الحكومات قرارات
تقضي بمنع تشييع الموتى واتمام الدفن بحضور شخصين فقط.
وإذا كان من المفترض أن تقوم الحكومة أما بمنع مسيرة التشييع أو
تأجيلها، حماية للأرواح، وباعتبار إن الإمام الجواد قد استشهد قبل 1186
عاما، ولن يضر الانتظار عاما آخر، إلا أن أيا من ساسة الحكومة لم يتجرأ
على إتخاذ قرار كهذا، ليس إيمانا بضرورة تشييع الإمام الجواد، ولكن
خشية اتخاذ قرار قد يمس مصالحهم إذا ما تعرضوا، باي شكل من الاشكال،
للمؤسسة الدينية وأتباعها، والبلد مقبل على الانتخابات، فالحصول على
مقعد، في انتخابات أكتوبر المقبلة، بالنسبة إلى ساسة عراق اليوم، أعلى
قيمة من حياة الإنسان.
كاتبة وصحفية وناشطة عراقية تقيم في بريطانيا
تكتب اسبوعيا في جريدة (القدس العربي)
العراق يضحك… القيظ من
ورائكم والكورونا من أمامكم
هيفاء زنكنة
أيام العراق حافلة بانجازات بلا حدود. آخرها فوزه بالمركز الأول،
عربيا، بانتشار فيروس كورونا. فبينما أظهر إحصاء لوكالة «رويترز» أن
أكثر من 183 مليون نسمة أصيبوا بفيروس كورونا المستجد على مستوى
العالم، وأن عدد الوفيات تجاوز الأربعة ملايين، سجل العراق رقمه
القياسي بين الدول العربية: 17256 وفاة وأكثر من مليون وربع المليون
إصابة. وتشير الزيادة في عدد الإصابات، بين فئة الشباب، وارتفاع عدد
الراقدين بردهات العناية المركزة في المستشفيات، إلى وصول متحورة
«دلتا» إلى البلاد.
وإذا كانت حالات الإصابة والوفيات هي التي تحتل الصدارة، بلغة
الاحصائيات المجردة، للدلالة على وضع آني فإن إنعكاسات الجائحة، الآنية
منها وبعيدة المدى، وامتدادها بشكل سريع، يضيف إلى الوضع العام
الكارثي، «بيئة مثالية» لتفشي أمراض من نوع آخر. أمراض بالإمكان
معالجتها لو توفرت الإرادة السياسية الوطنية وتم تعقيم البلد من
ميكروبات الفساد. فالعراق بلد يتمتع بثروة لا تتوفر للدول العربية
الأخرى التي تليه في قائمة الإصابة بالفيروس مثل الأردن ولبنان
والمغرب. شبح الفقر بعيد إذن والتحجج بقلة الموارد المادية أكذوبة
مفضوحة. خاصة وإن تعافي أسعار النفط، عالميا، عزز الإيرادات من مبيعات
النفط في شهر حزيران/ يونيو لتتجاوز ستة مليارات دولار للشهر.
إلا أن هذه الثروة سرعان ما تُصبح سرابا، عند الحديث عن مقايضتها
بتوفيرالخدمات للمواطنين. وهنا تأتي انعكاسات إنتشار الكورونا
المضاعفة، الممتدة أبعد من الحاضر، حين تتزاوج مع التدهور الكلي إلى
الحضيض، منذ غزو البلد عام 2003، وتسليم السلطة إلى عراقيين يحكمون
بالنيابة.
من ناحية توفير اللقاح وتوزيعه، يأتي العراق في مستوى متدن للغاية. إذ
لم يتلق اللقاح بجرعتيه، حتى الآن، غير أربعة بالمئة من المواطنين
(مقارنة بدول تقترب من 70 بالمئة من البالغين كتشيلي). مما يعني، إذا
ما استمر الوضع على هذا الحال، ستصل نسبة 70 بالمئة من مجموع أربعين
مليون من السكان عام 2075.
ويعيش المهجرون والنازحون قسريا (من العراقيين والسوريين ومن بلدان
أخرى) البالغ عددهم ستة ملايين ونصف، حسب المفوضية السامية لشؤون
اللاجئين في شهر حزيران، مأساة مضاعفة. إذ يعانون من عدم القدرة على
العمل وكسب العيش بسبب القيود المفروضة على الحركة. مما يعرضهم لقبول
أي عمل كان مهما كانت نتائجه، ومعاناة الأكثرية من الصدمات النفسية،
والتوتر والقلق، ووقف الأنشطة التعليمية، وتصاعد العنف المنزلي،
والاستغلال الجنسي. وقد دفع الاستغلال الجنسي المفوضية إلى إضافة
تحذير، بالخط العريض، عند التسجيل للحصول على اللقاح، يبين إنه في حال
طلب أي موظف يتبع لجهات فاعلة في العمل الإنساني الاغاثي أو التنموي ـ
بما في ذلك وكالات وبعثات الأمم المتحدة أو المنظمات غير الحكومية
الوطنية أو الدولية بأي خدمة أو نشاط جنسي مقابل الوعد بتوفير لقاح
جائحة كوفيد 19، فإن ذلك يعد ارتكابا لجريمتي الاستغلال والانتهاك
الجنسيين.
حققت الحكومات العراقية المتعاقبة نجاحا مذهلا في تلاشي الثقة، حتى بين
مؤيديها، جراء إطلاق الوعود الكاذبة، والقرارات التخديرية، وسياسة
التزييف المنهجية
من الجانب الحكومي، تُلقي معظم التصريحات مسؤولية انتشار الوباء على
قلة وعي المواطنين، وخوفهم من اللقاح وتجاهلهم الإجراءات الحكومية. إلا
أنها قلما تتطرق إلى الأسباب الحقيقية وأهمها انعدام الثقة، عموما،
بالإجراءات الحكومية، أيا كانت. فمن المعروف إن التحدي الذي تواجهه
الحكومات ( حتى الديمقراطية فعلا) لا يقتصر فقط على معرفة السياسات
التي يختارونها، ولكن أيضًا في كيفية تنفيذ السياسات، وتعتمد القدرة
على التنفيذ بشكل رئيسي على الثقة. بدونها لا أمل في تطبيق أي اجراء
حكومي ولو كان لصالح الناس أنفسهم. وقد حققت الحكومات العراقية
المتعاقبة نجاحا مذهلا في تلاشي الثقة، حتى بين مؤيديها، جراء إطلاق
الوعود الكاذبة، والقرارات التخديرية، وسياسة التزييف المنهجية المبنية
على الاستهانة بعقول الناس، فضلا عن اللجوء الى العنف بأشكاله.
وإذا كان التعامل مع الوباء مشكلة عالمية، فإن انقطاع التيار الكهربائي
يشكل نموذجا متميزا يُحسب للحكومة العراقية دون غيرها. تجثم المشكلة،
القابلة للحل، بثقلها على صدور الناس فتمنعهم من التنفس، وأحيانا الموت
من شدة الحرارة، بعد مرور 18 عاما على إطلاق الوعود بالأطنان عن تحسين
الوضع. وهناك من الدلائل العلمية ما يؤكد إن عدم توفير الكهرباء وتعريض
حياة المواطن للخطر القاتل هو جريمة بحد ذاتها، في بلد ترتفع فيه درجة
الحرارة، على مدى ثلاثة شهور كل عام، إلى ما يزيد على الخمسين درجة
مئوية. حيث يؤكد العلماء أن درجة حرارة الجسم التي من المفترض ثباتها،
ترتفع إذا كانت درجة الحرارة الخارجية مرتفعة للغاية. فيصاب المرء
أولاً بالإرهاق الحراري، الذي يتسم بالصداع والغثيان أو الدوار إلى أن
يصل نقطة تحول تختلف باختلاف الاشخاص، لكنها تدور حول 42 درجة مئوية إذ
يتوقف جدوى التعرق ويمكن أن ترتفع درجة حرارة الجسم، لتصل أحيانا فوق
44 درجة مئوية. مما يسبب الوفاة. ويتضاعف الخطر في محافظة البصرة
وحواليها باضافة درجة الرطوبة العالية التي توقف التعرق في منطقة
الخليج العربي.
تتجاهل الحكومة هذه الحقائق الواضحة، بدون أن تتخذ أي إجراء فعال،
لانقاذ حياة الناس، بل تكتفي باطلاق التصريحات وبعض الإجراءات
الترقيعية. ولعل أكثرها إهانة للمواطنين هو الإعلان المبتذل عن تشكيل
لجان التحقيق. على هذا المنوال شكل رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي لجنة
«لفتح تحقيق في حالات التقصير والإهمال في بعض مفاصل وزارة الكهرباء».
ونشر تغريدة عن «التحقيق لمعرفة اسباب الانقطاع بالمنظومة الكهربائية
للوصول إلى اجابات عن حقيقة ما حصل. هل سببه خلل فني أم عمل إرهابي أم
سياسي». وكأن المشكلة طارئة والصيف يحل بالعراق للمرة الأولى، مما
يستدعي تشكيل لجنة حكومية للتحقيق في الاسباب، وكأن انتفاضة تشرين /
أكتوبر 2019، التي راح ضحيتها مئات المحتجين وجرح مئات الآلاف، حدثت في
بلد آخر غير العراق. ولأن كثرة الهم والأسى تدفع الناس إلى السخرية
وتبادل النكات دفعا للجنون، كثرت النكات حول الكورونا وانقطاع الكهرباء
إلا أن مواقع التواصل الاجتماعي شهدت في الايام الأخيرة إضافة نوعية،
برزت مع لجوء الكاظمي الى اطلاق التغريدات تشبها بالرئيس الأمريكي
السابق دونالد ترامب. الاضافة الجديدة هي الاكتفاء بتوزيع التغريدات
الغرائبية بلا تعليق. فهل تحتاج تغريدة مثل «العراق مستعد لتعزيز
التعاون مع إيطاليا، في مجال التدريب وتطوير العمل في مكافحة الفساد
وغسيل الأموال والجريمة المنظمة والمافيات» لأي تعليق لاثارة الضحك؟
كاتبة من العراق
مبادرة جمعيات
أمهات الضحايا في العراق
هيفاء زنكنة
داخل خيمة صغيرة، في مدينة توسم بالقدسية، اعتصمت أمرأة نحيفة، منهكة
الملامح، مجللة بالسواد، تتجمع دموعها في قلبها غضبا ينذر بالانفجار.
انفجار أم عراقية ثكلى بابنها.
اسم المرأة المعتصمة هو سميرة. ينادونها أم ايهاب، تكريما للآصرة
الأبدية بين الأم والابن/ البنت، في عراق يحترم الأم ويكاد يقدسها.
أزالت القوات الأمنية الخيمة، عدة مرات، لأنها باتت مزارا للمطالبين
بمعرفة قتل المتظاهرين. صارت أم ايهاب وخيمتها، تجسيدا حيا لشعار «من
قتلني» الذي يستمر المحتجون، في عدة مدن، برفعه بصوت واحد لستمائة
قتيل، تخضبت أيدي مسؤولي الحكومة بدمائهم، منذ انطلاق انتفاضة تشرين /
اكتوبر 2019.
ولايزال المحتجون يتساقطون بينما يتمتع القتلة بالحماية والتكريم. حيث
بات كتم الأصوات، اغتيالا، نسغا يمد الميليشيات وأحزابها بمواصلة
البقاء والهيمنة. وهذا هو أحد أسباب أغتيال ايهاب الوزني، رئيس تنسيقية
الاحتجاجات في كربلاء، جنوب بغداد، من الأصوات المناهضة للفساد وسوء
الإدارة، المطالب بوطن يُحترم فيه المواطن ولا يهان، بوطن لا تتنعم فيه
فئة لصوص ومجرمين على حساب أبناء الشعب، والحد من نفوذ الميليشيات.
صورت كاميرات مراقبة قريبة من منزله لحظة اغتياله، في 9 مايو، كما وثقت
أشرطة فيديو عمليات اغتيال ناشطين غيره من قبله. ووعدت القوات الأمنية
بمحاسبة القتلة، كما وعدت سابقا، وكما وعد رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي
شخصيا، لتبقى الجريمة بلا محاسبة، مسجلة ضد مسلحين مجهولين. وإذا كان
رئيس الوزراء قد نجح سابقا في طمر الجرائم تحت غطاء وعوده وزيارته لذوي
الضحايا، واحتضانه أطفال الضحايا أمام عدسات الكاميرات، واستنكار
الجرائم خطابيا، كأنه مسؤول منظمة غير حكومية، وكأن القتلة نزلوا من
المريخ، فان مثابرة أم ايهاب على المطالبة بمحاسبة قتلة ابنها، وفق
القانون، وعدم رضوخها للضغوط والتهديدات، والقبول بالوعود المعسولة،
وزيارة ممثلة الأمم المتحدة جينين هينيس بلاسخارت، يوم الخميس الماضي،
يشير الى أن جسد الامبراطور، وليست ملابسه الوهمية فقط، قد تهرأ.
إن موقف أم ايهاب على المستوى العام هو استمرار للحركة الاحتجاجية
ومشاركة النساء منذ احتلال العراق عام 2003. نساء العراق اللواتي يقفن
أمام المعتقلات والدوائر الأمنية بحثا عن أحبائهن المختفين قسرا
والمفقودين، مطالبات بحقوقهن كأمهات وزوجات، منذ عقود. يقفن أيام البرد
والحر القائظ انتظارا. فقد يعطف عليهن شرطي أو رجل أمن « شريف» فيهمس
لهن بخبر ما يمنحهن الأمل بوجود أحبتهن في أحد المعتقلات أو حتى
امكانية العثور على جثة في ثلاجة إحدى المستشفيات. لتبدأ رحلة من نوع
آخر. رحلة تقتضي، إذا كان الشخص حيا، ارضاء المرتشين والمبتزين وتحمل
إهانات وتهديدات الشرطة وقوات الأمن. وبيع ما يملكن (الجسد أحيانا)
لإشباع جشع المجرمين من دعاة حماية الأمن.
استنادا الى تجارب مماثلة في المغرب والجزائر وكولومبيا والمكسيك
وتشيلي، من المفيد لأية مبادرة على غرار جمعيات العوائل التعاون مع
المنظمات الحقوقية المحلية والدولية، لتحقيق رؤية أوضح واكتساب مصداقية
أكبر
أما على المستوى الشخصي، فان موقف أم ايهاب انعكاس لموقف ابنها الذي
أقسم حين قيل له إن أعداد المتظاهرين بدأت بالتناقص مع ازدياد حملة
الاغتيالات، بأنه سيواصل التظاهر وحده، في بلد الحكومة فيه ظل شاحب
لميليشيات تستعرض أسلحتها وقوتها حيثما وأينما شاءت في قلب البلد في
العاصمة. وكأنه رسم بذلك مسار حياة أمه بعد اغتياله، أن تعيش حياته.
لتعكس بذلك الصورة المتعارف عليها: أن يحمل الأبناء عبء مواصلة طريق
الآباء ونقل الإرث من جيل إلى جيل.
وكما اجتمع عدد من الأمهات في ساحة مايو، أمام قصر الرئاسة في وسط
بوينس آيرس، عاصمة الأرجنتين، للمطالبة بمعلومات عن مكان وجود أبنائهن
المختفين، في ظل النظام القمعي وما سمي «الحرب القذرة» عام 1977، وازاء
ازدياد الضغوط الأمنية ومنعها من مواصلة الاعتصام أمام مقر القضاء في
مدينتها، دعت أم إيهاب عوائل ضحايا الاحتجاج، خاصة النساء، من أمهات
وشقيقات وزوجات، الى مشاركتها الاعتصام. ولبى الدعوة عدد من النساء في
محافظات ذي قار وبابل وبغداد. مما يشكل نقطة تحول نوعية أبعد من
المطالبة الفردية. فهل بتنا نشهد بذرة إنشاء جمعية أو جمعيات عائلات
الضحايا، كما في عديد البلدان المحتلة أو الخاضعة لنظام قمعي، أو تعيش
مرحلة العدالة الانتقالية ما بعد انتهاء النزاع او الحرب؟ جمعيات،
غالباً، ما يتم تأسيسها من قبل أقارب اشخاص أغتيلوا أو اختفوا خلال
بحثهم عن أحبائهم. فبسبب تجاهل المطالب الفردية للعائلات من قبل
السلطات، يتكاتف الأهالي معاً للبحث عن أحبائهم وللتحرك من أجل قضيتهم
أو محاسبة الجناة.
بالإضافة الى العمل على تشكيل شبكة وطنية للتوعية بخصوص حقوق الضحايا
على الصعيدين الوطني والدولي والدفاع عن حقوق عائلات الضحايا في
الحقيقة والعدالة. هل من الممكن تأسيس جمعيات كهذه في ظل حكومة تديرها،
عمليا، ميليشيات مسلحة مسؤولة عن جرائم قتل وتهديد واختطاف موثقة محليا
ودوليا؟ كيف يضمن أفراد الجمعيات سلامتهم وقد عاشوا أنفسهم مأساة
اغتيال احبائهم، ومسؤولي الحكومة الذين يفترض اللجوء اليهم لتحقيق
العدالة هم أما طرف فعلي في الجرائم أو متفرجون صامتون؟
كيف يمكن لمجموعة نساء التغلب على مشاعر الخوف وهو من أكثر المشاعر
تجذرا في الطبيعة الإنسانية وهن يدركن أنه تحذير من خطر حقيقي يهدد
حياتهن؟ قد يكون تواجد الأمهات معًا، ووجود محتجين آخرين، مصدر قوة
لمواجهة العنف والقمع. عن الخوف تقول إحدى « أمهات ساحة مايو: «في كل
مرة وأنا في طريقي إلى الساحة كنت أشعر بالخوف مما قد يحدث، كنت أسمع
صوت قلبي وهو يخفق بشدة حتى يكاد أن ينخلع من مكانه، لكن ما أن أصل إلى
الساحة وأنضم للأخريات حتى يزول خوفي بل أزداد قوة وإصرارًا على مواصلة
النضال».
استنادا الى تجارب مماثلة في المغرب والجزائر وكولومبيا والمكسيك
وتشيلي، ومع مراعاة خصوصية وخطورة الوضع في العراق، من المفيد لأية
مبادرة على غرار جمعيات العوائل التعاون مع المنظمات الحقوقية المحلية
والدولية، لتحقيق رؤية أوضح واكتساب مصداقية أكبر، بالاضافة الى
التنسيق حول توثيق الجرائم والعمل على أعداد قاعدة بيانات، توضع على
شبكة الإنترنت، من قبل ناشطين مقيمين في الخارج وذلك لأنهم لا يتعرضون
للمخاطر الأمنية التي يتعرض لها الناشطون داخل البلد، آخذين بنظر
الاعتبار تجنب مطب انتقائية الضحايا والشهداء الذي يعمل وفقه النظام
الحالي، بل متابعة قضايا جميع أنواع الضحايا، مهما كانت خلفيتهم
القومية أو الدينية، سواء كانوا ضحايا الدولة أو الجماعات الإرهابية أو
الميليشيات بأنواعها. وأن يكون الهدف الأساسي هو تحقيق العدالة للجميع
والعمل على عدم تكرار الجرائم مستقبلا.
كاتبة من العراق
كيف أصبح العراق
جزءا من طريق البلقان؟
هيفاء زنكنة
بشكل شبه يومي تعلن الجهات الأمنية بالعراق عن القاء القبض على مهربي
ومتعاطي المخدرات، خاصة، في بغداد والبصرة جنوبا وديالى على الحدود
العراقية الايرانية. ففي يوم 20 حزيران/ يونيو ألقت قيادة عمليات بغداد
القبض على ستة متهمين بتعاطي المواد المخدرة وضبطت بحوزتهم مادة
الكرستال. وهو الاسم الشائع للميثامفيتامين، المنشط القوي والمسبب
للإدمان بسرعة. وفي يوم 19 حزيران تمكنت مفارز وكالة الاستخبارات
والتحقيقات الاتحادية في وزارة الداخلية من إلقاء القبض على مهربين
للمخدرات بحوزتهما 10 كيلوغرامات من مادة الحشيشة في البصرة. كما أعلنت
وكالة الاستخبارات التابعة لوزارة الداخلية، القبض على تاجر وناقل
للمواد المخدرة من إحدى دول الجوار في البصرة. نستخلص من إعلانات
القوات الأمنية أن هناك مشكلة متفاقمة يقومون برصدها ومحاولة القضاء
عليها، وأن المهربين والمتعاطين تتم معاملتهم بشكل متساو وأن لدول
الجوار دورا في انتشار هذه الآفة التي يتم التعامل معها كمشكلة «
أمنية».
تثير كيفية التعامل العديد من التساؤلات التي لم يتم الالتفات اليها
على الرغم من كثرة التقارير والتغطية الصحافية المحلية والدولية،
تساؤلات عن الجهات المستفيدة من زرع وانتشار هذه الآفة بالاضافة الى
أسباب سرعة انتشارها في بلد كان نظيفا تماما حتى غزوه عام 2003. وإذا
كان العراق معبرا لتمرير المخدرات، في السنوات الأولى من الاحتلال،
جراء غياب القانون وتفكيك الدولة، فكيف تطور ليصبح، بالاضافة الى ذلك،
الى مستهلك ومصّنع للمخدرات الكيمياوية؟
تشير البيانات في التقرير العلمي « تعاطي المخدرات والكحول في العراق:
نتائج مجموعة العمل لدراسة المجتمع العراقي» الصادر 2014، إلى أن
المواد الأكثر استخدامًا هي الكحول والحشيش والعقاقير الموصوفة. وتشمل
المخدرات الجديدة من نوع الأمفيتامين «كبتاغون» والكريستال
ميثامفيتامين، ومسكن الآلام ترامادول مع زيادة استخدام الأفيون
الأفغاني والترياك (شكل خام من الأفيون) والهيروين. مما يدل على زيادة
حجم الكارثة بمرور الوقت على الرغم من اعلانات القوات ألامنية عن
عملياتها الناجحة. فأين مكمن الخلل اذن؟
هناك أسباب عديدة لانتشار استهلاك وتجارة المخدرات من بينها أن مناطق
النزاع والحروب مفتوحة أكثر من غيرها لتجارة توازي في مردودها
الاقتصادي صناعة السلاح. واستشراء الفساد بين المسؤولين هو عمودها
الفقري. الملاحظ اهمال هذا الجانب عند التطرق الى الفساد المنهجي
المؤسساتي بالعراق، حيث يتم التركيز على الفساد الاقتصادي الشاسع في
مجال النفط، واذا ما أشير الى المخدرات فمن باب كونها مشكلة « مستوردة»
بدون ذكر المسؤولين عن استيرادها وكيفية محافظتهم على ديمومتها كأداة
للسيطرة على الشعب والتحكم بمستقبل البلد. وقلما ينظر اليها من زاوية
دور الاقتصاد غير المشروع في تأجيج الصراعات الطائفية والقومية
وتعزيزها، داخل البلد، كما يُهمل النظر الى تجارب شعوب أخرى أثبتت
الاقتصادات غير المشروعة فيها والجماعات التي تمكّنها أنها متماسكة
للغاية، وقادرة على التكيف، وعرضة لتوسيع نشاطاتها.
استمرار الصراع بين الأحزاب المتنازعة على السلطة وسياسة قمع الأصوات
المعارضة، كما نرى في العراق، يعني استمرار الربح من المخدرات وتوفير
الحجج لعسكرة قوات الشرطة المحلية
صحيح أن ارتفاع معدلات البطالة وحالة اليأس وانخفاض الفرص، والنزوح
وعدم الاستقرار، وما عاشه البلد من حروب واحتلال واستمرار النزاع
المسلح والارهاب، يجعل السكان، الشباب والفئات المهمشة خاصة، أكثر
تقبلا لتعاطي المخدرات وكذلك لتهريبها والاتجار بها وتصنيعها من أجل
كسب المال، إلا أن الترويج الحقيقي وتجذير المشكلة، غالبا ما يتم إما
بمساهمة المسؤولين الحكوميين الفعلية أو التغاضي عنها لأسباب يرون فيها
تقوية لنفوذهم.
في دراسته المعنونة «في صنع الحرب: مناطق الصراع وانعكاساتها على سياسة
المخدرات،» يتناول الباحث تيوزداي ريتانو ما يسميه « نموذج الحكم
العنيف» خلال فترة النزاع والصراع المسلح « اذ يتم تحقيق النفوذ
السياسي من خلال الوصول إلى الموارد ذات القيمة أو يمكن تحقيق الدخل
منها؛ حيث تشتري الموارد دعم المجتمعات المحلية من خلال توفير سبل
العيش والوصول إلى النفوذ السياسي الحالي (من خلال الفساد) ؛ وحيث
تشتري الموارد أيضا امكانية الحصول على الأسلحة والجنود المشاة
(الميليشيات أو الجيوش أو الأمن المدفوع أو «الجيوش»)، والتي يمكن
استخدامها بدورها للضغط على المعارضة أو مهاجمتها، وتقويض احتكار
العنف، وتأمين السيطرة على الأراضي والأصول، أو ابتزاز الدعم من السكان
المحليين».
ولا تقتصر الاستفادة من تجارة المخدرات على الجهات الحكومية بل تتعداها
الى الميليشيات بأنواعها المتكاثرة والمنظمات الإرهابية، ويُقدر المركز
النرويجي للتحليل العالمي أن عائدات الاتجار بالمخدرات تمثل 28 في
المائة من دخلها في مناطق الصراع. معظم هذه الإيرادات لا تأتي من إنتاج
أو توزيع المخدرات، أو من وسائل مباشرة أخرى للمشاركة في تجارة
المخدرات، ولكن من فرض الضرائب على المخدرات التي تمر عبر الأراضي التي
تسيطر عليها الجماعات. هنا تبرز أهمية العراق كمعبر أضيف الى ما يسمى
بطريق البلقان المشهورمع وجود حدود طويلة ومفتوحة مع إيران بالاضافة
الى تركيا وسوريا من جهة ودول الخليج من جهة ثانية. وحسب مكتب الأمم
المتحدة للمخدرات والجريمة يتم تهريب الهيروين ومصدره أفغانستان الى
إيران إما مباشرة أو عبر باكستان ومن ثم الى العراق، عبر البصرة
وأربيل، ومنه الى تركيا والأردن.
يساعد انضمام العراق الى طريق البلقان إيران، بشكل خاص، لكسر طوق
الحصار الاقتصادي المفروض عليها أمريكيا، كما يوفر مردودا ماليا كبيرا
للميليشيات والقوات الأمنية التي تدير المعابر الحدودية، آخذين بنظر
الاعتبار ان مردود تجارة المخدرات تزيد على المليار دولار سنويا، وان
أفراد الميليشيات، أنفسهم، وخمسين بالمائة من القوات الأمنية ( صحيفة
نيويورك تايمز – 25 أكتوبر 2010) يدمنون شرب الكحول والمخدرات كالترياك
والكريستال وحبوب الكبتاغون، لأنها تمنحهم الشجاعة والاندفاع وتجاوز
الكوابح الأخلاقية. ولعل هذا يفسر نوعية الجرائم الوحشية المرتكبة بلا
مبرر احيانا. وكانت الحكومة النازية قد وفرت لجنودها حبوبا تماثل
الكريستال، وفقًا لنورمان أوهلر، مؤلف « المخدرات في المانيا النازية»
التي ساعدت « الجندي أن يصبح روبوتًا مقاتلًا «. ومعروف ان استخدام
المخدرات منتشر بين القوات الأمريكية في كل حروبها، خصوصا منذ حرب
الفيتنام، كما يستخدمها المرتزقة او المتعاقدون الأمنيون كما حدث في
العراق وأفغانستان.
إن الصراع الممول من المخدرات ليس جديدا فالمخدرات سلع ذات قيمة عالية
ومربحة للغاية وقابلة للنقل بطرق سهلة نسبيا في بلد حدوده مفتوحة أو
مدارة من قبل جهات مستفيدة من التجارة. واستمرار الصراع بين الأحزاب
المتنازعة على السلطة وسياسة قمع الأصوات المعارضة، كما نرى في العراق،
يعني استمرار الربح من المخدرات وتوفير الحجج لعسكرة قوات الشرطة
المحلية. ولن تتمكن الحكومة الحالية، مهما نشرت من بيانات حول إلقاء
القبض على المدمنين والتجار، من وضع حد للمشكلة لأنها سبب المشكلة.
كاتبة من العراق
يوم صارت أصوات
الضحايا العراقيين حجارة
هيفاء زنكنة
خلال أسبوع واحد، أصدرت أربع منظمات دولية تقارير وبيانات عن استمرار
النظام العراقي بقمع واستهداف المتظاهرين. واجه النظام التقارير
الموثقة بطريقتين، الأولى هي الصمت والتجاهل والثانية اطلاق رئيس
الوزراء مصطفى الكاظمي وعودا جديدة الى أن زار مدينة الناصرية، جنوب
العراق، يوم السبت الماضي.
لابد أن الكاظمي توقع أن يستقبل بالهوسات الشعبية، وربما اطلاق النار
في الهواء، ترحيبا بزيارته الناصرية، جنوب العراق، خاصة وأن غرض
الزيارة هو تدشين جسر. وهو حدث نادر، إذا ما تحقق فعلا، في زمن
المشاريع «الفضائية» أي الافتراضية، والفساد المستدام. الا أن المحتجين
من سكان المنطقة الذين عانوا الأمرين من عدم الاستماع لمطالبهم فيما
يخص الخدمات الأساسية، والارهاب الحكومي المتمثل بالتهديد والاختطاف
والقتل، حاصروا الكاظمي مطالبين بالكشف عن قتلة النشطاء السياسيين
والمحتجين في الحراك الشعبي الموحد، الذي تجدد يوم 25 أيار/ مايو،
تضامنا مع بغداد وبقية المدن، تحت شعار « من قتلني؟». هاتفين بأصوات
565 متظاهر قتل منذ انطلاق انتفاضة تشرين/ أكتوبر 2019، بالاضافة الى
عشرات النشطاء الذين أغتيلوا « على يد مجهولين».
هرب الكاظمي، محاطا بحراسه الأمنيين، بعد أن بدأ عدد من المحتجين رشق
موكبه بالحجارة وليس الرصاص الحي الذي تستخدمه «القوات الامنية» ضد
المحتجين، بأمرة القائد العام للقوات المسلحة، أي الكاظمي، الذي كان
على رأس قائمة وعوده، عند تسلمه السلطة، تشكيل لجنة للتحقيق بمحاكمة
المتورطين في قتل المتظاهرين والناشطين. كالمعتاد، دُفنت اللجنة تحت
ركام المآسي اليومية التي يعيشها المواطن. ولم يتم تقديم أي متهم
للقضاء حتى الآن. واضيف قتل المتظاهرين الى سلسلة الجرائم والانتهاكات
التي تعاود المنظمات الحقوقية العراقية والدولية التذكير بتاريخ حدوثها
والمطالبة بمعرفة نتائج التحقيق فيها.
فمنذ أيام أصدرت منظمة العفو الدولية تقريرا بمناسبة مرور خمس سنوات
على ما حدث في الصقلاوية. استهلت المنظمة التقرير بصورة لصبي، في وثيقة
نجد فيها المعلومات التالية « محل وتاريخ ولادة حامل الشهادة :
الصقلاوية ـ الفلوجة. الدين : مسلم «. وعند مواصلة القراءة سنجد ان هذا
الصبي هو واحد من 1300 رجل وصبي، اقتادتهم ميليشيا» الحشد الشعبي»
المسلحة، وهي جزء من القوات المسلحة العراقية، تعمل بأمرة الكاظمي،
قانونيا، صباح الثالث من يونيو/حزيران 2016 بعيدا عن عوائلهم في منطقة
الصقلاوية في محافظة الأنبار. وعند غروب الشمس، صعد ما لا يقل عن 643
رجلاً وصبياً إلى حافلات وشاحنة كبيرة.
أثار الاختطاف ضجة كبيرة أجبرت رئيس الوزراء آنذاك، حيدر العبادي، على
تشكيل لجنة للتحقيق في حالات الاختفاء والانتهاكات المرتكبة في سياق
العمليات العسكرية لاستعادة السيطرة على الفلوجة. كان ذلك في 5
يونيو/حزيران 2016، ولم يتم الإعلان عن النتائج التي توصلت إليها
اللجنة. ولم ترد السلطات العراقية على طلب منظمة العفو الدولية للحصول
على معلومات في ذاك الوقت. ولم يسمع ذوو الـ 643 رجلا وصبيا أي خبر
عنهم على الرغم من مرور خمس سنوات على اختطافهم وتشكيل اللجنة
التحقيقية بأمر رئيس الوزراء.
إذا كان عام 2020 قد تميز بقتل واختطاف المتظاهرين، فان بقية
الانتهاكات الصارخة لم تنته بل تجذرت أعمق فأعمق في ممارسات النظام،
ومن بينها تفشي استخدام التعذيب
وتلاقي منظمة « هيومن رايتس ووتش» الدولية، التي توثق حالات الاختفاء
القسري في جميع أنحاء العراق منذ عقود، جدار الصمت ذاته الذي تصطدم به
منظمة العفو الدولية عند تعاطيها مع النظام فيما يخص حقوق الإنسان. ففي
عام 2018، اصدرت تقريرا موثقاعن 78 رجلا وصبيا تم إخفاؤهم قسرا بين
أبريل/نيسان 2014 وأكتوبر/تشرين الأول 2017. وفي يونيو/حزيران 2018،
أرسلت المنظمة استفسارا يتضمن قائمة بأسماء عشرات الأشخاص المخفيين،
بالإضافة إلى التواريخ والمواقع التقريبية التي شوهدوا فيها آخر مرة،
إلى حيدر العكيلي، مستشار حقوق الإنسان في المجلس الاستشاري لرئيس
الوزراء، لكنها لم تتلق قط أي رد رسمي.
وفي تقريرها الأخير المعنون « العراق احداث 2020» أشارت المنظمة الى
ظاهرة اطلاق الوعود الصوتية من قبل مسؤولي النظام خاصة رئيس الوزراء،
مستهلة التقرير بالقول «رغم تكرار الوعود بمعالجة بعض التحديات
الحقوقية في العراق، لم تتمكن حكومة مصطفى الكاظمي، التي استلمت الحكم
في مايو/أيار 2020، من إنهاء الانتهاكات بحق المتظاهرين، حيث تستمر
الجماعات المسلحة بالإفلات من العقاب لممارسة الاعتقال التعسفي
والإخفاء القسري والقتل خارج نطاق القانون بحق منظمي المظاهرات ومنتقدي
النخبة السياسية في العلن». وإذا كان عام 2020 قد تميز بقتل واختطاف
المتظاهرين، فان بقية الانتهاكات الصارخة لم تنته بل تجذرت أعمق فأعمق
في ممارسات النظام، ومن بينها تفشي استخدام التعذيب والاعترافات
القسرية في نظام العدالة الجنائية. ويواصل النظام تنفيذ الإعدامات
القضائية رغم الانتهاكات الجسيمة للإجراءات القانونية الواجبة. اذ ينفذ
العراق أحد أعلى معدلات الإعدام في العالم، إلى جانب الصين وإيران
والسعودية. في أغسطس/آب 2019 أصدرت وزارة العدل بيانات أظهرت أن 8.022
محتجزا ينتظرون تنفيذ حكم الإعدام.
وغالبا ما لايعرف أهل المعتقلين الجهات المسؤولة عن الاعتقال التعسفي
على الرغم من مطالبة المنظمات المحلية والدولية بالكشف عن الهياكل
الأمنية والعسكرية التي لديها تفويض قانوني لاحتجاز الأشخاص، وفي أي
منشآت.
وبينما طالبت بعثة الأمم المتحد |