الرئيسية || من نحن ||| اتصل بنا

 

*هيفاء زنكنة كاتبة وصحفية وناشطة عراقية تقيم في بريطانيا تكتب اسبوعيا في جريدة (القدس العربي(

 

 

مقالات سابقة

إزار أم محمد ومعنى

تمكين المرأة العراقية

هيفاء زنكنة

 

اذا كان المفترض من انتشار وباء فيروس كورونا هو اقامة الجدران الكونكريتية حول الأفراد والمجتمعات، بين الدول، في أرجاء العالم، بذريعة «التباعد الاجتماعي» فان الإنسان الذي طالما عُّرِف بأنه حيوان اجتماعي، نجح بحفر ثقوب في الجدران، ليتواصل مع أبناء جنسه، تأكيدا لهويته الاجتماعية. فصار بامكانه، وهو جالس في بيته، زيارة أبعد الأماكن في أقصى الكرة الأرضية ويلتقي بأشخاص ما كان يحلم بلقائهم، سابقا، جراء البعد الجغرافي أو التكلفة المادية أو الحظر السياسي. صار الـ«زوم» وآليات التواصل الاجتماعي الإلكترونية الاخرى نافذة مفتوحة للجميع، يطلون منها على عوالم، كانت في غرف مغلقة تسمى الدول، لا تُفتح ابوابها الا للنخبة ممن يتحكمون بنقاط التفتيش والحدود والرقابة.
عبر الزوم، كثرت اللقاءات والاجتماعات، بأنواعها. من الفردية الى العامة. فاتسع الفضاء العام، إيجابيا، للناشطين لتبادل الآراء وتشجيع المبادرات. لم يعد اطلاق كتاب من تأليف أسيرة فلسطينية محررة مقتصرا على دار النشر في مدينتها المحاصرة من قبل الصهيوني الاستيطاني، أو متابعة مبادرة إنسانية أو فنية محصورا في بقعة جغرافية لا يسمع بها أحد.
هذه الإمكانية الهائلة بالانفتاح وعبور حدود البلدان، وتجاوز قيود السفر ومخاوف نقل العدوى، نقلت مجموعة من المهتمين بالفنون اليدوية التقليدية، المنتمين الى بلدان مختلفة، الى مدينة البصرة، جنوب العراق. حيث أقامت كلية الفنون الجميلة، بجامعة البصرة أمسية للتعريف بـ (إزار أم محمد) أدارها الاستاذ ياسين يامي. والإزار أو «الشف» هو نوع من السجاد المنسوج، يدويا، ليستخدم اما للفرش على الارض أو الأسرة أو الارائك. وأم محمد (التفات خريجان) هي مديرة مشغل لإنتاج السجاد والبسط والأُزر في مدينة السماوة، جنوب العراق. تحدث في الامسية الفنان رشاد سليم وهو من اوائل مشجعي المشغل ومنتجاته.
يمثل المنتج الرائع للمشغل، بألوانه الزاهية المميزة للمنطقة، إحياء لموروث حرفي أصيل برسوم عفوية تماثل رسوم الاطفال وتصنيع يدوي بالغ الدقة. لا تتدخل فيه الآلة اطلاقا من لحظة تجميع صوف الغنم وغزله، الى تلوينه ونسجه.

مبادرات الأفراد في المؤسسات الحكومية، ومبادرات أصحاب الأعمال او العقارات، كما مبادرات الجامعات والمدارس، قد تكون أفضل ما يستطيعه البلد في ظروف خراب الدولة وسياسييها

ويستغرق العمل في السجادة الواحدة أكثر من ثلاثة أو أربعة أشهر. يعاني المشغل، على الرغم من حرارة الاعجاب بالتجربة والمنتوج، عدة مشاكل. أهمها قلة الرعاية والاهتمام، وضعف التسويق وتراكم الانتاج. مما يؤثر بشكل سلبي على حياة النسّاجات ومستوى العيش الكريم، اذ ان أغلبهن من الأرامل والمطلقات والمعوزات اللواتي يعتمدن، بشكل أساسي، على ما يدره عملهن، الذي لا يختلف اثنان في قيمته الجمالية والتراثية وصعوبة انجازه. فاذا كان المنتج، بهذه الأهمية، كما تحدث عنه منظمو الأمسية والمشاركون فيها باعجاب وحماس، فلم لا يتم تبني المشروع حكوميا، وتوفير الدعم له من ناحيتي الترويج والتسويق؟ خاصة وأنه مشغل تديره وتعمل فيه مجموعة من النساء، كما تتلقى فيه نساء أخريات التدريب العملي، لما قد يكون سلسلة من ورشات تدريب وتوفير فرص العمل للنساء في مدن أخرى؟ وهي نقطة مهمة جدا. اذ أن معدل البطالة مرتفع في العراق، ومازال معدل المشاركة في قوة العمل متدنيا، لاسيما بين النساء والشباب. فحسب تقرير للبنك الدولي لا يشارك في قوة العمل سوى 15 بالمئة، فقط، من النساء، في سن العمل. وهذه النسبة أقل من النسبة المتدنية، بالفعل، على مستوى منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا البالغة 22 بالمئة. وبالنسبة للشباب في الشريحة العمرية 15 – 29 سنة، نجد أن 72 بالمئة من النساء و18 بالمئة من الرجال إما خارج المدرسة أو لا يعملون. ويلخص البنك الدولي وضع المواطن المعيشي في البلد بأنه «تراجع التنمية البشرية ومؤشرات الخدمات العامة، ومعايير الرعاية الصحية، ومتوسط العمر، وجهود محو الأمية، وزيادة مؤشرات الفقر».
ولأن للمرأة النصيب الأكبر في التدهور التعليمي والصحي العام ووقوعها في براثن الفقر المدقع، وحاجتها الماسة الى العمل، أيا كان، في العراق اليوم، قد يتبادر الى الأذهان أن الجهات الرسمية والأحزاب ومنظمات المجتمع المدني الممولة دوليا، ستسارع الى تبني ودعم اي فرصة توفر للنساء التدريب والعمل، خاصة وأنها تصرف مبالغ خيالية على ادارة لقاءات وندوات في فنادق فخمة لمناقشة «تمكين المرأة».
ويكاد لا يخلو أي تقرير عن المرأة في الريف، التي تشكل حوالي ثلث نساء العراق، عن التوصية «بدعم المرأة الريفية من خلال منح القروض الصغيرة وتسويق الانتاج ودعم المنتجات الريفية والاعمال اليدوية». فما هو معنى «تمكين المرأة» إن لم يبدأ في مكان تجد فيه المرأة عملا تحقق فيه ذاتها، وتعبر فيه عن مشاعرها؟ هل هناك ما هو أكثر تمكينا للمرأة من عمل يهبها الافتخار بجمالية المنجز بالاضافة الى تحسين وضعها المادي؟ أليس من المفترض، في هذه الحالة، أن تحظى ورشة « إزار أم محمد « المعنية بتدريب نساء ريفيات على انجاز منتج فني تراثي، يدرأ الفقر، بالاضافة الى تعليمهن القراءة والكتابة، ويجدن فيه متنفسا للقاء والتواصل والتطور، بأولوية الدعم والتشجيع، وأن تكون الورشة نموذجا عمليا، نابعا من صميم المجتمع، يحتذى به في أرجاء البلد؟ أم ان هذا هو، بالضبط، ما لا يراد تحقيقه؟
أثناء أمسية الزوم تبرع علي الكناني، رئيس كلية الفنون الجميلة بالبصرة، بتوفير مكان لعرض منتجات الورشة في مجمع تجاري وتكريم أم محمد في الجامعة. وهي مبادرة مشجعة ستمد فنانات الورشة بالدعم المعنوي. وتبقى مشكلة الترويج والتسويق ازاء انتشار السجاد المستورد الأرخص سعرا لأنه مصنوع آليا. معالجة هذه المشكلة تحتاج حملة وطنية لدعم المنتوج الوطني وقبل ذلك رعايته وتدريب الجيل الجديد حرصا على استمراريته والتأكد من نوعيته. والى أن يتم ذلك، بامكان المسؤولين الافراد في الجهات الحكومية بما لديهم من مجال للقرار، في عديد الدوائر المحلية وفروع الوزارات والمديريات، اتخاذ خطوات بسيطة لن تكلفهم الكثير لكنها ستساهم بانقاذ ورشة الإزار واستمراريتها. تتلخص هذه الخطوة بشراء منتجات الورشة التي لا تضاهى بجمالها ودقة نسجها، وعفوية رسومها، وتوزيعها كهدايا لضيوف المؤتمرات الأجانب ( وما أكثر المؤتمرات الخاصة بالمرأة) بالاضافة الى توفير فرص عرضها في الاماكن السياحية والمطارات، او في تأثيث غرف ضيافتها كما نرى في بلدان المغرب العربي.
والموضوع الأوسع هنا أن مبادرات الأفراد في المؤسسات الحكومية، ومبادرات اصحاب الأعمال او العقارات، كما مبادرات الجامعات والمدارس، قد تكون أفضل ما يستطيعه البلد في ظروف خراب الدولة وسياسييها. فطاقات العراق في جميع ابنائه وبناته. وقد تكون المبادرات المحلية في كل مجال، من الاقتصاد الى الثقافة والخدمات، إذا انتشرت، من أهم مسارات تعافينا.

كاتبة من العراق

 

 

أي عراق يريده المتظاهرون؟

 

هيفاء زنكنة

 

في ظل جريمة الاحتلال الصهيوني الاستيطاني ضد الشعب الفلسطيني، يواصل عدد من الأنظمة العربية، من بينها سوريا والعراق، ارتكاب الجرائم ضد شعوبها بشكل مستديم، لكنه أقل ضجيجا، وأكثر استفادة من ورشات تغليف الممارسات الإجرامية بالديمقراطية. وبينما تنشغل الشعوب العربية بالنزول الى الشوارع تضامنا مع الشعب الفلسطيني، والهتاف بصوت عال أن حكومات التطبيع مع الكيان الصهيوني لا تمثلها، تلتقط الأنظمة القمعية كل من ترى فيه نبلا إنسانيا لتغتاله. ولعل واحدة من أقسى الصور الدالة على لا إنسانية نظام ما، هي تلك التي صاحبت آخر المظاهرات والاحتجاجات العراقية، يوم 25 مايو، ومطلبها الرئيسي هو الكشف عن قتلة المتظاهرين. يومها رفع المتظاهرون السلميون صورة متظاهر شاب يحمل صورة متظاهر قُتل في تظاهرة سابقة. يومها، قُتل ثلاثة متظاهرين وجرح المئات، حين أطلقت القوات الحكومية الرصاص على المتظاهرين العُزل، لتضاف الى قائمة الضحايا أسماء جديدة، في بلد بات فيه القتل سلاحا حكوميا – ميليشياويا مشروعا.
في العراق، بوجود النظام الحالي، لم يعد لهوة الحضيض الأخلاقي والإنساني قاع. حيث تتفكك أكذوبة الديمقراطية وانتخاباتها، يوميا، مع تزايد ضحايا المظاهرات والاعتصامات في أرجاء البلد، ومع استشراء الفساد المُهدد لبنية المجتمع وسيولة الولاء. وصل الانحدار حدا تلاشت فيه « العصمة» الانتقائية التي يقدمها ساسة النظام لمتظاهري هذه المدينة لأنها «مقدسة» أو شرعنة للقتل في تلك المدينة لأنها «إرهابية». إذ نجح النظام الفاسد في تحقيق المساواة للمواطنين، جميعا، بلا استثناء، في حق السقوط ضحية للاغتيال. ليس هناك ما يحمي المتظاهر المطالب بالكشف عن قتلة المتظاهرين في بلد بلا حكومة وبلا قانون. واستديوهات أجهزة الإعلام مفتوحة على سعتها لاستقبال ساسة يعرف الكل مدى انخراطهم بالفساد وجرائم الاغتيال، ان لم يكن بشكل مباشر فصمتا وتسترا. والمفارقة التي يدفع ضحايا الاحتجاجات ثمنها، غاليا، أن ينجو القتلة بجرائمهم، أمام الملأ، لأنهم يتمتعون بحماية أقوى بكثيرممن يقدمون أنفسهم كرؤساء للحكومة وحماة للقانون.
كما حدث في اليوم التالي لمظاهرات 25 مايو الحالي، حين أصدر رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي أمرا بالقاء القبض على المدعو قاسم مصلح، بتهمة اغتيال الناشط إيهاب الوزني، رئيس تنسيقية الحراك الشعبي، قرب منزله في محافظة كربلاء جنوبي العراق. كان القتيل معروفا بموقفه من الميليشيات المدعومة إيرانيا. أعتقل قاسم مصلح، القيادي في ميليشيا الحشد الشعبي، وهو قائد سابق للواء «علي الأكبر» التابع لحشد العتبات الذي تديره المرجعية الشيعية مباشرة، بعد أن أقامت عائلة الوزني، الدعوى ضده ويبدو أن القتيل كان قد أودع لدى عائلته قائمة بأسماء الأشخاص الذين هددوه سابقاً. تأكيدا للأمر، أصدر الكاظمي بيانا جاء فيه أن إلقاء القبض تم بأمر القائد العام للقوات المسلحة مذكرة قبض قضائية وفق المادة 4 إرهاب وبناء على شكاوى بحقه. إلا أن بقاء المتهم رهن التحقيق لم يدم غير ساعات إذ « قامت سلطات عراقية بإطلاق سراحه» ونقله سالما آمنا الى منزل رئيس هيئة الحشد الشعبي. مما أوضح من هو مالك السلطة الحقيقية في البلد.

الهوية الوطنية وتآخي قوميات وأديان العراق وعمق ثقافته وتاريخه، أقوى من أن تمحى. إنه جيل إستعادة العيش سوية، كمواطنين متساوين، بغض النظر عن الجنس والعرق والدين

هذه «السلطات العراقية» عاملت المطالبين بمساءلة قتلة المتظاهرين بطريقة مختلفة تماما. حيث لم تتوان عن إطلاق الرصاص الحي عليهم، والاعتداء عليهم، وترى انتهاكاتها ضرورية في سيرورة بدأت منذ انتفاضة تشرين / اكتوبر 2019 وحتى اليوم، ليزداد عدد الضحايا، بشكل طردي، مع تهرؤ قناع الاصلاحات الموعودة، ومع استبدال وجه رئيس وزراء بآخر، في حكومات احتلال متعاقبة موسومة بأنها» منتخبة». وكان أحد اعضاء المفوضية العليا لحقوق الإنسان قد تحدث عن وجود 89 محاولة اغتيال لنشطاء وإعلاميين بالإضافة الى التهديدات. ويأتي توقيت ارتكاب هذه الجرائم مع تكسر الاسطوانة المشروخة عن «محاربة الإرهاب» و «خطر داعش» و«القاعدة» و«أزلام النظام السابق». لتحل محلها، بشكل تدريجي، بين عامة الناس، توصيفات « الفساد» و«الطائفية» و« الميليشيات» و«العمليات الخاصة» و« الفصائل الولائية».
ليس هذا ما يريده المواطنون. لم يكن مطلبهم، لا في الماضي ولا الحاضر، تبديل الإرهاب بإرهاب آخر أو المسميات والتصنيفات بأخرى. ما يريده المواطن هو أساسيات بناء الحياة الكريمة من صحة وتعليم، وحقوق توفر له ولأبنائه مستقبلا آمنا في ظل قوانين تطبق على الجميع بلا استثناء. فكيف يحقق ذلك وهو يكاد يختنق في وضع تتحكم به عصابات تتنازع فيما بينها على المكاسب وتتوحد في احتقارها واستهانتها للشعب. هناك مشاريع وبرامج ومبادرات تحت شعارات مشجعة يتم تقديمها، بين الحين والآخر، من مجموعات وحركات ومنظمات، كحل للوضع الكارثي في البلد. هناك قوائم من احزاب جديدة أو قديمة بمسميات جديدة. المظاهرات والاحتجاجات والاعتصامات مستمرة في ساحات المدن المختلفة. يحاول كل منها طرح مشروعه ومطالبه وفق منظوره. في ذات الوقت الذي لم يبرز فيه مشروع وطني موحد يهدف الى تحرير أرض الوطن من الاحتلال، بأنواعه، والكفاح ضد أشكال الاستغلال وسلبه كرامته وحقه في الحرية. علينا أن نواجه حقيقة أن عملية استبدال رؤساء الوزراء كما في استبدال عادل عبد المهدي برئيس المخابرات الكاظمي لم يكن نصرا للمعتصمين، بل مناورة حلول نجح ساسة النظام في تمريرها لتمديد حياة النظام.
هذا لا يعني أن انتفاضة تشرين لم تحقق شيئا. فقائمة انجازاتها الإيجابية طويلة ولعل أهمها أنها منحتنا لمحة ( بالمعنى التاريخي للمحة) لما يجب أن يكون عليه العراق، بجيل جديد طليعته شباب مثقف يُدرك خطورة الطائفيين، يسعى لأن يرى العراق متشافيا متعافيا من الفساد والولاءات الخارجية وسياسات التجهيل، وبقية الأمراض التي زرعها المحتل في تربة أجهدتها سنوات الاستبداد والحصار. جيل ينهض لأنه يحمل روح نضال التحرير من الاستعمار وقادر، في الوقت نفسه، على غربلة خطايا وأخطاء الفترة اللاحقة. ليثبت أن الهوية الوطنية وتآخي قوميات وأديان العراق وعمق ثقافته وتاريخه، أقوى من أن تمحى حتى لو تعاون المحتل والمستبد المحلي سوية. إنه جيل إستعادة العيش سوية، كمواطنين متساوين، بغض النظر عن الجنس والعرق والدين.

كاتبة من العراق

 

 

استحضار الوضع العراقي

حين نقرأ النصر الفلسطيني

هيفاء زنكنة

 

لقد حققت فلسطين القلب والروح، خلال 11 يوما، انجازا هائلا، كلل مواصلة النضال، بتكلفة نعرف جيدا أنها باهظة.
أراد العدو، خلالها، أن تكون حياة الأطفال والكبار حجرا يُثقل الاحساس بالكرامة والحرية، فيجّر الشعب الذي قارع الاحتلال والظلم والاستهانة على مدى 73 عاما، الى قاع الاحباط واليأس والاستسلام، ففشل. استخدم العدو، بالإضافة إلى القوة العسكرية، كل آليات الخداع والتزييف. من تصنيف الفلسطيني إرهابيا الى اختزال الاحتلال وارهابه الى « نزاع» بين إسرائيل الأوروبية الديمقراطية وحماس الإرهابية، الى التذكير المستمر بمعاداة السامية ومظلومية المحرقة. وكأن الفلسطيني هو الذي قاد الأوروبي اليهودي الى المحرقة، وليس الاوروبي النازي، فتوّجب لتحقيق العدالة، وفق منظور الكيان الصهيوني، تجميع الحطب لحرق الفلسطيني.
أثبتت مجزرة 11 يوما الأخيرة هشاشة هذه المحاججة، وليس محوها تماما. فهي معين ضروري لاستمرارية الوجود الصهيوني. دٌفن بعضها تحت ركام المباني التي هدمها القصف المنهجي ومعه ملامح الهالة الإعلامية التي نسجها الصهاينة عن «حق الدفاع عن النفس» وانتقائية حق الحياة لكيان بُني على أغتصاب أرض وتهجير شعب وسياسة الإبادة. أوقفت ايام القتل الوحشي الكيان الصهيوني عاريا أمام العالم : قوة استعمارية عنصرية، بدعم من امبريالية تتغذى على الاستغلال والحكام المستبدين.
إزاء ذلك العري، تعالت الأصوات المطالبة بالعدالة. بمختلف الأساليب والإمكانيات. من النزول الى الشارع الى الهاشتاغ وكل مواقع التواصل الاجتماعي. من الكتابة واجراء المقابلات والندوات مع المحاصرين في غزة وشيخ جراح عبر الزوم الى الغناء وأناشيد الاطفال الى الابتسامة والضحكة بوجه من يريد قتل الابتسامة والضحكة. لم تعد المقاومة المسلحة ومن جهة واحدة هي السلاح الوحيد. اتفق الجميع في فلسطين اولا وفي أرجاء العالم ثانيا، على دفع الخلافات جانبا، وأن يعيدوا لجوهر النضال ألقه: لكي تصبح فلسطين حرة، كما تهتف الأصوات وتُرفع الشعارات، فلسطين بحاجة الى كل مستويات المقاومة.
لقد حققت فلسطين القلب والروح انجازا هائلا تبدى بخروج مئات الآلاف من الناشطين والمؤيدين، من جميع أرجاء العالم الى الشوارع تضامنا مع الحق الفلسطيني بالتحرير. جمعهم تكبير «فلسطين حرة». من البلاد العربية الى اوروبا وأمريكا اللاتينية الى أمريكا. مع كل صوت وكل فعل تضامني مع نضال الشعب داخل فلسطين، يترهل خطاب «معاداة السامية» و«الإسلاموفوبيا» الذي يصب العرب والمسلمين عموماً في قالب الإرهاب والهمجية. وتتعرى السردية الصهيونية. هذا ما عشناه، في الاسبوعين الأخيرين، فكيف البناء على هذه الأرضية الخصبة من التضامن مع الصامدين؟ كيف نسقي النبتة لتنمو وتتبرعم وتزدهر ؟ كيف نجنبها الجفاف؟
يأتي التساؤل مشوبا بالمخاوف والحرص على ما أُنجز واستعادة تفاصيل، تحمل بعض الشبه من الماضي القريب. تفاصيل ايام الاحتجاجات المليونية المناهضة لغزو العراق، والتضامن العالمي المذهل الذي سبق الاحتلال في آذار/ مارس 2003.

مع كل صوت وكل فعل تضامني مع نضال الشعب داخل فلسطين، يترهل خطاب «معاداة السامية» و«الإسلاموفوبيا» الذي يصب العرب والمسلمين عموماً في قالب الإرهاب والهمجية، وتتعرى السردية الصهيونية

أيامها، خرج الى الشوارع 35 مليون مواطن عربي وعالمي احتجاجا وغضبا ضد مخطط الإدارة الأمريكية لغزو العراق وتضامنا مع الشعب العراقي. احتل المتظاهرون الشوارع بعدة مدن عربية من بينها ليبيا ومصر ولبنان والأردن وسوريا وتونس والمغرب. ووقعت اشتباكات بين المتظاهرين و«قوات مكافحة الشغب» في القاهرة والأردن. هدفت المظاهرات الى محاصرة السفارتين الأمريكية والبريطانية، وقام المتظاهرون بحرق العلم الأمريكي. كما طالبوا، في عدد من الدول، من بينها مصر، بطرد سفراء الولايات المتحدة وبريطانيا وإسرائيل. ووحدت ادانة «الصمت العربي» المحتجين، باستثناء مدن الدول الخليجية التي خلت من المتظاهرين. عالميا، احتشد في شوارع أثينا أكثر من مئتي ألف متظاهر، كان من بينهم ( كما في مظاهرات التضامن مع فلسطين) عدد كبير من الطلاب وصفوا الرئيس الأمريكي جورج بوش «بالقاتل» ( كما يتم وصف نتنياهو حاليا). في اليوم نفسه كانت هناك مظاهرات في باكستان، ومدن أستراليا، وإندونيسيا وأنقرة، وموسكو وباريس وعديد المدن الألمانية. وتظاهر آلاف الطلاب الذين أضربوا عن الدراسة في الدنمارك وسويسرا وإسبانيا ونيويورك، وأعلنت النقابات العمالية الاضراب في إيطاليا. وتم تشديد إجراءات الأمن المفروضة على السفارات والقنصليات الأمريكية حول العالم ( كما سفارات الكيان الصهيوني المخندقة حاليا).
استمدت الحركة التضامنية العربية ـ العالمية قوتها من المقاومة العراقية، المعادل الموضوعي للاحتلال. كانت التكلفة، كما في فلسطين، باهظة الثمن. واتهمت المقاومة، كما في فلسطين، بالإرهاب. وتسلل الى النسغ الوطني داء التمزيق الاستعماري الجديد: الطائفي – العرقي المعجون بالفساد والعملاء المحليين.
وعلى الرغم من نجاح المقاومة في وقف توسع المد الامبريالي الى دول أخرى وحققت ما تنبأ به النائب البريطاني جورج غالاوي، أثناء المظاهرات، قائلا: «إذا بعث بوش نصف مليون جندي إلى العراق، جميعهم من الأمريكيين، لا يسانده غير رئيس الوزراء الإسرائيلي أرييل شارون، فسينتهي به الأمر في الجحيم وسيعود الكثير من الأمريكيين إلى بلادهم في حقائب بلاستيكية» الا أن المقاومة لم تنتصر. وكانت نقطة الضعف الكبرى هي عدم توصل فصائل المقاومة الى اتفاق للعمل سوية من أجل التحرر الوطني. استغل العدو نقطة الضعف هذه، مع تنصيب ودعم حكومات تدين بولائها له. فأدى غياب الاتفاق الوطني، وتوسع حلقة المستفيدين من النظام الطائفي الفاسد، الى تفريخ احتلالين بدلا من احتلال واحد. وتحولت أرض العراق الى ساحة لاستعراض القوة والتفاوض بينهما، بينما يلوك ساسة النظام علكة « الديمقراطية» في البرلمان، وأجهزة الإعلام، ومؤتمرات الدول المانحة، وبرامج الإعمار، وورشات اعداد القياديين، والدفاع عن حقوق الإنسان، ومحاربة الارهاب. دفع العراقيون ثمن هذه التوليفة السامة ما يزيد على المليون مواطن خلال 18 عاما، ولم تُسدد فاتورة الحساب بعد، اعتقالا وتعذيبا واختطافا وقتلا، غالبا، ما يتم تصويره ونشره ترويعا لكل من يحاول رفع كمامة الاختناق عن فمه.
إن استحضار الوضع العراقي بنقاط قوته وضعفه، بمقاومته وعملائه، بما أحاطه من تزييف وأكاذيب لتبرير غزوه واحتلاله، واستقطابه حملات التضامن الشعبي العربي والعالمي، لا يعني بالضرورة تطابقه مع الوضع الفلسطيني، إلا أن هناك بعض الملامح العامة التي قد يكون من المفيد القاء نظرة عليها، اذا ما أردنا ديمومة الانجاز الفلسطيني حتى النصر وتحويل ايماننا بالعدالة والحرية الى واقع بلا احتلال.

كاتبة من العراق

 

 

النكبة هي ألا نقاوم

هيفاء زنكنة *

 

خرج يوم الأحد، يوم النكبة، 15 أيار/ مايو، مئات الآلاف من المتظاهرين، الى الشوارع، في جميع أنحاء العالم، من كل القارات، مطالبين بتحرير فلسطين من احتلال الكيان العنصري، وانهاء قصف غزة، وانقاذ «شيخ جراح» من المستوطنين الصهاينة. حمل المتظاهرون، وأغلبهم من الشباب، شعارات كتبوها ورسموها بلغات بسعة العالم، وبالألوان التي تُخيف المحتل. الأحمر والأسود والأخضر والأبيض. رمز الوجود الفلسطيني بألوانها التي يخشاها المحتل بأسلحته وتقنيته العسكرية المتقدمة.
لماذا يخشى المحتل الألوان؟ في رواية «الدرس الألماني» لزيغفريد لينز، يسأل الشرطي النازي صديقه عن سبب تلقيه أمرا بالقاء القبض عليه، وهو مجرد رسام تجريدي، فيجيبه الرسام «إنه اللون. الألوان لديها دائما ما تقوله. حتى أنها، في بعض الأحيان، تصدر تصريحات محددة. من يدري ما الذي يقود اليه اللون؟». وفي سيرتها الروائية «حجر الفسيفساء» تخبرنا الأسيرة المحررة مي الغصين كيف أنها صنعت مسبحة من نوى الزيتون، هدية لأمها. لوّنتها بستة ألوان إلا أن مدير السجن الصهيوني لم ير غير ما يرعبه، صادرها قائلا « أحمر أسود أخضر أبيض ممنوع. ممنوع يعني ممنوع». السجان الصهيوني ـ المحتل ـ لص مذعور غير قادر على رؤية كل ما يحيط به.
تبدت في حضور المتظاهرين وشعاراتهم، وحدة المقاومة الفلسطينية. الأرض واحدة والشعب واحد. من القدس وغزة الى الضفة الى اللد. الفلسطينيون، أصحاب الأرض، باقون والمحتل طارئ. هذا ما تعلمته كل الشعوب، وليس العربية فقط، من نضال الشعوب المُستَعمَرَة مثالها حرب التحرير الجزائرية. درس تاريخي لا ينسى مهما حاول حكام الخنوع والاستبداد تسويق خدعة «السلام».
تحررت الجزائر بعد 140 عاما من الاستيطان العنصري الفرنسي. وكلما بدا للعالم أن المعركة على وشك الفشل، نهض الشعب بعزيمة متجددة. كما يحدث اليوم في فلسطين المحتلة. حيث حاول المحتل، منذ تأسيس كيانه الاستيطاني، عام 1948، تدريجيا، تهجير السكان، وتوسيع مستوطناته، وتقسيم أهل البلد ديموغرافيا، وبذر تفتيت الهوية ورعاية الفساد، واطلاق تسميات تجزيئية، وحصار غزة. لم تبق وسيلة همجية على وجه الأرض لم يستعملها لبتر غزة عن الجسد الفلسطيني، فجاءت ساعات الأيام الاخيرة شاهدة على فشله. على الرغم من جراحه، تماهى ابن الوطن مع ذاته. لا يعود فيه ذلك الـ «هنا وهناك» الذي مّيز ايام الاشتباكات مع العدو عبر الأسلاك الشائكة، كما يذكرنا الأكاديمي حيدرعيد من غزة. « في كل مرة كنت اذهب للمشاركة في مسيرة العودة الكبرى بالقرب من السلك الشائك الذي يفصل قطاع غزة المحاصر عن باقي فلسطين المحتلة، كان ظلي يتركني ويذهب الى الطرف الآخر من السلك، و يعود لي صامتا حزينا بعد اسبوع وكأنه ظل رجل اخر، الى أن ذهب ولم يعد! منذ تلك اللحظه وأنا أعيش بلا ظل! انا هنا وهو هناك». هذه الايام استرد المناضل ظله ليمتد واقفا على تراب الوطن كله.

أهمية دور الجيل الجديد من اللاجئين والمهاجرين من الدول العربية الذين يتقنون مختلف اللغات مما يشكل قوة في مجالات النّشر وصناعة المحتوى عالميا

«حالة الانبعاث التي تسري في روح الفلسطينيين على مساحة كل فلسطين بفضل المقاومة» التي يصفها الأسير المحرر عصمت منصور، امتدت كذلك الى كل البلاد العربية وارجاء العالم. في العراق المعجون بفلسطين، تستعيد الصحافية نرمين المفتي لحظة من الذاكرة الجمعية ملخصة معنى ممارسة الابادة المنهجية ضد المدنيين «سياسة الابادة نفسها، أكيد تتذكرون اولبرايت في 1995 حين سألها مقدم برنامج 60 دقيقة «هل تعتقدين أن موت نصف مليون طفل عراقي نتيجة العقوبات الاقتصادية هو ثمن يستحق أن يدفع؟» وأجابت اولبرايت «لقد كان خيارا صعبا امامنا، لكننا نعتقد أن الثمن يستحق أن يدفع». اليوم، لا يذكر المتحدث باسم جيش الاحتلال الإسرائيلي قتل مدنيين، معظمهم من الاطفال والنساء، بل يقول انهم قضوا على 85 عنصرا من حماس والجهاد الإسلامي.
انعدام الوازع الإنساني والأخلاقي، هو ما يجمع الغزاة والمستعمرين، وما يزيد على ذلك عند المحتل الصهيوني هو مهارته في التباكي حول مظلوميته التاريخية واضطهاده. وهذا ما شهدناه، يوم السبت الماضي، حين حوصرت سفارته، بلندن، بعشرات الآلاف من المتظاهرين ضد القصف الوحشي لغزة، فلجأت السفارة الى مشجبها التقليدي وتباكيها عن معاداة السامية واتهام المتظاهرين بالدفاع عن «تنظيم ارهابي» يطلق الصواريخ!
بالمقابل، لم يكف الفلسطينيون يوما عن البحث، حتى وهم يتعرضون للاعتقال والتعذيب واغتصاب الارض والقصف والقتل، عن سبل جديدة ومتنوعة للمقاومة السلمية. حملة المقاطعة الدولية (البي دي أس) واحدة منها. وها هو علي مواسي، رئيس تحرير فُسْحَة ـ ثقافيّة فلسطينيّة، يثمن تفوق الفلسطينيّين ومناصريهم في مخاطبة الرأي العامّ العالميّ وتوجيهه. «ليس بسبب الإعلام الرسميّ، وإنّما صبايانا وشبابنا الرائعين في وسائل التواصل الاجتماعيّ: تويتر، إنستغرام، سناب تشات، تيك توك، فيسبوك، وغيرها». مؤكدا على أهمية دور الجيل الجديد من اللاجئين والمهاجرين من الدول العربية الذين يتقنون مختلف اللغات مما يشكل قوة في مجالات النّشر وصناعة المحتوى عالميا. مشيرا الى أن « أكثر من باحث ومحلّل إسرائيليّ تحدّث عن تعثّر مشروع «الهسباراه» عن إخفاقه، رغم صرف مئات ملايين الدولارات عليه». ويهدف مشروع «الهسباراه» الى الترويج لاعتبار إسرائيل دولة مسالمة، محبة للسلام، وتساهم بالخير العام حول العالم، حتى تتمكن من التصدي، وإخفاء الأخبار الواردة من فلسطين حول الانتهاكات ضد الإنسانية التي تنفذها سلطات الاحتلال.
إن ما يدفعه الفلسطينيون ثمنا للحرية لايقدر بثمن. إنهم يدفعونها بالحياة الإنسانية وهذا ما لايفهمه الكيان العنصري المؤسس على الإبادة. واذا كان منبع انبعاثة المقاومة سيبقى فلسطينيا أولا وهو الأهم، فان تضامن الشعوب، في جميع انحاء العالم، ضروري، وبمختلف الأساليب التي يجب أن تضم، بالاضافة الى المظاهرات والاعتصامات، تفعيل وتقوية حملات الضغط ( اللوبي) على الحكومات الغربية والإدارة الأمريكية، خاصة، لوقف تغذية الكيان العنصري بالمال والسلاح والتكنولوجيا العسكرية.
ماذا عن الأنظمة العربية التي يرتكز معظمها على الاستبداد المحلي واستجداء الحماية الخارجية ضد شعوبها؟ في رسالته المفتوحة الى «الزعماء العرب الحلوين الحبابين العاقلين الخوافين المساكين» يعيد الكاتب العراقي علي السوداني طرح الحل الذي طالما اقترحته الشعوب العربية، ولاتزال، وهو أضعف الايمان، قائلا: «قاطعوا إسرائيل اللقيطة اقتصادياً على الأقل، وسترون كيف ستنمو الكدمات على جسد هذه الدويلة المفبركة. افعلوها وستجدون شعبكم هو حاميكم من الفك الأمريكي المفترس».

·         كاتبة من العراق

 

 

صمت إدارة بايدن حول العراق

هيفاء زنكنة

 

أعلن الجيش العراقي أن «طائرة مسيرة مفخخة» سقطت السبت الماضي على قاعدة « عين الأسد» الجوية، في محافظة الأنبار، غرب العراق. يوجد في القاعدة، حالياً، نحو ألفي جندي أمريكي إلى جانب قوات من الدول المشاركة في « التحالف الدولي لمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية». تسبب الهجوم «بأضرار في مستودع» حسب تصريح التحالف الدولي. وهو الهجوم الثاني على القاعدة، هذا الشهر. سبقه هجوم على قواعد تستخدمها القوات في مطار بغداد ومطار أربيل بالإضافة الى هجمات أخرى في الشهور الماضية. كل هذا يحدث تحت انظار الإدارة الأمريكية برئاسة جو بايدن وهو يحتفل بمرور 100 يوم على تسلمه الرئاسة من دونالد ترامب الذي أمر بتقليص عدد القوات في العراق. وكان ترامب قد زار قاعدة «عين الاسد» مع زوجته، في 26 ديسمبر/ كانون الأول 2018، بدون إعلام الحكومة العراقية، دعما للجنود «المتمركزين في قاعدة الأسد الذين لعبوا دورا حيويا في هزيمة تنظيم داعش عسكريا في العراق وسوريا».
الآن، بعد مرور اربع سنوات على اعلان هزيمة داعش، ما سبب بقاء القوات في العراق، خاصة، بعد اعلان بايدن سحب القوات من على الارض في افغانستان؟ ومن وراء عمليات الهجوم المتناوبة على القواعد والمتميزة بأنها لا تسبب ضررا لأي من القوات؟ وما هو موقف الحكومة العراقية والمنظور الشعبي لهذه العمليات؟
في مقابلة بثتها إذاعة بي بي سي 4، في 6 مايو الحالي، قدم أنطوني بلينكن، وزير الخارجية الأمريكي الجديد، صورة تفصيلية عن السياسة الخارجية الأمريكية برئاسة بايدن. تحدث بالتفصيل عن العلاقة مع روسيا من عدة جوانب بضمنها معاملة المعارض أليكسي نافالني، منتقلا الى العلاقة مع الصين، وصفقة تجارية محتملة مع المملكة المتحدة، وضرورة المحافظة على السلام وتوفير الرفاه الاقتصادي في أيرلندا الشمالية. تطرق الى الانسحاب التدريجي للقوات الأمريكية من أفغانستان، مع بقاء أمريكا باشكال أخرى. وأسهب بتوضيح الموقف من إيران والعودة إلى المباحثات، حول اتفاقية الاسلحة النووية عبر وسطاء في فيينا، وأمله في ان تصغي إيران للمقترح الأمريكي.
ما يسترعي الانتباه في هذه المقابلة التفصيلية، هو عدم تطرقه، بأي شكل كان، للوضع في العراق. غياب العراق بشكل كلي، عن الأجندة السياسية المعلنة، صارخ حتى عند تناول الاوضاع ذات العلاقة الوثيقة به وبأمريكا وإيران وحتى افغانستان. فهل السبب هو الرغبة الأمريكية بحسم ملف الخلاف مع إيران، لأنه الأهم بالنسبة اليها، واعتبار العراق ورقة مقايضة، ذات صلاحية غير محدودة، من اجل التوصل الى اتفاق يوفر لها ولحلفائها، كالسعودية وإسرائيل، السلام؟ أو لعل اهمال ذكر العراق نابع من الرغبة بنسيان « خطأ» لا تريد الارادة الجديدة التذكير به، باعتباره من الماضي، والماضي بالنسبة الى أمريكا، زمن غير موجود، تجنبا للمساءلة وما يصاحبها من التزامات قانونية وانسانية؟

يبقى الحل الوحيد للتخلص من وجود النيوكولونيالية الأمريكية والنفوذ الميليشياوي الإيراني هو في اتخاذ موقف مقاوم واضح من كلا الاحتلالين، وعدم تحويل العراق الى ساحة تصفية حسابات

هذه السيناريوهات واقعية الى حد كبير، لأنها توفر للادارة غطاء زمنيا الى حين الاتفاق مع إيران ذات العلاقات والمصالح المتشعبة مع عديد الدول من بينها الصين. لذلك من الطبيعي الابقاء على الوضع الحالي بالعراق، بحكومته الفاشلة أو اللا حكومة، بأحزابها منقسمة الولاء، وبالعنف المستدام فيه. ولا ضرر من التغاضي عن اسقاط بضعة صواريخ وتفجير طائرة مسيرة على القواعد الأمريكية مادامت، مثل العاب الكمبيوتر، لا تؤدي الى خسارة بشرية. وما دام ذلك سيبقي العراق متهالكا، ضعيفا، منقسما على نفسه، منخورا بالفساد والقمع، عاجزا عن مواجهة النزاع الأمريكي – الإيراني على ارضه، واستخدامه ساحة مفتوحة لتصفية الحساب من خلال المليشيات والقوات الخاصة والمرتزقة وما يسمى « العمليات القذرة».
لذلك، ستبقى قوات الاحتلال الأمريكي بالعراق المُغيّب في خطاب السياسة الخارجية لأن بايدن لا يريد أن يبدو وكأنه يواصل سياسة ترامب بالعراق. وتُركت مهمة تأكيد بقاء القوات لمتحدثي وزارة الدفاع لأنهم الاقل ظهورا ونجومية اعلاميا من سياسيي وزارة الخارجية. ففي تقرير نُشر في أبريل / نيسان قال الجنرال في مشاة البحرية فرانك ماكنزي لمجلة « مليتيري تايمز» ان الولايات المتحدة اختارت ابقاء قواتها بالعراق، خلافا لافغانستان «مع شركائنا في الناتو لإنهاء معركة داعش». مما يمكن ترجمته على ارض الواقع بتبرير البقاء بلا أمد محدد، في العراق، فمهمة استعادة الأراضي من داعش انتهت منذ سنوات، حسب التصريحات الرسمية الأمريكية والعراقية معا، وامكانية بروز تنظيم إرهابي آخر، يهدد أمن أمريكا، وان كان محتملا سواء في العراق أو اي بلد آخر في العالم، الا ان هذا لا يسوغ احتلال كل البلدان التي تظهر فيها تنظيمات إرهابية، هذا اذا تركنا جانبا تعريف « الإرهاب» المبرر للاحتلال.
بالمقابل، يبين الوضع العراقي الداخلي، أنه ليس هناك موقف شعبي وطني عام وموحد يرفض بقاء قوات الاحتلال الأمريكية أو الميليشيات الإيرانية. الانقسام واضح. وهو انقسام أسس له المحتل منذ 18 عاما وعززته الاحزاب المستفيدة ليتحول تدريجيا الى موقف دفاعي عن النفس ضد « الآخر». حيث صار مقياس تحديد الموقف الوطني هو إما الانتماء الديني – الطائفي أوالقومي أو عضوية الاحزاب الطائفية / القومية أو عضوية الميليشيات. وهي مواقف هشة وسائلة تسللت الى المجتمع الواحد لتقسمه مع مرور الوقت. كما نمت، في ظل التمزق السياسي والفساد الإداري والمالي، طبقة من المستفيدين الذين يرون في عملهم كسماسرة لأي احتلال كان، فرصة للثراء والنفوذ. وغالبا ما تتداخل الانتماءات أو الهويات، حديثة الصنع، حتى يصعب التمييز بين حامليها المستشرسين بتقديمها كقيمة متجذرة في عمق تاريخ المجتمع العراقي.
ويبقى الحل الوحيد للتخلص من وجود النيوكولونيالية الأمريكية والنفوذ الميليشياوي الإيراني هو في اتخاذ موقف مقاوم واضح من كلا الاحتلالين، وعدم تحويل العراق الى ساحة تصفية حسابات، والحفاظ بكل السبل على الهوية الوطنية لعراق مستقل موحد والتي تتعرض للتكميم والاعتقال والقتل، كما لاحظنا في مراحل مختلفة من مقاومة الاحتلال، منذ 2003، وكما يدفع ثمنها غاليا الجيل الجديد من ابناء انتفاضة تشرين/ اكتوبر 2019.

كاتبة من العراق

 

من العراق إلى الهند…

الفساد القاتل واحد!

هيفاء زنكنة

 

قد لايكون وضع العراق الصحي والبيئي، خاصة، مع تفشي فايروس كوفيد 19، بذات الصورة الكارثية التي نراها، يوميا، في الهند أو بيرو والبرازيل، إلا أن الوضع سيئ جدا بالمقارنة مع العديد من دول المنطقة والعالم من ناحية عدد السكان والإمكانيات المادية والتخطيط لمواجهة الأزمات والكوارث البيئية سواء كانت طبيعية أو من صنع الإنسان. كما أن هناك أوجه شبه متعددة. فالعراقي الذي يرى صورة اثنين من المرضى الهنود مرميين على سرير واحد في المستشفى، أو اشتراك النساء والرجال في ردهة واحدة، لا يستغرب كثيرا، لأنه رأى أو عاش الحالة نفسها في مستشفيات العراق حتى قبل انتشار الوباء.
بالنسبة إلى تفشي الكورونا، تجاوز عدد المصابين، بالعراق، حتى الآن، حسب منظمة الصحة العالمية، ما يقارب المليونين، والوفيات 15,498. وسجلت، قبل يومين، 5167 حالة جديدة و33 وفاة. أما الحالات النشطة فهي 108 آلاف. وهي حالات إصابة مرتفعة بالمقارنة مع إيران وتركيا فضلا عن لبنان وتونس والإمارات، اذا ما اخذنا بنظر الاعتبار اجمالي عدد السكان ونسبة الاصابات لكل 100 ألف شخص. حيث وصلت النسبة، بالعراق، الى 114 إصابة لكل 100 ألف شخص استنادا الى احصائيات وزارة الصحة التي لا تسجل عدد الموتى في البيوت بل في المستشفيات فقط. لا يمكن الثقة إذن بهذه الأرقام كأي ارقام رسمية أخرى ولكننا نستخدمها كمؤشر.
اتخذت الحكومة، في بداية انتشار الوباء، في العام الماضي، اجراءات لتقليل الانتشار على غرار منع التجول وتقليل ساعات الدوام وإغلاق المدارس، إلا أن انزال العقوبات المشددة بالمخالفين التي وصلت حد الاعتقال وسوء المعاملة، وعدم توفير المساعدة الحكومية للعاطلين والشريحة الأفقر، وتخوف المسؤولين من رجال الدين إذا ما تجرأوا على منع الزيارات الدينية من داخل وخارج البلد الى الأماكن المقدسة حيث الاكتظاظ والتقارب البشري بأقصى أشكاله، ناهيك عن تكذيب رجال الدين الذين يروجون أن زيارة المراقد الدينية هي الكفيلة بمنع الاصابة بالوباء بل وحث المريدين على الزيارة لأنها توفر الشفاء منه في حال الاصابة مما جعل الأماكن الدينية بؤرا للانتشار الأسرع للوباء. ومع انعدام ثقة الناس بالحكومة الموصوفة بأنها حكومة لصوص وفساد، وانهيار الجهاز الصحي الذي تسارع تهالكه منذ الاحتلال عام 2003، بعد أن كان واحدا من أفضل الأنظمة الصحية في المنطقة، بات الناس يفضلون البقاء في بيوتهم على التوجه الى المستشفيات التي اقترنت بالموت، جراء قلة المعدات والأدوية والكادر الصحي.
لايبشر الوضع الحالي بالخير. فوزارة الصحة المسؤولة عن الرعاية الصحية لا تتواصل مع اللجان المستحدثة للرعاية الصحية. اذ صرح مدير دائرة الصحة العامة نافيا أن تكون وزارة الصحة قد رفعت أية توصية إلى اللجنة العليا للصحة والسلامة الوطنية بشأن الحظر في الأيام المقبلة، مضيفا ما يؤكد حالة التخبط في اتخاذ القرارات «وربما لا تتوافق اللجنة العليا مع توصيات وزارة الصحة «. وعن إغلاق المدارس، ألقى عضو لجنة التربية البرلمانية صفاء الغانم، مسؤولية ارتفاع الإصابات بين صفوف الطلبة والكوادر التدريسية على لجنة الصحة والسلامة الوطنية لاصرارهم على عدم إيقاف التعليم الحضوري، محذرا من كارثة سيذهب اليها البلد نتيجة لهذا الإصرار.

آخر مستشفى بُني في العراق كان عام 1986، وأن عقودا بمبالغ خيالية وُقعت لبناء 51 مستشفى منذ عام 2009، وصُرفت الأموال ولم يتم بناء أي منها

واذا افترضنا ان الحكومة تبنت فكرة أن اللقاح هو الحل الأفضل لانقاذ الشعب من الوباء، فان حملة التلقيح تشي بالعكس تماما. اذ تم توزيع ما لا يقل عن 298377 جرعة حتى الآن. بافتراض أن كل شخص يحتاج إلى جرعتين، فهذا يكفي لتطعيم واحد من كل 1300 من السكان البالغ عددهم 38.3 مليون نسمة. وخلال الأسبوع الماضي، بلغ متوسط ​​الجرعات حوالي 12766 جرعة كل يوم. وبهذا المعدل، سيستغرق الأمر 616 يوما آخر لإعطاء جرعات كافية لـنسبة 10 بالمئة من السكان. وتكمن المأساة خلف هذه الصورة والتأخير القاتل في تزويد المواطنين بما يحمي الحياة، في الفساد المتخلل بكل الحكومة والمؤسسات.
في الوقت الذي أعلن فيه أن ميزانية عام 2021 تبلغ 89.65 مليار دولار، بعد مساومات أشهر بين الأحزاب حول من يلتهم ماذا، وحصة هذا الحزب أو ذاك تبعا للوزارة التي يراها ملكا له، واذا كان من المفترض، ولو من باب تبييض الوجوه، تخصيص نسبة صغيرة من الميزانية لتوفير حاجة الشعب من اللقاح، إلا أن واقع الحال أثبت أن استهانة الحكومة بحياة الناس وكرامتهم، بلا حدود. إذ أنها تفضل انتظار تبرع المجتمع الدولي باللقاح واستجداء المساعدات الانسانية لئلا تمس محاصصة الاحزاب في الميزانية.
إن اهمال حق الرعاية الصحية لا يقتصر على ضحايا الفايروس. بل يمتد ويتسع ليشمل، بدرجات متفاوتة، اهمال الأطفال والأمهات الحوامل والمصابين بالاعاقة وضحايا الأمراض النفسية والعقلية. وأشار تقرير حديث لمنظمة الصحة العالمية الى ازدياد حالات الانتحار، خاصة بين النساء، بشكل كبير. ولايزال ضحايا اليورانيوم المنضب وحرق مخلفات قوات الاحتلال يعانون من مختلف التشوهات والامراض الخطيرة، في مختلف مدن العراق. وكان مركز الوقاية من الإشعاع التابع لوزارة الصحة، قد أعلن في الاول من مايو الحالي عن وجود 8 مواقع جديدة للتلوث الإشعاعي في محافظة البصرة. وإن اهمال هذه الوضعية الكارثية التي تنتهك واحدا من أساسيات حقوق الانشغال، والانشغال بالمحاصصة السياسية والمساومات المالية، وتقاسم المؤسسات وميزانياتها، وما يترتب على ذلك من موت يومي اما بشكل وباء او اعتقال أواختفاء قسري هو ممارسة ارهابية، وكونها حكومية لا يجعلها تختلف عن ممارسة المنظمات الارهابية.
ولابد أن من عاش من ساسة العراق الحاليين في الدول الأوروبية وأمريكا، وعرفوا بتجربتهم الشخصية، معنى الكرامة المصاحبة لاحترام حقوق الإنسان، وان ما يحتاجه العراقيون هو نفسه ما يحتاجه جميع البشر من الحقوق الأساسية كالوظائف والتعليم الجيد والرعاية الصحية والعدالة. وأن هناك بعد سنوات من الحرب والخراب، حاجة ماسة إلى الاستثمار في الأطفال والشباب والدعم النفسي لمساعدة الناس على التغلب على الصدمات التي واجهوها.
إن هذا الأمر هو الذي يُحملً السياسيين العراقيين في السلطة مسؤولية الخراب الانساني، على مدى 18 عاما الاخيرة، بشكل مضاعف ويجعل مسؤوليتهم القانونية، ناهيك عن الأخلاقية، أعظم. ويكفي للدلالة على حجم تخريبهم المنهجي للبلد وأهله ان نُذكر أن آخر مستشفى بُني في العراق كان عام 1986، وأن عقودا بمبالغ خيالية وُقعت لبناء 51 مستشفى منذ عام 2009، وصُرفت الأموال ولم يتم بناء أي منها.

كاتبة من العراق

 

حرق المرضى في المستشفى

في بغداد ليس حادثا

هيفاء زنكنة

 

وكأن العراق في حاجة الى كارثة إنسانية أخرى تضاف الى الموجود لنصل الى حضيض قتل المرضى حرقا.
في 23 نيسان/ أبريل، أدى انفجار قنينة أوكسجين الى حريق في مستشفى ابن الخطيب المخصص لعلاج مرضى فيروس كورونا، في بغداد، الى قتل 91 مريضا، واصابة العشرات. ليضاف عدد الضحايا الجدد الى قائمة تضم ما يقارب 16 ألف وفاة ومليون و250 ألف مصاب بالفايروس، وهو الأعلى بين الدول العربية. وكان العراق قد حصل على ما يقرب من 650 ألف جرعة من اللقاحات المختلفة – معظمها عن طريق التبرع أو من خلال برنامج كوفاكس، الذي يساعد الدول ذات الدخل المنخفض والمتوسط ​​على شراء اللقاحات. وهي مفارقة توجع القلب غضبا أن ينافس بلد هو من أكثر دول العالم ثراءً بالنفط، البلدان الفقيرة للحصول على ما يتم التبرع به من اللقاح.
بينما تثير الفاجعة الأخيرة التساؤلات حول سبب حدوثها وكيفية التعامل معها، يثير عدم توفير اللقاح والرعاية الصحية للمواطنين تساؤلات أكثر. بالنسبة الى الفاجعة، قد يكون انفجار قنينة الأوكسجين هو السبب الأولي الا أن شهادة خبراء تداولتها وكالات الأنباء العالمية تدل على ان المستشفى لم تكن في تصميمها وبنائها وتجهيزها وصيانتها وتشغيلها مستوفية لتوفير وسائل خروج مناسبة، لتجنب الخطر غير الضروري، على حياة وسلامة شاغليها من الحريق أو الدخان أو الأبخرة أو الذعر خلال الفترة اللازمة للهروب. وتبدى النقص الأوضح في عدم تثبيت الأبواب الثقيلة الخاصة بين الردهات منعا لانتشار الحريق. مما أدى الى الانتشار السريع للنار والدخان والغازات القاتلة قبل وصول رجال الإطفاء الذين يعانون، أساسا، من النقص في الإمكانية لمواجهة كارثة كهذه.
أما بالنسبة الى توفير اللقاح ومراكز الرعاية الصحية العامة والمستشفيات ذات الأقسام المهيأة، بشكل خاص، لعلاج المصابين بالفايروس، فان أسباب الفشل مرتبطة بانهيار النظام الصحي، بمجمله، وصعوبة الحصول على الماء الصالح للشرب وانخفاض الصرف الصحي، خاصة بعد غزو البلد عام 2003. حيث انتشر وباء الفساد المالي والإداري بشكل مبكر وسريع. وبدأ المسؤولون يتحدثون عنه بصيغة استنكار وإدانة منذ ذلك الحين. ففي عام 2005، مثلا، تحدث د. شاكر العيناجي، رئيس العمليات في وزارة الصحة، عن تخصيص الوزارة مبلغ 518 مليون دولار لشراء 831 قطعة من المعدات الطبية في النصف الثاني من عام 2004، إلا أنها اما لم تكن صالحة للاستخدام أو أختلست. وقال د. شاكر إن الفساد منتشر لدرجة أنه يجب إعادة بناء القطاع بمساعدة المجتمع الدولي. كان هذا قبل أن يصبح الفساد أخطر من الإرهاب والكورونا معا، في تكلفته البشرية والمادية حاليا، وإعاقته مشاريع البناء والتنمية الاقتصادية مستقبلا. فمؤشر التنمية البشرية للعراق أدنى من معدلات الدول العربية وغيرها من البلدان المتوسطة التنمية.

تبدى تجذر الفساد في عقود بناء المستشفيات الوهمية أو غير المكتملة أو غير المستوفية لشروط السلامة، وعقود شراء المعدات والأجهزة والدواء والامدادات الطبية وانعدام صيانة وتأهيل المستشفيات

وقد تبدى تجذر الفساد في عقود بناء المستشفيات الوهمية أو غير المكتملة أو غير المستوفية لشروط السلامة، وعقود شراء المعدات والأجهزة والدواء والامدادات الطبية وانعدام صيانة وتأهيل المستشفيات. فقد تم تشييد أكثر من نصف المستشفيات الموجودة في البلد في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي. ويبلغ عدد الموجود حاليا 229 مستشفى، بما في ذلك 61 مستشفى تعليميا و92 مستشفى خاصا و 2504 مستوصف، معظمها بلا طبيب. ومنذ عام 2012، وعلى الرغم من وصول ميزانية العراق رقما لم يسبق الوصول اليه سابقا، ويعادل ميزانية عدة دول مجتمعة، إلا أن عدد الاسرة وفقًا للبنك الدولي، لم يزد عن 1.3 سرير في المستشفيات لكل 1000 عراقي، انخفاضًا من 1.9 في عام 1980، و0.8 طبيب، وهو انخفاض كبير من 1.0 في عام 2014. وهذا أقل بكثير من مصر والاردن. وخصص 154 دولارًا فقط للفرد للخدمات الصحية في عام 2015، مقارنةً بإيران 366 دولارًا والأردن 257 دولارًا. تشير هذه الارقام الموثقة الى استمرار التدهور الصحي بينما تواصل الحكومة الإعلان عن مشاريع وتحسينات وإصلاحات بمبالغ خيالية. فتتلاشى المبالغ ولا يبقى للمواطنين غير السراب.
ويشكل تناقص عدد الأطباء مشكلة حقيقية. فقبل الغزو، كان هناك حوالي 32 ألف طبيب في المستشفيات العامة والهيئات التعليمية. إلا أن الكثيرين غادروا البلد بعد تعرضهم للتهديد والاعتداء والاختطاف بالإضافة الى من تعرض للاغتيال، وازداد الأمر سوءا مع تعرض الاطباء للاعتداء من قبل عناصر أمنية وأعضاء ميليشيات تعتبرهم مسؤولين عن وفاة احد المرضى.
ومع تدهور المستوى التعليمي، والتعيين حسب الانتماء الحزبي – الطائفي، وانعدام النزاهة، لاغرابة أن تحصل وزارة الصحة على لقب « أكثر الوزارات فسادا». حيث فاقت قيمة الفساد في وزارة الصحة 10 مليار دولار منذ 2003. لعل أكثر صفقات الفساد إثارة للضحك المبكي هي صفقة «النعال الطبية» باشراف وزيرة الصحة السابقة عديلة حمود، حيث تم شراء 26 ألف نعال طبي بمبلغ 900 مليون دولار، في الوقت الذي تفتقد فيه المستشفيات لأبسط أجهزة الفحص والأدوية الاساسية.
أدى انعدام الثقة بالحكومة، الى عدم اتباع تعليماتها وفيما يخص الاصابة بالفايروس الى تفضيل المرضى البقاء في بيوتهم الا في حالات قليلة. حيث باتت المستشفيات مكانا للموت وليس العلاج. ويفضل المصابون بكوفيد في الكثير من الأحيان، الحصول على اسطوانات الأوكسجين لتلقي العلاج في المنزل، بدلاً من الذهاب إلى المستشفى.
ولابد أن مقتل المصابين في مستشفى الخطيب سيزيد من عمق الفجوة بين المواطنين وساسة الحكومة المبنية على الفساد بأنواعه، ويقلل من امكانية اية إصلاح يدعيه المنخرطون في هذه الحكومة وأحزاب الميليشيات. فالإصلاح الحقيقي يتطلب توفر الارادة السياسية والدعم الشعبي، وهو ما لن يتحقق ضمن منظومة الفساد المستشري أو بالاعلان الحكومي المبتذل عن تشكيل لجنة تحقيق لمعرفة اسباب الحريق، وكأنهم لا يعلمون انهم هم السبب، أو توجيه رئيس الوزراء «بنقل جرحى حادثة حريق ابن الخطيب ممن يحتاجون للعلاج إلى خارج العراق» مستخدما، باستهانة لا تغتفر، وصف جريمة قتل 91 مريضا، لجأوا الى المستشفى للعلاج، بأنها «حادث».

كاتبة من العراق

 

 

هل انسحاب أمريكا من

افغانستان استعادة لإنسانيتها؟

هيفاء زنكنة

للمرة الثانية، منذ عشرة أعوام، يقوم رئيس أمريكي بتنفيذ قرار انسحاب القوات الأمريكية من بلد تم غزوه واحتلاله بقرار من رئيس أمريكي سابق له. كانت المرة الاولى حين أعلن الرئيس باراك أوباما الانسحاب من العراق عام 2011، وحلت الثانية حين أعلن الرئيس جو بايدن، في 14 نيسان/ أبريل، عن جدول زمني لانسحاب كل القوات الأمريكية من افغانستان، في موعد أقصاه 11 سبتمبر/ أيلول، الذكرى العشرين لهجوم القاعدة وما تلاه من غزو قادته الولايات المتحدة. في كلا الحالتين، كان الرئيس جورج بوش هو الذي اصدر قرار غزو البلدين، تحت شعار» محاربة الإرهاب». الشعار الذي بات، عمليا، الاستراتيجية الأمريكية التي تم تطبيقها في أرجاء العالم على مدى العشرين عاما الأخيرة. وكان من بين نتائجها الخسارة البشرية الهائلة والخراب على مستوى البنية التحتية ومد الحكومات المحلية بمغذي الفساد وقمع الانتفاضات الشعبية السلمية. وكان ابرز تلك النتائج تصفية انتفاضات الربيع العربي سواء بإختراقها وتجنيدها من الخارج في الصراع الدولي، أو باتهامها داخليا بالإرهاب واستغلال الإسلاموفوبيا، لتحييد النخب المدنية وعزلها عن الجماهير الكادحة والمهمشة.
أثار قرار بايدن حماس البعض الى حد القول بوجوب عدم التشكيك بخطوته بل ووصفها بأنها تقترب من الراديكالية. فما هي مصداقية هذا المنظور ؟ ليس بالامكان قراءة خطاب جو بايدن دون العودة الى خطاب أوباما. فنقاط التشابه كثيرة ومهمة لمعرفة ما تحقق وما سوف يتحقق حول الانسحاب، واقتراح البدائل، والرؤيا الأمريكية المستقبلية سياسيا وعسكريا. فمن ناحية التوقيت، أعلن الرئيسان قرار الانسحاب بعد الفوز بالانتخابات، كما يؤكد أوباما: « كما وعدت، ستعود بقية قواتنا في العراق إلى الوطن بحلول نهاية العام… ستنتهي حرب أمريكا في العراق». كما يفتخر الرئيسان بانجازات القوات الأمريكية واستحقاقهم العودة الى وطنهم. يقول أوباما « سوف يعبر آخر جندي أمريكي الحدود إلى خارج العراق ورؤوسهم مرفوعة، فخورون بنجاحهم». كما قال بايدن: «حان وقت عودة القوات الأمريكية إلى الوطن». «حان الوقت لإنهاء الحرب الأبدية».
وفي الوقت الذي تجاهل فيه أوباما سبب وجود القوات الأمريكية بالعراق، وما هي المهمة التي نفذتها هناك وجعلتهم فخورين بنجاحهم، ربما لمعرفته أن معظم المسؤولين عن الغزو، اعترفوا في فترات متفاوتة بأنهم كانوا « ضحية أكاذيب» اختار بايدن تكرار سبب الغزو وتحقيق النصر، اكثر من مرة، قائلا : « ذهبنا إلى أفغانستان لاجتثاث القاعدة، لمنع الهجمات الإرهابية المستقبلية ضد الولايات المتحدة المخطط لها من أفغانستان. كان هدفنا واضحا. كان السبب عادلاً. لقد فعلنا ذلك. لقد حققنا هذا الهدف».
ماذا عن العلاقة مستقبلا مع البلد المحتل بعد سحب القوات العسكرية؟ عن العراق أخبرنا أوباما: «ستكون هناك شراكة قوية ودائمة. بوجود دبلوماسيينا ومستشارينا المدنيين في المقدمة، سنساعد العراقيين على تقوية المؤسسات التي تكون عادلة وتمثيلية وخاضعة للمساءلة. سنبني روابط تجارية جديدة، وتجارة، وثقافة، وتعليم يحرر إمكانات الشعب العراقي. سوف نتشارك مع عراق يساهم في الأمن والسلام الإقليميين، تمامًا كما نصر على أن تحترم الدول الأخرى سيادة العراق». وهي صورة مشرقة، بإمكاننا القول، الآن، أن أيا من جوانبها لم يتحقق بل وشُرعت أبواب العراق لكل انواع الإرهاب، بضمنها الأمريكي. وبنفس الألوان يصبغ جو بايدن، حاليا، مستقبل العلاقة مع أفغانستان، مؤكدا: «سنواصل دعم حكومة أفغانستان. وسنواصل تقديم المساعدة لقوات الدفاع والأمن الوطنية الأفغانية».

قرار الانسحاب من العراق كان بوش قد شرع بهندسته قبل أوباما، ونتيجة اتفاق في «لجنة بيكر» التي جمعت الحزبين لاسترجاع التوافق في السياسة الخارجية من المحافظين الجدد و»مشروع القرن الأمريكي الجديد»

إذا كان قرار جو بايدن قد استقبل بالترحيب، باعتباره خطوة نحو انهاء عنصرية اليمين الترامبي فان علينا أن نتذكر ان قرار أوباما لقي ذات الترحيب، سابقا، وكانت النتيجة ابقاء المطلوب من القواعد العسكرية مع زيادة مستخدمي الشركات الأمنية والمرتزقة والعمليات الخاصة بالاضافة الى استخدام الطائرات بلا طيار عشرة اضعاف ما كان مستخدما قبله. وتضاعف الاستخدام خلال رئاسة ترامب بالاضافة الى اصداره قرارا ألغى فيه التصريح بعدد الاستخدامات ايضا. مما منح الجيش والسي آي أيه الحرية المطلقة في عمليات القتل والاغتيالات. كما نُذكر بأن قرار الانسحاب من العراق كان بوش قد شرع بهندسته قبل أوباما، ونتيجة اتفاق في « لجنة بيكر» التي جمعت الحزبين لاسترجاع التوافق في السياسة الخارجية من المحافظين الجدد و«مشروع القرن الأمريكي الجديد» الذي أفشلته المقاومة العراقية. كما أن قرار بايدن، استمرار لقرار كان ترامب قد اعلنه. باعتبار ان استخدام القوات العسكرية، يشكل استنزافا اقتصاديا لأمريكا، وليس من مصلحة أمريكا التضحية بجنودها، مجانا، لصالح دول اخرى، وضرورة اعادة هيكلة الجيش الأمريكي.
هذه الحقائق، اشار اليها بايدن في خطابه ولكن بشكل ناعم مغلف بمفردات «نبيلة» حول وجوب إعادة الجنود الى الوطن بعد أدائهم « مهمتهم الإنسانية» بعيدا عن اهلهم. وبعنصرية تليق بالغزاة وصف كيف انه يحمل منذ 12 عاما «بطاقة تذكرني بالعدد الدقيق للجنود الأمريكيين الذين قتلوا في العراق وأفغانستان. هذا الرقم الدقيق، وليس رقمًا تقريبيًا أو تقريبًا – لأن كل شخص من القتلى هم بشر مقدسون تركوا وراءهم عائلات بأكملها». متعاميا عن حقيقة أن القوات الأمريكية بالعراق رفضت بشكل مطلق ان تسجل عدد الضحايا العراقيين، وأن سبب غزو أفغانستان كان مقتل 2977 أمريكيا، بعملية ارهابية نفذها 19 قتلوا اثناء تنفيذ العملية، بينما قدرت أبحاث جامعة براون الأمريكية، في عام 2019، عدد الضحايا بين الجيش الوطني والشرطة في أفغانستان بأكثر من 64100 منذ أكتوبر 2001. ووفقًا لبعثة الأمم المتحدة للمساعدة في أفغانستان (أوناما)، فقد قُتل أو جُرح ما يقرب من 111000 مدني منذ أن بدأت في تسجيل الخسائر المدنية في عام 2009.
تثير هذه الأرقام المخيفة تساؤلات مشحونة بالغضب: لماذا تقتصر «القدسية» على حياة الأمريكي؟ ولم يعاقب بلد، تخريبا وقتلا، كعقاب جماعي جراء عمل إرهابي ارتكبه 19 شخصا فقط؟ أليس الغزو واستمراره، لهذا السبب، عملا إرهابيا، يجب محاكمة المسؤولين عنه وفق القانون الدولي ؟
وما الذي سيجلبه المستقبل من تغيير في العلاقة بين أمريكا وافغانستان بعد الانسحاب ؟ يقول بايدن في ختام خطابه بأن فريقه العسكري يعمل على « تنقيح الاستراتيجية الوطنية لمحاربة الإرهاب الذي يستهدف أمريكا واعادة تنظيم القدرات في مكافحة الإرهاب في المنطقة لرصد التهديدات الإرهابية الكبيرة وانهائها ليس فقط في أفغانستان، ولكن في أي مكان قد تظهر فيه. الإرهابيون موجودون في إفريقيا وأوروبا والشرق الأوسط وأماكن أخرى». مما يعني أن سياسة « محاربة الإرهاب» ستبقى كاستراتيجية بعيدة المدى لتطويع الشعوب والدول، اذا ما فكرت برفع رأسها للتنفس بعيدا عن بسطال الشرطي الامريكي. الا انه يعني، أيضا، ان أمريكا لن تتمتع بالامان الذي تنشده لنفسها ما لم، سواء في العراق أو أفغانستان، تعتذر عما ارتكبته بحق الشعوب، وتعويضها والعمل على بناء علاقة مشتركة على قدم المساواة، ووضع حد لدعمها الأنظمة الاستبدادية الفاسدة التي جعلت من بلدانها سوقا للسلاح.

كاتبة من العراق

 

 

كيف لبغداد

 لم تستسلم أن تسقط؟

هيفاء زنكنة

 

هل سقطت بغداد، فعلا، يوم التاسع من نيسان/ إبريل 2003؟ وما معنى السقوط؟ للفعل « سقط» ومصادره عشرات المعاني التي تمتد من المكان الى الإنسان. سقَطتِ المدينةُ : تم احتلالها من العدو. سقَط الشَّيءُ من كذا : وقَع من أعلى إلى أسفل. سَقَطُ المتاع: ما لا خير فيه من كلِّ شيء. السَّقْطُ :السَّاقِطُ من الناس، لئيم، حقير. أسقاط النَّاس: أوباشهم وأسافلهم. أي تعريف ينطبق على بغداد؟ بغداد المدينة، بغداد العاصمة؟ لماذا سقوط بغداد وليس الاستسلام أو الدحر أو الهزيمة أو الاستيلاء أو الانتصار عليها؟
هل هو المكان أم الإنسان؟
من يبحث عن «سقوط بغداد» سيجد ثلاث صفحات من تاريخ يقودهم الى ما هو أقدم وأعرق، الى موقع ومدينة وعاصمة، لكل واحد منها خصوصيته المذهلة، وتماهيه مع العالم في آن واحد. لأنه، على خصوصيته لم يكن استثناء بل امتدادا لحضارة إنسانية تتجه الى الأمام لولا «السقوط».
في الصفحة الاولى، دخل القائد المغولي هولاكو خان، حفيد جنكيز خان، بغداد عام 1258، منتصرا، فنهبها وهدم مبانيها التي كانت آية من آيات الفن الإسلامي وحرق كتبها. فتك بأهلها فلم يبق غير القليل. وكانت أعظم الأعمال التهديمية التي ارتكبت هي تخريب البنية التحتية كالسدود ونواظم الإسقاء. أليس هذا ما يفعله الغزاة حين يدخلون مدنا يعرفون جيدا انهم لا يستطيعون إزالتها، كما رأينا، بأنفسنا، في العصر الحديث؟
كانت بغداد عاصمة الدولة العباسية ورمزالإمبراطورية الإسلامية. أرادها الغزاة ان تبقى خربة، ضعيفة، متهالكة لتكون عبرة لمن قد يفكر بمقاومتهم. فكانت بغداد بوابة السقوط لما تلاها. لتأجيل الحياة والاكتفاء بالبقاء.
في الصفحة الثانية، عاشت بغداد بين كانون الأول/ ديسمبر 1916 و آذار/ مارس 2017، صراعا دمويا للاستحواذ عليها. كانت جزءا من الامبراطورية العثمانية المحتضرة التي يتنافس على استيراثها الانكليز. فكان القتال المرير على الارض العراقية وكان «سقوط» بغداد غنيمة غزاة جدد. وكان العراقيون، كما بقية العرب، الذين عاشوا في ظل الامبراطورية العثمانية، يظنون أن التعاون مع قوات التحالف ومن بينهم الانكليز، والتخلص من العثمانيين، سيمنحهم الاستقلال. فكان الترحيب الاولي بالحاكم الانكليزي الذي كان قد أدرك ضرورة دغدغة روح المرحبين وتطلعاتهم، فأصدر الجنرال مود بيانا خاطبهم فيه قائلا : «لم تأت جيوشنا إلى مدينتكم وأرضكم كغزاة أو أعداء ولكن كمحررين». ولم يطل الوقت لتزول اوهام من بنوا الآمال على المحتل الجديد. فأجبروا على الانضمام الى ثورة الشعب حين وضع العراق تحت الانتداب واعتمد البريطانيون تدابير لحماية مصالحهم فاندلعت الثورة العراقية الكبرى أو ثورة العشرين، عام 1920.

بغداد الموسومة بأنها الأكثر قذارة في العالم على الرغم من ثروة البلد الهائلة، بغداد التي يجوب الموت شوارعها متمثلا بميليشيات ومرتزقة ولصوص يتحكمون ببرلمان ينطق باسمهم

وجلبت لنا صفحة التاريخ الثالثة تكرارا يجمع في ممارساته ما بين المغول والبريطانيين. ليعيد تاريخ الغزاة نفسه كما هو وحشيا، مدمرا، مستغلا، مع بعض التجميل الطفيف . فكان يوم 9 نيسان/ أبريل 2003. ومثل كل احتلال، سبق الدخول الى بغداد عقود من التهيئة. ولكن بشكل تحديثي. فكانت خطة الطريق لاحتلال بغداد، سياسية ـ إعلامية، منسوجة بالاكاذيب وحصار اقتصادي انهك الناس وجعل أولوية التفكير محصورة بالحصول على الاولويات. ومثل الغزو الاول والثاني، تبرع عراقيون بمساعدة الغزاة. خلطوا بين التخلص من نظام عارضوه واحتلال الوطن. فشرعنوا الغزو وقتل الأهل واحتفلوا بسماع صراخ الضحايا واصفين اياه بانه موسيقى. وتطلب منهم اقناع الناس باحتلال بغداد، عاصمة العراق الأبي، ان يحتالوا حتى على انفسهم، مخاطبين الشعب بأن الاحتلال هو الطريق الوحيد الى الحرية، وديمقراطية المحتل هي النموذج الذي يجب ان يُحتذى إذا أرادوا أن يتجاوزوا تخلفهم ليكونوا حضاريين. فكان تهديم المباني ونهب المتاحف وحرق الوثائق.
وكانت الاعتقالات الجماعية. وكان التعذيب في أبو غريب والمساواة بين النساء والرجال اغتصابا. وكان استهداف المدنيين قتلا تسلية للمحتلين حين يشعرون بالضجر. وكان التقسيم الطائفي والعرقي، وصار صباح بغداد جثثا مرمية في الشوارع. وشُرعت ابواب الوطن لكل من يستبيح كرامه أهله، احتقارا واستهانة. والمواطن المنغمر بالخوف من الآخر. ولايزال مستخدمو الاحتلال يقتاتون، على أكذوبة تحرير العراقي من الخوف.
واذا كانت اعوام الاحتلال قد هدمت الكثير، الا انها لم تنجح وبعد مرور 18 عاما، في دفع العراق الى الاستسلام والقبول بالخضوع عنوانا للحياة. فبقي الغزاة غزاة والاحتلال احتلالا. ولم تنهر بغداد او تستسلم، لا «رسميا» ولا شعبيا. بل بقيت عزيزة النفس، مقاومة. أطلقت طلقتها الاولى برأس المحتل في اليوم الاول للاحتلال. وكان يوم 10 نيسان/ أبريل نقطة انطلاق المقاومة العراقية من بغداد الى بقية المدن. من الموصل وكربلاء والنجف الى الفلوجة. ضد قوات غزو بلغ عددها 147 ألف أمريكي و 15 ألف بريطاني، مدججين بأحدث الأسلحة والتقنيات العسكرية وتغطية اعلامية بملايين الدولارات. ولم تسقط بغداد.
هذه المدينة التي تصفها منظمات الرصد بأنها مركز حكومة من بين الأكثر فسادا في العالم، حيث يشرب سكانها، يوميا، مياه غير صالحة للشرب وناقلة للأمراض الخطيرة وحتى الموت. بغداد الموسومة بأنها الأكثر قذارة في العالم على الرغم من ثروة البلد الهائلة، بغداد التي يجوب الموت شوارعها متمثلا بميليشيات ومرتزقة ولصوص يتحكمون ببرلمان ينطق باسمهم. هذه البغداد لم تتوقف يوما عن اثارة دهشة العالم بمقاومتها للخنوع والانحناء امام الغزاة والمستبدين. تدهش العالم بنهوضها المرة تلو المرة. تنبع من بين أحجار شوارعها ودرابينها أزهار لاتقل نضارة عن زهور هيروشيما بعد رشها بالسلاح النووي الأمريكي.
ولم تسقط بغداد. رفعت رأسها عاليا، في قلبها النابض، في ساحة التحرير. عام 2011 وتلتها انتفاضة تشرين / أكتوبر في 2019. توسع قلب المدينة، سرت دماؤه في شرايين المدن فتكاثرت ساحات التحرير. من البصرة والناصرية الى الكوت وبابل. يقيم فيها مواطنون يطالبون بوطن ( هل سمعتم قبل هذا بمواطنين يطالبون بوطن؟). فبلغت تكلفة الوطن للسنة الواحدة 600 شهيد و مئات الآف الجرحى وآلاف المعاقين. ثم يأتي من يقول لك أن الاحتلال كان تحريرا أو تغييرا وان بغداد سقطت. أيمكن لـ«بغدادُ المحروسةُ بالاسمِ الأعظمِ: بغداد» كما يصفها سعدي يوسف، أن تسقط؟

كاتبة من العراق

 

 

تطبيق العدالة الانتقالية

أو الانتقائية في العراق؟

هيفاء زنكنة

 

 

للمرة الثانية، منذ الاحتلال في عام 2003، يبرز بعض الاهتمام التوثيقي بالعدالة الانتقالية بالعراق، من خلال اطلاق تقرير «العدالة الانتقالية في العراق الذاكرة وأفق المستقبل» من قبل منظمة أفق للتنمية البشرية ومؤسسة فريدريش ايربت الالمانية.
كانت المرة الاولى حين شرع المركز الدولي للعدالة الانتقالية، بنيويورك، بالعمل داخل العراق، مباشرة بعد الاحتلال. حيث قام باصدار اربعة تقارير، متوفرة باللغتين العربية والانكليزية، عن محاكمة الأنفال، والدجيل المحاكمة والخطأ، وأصوات عراقية: مواقف من العدالة الانتقالية وإعادة البناء الإجتماعي، وأرث مُر: دروس من عملية اجتثاث البعث في العراق 2004 – 2012. استند التقرير الاخير، إلى أبحاث ميدانية ومقابلات مع مسؤولين في الهيئة الوطنية العليا لاجتثاث البعث، مركزا على « عملية تطهير المؤسسات من أعضاء حزب البعث» وهي، حسب التقرير، أكبر وأشهر عملية عزل موظفين لأسباب سياسية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وتضمن دروسا مستقاة من دول اخرى عاشت تجربة العدالة الانتقالية بالاضافة الى توصيات اساسية لصانعي القرار لتلافي الأخطاء.
أكد المركز دائما بان فحوى عمله هو تقديم المشورة، خاصة في مجالات فحص أهلية الموظفين المسؤولين عن تنفيذ العدالة. فقد راقب المركز، مثلا، عملية اجتثاث البعث، مبينا عيوبها « مع التأكيد على أنه يجب تقييم الأفراد بناءً على الأعمال السابقة، وليس على أساس العضوية في الحزب». وبصدد الملاحقات القضائية، أثار المركز قضية التدخل السياسي والخلل الوظيفي أثناء المحاكمات. كما قدم ​​معلومات وتحليلات للمساعدة في تصميم وتنفيذ برامج جبر الضرر الفعالة بعد أن التقى موظفو المركز بأعضاء المجلس الأعلى لتعويض الضحايا لمناقشة طرق التعويض وصياغة التشريعات. وقد شجع المركز العراقيين المعنيين على التعرّف على تجارب البلدان الأخرى في عمليات البحث عن الحقيقة قبل اتخاذ أي قرار لإنشاء مثل هذه الآلية. وأوصى بزيادة مشاركة الضحايا ومنظمات المجتمع المدني في أية هيئة تهدف للبحث عن الحقيقة. ملخصا فكرة العدالة الانتقالية بأنها العمل على تحقيق العدالة، واظهار الحقيقة، وجبر الضرر، والعمل على عدم تكرار الممارسات المهينة وانتهاكات حقوق الإنسان مستقبلا.
فما هو الجديد الذي استدعى اصدار التقرير الأخير وما هي الإضافة الى تقارير المركز السابقة، التي كان يجب الاستفادة منها تجنبا للتكرار ولاستمرارية توثيق التجربة بجوانبها المتعددة ؟
لا اعتقد أن هناك إضافة جديدة في النصف الاول من التقرير، المكرس للتعريف بآليات العدالة الانتقالية في القانون الدولي وأمثلة لتجاربها في عدد من الدول. إلا أن هناك بعض الجوانب التي تم التطرق اليها للمرة الأولى في النصف الثاني من التقرير المسمى « تجربة العدالة الانتقالية في العراق في سياقها التاريخي والقانوني وآليات التطبيق وأثرها الاجتماعي» والذي كان الأصح تسميته «فشل تجربة العدالة الانتقالية في العراق» بناء على التفاصيل المذكورة فيه. وهو ما أكده استبيان، أنجزه مؤلفو التقرير، شارك فيه 200 شخص، معظمهم كما تدل الاجابات مسؤولو منظمات المجتمع المدني. عند سؤالهم عن الثقة بقدرة المنظومة القانونية والإجرائية المتعلقة بمسارات العدالة الانتقالية ومدى نجاعتها لمنع تكرار وقوع الانتهاكات التي اقرت من اجلها، أقر 70 بالمئة عن عدم اعتقادهم بذلك، ولم يؤيده سوى 3.5 بالمئة فقط.

غياب الإرادة السياسية الصادقة، وهيمنة روح الانتقام، والطائفية، والإفلات من العقاب، والأكثر من ذلك هو استشراء منظومة فساد مالي وسياسي وإداري، اختزلت تحقيق العدالة بدفع التعويضات فقط

من بين الأسباب التي أعاقت تنفيذ العدالة الانتقالية بالشكل السليم، حسب التقرير، أولا: مأسسة العملية والبلد تحت الاحتلال الانكلو – أمريكي «، المسيطرعلى سلطة القرار التنفيذي والتشريعي فيه، دون مشاورة مسبقة مع الشعب العراقي بل اقتصر عملها على التنسيق مع قوى المعارضة التي تغيرت موازين القوة لصالحها بعد إسقاط النظام السابق».
ثانيا: اقتصار المجال الزمني للانتهاكات على حقبة حكم حزب البعث 1968 – 2003، والتي تشكلت عليها أسس العدالة الانتقالية، ولا يزال كما هو رغم مرور 18 عاما على نهاية حكم البعث. يقترح مؤلفو التقرير، ان تشمل العدالة الانتقالية الانتهاكات منذ ثلاثينيات القرن الماضي « وأبرزها مذبحة سميل عام 1933 التي قامت بها الحكومة العراقية بحق أبناء الأقلية الآشورية. وتهجير يهود العراق عام 1950… ثم انتهاكات حقوق الإنسان بعد تغيير النظام 2003 – 2020، والتي تجسدت من خلال ضحايا الحرب الطائفية في العراق 2008 – 2006، يسبقها ضحايا عمليات الاحتلال ومابعد الاحتلال، ثم ضحايا الحركات المتطرفة ضد أبناء المناطق الغربية والجنوبية والوسطى.. وضحايا داعش». ويذكر التقرير أن الأقليات الدينية والقومية هي المتضرر الأكبر، بكل المستويات، وان مسلسل الانتهاكات الجسيمة مستمر وبأشكال مختلفة كما في تظاهرات تشرين الأول 2019 باعتبارها «واحدة من اهم ملامح انهيار منظومة حقوق الإنسان في العراق حيث قتل اكثر من 800 متظاهر، وجرح وإعاقة الآلاف منهم، بالإضافة الى خطف واختفاء المئات منهم.. ويبقى استهداف الناشطين مستمراً، دون اي كشف للحقيقة». ويضمن التقرير في مراجعته مسار التطبيق في إقليم كردستان قائمة انتهاكات ضمت ضحايا الاقتتال بين الحزبين الكرديين الرئيسيين وضحايا مجزرة بشتا شان من الشيوعيين.
إن توسيع حقب الانتهاكات، وهي مهمة ليست سهلة، تستدعي تقييم كيفية تطبيق العدالة الانتقالية لضحايا الحقبة الحالية الممتدة بلا تحديد زمني قانوني. مما يتطلب الإجابة على السؤال الاهم أولا، وهو هل ما تم العمل به هو عدالة انتقالية فعلا؟ تدل مراجعة عمل المؤسسات التي استحدثت وآليات التطبيق على ان العدالة الانتقالية تحولت ضمن التجربة العراقية الى عدالة انتقائية – انتقامية. تمركزت حول احتكار الحقيقة من قبل السلطة والجهات الرسمية وانتقائية « الضحايا» وكتم انفاس الحقيقة بما يسمى جبر الضرر، حيث أسست اللجان والمؤسسات بدون تشريع قانوني او مشاركة الشعب عبر منظمات المجتمع الاهلي والمدني او تشكيل لجان حقيقة بامكانها توثيق سردية الانتهاكات، من اعتقال وتعذيب وقتل، بشكل محايد بعيدا عن التضخيم والتخيل وروح الانتقام، لئلا يتم تكرارها مستقبلا.
ينتهي التقرير بقائمة تشخيص وتوصيات طويلة، توحي للقارئ بانها محاولة لضخ الحياة في تجربة أخفقت بقوة من ناحية تطبيق المفهوم الحقيقي للعدالة. وأسباب الاخفاق معروفة للجميع مهما كان نبل التعابير والمصطلحات المستخدمة. وهي غياب الإرادة السياسية الصادقة، وهيمنة روح الانتقام، والطائفية، والافلات من العقاب، والأكثر من ذلك هو استشراء منظومة فساد مالي وسياسي وإداري، اختزلت تحقيق العدالة بدفع التعويضات، فقط، ضمن سياسة منهجية لاستقطاب المؤيدين.
بينما يتطلب تطبيق العدالة الانتقالية، استقلال البلد، والارادة السياسية الصادقة وان تبنى العملية على مشاورة ومساهمة أبناء البلد، أنفسهم، في اتخاذ جميع الخطوات اللازمة لضمان حق الضحايا في معرفة الحقيقة، والعدالة، وجبر الضرر، وعدم التكرار، لضمان مصالحة ماضي العراق مع حاضره أملا بحماية مستقبله.

 

 

جائزة كتاب فلسطين

ومقاومة تزييف التاريخ

هيفاء زنكنة

 

لم تكن الهوة بين الشعوب العربية وحكوماتها أكبر وأعمق منها، مما نعيشه، حاليا، حول فلسطين. ففي الوقت الذي سارعت فيه حكومات عربية، الى إعلان التطبيع الرسمي مع الكيان الاستعماري العنصري، تزداد مقاومة الشعب الفلسطيني تجذرا، ونشاطات مناهضة التطبيع الشعبية العربية انتشارا، وحملات التضامن العالمي والانضمام الى حملة المقاطعة تزايدا حول العالم.
لم يعد تبرير استخذاء الحكومات وخضوعها لابتزاز وضغوط شرطي العالم من جهة وتبريرها بأنها تفعل ذلك من أجل « السلام» وانهاء « النزاع الفلسطيني الاسرائيلي» ، من جهة أخرى، ساري المفعول. كما انتهت صلاحية ادعائها بأنها تحقق ما يصبو اليه الجيل الفلسطيني والعربي الجديد. فيوم الأرض، مثلا، لايزال جزءا من الذاكرة التي يحاولون طمسها. وتنوعت مستويات المقاومة، بفضل مبادرات الجيل الجديد الذي يواصل نضال آبائه واجداده ، سواء كان داخل أو خارج فلسطين. يحملون شعلة المقاومة، بأشكالها وتنوعاتها، لوحدهم أو مع المتضامنين مع عدالة القضية الفلسطينية عالميا.
يركز عدد من المبادرات الفلسطينية العالمية على الجانب الثقافي لمقاومة الاحتلال، وأن تكون السردية الفلسطينية أداة حفظ الذاكرة ومواجهة عمليات التزوير. ولنقل الرواية الفلسطينية إلى أوسع جمهور ممكن أطلقت منظمة (ميدل إيست مونيتور) جائزة كتاب فلسطين عام 2011. احتفاء بإنجازات الكُتاب ، أينما كانوا، في الكتابة عن فلسطين ولتشجيع الناشرين على نشر الكتب المعنية بفلسطين ، كما يذكر د. داود عبد الله، رئيس المنظمة. واذا كانت فكرة الجائزة قد بدأت كفكرة بسيطة فانها نمت وتطورت خلال العشر سنوات، نتيجة العمل الدؤوب لفريق مؤمن بفلسطين وأهمية الكتب، وعلى رأسهم الصحافية الناشطة فكتوريا بريتن، والزميل د.ابراهيم درويش، وكان لي شرف الانضمام الى الكادر في العام الثاني للجائزة.
كيف نقيم عمل الجائزة بعد عشر سنوات على تأسيسها ؟ تمكنت الجائزة ، تدريجيا، من جذب انتباه دور النشر والجامعات والمؤلفين المستقلين، في ارجاء العالم ، حيث باتت تتقدم بكتبها الصادرة عن فلسطين ، المستوفية لشروط الجائزة الرئيسية بأن يكون الكتاب عن فلسطين وباللغة الانكليزية وتمت طباعته خلال العام السابق لمنح الجائزة. واذا كان عدد الكتب مقياسا للنجاح فتجدر الاشارة الى ان العام الاول شهد استلام 20 كتابا ووصل العدد في الاعوام الاخيرة الى خمسين كتابا، تغطي موضوعات واسعة، من السياسة والاقتصاد وحقوق الانسان الى القصة والرواية والشعر والمذكرات وكتب الأطفال والرسم والتصوير والطبخ. أما المؤلفون فانهم من جنسيات ودول مختلفة بالاضافة الى الجيل الجديد من الفلسطينيين داخل فلسطين بالاضافة الى المهجرين في ارجاء المعمورة. ما يجمعهم هو التزامهم المبدئي بحقوق الشعب الفلسطيني وايمانهم، ككتاب وأكاديميين وشعراء وفنانين، بمقاومة الاحتلال عن طريق نشر المعرفة عن فلسطين وشعبها وتحدي الصورة النمطية لمظلومية المُستَعمر، مع بقاء معيارها هو الأصالة والإبداع في البحث.

قضية الشعب الفلسطيني ليست قضية خلاف أو نزاع بل قضية مقاومة استعمار استيطاني عنصري

وقد تطورت الجائزة لتصبح حدثا سنويا له مكانته ، في الساحة الادبية البريطانية. حيث يتطلع الجمهور المهتم ، الى حضور الامسية المقامة عادة في اليوم السابق لاعلان الفائزين، بلندن، للاستماع ومناقشة مؤلفي الكتب المرشحة للقائمة القصيرة. وكان الاستثناء الوحيد لهذا التقليد، هو ما تم في نوفمبر، من العام الماضي، حيث نوقشت الكتب المرشحة وتم الإعلان عن الفائزين، بواسطة تطبيق زوم على الانترنت ، بسبب الحظر المفروض على الاجتماعات لانتشار كوفيد 19.
في تلك الامسية، كانت د. ريما خلف ضيفة الشرف. والمعروف ان د. ريما كانت قد استقالت من منصب وكيل الأمين العام والأمين التنفيذي للجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (الإسكوا) عام 2017، عندما رفضت سحب تقرير مؤثر عن معاناة الفلسطينيين تحت الحكم الإسرائيلي ؛ خلص التقرير إلى أدلة دامغة على أن إسرائيل أقامت نظام فصل عنصري يضطهد ويسيطر على الشعب الفلسطيني ككل ، وفي أي مكان يقطنه. وهي، حاليا، عضو مؤسس ورئيس «المنظمة العالمية لمناهضة التمييز العنصري والفصل العنصري»
لخصت د. ريما ، في كلمتها اثناء الأمسية، الأسباب التي جعلت الجائزة متميزة، ومن بينها «تركيزها على موضوع كان حتى وقت قريب تحت الحصار في معظم دول العالم الغربي. كانت محاولة نشر كتاب عن فلسطين هناك ، ولا سيما كتابًا ينتقد إسرائيل ، بالنسبة للكثيرين، مهمة محبطة، إن لم تكن غير مجدية».
وأعطت أمثلة تبين مدى خوف الناشرين في المملكة المتحدة من نشر كتب قد تسيء ، بنظرهم للصهيونية ، ويتعرضون جراء ذلك لمقاطعة منظمة لجميع كتبهم، حيث « اضطر المؤلف آلان هارت أن يؤسس شركته الخاصة لنشر الطبعة الأولى من كتابه: «الصهيونية: العدو الحقيقي لليهود». كما كانت ترجمة الكتاب إلى اللغة الإنكليزية صعبة بنفس القدر إذا تضمن أي شيء قد يبدو أنه يشوه صورة إسرائيل».
وقد تم ترتيب برنامج يمتد على مدى الشهور المقبلة على موقع المنظمة للاحتفال بمرور العشر سنوات. يضم البرنامج مقابلات مع مؤلفين حازوا على الجائزة وناشرين وشخصيات فلسطينية واجنبية ساهمت بدعم المشروع. بالاضافة الى انتاج فيديو يحكي قصة الجائزة. وسيصدر خلال العام كتاب يضم كلمات ضيوف الشرف بالاضافة الى لوحات فنية وقصائد مختارة.
ان استلام ما يقارب 400 كتاب عن فلسطين ( وهو ليس كل المنشور) على مدى عشر سنوات، دليل مادي على مدى الاهتمام المتزايد بفلسطين كقضية عادلة غير قابلة ، كما يدحض زيف دعاة التطبيع مع المحتل بحجة اقامة « السلام». فقضية الشعب الفلسطيني ليست قضية خلاف أو نزاع بل قضية مقاومة استعمار استيطاني عنصري، وما التطبيع غير تنفيذ المخطط الامبريالي من قبل حكومات عربية مستبدة.
والكتب المؤلفة عن فلسطين ، كأداة انتاج ثقافي معرفي وحفظ للذاكرة، سواء كانت ضمن القائمة المختصرة أم لا ، هي جزء من سيرورة النضال للوصول الى الحل الحقيقي وهو انهاء الاحتلال وتحقيق العدالة كمفهوم للعيش بكرامة ومساواة.
والدرس الأوسع من النجاح النسبي في تجربة جائزة كتاب فلسطين هو امكانية تغيير السردية التي تفرضها الهيمنة السياسية الاستعمارية والصهيونية في المجال الفكري والثقافي، عبر جهد مثابر، ومتواصل يشترك فيه الناشطون من جميع الثقافات. وهو أمر ينطبق على مقاومة تزييف تاريخ الحروب التي شنت تحت لافتة محاربة الإرهاب واهمها جريمة غزو وتدمير العراق، كما على تاريخ الكولونيالية في بلدان العالم الثالث عموما.

كاتبة من العراق

 

 

عن النصر والحرية بعد

18 عاما من غزو العراق

هيفاء زنكنة

 

«في معركة العراق، انتصرت الولايات المتحدة وحلفاؤنا». أعلن الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش من على متن حاملة طائرات، في الأول من مايو / أيار 2003، واقفاً مباشرة تحت لافتة، كُتب عليها « أنجزت المهمة». وكان قد دَشَن، قبلها، حملة « الصدمة والترويع» على العراق، في 19 آذار/ مارس. حينها أكد الرئيس بوش لشعبه والعالم «إن تحرير العراق تقدم حاسم في الحملة ضد الإرهاب. لقد أزلنا حليفًا للقاعدة، وقطعنا مصدر تمويل الإرهاب». مؤكدا « لن تحصل أي شبكة إرهابية على أسلحة دمار شامل من النظام العراقي، لأن النظام لم يعد موجودًا».
لم يدم النصر طويلا، حتى بمفهوم الادارة الأمريكية للنصر. فقد فككت أحداث الايام والسنوات التالية كل ما قامت أمريكا وبريطانيا، مع متعاونين عراقيين، بتصنيعه من أكاذيب لتسويق الحرب ضد العراق. وقد أظهرت كل المراجعات والوثائق وحتى شهادات المسؤولين المشاركين في «المهمة» عمق الخدعة التي استخدمت لصناعة الرضا حول حرب عدوانية ضد شعب قاسى من حصار لا إنساني على مدى 13 عاما. وتحول النصر الموعود، المزجج بألوان «التحرير» و«الديمقراطية» إلى مفرخة لإرهاب منظمات ودول على حساب تخريب بلد واستباحة حقوق وحياة مواطنيه. مما دفع هانز فون سبونيك، ممثل الأمين العام للامم المتحدة السابق، الى القول «لم يبق بند في ميثاق حقوق الإنسان لم ينتهك بالعراق بعد احتلاله». ودفعت كثرة الاعدامات نافي بيلاى، المفوضة السامية لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة، الى وصفه بأنه «مسلخ بشري».
يأخذنا حال العراق اليوم، ونحن نقف على عتبة مرور 18 عاما على «انجاز المهمة» الأمريكية ـ البريطانية، الى مستويات المقاومة التي واجه بها المواطنون قوات الاحتلال وما أسست له من مشاريع تقسيم طائفية وعرقية ونهب اقتصادي. حيث كانت المقاومة المسلحة، اولى مستويات النضال. فكانت الفلوجة رمزا أراد المحتل والمتعاونون المحليون ابادته بكل الطرق الممكنة. من القصف بأسلحة محرمة دوليا الى تشويه المقاومة وتهديم 70 بالمئة من المدينة. كان الثمن غاليا. ولم تتح للمقاومين فرصة الاحتفال بفعل المقاومة والاستبسال، اذ تمت سربلتهم، في حملة إعلامية مكثفة، محليا خاصة، بالإرهاب. التهمة الجاهزة التي لم يعد بامكان أي معارض يرفع صوته احتجاجا للدفاع عن نفسه ازائها. تدريجيا، تعمقت قدرة توليفة الحكم (الطائفية + الفساد) على كتم انفاس شعب، محكوم عليه بالمادة 4 مكافحة الإرهاب، وشهادة المخبر السري، والقضاء الفاسد، بعد تعريضه للتعذيب والاغتصاب الذي امتد الى الرجال كما النساء. الأمر الذي دفع منظمة العدالة الانتقالية الدولية الى كتابة تقرير خاص حول الموضوع، احتل فيه العراق مركز الصدارة.

جددت الانتفاضة الأمل بإمكانية التغيير الحقيقي وليس مجرد تدوير الوجوه والمناصب بشكل تزويقي، وكانت ستحقق أهدافها فعلا لولا انتشار الكوفيد وما صاحبه من حظر صحي. ومع ذلك، لم تنطفئ الشرارة

إعلاميا، لم يعد عراق اليوم موضوعا «مثيرا» تستثمره اجهزة الإعلام لجذب القراء. انه، على الاغلب، محاط بالصمت. واذا ما حدث وأشير اليه لارتباطه بحدث « مثير» كما في زيارة البابا الاخيرة، فانه يُصنف تحت الصورة النمطية المعتادة لبلدان العالم الثالث، من الشرق الاوسط وافريقيا الى امريكا اللاتينية. كواحد من بلدان لديها حكومة وطنية، منتخبة، وجيش وقوانين ودستور. أما مشاكله من فساد ورشوة واقتتال داخلي، فهي، أيضا، جزء من الثقافة السائدة في تلك البلدان. تتقبل فيها الشعوب، باستسلام قدري، قادتها غير الأخلاقيين والفاسدين الذين يمارسون السلطة من خلال المحسوبية.
بتقديم هذه الصورة، يُنفى واقع الاحتلال وجرائمه وما سببه من فتح الأبواب أمام التدخل الإيراني، ومأسسة ميليشيات يزيد عددها على الاربعين، وزرع بذرة الانتقام المتمثلة بالمنظمات الإرهابية. في ذات الوقت الذي تمكن فيه المحتل الأمريكي/ البريطاني من تغيير دوره من محتل الى متدخل بمهمة انسانية، لتقديم المساعدة والاستشارة والتدريب للحكومة «الديمقراطية» حديثة الولادة، مع التأكيد المستمر أن وجودهم، مهما كان شكله وحجمه، انما يتم بناء على دعوة الحكومة العراقية.
الا ان سياسة وصم المقاومة بالإرهاب التي نجحت، الى حد ما، في بعض المحافظات، وصورة الاستسلام القدري في محافظات اخرى، والتخويف من ( الآخر) أسقطتها انتفاضة تشرين/ اكتوبر 2019 ز فكانت صرخة «نريد وطنا» و « وكلا للاحتلال الأمريكي والإيراني» جماعية. وجاء رد فعل النظام والقوى التي يستقوي بها وحشيا. فعوقب المحتجون السلميون باستخدام قوات الأمن الذخيرة الحية ضدهم. وحين عادت المرأة الى ساحات التحرير لاستعادة دورها النضالي، جوبهت بالاختطاف والاعتقال والانتهاكات الجسدية. سلب النظام حياة 600 متظاهر وجرح الآلاف.
جددت الانتفاضة الأمل بإمكانية التغيير الحقيقي وليس مجرد تدوير الوجوه والمناصب بشكل تزويقي، وكانت ستحقق أهدافها فعلا لولا انتشار الكوفيد وما صاحبه من حظر صحي. ومع ذلك، لم تنطفئ الشرارة. بقيت متوقدة في مدن متعددة من بينها الناصرية (محافظة ذي قار) على الرغم من كل اساليب القمع والقتل وتصاعد ظاهرة الاختطاف والاختفاء القسري. حيث كشفت مفوضية حقوق الإنسان في العراق، في الاسبوع الماضي، عن تلقيها 8 آلاف بلاغ عن حالات اختفاء قسري للمواطنين خلال السنوات الأربع الأخيرة. وشهدت الايام الاخيرة تصاعد وتيرة التظاهرات في مدينة النجف، حيث بيت المرجع الشيعي الأعلى علي السيستاني الذي زاره البابا فرانسيس، يوم 6 مارس/ آذار. والمفارقة أن يؤكد المرجع للبابا «اهتمامه بأن يعيش المواطنون المسيحيون كسائر العراقيين في أمن وسلام وبكامل حقوقهم الدستورية» وهاهي القوات الأمنية تواصل عنفها المعتاد واطلاق قنابل الغاز والرصاص ضد المتظاهرين ومنع إسعاف المصابين منهم، على مقربة من بيته. فهل هذا ما يعنيه بتمتع سائر العراقيين بالامن والسلام والحقوق الدستورية؟
«الخائفون لا يستحقون الحرية» واحد من شعارات المنتفضين التي بقيت ترفرف عاليا في ساحة التحرير، ببغداد، وساحة الحبوبي في الناصرية، وهو شعار يعبر، في عمقه، عن روح مقاومة المحتل، المتمثلة بالفلوجة رمزا، والنضال ضد الطائفية والفساد، من اجل الحرية والكرامة والعدالة، في ارجاء العراق. وهي روح لاتزال تنبض بالتحدي وعدم الخضوع، على الرغم من مرور 18 عاما على محاولة دحرها.

كاتبة من العراق

 

 

نحن والغرب… النساء

لسن أخوات كما يقال لنا

هيفاء زنكنة

 

لم تحظ المرأة، في أرجاء العالم، على مدى قرون، بالاهتمام الإعلامي الذي حظيت به في الشهور الأخيرة، ولأسباب مختلفة. من بين أسباب هذا الاهتمام المتأخر نجاح المرأة في تحقيق انجاز مؤثر، في مجالها الذي تعمل فيه، وهناك ما يدل على انه سيؤدي الى تغيير حياة آخرين مستقبلا بالاضافة الى تأثيره الحالي، بالإضافة الى النجاح في تطبيق القوانين المشرعنة لحماية حقوق المرأة، وأولها حق الحياة، في بعض الدول.
هناك، ايضا، الاهتمام الإعلامي المرتبط بـ« نجومية» عدد من النساء، على مستوى كوني، وكونهن محط متابعة شعبية لأسباب فنية او تجارية، أو ضحية اعتداء أو جريمة تهز المجتمع أو تأسيس مشروع بحاجة الى التسويق الإعلامي التجاري من خلال تسويق نفسها. واذا كانت هذه الموضوعات لا تختلف كثيرا عما يحظى به الرجل، الا ان منبع الاختلاف هو التركيز والتكثيف الذي نالته، أخيرا، وساعدت مناسبة اليوم العالمي للمرأة في الثامن من الشهر الحالي، على زيادته، خاصة وقد أصبح اليوم، مثل عديد الايام المناسباتية، عابرا للحدود ويكاد يكون جسرا يوصل بين نساء العالم. أو هذا ما تحاول شعارات الاحتفالات التي تقيمها الحكومات والمنظمات الدولية والمحلية، ارتدائه للاحتفاء بـ « نخبة» من نساء يتم انتقائهن من قبلهم. ونادرا ما تكون عملية الاختيار واقعية بمعنى تمثيل غالبية النساء، بل تخضع لحسابات سياسية وإيديولوجية أو دينية. مما يؤدي الى اقصاء المبدعات والمؤثرات الحقيقيات، وتهميش أدوارهن، وطمس امكانية ان يصبحن نموذجا يحتذى من قبل الأخريات.
ويتبدى هذا بشكل واضح، أكثر من غيره، في بلداننا الخاضعة لأنظمة يعيش ساستها حالة انفصام الشخصية (شيزوفرينيا) أسمها « وجود المرأة». حيث يحبذون توقيع الاتفاقيات الدولية ذات العلاقة بحقوق المرأة كمواطنة، ويتباهون بها، ولا مانع لديهم من سن القوانين التي تدين وتعاقب مرتكبي العنف ضدها، الا انهم نادرا ما يعملون على تفعيلها، لتصبح القوانين مجرد بودرة مكياج لتجميل وجه قبيح. فهم بحاجة دائمة الى تبييض وجوههم أمام العالم الخارجي/ الغربي، والتصريح الدائم بانهم يعملون على تحقيق المساواة وردم هوة التمييز بين المرأة والرجل.
كشف الاهتمام الإعلامي المكثف، اخيرا، المستويات المتعددة للعنف ضد المرأة، من خلال مقارنة وضعها بين دولة وأخرى، ومدى التقدم الذي احرزته في الغرب، حتى على مستوى الاستخدام اللغوي للتعابير والمصطلحات، بالمقارنة مع بلداننا. مما يضيف الى شيزوفرينيا ساسة الانظمة لدينا، ازدواجية المعايير في الدول الغربية، والتلاعب الذكي بالقوانين والاتفاقيات الدولية.
فالعنف الذي يستهدف امرأة واحدة في الغرب، مهما كانت درجته، يطرح للنقاش العام، والمساءلة، ومحاسبة مرتكبه، واحتمال اجراء تغيير لصالح المرأة ضمن القوانين المرعية. فجريمة قتل الشابة البريطانية سارة إيفرارد، وهي في طريق عودتها الى دارها بلندن، صار حدثا شغل المسؤولين والقانونيين والمنظمات النسائية حول حرية المرأة في الأماكن العامة وكيفية حماية حقها هذا. كما أثار ظهور الممثلة الأمريكية ميغان، زوجة الامير هاري، في مقابلة تلفزيونية، أشارت فيها ألمها، اثناء حملها، حين سأل احد اعضاء عائلة زوجها، عن لون بشرة ابنها، ضجة كبيرة حول العنصرية داخل العائلة المالكة والمجتمع عموما، باستقطاب لم تشهده بريطانيا من قبل، مع تدخل سياسي وشعبي أمريكي، فاكتسب الحدث الشخصي، بعدا تجاوز الخاص الى العام، بسبب نجومية ميغان وانتماء الزوج الطبقي والتسويق الإعلامي المثير للمقابلة.

إن العمل المشترك، بكل السبل الممكنة، لترسيخ حق المواطنة في بلد حر ومستقل، هو المسار الذي سيُنّمي ثقافة مجتمعية تعيد تنظيم العلاقات بين مواطني البلد الواحد وتمتد للتواصل مع بقية البشر، على قدم المساواة

في ذات الوقت، تمر معاناة ملايين النساء في بلداننا، كحاشية في مقالة قلما يقرأها أحد. حيث تعيش المرأة أوضاعا وانتهاكات مرعبة في معسكرات تضم ملايين النازحين. أرقام واحصائيات من الصعب جدا استيعابها. اربعة ملايين ونصف المليون نازح ومهجر سوري في معسكرات ببلدان مختلفة. ووصل الاحساس بالخوف وعدم الأمان والفقر المدقع بالعوائل العراقية النازحة، منذ سنوات، في المخيمات الى توسل العوائل البقاء في المخيمات. فما بدأ مؤقتا صار دائميا في بلد يعتبر من الدول الغنية بالعالم. وتعيش المرأة اليمنية لحظات احتضار ابنائها بسبب سوء التغذية بينما تقف مع بقية النساء في طوابير طويلة، بانتظار استلام «المساعدات الإنسانية» من بلدان يقوم معظمها ببيع السلاح لتغذية الحرب في ذات البلد. فأي مستقبل تحمله الايام المقبلة لأبناء هذه العوائل سواء كانوا اناثا أو ذكورا، في ظل مفارقة مبكية يصبح فيها الموت، جوعا وقصفا، هو من يحقق المساواة بين الجنسين؟
كيف يمكن للمرأة، في بلداننا، تحقيق ما تصبو اليه من كرامة وعدالة وحرية؟ وكيف تتمكن من تحسين وضعها وهي تواجه زيف ادعاءات الأنظمة القمعية بتحقيق المساواة بالتعاون مع نساء يدرن منظمات «نسوية» وورشات تنتهي، غالبا، بتخريج نساء، يحفظن ويكررن عن ظهر قلب شعارات جاهزة عن « تمكين المرأة» و« تعزيز مشاركة المرأة في القيادة وعملية صنع القرار» و«الديمقراطية والنوع الاجتماعي» بينما لايتم التطرق الى الأسباب الحقيقية لتدهور وضع المرأة، على كافة المستويات، كما نرى في وضع المرأة العراقية، بسبب الاحتلال وانعكاساته وتنصيب حكومات فاسدة يجمع افرادها ما بين التخلف الديني والمجتمعي واحتقار المواطنين بلا استثناء؟
لقد أثبتت لنا سنوات الاحتلال الصهيوني لفلسطين والاحتلال الانكلو أمريكي للعراق، مثلا، ان تجزئة القضايا يساعد على تجذير الاختلاف، بشكل مَرَضي، وتمديد بقاء الاحتلال ولكن تحت مسميات جديدة. وان هذه التجزئة لا ترتقي بالعلاقات الانسانية بل تبين ان مفهوم نضال المرأة ليس واحدا، وان النساء لسن « أخوات» كما يقال لنا.
مما يجعل جوهر الحل هو الإيمان بان قضية المرأة هي قضية الرجل. وليس كافيا جلب امرأة للجلوس على منصة الخطب بين عشرة رجال يحتكرون الحديث عن السياسة والاقتصاد والسيادة، تاركين مساهمة زميلتهم على المنصة « عن المرأة» فقط وليس عن السياسة والاقتصاد والسيادة، وكانها امور لا تعنيها. الأمر الذي يدفعها، فورا، خارج خريطة الحياة العامة التي يرون أنفسهم معماريها. بينما المطلوب ان تكون حاضرة ومساهمة فاعلة في كل الجوانب، وجنبا الى جنب مع الرجل الذي هو نفسه بحاجة الى التحرير. إن العمل المشترك، بكل السبل الممكنة، لترسيخ حق المواطنة في بلد حر ومستقل، هو المسار الذي سيُنّمي ثقافة مجتمعية تعيد تنظيم العلاقات بين مواطني البلد الواحد وتمتد للتواصل مع بقية البشر، على قدم المساواة.

كاتبة من العراق

 

كانت زيارة البابا

إلى العراق تاريخية فعلا؟

هيفاء زنكنة

«جئت، رأيت، انتصرت». هل لهذه العبارة الشائعة باللغة اللاتينية، المنسوبة إلى يوليوس قيصر، وكان قد استخدمها في رسالة إلى مجلس الشيوخ الروماني، عام 47 قبل الميلاد، لابلاغهم عن انتصاره السريع ضد عدوه، علاقة بزيارة البابا فرانسيس، بابا الفاتيكان، الى العراق في 5 مارس/ آذار، والانتصار هنا بمعنى تحقيق هدف ما، أم ان الاقتباس الاصح هو «جئت. رأيت. غادرت» ولم يتحقق شيء؟ وهل كانت الزيارة، كما وصفت من قبل آلاف المواقع واجهزة الإعلام والناطقين الرسميين، في جميع انحاء العالم، بأنها «حدث تاريخي» فعلا؟
ان وصف حدث ما بأنه «تاريخي» يعني بأنه حدث مهم للمستقبل، أو من المحتمل أن يكون مهما، مستقبلا، أي أنه يؤدي إلى تغيير كبير، على مدى فترات زمنية طويلة، لأعداد كبيرة من الناس. بهذا المعنى، يمكن القول إن الحرب العالمية الثانية هي حدث تاريخي كما هو الغزو الانكلو أمريكي للعراق. حيث تعتمد تاريخية الحدث على ربطه بتغيرات تتكشف بسردية أكبر من «اهميته» في اللحظة الآنية، ولا تعتمد على المنظور الشخصي أو لاستيفائه الغرض منه في الوقت الراهن. فالتاريخ، كما هو معروف، ليس سلسلة من احداث بل استمرارية وتغيير. من هنا، سيكون مدى التغيير، بمقياس التقدم والتراجع، الذي ستؤدي اليه زيارة البابا فرانسيس هو المحك الحقيقي لتاريخية الحدث. لا ان يلتقي بالمرجع الديني السيستاني، وان كان يحظى بالاحترام والتقدير، أو يزور موقعا أثريا لاداء صلاة جماعية، مع عدد من رجال الدين العراقيين والتقاط الصور معهم، والقاء الخطب، واطلاق التصريحات عن «السلام والوحدة والتآخي والتسامح بين جميع مكونات الطيف العراقي الملون والجميل».
كما ان علاقة الحدث بالإعلام وتغطيته، مهما كانت مكثفة، وصبه قطرة قطرة، تدريجيا، في دماغ الجمهور، لا يعني انه حدث تاريخي. فمقابلة لزوجين ميغان ماركل والأمير هاري مع الإعلامية الأمريكية أوبرا وينفري استقطبت ملايين الناس من جميع انحاء العالم لأن التسويق الناجح وبشكل مقتطفات يومية وبمهارة في صياغة وكيفية تقديم الحبكة جعلت المقابلة «حدثا» يترقبه الكثيرون لكنه ليس حدثا تاريخيا. فالحدث التاريخي هو ما سيغير حياة الناس في المدى البعيد وبعد غربلته من البهرجة والتلوينات المزركشة وكثير منها نفسي وذكي إعلاميا. فاضراب العمال، في منطقة نائية بالهند، مطالبين بحقوقهم، لا اهمية له جماهيريا ما لم يغط إعلاميا بطريقة توصله الى بقية الناس، كما تقول الكاتبة والناشطة الهندية أرونداتي راي.
بعيدا عن البهرجة الإعلامية المبتذلة التي استهلها النظام العراقي بسير البابا ورئيس الوزراء مصطفى الكاظمي بين صفين من رجال البادية الذين أشهروا سيوفهم عاليا في الهواء، برمزية مقلقة، أقرب ما تكون الى وحشية داعش، لم يلتق البابا الا بقلة من الناس العاديين، وان كان قد خاطب الكل قبل مجيئه، قائلا «لقد فكرت فيكم كثيرا منذ عدة سنين» إذ كان محاطا، طوال الوقت، بفرق الحماية والساسة الفاسدين. ساسة جعلوا من مقايضة الوطن والشعب، عملة لبقائهم الطائفي والعرقي، وادخلوا بتعاونهم مع قوى الاحتلال الارهاب، بابشع صوره، ضد كل المواطنين، وأولهم الأقليات، ثم وقفوا يتباكون استجداء للدعم المادي الدولي لانقاذ البلد المهدد بالارهاب، من جهة، ويتشدقون بالسلام والمحبة من جهة أخرى.

أما مدى «تاريخية» الزيارة فلنترك الحكم عليها للشهورالمقبلة، أن ترينا فيما لو نجح البابا في إحداث تغيير في حياة من أعلن حبه لهم

«لتصمت الأسلحة! ولنضع حدا لانتشارها هنا وفي كل مكان! ولتتوقف المصالح الخاصة، المصالح الخارجية التي لا تهتم بالسكان المحليين. ولنستمع لمن يبني ويصنع السلام!» قال البابا. لعله أراد بذلك انقاذ حياة البقية الباقية من المسيحيين الذين تراجع عددهم من مليون ونصف قبل الاحتلال عام 2003 إلى 400 ألف أو أقل من ذلك اليوم (لأن العراق بدون تعداد سكاني منذ ربع قرن) واقناعهم بالبقاء في بلد هو بلدهم. وهو خيار صعب جدا اذا ما ادركنا حجم التهديد والخطر الذي يتعرضون له، يوميا، من كل الجهات الهادفة الى تفتيت العراق، خاصة مع عدم وجود ما يشير إلى أي تغيير ايجابي، ولو بشكل الارتفاع درجة واحدة من الحضيض الذي انحدر اليه البلد جراء الاحتلال والفساد والطائفية والميليشيات المسلحة.
في كلمته المذاعة قبل وصوله العراق، قال البابا ان هدف زيارته هو «لكي التمس من الرب المغفرة. والمصالحة بعد سنين الحرب والإرهاب. ولاسال الله عزاء القلوب وشفاء الجراح». وهي أهداف انسانية فعلا لولا أنه كان بالامكان تحقيقها وهو موجود في دولة الفاتيكان بدون ان يتكلف، وهو المسن، عناء السفر، ويعرض حياة الآخرين لخطر الوباء المنتشر في بلد يعيش خراب الاحتلال والفساد المنعكس على خدماته الصحية المنهارة. كان بامكانه الاطلاع على حجم الظلم الذي يعيشه العراق وأهله منذ عام 2003 وان يطلع، في آلاف التقارير الحقوقية المحلية والدولية، بضمنها تقارير الأمم المتحدة، على المسؤول الحقيقي عن الانتهاكات والجرائم التي استهدفت المسيحيين والإيزيديين وكل من يرفع صوته احتجاجا، وآخرها حملة التهديد والاختطاف والقتل العلني للمتظاهرين السلميين. صحيح انه أشار الى ضرورة «التصدي لآفة الفساد» و«سوء استعمال السلطة» ولكن هذا هو بالضبط ما يكرره الساسة اللصوص. وكما كتب احد المعلقين على الفيسبوك: « لسنا بحاجة لأن يخبرنا البابا بذلك. بارك الله فيه».
إلا ان البابا نفذ مهمة ما كان بامكانه تنفيذها عن مبعدة وهي زيارة المرجع الديني الشيعي علي السيستاني في داره، بالنجف. وفي الوقت الذي لم يكف فيه البابا عن الصلاة والقاء الخطب طوال ايام زيارته، وبضمنها رأيه باللقاء، اطلعنا على رأي السيستاني من خلال بيان أصدره مكتبه. وهو أمر معهود اذ لم يُسمع السيستاني يوما وهو يخطب او ينطق او يتواصل حتى مع أتباعه. جاء في البيان ان سماحة السيد تحدث عن معاناة « شعوب منطقتنا… ولا سيما الشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلة». وبصدد معاناة المسيحيين «أكّد اهتمامه بأن يعيش المواطنون المسيحيون كسائر العراقيين في أمن وسلام وبكامل حقوقهم الدستورية». وكما نعلم أن هناك فرقا كبيرا بين «الاهتمام» و«التنفيذ».
اختتم البابا زيارته بالتجول في مدينة الموصل المهدمة ووقف متأملا بحزن الخراب الذي ألحقه تنظيم داعش باحدى الكنائس القديمة، كما التقى بعدد من اهل الضحايا الإيزيديين والمسيحيين والكرد. ولا ندري إن كان أحدا ما قد اخبره عن الخراب والموت الذي سببه القصف الأمريكي للموصل. ولعله اختار أن يتجاهل توقيت زيارته المصادف في الأيام السابقة لشن الحرب العدوانية ضد العراق التي سببت قتل مليون شخص.
أما مدى «تاريخية» الزيارة فلنترك الحكم عليها للشهورالمقبلة، أن ترينا فيما لو نجح البابا في إحداث تغيير في حياة من أعلن حبه لهم أو أن زيارته لا تزيد عن كونها « جئت. رأيت. غادرت».

كاتبة من العراق

 

 

هل مظاهرات العراقيين

ضد إيران أو أمريكا؟

هيفاء زنكنة

 

تحمل أيام هذا الشهر، حدثا كارثيا تحاول الذاكرة، عبثا، مسحه. إنه الشهر الذي ارتفعت فيه حمى التهيئة وتقديم «الأدلة» المبررة لغزو العراق، ومن ثم غزوه واحتلاله، من قبل امريكا وبريطانيا، بمساعدة «معارضين» عراقيين.
نلاحظ هذه الايام، انحسار تحميل البلدين مسؤولية التخريب الذي حل بالبلد والقائها، من قبل ساسة ومتظاهرين وبشكل كلي على إيران، التي لا ينكر أحد دورها التخريبي المتبدئ بأحزاب وعصائب وميليشيات ارهابية. الا أن محاولة فهم الخراب الاقتصادي والسياسي والمجتمعي لن تكتمل ما لم نعد خطوات الى الوراء لتعقب بداية المسار ومسؤولية امريكا وبريطانيا في الوضع المأساوي الحالي.
تم خلال شهر آذار/ مارس 2003، تسريع الترويج لكذبة، وتضخيمها بشكل مذهل ومبتذل في آن واحد، عن خطر عراقي يدعى أسلحة الدمار الشامل. أسلحة قيل ان بامكانها محو الشعب الأمريكي من على وجه الارض خلال ايام، وبامكانها استهداف الشعب البريطاني بيولوجيًا أو كيماويًا خلال 45 دقيقة، حسب رئيس الوزراء البريطاني توني بلير. كذبة تلقفتها الادارة الأمريكية، وقدمها الرئيس جورج بوش في عديد الخطب والتصريحات. « النظام العراقي يمتلك أسلحة بيولوجية وكيميائية، ويعيد بناء المنشآت لصنع المزيد، ووفقًا للحكومة البريطانية، يمكن أن يشن هجومًا بيولوجيًا أو كيميائيًا في أقل من 45 دقيقة بعد إصدار الأمر «، كرر بوش ما قاله بلير ثم أعاد المسؤولون في أمريكا وبريطانيا تدوير الأكذوبة. « ليس هناك شك في أن صدام حسين يمتلك الآن أسلحة دمار شامل. ليس هناك شك في أنه يحشدها لاستخدامها ضد أصدقائنا… وضدنا «، قال ديك تشيني، نائب الرئيس الأمريكي. الخيار الوحيد هو الحرب « لإظهار أننا سوف ندافع عن ما نعرف أنه على حق، لإظهار أننا سنواجه أنظمة الاستبداد والديكتاتوريات والإرهابيين الذين يعرضون أسلوب حياتنا للخطر»، صرح توني بلير.
مع ازدياد قرع طبول الحرب، انتشر الخوف من الآخر، من العراق، ومن اسلحته المبيدة للحياة. تعميم دفع وزارة الداخلية الى ان تنصح الأمريكيين بتخزين الأغطية البلاستيكية والأشرطة اللاصقة لحماية أنفسهم من الهجوم الإشعاعي أو البيولوجي المتوقع. بهذه الطريقة الدعائية الإعلامية تم تجريد عموم العراقيين، وليس صدام حسين لوحده كما يدّعون، من انسانيتهم. لم يعد العراقي إنسانا يستحق الحياة بل إرهابيا يستحق الموت وبأي طريقة ممكنة حتى اذا خرقت القانون الدولي والإنساني، وحتى اذا أدى الى « التمرد ضد الولايات المتحدة و زيادة التعاطف الشعبي مع الحركات الإرهابية» كما حذر مجلس الاستخبارات القومي بوش في يناير 2003. ويشير سجل الاجتماع بين بوش وبلير في 31 يناير/ كانون الثاني 2003، أن بوش كان يعتزم غزو العراق حتى لو لم يعثر مفتشو الأمم المتحدة على دليل يثبت وجود أسلحة دمار شامل. بل كان مستعدا حسب قوله لتوني بلير أن يرسل « طائرات استطلاع يو 2، للتحليق فوق العراق وهي مطلية بألوان الأمم المتحدة لإغراء القوات العراقية بإطلاق النار عليها، الأمر الذي من شأنه أن يشكل خرقا لقرارات الأمم المتحدة» وبالتالي يدفع الأمم المتحدة الى اصدار قرار يشرعن الحرب العدوانية ضد العراق.

لم يعد العراقي إنسانا يستحق الحياة بل إرهابيا يستحق الموت وبأي طريقة ممكنة حتى إذا خرقت القانون الدولي والإنساني

اعلاميا، استفادت الادارة الأمريكية والحكومة البريطانية، من «المعارضة العراقية»، خاصة في مرحلة الترويج للحرب. وهل هناك ما هو أكثر نجاحا في التسويق من استخدام عراقيين يدعون الى « تحرير» العراق؟ وكان الكونغرس الأمريكي قد ضاعف تمويل جماعات المعارضة إلى أكثر من 25 مليون دولار في عام 2000. تم تخصيص 18 مليون دولار منها للمؤتمر الوطني العراقي الذي يتزعمه أحمد الجلبي، فقام الجلبي بتأسيس صحيفة «المؤتمر» وتوظيف مجموعة من الكتاب والشعراء الذين وجدوا أنفسهم في توجه «ليبرالي» يدعو الى بناء « الديمقراطية» ولو عن طريق شن الحرب والاحتلال. وكان الشخص الاقرب الى الجلبي والاكثر نشاطا في دعم الغزو الأمريكي هو كنعان مكية، الاستاذ الجامعي المقيم بامريكا، الذي رأى في الجلبي قائدا « مختلفا عن السياسيين العرب. لم يكن لديه أية مشكلة حول التعامل مع إسرائيل، والمسألة العربية الإسرائيلية، كما لم يكن لديه أي عظم قومي عربي في جسده». ومكية، كما هو معروف، الشخص الذي أخبر الرئيس بوش، قبل شهرين من بدء الحرب، في اجتماع في البيت الأبيض، أن العراقيين سيرحبون بقوات الغزو الأمريكي بـ «الحلوى والزهور». في مكية وجد الغزاة ضآلتهم. «أعتقد حقًا أنه سيتم الترحيب بنا كمحررين» كرر تشيني. «ما من شك أننا سنكون موضع ترحيب» قال وزير الدفاع رامسفيلد.
لم تكتف الادارة الأمريكية باستخدام المعارضة واستضافة « نسويات» عراقيات لالتقاط الصور مع بوش وكوندليزا رايس وباقي طاقم المحافظين الجدد، وهن يتحدثن عن أملهن بالتحرير، بل سبقت ذلك حملة قصف مكثفة وطلعات جوية بلغ عددها حوالي 22 ألف طلعة وقصف 349 موقعا. عاش الشعب العراقي خلالها يوميات خوف ورعب وحصار. مخاوف ناس عاديين وثقتها الفنانة الراحلة نهى الراضي، في كتابها الرائع « يوميات بغدادية».
في خطابه المشهور أمام الأمم المتحدة، الذي قدم فيه « أدلة» تثبت امتلاك العراق اسلحة الدمار الشامل، قال وزير الخارجية كولن باول: «كل تصريح أدلي به اليوم مدعوم بمصادر، مصادر قوية. هذه ليست تأكيدات. ما نقدمه لك هو حقائق واستنتاجات تستند إلى معلومات استخبارية قوية «. تبين، بعد الغزو، ان مصدر الحقائق التي استندت اليها أمريكا في غزوها العراق، هو مهندس عراقي لاجئ في المانيا، يدعى رافد أحمد علوان الجنابي. اعترف في 15 فبراير 2011، لصحيفة الغارديان، إنه لفّق حكايات عن شاحنات أسلحة بيولوجية متحركة ومصانع سرية بعد استنطاقه من قبل المخابرات الالمانية والبريطانية. واضاف «لقد منحوني هذه الفرصة. سنحت لي الفرصة لابتكار شيء لاسقاط النظام. كانوا يعلمون انني كاذب منذ منتصف 2000 ».
إن مراجعة سيرورة صناعة الاكاذيب التي أدت الى تخريب البلد، وقتل ما يزيد على المليون مواطن، اما بشكل مباشر أو غير مباشر، وانعكاسات الخراب على البنية الاجتماعية، وفتح الأبواب امام ارهاب الدول والمنظمات، يؤكد مسؤولية الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا والمتعاونين معهما من العراقيين أولا، ومن الضروري التذكير بذلك لئلا ننسى، ولكي تقودنا الاحتجاجات والاعتصامات، بتكلفتها البشرية العالية، الى الاستقلال الحقيقي وليس التدمير الذاتي الناتج عن تفتيت الأدوار.

كاتبة من العراق

 

 

المعلن والمستور في تقرير

بلاسخارت عن العراق

 

هيفاء زنكنة

 

ما هو الانطباع الذي يتركه الاصغاء أو قراءة تقرير يطرحه مسؤول أممي امام مجلس الأمن الدولي وهو مشحون بالعبارات التالية: «وكما سمعتموني أؤكد من قبل. واليوم، لا يسعني إلا أن أكرر ما قلته. وكما قلت سابقا. وأقول مرة أخرى»؟
هذا ما كررته السيدة جنين بلاسخارت، رئيسة بعثة الأمم المتحدة في العراق ( اليونامي) مرارا، في تقريرها أمام مجلس الأمن، في 18 شباط / فبراير، الذي تناولت فيه « ما يأمل العراقيون تحققه عام 2021، في عديد الجبهات وأهمها الانتخابات والإصلاح الاقتصادي وتعزيز سيادة القانون وتوفير بيئة أكثر أمناً للجميع» حسب تعبيرها. والمعروف أن السيدة بلاسخارت حظيت منذ تعيينها، بالعراق، بضجة، لم تثرها أمرأة أخرى تحتل منصبا رسميا فيه. فأخبارها، بما فيها صور من تلتقي بهم وتفاصيل تصريحاتها وحتى ما ترتديه، نظرا للظرف العام المحيط بعملها وتوقعات الناس منه، محط اهتمام، يمنحها، ظاهريا، سلطة أكبر بكثير من صلاحياتها وطبيعة موقعها.
وفي ظل أجواء الاحباط العام وكثرة التقارير، غير المجدية، المستهلكة للورق، والتصريحات « التوافقية» للأمم المتحدة، باتت بلاسخارت الوجه الذي تركزت عليه النقمة، والتعليقات الغاضبة، والساخرة، وحملات المطالبة بطردها، خاصة على مواقع التواصل الاجتماعي، حتى نكاد ننسى بأنها ممثلة منظمة لا يمكن ان تمارس عملها، ما لم تحصل على موافقة الحكومات والدول التي تفتح مكاتبها فيها، وان تقاريرها وتصريحاتها محكومة باحتمال سحب الموافقة او حتى المحاربة اذا ما تجاوزت حدودها. فاليونامي، مثلا، تأسست اثر الاحتلال، عام 2003، بناء على طلب حكومة العراق. وأنها لا تملك صلاحية تنفيذ القرارات بل يقتصر عملها على تقديم المشورة والمساعدة في مجالات شاملة، بالإضافة الى العمل مع الشركاء الحكوميين والمجتمع المدني لتنسيق الجهود الإنسانية والإنمائية لوكالات الأمم المتحدة وصناديقها وبرامجها.
ضمن هذه الهيكلية، استهلت بلاسخارت تقريرها بتقديم صورة عن الجانب الاقتصادي. فأشارت الى تخفيض قيمة الدينار العراقي بما يزيد عن 20 بالمئة في نهاية العام الماضي، وتزامنه مع ارتفاع 40 بالمئة من عوائد النفط، مما أدى إلى التخفيف من أزمة السيولة، وتوفير متنفس للحكومة، للمضي قدماً فيما اعتبرته قضايا ملحة مثل تقديم الخدمات العامة ورواتب الموظفين الحكوميين. الجانب الثاني الذي تناولته، هو عدم اقرار قانون ميزانية العام الحالي حتى الآن، منتقلة بعده إلى الموعد الجديد للانتخابات العامة وهو العاشر من تشرين الأول/ اكتوبر 2021، واصدار البرلمان التشريع اللازم لتمويل الانتخابات، وبداية تسجيل المرشحين والتحالفات، وتحديثات سجلات الناخبين. وحثت المجلس على الموافقة على طلب الحكومة العراقية بخصوص المراقبة الانتخابية لأهميته البالغة. وكما هو متوقع، أكدت أن منظمة الدولة الاسلامية «داعش» لاتزال نشطة في البلاد مما يقتضي استمرار الدعم ضد الإرهاب. عن الوضع الانساني للاجئين، بينت بلاسخارت ان الحكومة جددت جهودها لإغلاق مخيمات النازحين العراقيين- العديد منهم نساء وأطفال.

لا يمكن الخروج من الوضع المأساوي المتدهور أكثر فأكثر بدون ايجاد الحل لها، من بينها وجود الميليشيات وارتكابها الجرائم بلا مساءلة وإرهابها المواطنين وسيطرتها على مقدّرات الدولة

قد تبين قراءة الخطوط العامة للتقرير أن بلاسخارت تستحق، فعلا، حملة التسقيط التي تشن ضدها الا ان القراءة المتأنية تشير الى انها استخدمت لهجة، كشفت فيها مدى تدهور الوضع في العراق، بكافة الجوانب التي تناولتها، وان حاولت عدم تجاوز الحدود المرسومة لعمل منظمة الأمم المتحدة. حيث أبدت أسفها لعدم تنفيذ تدابير الاصلاح الاقتصادي وذلك لعدم مصاحبته « المعركة ضد الفساد الاقتصادي والسياسي وتعزيز الحوكمة القوية والشفافية والمساءلة». وعادت لابداء الاسف ازاء « الحقيقة المُرة» بأن التوصل إلى اتفاق نهائي ودائم بين العراق الاتحادي وإقليم كردستان بشأن المسائل المتعلقة بالميزانية وقضايا أخرى أكبر، لا يزال أمراً بعيد المنال. وان المفاوضات « تتسم بطابع سياسي متأصل وتعكس استفحالاً للهواجس وانعدام الثقة». وباختصار شديد « أن الوضع الراهن مخيب للآمال بشكل خاص» وينعكس على استقرار البلد بكامله.
ولم يتوقف احساس بلاسخارت بالأسف عند هذا الحد بل امتد ليشمل قرار الحكومة باغلاق مخيمات النازحين وعدم الاصغاء لتوصيات البعثة بتوفير تدابير آمنة وكريمة لحل مشكلة النزوح بدلا من التسرع والتعتيم، مما أدى الى نتائج كارثية، مثل النزوح الثانوي أو عودة الناس إلى مناطق تفتقر إلى المأوى والخدمات الأساسية. كما ذكّرت بأن هناك ما يقرب من 30 ألف عراقي يقيمون في مخيم «الهول» بسوريا، بمن في ذلك عراقيون لا ينتمون لتنظيم داعش، وعلى العراق مسؤولية استعادة مواطنيه، ابتداءً بالحالات الإنسانية. «وأقول مرة أخرى: يتوجب التعامل على نحو عاجل، وبلا مزيد من التأخير، مع الحالات الإنسانية لمن لا ينتمون لتنظيم داعش».
وقدمت، عند تطرقها الى ما يتعرض له المتظاهرون من قمع، معنى الديمقراطية الغائب في البلد، قائلة : « اسمحوا لي أن أعلن بوضوح أن القمع وانتهاكات الحريات الأساسية – بما في ذلك حرية التعبير والتجمع السلمي – والاختفاء القسري والقتل المستهدف، كل ذلك لا مكان له في الديمقراطية. ولسوء الحظ، لا تزال الشفافية والعدالة والمساءلة غائبة إلى حد كبير – لا سيما عندما يتعلق الأمر بقمع الاحتجاجات الشعبية في جميع أنحاء العراق، بما في ذلك في إقليم كردستان» محذرة بأن الغضب العارم سيندلع مرة أخرى عاجلاً أم آجلاً، إذا لم يتغير الوضع. واختتمت بلاسخارت تقريرها بالتأكيد على اهمية الانتخابات المقبلة وأملها في ان» تكون الانتخابات موضع ثقة، وأن تحل المساءلة محل الترهيب، وأن تسود الشفافية، وألا يكون الولاء معروضا للبيع».
لقد تناولت بلاسخارت، كما أشارت في بداية تقريرها، جوانب عدة من الوضع العراقي، الا أنها تفادت طرح مسائل مهمة جدا، لا يمكن الخروج من الوضع المأساوي المتدهور أكثر فأكثر بدون ايجاد الحل لها، من بينها وجود الميليشيات وارتكابها الجرائم بلا مساءلة وإرهابها المواطنين وسيطرتها على مقدّرات الدولة. كما لم تشر الى التدخلات الخارجية، خاصة الإيرانية والتركية، الا بجملة غامضة، مفادها « يواصل القادة العراقيون الحفاظ على علاقات مفتوحة خدمة للسياسة الخارجية التي تؤكد على سيادة العراق»؟ في الوقت الذي قدمت فيه الانتخابات كما لو كانت الأمل المرجو بدون التطرق الى ان الميليشيات المهيمنة بأحزابها الحاكمة هي ذاتها التي ستخوض الانتخابات، وهي ذاتها التي قدمت لها بلاسخارت توصياتها سابقا، ولم يؤخذ بها اطلاقا. ولعل هذا هو مبعث « أسفها» و«سوء حظها» ويأسها من تكرار توصياتها، الذي يُستشف بوضوح في كافة الجوانب التي تطرقت اليها، وان كانت لا تريد الاعتراف به بحكم منصبها.

كاتبة من العراق

 

 

نافذة للأمل

من فيتنام إلى العراق

هيفاء زنكنة

 

من بين الأخبار القليلة المفرحة التي تناقلتها وكالات الأنباء، أخيرا، نجاح الصحافية والناشطة فان تران تو نيجازاده، الفيتنامية الأصل والفرنسية الجنسية المولودة عام 1942، في رفع دعوى قضائية ضد 14 شركة متورطة في تصنيع وبيع المادة الكيميائية المسماة «العامل البرتقالي» إلى الحكومة الأمريكية، المنخرطة حينها في الحرب ضد فيتنام.
من بين الشركات التي رفعت الدعوى ضدها شركة مونسانتو (المعروفة بانتاجها وتسويقها البذور المعدلة وراثيا) التي تملكها، حاليا، شركة باير الألمانية المعروفة، عالميا، بانتاجها الأدوية أيضا. وكانت فان تران قد عانت هي نفسها من أمراض نادرة جراء التعرض لآثار العامل البرتقالي.
«العامل البرتقالي» هو مبيد أعشاب ونازع لأوراق الأشجار، وهو أكثر فاعلية بنحو 13 مرة من مبيدات الأعشاب العادية. قامت القوات الأمريكية برش 80 مليون ليتر من هذه المادة السامة فوق جنوب فيتنام في الفترة بين 1962 و1971، محاولة بذلك حرمان مقاتلي فيتنام الشمالية ( الفيتكونغ) من الغطاء الذي توفره لهم الغابات ضد القصف الجوي الأمريكي، بالإضافة الى حرمانهم وحاضنتهم الاجتماعية من مصادر الغذاء. أدى الاستخدام الأمريكي للمبيد القاتل الى إصابة ملايين الفيتناميين بأعراض لم يشهدوا لها مثيلا ولحقبة زمنية تجاوزت سنوات الحرب الى أيامنا هذه. اذ أدى تسرب المبيد من التربة الى المياه الجوفية والأنهار الى تعريض الفيتناميين، من اجيال تالية، الى إعاقات عقلية وجسدية وهاجمة مناعة الجسم. ولا تزال تتسبب في ولادة أطفال برؤوس متضخمة أو أطراف مشوهة، وانتشار الإصابة بالسرطان، بالاضافة الى الأضرار التي لحقت بالبيئة. من بين الضحايا ، عوائل قررت عدم انجاب الأطفال بسبب انجابها اطفالا مشوهين، وأخرى أنجبت خمسة عشر طفلا لم يعش منهم غير ثلاثة. وتشير احصائيات فيتنام الحكومية الى إن نحو ثلاثة ملايين فيتنامي تعرضوا للعامل البرتقالي وأن مليون شخص يعانون من تأثيرات خطيرة على الصحة من بينهم 150 ألف طفل على الأقل يعانون من عيوب خلقية.
حتى تاريخ النظر الحالي في الدعوى، كانت الحكومة الأمريكية قد قامت بتعويض جنود في الجيش الأمريكي والأسترالي والكوري عانوا من عواقب استخدام المادة الكيميائية في الحرب. إلا أن ذلك لم يشمل المواطنين الفيتناميين على الرغم من محاولات الضحايا المستمرة، وتنامي التعاون الأمريكي مع فيتنام كدولة ضمن الصراعات الإقليمية المتغيرة، اذ لم تعترف الحكومة الأمريكية أو الجهة المصنعة لهذه المادة الكيميائية بمسؤوليتها.
مما دفع الناشطة فان تران الى اقامة الدعوى ضد الشركات المنتجة في فرنسا. تتحجج الشركات، متعددة الجنسيات، بأنه لا يمكن تحميلها المسؤولية عن استخدام الجيش الأمريكي لمنتجاتها التي انتجتها، وان الشركات ، كما ذكر محامي مونسانتو، «تصرفت بأوامر من الحكومة ونيابة عنها».

سببت القذائف أضرارا صحية متعددة، ومنها السرطانية والجينية والتشوهات الخَلقية. حيث سجلت ارتفاعا ملحوظا في مستويات التشوهات الخلقية، وارتفاع معدلات الإصابة بالسرطان، وظهور أمراض وتغيرات غير عادية في نسبة الجنس عند الولادة

إن سبب اعتبار خبر رفع الدعوى مفرحا لا يعود، فقط، الى مشاعر التضامن مع ضحايا الجريمة الأمريكية بل، ايضا، الى اقترابهم من تحقيق العدالة، ومحاسبة المسؤولين، قانونيا، عن جريمة حطمت حياة الملايين، على مدى عقود. وهو يماثل ما نطمح الى تحقيقه لضحايا قذائف اليورانيوم المنضب المستخدمة ضد العراق. اذ استخدمت القوات المسلحة الأمريكية والبريطانية ذخائر اليورانيوم المنضّب في مناطق مأهولة بالسكان، خاصة في جنوب العراق؛ طوال العمليات العسكرية لاحتلال العراق في عام 2003، ما أدى إلى تلوث المنطقة بالمواد المشعة، بالاضافة الى استخدامها في حرب الخليج الاولى، عام 1991، وهي الفترات التي يقدم تفاصيلها بدقة علمية رصينة بحث د. سعاد العزاوي المعنون « تقدير مخاطر استخدام أسلحة اليورانيوم المنضّب في العراق».
سببت القذائف، كما تؤكد عشرات الدراسات والبحوث العلمية ، أضرارا صحية متعددة، ومنها السرطانية والجينية والتشوهات الخَلقية. حيث سجلت ارتفاعا ملحوظا في مستويات التشوهات الخلقية عند الولادة، وارتفاع معدلات الإصابة بالسرطان، وظهور أمراض وتغيرات غير عادية في نسبة الجنس عند الولادة، خاصة في أعقاب الهجمات التي قادتها أمريكا على مدينة الفلوجة، غرب العراق، في عام 2004. وهو الهجوم الذي يوصف بأنه الأكبر الذي خاضته قوات المارينز (البحرية الأمريكية) منذ حرب فيتنام 1968. وقام فيه الجيش الأمريكي بالتعاون مع قوات بريطانية وعراقية، بأمرة إياد علاوي، رئيس الوزراء حينئذ، باستخدام اسلحة اليورانيوم بالاضافة الى الفسفور الابيض.
تختلف حالات ولادة الأطفال المشوهين خلقيا وانتشار الأمراض السرطانية بين النساء والأطفال في المدن التي تعرضت الى اشعاع اليورانيوم المنضب ، عن بقية جرائم الاحتلال من ناحيتين، الاولى انها تشكل جريمة حرب تتنافى مع قوانين الحرب الإنسانية لأنها تستخدم اسلحة يبقى تأثيرها القاتل على المدنيين بعد انتهاء الحرب واسبابها. الثاني، لأنها وبسبب تأثيرها القاتل ببطء على الأطفال والنساء، جميعا بلا استثناء وبمساواة مخيفة، انما تشكل جريمة ابادة لمستقبل العراق كله وتؤثر بدرجة او أخرى على المنطقة كلها بسبب هبوب غبار الموت عليها وتلوث المياه والبيئة بشكل عام.
تكرر الحكومة الأمريكية في العراق ما فعلته في فيتنام، اذ ترفض، الاعتراف بأنها استخدمت مواد مشعة يبقى تأثيرها القاتل على السكان بعد انتهاء الحرب، وتهربا من المسؤولية القانونية وما يترتب على الاقرار بذلك من تبعات تعويض الضحايا المتضررين وتنظيف للأماكن بعد تزويد الجهات المعنية باحداثياتها، تنفي ومعها بريطانيا الاعتراف بتأثير اليوراينوم المنضب. وحتى الآن، ترفض الولايات المتحدة تقديم المعلومات الضرورية، الأمر الذي يعيق تنفيذ عمليات تقييم وإدارة التطهير اللازمتين، بل هناك ما يدل على ممارسة الضغوط على الجهات الرسمية العراقية لغض الطرف عن فتح هذا الملف الذي سيمنحها حق المقاضاة وأن تكون، كما هو مفروض، صوتا للضحايا وممثلة لمواطنيها.
إن رفع الدعوى ضد الشركات المنتجة للمادة السامة التي استخدمها الجيش الأمريكي ضد الشعب الفيتنامي يمنحنا الأمل، مهما كان صغيرا، في تحقيق العدالة، مستقبلا، لضحايا جريمة استخدام الولايات المتحدة الأمريكية قذائف اليورانيوم المنضب ضد الشعب العراقي. وهو أمل تقع مسؤوليته لنقله من مستوى التمني الى التحقيق الفعلي، في غياب العمل الحكومي الرسمي، العمل المكثف المثابر من قبل الناشطين في مجال حقوق الإنسان، والمنظمات الإنسانية المحلية والعالمية، بالتعاون بطبيعة الحال مع العلماء والباحثين.

كاتبة من العراق

 

 

8 شباط والصور المحفورة

في ذاكرة العراق الجماعية

هيفاء زنكنة

 

في 8 شباط / فبراير 1963، استيقظ العراقيون، في بغداد، على أصوات أعيرة نارية. كان ذلك انقلاب البعث الاول أو ما أطلق عليه البعث « ثورة رمضان». ومن يقرأ ما يتم تبادله على صفحات التواصل الاجتماعي، هذه الايام، من استعادة لأحداث الأيام والسنوات التي تلت هذه التاريخ، سيدرك أن العراقيين، من ذلك الجيل الذي عاصر تلك الفترة، وابناء ذلك الجيل الى حد ما، لايزالون يعيشون آثار ونتائج ذلك اليوم. فالمشاعر مشحونة بجروح عميقة لم تندمل على الرغم من مرور عشرات السنين، تغذيها ذاكرة تحتشد بالاعتقالات ودماء الضحايا. « إنه يوم مشؤوم في شهر مشؤوم» تقول سيدة ترفض أن تحتفل بأعياد ميلاد أفراد من عائلتها ولدوا في ذلك الشهر، معربة بذلك عن رغبتها في ألا ينسى أبناؤها ما حدث. يومها، شهد العراق اقتتال من ساهموا، سوية، في جبهة وطنية للاطاحة بالحكم الملكي واعلان الجمهورية المستقلة في 14 تموز/ يوليو 1958.
ما الذي تستعيده ذاكرة الشعب الجماعية عن تلك الحقبة التي استمرت تسعة شهور فقط؟ ماذا عن الجمهورية الاولى ( 1958 – 1963) والحكم الملكي الذي سبقها؟ هل هناك ذاكرة جماعية واحدة للشعب كله؟ لايمكن القول إن للعراقيين ذاكرة جماعية واحدة . بل تشير كل الدلائل التاريخية والشهادات الشخصية ومتابعة كتب المذكرات والبحوث الى أن هناك عدة مستويات للذاكرة، أو ذاكرات. ما يفرقها هو أكثر، احيانا، مما يجمعها، خاصة عند النظر الى مآسي تلك الحقبة ومن هو مرتكبها وانعكاساتها على الحاضر. ويدل اختلاف التسميات والمصطلحات المستخدمة للتحقيب على عمق الشروخ في الذاكرة والحاضر. فثورة 14 تموز، لدى البعض هي انقلاب دموي لدى البعض الآخر. وانقلاب شباط 63 الدموي لدى البعض هو عروس الثورات لدى البعض الآخر. ويقودنا الاختلاف بين الثورة والانتفاضة، حتى عند مراجعة معطيات الحدث الواحد، الى مسار يزيد من تعقيد قراءة التاريخ.
على الرغم من ذلك، وعلى اتساع اختلافات الأحداث المفككة للذاكرة الجماعية، ومعظمها اختلافات سياسية، بالمعنى السياسي الشامل للاقتصاد والبنية المجتمعية، هناك كوارث- مآس محددة رسخت في ذاكرة من عاصرها، بشكل صور دموية مرعبة لايزالون يعيشون دقائقها. ولا يزالون يستعيدونها ويقومون، في عصر التواصل الاجتماعي، بتناقل تفاصيلها وصورها.
من بين هذه الصور، أجساد العقداء الاربعة، قادة انتفاضة مايو 1941 ضد الحكم الملكي، الذين أعدموا وعلقت جثثهم أمام مبنى وزارة الدفاع، وسط بغداد، ليكونوا عبرة للجميع. «كنت في السادسة، سائرة بجانب والدي، حين رأيت الجثث المعلقة. أسرع والدي الخطى، ساحبا إياي بقوة، وركضنا خائفين. حتى اليوم، كلما أمر على المكان نفسه، استحضر ذلك المشهد كأنه يحدث اليوم» تقول مدرسة في الثمانين من عمرها. الصورة الثانية التي خلفها العهد الملكي هي إعدام قادة الحزب الشيوعي، يوسف سلمان يوسف (فهد) سكرتير عام الحزب، وعضوي المكتب السياسي زكي بسيم وحسين الشبيبي، فجر يوم 14 شباط 1949، وعلق الثلاثة، بعد اعدامهم، في ساحات متفرقة من بغداد. مما زرع بذرة اشاعة الترويع والإرهاب في الاماكن العامة.

خرج الشباب، وكلهم لم يكونوا قد ولدوا في حقب المآسي السياسية السابقة، مطالبين بوطن يوفر، للجميع بلا استثناء، حق الحياة والعمل والكرامة. على أمل ألا تكون أيام الاستذكار شحنا وتأجيجا للانتقام بل درسا جماعيا لوضع حد للاعتقالات والتعذيب والمجازر

وحصدت بعنفها حياة العائلة المالكة وعدد من سياسي العهد الملكي، بشكل أدخل على حياة العراقيين مفردات وممارسات عنف جديدة مثل السحل. واذا كانت رغبة ثوار 1958 هي تشكيل «حكومة تنبثق من الشعب وتعمل بوحي منه وهذا لا يتم إلا بتأليف جمهورية شعبية تتمسك بالوحدة العراقية الكاملة» كما جاء في البيان الاول، فان السنوات التالية جذرت خلافات، حفرت عميقا، في الجسد العراقي، مسببة من الجروح ما لم يكن في الحسبان، إذا ما افترضنا حسن النية ووطنية الأحزاب التي ذلقت طعم العمل الجماهيري العلني للمرة الاولى. فكانت الصراعات الشيوعية البعثية القومية التي أضافت الى بشاعة الماضي ودموية القتل والسحل وتعليق الجثث، غرز نواة المليشيات (تشكيل المقاومة الشعبية) وشعبوية الزعامة (سيادة الزعيم الأوحد الزعيم المنقذ ابن الشعب) وغوغائية الحشود المرتكبة للمجازر كما في مدينتي الموصل وكركوك.
هذه الصراعات المتراكمة عادت لتغرق بدمويتها، وروح الانتقام، العراق في الشهور التالية لشباط 63، حيث نجح البعثيون في حفر صور أخرى للقتل في ذاكرة المواطنين، أولها صورة رئيس الوزراء عبد الكريم قاسم بعد اغتياله.
لم تقتصر رؤية الصورة على المارة في الأماكن العامة، كما كان يحدث في اعدامات النظام الملكي، مثلا، بل نجح النظام الجديد في ادخال الصورة الى كل البيوت، ليراها كل الناس، عن طريق البث التلفزيوني. وهو، الفعل الذي كررته قوات الاحتلال الانكلو أمريكي، بأيدي مستخدميها المحليين، باعدامها رئيس الجمهورية العراقية الرابع صدام حسين، عام 2006 وبث شريط إعدامه تلفزيونيا.
أشهر ما بعد 8 شباط، جلبت معها، أيضا، ميليشيا «الحرس القومي» والاعتقالات والتعذيب والإعدامات المستهدفة للشيوعيين، خاصة بعد أن أصدر الحزب الشيوعي نداء الى المواطنين يدعوهم فيه» الى حمل السلاح لسحق المؤامرة الاستعمارية الرجعية» . وكان للمرأة حصتها في التعذيب والاغتصاب، ليصبح جسد المناضلة مشاعا للجلادين.
ان استذكار 8 شباط، ضروري باعتباره جزءا من الذاكرة الجماعية أو كيف نتذكر تاريخنا. آخذين بنظر الاعتبار ان تكّونها يتأثر بعوامل عديدة، قد يطغى فيها احد الجوانب على أخرى، خاصة حين تتعلق بالهوية الوطنية كموقف أساسي، وما تتعرض له من تقليل او تضخيم او حتى صناعة، كما نلاحظ حاليا في البلد، مع وجود التدخل الخارجي بأنواعه. ولكن غالبًا ما تكون هناك مواضيع مشتركة. فكل العراقيين، مثلا، يتغنون بتاريخ العراق البعيد وحضارته، كما أن معظمهم يرى أن الخلافات والصراعات في عراق ما قبل الغزو الانجلو امريكي، عام 2003، كانت سياسية بالدرجة الاولى ولم تكن دينية طائفية. الاعتقاد الذي استعاد قوته، تدريجيا، عبر مقاومة المحتل والاعتصامات والتظاهرات التي سادت سنوات الاحتلال، وجاء تأكيده الواضح في انتفاضة تشرين الأول / اكتوبر 2019، حين خرج الشباب، وكلهم لم يكونوا قد ولدوا في حقب المآسي السياسية السابقة، مطالبين بوطن يوفر، للجميع بلا استثناء، حق الحياة والعمل والكرامة. على أمل ألا تكون أيام الاستذكار شحنا وتأجيجا للانتقام بل درسا جماعيا لوضع حد للاعتقالات والتعذيب والمجازر الجماعية والاستهانة بالإنسان.

كاتبة من العراق

 

 

لا تقترب لا تلمس…

حقول الموت في العراق

 

هيفاء زنكنة

إذا كان إجراء دراسة عن احصائيات الألغام الأرضية والقذائف غير المنفلقة، يقود الباحثين، عادة، الى كمبوديا التي زرع فيها ما بين 4 ملايين و6 ملايين لغم أرضي، خلال الحروب الأهلية بين 1975 و1998، مما تسبب في سقوط أكثر من 64 ألف ضحية، أو الى فيتنام التي تسببت بقايا الألغام الأرضية والمتفجرات التي ألقتها الولايات المتحدة عليها بمقتل 40 ألف شخص، منذ نهاية الحرب، فان العراق بات ينافس البلدين بل ويتغلب عليهما في كونه البلد الأكثر تلوثا في العالم من حيث حجم المنطقة الملغومة، حسب «مرصد الألغام الأرضية والذخائر العنقودية» في سويسرا.
مناطق العراق الملغومة ناتجة عن الحرب العراقية الإيرانية ( 1980-1988)، وحرب الخليج عام 1991، والغزو الانكلو أمريكي عام 2003. حيث ألقت قوات التحالف، بقيادة أمريكا 61 ألف قنبلة عنقودية، تحتوي على حوالي 20 مليون ذخيرة صغيرة على العراق والكويت في عام 1991. أما أثناء غزو العراق عام 2003، فقد استخدمت أمريكا وبريطانيا ما يقرب من 13 ألف ذخيرة عنقودية تحتوي على ما يقدر بنحو 1.8 مليون إلى 2 مليون من الذخائر الصغيرة. كما زرعت أمريكا 120 ألف لغم، منها 28 ألف لغم مضاد للأفراد و 90 لغماً مضاداً للمركبات، بالاضافة الى قنابل كانت قد رمتها القوات الأمريكية أثناء تقدمها البري باتجاه بغداد. وتشمل حقول الألغام حدود العراق مع إيران والمملكة العربية السعودية.
أما احتلال الدولة الإسلامية ( داعش)، لمساحات كبيرة بعد عام 2014، فقد أدى إلى زيادة التلوث بالألغام المرتجلة والعبوات الناسفة المزروعة في مختلف الأماكن المأهولة. وهي نقلة نوعية من ناحية استخدام السلاح المحظور في المدن وحتى داخل البيوت. فألالغام المضادة للأفراد محظورة بموجب معاهدة حظر الألغام التي وقعتها 155 دولة، باستثناء أمريكا، لحظر تصنيع واستخدام الألغام الأرضية، لأنها تهدد حياة المدنيين بعد فترة طويلة من انتهاء الحروب، وكونها لا تفرق بين المدني والعسكري، وأكثر من نصف ضحاياها هم من الأطفال الذين يلتقطونها كلعبة.
تشير تقارير مرصد الألغام الى أرقام مخيفة. تخبرنا أن الأراضي العراقية ملوثة بـ 25 مليون لغم ومليون طن من المقذوفات غير المنفجرة بعد، التي تشكل بمجموعها تهديداً مباشراً لقرابة 2117 تجمعاً مدنياً يعيش فيه قرابة 2.7 مليون مواطن عراقي. وتعتبر محافظتا البصرة والموصل من أكثر المحافظات تلوثا بالألغام والذخائر الحربية، ويقدر مدير التوعية ومساعدة ضحايا الألغام في المؤسسة العامة لشؤون الألغام في إقليم كردستان، في تصريح لموقع (درج) أن عدد ضحايا الألغام في كردستان يزيد عن 13 ألف مواطن. ويكثر عدد الضحايا والمصابين خاصة بين الفلاحين والرعاة. واذا كانت الألغام والقنابل غير المنفلقة سببا للموت الفوري، فانها، ايضا، مدمرة لحياة من يتعرضون للانفجارات فينتهون بإعاقات دائمة ليضافوا، وهنا المأساة، الى قائمة ضحايا الحروب الفعلية. يتراوح عدد مبتوري الأطراف بسبب الألغام في العراق بين 80 و100 ألف شخص.

الأراضي العراقية ملوثة بـ 25 مليون لغم ومليون طن من المقذوفات غير المنفجرة بعد، التي تشكل بمجموعها تهديداً مباشراً لقرابة 2117 تجمعاً مدنياً يعيش فيه قرابة 2.7 مليون مواطن عراقي

وتشكل الخسارة البشرية جانبا من جوانب تهديد حياة البلد المتعددة. من بينها اعاقة التنمية واستحالة استثمار الأراضي والاعمار في حال عدم تطهير الاراضي والاماكن السكنية. وهذا ما يتبدى بوضوح في الجانب الغربي من مدينة الموصل والأنبار وبقية المدن. فعلى الرغم من مضي سنوات على «التحرير» لاتزال عديد الأحياء، حقول موت اكثر منها مناطق صالحة للسكن وعودة الأهالي. وعلى الرغم من توقيع العراق، على اتفاقية أوتاوا الدولية الملزمة له بتنظيف البلد من الألغام المزروعة مع نهاية عام 2018، لكنه فشل في تحقيق ذلك ومدد الفترة عشرة أعوام أخرى، إلى عام 2028.
يبرر المسؤولون الحكوميون فشلهم بقلة الكادر المدرب على تطهير الأراضي الملغومة، وقلة المعدات الكاشفة، وعدم توفر المسح الميداني، وعدم حصولهم على خرائط توضح مكان انتشار حقول الألغام بالاضافة الى تصريحاتهم المستمرة عن قلة التمويل باعتباره السبب الرئيسي. متناسين ان العراق بلد غني بثروته وكفاءاته لو أتيحت فرص التعليم والتدريب، وبامكانه، ان لم تتحكم به حكومة اللصوص والفساد، ان يمد يد المساعدة الى بلدان العالم بدلا من استجداء المعونة المادية والقروض لزيادة محاصصة النهب.
إن كل لغم موجود في الأرض يمكن أن يعني فقدان حياة أو طرف آخر، ما لم يتم العمل على إزالته، والى أن يتحقق ذلك وجوب احاطة الأماكن الملغومة بالاسلاك الشائكة ووضع اشارات التحذير الواضحة والتوعية بوجودها في المدارس والندوات العامة واجهزة الاعلام ومواقع التواصل الاجتماعي. والعمل على دعم وزيادة عدد مراكز التأهيل ومساعدة الضحايا الناجين من حوادث المخاطر المتفجرة وأفراد أسرهم. وهو، أحد الركائز الخمس التي تقوم عليها الأعمال المتعلقة بالألغام، والذي يعتبر قطاعا ناقص التمويل في العراق، حسب منظمة دائرة الأمم المتحدة للأعمال المتعلقة بالألغام (أونماس). ففي 2013، أقر العراق قانون رعاية الأشخاص ذوي الإعاقة وذوي الاحتياجات الخاصة، والذي حل محل جميع التشريعات الأخرى المتعلقة بالإعاقة إلا أنه لا يضم، على إشارة محددة للناجين من حوادث المخاطر المتفجرة.
إن تطهير الأراضي والأماكن من الالغام والمتفجرات ليس مهمة مستحيلة في بلد غني كالعراق. وخلافا لكارثة اليورانيوم المنضب الذي استخدمته أمريكا وبريطانيا ضد البلد، والذي يمتلك خاصية التسرب بين دقائق التربة ومدة تأثيره السام، تصل مئات السنين، بالامكان تنظيف الأراضي من الالغام الأرضية والمقذوفات غير المنفلقة اذا ما توفرت النية الحقيقية لحماية السكان المعرضين للخطر، وتوفير الدعم لهم. الدعم الذين هم بأشد الحاجة إليه لتخفيف معاناتهم الإنسانية. هناك، مثلا، بريطانيا التي أعلنت اخيرا تنظيف جزيرة الفولكلاند. ولأثبات عدم استحالة المهمة وتفكيك الادعاء بعدم قدرة العراق على تمويل منظمات عراقية ودولية متخصصة بتطهير الأراضي، تكفينا المقارنة ما بين سرقة مليارات الدولارات من قبل المتحاصصين في النظام، والمبلغ المطلوب لتمويل برنامج التطهير والذي تبلغ قيمته 265 مليون دولار، حسب آخر تصريح لدائرة الأمم المتحدة للأعمال المتعلقة بالألغام. وهو مبلغ سيدفع تكلفته، بحياتهم، أشخاص لم يكونوا قد ولدوا بعد.

كاتبة من العراق

 

 

إقالة ومقاضاة

رئيس الوزراء العراقي

هيفاء زنكنة

 

الى قائمة ضحايا التفجيرات، بالعراق، أضيف يوم الخميس 21 يونيو/ كانون الثاني، 32 قتيلا، وأكثر من 110 جرحى. السبب: انتحاريان بحزامين ناسفين في سوق للملابس المستعملة، في ساحة الطيران، وسط بغداد.
ما الذي نعرفه عن الضحايا؟ إنهم باعة ملابس مستعملة ومشتروها. بينهم عمال يعرضون خدماتهم بأرخص الأسعار، وبسطات فقراء يبيعون ما لا يحتاجه المرء بأسعار لا تقيهم الجوع، إلا أنهم يثابرون على الجلوس في الساحة كبائعين حفاظا على كرامتهم، لئلا يتهمون بالاستجداء، باستثناء شابين هما علي وعمر، الضحايا أرقام بلا أسماء. اختزلت حياتهم إلى أرقام ستضاف، ان وجد من يوثق، الى قوائم ضحايا آخرين في ساحة الطيران، التي شهدت تفجيرات سابقة في عام 2018 و تشرين الثاني / نوفمبر 2019 والى بقية الضحايا في ارجاء العاصمة ومدن العراق الأخرى، والذين يزيد عددهم على المليون منذ عام 2003 ثمنا للتغيير او التحرير او سقوط بغداد. ليست هناك صحافة استقصائية مستقلة تتابع حياة الضحايا وتنشر تفاصيلها لتترسخ بالذاكرة. الصحافيون أنفسهم ضحايا جرائم من نوع آخر.
ما الذي نعرفه عن الانتحاريين؟ باستثناء التفجير المرعب واستخدامهما جسديهما المفخخين لنشر الموت، لا شيء تقريبا. وان كان هناك عدو جاهز واشاعات ونظريات مؤامرة يساعد على انتشارها عدم الثقة بالتصرحات الأمنية والحكومية. فبعد ساعة من المجزرة، وقف مسؤول امني، في الساحة، امام عدسات التصوير، قائلا : « نفذ التفجير انتحاريان. ربما… بالتأكيد داعش». بلا تحقيق أو جمع للأدلة أو إحاطة المكان بما يمنع تلويث الأدلة أو دوس بقايا الضحايا المتناثرة في ارجاء المكان. وبسرعة مذهلة، وصل الساحة فريق من عمال تنظيف الشوارع، نظفوا الأرضية بشكل لم تعرفه الساحة من قبل، وبدلا من انتظار وصول فريق التحقيق، غسلت الساحة من دماء وأشلاء الضحايا المختلطة ببقايا الانتحاريين، بلا دليل مادي وعلمي يماثل عمليات التمشيط التي تقوم بها اجهزة الشرطة والأمن في ارجاء الكون للتعرف على هوية المجرمين، بدأ المسؤولون « الأمنيون» ببث تصريحات صار الشعب العراقي يحفظها عن ظهر قلب. تصريحات جاهزة تتماشى مع أجندة الجهات المصدرة لها سياسيا وإعلاميا. ففي تصريح خاص لقناة «الحرة» المؤسسة من قبل السي آي أي، ومقرها واشنطن، قال المتحدث باسم قيادة العمليات المشتركة اللواء تحسين الخفاجي، وهو إن «تنظيم داعش هو المسؤول عن التفجيرين الانتحاريين اللذين وقعا في بغداد اليوم» مضيفا أن «الأجهزة الأمنية مستمرة في ملاحقة الجناة ومن قدم العون لهم وساعدهم» وهو ما تريد الادارة الأمريكية، أو مقررو سياستها الراهنون، سماعه تبريرا لاستمرارية عملياتها الخاصة تحت شعار «محاربة الإرهاب».
ما صرح به اللواء الخفاجي هو انعكاس لتصريحات مصطفى الكاظمي والاجراءات التي أعلن عن نيته اتخاذها، باعتباره رئيسا للوزراء والقائد العام لقوات المسلحة. وهي تصريحات بحاجة الى التمحيص لتبيان مدى صدقها وفاعليتها. حيث ترأس الكاظمي اجتماعا لقادة الأجهزة الأمنية والاستخبارية « لمناقشة الهجوم وعواقبه» وأمر بتشكيل لجنة تحقيق، أضيفت، كالعادة، الى مئات لجان التحقيق التي شكلت، سابقا، ودفنت في مخازن الفساد. كما أمر بإجراء تغييرات في «مفاصل الأجهزة الأمنية المسؤولة عن حادث ساحة الطيران». وهو اجراء، يبدو مشجعا ظاهريا، الى أن يتبين بأنه، في حقيقته، لعبة كراس موسيقية.

حكومة فاشلة، بلا مصداقية، مكونة من ميليشيات وعصابات بواجهات حزبية تتغذى على الفساد والعنف والجريمة والفقر والأمية والبنية التحتية المتداعية

اذ تم تدوير نفس الأشخاص في مناصب مغايرة بلا مساءلة أو محاسبة على إهمال وظيفي قاتل. ثم ما الذي يعنيه بوصفه المجزرة بأنها « حادث في ساحة الطيران»؟ كيف يمكن وصف قتل 32 شخصا وجرح 110 بأنه « حادث»؟ اليست هذه لغة المحتل التي طالما وصف بها جرائمه وانتهاكاته ومنهجية قتله للعراقيين بأنها « حادث»؟
ولا يتوقف الكاظمي في تصريحاته عند ذلك بل يسترسل بلغة اراد منها طمأنة أمريكا في « الحرب على الإرهاب» وخلق حالة من عدم الاستقرار التي تستدعي التدخل الخارجي، قائلا: «أن معركتنا ضد الإرهاب مستمرة وطويلة الأمد، وأنه لا تراجع ولا تهاون في محاربته». أما وعوده للاستهلاك المحلي فقد جاءت مضخمة بادعاءات السيطرة وامتلاك القوة والقدرة على الانجاز، بقوله « لقد وضعنا كل إمكانات الدولة وجهود قطاعاتنا الأمنية والاستخبارية، في حالة استنفار قصوى، للاقتصاص من المخططين لهذا الهجوم الجبان وكل داعم لهم وسنقوم بواجبنا لتصحيح أي حالة تهاون أو تراخٍ أو ضعف في صفوف القوات الأمنية» ملمحا بأنه يقف الى جانب الشعب في سعيه إلى « انتخابات نزيهة وعادلة». وهو فخ سقط فيه عديد المحللين السياسيين، حين اعتبروا ان مجزرة ساحة الطيران، محاولة أرهابية لاعاقة سيرورة الانتخابات التي ستجري في اكتوبر القادم، وليست، كما هو معروف، من سردية التفجيرات السابقة والحالية المتتالية، واحدة من أوجه الصراع الأمريكي الإيراني الإرهابي وامتدادتها في عصابات الجريمة المنظمة، في تسقيط بعضها البعض، وهو الحال الذي يعيشه العراق منذ غزوه عام 2003، ولن تكون المجزرة الحالية آخرها.
ولنعد الى شهر تموز/ يوليو الماضي، لتمحيص صدق تصريحات وانجازات الكاظمي ووعوده المبذولة، حين تسارعت حملة اغتيال الناشطين، خاصة اغتيال المحلل السياسي المعروف هشام الهاشمي الذي صورت كاميرات المراقبة تفاصيل اغتياله ونشرتها اجهزة الإعلام محليا ودوليا. أيامها، صرح الكاظمي، في 7 تموز/ يوليو، بأنه « لن ينام قبل أن يخضع قتلة الهاشمي للقضاء بما ارتكبوا من جرائم» متوعدا « من تورّط بالدم العراقي سيواجه العدالة ولن نسمح بالفوضى وسياسة المافيا أبدا… ولن نسمح لأحد أن يحول العراق إلى دولة للعصابات» معلنا تحمله المسؤولية «إننا مسؤولون والإجابة الوحيدة التي يتقبلها منا الشعب هي الإنجاز والإنجاز فقط» وأن الدولة هي المرشد والمعيار وقانون الدولة السقف ولا أحد فوق القانون. وكما فعل منذ أيام أمر بتشكيل هيئة تحقيقية قضائية وإعفاء القائد الأمني المسؤول عن منطقة اغتيال الهاشمي، من منصبه وأحاله للتحقيق. وكانت النتيجة؟ لاشيء. لم يتم الإعلان عن نتيجة اية تحقيق كما لم يتم اعتقال المجرمين. وسجلت الجريمة، كما الآلاف من قبلها، ضد « جهات مسلحة».
إن توثيق تصريحات الكاظمي وادعاءاته، خاصة التي يعلن فيها مسؤوليته أمام الشعب، كرئيس للوزراء وقائد للقوات المسلحة، وفشله المستمر، في تحقيق وعوده وواجباته، وأهمها مسؤوليته في حماية أمن المواطنين وتنفيذ القانون وتحقيق العدالة والاستقرار الاقتصادي والسياسي، ضروري ومن واجب اجهزة الإعلام المستقلة والعاملين في المجالات الحقوقية والأحزاب الوطنية تقديم الحكومة كما هي: حكومة فاشلة، بلا مصداقية، مكونة من ميليشيات وعصابات بواجهات حزبية تتغذى على الفساد والعنف والجريمة والفقر والأمية والبنية التحتية المتداعية، مما يستدعي وجوب إقالة الكاظمي وتقديمه الى القضاء. ولدينا في اقالة رئيس الولايات المتحدة الأمريكية دونالد ترامب، بتهمة تكاد تكون مضحكة بالمقارنة مع فشل الكاظمي، في القيام بمسؤوليته، ودوره في استمرارية حصانة المجرمين من العقاب، درس يستحق التقليد.

كاتبة من العراق

 

 

سارقو حليب

الأطفال في النظام العراقي

هيفاء زنكنة

 

بينما كان المسؤولون في الحكومة العراقية يبررون، كل الكوارث التي تحل بأبناء الشعب، حتى فترة قريبة، بأنها نتيجة « الإرهاب» و «القوى الخارجية» و«الطرف الثالث» برزت على السطح، في الآونة الأخيرة، تصريحات ذات وقع مختلف، تلقي اللوم أما على المواطنين أنفسهم أو تقلل من تأثيرها، باعتبارها أحداثا « عادية» مشابهة لما يجري في بقية انحاء العالم، خاصة بعد انتشار فايروس كورونا. ولعل أكثر الامثلة وضوحا هو مقارنة حالة الفقر وجوع الأطفال بين بريطانيا والعراق.
عاشت بريطانيا، في الأسابيع الاخيرة، أجواء حملة نافست بما أثارته من اهتمام انتشار الفايروس، وازدياد عدد المصابين، والضغط المتزايد على المستشفيات بالإضافة الى حملة التلقيح ضد الفايروس، التي يتابعها الجميع بلهفة ورصد دقيق. قاد الحملة نجم كرة القدم ماركوس راشفورد بعد أن رفضت حكومة حزب المحافظين تقديم وجبات طعام مجانية للأطفال الفقراء، خلال فترات العطل المدرسية أو وهم يدرسون في دورهم، في فترات الحظر للحد من انتشار الفايروس. أعاد القرار الحكومي الى الاذهان ما قامت به السيدة ثاتشر، رئيسة وزراء بريطانيا) 1979 – 1990)، حين ألغت حصة الحليب التي توزع لأطفال المدارس تقليصا للميزانية، فاطلق عليها الناس لقبا لاحقها حتى وفاتها وهو «ثاتشر سارقة الحليب». شارك في حملة اطعام الأطفال، ايضا، المجتمع الأهلي (الأفراد والكنائس والجوامع) وعموم منظمات حماية الأطفال، ووقع اكثر من 2000 طبيب أطفال رسالة عبروا فيها عن صدمتهم من القرار. مذكرين بأن ضمان حصول الأطفال على ما يكفيهم من الطعام هو مسؤولية انسانية أساسية. ووصف حزب العمال المعارض القرار بأنه عار على الحكومة وأمر مخجل ان يتم تجويع الأطفال في بريطانيا الغنية في القرن الحادي والعشرين. إزاء هذه الضغوط الأهلية والمدنية، تراجعت الحكومة البريطانية عن قرارها.
عراقيا، يصرح المسؤولون بأن الحالة المعيشية المتردية في العراق، بضمنها وضع الأطفال، هي نتيجة الوضع الاقتصادي المتأزم، عالميا، جراء انتشار وباء الكورونا. ويذهب عدد من المسؤولين أبعد من ذلك بذكرهم بريطانيا وأمريكا كأمثلة، لدعم تصريحاتهم، متعامين عن حقائق عديدة اولها اختلاف مفهوم الفقر ودرجاته بين العراق والدول التي يستشهدون بها. ففي بريطانيا يعتبر عدم تناول الأطفال وجبة الطعام المجانية، خلال العطل، مثلا، تجويعا للأطفال وعارا على الحكومة. بالمقابل، ما هو وضع الأطفال في العراق الغني، في القرن الواحد والعشرين؟

بلغ حجم الأموال المهربة خارج العراق حوالي 239 مليار دولار، أي ما يزيد على موازنة البلاد لأكثر من عامين

في العراق، بات الجوع رفيقا دائما للطفل، يمتد على مدى الأيام والأعوام، ويتبدى لا في نقص وجبات الطعام فحسب، ولكن في أبعاد أخرى تجعله محصورا مع فئات السكان الهشة البالغة 42 بالمئة من السكان ممن يواجهون مخاطر أعلى، كونهم يعانون من الحرمان من عديد الأبعاد، وليس من بُعد واحد مما يلي: التعليم، والصحة، والظروف المعيشية، والأمن المالي. بالنسبة إلى الأطفال، هناك طفل من بين كل اثنين تقريبا (48.8 بالمئة كرقم منشور) أكثر عرضة للمعاناة من الحرمان في أكثر من بعد واحد من هذه الأبعاد الأربعة، حسب تقرير منظمة « يونسيف» لعام 2020. أما تأثير جائحة كورونا على الوضع الاجتماعي الاقتصادي، فقد قامت وزارة التخطيط، بدعم من اليونيسف، والبنك الدولي، ومبادرة أكسفورد للفقر والتنمية البشرية، بتقييمه، وُجد أن 4.5 مليون شخص (11.7 بالمئة من السكان، أو ما يقارب واحدا من كل ثمانية أو تسعة مواطنين، أغلبهم أطفال) يواجهون خطر الوقوع تحت خط الفقر إضافة لمن سبقهم. ستسبب هذه الزيادة رفع معدل الفقر الوطني إلى حوالي الثلث (31.7 بالمئة ) بالمقارنة مع حوالي الخمس ( 20 بالمئة ) لعام 2018، وزيادة العدد الإجمالي للفقراء إلى 11.4 مليون.
وبتعبير آخر، كان واحد من بين كل خمسة أطفال ويافعين فقيراً قبل تفشي الكورونا،، ليرتفع الى أكثر من إثنين من بين كل خمسة أطفال. هذه الحقائق المخيفة دفعت اليونسيف الى إطلاق تحذير للحكومة من حالة الفقر التي انحدر فيها البلد ووضع الأطفال وفقدانهم حقوقهم الأساسية، كما أصدرت مجموعة توصيات الى الحكومة حول ايجاد حلول آنية سريعة لمعالجة الفقر الغذائي وأخرى استراتيجية لمعالجة جذور الفقر، حتى لا يحرم الطفل من حقوقه في الصحة والأمن والحرية والتعليم والماء النظيف واللعب. وهي حقوق على الحكومة ضمانها إذ أن العراق عضو في اتفاقية الأمم المتحدة لحقوق الطفل وملزم بما يضمن حقوقهم آنيا ومستقبلا.
الحقيقة الثانية المتعامى عنها، تعمدا، من قبل المسؤولين، هو حجم الفساد الذي ينخر المؤسسات، في حكومة تديرها مجموعة لصوص تتقاسم المغانم، وفق محاصصة سياسية طائفية وعرقية. وإن اللائمة لا تقع كلية على فايروس الكورونا الذي يعتبر تأثيره ضئيلا بالمقارنة مع حجم مأسسة الفساد الحكومي ومليشيات الاحزاب المنخرطة بالنظام. حيث بلغ حجم الأموال المهربة خارج العراق حوالي 239 مليار دولار، أي ما يزيد على موازنة البلاد لأكثر من عامين، حسب تصريح لجنة النزاهة النيابية في 4 كانون الثاني/ يناير. وتزداد الصورة قتامة حين نراجع ما نعرفه ويعرفه العالم من حقائق عن تجذر وتطويرالفساد منذ احتلال البلد عام 2003. فالعراق من بين أكثر الدول فسادا في العالم. الفساد يعني التدمير المنهجي والمنظم للانتاج والتعليم والصحة، واضطرار المواطنين جميعا للتعامل ضمن منظومة الفساد، وما يعنيه من انعدام الحدود الدنيا من الصدق والنزاهة في التعامل اليومي بين الناس ضمن هيمنة طبقة تتحكم بالعقود والعمولات والرشاوى وتهريب العملة، الموظفون الوهميون. شراء ذمم النواب والمسؤولين الحكوميين. تحويل السجون ومراكز الاحتجاز الى مصادر للابتزاز، وتمويل الإرهاب بأنواعه.
وتأتي تصريحات المسؤولين الحكوميين والنواب لإدانة الفساد لترش الملح على الجروح. فهم، جميعا، بلا استثناء يدينون الفساد وكأنه هطل عليهم من الفضاء الخارجي، متحدثين، دوما، عن امتلاكهم ملفات فساد سيظهرونها للعيان ذات يوم، لإثبات نظافتهم، وأن الفساد هو فساد « الآخر» محاولين بقولهم إن الامبراطور بلا ملابس أن يغطوا عُريهم. أما محاولتهم تقليل التأثير المدمر لفسادهم على البلد وأهله ومستقبله المتمثل بمستقبل أطفاله، فلن تمر مرورا عابرا، كما يتصورون. فالتاريخ قد يغفر للساسة أخطاءهم وقد يبرر جرائمهم، إلا أنه لا يغفر لهم سرقة حليب الأطفال.

كاتبة من العراق

 

 

هاشتاغ المبادرة

العراقية لتحرير أمريكا

هيفاء زنكنة

 

 

شهدنا، منذ ايام، غزو مقر المجلس التشريعي لحكومة الولايات المتحدة الأمريكية (الكونغرس) من قبل « أنصار اليمين المتطرف» للرئيس دونالد ترامب. جاء الهجوم بعد شهور من نشر الرئيس على وسائل التواصل الاجتماعي أن الانتخابات مسروقة.
أثار الغزو والهجوم على واحد من أهم رموز الديمقراطية بالعالم، بل ويشار إليه باعتباره « مهد الديمقراطية» مشاعر متناقضة تراوح بين الدهشة، والاستغراب، والذهول، والتنديد، والاستنكار بالإضافة الى الشماتة والسخرية السوداء. من ركام المشاعر التي غذاها ( ولايزال ) سيل الصور والفيديوهات التفصيلية للغزو عبر أجهزة الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، تبرز تساؤلات أساسية مهمة حول عمق الحدث، ومدى فجائيته. وهل هو فعل آني يتعلق بتحريض الرئيس ترامب عبر التويتر أم انه أكثر من مجرد غزوة يمينية شعبوية؟ وهل صحيح وصف مرتكبيها بأنهم «غوغاء» يدل سلوكهم على فاشية زرعها ورعاها ترامب في تغريداته وأكاذيبه وسلوكه غير المتوازن؟
ولعل السؤال الأقرب إلينا هو كيف ترى شعوبنا هذا الحدث وتحلله و تقّيمه، آخذين بنظر الاعتبار أن نصف الشعب الامريكي، تقريبا، أي ما يساوي بحدود 75 مليون ناخب، صوتوا فعلا لترامب الذي يصفه معارضوه وأجهزة اعلامهم بأنه راعي اليمين الأبيض المتطرف؟ وكيف تُقيم عملية نشر الديمقراطية، في العالم، اذا كان حرمها المقدس، أي أمريكا، يضم هذا العدد الهائل من اليمين المتطرف الذي وجد نفسه في مهاجمة قلب الديمقراطية وتعطيله وتعريض حياة ممثليه لخطر القتل؟ كيف تنظر الشعوب التي امتدت الذراع الأمريكية اليها لتغيير الأنظمة فيها، إما عبر المؤامرات واغتيال الرؤساء أو غزوا بذريعة التحرير، كما في 84 دولة من أصل 193 دولة معترف بها من قبل الأمم المتحدة، حسب المؤرخ الأمريكي كريستوفر كيلي والمؤرخ البريطاني ستيوارت لايكوك، مؤلفا كتاب «غزوات أمريكا: كيف غزونا أو تورطنا عسكريًا مع كل بلد تقريبًا على وجه الأرض»؟
ولنقترب أكثر من الواقع. من وجهة نظرة شعب يعيش آثار وانعكاسات الغزو والاحتلال الامريكي وتسويقهما تحت مسمى « عملية تحرير العراق». واستعين هنا بنعمة توفر مواقع التواصل الاجتماعي، التي على نقائصها، تمكننا من الاطلاع على المشاعر الحقيقية للمتواصلين بلا رقيب او تشذيب وظيفي او رسمي او ايديولوجي. استعاد معظم متابعي حدث غزو واحتلال الكابيتول من العراقيين أحداث الايام الاولى للغزو الأمريكي لبغداد. استعادوا، وهم يشاهدون تخريب المكاتب وتكسير الأبواب ونهب الأثاث، وتعليقات الساسة واجهزة الإعلام المشمئزة الغاضبة المتبرئة من الغوغاء، تصريحات وزير الدفاع دونالد رامسفيلد يوم 12 نيسان/ ابريل حول نهب الدوائر الحكومية العامة تحت انظار القوات الأمريكية، قائلا: « ان النهب فى العراق جاء نتيجة مشاعر مكبوتة من القمع» كما أكد « أن النهب لم يكن بالسوء الذي أشارت إليه بعض التقارير التلفزيونية والصحافية وأن النهب جزء من الثمن، من تحرير العراق. «. ولعل أفضل اقتباس استخدمه عدد من العراقيين لوصف سلوك من غزوا وحطموا مكاتب الكونغرس ونهبوها، بالمقارنة مع ما حدث بالعراق، هو قول رامسفيلد: «إن الأحرار أحرار في ارتكاب الأخطاء والجرائم والقيام بأشياء سيئة». لماذا اذن يتم وصف مهاجمي الكابيتول بالغوغائية والفاشية واليمين المتطرف؟ لم لا ينطبق عليهم منظور وزير خارجية بلد الحرية؟ وهل صحيح أن ترامب، بأكاذيبه، هو المسؤول الوحيد عن وجود خمسين مليون أمريكي من هذا النوع، أم أن الأكاذيب الكبرى سبقت ترامب بعقود وأنها جزء لايتجزأ من السياسة الخارجية والداخلية الأمريكية، مهما حاول ساسة اليوم وأجهزة الإعلام الادعاء بأن المهاجمين « ليسوا منا»؟

هل صحيح أن ترامب، بأكاذيبه، هو المسؤول الوحيد عن وجود خمسين مليون أمريكي من هذا النوع، أم أن الأكاذيب الكبرى سبقت ترامب بعقود وأنها جزء لايتجزأ من السياسة الخارجية والداخلية الأمريكية؟

في مقال « الجحيم الامريكي» المنشور في الصفحة الاولى من « نيويورك تايمز «، يقول تيموثي سنايدر، المؤرخ المتخصص بالفاشية، إن أكاذيب ترامب الكبرى هي مقدمات الفاشية. فيحاججه الاكاديمي العراقي منذر الأعظمي مذكرا: « لكن النخب الليبرالية ( ومنها الجريدة نفسها) هي التي بدأت او تواطأت مع الأكاذيب الكبرى. لنتذكر الحرب على العراق، وقبلها حادث مضيق تونكين الذي بدأ حرب فيتنام. وهناك أكاذيب الكيان الصهيوني وخيوط التآمر الرسمي المحتملة في إغتيالات الستينيات وأبرزها كندي ومارتن لوثر كنغ. أما ترامب نفسه فانه يشكل مجيء شخصية نرجسية فظة الى قمة السلطة وهو ما ابرز خطورة هذا الطريق». وكيف يمكن نسيان أكذوبة العصر التي أطلقها وزير الخارجية كولن باول، يوم 5 فبراير 2003، عن امتلاك العراق اسلحة دمار شامل تهدد أمن العالم كله، مخاطبا مجلس الأمن الدولي: « زملائي، كل معلومة أدلي بها اليوم مدعومة بمصادر. مصادر راسخة. هذه ليست تأكيدات. ما نقدمه لكم هو حقائق واستنتاجات مبنية على استخبارات لا يتطرق اليها الشك».
هذه الأكاذيب التي شرعنت غزو العراق وتخريبه المستمر حتى اليوم قبل وصول ترامب الى الحكم، دفعت المحامية العراقية سجى رؤوف الى اطلاق هاشتاغ تحرير أمريكا على نهج عملية تحرير العراق. وما تكتبه سجى ليس عاديا. فهي تكتب مشاعرها، بشكل يوميات، بجملة واحدة او اثنتين، مكثفة بالسخرية المريرة والغضب والمخيال التراجو كوميدي. هل هي الشماتة؟ لا أعتقد ذلك. فهي، كما الكثير من العراقيين، لاتزال تعيش أيام دق طبول الحرب وغزوه أمريكيا. وما تكتبه مستوحى من لحظات الهجوم على الكابيتول، وما استحضرته من مشاهد مماثلة بقيت محفورة في ذاكرتها. في سيناريو نزف المشاعر واحاطتها بالسخرية لكي لا يموت المرء كمدا من شدة الظلم، تكتب سجى، بالانكليزية، عن ضرورة تدخل العراق عسكريا لتحرير أمريكا وإعادة الديمقراطية اليها، على الرغم من انها كانت، طوال حياتها مناهضة للحرب. ويضع السيناريو خطوات ومستلزمات التحرير التي لن تكلف العراقيين فلسا مادامت أموال النفط مستغلة مجانا على اية حال. إلا أنها تربط عملية التحرير، كما فعل « محرر» العراق الامريكي بتشريعات، تفرضها على الشعب بعد تحريره. « عليكم تعلم اللغة العربية. استبدال الدولار بالدينار. وافرشوا السجادة الحمراء لاستقبال محرريكم العراقيين. انه تحرير وليس احتلالا. هاشتاغ العراق يحرر أمريكا 2021». والى الجنود العراقيين الذين نراهم على ظهور الدبابات المتقدمة نحو الكابيتول لتحريره وهم يحملون علم العراق عاليا، بينما يرحب بهم عدد من المتظاهرين بالأزهار والحلوى، توجيهات اخرى: « خلافا لعام 2003، علينا حماية المتاحف. يمكننا إعادة اعمار متاحفنا بمحتويات سميثسونيان. لن نضعهم في أبو غريب».
أتساءل ثانية: هل هي الشماته؟ لا أظن ذلك. انه استحضار للغة حرب ظالمة بنيت على الأكاذيب وازدواج المعايير، وهو استحضار ضروري للتذكير. لئلا ننسى. فاذا كانت أمريكا، ومعها دول الديمقراطية مصدومة، كما يقال لنا إعلاميا، لما أصاب « مهد الديمقراطية» فكيف تواصل قلوبنا النبض، وعقولنا التفكير بشكل منطقي، نحن الذين رأينا قصف وتهديم « مهد الحضارة»؟

كاتبة من العراق

 

 

عالم الإنترنت

 يتحدى النظام العراقي

هيفاء زنكنة

 

غالبا ما يلجأ الصحافيون في نهاية العام او بداية العام الجديد الى جرد أهم الأحداث في بلدانهم والعالم. خطوة يرونها ضرورية لاستشراف المستقبل واستخلاص الدروس . خطوة تساعد، احيانا، وحسب موقع الصحافي ، على الدفع لتغيير مسار سياسي حكومي أو اتجاه عام . يؤثر على عملية الجرد ، وهي عملية انتقائية بالضرورة، مدى أهمية الخبر على بلد الصحافي اولا. ففي بريطانيا ، مثلا، اختار عديد الصحافيين ، على اختلاف توجهاتهم وايديولوجية الصحف التي يتعاملون معها، البريكست ، اي مغادرة اوروبا ، وانتشار كوفيد 19 كأهم حدثين أثرا وسيؤثران على مستقبل بريطانيا بالاضافة الى ما يسمونه التوسع والهيمنة الصينية الاقتصادية.
بالنسبة الى البلاد العربية ، من الصعب استشراف المستقبل استنادا الى حدث او حدثين. فاختيار الصحافي الغربي للأحداث يتم وهو يتمتع بالأمان الفردي والعام وحرية التعبير والاختيار. هذه الحرية والاستقلالية ، رفاهية يفتقدها ويحلم بها الصحافي في بلداننا. فكل ما يقوم به او يبحث عنه استقصائيا او يقوم بالتنبيه اليه خاضع للرصد والمراقبة ويعرض حياته للخطر. واذا حدث ولم يكن الرقيب جالسا في الصحيفة التي يعمل فيها أو يرصده عن مبعدة في إحدى الدوائر الوزارية – الأمنية ، فانه جالس حتما في عقل الصحافي. حيث بات حضوره، بمرور الوقت، أمرا مألوفا. كما الورقة والقلم والحاسوب، يحمله معه الصحافي، اينما كان. السبب الآخر لصعوبة انتقاء ما هو مهم، فعلا، خلال العام وبالتالي تمكين الصحافي من الكتابة عن انعكاساته المستقبلية هو كثرة الأحداث ( أو لعل الأصح القول بأنها كوارث) التي تمر بها بلداننا ، وتداخلها بحيث من الصعب تفكيك الاساسي من السطحي والاقتصادي من السياسي، والاجتماعي من القانوني، وحقوق الإنسان من الثقافي / الديني. الكل متداخل بشكل مربك تُسّيره الجهات الرسمية وفق أجندة حماية مصالحها الذاتية وديمومة بقائها. تضاف الى ذلك صعوبة تفكيك الأحداث المحلية المرتبطة بالوجود الأجنبي سواء بشكل احتلال استيطاني كما في فلسطين او هيمنة امبريالية تتصارع مع ميليشيات طائفية، مدعومة اقليميا، كما في العراق. واذا كان الحدث الاول المتفق على اختياره عربيا ، لعام 2020، هو وباء الكورونا ، وهو اختيار آمن، فان الاختيار الثاني وهو اعلان الإمارات والبحرين والسودان وسلطنة عمان والمغرب، الكشف عن علاقاتها، شبه السرية، مع الكيان الصهيوني واضفاء الصبغة الرسمية عليها، لم يحظ بالاجماع، لا لكونه حدثا لا يهم الشعوب، ولكن لاستشراس الأنظمة العربية المتزايد ، وتنويعها اساليب التخويف والترهيب.
ويشكل النظام العراقي « الجديد – الديمقراطي» ، بعيدا عن الدخول فيما يسمى منافسة الضحايا حول من هو الأكثر تعرضا للقمع، نموذجا جيدا يؤهله لاحتلال مكانة متميزة، توازي مكانته المتقدمة في قائمة الفساد، بين أنظمة الدول العربية المستشرسة في معاقبة شعوبها. وخلافا لما يجري الترويج له عن حرية التعبير في « العراق الجديد» ، تؤكد كل التقارير الحقوقية الدولية والمحلية ، أن الصحافي المستقل، والناشط الحقوقي، وكل مواطن يرفض التزام الصمت ازاء جرائم النظام، معرض للعقاب بأشكال ودرجات مختلفة. تبدأ بالتهديد والاعتداء الجسدي وتنتهي بالخطف أو الاغتيال . فكل الطرق مفتوحة والأبواب مشرعة حين يتمتع القتلة بالحصانة من المسؤولية والمقاضاة. مما يجعل العراق واحدا من البلدان الأكثر خطرا على الصحافيين والناشطين المستقلين، حسب عشرات التقارير الحقوقية. من بينها مركز الخليج لحقوق الإنسان، الذي وثق قائمة تضم 43 ناشطاً تعرضوا للتهديد بالقتل المباشر جنوب العراق عام 2020، مما اضطرهم جميعاً إلى مغادرة مدنهم. كما وثّق مرصد الحريات الصحفية (
JFO) انتهاكات 2019، وقد بلغت» 477 انتهاكاً، منها 87 حالة احتجاز واعتقال، و98 حالة منع وتضييق، و32 حالة اعتداء بالضرب، و4 هجمات مسلَّحة، و243 ملاحقة قضائية، و4 حالات إغلاق ومصادرة، وإغلاق 4 قنوات فضائية. ولم تسلم هذه القنوات وغيرها من اقتحام الجهات المسلحة وتكسير معداتها والاعتداء على كوادرها بالضرب. كما سجّل العام مقتل تسعة صحافيين».

أثبت عالم الإنترنت أنه، بعبوره حدود البلدان، أكبر وأوسع من أن تحده قضبان السجن، وأن المواطن العادي لم يعد مجرد متلق للأخبار الجاهزة المؤدلجة

ان حجم ما يعيشه الصحافيون والناشطون، منذ عام 2003، وحتى اليوم، سواء تحت الاحتلال الأمريكي المباشر او غير المباشر بالتزامن مع « انتخاب» الحكومات، وتحكم المليشيات المدعومة ايرانيا بها وبالشارع، يجعلهم معاقين في أداء عملهم، وتحديد الأهم من المهم وفرز المهم من غير المهم، ونشر المعلومة الموثقة واضاءة المستور من الممارسات الحكومية والمجتمعية، أي المساهمة في نشر التوعية حول كل ما يدور في البلد . وهي مهمة تتطلب، بالاضافة الى الوقت والجهد الجسدي، تركيزا وتفرغا لايتاح لمعظم الصحافيين، وهم يعيشون دوامة انعدام حرية الحركة والتهديد أما بقطع الرزق أو الرأس.
وما يزيد من سوء الوضع هو استحداث النظام قوانين تشرعن ممارساته أمام العالم الخارجي، وتغطي حملة الاغتيالات المستهدفة للصحافيين والناشطين المستمرة من قبل القوات الأمنية والميليشيات، المسجلة دائما ضد مجهولين. آخرها مشروع قانون الجرائم الإلكترونية أو تقنية المعلومات، الذي جوبه بحملة معارضة شعبية وتضامنية من قبل منظمات عالمية من بينها « هيومان رايتس ووتش». اذ يتضمن القانون « مواد غامضة تسمح للسلطات بأن تعاقب بشدة أي شخص يكتب على الإنترنت تعبيرا ترى أنه يشكل تهديدا للمصالح الحكومية أو الاجتماعية أو الدينية». مما يعني ان القانون يماثل الى حد كبير، في تفسيراته المفتوحة، حسب الطلب، قانون 4 لمكافحة الإرهاب الذي يستخدم للادانة بالارهاب مرتكبي 42 فعلا ، مهما كانت صحة أو درجة خطورتها. ومن الواضح من قراءة مشروع القانون الجديد انه يستهدف من ينتقدون الأوضاع أو يتناولون الشؤون العامة للبلاد، او الذين ينشرون معلومات بغرض كشف ملفات الفساد، مما يعني إغلاق المتنفس الأخير لكل المواطنين ونصب قضبان السجون حول مواقع التواصل والرغبة بالحصول على المعلومة بعيدا عن الاعلام الدعائي الرسمي. وهي خطوة تتسم بالغباء حتى من منظور الأنظمة القمعية المستهينة، بلا حياء، بمواطنيها. فقد أثبت عالم الإنترنت أنه، بعبوره حدود البلدان، أكبر وأوسع من أن تحده قضبان السجن، وأن المواطن العادي لم يعد مجرد متلق للأخبار الجاهزة المؤدلجة.
إن تضييق حرية الحركة والتعبير الفعلي داخل العراق، وشرعنة العقاب قانونيا، ومقصلة التهديد المعيقة للبحث والاستقصاء لكشف الحقائق، تتطلب اللجوء الى الإنترنت أكثر فأكثر بوصفه ، اضافة الى فوائده، مساحة مفتوحة للتضامن العالمي ودعم قدرة الناشطين والصحافيين وكل المواطنين على النضال لإزالة « الرقيب» المنغرز، داخل العقول. ولتكن ردود الافعال على منظومة القمع ، عبر التضامن العالمي الشعبي، بالاضافة الى المظاهرات والاعتصامات، الحدث الأهم للسنوات المقبلة.
كاتبة عراقية

 

 

هل بإمكان المثقف

العراقي إشاعة التفاؤل؟

هيفاء زنكنة

 

ارتدت الشابة العراقية شيماء العباسي (23 عاماً) معطف بابا نويل الأحمر، ثم تجولت، بدراجتها، وسط أنقاض وحطام المدينة القديمة، بالموصل، شمال العراق، وهي توزع الهدايا لأطفال المدينة المنكوبة، بمناسبة عيد الميلاد.
وانطلقت يوم الأحد الماضي، بطولة أندية العراق للسيدات بالمصارعة الحرة في محافظة الديوانية، في منطقة الفرات الاوسط . استمرت البطولة مدة ثلاثة ايام بمشاركة أكثر من 15 ناديا، من اغلب المحافظات وبجميع الفئات العمرية. في اليوم نفسه، تم نصب شجرة عيد ميلاد تضيئها المصابيح الملونة و 2021 ، استعدادا للاحتفاء بالعام الجديد ، في ساحة التحرير، وسط بغداد. وهي الساحة التي شهدت ، منذ الاحتلال عام 2003، مظاهرات واعتصامات توجت بانتفاضة تشرين الأول / اكتوبر 2019 ، بشهدائها وجرحاها ومعتقليها وفنونها وأغانيها وتغيراتها السياسية والاجتماعية. قبل ذلك، بادر مواطنون في مدينة السماوة، جنوب غرب بغداد، إلى تغليف أعمدة الكهرباء بمادة النايلون لحماية المارة وخصوصا الأطفال من الصعقات في فترة هطول الامطار وبعد أن يئسوا من قيام المسؤولين باتخاذ اية خطوة لوقاية الأهالي من الموت. تشكل هذه المبادرات ، واستعادة ذكرى عام الانتفاضة ، نفحة أمل، يستدعيها العد التنازلي لأيام العام الحالي المغرق بالعتمة.

 كيف التعامل مع طبقة سياسية تتغذى على ريع النفط بمليارات الدولارات وتنتعش على الفساد، وتسكت من يعارضها أو يخالفها، بإرهاب الميليشيات وقدسية المرجعيات الدينية؟

فمن الحقائق التي نكاد نتقبلها، بلا نقاش، أن إطلالة كل عام جديد تحمل في طياتها الأمل، مهما كان الواقع سوداويا مريرا. واذا ما تلاحمت دقائق الايام المقبلة بما يقال حول دور المثقف في اشاعة الامل او على الاقل عدم إشاعة اليأس والاحباط، لئلا يموت الناس كمدا ، تصبح للكتابة ، نهاية العام وبداية عام آخر، نكهة مختلفة .هذه بديهية عامة، تنطبق على كل الاعوام، تقريبا، فكيف اذا كان العام الذي نتحدث عن مغادرته هو 2020 ، بكل ما جلبه من وباء وازمات اقتصادية وانهيار المناخ، على مستوى العالم، وتأثير ذلك كله على العلاقات السياسية والاجتماعية، في بلداننا ؟ واذا كان العام الذي سنستقبله متسربلا بما كشفه الوباء عن أوجه اللامساواة والظلم ، والاستغلال ، والفساد المنهجي، والتقسيم العنصري الواضح بين إنسان العالم الاول وانسان العالم الثاني، كما يؤكده فشل قضايا المساءلة القانونية الدولية، متمثلا بالنسبة الى العراق بقرار وفجوة العلاقات بين الدول العسكرية الكبرى والدول المحتلة التي يتنازع أهلها على رمال الهوية والوطنية المتحركة؟
وهل بإمكان المثقف ، فعلا ، تجاوز هذا الواقع بما يطرحه من تحديات ليركز على زرع الأمل ( بما يحمله من تلفيق وتضخيم أحيانا) متجاوزا دوره وما يجب عليه القيام به ، كما يلخصه الكاتب فاسلاف هافيل، الذي عاش تجربة تقسيم بلده الى بلدين وتسنم منصبين في ظروف استثنائية نادرة حيث شغل منصب آخر رئيس لبلده تشيكوسلوفاكيا ثم أصبح أول رئيس لجمهورية التشيك بعد التقسيم . «يجب على المثقف أن يزعج باستمرار ، يجب أن يشهد على بؤس العالم ، يجب أن يكون استفزازيًا من خلال كونه مستقلاً ، يجب أن يتمرد على جميع الضغوط والتلاعبات الخفية والمفتوحة، يجب أن يكون المشكك الرئيسي في الأنظمة … ولهذا السبب، لا يمكن للمثقف أن يتناسب مع أي دور قد يتم تكليفه به … ولا ينتمي بشكل أساسي إلى أي مكان: فهو يبرز على أنه مصدر إزعاج أينما كان». يطرح تعريف فاسلاف الكثير من الاسئلة من بينها التناقض أو الشرخ ما بين أفكار الكاتب وممارساته. وهو شرخ عاشه فاسلاف نفسه ، كما يعيشه، في بلادنا العربية، الكثيرون من كتابنا ومثقفينا.
عراقيا، يمتد الشرخ، ليطفو ما هو مغمور فيه، على سطح ضحل لايتحمل ثقل الأسئلة الأساسية. ما هو برنامجنا؟ وكيف نتحمل كأفراد (فنحن أفراد.. قبل أن نكون أمما) إذا أردنا البقاء على قيد الحياة؟ ما هي أوجه التكيف التي يجب أن نتوصل اليها مع صعود الأنظمة الاستبدادية والصراعات الأهلية، ومع استمرار الاستعمار القديم بالهيمنة على منطقتنا بأوجه جديدة ؟ هل لدينا، لمواجهة القتلة والحكام الفاسدين والميليشيات وقوى الاحتلالين العسكري والناعم، سيناريو ثان اذا ما فشل السيناريو ألاول؟ سيناريو مواصلة الحياة بعد رحيل الشهداء، والنضال السلمي بعد المقاومة المسلحة، وكيفية تحقيق التحولات المجتمعية التقدمية، وبناء التضامن مع العالم الخارجي، ونحن نعلم جيدا أن نصفه، على الأقل، يرى أن الخنوع والاستسلام هو السلام وان صناعة الموت دفاع عن الامن القومي؟ كيف نتعامل مع المجتمع الدولي الذي أقنع الناس بأن القانون الدولي هو بديل الموقف الأخلاقي بينما يطبق درجات مختلفة من القانون / القيم الاخلاقية حسب قوة الدول العسكرية، ومثالها اعلان المحكمة الجنائية الدولية أنها لن تتخذ أي إجراء ضد المملكة المتحدة رغم عثورها على أدلّة على تورّط قوات من الجيش البريطاني بارتكاب جرائم حرب في العراق؟ كيف التعامل مع دول يمارس رؤساؤها الإرهاب «قانونيا» ، ويصنفون « الارهاب» حسب مصالحهم، كما فعل الرئيس الأمريكي ترامب اخيرا حين أصدر عفواً عن أربعة مرتزقة من شركة «بلاك ووتر» للخدمات الأمنية الخاصة كانوا يقضون عقوبات بالسجن لقتلهم 14 مدنيا عراقيا، بينهم طفلان، في بغداد؟
محليا ، كيف التعامل مع طبقة سياسية تتغذى على ريع النفط بمليارات الدولارات وتنتعش على الفساد، وتسكت من يعارضها أو يخالفها، ولو كان من بين صفوفها، بإرهاب الميليشيات وقدسية المرجعيات الدينية؟ مثال ذلك التهديد الذي أطلقه أبو علي العسكري، المسؤول الأمني لميليشيا « كتائب حزب الله» في تغريدة له يوم السبت الماضي ، ضد رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي، قائلا بأن « الوقت مناسب جداً لقطع أذنيه».
هل هذه لحظة صالحة لبعض التفاؤل – كيف تبدو وكيف يمكن المضي قدمًا؟ ليست لدي اجابة جاهزة . بل اقتبس من الفنان الفلسطيني الراحل ناجي العلي، الذي دفع حياته ثمنا لما يؤمن به، قوله إن دور المثقف هو شرح الحال وليس توفير الحل. مما يعني ان الحل بيد الشعوب. ماذا عن التفاؤل ؟ « التفاؤل هو استراتيجية لبناء مستقبل أفضل. لأنه ما لم تعتقد أن المستقبل يمكن أن يكون أفضل ، فمن غير المرجح أن تتقدم وتتحمل مسؤولية تحقيق ذلك. إذا افترضت أنه لا أمل ، فأنت تضمن أنه لن يكون هناك أمل. إذا افترضت أن هناك غريزة للحرية ، فهناك فرص لتغيير الأشياء ، فهناك فرصة قد تساهم في صنع عالم أفضل. الخيار لك» كما يذكر المفكر الأمريكي نعوم تشومسكي.
كاتبة من العراق

 

مهندسو النفط

عاطلون في عراق النفط

هيفاء زنكنة

 

عاد خريجو كليات الهندسة للتجمع يوم الأحد الماضي، احتجاجا، أمام مقر مصفى الشعيبة، غرب مدينة البصرة، جنوب العراق. سبب العودة هو عدم استجابة الحكومة لمطالبهم في التعيين بشركات النفط. وكانوا قد تظاهروا قبل ذلك بايام، وقطعوا الطريق المؤدي الى المصفى، بعد أن شكّلوا حاجزا لمنع الموظفين من الدخول. وتعتبر مصفاة الشعيبة واحدة من اهم وحدات تكرير النفط في الجنوب.
هذه ليست المرة الأولى أو الثانية التي يحتج فيها خريجو كليات الهندسة سواء في محافظة البصرة أو بقية أرجاء العراق. فقد سبقها عديد الاحتجاجات، في السنوات الاخيرة، حيث كان الخريجون في واجهة المتظاهرين في انتفاضة تشرين/ اكتوبر 2019، المطالبين بوطن يتمتعون فيه بحقوقهم الأساسية ومن بينها حق العمل. وشهدت الشهور الاخيرة، مع زيادة انتشار فايروس كورونا ونسبة العاطلين عن العمل، تكثيفا في الاحتجاجات.
ففي يوم 4 تشرين الثاني/ نوفمبر، خرج مئات الخريجين المعتصمين منذ 120 يوماً في مسيرة احتجاجية سلمية راجلة، جابت الشوارع المحيطة بشركة نفط البصرة للمطالبة بتوفير العمل لهم. إلا أن التجاهل الحكومي أدى الى تطوير الاحتجاج وفي يوم 19 تشرين الثاني/ نوفمبر، قام عدد من الخريجين باغلاق مدخل البئر النفطي 20 ومدخل بوابة شركة نفط البصرة، في خطوة تصعيدية عسى أن يجلب ذلك الانتباه الى وضعهم المتأزم إلا أنهم قوبلوا بالصمت الحكومي المطبق. فأصدروا بيانا يوم 9 كانون الاول/ ديسمبر خاطبوا فيه رئيس الوزراء ووزير النفط ونواب المحافظة ومدير الشركة بالإضافة إلى الشركات النفطية كافة بخصوص وضعهم ومطالبتهم بتصديق الوعود التي قطعوها لهم بشأن التعيين.
ساهم الخريجون، على اختلاف اختصاصاتهم، في المظاهرات والاعتصامات المطالبة بالعمل، منذ احتلال البلد وتسنم الفاسدين المناصب في محاصصة تُجّذر وجودهم. ويقدر البنك الدولي أن نسبة البطالة بين الشباب في العراق تبلغ 36 بالمئة، مقارنة بمعدل البطالة الوطني البالغ 16 بالمئة. ومن بين هؤلاء الشابات والشباب العاطلين وغير القادرين على تكوين أنفسهم ودعم عوائلهم، هناك أكثر من مليون ونصف المليون ممن تخرجوا منذ الاحتلال من الجامعات والمعاهد العالية بجميع الاختصاصات. وبصرف النظر عن تدني المستوى التعليمي فهم أعلى فهما وقدرة وجدوى ممن تجندهم او توظفهم الكتل الحاكمة وميليشياتها من الأميين أو ذوي الشهادات المزيفة. مما يثير تساؤلا حول أهمية خريجي كليات الهندسة بالتحديد؟
والجواب هو أن لمطالبهم خصوصيتها، كونهم أبناء بلد يحتل المرتبة السادسة عالميا كأكبر منتج للنفط خلال عام 2019، بعد أمريكا والسعودية وروسيا وكندا والصين، اضافة الى أن بلدهم يملك خامس أكبر احتياطي للخام في العالم، يمثل 18 بالمئة من احتياطيات الشرق الاوسط وتقريبا 9 بالمئة من الاحتياطيات العالمية للنفط. إلا أن القاء نظرة واحدة على أوضاع شعوب البلدان الخمسة، عموما، من الناحية الاقتصادية والرعاية الصحية والاجتماعية وفرص العمل، بالمقارنة مع العراق، والاستهانة بالمواطن ومحاربته في لقمة عيشه، أكثر من كاف لفهم سبب المظاهرات والاعتصامات المستمرة فيه والتي يدفع الشباب ثمنها بتكلفة باهظة الثمن.

أدى سوء تقديم الخدمات والفساد المستشري إلى جانب ارتفاع معدلات البطالة والفقر في العراق إلى مظالم عامة حتى قبل انتشار الوباء العالمي

إن ما يطالب به خريجو الهندسة بسيط بساطة استنشاق الهواء وهو حقهم بالعمل في حقولهم النفطية، أي في حقول يفترض أن تكون ملكهم كمواطنين عراقيين، مؤهلين للعمل في مجال اختصاصهم الذي قضوا سنوات وهم يستعدون له ولهم الأولوية في العمل وهو حق من حقوقهم وليس منة تتفضل بها شركات النفط الأجنبية مثل أكسون موبيل الأمريكية وبي بي البريطانية ورويال دتش شل البريطانية الهولندية، فضلا عن الشركات الصينية والروسية المهيمنة على حقول النفط والتي تفرض تعيين المهندسين والأيدي العاملة الأجنبية بجنسيات باكستانية وبنغلاديشية وفليبينية بالاضافة الى البريطانية والأمريكية، بينما ينظر الى توظيف العراقي كنسبة تقع ضمن تصنيف استخدام « السكان المحليين» وليس أصحاب البلد ومالكيه. لذلك، من الطبيعي، أن يكون المهندس والتقني والعامل والحارس العراقي من أوائل من تنهى خدماتهم حالما تتعرض الشركات لانخفاض نسبة الأرباح أو تقليص الميزانية. مثال ذلك، ما تم في الآونة الاخيرة حين تم ارسال 15 ألف عامل عراقي الى بيوتهم عند انخفاض اسعار النفط.
يبرر النظام العراقي عدم قدرته على تعيين عموم الخريجين وتدهور الوضع الاقتصادي وازدياد الفقر المهدد 5.5 مليون عراقي ( حسب المرصد الاقتصادي للعراق التابع للبنك الدولي) بانهيار اسعار النفط وانتشار وباء كوفيد 19. الا ان هذا ليس صحيحا بل إنه فبركة مفضوحة لستر الحقيقة، وهي محاصصة الفساد النهمة بين أحزاب النظام ومؤسساته التي انتشرت قبل الوباء وحتى قبل ظهور داعش. وهذا ما يؤكده البنك الدولي في تقرير له في 1 تشرين الثاني/ نوفمبر 2020، جاء فيه «أدى سوء تقديم الخدمات والفساد المستشري إلى جانب ارتفاع معدلات البطالة والفقر إلى مظالم عامة حتى قبل انتشار الوباء العالمي». اذ ليس خافيا على أحد تبوؤ العراق مركزا متقدما في قائمة الدول الفاسدة بالعالم، كما أن حكومات الاحتلال المتعاقبة لم تؤسس لأية صناعة وطنية بل قامت بتحطيم ما هو موجود منها. اختفت الصادرات الوطنية مثل الرز، والفواكه المجففة، والمصابيح الكهربائية، ونواتج قطران الفحم، والإسمنت، والصوف، وجلود الحيوانات، والمنتجات النحاسية، والمواد الكيميائية المبلمرة، والشاحنات، وأجزاء السيارات، مما جعل العراق « من أقل الدول تنويعاً في الصادرات في العالم. في عام 2018، لم يكن سوى 4.1 بالمئة فقط من صادرات العراق يشتمل على أي شيء آخر غير النفط الخام، منخفضة عما كانت عليه عام 2004 عندما بلغت 8.5 بالمئة. وأدى التخلي عن المزارع والمصانع خلال سنوات الصراع إلى إضعاف القدرة الإنتاجية للعراق بشكل كبير. ونتيجة لذلك، فإن الحصة المشتركة للزراعة والتصنيع في الناتج المحلي الإجمالي للعراق انخفضت بنحو ثلاثة أرباع منذ أواخر الثمانينيات» حسب البنك الدولي.
بلا صناعة وبلا زراعة، ومع استخدام التعيينات الحكومية كأداة لتقوية الأحزاب الفاسدة على حساب الكفاءات والتنمية استنادا الى الانتاج والصناعة الوطنية، تؤكد يوميات الاحتجاجات في العراق كله، خاصة من قبل الخريجين، أنها باقية ولن تنتهي ما لم يحدث تغيير حقيقي على مستوى الوطن كله.

كاتبة من العراق

 

 

مظاهرات عرب وكرد

العراق غير مجدية

هيفاء زنكنة

منذ الثاني من كانون الأول/ ديسمبر والمظاهرات مستمرة وإطلاق النار على المتظاهرين السلميين مستمر، وأعداد الشهداء والجرحى في تزايد بالعراق.
توثق الفيديوهات مطاردة القوات الأمنية للمتظاهرين واستهدافهم بالرصاص الحي. خلال أسبوع واحد استشهد تسعة شباب وجرح 59. كلا، هذه ليست ساحة التحرير، ببغداد، أو ساحة الحبوبي، في مدينة الناصرية، جنوب بغداد. كما أنها ليست مدينة الفلوجة أو الموصل. إنها ليست الساحات والمدن التي باتت المظاهرات والاعتصامات ملمحا من ملامحها العمرانية ومسيرات وداع الشهداء جزءا من شوارعها. كما أن المحتجين ليسوا، هذه المرة، ممن يمكن قولبتهم ضمن التوصيفات الجاهزة: سنة أو شيعة أو دواعش أو قاعدة. المتظاهرون المستهدفون بالاعتداء والاعتقال والقتل هم من مدينة السليمانية، شمال العراق، في إقليم كردستان. الإقليم الموسوم من قبل الإعلام الغربي بنموذج الديمقراطية وحقوق الإنسان.
خرج المتظاهرون، كما في بقية محافظات العراق، احتجاجا على عدم دفع الرواتب والبطالة والفساد. ما يميزهم عن المتظاهرين في بقية أرجاء البلاد، هو أن رواتبهم تدفع من قبل حكومة الإقليم التي تقبض ميزانيتها من الحكومة المركزية ببغداد. بين الحكومتين ضاعت الرواتب على الرغم من ميزانيتيهما الخيالية، وحيازتهما على مليارات الدولارات النفطية، بالقياس إلى ما كانتا عليه قبل الاحتلال عام 2003، غير أن شراهة فساد الحكومتين تزداد يوما بعد يوم.
امتدت المظاهرات، بسرعة، لينضم إليها سكان بلدات وقرى في ضواحي محافظة السليمانية الواقعة تحت سلطة الاتحاد الوطني الكردستاني، وليصب غضب الناس على رئاسة الحكومة المتمثلة بالحزب الديمقراطي الكردستاني والذي ينتمي إليه رئيس الإقليم ورئيس الوزراء. فإقليم كردستان، خلافا للتسمية التي قد تدل على وحدة الكرد، مقسم عمليا، سياسيا وإداريا ومؤسساتيا بين الحزبين، أو الأصح سلالة العائلتين الحاكمتين وهما عائلة / عشيرة البارزاني (مقرها الرئيسي أربيل) وعائلة الطالباني (مقرها الرئيسي السليمانية). وإذا كانت خلفية المتظاهرين في السليمانية وما حولها، بضمنها مدينة حلبجة، الوجه الإعلامي المعروف عالميا بضحايا السلاح الكيمياوي، مختلفة من الناحية الإثنية عن بقية المدن العراقية المنتفضة، إلا أن الطريقة التي ووجهت بها واحدة. إذ سرعان ما اتهم المتظاهرون بتهديد الأمن القومي وتدخل قوى خارجية مما شرعن شراسة القوات الأمنية والاعتداءات الجسدية والاعتقالات والغاز المسيل للدموع والاستهداف بالرصاص الحي، لتثبت وحشية التعامل مع المتظاهرين أن الحاكم المستبد واحد والنظام القمعي واحد، مهما كان الدين أو المذهب أو العرق. وأن الفساد الذي يغذي وجودهم واحد، والخوف من أبناء الشعب المستهان بكرامته واحد.
تبين الفيديوهات المتداولة على صفحات التواصل الاجتماعي، بوضوح، حجم الخوف الذي تعيشه السلطة الفاسدة من أبناء الشعب المحروم من حقوقه. حيث تم إنزال الدبابات والمدرعات إلى الشوارع، وأغلقت ساحات معروفة للمظاهرات، ليحتلها مسلحون مقنّعون مدججو السلاح إزاء شباب تكاد تبتلعهم الفجوة الهائلة بين الثراء المليارديري السريع، المبتذل، لساكني المجمعات السكنية المحمية بحراسات شركات أمنية خاصة وبين الشباب العاطل الهارب إلى أوروبا في قوارب الموت.

المنافسة بين الحكومتين لتصدر قائمة النهب والفساد والمحسوبية والمنسوبية محمومة، ومثقلة بدماء ضحايا الاحتجاجات من أبناء العراق كله، بلا استثناء

تبرر سلطة الإقليم فشلها في دفع الرواتب وقلة الخدمات بـ« عدم وفاء حكومة بغداد بالتزاماتها المالية». والحقيقة هي أن المنافسة بين الحكومتين لتصدر قائمة النهب والفساد والمحسوبية والمنسوبية محمومة، ومثقلة بدماء ضحايا الاحتجاجات من أبناء العراق كله، بلا استثناء. فهذه ليست المرة الأولى التي يتظاهر فيها الكرد في محافظات الإقليم، كما أنها ليست المرة الأولى التي يٌستهدف فيها المتظاهرون والصحافيون بالعنف وقمع الحريات. بل إن ما يجري، حاليا، هو استمرارية لعقود من الاقتتال على محاصصة الفساد، بأنواعه، بين الحزبين، تتخللها الاحتجاجات والاعتصامات الجماهيرية المطالبة بوضع حد لامتهان كرامة المواطن وحقوقه الأساسية. ففي 19 فبراير/ شباط 2011، مثلا، تظاهر نحو ثلاثة آلاف من طلاب جامعة السليمانية مطالبين رئيس الإقليم مسعود بارزاني بالاعتذار عن قيام حراس مقر حزبه بإطلاق النار على متظاهرين مما أسفر عن مقتل اثنين وإصابة 57 جريحا. وفي 12 أغسطس/آب، من العام الحالي، خرج المحتجون للمطالبة بتحسين التعليم وفرص العمل وتدابير مكافحة الفساد. وحين قامت قناة إن آر تي، بتغطية الاحتجاجات، أغلقت السلطات الكردية مكتبي القناة في أربيل ودهوك بذريعة « تشجيع تكدير الأمن العام والإضرار بالانسجام الوطني».
على مستوى حرية التعبير، مارست السلطات أنواع التضييق والتهديد وحتى الاغتيال. إذ تم اختطاف الصحافي الشاب سردشت عثمان (23 عاما) في 4 أيار/ مايو 2010 من أمام كلية اللغات، بجامعة صلاح الدين، بأربيل. وعثر على جثته بعد يومين وعليها آثار ضرب وهي مصابة بإطلاقات نارية في منطقة الرأس. وكان السبب كتابته أربعة مقالات ساخرة من السلطة والرئيس بارزاني. أشار في أحداها إلى « كلاب أمريكا البوليسية وحراس إسرائيليين» مستخدمين لحراسة الأغنياء.
كما كتب عن بعض نواحي فساد إدارة الإقليم، قائلا: «هنا بلدٌ لا يسمح لك أن تسأل الرئيس لماذا أعطيت كل هذه المناصب الحكومية والعسكرية لأبنائك وأحفادك وأقاربك؟ من أين أتى أحفادك بكل هذه الثروة؟» مشيرا إلى مصيره «إذا استطاع أحد أن يطرح هذه الأسئلة فإنه قد اخترق حدود الأمن القومي وعرّض نفسه لرحمة بنادقهم وأقلامهم». ولا تقل تهديدات وملاحقة الاتحاد الوطني عن الحزب الديمقراطي، حيث هدد هالو إبراهيم أحمد (شقيق زوجة الطالباني الرئيس الراحل) الصحافي ناباز كوران في 28-2-2008 قائلا «سأقتلك ياكوران حتى لو بقي يوم واحد من عمري». وذلك لمجرد كتابة كوران مقالة نشرت في صحيفة «هولاتي» المستقلة، انتقد فيها قلة الكهرباء في الإقليم بينما يبقى قبر إبراهيم أحمد المشيد بشكل مزار، في أطراف السليمانية، لا تنقطع عنه الكهرباء على مدار اليوم.
إن بقاء الإقليم مقسما، من ناحية توزيع النفوذ والمناصب والعقود، بين الحزبين، بالإضافة إلى استشراء الفساد العام، المغلف بالسياسة والشعبوية القومية، بين حكومة الإقليم والحكومة المركزية، ولجوئهما، سوية، إلى استغلال حملات التخويف والترويع من «الآخر» تتطلب نضالا موحدا من أجل الكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية لكل العراقيين على تنوع قومياتهم وأديانهم ومذاهبهم. لم تعد المطالب الخدماتية المتفرقة لشرائح وطبقات سكانية في مدن ومحافظات، كل على حدة، بلا تنسيق موحد جامع، مجدية بمواجهة أنظمة وسلطات قمعية مستعدة للتضحية بكل المواطنين لتبقى. إن التغيير الحقيقي يتطلب توحيد القوى المؤمنة فعلا بكرامة الإنسان. الإنسان بالمعنى العميق الشامل للإنسانية. وإن العراق بلد يتسع للجميع، ولعل هذا ما عناه سردشت حين كتب قبل اغتياله «وأينما انتهت حياتي فليضع أصدقائي نقطة السطر، وليبدأوا هم بسطر جديد».

كاتبة من العراق

 

 

سويسرا الحيادية تستثمر

أموالها في صناعة الحروب

هيفاء زنكنة

 

قام الشعب السويسري بالتصويت، الشهر الماضي، على مبادرتين لهما أبعاد اقتصادية دولية وانعكاسات أخلاقية وانسانية. لم يتم تمرير أي منهما.
تدعو المبادرة الأولى المسماة «من أجل شركات مسؤولة» الى محاسبة الشركات السويسرية، متعددة الجنسيات، على انتهاكات حقوق الإنسان أو انتهاكاتها للمعايير البيئية التي ترتكبها في الخارج، في زمن بات فيه نفوذ هذه الشركات يفوق غالباً نفوذ البلدان التي تعمل فيها. وتدعو المبادرة الثانية المسماة «مناهضة تجارة السلاح» إلى إضافة مادة إلى الدستور السويسري تحرّم تمويل صناعة الأسلحة. وهذا يعني أن البنك الوطني السويسري ومؤسسات التمويل والادخار لن تستطيع منح قروض أو استثمارات للشركات التي يولّد إنتاج المواد الحربية أكثر من 5 بالمئة من عائداتها السنوية. وسيتوجب على سويسرا أيضاً أن تلتزم على المستوى الوطني والدولي بتوسيع هذا الحظر ليشمل البنوك وشركات التأمين.
تثير نتيجة التصويت عديد التساؤلات حول حضارة الأمم والمستوى الأخلاقي لمواطني دول يتمتعون فيها بحرية الاختيار.
وهل بامكان العالم التطلع الى مستقبل خال من صناعة الحروب وتحقيق السلام، فعلا، أم انها أضغاث احلام « يسارية» لأشخاص ومنظمات، تعيش بعيدا عن الواقع، مستنزفة، ببيعها الأحلام، قوى الناس في نشاطات يعرفون جيدا أنها غير مجدية؟ هل هناك شعب محب للسلام تخلى عن صناعة الحرب المربحة بامكاننا استحضاره كنموذج، لشحن طاقة الأمل بالسلام في ارجاء الكرة الارضية، مستقبلا، وخاصة في منطقتنا التي تعيش 40 بالمئة من الحروب بالعالم؟
إن القاء نظرة على حجم تصنيع وانتاج العتاد الحربي وتصديره، وأهميته الأساسية في اقتصاد الدول المنتجة، وبالتالي انعكاسه على ارتفاع مستوى معيشة الفرد، يبين أن هذه الصناعة المربحة لن تكون مهددة بالانقراض قريبا. بل هناك ما يؤكد، أنها ستبقى، لاسباب سياسية بالاضافة الى الاقتصادية، بمنأى عن التخلي الرسمي والشعبي معا، مهما كانت الدول المصدرة حيادية وتشدّد على تقاليدها الإنسانية واحترامها لحقوق الإنسان، كما هي سويسرا.
تأتي مبادرة « مناهضة تجار السلاح» في سياق ازدياد تصدير السلاح السويسري. واذا كانت الفكرة السائدة عن سويسرا أنها البلد المحايد، المضيف، لأهم المنظمات الدولية الحقوقية والإنسانية والمصّنعة للأدوية والساعات الراقية، فقط، فان الواقع يؤشر الى ما هو أكثر من ذلك. حيث تُصدر سويسرا السلاح وعلى رأسها أنظمة الدفاع الجوي والمدرعات، إلى خمس وخمسين دولة، من بينها دول في حالة حرب بما في ذلك الكيان الصهيوني والسعودية والإمارات.

تكتسب متابعة ما يجري في سويسرا أهمية بالغة بالنسبة إلينا، نحن أبناء البلدان التي يتغذى حكامها ومستبدوها على شراء السلاح ولا مانع لديهم من دفع المليارات ثمنا لأسلحة تستخدم، غالبا، ضد شعوبهم

وتواصل سويسرا تغذية الحرب ضد اليمن بالسلاح منذ أكثر من خمسة أعوام، بالاضافة الى وجود تقارير تؤكد وصول اسلحتها الى سوريا وليبيا، على الرغم من كونها محظورة. اذ من المفترض خضوع صادرات الأسلحة السويسرية إلى مناطق النزاع الى قانون العتاد الحربي، الذي تنص المادة 5 منه على أنه لا ينبغي منح ترخيص تصدير إذا كان بلد المقصد متورطًا في نزاع مسلح داخلي أو دولي؛ وإذا كان ينتهك حقوق الإنسان «بطريقة منهجية وخطيرة»؛ وإذا بدا أن هناك احتمالا لاستخدام الأسلحة المصدرة ضد المدنيين؛ أو إذا كان هناك «خطر كبير في أن تتم إعادة تصدير هذه الأسلحة إلى مستلم نهائي غير مرغوب فيه». الا ان هذه النصوص القانونية المقيدة لم تمنع وصول الاسلحة الى بلداننا، مما دفع حزب الخضر و«مجموعة من أجل سويسرا بدون جيش» والأحزاب اليسارية والمنظمات غير الحكومية الناشطة في مجال تعزيز السلام الى طرح المبادرة الثانية، المستهدفة للشركات التي تحقق أكثر من 5 بالمئة من ربحها السنوي من إنتاج السلاح. مع العلم أن الاستثمار والإتجار بالأسلحة البيولوجية والكيميائية والنووية وكذلك الألغام المضادة للأفراد والذخائر العنقودية محظور في سويسرا.
أثارت هذه المبادرة، النقاش ما بين المؤيدين والمعارضين، لارتباطها بالوضع الاقتصادي العام والمعاشي للمتقاعدين. شكّل معارضو المبادرة لجنة مؤلفة من مسؤولين منتخبين من جميع الأحزاب اليمينية والوسطية وكذلك النقابات المهنية لمحاربتها. فقبولها يعني اعادة النظر في استثمار ما قيمته 1.93 تريليون دولار، يدار من قبل المصرف الوطني السويسري، ومنظومة التأمين ضد الشيخوخة والعجز التي تديرها الدولة، بالإضافة إلى أكثر من ألف وخمسمائة صندوق معاشات مهنية. وأي مس بهذه الاستثمارات يُشعر المواطن بالقلق لما قد يصاحب ذلك من تدهور في وضعه الاقتصادي، بالاضافة الى تقليل فرص العمل المرتبطة بتصنيع السلاح. فحسب تقرير منظمة «لا تستثمر في القنبلة» استثمر المصرف الوطني السويسري و «كريدي سويس» و«يو بي إس» حوالي 9 مليارات دولار في شركات منتجة للمواد الحربية المحظورة في عام 2019، ومنها شركات أيرباص وبوينغ.
يرى مؤيدو المبادرة أن الاستثمار في صناعة السلاح وتصدير المعدات الحربية يُساعد على تأجيج النزاعات المسلحة في جميع أنحاء العالم، مما يتعارض مع صورة سويسرا كوسيط دبلوماسي محايد، ودولة تروّج وتدعم الجهود الإنسانية. كما يقترحون ان هناك صناعات واستثمارات بديلة لتجارة الحروب. «هناك قطاعات أخرى صالحة للاستثمار مستقرة ومُربحة مثل تجارة الحرب» تقول المتحدثة باسم حزب الخضر. هذا صحيح، طبعا، وليس من المستحيل تحقيقه.
الا أن حملة رفض المبادرة المكثفة التي ضمت غالبية مجلس النواب السويسري والأحزاب اليمينية بالاضافة الى النقابات المهنية ( وهي نقطة تستحق الدراسة) وحثهم الناخبين على رفضها، أدت الى عدم تمريرها وان حازت على نسبة عالية من الاصوات.
تكتسب متابعة ما يجري في سويسرا أهمية بالغة بالنسبة إلينا، نحن أبناء البلدان التي يتغذى حكامها ومستبدوها على شراء السلاح ولا مانع لديهم من دفع المليارات ثمنا لأسلحة تستخدم، غالبا، ضد شعوبهم، وبإمكان مصدر السلاح فرض شروط استخدامها عليهم ومنعهم إذا ما عاشوا صحوة ضمير وأرادوا استخدامها ضد أعدائهم الحقيقيين، والأمثلة في فلسطين واليمن وسوريا كثيرة. كما تثير متابعة التصويت في سويسرا تساؤلا بالغ الأهمية وهو اذا كان هذا هو الوضع بالبلد المحايد غير التوسعي فكيف يمكن تحجيم صناعة السلاح والحروب في أمريكا وهي من اكبر الدول المصدرة للسلاح وسياستها تهدف الى الهيمنة على العالم؟
تعتمد صناعة السلاح، في مفهوم السوق التجاري الرأسمالي، على الربح وما يوفره من رفاهية لشعوب الدول المصدرة.
وتنبع مناهضتها، من قبل شرائح مجتمعية دون غيرها، لأسباب أخلاقية وانسانية تخوفا من استغلال الشركات والدول لفرص الربح على حساب حياة الناس. هنا تكمن مسؤولية الحكومات في بلداننا الموبوءة بالاستبداد والقمع والنزاعات المختلقة والحروب في وضع حد لصفقات السلاح المربحة القاتلة، ولأن قدرة حكوماتنا على تنفيذ ذلك مشكوك بها، لعل الضوء الذي يمنحنا الأمل هو العمل سوية مع مناهضي انتاج السلاح وحركات السلام في البلدان المنتجة للسلاح نفسها.

كاتبة من العراق

 

 

اقتتال المجموعات العرقية والمذهبية

في ساحة الحبوبي في العراق!

هيفاء زنكنة

 

إلى قائمة شهداء انتفاضة تشرين الأول/اكتوبر 2019 البالغ عددهم 600 شخص، وجرحاها الذين تجاوز عددهم عشرات الآلاف، أضافت مدينة الناصرية، في محافظة ذي قار، جنوب العراق، في الايام الثلاثة الاخيرة، ضحايا جددا من شباب لم تتح لهم فرصة التمتع بشبابهم وتحقيق طموحاتهم وأحلام ذويهم. سبعة شهداء و85 جريحا.
لماذا؟ لماذا يقتل شبابنا ومعهم تدفن آمالنا ومستقبل بلادنا؟ يتساءل الأهالي المخضبة وجوههم بالدموع وهم يرون أبناءهم يقتلون بلا سبب غير مطالبتهم بحق الحياة بكرامة، وألا يهانوا في بلدهم، على أرضهم، وأن يعيشوا أيامهم كما الآخرون في بلدان أقل ثراء. وأن تتوفر للجميع اساسيات الحياة والمواطنة، وأن يُحترم حقهم بالتظاهر السلمي والاحتجاج اذا ما أساء المسؤولون استخدام سلطتهم ونسوا، أو تناسوا، أن مواصفات وظيفتهم تنص، بوضوح، على أن واجبهم هو خدمة الشعب وليس العكس.
هل هذا صعب التحقيق في بلد ثري بميزانية سنوية تعادل عدة بلدان مجاورة يعيش أهلها ظروفا حياتية تليق بالإنسان؟ هل من الصعب ايجاد اشخاص غير فاسدين ينتمون الى الشعب ويعرفون معنى الحرية والكرامة والوطنية؟ هل الصورة معقدة، فعلا «لأننا بلد متعدد القوميات والمذاهب» كما يحاول الساسة إقناعنا ويروج له إعلاميا، وكان واحدا من تبريرات المحتل « الإنسانية»؟ واذا كان هذا صحيحا في بلد لا يزيد عدد المذاهب والقوميات فيه عن العشرة، واللغات عن اربع، ماذا عن في أندونيسيا حيث تتعايش 1300 مجموعة عرقية تتحدث 652 لغة بسلام؟ ماذا عن الفلبين وبين سكانه 180 مجموعة عرقية؟ و تشاد، في شمال وسط إفريقيا، حيث ينتمي 8.6 مليون نسمة، أي ربع سكان العراق تقريبا، إلى أكثر من 100 مجموعة عرقية؟
تبين مراجعة الجرائم والانتهاكات المرتكبة بحق المواطنين، في ارجاء العراق، على مدى 17 عاما الأخيرة، أنها بدأت بشكل طائفي وعرقي تزامنا مع احتلال البلد وعودة أحزاب المعارضة المتعاونة مع المحتل للاستحواذ على السلطة وهي بلا جذور حقيقية في المجتمع. فكانت بحاجة ماسة الى تجذير وجودها عن طريق التخويف والترهيب واختلاق هويات مصطنعة وادعاء حماية مجموعة سكانية ضد أخرى. إلا أن تصنيع هذه السيرورة الطائفية / العرقية، تلقى ضربة قوية مع انطلاق انتفاضة تشرين، التي أكدت للجميع، على اختلاف الأديان والمذاهب والأعمار والطبقات، من ضمنهم المتضررون حقا من سياسة النظام السابق، وضحايا طائفية نظام الاحتلال والارهاب، ان فساد النظام ولا وطنيته واحتقاره للمواطن هو أساس المشكلة الحقيقية. فكان صوت المحتجين واحدا، بلا تصنيف مسبق، في كربلاء والنجف وبغداد والبصرة والديوانية، مطالبا بوطن وانهاء الفساد المنتشر في كل مؤسسات الدولة والحكومة، وتقديم قتلة المنتفضين للقضاء، والكشف عن مصير الناشطين المخطوفين.
وكادت الانتفاضة أن تحقق ما هو أكثر من هذا، بعد نجاحها باسقاط حكومة عادل عبد المهدي، لولا انتشار فايروس كورونا وميل البعض الى اعطاء الكاظمي فرصة لتحقيق قائمة وعوده الطويلة، والتي تمخضت عن استمرار خطف واعتقال وقتل الناشطين، بالاضافة الى بقاء الوضع الاقتصادي متدهورا، والخدمات الاساسية معدومة، وانتشار السلاح بأيدي الميليشيات المسيطرة بإرهابها على الشارع وحياة المواطنين.

لماذا يقتل شبابنا ومعهم تدفن آمالنا ومستقبل بلادنا؟ يتساءل الأهالي المخضبة وجوههم بالدموع وهم يرون أبناءهم يقتلون بلا سبب غير مطالبتهم بحق الحياة بكرامة، وألا يهانوا في بلدهم، على أرضهم، وأن يعيشوا أيامهم كما الآخرون

عدم الوفاء بالوعود، أعاد المتظاهرين السلميين الى ساحة الحبوبي، وسط مدينة الناصرية، جنوب العراق، وهي ساحة مدينة لا توجد فيها عشرات المجموعات العرقية والطائفية بل تعتز بتاريخها وشعرائها ومغنيها ويتوسطها تمثال الشاعر ورجل الدين المقاوم للاحتلال البريطاني، عام 1915، محمد سعيد الحبوبي. شهدت الساحة، يومي الجمعة والسبت الماضيين، هجوما وحشيا شنه أتباع مقتدى الصدر المسلحين على المحتجين السلميين وحرق خيامهم المنصوبة وسط الساحة، بينما وقفت القوات الامنية متفرجة على ما يجري وبضمنه سيطرة مليشيا الصدر على مركز المحافظة والاستيلاء على الاسلحة الموجودة، حسب بيان للمنتفضين طالبوا فيه استقالة حكومة مصطفى الكاظمي لفشلها « بحفظ هيبة الدولة وحماية أرواح الشعب وحماية حق الاحتجاج والرفض والتعبير».
تراوحت ردود الأفعال حول هجوم أتباع الصدر وقتل المتظاهرين بين الصمت المطبق، خاصة، من قبل الحزب الشيوعي، حليف مقتدى الصدر في قائمة « سائرون» والغضب الشعبي المتبدي في احتجاجات التضامن في مدن أخرى، بالاضافة الى التبادل السريع لأخبار الاحتجاج ونشر صور واسماء الضحايا من الشهداء والجرحى على صفحات التواصل الاجتماعي، والسخرية والتعريض بمقتدى الصدر وتقلبات مواقفه المماثلة لحركة بندول يتأرجح ما بين أقصى اليمين وأقصى اليسار، فضلا عن حالات انزوائه المفاجئة واختفائه أما خارج العراق أو داخله بذريعة اكمال الدراسة أو كتابة الشعر. وغالبا ما تنعكس تقلباته النفسية والعقلية، على قادة تياره وأتباعه، فهو يدعو الى تظاهرة مليونية يوما ثم داعيا إلى «تصفية ساحات التظاهر» يوما آخر، ويطالب الحكومة بالاصلاح بينما هو في صلب الحكومة. تؤدي تقلبات الصدر الى خلق انواع السلوك المختل بين اتباعه مما يجبره، حين يتذكر انه « سماحة حجة الإسلام والمسلمين السيد القائد المجاهد مقتدى الصدر أعزه الله» الى « تصفية» التيار الصدري لتنقيته من « الشوائب» فيصدر أوامره، على موقعه الرسمي وبتغريداته، بطرد هذا المسيء او تجميد نشاط ذاك « و«عليهم التفرغ للعبادة».
تمثل رد فعل رئيس الوزراء الكاظمي، الأساسي، بتشكيل لجنة تحقيق و« خلية ادارة الأزمة». وهو رد فعل مألوف ومتوقع، تعّود عليه المواطنون الذين يعرفون جيدا ان لجنة التحقيق هي مجرد اضافة جديدة الى قائمة تضم مئات لجان التحقيق، التي تمر بلا تحقيق، وهدفها الوحيد هو طمس الانتهاكات والجرائم والتسترعلى القتلة، خاصة، اذا كانوا منتمين الى إحدى الميليشيات. وبينما تُصدر «خلية ادارة الازمة» صورا واخبارا عن مواعيد اجتماعاتها، لا يكف أتباع الصدر، حالما يعطيهم الصدر الاشارة، عن الانطلاق نحو الساحات وهم يحملون السلاح بانواعه، خلافا لبقية المتظاهرين، لاستعراض قوتهم والتأكيد على انهم القوة الحقيقية في البلد، متهمين المتظاهرين بانهم ينفذون أجندات خارجية مشبوهة.
اذا كان هناك ما يستخلص من انتفاضة تشرين، بساحاتها الممتدة في عديد المدن، وعودة المنتفضين اليها على الرغم من وحشية رد فعل الميليشيات ودعم او صمت جهات النظام الأمنية، فهو أن النظام المبني على الفساد والمكون من مجموعات لصوص أكثر منها عرقية أو طائفية، تستطيع، مهما احتربت، في ظروف توفر الريع النفطي وحده، أن تعيد توزيع اسلابها، وهي لا تحتاج الشعب، ما دامت قادرة على التشبيك مع القوى الاقليمية والدولية، تحت مظلة « تقاطع المصالح». وهو درس استوعبه جيل الانتفاضة التشرينية جيدا، وسيعيدهم الى ساحات مدنهم مطالبين بالتغيير المرة بعد المرة.

كاتبة من العراق

 

 

العراق:

الإعدام ثقافة شعبية؟

هيفاء زنكنة

في الوقت الذي تراجع فيه تنفيذ الإعدام في العالم، وانخفضت الأعداد الى حد أدنى، حيث أبطلت نحو 170 دولة عقوبة الإعدام أو أوقفت تنفيذها سواء بالقانون أو الممارسة، للسنة الرابعة على التوالي ضاعف النظام العراقي عدد عمليات الإعدام المسجلة تقريباً بين عامي 2018 و2019 فوصل إلى 100 في 2019 مقارنةً بـ 52 في 2018 محافظا بذلك على مركزه الرابع بين الدول الأكثر تنفيذا لأحكام الإعدام. ولعله يتطلع الى احتلال مركز اعلى، خلال هذا العام، اذ أعدم 21 سجيناً في أكتوبر، ثم 21 سجينا آخر الأسبوع الماضي، في سجن الناصرية المركزي، المعروف باسم سجن الحوت، أدينوا بتهمة الإرهاب والانتماء إلى تنظيم «الدولة الإسلامية».
تباينت ردود الافعال حول حملة الإعدامات ما بين الاستنكار والترحيب. حيث أجمعت منظمات حقوقية عراقية ودولية على استنكار وادانة حملة الإعدامات الجماعية ومن بينها منظمة العفو الدولية ومجلس حقوق الإنسان في الامم المتحدة ومركزجنيف الدولي للعدالة بالاضافة الى عدد من خبراء الأمم المتحدة. وصفت منظمة العفو الدولية الإعدام الجماعي بأنه عمل مشين، حاثة السلطات العراقية على ان تضع حداً لإعدام الناس. إذ ان عمليات الإعدام الانتقامية لا تحقق العدالة للضحايا ولأسرهم، بل إنها تعمل على تعزيز صورة العدالة الجزئية، في الوقت الذي تكون فيه السلطات صامتة فيما يتعلق بالانتهاكات الجسيمة الأخرى التي لا تزال ترتكب في جميع أنحاء البلاد، كالتعذيب، والاختفاء القسري.
واذا كانت ذريعة اللجوء الى تنفيذ الإعدام بهذه الاعداد الكبيرة ( وهي المعلن عنها فقط) بالمقارنة مع بقية الدول في جميع انحاء العالم هي ان من نفذ بهم الحكم هم من الدواعش الإرهابيين، على الرغم من فساد القضاء وإجراء محاكمات جائرة، تستند في احكامها إلى ما يسمى «الاعترافات» التي انتزعت تحت وطأة التعذيب أو المخبر السري والتهم الكيدية، فان بقاء العراق في مركزه العالي، الذي تبوأه قبل ظهور داعش بسنين، وبالتحديد منذ احتلاله، يدل على ان تنفيذ الإعدام سياسة حكومية منهجية لقمع الأصوات المعارضة أو لبث الخوف في قلوب الأقليات أو الجماعات التي لا تتمتع بالحظوة فضلا عن محاولة النظام اثبات سيطرته وقدرته على الدفاع عن اتباعه.
النظام الذي تم تسويقه والترويج له كنموذج شرق أوسطي للديمقراطية وحقوق الانسان، اصبح أداة لسلب الحياة والوجه الثاني للإرهاب الذي يدّعي محاربته حتى حين تكون المعارضة سلمية، كما رأينا اثناء انتفاضة تشرين الأول / اكتوبر 2019 حين تم اغتيال 600 مواطن واعاقة الآلآف. ولم يحدث وتم اعتقال أو محاسبة اي مسؤول عن هذه الجرائم الموثقة بالصور والفيديوهات. انتقائية تطبيق العقاب هذه، واللجوء الى الإعدام رغم عدم وجود ما يؤكد فاعليته في وضع حد للجرائم والإرهاب، هو ما يدفع المنظمات الحقوقية الى اصدار التقرير تلو التقرير حول انتهاكات وجرائم النظام العراقي، وهو ما يدفعنا الى عدم السكوت.

إن إعدام شخص بلا محاكمة عادلة هو إعدام للعدالة وللقضاء النزيه وتشجيع للخروج على القانون وإشاعة ثقافة القتل خارجه

«أظهر تقييمنا لإقامة العدالة في القضايا التي تتعلّق بالإرهاب في العراق، وقوع انتهاكات متكرّرة للحقّ في المحاكمة العادلة، في سياق التمثيل القانوني غير الفعال، والاعتماد المفرط على الاعترافات، والادعاءات المتكررة بالتعذيب وسوء المعاملة. وفي مثل هذه الظروف، يشكّل تنفيذ عقوبة الإعدام مصدر قلق بالغ، وقد يرقى إلى حدّ الحرمان التعسفي من الحياة تمارسه الدولة نفسها».أفادت مفوّضة الأمم المتّحدة السامية لحقوق الإنسان ميشيل باشيليت، بعد تلقيها خبر الإعدامات، وما قد تحمله الايام المقبلة لمئات السجناء الآخرين. بالاضافة إلى المفوضة السامية أصدر مركز جنيف الدولي للعدالة بيانا أدان فيه المحاكمات الجائرة والإعدامات الجماعية وحث على تطبيق الإجراءات القانونية الواجبة. اذ يجب على العراق الإلتزام بالقوانين الدولية المتعلّقة بعقوبة الإعدام والمعاملة اللاإنسانية أثناء الاستجواب ويجب إحترام حقّ جميع المتهمين في محاكمة عادلة. كما ضمّنه رأي ثلاثة من خبراء الأمم المتّحدة في مجال حقوق الإنسان عن الإعدامات ووجوب وقف جميع عمليات الإعدام الجماعية فورًا، قائلين: «نحث الحكومة العراقية على ضرورة احترام التزاماتها القانونية الدولية ووضع حدّ فوري لخطط إعدام السجناء».
مقابل هذه المواقف والتقارير الحقوقية الانسانية المطالبة، كلها، بانهاء اصدار وتنفيذ احكام الإعدام الجائرة، هناك منظور سياسي شعبوي للاعدام يروج له الساسة باعتباره الحل الوحيد «لأخذ حقوق ضحايا الهجمات الإرهابية» وانه يجب العمل به لأنه «جزء من ثقافة وقيم المنطقة» كما دافع عبد الفتاح السيسي، في 2019 عن تنفيذ الإعدامات بمصر، وإن «الشعب عندما يسمع عن عدم تطبيق عقوبة الإعدام، لا يمكن أن يقبلوا منا أن نبقي هذا المجرم الذي مزق أشلاء آبائهم أو أبنائهم أو نسائهم، لأن لا قيمة للحياة إذا كان يعيش فيها هؤلاء، في نظر أهالي الشهداء» كما برر نوري المالكي، رئيس الوزراء العراقي السابق، رفضه ايقاف تنفيذ إعدام 129 سجينا في عام 2012 وما لايقل عن 169 خلال العام 2013 ملقيا المسؤولية على اهالي الشهداء وان توقيعه على تنفيذ الإعدامات هو لتحقيق رغبة الشعب، متعاميا عن حقيقة إن إعدام شخص بلا محاكمة عادلة هو إعدام للعدالة وللقضاء النزيه وتشجيع للخروج على القانون وإشاعة ثقافة القتل خارجه. وما اعتبره قصاصا رادعا لم يجعل العراق أكثر أمنا وطمأنينة بل ساعد على تنمية الاحساس بالظلم واشاعة روح الانتقام. ومايزيد من بشاعة الوضع بالنسبة الى السجناء وذويهم هو غياب التمثيل القانوني الفعلي (محام أو محامية) للمتهمين أثناء التوقيف، والتحقيق، والمحاكمة وما بعد المحاكمة في القضايا المسماة « إرهاب» أي التهمة الجاهزة المستخدمة منذ عام 2005 مع تزايد حالات اختطاف المواطنين، كرهائن لابتزاز العوائل من قبل ضباط أمن اشتروا مواقعهم بغية استرجاع ما دفعوا واثراء لانفسهم، أوميليشيات تبحث عن تمويل. في حالات كهذه قد يطلق سراح الإرهابي المدعوم من جهة قادرة على دفع الاتاوة كما حدث للكثيرين، بينما يعدم المواطن البريء او المتهم بارتكاب جرم غير خطير، فقط لأن اهله لا يملكون ما يطلبه الخاطفون من مال.
إن ادعاء الساسة أن اصدار أحكام الإعدام التي تحول البلد الى مسلخ بشري هو جزء من ثقافة وقيم المنطقة ادعاء مبتذل. فشعوبنا لا تختلف عن بقية شعوب العالم في رغبتها بأن يعامل كل شخص على قدم المساواة أمام القانون. ومن يرتكب اية جريمة سواء كانت ضد شخص أو مجموعة اشخاص يجب تقديمه للقضاء، وان يحاكم وفق القانون بدون تمييز كما يجب توفير الحماية المواطنين على قدم المساواة. وهذا ما لا يحدث في العراق تحت النظام الحالي حيث غالبا ما يعدم الأبرياء ويكافأ المجرمون.

كاتبة من العراق

 

 

ضرورة إبقاء

 أطفال العراق متخلفين

 

هيفاء زنكنة

 

 تواصل الهيئات الحكومية البريطانية والدولية المعنية بحماية ورعاية الأطفال، اصدار التقارير حول تأثير اغلاق المدارس على الأطفال جراء انتشار فايروس كوفيد 19 ومدى امتداد ذلك التأثير على المجتمع ككل مستقبلا. تُحذر التقارير كلها من التأخر في القدرة على التعلم بالإضافة الى المعاناة النفسية والجسدية كالاحساس بالعزلة والقلق وقلة الحركة. لذلك اتخذت الحكومة البريطانية وعديد الدول الغربية المتقدمة قرارات واجراءت فعالة لابقاء المدارس مفتوحة ومواصلة التعليم، عن بعد، عند الضرورة القصوى. اذ تؤكد دراسات علمية اجريت حول تأثير إغلاق المدارس كما حدث عام 2005، حين اسفر إعصار كاترينا الذي اصاب ساحل الخليج، عن نزوح 370 ألف طفل وتدمير أكثر من 100 مدرسة عامة، ان آثار الكارثة ظلت قائمة بعد عودة الأطفال الى المدارس. أظهر بعض الأطفال اعراضا متزايدة من القلق والاكتئاب وضغط ما بعد الصدمة لفترة طويلة بعد الحدث؛ ووجدت دراسة بعد خمس سنوات أن أكثر من ثلث هؤلاء الأطفال النازحين ما زالوا متخلفين بسنة على الأقل عن أقرانهم أكاديميًا، وانهم غير منضبطين في سلوكهم وعواطفهم.
كما بينت دراسة اجريت عام 2019، أن الطلاب في الأرجنتين الذين فاتهم ما يصل إلى 90 يومًا من المدرسة في الثمانينيات والتسعينيات بسبب إضراب المعلمين كانوا أقل من غيرهم امكانية للحصول على درجة علمية، وأكثر عرضة للبطالة، وحصلوا على حوالي ثلاثة بالمائة أقل في المتوسط من المناطق الأقل تأثراً. تعطينا هذه الدراسات والبحوث صورة عامة عن العوامل المؤثرة كالأعاصير والفيضانات وانتشار الأوبئة على توفير التعليم المدرسي للأطفال وانعكاسات القطيعة التعليمية، مهما كانت مدتها، على الأطفال عقليا وجسديا. أما في مناطق النزاع، فتدل البحوث على ان العبء الأكبر يقع دائمًا على الأطفال الذين فقدوا أسرهم، أو الذين يعاني أحد والديهما من صدمة نفسية. مما يأخذنا الى وضع اطفالنا، في البلدان العربية، التي تعيش اما في ظل احتلال مباشر (فلسطين) أو غير مباشر في ظل حروب ونزاعات كالعراق وسوريا واليمن ولبنان، بالاضافة الى خطر وباء كوفيد. هنا، تستوقفنا أسئلة تنعكس على الأطفال والمجتمع ككل. ترى كيف ستكون شخصية الطفل الذي يعيش هذه الظروف بتفاصيلها البائسة يوميا؟ بعيدا عن التعليم أو بتعليم متقطع، وفقدان احد الوالدين، وعدم الاحساس بالأمان، والخوف من فقدان من تبقى من عائلته، أي مستقبل يتوقعه الطفل، وكيف يتخلص من المخاوف وعدم الثقة بالآخر التي ترسبت، مبكرا، على انسانيته؟
أطفال العراق يعيشون هذه التفاصيل وغيرها. بعد ثلاث سنوات من إعلان النظام النصر ضد تنظيم الدولة الإسلامية، لا يزال هناك 1.3 مليون نازح، موزعين في مخيمات نُصبت، منذ ما يقارب العقد، لتكون مؤقتة الا انها باتت دائمية. وبدلا من العمل على اعادة التوطين بشكل مستدام واتفاق مسبق يحفظ كرامة المواطنين وتأمين الضروريات، شرع النظام، الشهر الماضي، باغلاق المخيمات دون انذار مسبق ومشاورات مع ممثلي النازحين ووكالات الإغاثة العاملة في المخيمات للانتقال «الطوعي» الذي يصفه 60 بالمئة من النازحين الذين عادوا الى مناطقهم، بانه اجباري، بينما نزح 44 بالمئة منهم الى مخيمات أخرى ستغلق أيضاً أو منازل شبه مهدّمة، ولم يعد نحو نصف سكان تلك المخيمات إلى مناطقهم الاصلية، اما لأن بيوتهم في مناطق مدمرة أو لانعدام الخدمات او لتعرضهم، وفق منظمة الهجرة الدولية، التي تفادت التحديد، مثل استملاك الميليشيات لمناطق مثل جرف الصخر.

هناك اليوم ما يقارب من 3.2 مليون طفل عراقي في سنّ الدراسة خارج المدرسة، وأن الوضع في عدد من المحافظات سيئ جدا، حيث أنّ ما يزيد عن 90 في المئة من الأطفال في سنّ الدراسة خارج النظام التعليمي

في تلخيصه للحال، يقول فلاح حسن حسين على موقع المجلس النرويجي للاجئين: «لقد سجلنا العودة قبل أكثر من عام من مخيم السلامية الأول /محافظة نينوى، ولم نتلق اي مساعدة لا من وزارة الهجرة والمهجرين، ولا اية منظمة. والمنطقة الي نسكن فيها خالية من الخدمات، ولا يوجد ماء صالح للشرب. نشتري خزان الماء بثمانية الاف دينار، ولا توجد فرص عمل. لو باقين بالمخيم أحسن من هاي الحالة».
ماذا عن التعليم؟ عن الدوام المدرسي الذي يؤدي الى أضرار نفسية وعقلية كبيرة قد تمتد مدى العمر، كما تحذر الدراسات العلمية وتخشاها الدول الغربية؟ يشير تقرير حديث لليونسيف أنّ هناك اليوم ما يقارب من 3.2 مليون طفل عراقي في سنّ الدراسة خارج المدرسة، وأن الوضع في عدد من المحافظات مثل ديالى وصلاح الدين سيئ جدا، حيث أنّ ما يزيد عن 90٪ من الأطفال في سنّ الدراسة خارج النظام التعليمي، وما يقرب من نصف الأطفال النازحين في سنّ المدرسة، أي حوالي 355.000 طفل وطفلة، ليسوا في المدرسة. والوضع أسوأ بالنسبة للفتيات في المدارس الابتدائية والثانوية. حيث ارتفعت معدلات التسرب، فضلا عن ارتفاع عدد المدارس المزدوجة التي تعمل بدوامين أو ثلاثة في اليوم الواحد، وبصفوف مكتظة يصل فيها عدد الطلبة إلى 60 طالبا في الصف الواحد.
يعزي التقرير الاسباب الى « عقود من الصراع، وغياب الاستثمارات في النظام التعليمي الذي كان يُعدّ فيما مضى أفضل نظامٍ تعليمي في المنطقة». مبينا ان حصول الأطفال على التعليم الجيد، يتوقف على معالجة عوائق رئيسية وتشمل « التمويل غير المنصف، وعدم كفاية البنية التحتية التعليمية لا سيما في المدارس في المناطق الريفية والمناطق المتضرّرة من الأزمة، والنقص في المواد التعليمية الضرروية الذي يحدّ من التعليم الفعّال، والافتقار إلى مرافق المياه والصرف الصحي والنظافة الملائمة والمواتية للفتيان والفتيات، والتوزيع غير العادل للمدرّسين المؤهلين».
وستتبدى بوضوح مدى جدية النظام في ايجاد حلول للعوائق حين نعلم ان الميزانية الوطنية للبلد، خصصت في السنوات الماضية، أقل من 6 بالمئة للقطاع التعليمي، ممّا يضع العراق في أسفل الترتيب لدول الشرق الأوسط، في الوقت الذي تتزايد فيه تخصيصات الفساد المالي لتصل المليارات. لاتوفر المدارس مكانا للتعلم فقط بل أماكن لحماية الأطفال من الأذى والمحافظة على سلامتهم من خلال التعرف على التهديدات التي قد يتعرضون لها في المنزل والمجتمع. ووجود الأطفال خارج المدارس يعني حرمانهم من الاحساس بالأمان وجعلهم أكثر عرضة للاستغلال وسوء المعاملة، بما في ذلك عمالة الأطفال والاستغلال الجنسي والزواج المبكر، والأخطر على انفسهم والمجتمع هو التجنيد من قبل جهات مسلحة أيا كانت. واذا اخذنا بنظر الاعتبار أبحاثا أمريكية توصلت الى ان فقدان عام دراسي واحد يعادل تخلفا ذهنيا عاما بمعدل نصف عام، هل من المستغرب اقتناع الكثيرين بأن سياسة النظام العراقي التعليمية هي تكريس التجهيل وتدمير الأجيال الجديدة، عقليا وجسديا، وابقاء البلد ضعيفا قابلا للاستغلال والهيمنة، وهو هدف الاحتلال عام 2003، والتوافقات الاقليمية التي تلته.

كاتبة من العراق

 

بايدن في العراق: علينا الحذر!

هيفاء زنكنة

باستثناء مواجهة أحد الجنود الأمريكيين الذين خدموا في العراق، للرئيس الأمريكي الجديد جو بايدن، واتهامه بأنه، بمساندته غزو واحتلال العراق برئاسة جورج بوش، كان قد سبب قتل الابرياء من الأمريكيين والعراقيين، صارخا أن « دماء الابرياء تلطخ يديك» لم يثر احتلال العراق وما سببه من خراب وقتل ما يزيد على المليون مواطن، أي اهتمام اثناء الحملة الانتخابية الرئاسية. ولم يوضع العراق المحتل على أجندة النقاش من قبل أي من الحزبين الديمقراطي والجمهوري على الرغم من الحملة الانتخابية المكثفة على مدى شهور.
جاء تغييب العراق وبقية الحروب والنزاعات التي تنخرط فيها أمريكا، تأكيدا، لسياسة الحزبين المتماثلة في تجنب التطرق الى السياسة الخارجية عموما. ومن الأفضل ابقاء السياسة الخارجية، كما هي «خارجية» تُعنى بناس «آخرين» ضبابيين، يعيشون بعيدا في أماكن نائية تصلح للاستغلال عن مبعدة. لا قيمة انتخابية لهم ولا رأي بما سيحل بهم وبلدانهم جراء سياسة الإدارة الأمريكية التي ينتخبها الشعب الأمريكي.
هذه نقطة تستحق التذكير، لا من باب وضع الشعب الأمريكي كله في سلة واحدة مؤيدة للسياسة الامبريالية، ولكن لئلا نسقط في فخ الفصل بين سياسة الادارة الأمريكية والشعب الذي انتخبها. فالمحاججات التي يلجأ اليها البعض للتمييز بين ممارسات الحكومات القمعية المستبدة والشعب بسبب غياب الديمقراطية أو ان الديمقراطية حديثة الولادة أو ان الشعب بحاجة الى تعلم ثقافة الديمقراطية، لا تنطبق على الشعب الأمريكي الذي يرى نفسه حاضنة للحرية والديمقراطية، وناشرا لها بكل الأساليب الممكنة بضمنها، غالبا، الغزو والاحتلال، ويتم غرزها في نفوس المواطنين منذ طفولتهم وفي مناهج تعليمهم.
عموم الشعب الأمريكي يؤمن، اذن، بأن حكومته تمثله، مهما كان الحزب المنتخب أو شخصية رئيسه. فالرئيس ترامب الذي يتهمه معارضوه بأنه يمثل نفسه استطاع ان يحقق للحزب الجمهوري نجاحات مذهلة على مستوى جذب شرائح مجتمعية، كالعمال، كانت محسوبة للحزب الديمقراطي. مما يعني أن سياسة الحكومة الخارجية، وهذا ما يعنينا بالدرجة الاولى، هي وليدة رضا الشعب المتمتع ككل، وان بدرجات، بالرفاه الاقتصادي الذي يشكل الأرضية الاكثر خصبا لصناعة الرضا الشعبي. يليها، في الاهمية، الهيمنة الإعلامية والدعائية، المواظبة على ابعاد المواطن عن العالم الخارجي وحصره، عقليا، في قوقعة تُغذى بشعارات بسيطة سهلة الهضم.
من هذا المنطلق، في معركة تم، مسبقا، مسح انعكاساتها على العالم الخارجي، أختزل برنامج الانتخابات الاخيرة بشعار « اما ان تكون مع ترامب أو ضده». وهو شعار يماثل شعار الرئيس بوش في اعقاب الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر « أما ان تكون معنا أو ضدنا» باستثناء أن بوش أطلق شعاره، المدجج بالتفوق العسكري، بوجه العالم كله. العالم الذي يعيش مصائب الحروب والنزاعات المستمرة التي شنتها وتشنها أمريكا. فمن فلسطين والعراق الى اليمن وسوريا وافغانستان وأمريكا اللاتينية، تعيش شعوب هذه البلدان، في ظل ارهاب امبراطورية عسكرية، تشكل 5 بالمئة فقط من سكان العالم، لديها حوالي ألف قاعدة عسكرية متناثرة كالبثور على وجه العالم، وتعتمد في تنمية اقتصادها على مجمع التصنيع العسكري والحربي، وصفقات السلاح، واشعال الحروب والاحتلال وفرض « الأتاوة» على حكومات محلية مستبدة لحمايتها من شعوبها.

هل سيعيد الرئيس بايدن تفعيل خطة السناتور الديمقراطي جوزيف بايدن لتقسيم العراق، أم انه سيترك للحكام بالنيابة تنفيذ ذلك مع بعض التدخل «الناعم» من جهته؟

أكدت التغطية الإعلامية للانتخابات، على مدى 24 ساعة يوميا، أن الامبراطورية العسكرية، بوجهها السياسي، لا يمكن أن تحقق النجاح بدون آلة التسويق الدعائية الاعلامية. «الهدف من الإعلام الدعائي الحديث ليس فقط التضليل أو الدفع بجدول أعمال محدد. إنه استنفاد التفكير النقدي، لإبادة الحقيقة» يقول لاعب الشطرنج الروسي العبقري غاري كاسباروف الذي يعرف اكثر من غيره معنى انتقائية « الديمقراطية» حين تجرأ على تحدي بوتين في الانتخابات الرئاسية عام 2007، فتم استبعاده في ظروف غامضة، واضطر الى مغادرة بلده بعد تعرضه الى عدد من «الحوادث».
واذا كان بوتين متهما باللاديمقراطية واستبعاد خصومه واغتيالهم اذا تطلب الأمر، فان الادارات الأمريكية المختلفة، لا تجد حرجا في ممارسات مماثلة باسم الديمقراطية. من بينها تغيير الحكومات التي لا تتماشى مع سياستها، أينما كانت، اما بانقلابات عسكرية مدبرة أو الاحتلال المباشر أو التدخل في تغيير نتائج الانتخابات حتى في الدول التي قاموا « بتحريرها» وأمطروها بوعود الديمقراطية. وافضل مثال على ذلك هو العراق الذي تم غزوه واحتلاله لتغيير نظامه أولا، ومن ثم، وبعد أن أعلنوا عن اقامة « عراق ديمقراطي جديد» واجراء انتخابات فيه، تدخلوا بشكل مباشر، في تغيير نتيجة انتخابات عام 2010. المفارقة المضحكة ان يتم التدخل في تغيير النتائج حين كان جو بايدن، الذي يعاني حاليا من اتهامات ترامب له بتزوير الانتخابات، نائبا للرئيس باراك اوباما ومشرفا على ملف العراق.
يومها تم الاعلان عن فوز قائمة « العراقية» برئاسة إياد علاوي بفارق ضئيل مقابل ائتلاف دولة القانون بزعامة رئيس الوزراء آنذاك نوري المالكي. الا أن المالكي، المعروف بطائفيته وفساده وانتهاكات حقوق الإنسان، قال « ما ننطيها» أي لن نعطي السلطة، رافضا النتيجة. مما أدى إلى مواجهة استمرت ستة أشهر احتفظ خلالها المالكي، بدعم من إيران، بالسلطة لكنه لم يتمكن من تشكيل حكومة ائتلافية. حينئذ تدخل جو بايدن لصالح ابقاء المالكي، راميا نتائج الانتخابات في سلة المهملات، لأن مصلحة أمريكا اقتضت عدم استفزاز إيران أثناء اجراء مفاوضات توقيع اتفاقية السلاح النووي.
الجانب الثاني المهم لاستشراف سياسة بايدن الخارجية تجاه العراق، هو ارتباط اسمه بمشروعه، الداعي عام 2006 الى تقسيم العراق الى ثلاث مناطق على أسس عرقية وطائفية، وهي منطقة كردية في الشمال، وللشيعة في الجنوب والسنة في الغرب. وُصف المشروع بأنه خطة للتقسيم الناعم وانها تشجع على التطهير العرقي، وستؤدي الى تغذية الانقسامات الطائفية في جميع دول المنطقة. على الرغم من ذلك، عمل بايدن على الدفع باتجاه تحقيق مشروعه، بتأييد من اللوبي الصهيوني، لعدة سنوات الا أنه، دفعه جانبا، بسبب عدم تلقيه التأييد الذي كان يأمله من العراقيين خاصة. مما يثير تساؤلا مهما حول سياسته تجاه العراق خاصة مع تغييب العراق عن الأجندة الانتخابية اولا ومع ملاحظة عودة عدد من الصحف الى الكتابة عن «خطة بايدن» والتساؤل عما اذا كانت الحل لـ « الصراع» في العراق وكيفية التعامل مع إيران. فهل سيعيد الرئيس بايدن تفعيل خطة السناتور الديمقراطي جوزيف بايدن لتقسيم العراق، أم انه سيترك للحكام بالنيابة تنفيذ ذلك مع بعض التدخل «الناعم» من جهته؟

كاتبة من العراق

 

 

 

عليهم التطبيع وإلا…

هيفاء زنكنة

 

كل شيء متوقف، تقريبا، في أوروبا، وعديد الدول في العالم، من بينها الدول العربية، بانتظار نتيجة الانتخابات الرئاسية بأمريكا في الاسبوع المقبل. إلا أن حالة الركود السياسي والاقتصادي والعسكري لم تشمل حمى « التطبيع» برعاية الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، المتلهف لتقديم نفسه كعراب «سلام» بين المحتل الصهيوني العنصري، وانظمة عربية هشة، ينخرها الفساد. فالرئيس الأمريكي، بحاجة ماسة الى ما يوفر له رصيدا انتخابيا ضد مناوئه الديمقراطي جو بايدن. والأنظمة العربية بحاجة الى حماية نفسها ومصالحها ضد شعوبها بواسطة شرطي بتكلفة لا تقبل التأجيل، كما بلغها الرئيس ترامب المرة تلو المرة، محذرا بأن « اتعاب الدفاع» مُستحقة.
«عليهم أن يدفعوا لنا» قالها، عام 2015 اثناء حملته الانتخابية، موجها كلامه الى السعودية مباشرة، ثم عاد ليكرر طلب « اتعاب الدفاع» بعد انتخابه، ليشمل أنظمة اخرى، يتوجب عليها دفع المال لأمريكا لأنها «توفر خدمة هائلة وتخسر الثروات» مؤكدا «لقد تكبدنا الكثير من المصاريف دون أن نحصل على شيء بالمقابل.. عليهم أن يدفعوا لنا».
كان تهديد ترامب، من ناحية استخلاص التكلفة، جديا. وجاءت استجابة الأنظمة العربية الغنية سريعا، اذ ان فقدان الحماية مسألة بالغة الخطورة ولا تتحمل التأجيل. فقامت الأنظمة بدفع « الاتاوة» أما فورا بشكل سيولة نقدية بمليارات الدولارات، حسب غنى الدولة، أو بشكل عمولات أو مقابل صفقات أسلحة بأثمان عالية جداً أو بكل الاشكال مع استثمارات تكاد تكون مجانية لشركات استغلال النفط والغاز، بالتزامن مع دفع تكاليف القواعد العسكرية الموجودة في أكثر من سبع دول عربية في الخليج والدول المحيطة بها، العراق من بينها.
التهديد الحاسم الثاني الذي أطلقه ترامب بوجوه حكام الأنظمة العربية هو وجوب الاعتراف بالمحتل الإسرائيلي واقامة العلاقات، بمختلف المستويات، باتفاقيات رسمية، معه. لم يعد التطبيع المستور، من تحت الطاولة، كما هو متعارف عليه تحت رئاسات أمريكية سابقة، مقبولا لدى أمريكا والمحتل الاسرائيلي معا. فالرئيس ترامب، رغم جهله العام المفضوح وتناقضات تصريحاته العنجهية، يعرف جيدا كرجل أعمال أن افضل وقت لشراء الشركات المنافسة هو حين تنخفض قيمة اسهمها في الاسواق الى أدنى حد وتكاد تشرف على الافلاس. حينئذ يتقدم بالعرض الذي يعرف جيدا بأنه سيقبل بابخس ثمن. وهذا هو بالضبط ما لمسه بعد تحليل المعطيات الشاملة للانظمة العربية. انها تعاني من حالة انهيار، بكل المستويات وأكثره خطرا الغضب الشعبي. حالة تماثل الافلاس الكلي، وقد حان الوقت لتقديم عرض طالما تم تأجيله. عرض مهين ستقبله الأنظمة العربية بشكل صفقة تدعى « السلام» ستمنح ترامب تمايزا سياسيا، كما ستخفف اعباء الدعم المالي الأمريكي للمحتل الاسرائيلي البالغ 3.8 مليار دولار من المساعدات الأمنية و 500 مليون دولار للتعاون الدفاعي الصاروخي بين البلدين، حسب ميزانية 2020.

إن المخطط خطير، لكنّه ليس قدراً محتوماً على شعبنا، فالمعركة مفتوحةٌ بين شعبنا وأنصاره من أحرار العالم، وبين الاحتلال وداعميه الاستعماريين، والتي لا يُمكن أن تحسم نتائجها سلفاً. فقد حالت مقاومة وصمود شعبنا والشعوب العربية الشقيقة، بدعم من أصحاب الضمائر الحية

يأتي التخفيف عن طريق تنشيط علاقات الاستثمار والتجارة والصناعة بين كيان الاحتلال وأنظمة التطبيع الغنية، التي ستوفر للمحتل دخلا اضافيا يساعده على التخلص بسرعة من اهل البلد الاصليين الموسومة مقاومتهم بالارهاب. هكذا ستكون انظمة التطبيع حزام الامان للمحتل، والضامن لوجوده، ليتفرغ أكثر فأكثر في مشروع الاستيطان الاخطبوطي لإجلاء الفلسطينيين. باعتبار ان أمريكا نفسها مبنية على فكرة ابادة السكان الاصليين فلم لا يبني الكيان الصهيوني نفسه على ذات الاساس؟
خلال شهرين وقعت الإمارات والبحرين، وتلاهما السودان على اتفاقات تطبيع العلاقات مع المحتل الإسرائيلي. ويشكل وضع السودان نموذجا للشركات التي يتم شراؤها بعد العمل المتعمد على افلاسها. حيث عاقب شرطي العالم السودان وحاصره الى حد التجويع عن طريق وضعه على قائمة الارهاب. وها هو يمد له يد الانقاذ « الإنساني» ورفع وسم « الارهاب» بشرط الاعتراف باحتلال يمارس ابشع الانتهاكات ضد اهل البلد الفلسطينيين. حال الموافقة على التطبيع المذل، أعلن وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو، عن حزمة « مساعدات إنسانية» تقدمها الولايات المتحدة لصالح المنكوبين في السودان بقيمة 81 مليون
دولار. بمواجهة الغضب الشعبي، اعتبر المستشار الإعلامي لرئيس مجلس السيادة بالسودان، العميد الطاهر أبو هاجة، أن الانفراج في العلاقات الخارجية «ليس بيعاً للقضية الفلسطينية».
ويشير جواب رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي (واشنطن بوست – 22 آب/ أغسطس 2020) عند سؤاله عن تطبيع الإمارات مع المحتل، إنه «قرار إماراتي، ولا ينبغي لنا التدخل» وتصريح وزير االخارجية فؤاد حسين « أن العراق ملتزم بقرارات الجامعة العربية بخصوص العلاقات مع إسرائيل والقضية الفلسطينية» بأن ما يجمع الأنظمة المحلية الفاسدة مع التوسع الامبريالي واحد، ونموهما كالاعشاب الضارة، الا أن ايقاف انتشاره، مهما كانت الصورة قاتمة، ليس مستحيلا. والقاء نظرة سريعة على التاريخ البعيد والقريب يبين ان الاستعمار، بأشكاله، لا يمكن ان يدوم مهما اتكأ على عكاز خدمه المحليين. ويبقى المحك هو مواصلة الشعوب غضبها ورفضها الاستسلام المتمثل بالمقاومة الفعلية ضد المحتل والأنظمة القمعية المتعاونة معه في آن واحد، بالاضافة الى حملات التضامن العالمية مع حق الشعب الفلسطيني غير القابل للتجزئة.
إن «المخطط خطير، لكنّه ليس قدراً محتوماً على شعبنا، فالمعركة مفتوحةٌ بين شعبنا وأنصاره من أحرار العالم، وبين الاحتلال وداعميه الاستعماريين، والتي لا يُمكن أن تحسم نتائجها سلفاً. فقد حالت مقاومة وصمود شعبنا والشعوب العربية الشقيقة، بدعم من أصحاب الضمائر الحية عالمياً، دون حسم هذا الصراع الممتدّ منذ عقود» كما جاء في بيان حركة مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها (بي دي أس) عن اعلانات التطبيع الاخيرة.
«فلسطين ستبقى البوصلة» أعلن فنانون عرب عن مقاطعة النظام الإماراتي « رافضين المشاركة في تلميع جرائم نظام الاستعمار الاستيطاني والفصل العنصري الإسرائيلي، وبقرارهم الالتزام بواجبهم الأخلاقي». وسارع نشطاء إماراتيون لرفض تطبيع حكومة الإمارات مع العدو الصهيوني، ودعا عمانيون الأنظمة العربية إلى العودة إلى رشدها واحترام إرادة شعوبها، واعلنت تونس شعبا وحكومة التزامها بالقضية الفلسطينية. واذا كان الشعب الفلسطيني قد واصل مقاومته لاحتلال بلده أبا عن جد، مع تصميم الأبناء على الاستمرار، بكافة الطرق، فان مناهضة التطبيع والضغط على الأنظمة العربية الاستبدادية والقمعية من أجل وقف كلّ العلاقات التطبيعية مع دولة الاحتلال ومن يمثلها، مسؤولية أخلاقية وان تحرير فلسطين هو تحرير للانسان، اينما كان. وهو مبدأ غير قابل للمقايضة، مهما كان رئيس الولايات المتحدة الأمريكية المقبل.

كاتبة من العراق

 

 

الحصانة البريطانية والأمريكية

تذكرة مفتوحة لارتكاب جرائم الحرب

هيفاء زنكنة

 

من المتوقع أن يتم تمرير قانون العمليات الخارجية (موظفو الخدمة والمحاربون القدامى) المقترح من قبل حكومة حزب المحافظين البريطانية برئاسة بوريس جونسون، بعد أن تم تمرير القراءة الثانية ومناقشة التعديلات يوم 14 تشرين الثاني/ اكتوبر الحالي. وجاء توقيت اقتراح القانون مناسبا لتمريره «تحت الرادار» أي دون أن يحظى باهتمام كبير وذلك للانشغال العام بانتشار فايروس كورونا، ومتابعة الاجراءات الحكومية، المتناقضة، المحيطة بكيفية الوقاية منه او الحد من انتشاره. من المؤكد ان لهذا القانون تأثير هائل على وضع العسكري البريطاني، ولكن ما هو تأثيره على مواطني البلدان التي تحتلها أو احتلتها بريطانيا، كالعراق، مثلا؟ وهل من تشابه مع القوانين الأمريكية بذات الصدد؟
ينص القانون المقترح على تقييد الملاحقات القضائية ضد الجنود البريطانيين، على جرائم يرتكبونها اثناء خدمتهم أو قيامهم بعمليات في الخارج، من خلال منحهم الحصانة بعد مرور خمس سنوات، على ارتكابهم اية جريمة كانت، بما في ذلك التعذيب وجرائم الحرب والجرائم ضد الانسانية، باستثناء الجرائم الجنسية. يطبق القانون على كل العسكريين، كما ستقدم مهلة مدتها ست سنوات، فقط، للدعاوى المدنية ضد وزارة الدفاع.
صوّت معظم نواب البرلمان لصالح القراءة الثانية، وتنص محاججة مقترحي القانون بأن العسكري يقوم باداء مهامه المطلوبة وواجبه والتضحية بحياته للدفاع عن الجميع، واذا ما حدث وارتكب ما يمسّ حياة الاخرين اثناء ادائه واجبه، فان صلاحية مقاضاته يجب ان تسقط بعد مرور خمس سنوات. وتؤكد الحكومة أن هذا سيحمي القوات البريطانية من الملاحقات القضائية «الكيدية». أحد اسباب هذه المحاججة هو رفع مواطنين عراقيين مئات القضايا ضد عسكريين بريطانيين، أثناء مشاركة القوات البريطانية في احتلال العراق. ففي غضون 15 عامًا، قامت وزارة الدفاع بتسوية 300 مطالبة بإجمالي 20 مليون جنيه إسترليني لضحايا عراقيين عانوا من انتهاكات وتعذيب على ايدي القوات البريطانية.
تطلب اصدار الحكم بقضية الشاب بهاء موسى، الذي توفي جراء تعذيبه أثناء احتجازه في معتقل بريطاني، في مدينة البصرة، في أيلول/ سبتمبر 2003 عدة سنوات الى ان وافقت وزارة الدفاع في 10 يوليو / تموز 2008 على دفع 5.6 مليون دولار، كتعويض لأقاربه وتسعة رجال آخرين عانوا من التعذيب على يد جنود الاحتلال. وقالت وزارة الدفاع في بيان «التسوية مع اعتراف وزارة الدفاع بالمسؤولية… عن الانتهاكات الجوهرية للمادة 2 (الحق في الحياة) و 3 (حظر التعذيب) من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان». ودق ناقوس الخطر بالنسبة الى مقاضاة الجنود واعتراف وزارة الدفاع بالمسؤولية، وانعكاسات ذلك على « سمعة « القوات البريطانية، حين استمرت الدعاوي ضد القوات في السنوات التالية.

هذه التجاوزات للقوانين الدولية ستمس، بشكل مباشر، حقوق المواطن العراقي، إذ سيضع حدا لأية مطالبة بالعدالة وتعويض الضرر لانتهاكات حدثت منذ عام 2003

ففي عام 2009، مثلا، وحسب قاعدة ان مساءلة المجرمين لا تسقط بالتقادم، رفع عراقيون من ضحايا التعذيب قضايا أخرى. « زعم أحد المطالبين أنه تعرض للاغتصاب من قبل جنديين بريطانيين أثناء وجوده في مركز احتجاز، بينما يدعي صبي يبلغ من العمر 14 عامًا أنه أُجبر على ممارسة الجنس مع جندي بريطاني. ويزعم آخرون أنهم جُردوا من ملابسهم وتم تصويرهم وتعرضوا للإساءة. في حادثة أخرى، تكدس المحتجزون فوق بعضهم البعض وصُعقوا بالكهرباء». أثارت هذه القضايا ضجة كبيرة لأنها بدأت تشوه سمعة القوات البريطانية التي حاولت النأي بنفسها من فضيحة التعذيب في أبو غريب، باعتبارها فضيحة أمريكية وان الجندي البريطاني « متميزاً» بانضباطه وأخلاقيته.
أثار القانون المقترح استنكار منظمات حقوقية بريطانية ودولية من بينها منظمة العفو الدولية و«هيومان رايتس ووتش» لأنه سيزيد من إفلات الجنود البريطانيين الذين يرتكبون جرائم خطيرة من العدالة. حيث وصف مدير منظمة العفو الدولية، في المملكة المتحدة، القانون بأنه سيضع تصرفات الجنود فوق القانون، ويشير اقتراح الحكومة إلى أن القوات المسلحة بحاجة إلى الإفلات من العقاب من ممارسة التعذيب وجرائم الحرب، و« ترى الحكومة أنه من المقبول منحهم ذلك. مثل هذه الخطوة ترسل رسائل متضاربة على الصعيد الدولي. كيف يمكننا دعوة دول مثل سريلانكا إلى تطبيق العدالة على جرائم الحرب منذ عام 2009، عندما وضعنا قانونًا محددا للتقادم؟»
وحذر النائب العمالي دان جارفس من أن القانون، اذا تم سنه، ستكون له عواقب وخيمة لأنه يضر بمكانة بريطانيا في العالم وبسمعة القوات المسلحة، قائلا: « خذ التعذيب كمثال. حظر التعذيب مطلق. لا توجد استثناءات. استخدامه غير قانوني بموجب العديد من المعاهدات الدولية التي وقعت عليها المملكة المتحدة، بما في ذلك اتفاقية الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب، واتفاقيات جنيف ونظام روما الأساسي».
هذه التجاوزات للقوانين الدولية ستمس، بشكل مباشر، حقوق المواطن العراقي، إذ سيضع حدا لأية مطالبة بالعدالة وتعويض الضرر لانتهاكات حدثت منذ عام 2003. كما ستنعكس على المستقبل، مع وجود حوالي 1400 عسكري حاليا. وبامكان الجهات المعنية ووزارة الدفاع اعاقة وتأخير اجراءات التحقيق الجنائية لحين سقوط حق الضحية، كما يتبين من التدخل السياسي لوقف المساءلة، ومثالها إغلاق « التحقيق الجنائي البريطاني في الجرائم المزعومة في العراق» قبل أن يكمل عمله.
أما قوات الاحتلال الأمريكي فانها تمتعت بالحصانة من المساءلة والعقاب حتى انسحابها الجزئي عام 2011. الا ان حكومة نوري المالكي منحتها الحصانة من الملاحقة القضائية، عام 2014، إذا ارتكب هؤلاء الجنود الأمريكيون أي جرائم أو واجهوا أي مشاكل قانونية أثناء « تقديم المشورة « للعراقيين. ويبلغ عدد القوات الأمريكية، المعلن عنه رسميا، اليوم، 5200، وقد أكدت حكومة مصطفى الكاظمي، على استمرار الحصانة، وفق الاتفاق الموقع في حزيران 2020، استمرارا « للمبادئ التي اتفق عليها الجانبان في اتفاقية الإطار الاستراتيجي، وكذلك مبادئ تبادل المذكرات الدبلوماسية وخطابات جمهورية العراق إلى مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بتاريخ 25 يونيو 2014».
أن مواجهة هذا المسار، كما المسارات الاخرى في المد اليميني العالمي، في منح الحصانة للسلطات عند انتهاك حقوق الناس، يستدعي جهدا وطنيا جادا، مشفوعاً بجهود تضامنية عالمية، لاستعادة الشرعية الدولية عامة. أنه امر يخص العراقيين لمواجهة سياسة حكومات الاحتلال المتعاقبة التي ترى في قوات الاحتلال، المسّوقة تحت مسميات مختلفة، حماية ضرورية لوجودها، كما يخص شعوب بلدان الاحتلال نفسها، إذا ما أرادت استرجاع القيم الحضارية العامة، ودفاعا عن القيم الديمقراطية التي اصبحت تعاني من هجمة تسلطية تماثل صعود الفاشية والنازية في القرن الماضي.

كاتبة من العراق

 

 

انتحار أطفال

«التحرير» في العراق

هيفاء زنكنة

 

تم الاعلان، في الشهور الاخيرة، عن حالات انتحار في الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة وإيطاليا وألمانيا جراء انتشار فايروس كورونا، والاجراءات المتخذة لتفادي الاصابة به التي سببت آثارا نفسية واجتماعية عميقة كالاحساس « بالضيق والقلق والخوف من العدوى والاكتئاب والأرق بين عامة السكان.
وتؤدي العزلة الاجتماعية وعدم اليقين والتوتر المزمن والصعوبات الاقتصادية إلى تطور أو تفاقم الاكتئاب والقلق».
ولاتقف الاعراض عند هذا الحد بل تتجاوزها الى «إلى زيادة معدلات الانتحار أثناء الجائحة وبعدها» حسب البحث العلمي الذي اجراه بروفسور ليو شير ونُشر في دورية الطب الدولية بنيويورك. ويأتي الاهتمام بهذه الجوانب تزامنا مع اليوم العالمي للصحة العقلية المصادف 10 أكتوبر/ تشرين الاول.
يُلاحظ، في الوقت نفسه، ما نشرته الصحافة العراقية والعربية، عن ازدياد حالات الانتحار في العراق، ووصفها بأنها مرعبة، اذ بلغت 293 حالة، خلال الستة اشهر الاولى من 2020، فقط، وتتميز بانتحار الذكور أكثر من الاناث. فهل سبب ذلك، كما في الدول الغربية، هو انتشار الفايروس وما يصاحبه من « عدم اليقين بشأن المستقبل» والاضطرابات النفسية جراء الحرمان الاقتصادي، كما تخبرنا الدراسات العلمية، أم ان ما يتعرض له المواطن العراقي مختلف تماما او متعدد المستويات مما يُسّرع برغبته في الانتحار؟
ليس بالامكان انكار تأثير الجائحة على نفسية وحياة المواطنين، خاصة مع تجاوز عدد الاصابات اليومية الآلاف نتيجة انهيار الجهاز الصحي وتخوف الناس من التوجه الى المستشفيات. الا ان فهم الارقام الحالية لحالات الانتحار ومدى ارتباطها بالجائحة، يحتاج الى مراجعة الحالات في الاعوام الماضية. ففي عام 2006، نقل موقع « رليف وب» التابع للأمم المتحدة، في مقال « ضغوطات العنف تقود الى الانتحار» تصريحا لوزارة الصحة، بناء على إحصاءات من مشرحة ومستشفيات بغداد في خمس مناطق، إن نحو 20 شخصا ينتحرون كل شهر. وقال أحمد فتاح، عضو إدارة التحقيق في الانتحار بوزارة الصحة، إن «الأرقام مرتفعة بالمقارنة مع تلك التي كانت موجودة قبل عام 2003، عندما كان لدينا حالة انتحار واحدة أو اثنتين في الشهر». وتشير ورقة بحثية بعنوان « الدراسة الوطنية العراقية لطرق الانتحار: تقرير عن معطيات الانتحار في 2015 و 2016» المنشورة في دورية « الاضطرابات النفسية» عام 2017، الى 647 حالة انتحار في 13 محافظة من مجموع 18. معظم الحالات لشباب تحت سن 29 وأغلبهم من الذكور. مع ازدياد ملحوظ في عام 2016 بالمقارنة مع 2015. ربع الحالات سببها اضطرابات نفسية، أكثره شيوعا هو الاكتئاب، مع أقلية تعاني من صدمة نفسية (15.5٪)ومشاكل مالية (12.4٪) أو إساءة معاملة اثناء الطفولة (2.2٪).
ونشرت لجنة حقوق الإنسان البرلمانية تقريرها لعام 2018 بينت فيه ارتفاع عدد الحالات من 383 خلال عام 2016 إلى 519 في 2018. تدل هذه المراجعة على ان الزيادة مستمرة، تدريجيا، منذ عام الغزو الانكلو أمريكي، أي قبل غزو جائحة الكورونا بـ 17 عاما، وانها ليست، كما في الغرب، السبب الوحيد لحالات الانتحار.

إن ايجاد حل للصحة النفسية والعقلية، بالعراق، يتطلب ليس معالجة انعكاسات الجائحة، في الشهور الأخيرة، فحسب، ولكن التعامل معها، باعتبارها عمّقت بحلولها الخراب السياسي والاقتصادي والمجتمعي الموجود أساسا

ما هي الاسباب الرئيسية اذن؟ في عام 2006، صرّح د. أحمد فتاح بسوداوية موجعة: «اليوم ينتحر الكبار، لكن لن يمر وقت طويل قبل أن يبدأ الأطفال أيضًا في الانتحار». فهل ما نشهده اليوم، اذن، هو انتحار اطفال الامس؟ هل هم الذين كبروا تحت الاحتلال، واستمرارية العنف والتهديد اليومي بالقتل، والخراب الاقتصادي، والتمييز الطائفي والعرقي، والنزوح القسري والتشرد، والفساد الناخر للبنية الاجتماعية؟ هل هم ابناء المليون مواطن ممن قتلوا اما بشكل مباشر او غير مباشر جراء الاحتلال؟ هل هم الخريجون العاطلون عن العمل أو النساء المعيلات للأيتام بعد قتل او سجن ازواجهن؟ اليست هذه الاسباب كافية لجعل العراقيين يعيشون تأثيرات نفسية وعقلية وجسدية لا تقل ضررا عن تأثيرات جائحة كوفيد؟
« أربعون في المائة من الأطفال العراقيين يعانون من أمراض عقلية». تقول الاخصائية النفسية د. الهام الدوري « كذلك الحال بالنسبة إلى 17 في المائة من الشباب، مما يجعل عدد الشباب المصابين بمستويات متباينة من الأمراض النفسية والعقلية يساوي خمسة ملايين وسبعة أعشار المليون، بالمقابل هناك 100 طبيب مختص، فقط، داخل العراق». لامفر للعراقي، اذن، من الضرر النفسي نتيجة العنف والنزوح والبطالة، حين يشعر الرجل بالعجز عن تأمين المعيشة لنفسه وعائلته، ويصيب النساء رشاش العنف المجتمعي والاسري بالاضافة الى كوابيس الحرب والتشرد والقلق الدائم على تعليم وصحة وحياة الاطفال. أن تدهور العلاقات العائلية الممتدة القديمة، وتدهور علاقات الجيرة التي تميز المجتمع الشرقي التقليدي ( وهما الجانبان اللذان كانا يؤمنان درجة من الرعاية النفسية للجميع من الطفولة الى الشيخوخة ) لم تعوضه اي خدمات من الدولة التي دمرت عمداً، وانهار معها التعليم المدرسي والقانون، ولم يعوضه أيضاً صعود التدين بما رافقه من خزعبلات وجهل، ومن تجارة وفساد أخلاقي ومالي.
في مقال مشترك لوزيرة التجارة الخارجية والتعاون الإنمائي الهولندية سيغريد كاج والعراقية د.هالة صباح جميل، نُشرت، أخيرا وصف الاثنان نظام الصحة العقلية الذي يعمل فيه مقدمو الرعاية العقلية في العراق « فيه فجوات كبيرة مثل حفر القنابل». وجه الاثنان الى وجوب الاهتمام بهذا الجانب، بالغ الاهمية، للأفراد والأسر والمجتمعات وصانعي القرار « حتى يتمكنوا من التعافي وإعادة البناء واستئناف سبل العيش وتعزيز المصالحة «. محذرين بانه ما دامت هذه الفجوات موجودة، تزداد معاناة النازحين والمصابين بصدمات نفسية لأن «الصدمات تتراكم، بمرور الوقت، ويصبح العلاج أكثر صعوبة». ومعروف أن الصدمات النفسية والكآبة من مقدمات العديد من الامراض المزمنة التي تستنزف قوة المجتمع وحيويته عموما.
المشكلة الاساسية التي نتلمسها بقوة اثناء قراءة هذه التصريحات والتقارير المتتالية، وهي تقارير انسانية نبيلة، كما تركيز يوم في السنة للوقاية من الانتحار، وهو ضروري للتنبيه الى جانب مُعاش ومهمل، ان هذه النشاطات، غالبا، ما تتجاهل، وهذا واضح جدا في حالة العراق، الاسباب الاعمق المؤدية الى فقدان الشباب الرغبة بالحياة أو التطلع الى ما هو أبعد من اليوم الذي يعيشونه. ويكمن سبب التغاضي عن التغيير الفعال، كون عمل المنظمات المحلية والدولية يرتبط بموافقة الحكومات ونظامها السياسي. مما يجعل نشاط المنظمات دواء مُسٌكنا للاوجاع وليس علاجا. وهي خطوة تحمل آثارا جانبية خطرة، حين لايعالج الوضع ككل بل يتم تفتيت القضايا دون المس بالاسباب الحقيقية. وإن ايجاد حل للصحة النفسية والعقلية، بالعراق، يتطلب ليس معالجة انعكاسات الجائحة، في الشهور الأخيرة، فحسب، ولكن التعامل معها، باعتبارها عمّقت بحلولها الخراب السياسي والاقتصادي والمجتمعي الموجود أساسا.

كاتبة من العراق

 

هل يتوجب علينا الاهتمام

بمصير الرئيس ترامب ؟

هيفاء زنكنة

حتى أقل الناس اهتماما بالسياسة، وأكثرهم عزلة وابتعادا عن اجهزة الإعلام، سمع او شاهد أو قرأ خبر اصابة الرئيس الامريكي دونالد ترامب والسيدة زوجته بفايروس كورونا. فقد تصدر الخبر مواقع التواصل الاجتماعي وتسلل الى المكالمات الهاتفية، ناهيك عن اجهزة الإعلام، ليتم فرز كل حركة أو اشارة صدرت عن الرئيس، منذ اعلان اصابته، بالاضافة الى تدوير تصريحاته عما نطق به حول كيفية الوقاية من الاصابة بالفايروس، مثل شرب الكلورين، ونصائحه عن ارتداء او عدم ارتداء الكمامة، التي باتت تضاهي في شهرتها، الآن، المقولة الشكسبيرية « أن تكون أو لا تكون» .

حققت متابعة تفاصيل علاج الرئيس ترامب، نجاحها أو انتكاستها، نجاحا مليونيا ، في أعداد المتابعين يتجاوز أكثر افلام هوليوود ومسلسلات نفلكس نجاحا، وأكثر من المسلسلات التركية التي احتلت مكان السورية، في العالم العربي، بعد تراجع انتاج الاخيرة. تحيط التغطية الإعلامية ، الممتدة على مدار الساعة، الكرة الارضية، في ذات الوقت الذي تُمرر فيه مئات آلاف الاصابات والوفيات، في جميع انحاء العالم، كارقام واحصائيات وخطوط بيانية، تُبث أو توضع على المواقع ، بألوان مختلفة، توحي للناظر بانها تمثل الفرق بين الحياة والموت، بين فترة ما قبل الكورونا وخلالها. الاحصائيات والخطوط البيانية، غالبا، لا تعني شيئا للقارئ. انها مجرد أرقام. من السهل على الناظر أن يدير وجهه جانبا لئلا يراها او يختار الا يعرف لأنه وصل حد الاشباع في التعامل مع الارقام ومحو الانسان، الا اذا كان وزيرا أو نجما او رئيس دولة. حينئذ تطالعنا تفاصيل حياة المصاب اليومية، ومسار العلاج والفحوصات التي تجرى عليه بادق التفاصيل، وسيرورة تعافيه وانتصاره على الفايروس، الذي يحصد حياة الفرد العادي الذي قلما تتاح له فرصة الرعاية والعلاج. تبدت هذه المفارقة بوضوح حين أصيب رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون بالفايروس . وها هي أصابة دونالد ترامب لتدحض، مرة اخرى، حقيقة المساواة بين البشر ورعاية الحياة الانسانية. الحقيقة هي « كل الحيوانات متساوية لكن بعض الحيوانات متساوية اكثر من غيرها» كما كتب جورج اوريل في مزرعة الحيوان، وهو ما يأخذنا الى انتقائية تطبيق القوانين الدولية من قبل الدول الكبرى مقابل الشعوب المستضعفة ، والتي تماثل الفروق بين القبو المظلم والطابق العلوي بشرفاته، وان كان المبنى واحدا.

 السياسة الخارجية ، مهما كان الحزب الحاكم ، جمهوريا أو ديمقراطيا، تكاد تكون واحدة مع بعض التغييرات الطفيفة الناتجة عن شخصية الرئيس

بعيدا عن نظرة اللامساواة السوداوية، التي تبلورت بأوضح صورها في عام الكورونا، يبدو الاهتمام الإعلامي والشعبي، بمتابعة صحة الرئيس ترامب، مبررا. فهو، من الناحية الدولية، رئيس اقوى دولة عسكرية في العالم ، قد يصفه البعض بانه شرطي العالم، الا ان هذا غير مهم بالنسبة للحكومات، المرتبطة مع أمريكا، بمعاهدات واتفاقيات عسكرية وأمنية واقتصادية، تتحكم بدرجات متفاوتة، بشعوب تلك الدول. وهو رئيس الدولة المانحة والداعمة لآلاف المؤسسات والمنظمات المحلية والدولية، الممتدة كاذرع الاخطبوط، في طول وعرض الكرة الارضية. أما في داخل أمريكا، فتتمحور درجة الاهتمام بصحة الرئيس ، بيمينها العنصري الابيض وحركات الحقوق المدنية واليسار المتظاهر الغاضب، حول العد التنازلي لاقتراب يوم الانتخابات الرئاسية، ومحاولة الحزب الجمهوري المستميتة ، المتمثلة بمرشحه ترامب، للفوز بدورة ثانية.

عربيا، تشكل سياسة ادارة ترامب من فلسطين والعراق وإيران والسعودية، أحد أسباب الاهتمام الحكومي والشعبي بمتابعة صحة الرئيس. حكوميا، لأن معظم الحكومات العربية بحاجة الى الحماية الأمريكية بأي شكل من الاشكال. وتخلخل الوضع داخل أمريكا سيؤدي الى انعكاسات غير مرغوب بها. أما سبب الاهتمام الشعبي، وهو أقل من الحكومي، فيغلب عليه عدم التصديق واعتبار مرض ترامب جزءا من عرض مهيأ لالهاء الناس عن جرائم أمريكا وسياستها، خاصة في فلسطين. هناك ، ايضا، جانب السخرية المريرة، والشماتة، وتبادل النكات عن الرئيس الذي أوصل الفضائح الجنسية والسياسية وتزوير الانتخابات مستوى فاز فيه على الرئيس الديمقراطي السابق بيل كلينتون ، المشهوربعلاقته الجنسية مع المتدربة في البيت الابيض مونيكا لوينسكي. وقد صرح، أخيرا ، في فيلم وثائقي جديد، يتناول حياة زوجته هيلاري المرشحة الرئاسية لعام 2016 ، قائلا إنّ علاقته بمونيكا كانت وسيلة للتغلب على مخاوفه وقلقه. وسجل ترامب فوزا ساحقا على الرئيس الجمهوري ريتشارد نيكسون، صاحب فضيحة « ووترغيت» الذي استقال بعد ان حوكم وسحبت الثقة منه، بتهم عرقلة عمل العدالة، وسوء استخدام السلطة، وازدراء الكونغرس.

هذه الممارسات « الرئاسية» منحت ترامب الاحساس بنوع من الحصانة المعجونة بعنجهيته الشخصية كرجل أعمال يعمل بقوة من اجل الرجل الابيض. وكونه قد حقق كل الوعود، تقريبا، التي أطلقها اثناء حملته الانتخابية مهما كانت قسوتها وتحريضها على العنصرية والعنف. فقد نجح في رفع المستوى الاقتصادي، ومنع دخول المزيد من المهاجرين الى امريكا، والعمل على سحب القوات العسكرية من البلدان المتواجدة فيها، كافغانستان والعراق، واجراء المباحثات مع طالبان. وجعل وجود القوات، لحماية الحكام المحليين، مشروطا بدفع تكاليفها، كما فرض على السعودية. فالحماية العسكرية الامريكية ضرورة اساسية لحكام يخشون شعوبهم. وكان لنجاحه في تحقيق الوعد للكيان الصهيوني بجعل القدس عاصمة للمحتل، والجمع بين المحتل الصهيوني العنصري والمستخذين من ممثلي دول عربية، تأثير غطى على جرائم الاحتلال ضد الشعب الفلسطيني، وضحايا القصف، بحجة محاربة الارهاب، في العراق وسوريا واليمن.

« الأيام القليلة المقبلة ستكون الاختبار الحقيقي» غرّد ترامب بعدما دخل المستشفى. وهي تغريدة نادرة في صدقها. فما الذي ستحمله نتيجة الاختبار الحقيقي الايام المقبلة لأمريكا وبقية العالم ؟ لا شيء مغاير تماما. فالسياسة الخارجية ، مهما كان الحزب الحاكم ، جمهوريا أو ديمقراطيا، تكاد تكون واحدة مع بعض التغييرات الطفيفة الناتجة عن شخصية الرئيس . وهو ما تلخصه عضوة الكونغرس الشابة الاشتراكية الديمقراطية ألكساندريا أوكاسيو- كورتيز ، بقولها: « بامكانه البقاء ، بامكانه الذهاب. يمكن عزله، أو التصويت لصالحه في عام 2020 ، لكن إزالة ترامب لن تؤدي إلى إزالة البنية التحتية لحزب أحتضنه؛ والأموال السوداء التي مّولته ، والتطرف عبر الإنترنت الذي طّبل له جيشه ، ولا العنصرية التي قام بتضخيمها وإعادة إحيائها» . لتجيب عند سؤالها عن احتمالات تغيير الواقع الحالي الذي تتحكم فيه الرأسمالية « «الرأسمالية لم تكن موجودة دائمًا في العالم ولن توجد دائمًا في العالم

كاتبة من العراق

 

عن زمن الحب والمقاومة

في فلسطين ولبنان

هيفاء زنكنة

هل صحيح أن سمة الشعوب العربية هي التأرجح المدمر بين الغرور الدافع الى التمرد البدوي والمثالية الفجة من جهة، واحتقار الذات الدافع الى الاستخذاء والخنوع للعدو من جهة أخرى، مما يجعل تسليم امرنا الى القضاء والقدر والقبول بالأمر الواقع على هناته حلا وحيدا لوضعهم المصنف سياسيا بالتعقيد؟
هل بات اليأس هو الكفاف اليومي للشعوب العربية، كما كتبت الشاعرة والاستاذة اللبنانية نادين عطو، مشيرة في اعقاب صدمة تفجير لبنان التي أذهلتنا جميعا، الى شعب « نزلت عليه الويلات كلها في وقت واحد. وقد لا تكفي كلمة «محزن» لوصف الوضع فيه؟ فما يحصل يدمي القلب، والقصص التي تصلني تشعرني بالانهزام والالم. ورغم أنني أقضي معظم الوقت في المساعدة ولو عن بعد، ادعو الله ان يزيل الغمة».
ونحن نخطو متعثرين، مثقلين بحمل صخرة الأسى، يصاحبها الاحساس بالذنب لأننا لا نفعل ما يكفي، في ليل توحي ساعاته المتمددة باللانهاية ، يتخذ دعاؤنا أشكالا متعددة. تشير اليها علامات طرق، نراها على الرغم من الظلام وصعوبة المسار لكي نواصل السير. قد تكون علامات الطرق أحداثا نستخلصها من الذاكرة فتشحننا بقوة الارادة أو كتبا عن شخصيات تاريخية توحي لنا بديمومة الأمل أو شخصيات تعيش معنا، في ذات الليل المظلم، لكنها قادرة على الصمود والرؤية بضياء القلب، فيتسلل الينا الضوء من خلالها. المخرجة مي مصري هي واحدة من تلك الشخصيات. وإحدى العلامات التي استوقفتني، أخيرا، في طريق القلب الى لبنان وفلسطين، كتاب يلخص ويوثق ثلاثين عاما من انجازاتها وهو بقلم امرأة تضاهيها نضالا. « الحب والمقاومة في افلام مي مصري» عنوان كتاب الصحافية والناشطة البريطانية المعروفة فكتوريا بريتن.
كيف نقرأ السينما؟ كيف يتم تحويل المرئي الى التدوين؟ كيف يحافظ المدّون، ناقل الصورة الى الورق، على فرادة وتمايز الفن الجامع لكل الفنون، بالاضافة الى التجربة الحياتية، اذا كان صانع الفيلم ، يتوخى، كما تفعل مي في افلامها الوثائقية، الجمع بين الفن والسياسة معا ؟ ليست مهمة سهلة. الا ان فكتوريا تمكنت من توثيق الأفلام بموضوعاتها، وخلفيات اخراجها، واسماء المشاركين فيها وفي الوقت نفسه اضاءة الجوانب الفنية والابداعية المميزة لأعمال مي التي يراها المشاهد خيطا ملونا في نسيج الحياة اليومية للبلدين . نسيج تغزله بحرص وشغف وحماس من يحب الحياة. وحب الحياة والتشبث بالامل هو الذي يرافقنا طوال صفحات الكتاب وطوال افلام مي سواء التي أخرجتها لوحدها ، او صحبة زوجها ورفيق حياتها الراحل جان شمعون ، ولعل هذا واحد من الاسباب التي تجعلنا نلتقي بالشاعر الفلسطيني محمود درويش ونحن نتصفح فصول الكتاب التي نتعرف من خلالها لا على افلام وحياة مي فحسب ولكن على حقبة نضال بكل تحدياتها: تحت الأنقاض، زهرة القندول، بيروت: جيل الحرب، أطفال جبل النار، أحلام معلقة، حنان عشراوي: أمران في زمن التحدي، يوميات بيروت، 3000 ليلة. مع اصوات الأسيرات المتحديات في معتقلات الكيان الصهيوني، والأطفال رافعي اشارة النصر، وعلى ايقاع روح النضال والمقاومة في فلسطين ولبنان ، نسمع درويش وهو يردد « على هذه الأرض ما يستحقّ الحياةْ: على هذه الأرض سيدةُ الأرض، أم البدايات أم النهايات. كانت تسمى فلسطين. صارتْ تسمى فلسطين. سيدتي: أستحق، لأنك سيدتي، أستحق الحياة».

 تُبدع مي مصري في زرع الأمل، وتوثيق مقاومة الفرد العادي وإنسانيته مقابل لا إنسانية المحتل ووحشية الطغاة

ان رواية مي مصري السينمائية عن الإنسان من خلال النساء والاطفال، عن القضية الفلسطينية، عن الحرب ومعنى السلام المرتبط بالعدالة ، عن حفظ الذاكرة و» خوف الغزاة من الذكريات» وتوثيق حالات التعذيب لئلا تتكرر، والبحث عن المختفين ، وأحلام وطموحات الأسيرات في سجون الاحتلال الصهيوني، بحثا عن الحرية واسترداد الارض، عن علاقة الفلسطيني بالارض، ارضه التي يحملها في وجدانه اينما كان. في سرديتها السينمائية ، بهدوء الراوي الواثق من نفسه وايمانه بقضيته، بابرازها انسانية نضال الفلسطيني ومقاومته، متعددة المستويات، وقدرتها على تقديم الواقع الحي بتفاصيله الصغيرة، تفكك مي مصري سينما المحتل العنصري المبنية على التزوير التاريخي، وتشويه صورة الفلسطيني ومحو وجوده. بهذه الطريقة ، وهي تروي قصص الحب والحيرة والتشتت وحكايات الطفولة والسجون والتعذيب ، تُبدع مي مصري في زرع الأمل، وتوثيق مقاومة الفرد العادي وإنسانيته مقابل لا إنسانية المحتل ووحشية الطغاة.
وتنبع أهمية الكتاب، أيضا، بذات الطريقة غير المباشرة، التي تبدع فيها مي أفلامها، من كون فكتوريا بريتن هي المؤلفة. حيث تشكل تقاريرها كصحافية مختصة بالشأن الافريقي والشرق الأوسطي، على مدى عقود، وكتبها ، وآخرها « النساء المنسيات في الحرب على الإرهاب» وكونها من مؤسسي واللجنة التنفيذية لجائزة افضل كتاب عن فلسطين باللغة الانكليزية، محطة تزخر بالتضامن اليومي الدؤوب للشعب الفلسطيني لاستعادة وطنه المحتل.
ويأتي اختيارها الكتابة عن سينما وحياة المخرجة الفلسطينية مي مصري امتدادا طبيعيا لإنسانية ما تؤمن به ، ورغبتها في توثيق الواقع اليومي والنضال من أجل العدالة الذي ميز حياة جيل بأكمله، والاكثر الحاحا هو ضرورة عدم السكوت ، خاصة في هذا الوقت المُهدد باليأس، والظلام السياسي الحالي وتقدمه في خلاصة الكتاب بأن شعرية وغنى سينما مي يكتسب اهمية قصوى ونحن نراقب ما يحدث في فلسطين بعيدا عن القانون الدولي والانساني، حيث استهداف الشباب وتشويههم لمشاركتهم في مظاهرات غزة، وسنوات الحصار الجائر عليها، ووحشية المستوطنين المتسعة في ارجاء فلسطين وعنفهم ، خاصة ، ضد النساء والاطفال. ولا ننسى جدار الفصل العنصري ، واعلان الولايات المتحدة الامريكية القدس عاصمة للكيان الصهيوني، والاعتراف بالجولان جزءا منه، واستقطاع الدعم لمنظمة الاونروا مما يعني العقاب الجماعي لجيل المستقبل من خلال حرمانه من حق التعليم. وهي تلخص لنا ما يعانيه الفلسطيني ، يوميا، تحفر فكتوريا ، في أذهاننا، الصورة الإعلامية التي تركز عليها اجهزة الإعلام لتغطي آلة القتل اليومي المستهدف للفلسطينيين ، ولترسخ صورة القوة الامريكية – الاسرائيلية متجسدة بايفانكا ترامب وزوجها جارد كوشنر، وهما بأبهى حلة، مبتسمان اثناء افتتاح السفارة الامريكية الجديدة في القدس المحتلة.
كاتبة من العراق

 

 

جاذبية استخدام

المظلومية في العراق

 

هيفاء زنكنة

 

أيام العراق كما هي. الاحتجاجات مستمرة للمطالبة بالحقوق. اختطاف الناشطين واكتظاظ المعتقلات مستمر. أيام العراق عادية للمواطن العادي. على مواقع التواصل الاجتماعي تبادل الاتهامات ما بين المثقفين مستمرة، اكثرها انتشارا هي الموجعة، الغاضبة، المشحونة بالشتائم، المنصبة على المقارنة بين ممارسات النظام العراقي السابق والحالي حول حقوق الانسان. هل بإمكاننا المقارنة، بعيدا عن الالم الشخصي واستنادا الى ذاكرتنا التي عانت الكثير عبر العقود الكارثية المحملة بالحروب والحصار والاحتلال؟ ماذا عن مراجعة عدد من تقارير المنظمات الحقوقية الدولية لتمنحنا تخطيطا جافا، بلا عواطف، عن الموضوع؟
عند مراجعة تقارير منظمة العفو الدولية عن انتهاكات حقوق الانسان في العراق، في ثمانينات القرن الماضي، أثناء الحرب العراقية الإيرانية، سنلاحظ ان التعذيب و الاختفاء والاعدام، يطغى على التقارير. حيث تم تمريرها بذريعة المحافظة على «أمن الدولة» في فترة الحرب، واتهام الاحزاب المعارضة بالخيانة والإرهاب. وهي ذات الاحزاب المشاركة بالحكم حاليا. يوثق تقرير المنظمة لعام 1983، مثلا، اعتقال 38 «معارض رأي» و اعتقال اربعة من مساعدي آية الله الخوئي، واختفاء اربعة من اعضاء الحزب الشيوعي، واعتقال اعداد كبيرة منهم، بالإضافة الى اعضاء من حزب الدعوة الإسلامي المحظور، واطلاق النار على متظاهرين في مختلف المدن الكردية واعتقال عدد منهم. يؤكد التقرير ان الاعدامات تتم بعد اصدار احكام سريعة غير مستوفية للشروط القانونية. الا ان المنظمة رحبت بقرار مجلس قيادة الثورة الصادر في 16 تموز/ يوليو 1982 بالعفو «عن كل الاكراد المتهمين بحمل السلاح ضد الحكومة العراقية». كما صرح نائب رئيس الوزراء طارق عزيز، يوم 10 آب/ اغسطس، ان العفو يشمل كافة اعضاء الحزب الشيوعي. حول مدى صحة تنفيذ قرارات العفو، ذكرت المنظمة انها كتبت الى «الرئيس صدام حسين ملتمسة تفاصيل العفو، إلا انها لم تتلق اي جواب. كما لم يصدر أي تصريح رسمي حول أعداد المعتقلين الذين استفادوا من العفو».
من المفيد مراجعة سجل إيران، لذات الفترة، ايضا، لأن عددا من الاحزاب والميليشيات التي دخلت العراق بعد الاحتلال أسست في إيران، وكونها البلد الثاني المؤثر، بعد أمريكا، في البلد، منذ الاحتلال الانجلو أمريكي عام 2003، الى حد ترك بصمة كبيرة في تشكيل الهوية الفردية. يتبين عند المراجعة ان التعذيب والاختفاء والإعدام، يطغى على التقارير. حيث وثقت المنظمة، اعدام 624 شخصا، عام 1982 فقط، بينما بلغ العدد 4605 منذ الثورة عام 1979، حسب الارقام المعلن عنها رسميا. تم تمرير الانتهاكات والاعدامات بذريعة التخريب ومعاداة الثورة والقيام بمحاولة انقلاب. في كانون الثاني 1982، كتبت المنظمة الى رئيس الوزراء حسين موسوي بصدد عدد الاعدامات الكبير واصدارها في محاكمات سريعة جراء اعترافات مستخلصة نتيجة التعذيب، الا انها لم تتلق أي جواب. وطالت الاعتقالات سجناء الرأي، من بينهم اربعة محامين اعضاء في نقابة المحامين، استهدفتهم مع آخرين آلة الاعتقال، بعد اعلان آية الله خميني، في 23 اغسطس 1982، تطبيق الشريعة والغاء القوانين المدنية.

استخدمت قوات الأمن وفصائل من قوات « الحشد الشعبي» القوة المفرطة ضد المحتجين المشاركين في مظاهرات عمت أنحاء البلاد بدءا من أكتوبر/تشرين الاول، فقتلت أكثر من 500 منهم وأصابت آلافا آخرين

يقول هانز فون سبونيك، ممثل الامم المتحدة في العراق المستقيل بسبب الحصار الجائر «لم تبق أية مادة في ميثاق حقوق الانسان لم تنتهك في العراق منذ غزوه». ولنراجع تقرير منظمة العفو لعام 2019: «استخدمت قوات الأمن وفصائل من قوات «الحشد الشعبي» القوة المفرطة ضد المحتجين المشاركين في مظاهرات عمت أنحاء البلاد بدءا من أكتوبر/تشرين الاول، فقتلت أكثر من 500 منهم وأصابت آلافا آخرين، وتوفي الكثير نتيجة إصابتهم بالذخيرة الحية أو بعبوات من الغاز المسيل للدموع لم تشاهد من قبل. وتعرض النشطاء، وكذلك المحامون الذين يمثلون المحتجين، والمسعفون الذين يتولون علاج الجرحى، والصحافيون الذين يغطون الاحتجاجات للقبض، والاختفاء القسري، وغير ذلك من أشكال الترهيب على أيدي أجهزة الاستخبارات والأمن.. وظل آلاف الرجال والصبية مفقودين بعد اختفائهم قسريا على أيدي قوات الامن العراقية، بما في ذلك وحدات الحشد الشعبي». كل هذا، بدون القاء القبض على مرتكبي الانتهاكات والجرائم، بل وغالبا ما تتم مكافأة المسؤولين على الرغم من توفر الادلة والشهود. ترينا هذه المراجعة السريعة ان هناك ممارسات وانتهاكات تكاد تكون متماثلة في تطبيقها وتبريرها بين النظامين العراقي والإيراني، في الثمانينيات، الا انها تعمقت وانتشرت وتطورت بشكل كبير، وهنا المفارقة، على أيدى الساسة الذين طالما قدموا انفسهم كضحايا للنظام السابق. حيث اصبحت «المظلومية» ذريعة للتعاون مع الاحتلال اولا ولتكريس نظام المحاصصة والتمييز الطائفي والعرقي ثانيا. ما يجمع الساسة «الضحايا» بالإضافة الى الفساد، هو ارتكاب أو غض النظر عن الانتهاكات والتعذيب والاختفاء وتنفيذ احكام الاعدام، بشكل جماعي شبهته مفوضة الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان بـ«ذبح الحيوانات في المسلخ».
ومن استخدام المثقب وشوي الضحايا واغتصاب الرجال الى تصوير أشرطة فيديو التعذيب والانتهاكات الجنسية وتوزيعها. كل هذا بحجة «ليس الوقت ملائما» لانشغال الحكومة بمحاربة الإرهاب!،
ويعود سؤال «من هو الاسوأ» أو «الاحسن» من الحكام، ليتكرر وينتشر بتنويعات تبريرية، مبتذلة، تختزل حياة الإنسان الى رقم في قوائم تضم الآلاف. تُنسينا بديهية ان حماية الفرد هي مسؤولية الحكومة، خاصة، اذا كانت تدّعي الديمقراطية الانتخابية وتُزّين وجودها بحقوق الإنسان. وإلا من يتحمل، مثلا، مسؤولية عوائل آلاف القتلى والمغيبين تحت لافتة مكافحة الإرهاب، وملايين المهجرين، في عدة مدن، جراء قصف قوات التحالف الدولي «الستيني» والميليشيات الطائفية؟ ألن تكون هذه مبررا لمظلومية مستقبلية تبرر الافعال الانتقامية كما يفعل ضحايا تهجير تهمة «التبعية الإيرانية» من قبل النظام السابق واستغلالها سياسيا من قبل النظام الحالي؟
لا يمكن تقليل المسؤولية عن الحكومة حيث اثبتت السنوات الاخيرة، في حياة العراقيين، ان بامكان مُدّعي المظلومية ان يكون جلادا بينما يبقي الضحايا الحقيقيين مظلومين. وحين توفر الحكومة التمويل لصالح «التظلم» فانها تعمل على تقسيم الناس وإقناع الضحايا بأن المجتمع يقف ضدهم بلا هوادة، مما يقضي على امكانية التفكير بايجاد حلول حقيقية للمعاناة والقمع. وهو ما وصفه المفكر الإنساني البريطاني برتراند راسل، عام 1950، في مقالته المعنونة «الفضيلة الفائقة للمضطهدين» التي بيّن فيها «ميل الناس إلى تخيل أن أولئك المضطهدين يتمتعون بجودة اخلاقية فائقة».

كاتبة من العراق

 

 

« الدرونز»…

عقوبة إعدام بلا محاكمة

هيفاء زنكنة

 

جاء في بيان لوزارة الدفاع البريطانية أن سلاح الجو الملكي البريطاني نفذ عمليتين ضد تنظيم «داعش» في شمال العراق خلال شهر آب/ أغسطس. كلاهما بواسطة طائرة بدون طيار ( درون) من صنف ريبر، موضحا بأن العمليتين هما جزء من مساهمة بريطانيا في التحالف الدولي في الحرب ضد «داعش» في سوريا والعراق. حيث تقوم الطائرات بشن ضربات على «أهداف إرهابية عند الحاجة». تبين تفاصيل العملية الاولى، أن الدرون تعرف على «إرهابيين عند مدخل كهف لداعش، على بعد 85 ميلاً غرب كركوك. وبقي الدرون يراقب الموقع عن كثب ثم نفذ طاقم الدرون، في 20 آب، هجومًا بصاروخ « هيلفاير» بعد أن تاكد من عدم وجود مدنيين قد يكونون معرضين للخطر. «أصاب الصاروخ الهدف بدقة، ولوحظ أن الانفجار يخرج من جزء آخر من شبكة الكهوف، مما يشير إلى أن تأثير السلاح قد وصل إلى عمق الكهوف».
الملاحظ أن البيان لا يذكر عدد القتلى، تماشيا مع سياسة أمريكا والكيان الصهيوني، في إهمال ذكر الضحايا، أيا كانوا، بل يركز على إثبات دقة تصويب الدرونز، والحرص على سلامة المدنيين، وشرعية وقانونية استخدامه كسلاح للقتل، في بلد، ليس في حالة حرب مع بريطانيا. مما يثيرعدة نقاط مثيرة للجدل. من بينها زعم صناع السلاح ودعاة حرب الطائرات بدون طيار أنها الأسلم بالنسبة الى الجنود، لأنها تقلل من الحاجة الى وجودهم على الأرض وبالتالي تعرضهم للخطر، متعامين عن حقيقة أن ثمن سلامة الجنود في أمريكا وبريطانيا والكيان الصهيوني يدفعه المدنيون على الأرض. اذ ليس من الممكن معرفة ما يحدث على الأرض بدقة من على بعد آلاف الأميال. صحيح أنها تسمح للجنرالات والسياسيين بمشاهدة الحرب التي يشنونها على الجانب الآخر من العالم، على الهواء مباشرة، بواسطة شاشة من أي مكان في العالم، والانتشاء لتحقيق «الانتصار» إلا أن هذا لا يعني سلامة المدنيين بل سهولة شن الحروب عن مبعدة. فبينما تدعي بريطانيا، مثلا، أن مدنيًا واحدًا فقط قُتل في آلاف الضربات الجوية والدرونز البريطانية في العراق وسوريا، أعلنت منظمات تسجيل الضحايا والصحافيين عن آلاف القتلى في غارات جوية للتحالف.
وقد عاشت أربعة بلدان هي افغانستان وسوريا وليبيا وغزة جحيم «الأمان» الذي توفره الدرونز، في شهر نوفمبر / تشرين الثاني 2019، حيث قُتل جراء «دقة» استخدامها 41 مدنيا بينهم 11 طفلا. ففي أفغانستان، قُتل 6 قرويين كانوا يرعون الماشية ويجمعون الأخشاب. وفي سوريا تم ضرب مجموعة من خمسة مدنيين كانوا يقطفون القطن، مما أسفر عن مقتل اثنين وإصابة خمسة. وفي ليبيا قتل 10 عمال مهاجرين في مصنع بسكويت وبعد عشرة أيام، قُتلت عائلة من العمال المهاجرين النازحين بما في ذلك 6 أطفال مع عاملين يقومان بتوصيل المياه للأسر النازحة. واعترفت قوات الكيان الصهيوني بقتل ثمانية أفراد من عائلة رسمي السواركة ( 45 عاما) في غزة.
وليس صحيحا ما تدعيه البيانات الرسمية بأن استخدام الدرونز، في العراق وبقية الدول، يتم لتوجيه ضربات ضد تنظيم داعش. ففي 12 آب، من العام الماضي مثلا، هاجمت ثلاث طائرات درون تابعة للكيان الصهيوني إحدى قواعد «الحشد الشعبي» في بغداد، ما أدى إلى انفجار 50 طنا من الأسلحة بذريعة ضرب صواريخ إيرانية كانت في طريقها إلى سوريا ولبنان.

هناك عدة منظمات أوروبية وأمريكية مستقلة، تقوم برصد استخدام الدرونز للتجسس والاغتيال وآثارها على حياة المدنيين

الجانب الآخر الأكثر اثارة للجدل هو استخدامها من قبل أمريكا وبريطانيا والكيان الصهيوني في عمليات القتل المستهدف، أي القتل العمد مع سبق الإصرار لأفراد مختارين من قبل دولة ليسوا رهن الاحتجاز لديها، كما فعلت أمريكا في باكستان واليمن، ويواصل الكيان الصهيوني استهداف قادة المقاومة الفلسطينية في غزة. واذا كان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، هو من أصدر تعليمات تنفيذ عملية قتل سليماني، قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني، أثناء وجوده بالعراق، بداية كانون الثاني/ يناير 2020، دلالة ازدياد الاعتماد على الدرونز لتنفيذ عمليات الاغتيال الحكومية، فان التوسع الكبير لحرب الدرونز كان قد بدأ في عهد الرئيس باراك أوباما الذي أمر بضربات لـ «مكافحة الإرهاب» ونفذتها وكالة المخابرات المركزية وقيادة العمليات الخاصة المشتركة في البنتاغون، أكثر بعشر مرات من سلفه جورج بوش.
هناك، بالتأكيد، جوانب ايجابية متعددة للتطور التكنولوجي السريع للدرونز، إلا أن الجانب الأكبر الذي نتلقاه في العالم العربي، منذ اختراع الدرونز، هو الاستخدام العسكري القاتل حيث تعيش شعوب لبنان والعراق وسوريا وفلسطين واليمن وليبيا، تحت أزيز وصواريخ حرب الدرونز البريطانية والأمريكية والكيان الصهيوني. مما يقودنا إلى التساؤل عن مدى معرفتنا، كشعوب، بهذا السلاح المهيمن، حاليا، على جانب مهم من حياتنا ويوشك، نتيجة تطوره وسياسة الدول المنتجة له وسهولة الادعاء بدقتهس؟ باستثناء عدد من المقالات والمتابعات الصحافية، لم أعثر على موقع عربي متخصص بهذه الآلية التي غيّرت هيكيلية الجيش الأمريكي وشكل الحروب.
الا أن هناك عدة منظمات أوروبية وأمريكية مستقلة، تقوم برصد استخدام الدرونز للتجسس والاغتيال وآثارها على حياة المدنيين. من بينها منظمة
Drone wars. وموقعها الالكتروني غني بالمعلومات والوثائق وتحيين المتابعات لكل ما له علاقة بالاستخدام العسكري للدرونز في جميع انحاء العالم، وقد أصدرت المنظمة بمناسبة احتفالية تأسيسها العاشر، كتيبات وتقارير التقارير ورقية متوفرة لمن يرغب. وفي تلخيصه لعمل المنظمة، يقول مدير المنظمة كريس دول «أحد الجوانب الرئيسية لعملنا هو تحدي السرية التي تحيط باستخدام الدرونز»، محذرا من عدم وجود قوانين محلية أو دولية تمنع استخدام الدرونز في عمليات القتل مما سيؤدي الى توفيرها لأي شخص كان يود استهداف مسؤول او قائد متهما اياه بانه إرهابي، خاصة «و أن أي شخص منا معّرض للاتهام بالإرهاب».
المنظمة الاخرى هي «ريبريف» التي تصف برنامج الدرونز القاتلة لوكالة المخابرات الأمريكية المركزية بأنه «عقوبة إعدام بدون محاكمة» معلنة معارضتها للاستخدام غير المشروع للدرونز المسلحة خارج ساحة المعركة في أي مكان في العالم. قائلة «لقد قتل هذا البرنامج أكثر من 4000 شخص، حتى الآن، معظمهم لا يزالون بلا أسماء». بالنسبة الينا، هناك حاجة ملحة للتوعية بنوعية الحرب التي تخاض باسمنا وبتكنولوجيا واستخدامات نتلقى الجانب القاتل منها، ونظرا لغياب أي جهد حكومي في هذا المجال، قد يكون العمل سوية مع المنظمات والنشطاء الفاعلين هو الحل الأفضل، حاليا. ولأن مسيرة ألف ميل تبدأ بخطوة واحدة قد تكون مبادرة ترجمة عمل احد المواقع حلا يجنبنا جهد وتكلفة اعادة اختراع الجاجيك « اللبن بالثوم».

كاتبة من العراق

 

 

مقالات سابقة للكاتبة

فرنسا: الضلع الثالث

في اقتسام كيكة العراق؟

هيفاء زنكنة

مصطلح جديد نزل الى الأسواق الإعلامية ـ السياسية في الاسبوع الماضي وبالتحديد يوم الثاني من ايلول/ سبتمبر. المصطلح هو «مبادرة السيادة» أو «مسيرة السيادة» وقد أطلقه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، اثناء زيارة قصيرة الى بغداد احيطت بالكتمان. مما تذكرنا بزيارات المسؤولين الأمريكيين الذين يكتفون، عادة، بلقاء رئيس الوزراء العراقي اما في المنطقة الخضراء المحصنة او احد المعسكرات الامريكية الأكثر حصانة، حيث يتناول رئيس الوزراء وجبة طعام مع قوات الاحتلال ليبين، كما فعل نوري المالكي، مقدار اعتزازه بتضحياتهم بحياتهم على أيدي «الإرهابيين العراقيين».
بعد ساعات من زيارته بيروت وقيامه بواحد من أكثر الأفعال ذكاء اعلاميا، أي منحه أرفع وسام فرنسي لفيروز التي لايختلف أحد حول قيمتها الوطنية وما تمثله للبنان والبلاد العربية، وبعد احتضانه المطربة ماجدة الرومي وطمأنتها بأن لبنان سيكون بخير، (لماذا يحتضن الرؤساء والساسة الاطفال والنساء ويذرفون الدموع اثناء احتضانهم أمام كاميرات أجهزة الإعلام؟) وقبل ان تجف عبراته التي بللت شعر المطربة، سارع الرئيس الفرنسي بارسال تغريدة له عن البلد الثاني الذي يريد أن يشمله برعايته وان يضمه، مع بيروت، الى حضنه الكبير: «أؤكد لكم أنني سأكون غداً صباحاً في العراق لكي أطلق، بالتعاون مع الأمم المتحدة، مبادرة لدعم مسيرة السيادة في هذا البلد». أثارت الزيارة، الدهشة، خاصة بين العراقيين. فالعراق، خلافا للبنان، ليس مستعمرة سابقة تحاول فرنسا استعادة مكانتها فيها بنعومة فنية او عبر ترتيب حملة مساعدات «إنسانية». صحيح أن فرنسا لم تشارك في غزو العراق واحتلاله بأمرة أمريكا كما فعلت بريطانيا، مثلا، الا أنها شاركت في التحالف الذي قادته امريكا تحت راية محاربة تنظيم الدولة الإسلامية «داعش» عام 2014، وبقيت قواتها في العراق حتى فترة قصيرة. ما أثار الدهشة، أيضا، لجوء ماكرون الى اسلوب «التغريدة» لاعلان الزيارة، فهذا اسلوب متوقع من الرئيس الامريكي دونالد ترامب الذي باتت تغريداته، بكل مفارقاتها، بديلا للبيانات الصحافية، الا انه ليس اسلوبا شائعا بين بقية الرؤساء، في انحاء العالم. فهل أراد ماكرون بتغريدته أن يثبت لنفسه والعالم أن فرنسا لاتقل مواكبة لحداثة «التغريد» من الرئيس الأمريكي، أو انه لايقل عنه اهتماما بالشرق الأوسط، خاصة، بعد ان جعل ترامب من اعلان القدس عاصمة للكيان الصهيوني وتوقيع اتفاقية تطبيع العلاقات مع الإمارات، انجازات لامثيل لها يستند اليها في حملته الانتخابية؟ أو لعل ما ابتغاه ماكرون هو تفنيد النظرة الأمريكية التي عبر عنها وزير الدفاع الامريكي السابق دونالد رامسفيلد، قبل غزو العراق بشهرين، متهما فرنسا والمانيا، بأنهما «أوروبا العجوز» غير القادرة على مجاراة امريكا في «انقاذها» الشعب العراقي من نظام جائر وبناء الديمقراطية، فشٌمر عن ذراعيه، هو الآخر، هاتفا « اريد ان اساند الشعب العراقي»!

ليس من قبيل الصدف ألا يتطرق ماكرون، في حديثه عن « مساندة الشعب العراقي» إلى الشعب العراقي، المحتج، المتظاهر، المعرض للاغتيالات والخطف، النائم في ساحات مدنه منذ تشرين / اكتوبر 2019، مطالبا باستعادة وطنه وسيادة وطنه

ضمن هذه الخطوط العامة، بالامكان تلمس بعض الملامح الدالة على اهداف الزيارة، مع بقاء السبب الرئيسي حتى المعلن منه غامضا وخاضعا للتفسيرات. وأعني بذلك اعلان « مبادرة السيادة» كسبب رئيسي للزيارة وابقائه كما هو مصطلحا كرره ماكرون، بتنويعات ملونة تليق باللغة الفرنسية، في خطابه ومقابلاته الصحافية ولقاءاته الرسمية مع المسؤولين ببغداد، حاملا اياه بحميمية كما راقص الباليه حين يحمل البطلة، لأكثر من ساعة، وهو واقف على رؤوس اصابعه.
«امامنا تحديات عديدة، وأنني أريد أن اساند الشعب العراقي. لكم ان تعتمدوا على التزامي معكم، وسنعمل مع شركائنا على تحشيد المجتمع الدولي». انهمرت وعود المساندة بسخاء صحبة التحذير. في اطلاقه صيحات التحذير، استنسخ ماكرون تحذيرات الخطاب الأمريكي والإيراني، حول خطرين هما اولا: تداعيات «التدخلات الخارجية» في الشأن العراقي. لينفي عن فرنسا، كونها قوة خارجية تتدخل بالشأن الداخلي. بل وليقدمها كقوة ضرورية لحماية السيادة من « قوى خارجية» ملمحا على الاغلب الى تركيا، التي تخوض معها الصراع في ليبيا. الخطر الثاني الذي حذر منه ماكرون وذكره نقلا بالحرف الواحد من الخطاب الامريكي هو ان «الحرب على داعش لم تنتهِ بعد». مما يعني، بالضرورة، ان العراق بحاجة الى « المساندة» الفرنسية و« التحشيد الدولي».
عند جلاء الغبار الإعلامي وتنظيف التصريحات الفرنسية من طابعها الودي حول « دعم ومساندة الشعب العراقي» سنجد ان ما يود ماكرون انجازه هو ليس « مسيرة سيادة» مبهمة، بقدر ما هو تحقيق هدف استعماري قديم مُغلف بتغريدة منمقة: ان تحصل فرنسا على قطعة من كعكة دسمة تتهافت على التهامها دول اخرى، بينما لا تحصل هي على اي «مكافأة» على الرغم من انها «قدمت الدعم للعراق في حربه ضد داعش» كما قال رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي شاكرا ماكرون. فلم لا تنال نصيبا من عقود السلاح والنفط والعقود التجارية كما هي أمريكا وإيران؟ واذا كانت ارض البلد مباحة من قبل الدولتين، بينما تنتهك تركيا حدوده، قصفا وتوغلا، فلم لا تكون فرنسا الضلع الثالث في قوى الاحتلال، العسكري والناعم، في بلد يملك رابع أعلى مخزون للنفط بالعالم، ويحتل، في الوقت نفسه، بساسته السابقين والحاليين، مركزا مرموقا في قائمة اكثر الدول فسادا في العالم؟ أليس في هذا ما يكفي من الغواية لأية جهة او دولة، تود الانتفاع؟ حيث تتوفر كل الشروط الملائمة لتوسيع رقعة الاستغلال، فالنظام الفاسد بحاجة الى الحماية الخارجية، أيا كانت، والقوى الاستعمارية الجديدة، ترى في ابقاء البلد ضعيفا، منهكا، تنخره النزاعات والحروب، وتسليط سيف تهمة «الإرهاب» الجاهزة على كل مقاوم. لذلك ليس من قبيل الصدف الا يتطرق ماكرون، في حديثه عن «مساندة الشعب العراقي» الى الشعب العراقي، المحتج، المتظاهر، المعرض للاغتيالات والخطف، النائم في ساحات مدنه منذ تشرين / اكتوبر 2019، مطالبا باستعادة وطنه وسيادة وطنه، التي يعرف معناها جيدا، وسيحققها ان آجلا أم عاجلا .

كاتبة من العراق

 

 

مواكب العزاء في العراق

عن الشهداء والميليشيات والتمويل

هيفاء زنكنة

 

أضيفت الى طقوس أيام عاشوراء، هذا العام، مواكب جديدة يقوم الشباب المشاركون فيها بالسير صفوفا طويلة، وهم يحملون صور شهداء انتفاضة تشرين التي انبثقت في تشرين/ اكتوبر 2019 واستشهد فيها 560 متظاهرا. ردد المشاركون في مواكب العزاء شعارات الانتفاضة بذات الاسلوب، كما تعودوا، من مرددي أو قراء العزاء، وكأنهم يُعزون انفسهم والعالم باستشهاد المتظاهرين المطالبين بحقوقهم، كما استشهد الحسين. ويحتمون، في الوقت نفسه، بجموع مواكب العزاء آملين ان تردع قدسية الايام العشرة ميليشيات القتل وقناصة الموت عن مواصلة حملة الاغتيالات التي طالت شبابا يعرفونهم.
في ذات الوقت الذي واظب فيه شباب مواكب العزاء على حمل صور شهداء الانتفاضة تذكيرا بتضحيتهم والمطالبة بمحاسبة المسؤولين عن اغتيالهم، أصدرت بعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق (يونامي) ومفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان، تقريرا بعنوان « العراق: مختفون ولكنهم لن يغيبوا عن الذاكرة» بمناسبة اليوم العالمي لضحايا الاختفاء القسري، دعت فيه الحكومة العراقية إلى إجراء تحقيقات مستقلة وفعالة لتحديد مصير نحو ألف مدني من الرجال والفتيان، أغلبهم من العرب السنة، الذين اختفوا قسراً اثناء العمليات العسكرية التي قامت بها قوات الأمن بمشاركة ميليشيا «الحشد الشعبي» في محافظة الأنبار، غرب العراق، عامي 2015 و2016 « وما ارتكبته من انتهاكات بما في ذلك الإعدام خارج نطاق القضاء والتعذيب” في اطار محاربة داعش بدعم من قوات التحالف بقيادة امريكا.
لقد بات من بديهيات الأمور، في يوميات الحياة العراقية، ان آلة الاغتيالات والعنف ستستمر بالتهام حياة المحتجين وكل صوت معارض أو مطالب بالتغيير الحقيقي وتنظيف البلد من منظومة الفساد، بغض النظر عن ادعاءات الحكومة والساسة بإجراء التحقيقات وتصريحات وفود الحكومات الغربية «المدافعة عن حقوق الانسان» بالعراق. وستبقى أمهات وزوجات المفقودين، يتنقلن بين الدوائر الحكومية، متوسلات الاخبار، بحثا عن احبائهن، وهن يحملن صورهم المبللة بالدموع كما صور شهداء تشرين، كما صور الشهيد الحسين واهله.
ما يعزز بديهية استمرار الاغتيالات ويزيد من حالة اللا استقرار وقلة الأمان والخوف مما تحمله الايام المقبلة، بالإضافة الى شحن آليات الانتقام كمنفذ وحيد للعدالة، هو تغوّل ميليشيات القتل وتمكنها من التحكم بالحكومة ومؤسسات الدولة، عبر أذرعها الحزبية المنخرطة بدورها في البرلمان، وهنا تكمن المفارقة. فالأحزاب العراقية التي غزت الساحة السياسية منذ غزو واحتلال البلد عام 2003، هي أداة بيد الميليشيات وواجهة لها وليس العكس كما هو معروف عادة. بل أن أغلب العناوين العشائرية ومنظمات المجتمع المدني قد أصبحت بنفس حال الأحزاب، إذ أفرغت من محتواها أو أصطنعت كجزء من شبكات الفساد، ولم تعد ذات جدوى في لعب أي دور اجتماعي مستقل. وتتصدر هذه الواجهة ميليشيات « الحشد الشعبي» التي تم ضمها الى القوات المسلحة في نوفمبر/تشرين الثاني 2016ّ، ووضعت بأمرة رئيس الوزراء، بصفته قائدا أعلى للقوات المسلحة، كسلطة وحيدة مسؤولة عن نشر هذه الميليشيات وإدارة عملياتها. الا ان هذه التغييرات بقيت حبرا على ورق وواصلت ميليشيات «الحشد الشعبي» نشاطاتها خارج نطاق القانون والسيطرة للدولة. وإذا ما أعلنت الحكومة عن اجراء تحقيقات فانه لم يحدث وقدم اي عضو في الميليشيات لينال جزاءه القانوني.

لقد بات من بديهيات الأمور، في يوميات الحياة العراقية، ان آلة الاغتيالات والعنف ستستمر بالتهام حياة المحتجين وكل صوت معارض أو مطالب بالتغيير الحقيقي وتنظيف البلد من منظومة الفساد

ضمن هذه السيرورة تعهد رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي، يوم السبت الماضي، ردا على تقرير يونامي حول اختفاء الالف شخص بـ« العمل بجدية لمتابعة ملف المفقودين قسريا في البلاد، والكشف عن مصيرهم». وهو يعرف جيدا أن تعهده لا يزيد عن كونه محض هراء كما الوعود والتعهدات الكثيرة التي اطلقها هو أو من سبقه من رؤساء الوزراء. فما يُسَير الأمور، هو صراع الميليشيات فيما بينها، احيانا، كل حسب ولائها المحلي او الخارجي وضد غيرها من قوى مسلحة احيانا اخرى. وإذا كانت كل الاطراف مسلحة في « العراق الجديد» فان الميليشيات تتصدر القائمة بأسلحتها وسبل تمويلها وإرهابها المماثل لداعش. وابسط مثال على حجم تمويلها هو سيطرتها على 20 رصيفا في ميناء الفاو، المنفذ المائي الوحيد للعراق، من بين 21 رصيفا وينطبق الأمر ذاته على كل المنافذ الحدودية. فالميليشيات التي يزيد عددها على الستين، أكثر هيمنة على الشارع بحكم تدريبها وتمويلها واسلحتها. فهي تملك أنواعا من الأسلحة تراوح ما بين الخفيفة والثقيلة والذخائر المصنوعة في ما لا يقل عن 16 بلدا، بما فيها صواريخ وأنظمة مدفعية ومركبات مصفحة صينية وأوروبية وعراقية وإيرانية وروسية وأمريكية. ففي ديسمبر/كانون الأول 2014، قرر الكونغرس الأمريكي تخصيص 6.1 مليار دولار أمريكي لصندوق التدريب والتجهيز الخاص بالعراق لدعم الحملة العسكرية ضد تنظيم «الدولة الإسلامية». وقد أظهرت الأدلة المصورة لدى منظمة العفو الدولية أن طيفا من المعدات المصنوعة في الولايات المتحدة، بما في ذلك عربات «همفي» العسكرية وحاملات جنود مصفحة من طراز «M113 «وأسلحة صغيرة زود بها الجيش العراقي، باتت تحت تصرف قوات «الحشد الشعبي» بما في ذلك بين يدي بعض الميليشيات المتهمة بارتكاب انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان. كما تحصل الميليشيات على قسط من أسلحتها وذخائرها مباشرة من إيران، إما على شكل هدايا أو في صيغة مبيعات، بالإضافة الى قيام اجهزة حكومية عراقية بتزويدها بأسلحة تحصل عليها من دول اخرى بحجة محاربة داعش. ولا تجد الدول الكبرى حرجا في بيع الاسلحة لأي كان اما مباشرة او عبر الشركات الخاصة، بدون التدقيق او التغاضي عن مصيرها أو سبل استخدامها. كل التفاصيل موثقة في تقرير منظمة العفو الدولية» العراق: غض الطرف عن تسليح ميليشيات الحشد الشعبي». ففي حال بريطانيا، مثلا، تتضمن قائمة وزارة الخارجية والكومنولث البريطانية ثلاثين دولة مدرجة في قائمة الدول التي تعتبرها لندن مدعاة للقلق الشديد بشأن سجلها في حقوق الإنسان والديمقراطية. ومع ذلك، فقد صادقت الحكومة – خلال العامين الماضيين وحدهما ـ على بيع أسلحة إلى 22 دولة من تلك الدول.
ان وجود الميليشيات المتناسلة كالأرانب على ارض العراق جراء الفشل الحكومي، وغياب القانون، وهيمنة القوى الخارجية المتغلغلة ضمن الاحزاب والبرلمان، بشكل كبير، ولأسباب مالية مربحة او ولائية او عن طريق اشاعة التخويف من « الآخر» سيبقى سيفا مسلطا على رؤوس المواطنين للترهيب والقمع والانتقام و توفير «الحماية» ما لم تتوحد القوى الوطنية المبعثرة لوضع برنامج انقاذ وبناء موحد يخلص البلد من دستور « العملية السياسية» ونظام المحاصصة الذي رعاه المحتل تفتيتا للمجتمع واغتيالا لأبنائه وابقائه ضعيفا يستهلكه الاقتتال.

كاتبة من العراق

 

 

«مجهولون»

يغتالون العراق

 

هيفاء زنكنة

 

هل هناك بيت لم يزره الموت مبُكرا في العراق؟ هل من عائلة لم تفقد أحد افرادها تغييبا وقتلا منذ «تحرير» البلد، لتضيف الى قائمة ضحايا القمع والحرب والحصار اسماء جديدة لشباب لم يعرفوا غير خطيئة وحيدة عبر عنها شعارهم «نريد وطنا» فرفعوا رؤوسهم محتجين على الأوضاع المهينة، حالمين بالحرية و الحياة الكريمة، فبات حرمانهم من الحياة حكما لا يقبل الاستئناف والنقض.
في كل يوم، بدلا من الاحتفال بالحياة، بجيل يواصل حمل شعلة البناء والتطور والحضارة التي نفتخر بها، تطالعنا وجوه شباب شوهتها الاطلاقات النارية وأخرستها كواتم الصوت.
نرى صورا وفيديوهات لقتلة يرتكبون جرائمهم ويهربون. القتلة دائما «مجهولون» هكذا تخبرنا التصريحات الرسمية.
ما هو غير مجهول: جثث ومقاعد سيارات مغطاة بالدماء. تغُّيب الملامح الفتية فتبقى عيون الضحايا مفتوحة على سعتها، متساءلة بأي ذنب قتلت!
في الاسابيع الأخيرة، رأينا مقاعد سيارة أخرى، تغطيها الدماء. على أحد المقاعد حقيبة يد نسائية لم يعد بالإمكان تمييز لونها.
غاب عن مدينة البصرة، وجه ترتسم على ملامحه النضرة طيبة سكانها وكرمهم وعزة أنفسهم. بعد عامين من مشاركتها في الاحتجاجات وقيادتها لمسيرات نسائية، لم تعد الكاميرات تتوقف عند رهام يعقوب، الناشطة وخبيرة الصحة والتغذية، لنسمعها وهي تلخص بعاطفة متأججة وصوت غاضب، مأساة مدينتها، المعاقبة بوجود الميليشيات في ظل حكومات يتقاسمها الاحتلال الأمريكي ـ الإيراني. مدينتها البصرة ذات الثروة النفطية التي لولا الفساد لأصبحت فردوسا أرضيا غير أن أهلها يقفون منذ «تحريرهم» على هامش الحياة انتظارا لقطرات ماء نظيفة تحت حرارة منحت العراق لقب البلد الأشد قيظا في العالم، والأكثر اصابة بالامراض نتيجة تلوث المياه وقلة التزود بالكهرباء وتجمد الخدمات الصحية في الحضيض.
منذ يوم الاربعاء، 19 آب/ أغسطس، لم نعد نسمع صوت رهام وهي تتقدم الشباب والشابات مخاطرة بحياتها، معهم، قائلة مرة ردا على أحد التصريحات الرسمية الكاذبة حول تحسن الأوضاع في البصرة «كنت أتمنى أن تشرب وزيرة الصحة من ماء البصرة لتعرف معاناتنا».
منذ يوم الاربعاء، لم يعد بامكان رهام أن تكًّذب التصريح الرسمي حول اغتيالها القائل بأنه «نُفذ برصاص بندقية هجومية كان يلوح بها مسلحان مجهولان يستقلان دراجة نارية وسط المدينة حيث لاذا بالفرار بعد إطلاق النار على السيارة».

من واجبات الحكومة، صيانة حياة مواطنيها، أيا كانوا وليس برمجة زيارات لتعزية أهالي الضحايا أو احتضان أطفالهم وتقبيلهم في لقطات تلفزيونية دعائية، كما يفعل الكاظمي

إن اغتيال رهام حلقة في سلسلة اغتيالات استهدفت عديد الناشطين. فقد سبقها بايام قليلة اغتيال تحسين أسامة الخفاجي الذي كانت ابنته قد حذرته من الخروج مع المتظاهرين فأجابها قائلا بأن هذه هي فرصة التغيير.
وكان حسين العابدي وزوجته، والمراسل أحمد عبد الصمد، قد اغتيلوا قبلهم وكذلك الخبير الأمني هشام الهاشمي.
وفي يوم 17 آب نجا اربعة هم عباس صبحي ولوديان ريمون وفهد الزبيدي ورقية الموسوى من محاولة اغتيال بعد اصابتهم بجروح ونقلهم الى مستشفى البصرة. كما نجا ثلاثة ناشطين من مدينة الحلة وهم محمد جابر وعدنان الكهار ومحمد المنصوري، ومحسن الزيدي بينما استشهد ياسر كاظم ببغداد.
كل الاغتيالات ومحاولات الاغتيال وصفتها المصادر الرسمية بأنها تمت « بأيدي مسلحين مجهولين».
حين تم تعيين رئيس المخابرات مصطفى الكاظمي رئيسا للوزراء، في 7 أيار- مايو، كان أحد مطالب منتفضي تشرين/ أكتوبر 2019، الرئيسية هو محاسبة قتلة المتظاهرين واطلاق سراح المختطفين ووضع حد لآلام ومعاناة أهالي المختفين.
كان مطلبا ملحا لا لكثرة أعداد الضحايا الذين بلغ عددهم 560، اعترف بهم في 30 تموز/ يوليو، رسميا، كشهداء، بالإضافة الى 30 ألف جريح ومعوق بشكل دائم جراء الاستهداف بواسطة القناصة واستخدام الرصاص الحي وبندقيات الصيد والغازات المسيلة للدموع. ولا لأنهم الضحايا الوحيدون من قتلى ومختطفين منذ الاحتلال عام 2003 وحتى الانتفاضة، حيث تجاوز العدد المليون، بل نبعت أهمية المطلب من كونه حقا عاما، وحَّدَ ابناء الشعب بكل اديانه ومذاهبه، ووضع رئيس الوزراء أمام اختبار يبين صحة وعوده حول تطبيق القانون على الجميع بلا استثناء، ولا طائفية الحكومة، وسياستها في تمثيل ابناء الشعب كلهم، بدون تصنيف « الآخر» إرهابيا.
إلا أن أيا من المسؤولين عن جرائم الاغتيالات والخطف والتغييب لم يتم القاء القبض عليه، واكتفى الكاظمي، كما فعل من سبقه من رؤساء الوزراء، بتشكيل لجان لم يتم الاعلان عن نتائجها. مما يعني إبقاء الجهات المسؤولة عن الاغتيالات سواء كانت أجهزة الدولة الأمنية والعسكرية، أو الميليشيات، ذات الدعم والولاء الإيراني والتي يتجاوز عددها الخمسين، أو فرق الموت والعمليات الخاصة التابعة لأمريكا، أو أي جهة مخططة لهذه الاغتيالات، حرة طليقة، بالإضافة الى بقاء المنفذين « المجهولين» على أهبة الاستعداد لتنفيذ أية عملية اغتيال أخرى حسب الطلب.
كما بقيت اجراءات الكاظمي لمحاسبة القتلة مقتصرة على تصريحاته المغلفة بسين المستقبل مثل « سنقوم بكل ما يلزم لتضطلع القوى الأمنية بواجباتها» و«سنقوم بكل ما يلزم لتقوم أجهزة وزارة الداخلية والامن بمهمة حماية أمن المجتمع» كما فعل عند عودته، منذ يومين، من واشنطن.
عمليا، ليس هناك ما يشير الى وضع حد للعنف والتصفية الجسدية ضد المحتجين والناشطين وكل من يجرؤ على السباحة عكس تيار الفساد مطالبا بوطن. ومع تجذر الفساد المؤسساتي والاداري، وتوفر السلاح بانواعه خارج سيطرة الدولة، يشكل الناشطون الذين تمكنوا من افراغ الاستغلال السياسي للدين والمذهب من قدسيتهما المصّنعة خطرا حقيقيا لا على الميليشيات والحشد فحسب بل وعلى الأحزاب التي ازدهرت تحت توليفة الفساد الطائفي في « العراق الجديد». من واجبات الحكومة، صيانة حياة مواطنيها، أيا كانوا وليس برمجة زيارات لتعزية أهالي الضحايا أو احتضان أطفالهم وتقبيلهم في لقطات تلفزيونية دعائية، كما يفعل الكاظمي.
إن اعلان هوية مخططي الاغتيالات ومنفذيها وتقديمهم للقضاء مسؤولية رئيس الوزراء وقائد القوات المسلحة خاصة وأنه كان، حتى أشهر قليلة مضت، رئيسا للمخابرات. مما يجعل مسؤوليته مضاعفة لأنه أدرى من غيره بكل من يمس أمن واستقرار البلد ويستهدف معارضيهم او من يعتبرهم اعدائه عن طريق التصفية الجسدية.
هذا، طبعا، اذا لم يساهم هو أو يسكت، لأسباب يعرفها، على تغطية دور المجرمين والمخططين والممولين، من خلال الإجراءات الشكلية الهادفة إلى دفن القضية وتسجيلها، كالعادة، ضد « مجهول».

كاتبة من العراق

 

 

من الفلوجة وحلب الى

بيروت… نحن أطفال هيروشيما

هيفاء زنكنة

 

كنا نتهيأ لاستقبال يوم الخميس، يوم 6 آب/ أغسطس، ذكرى مرور 75 عاما على القاء القنبلة الذرية على مدينة هيروشيما اليابانية. إلا أن يوم الأربعاء فاجأنا بحضور هيروشيما بيننا، مبكرة، في بيروت، لتمتزج رمزية الدمار بين الماضي والحاضر، بين مدن بعيدة وقريبة في آن واحد. نار حارقة تتسلل الى مدن عربية، بأشكال متغيرة، تظهر حينا وتختفي حينا آخر كالغيوم، كصاعقة تحفر عميقا، تاركة وراءها أجساد أهل المدن شظايا يلتقطها الاحياء. ماذا عن الغد؟ يتساءل الباقون وهم في طريق عودتهم الى الحياة، كما كانوا يعرفونها، ثم يعاودون السؤال عما سيجلبه ما بعد الغد. فالغد ضبابي يلتحف بسماء من غبار.
بيروت الجميلة باتت مدينة منكوبة. مدينة يدّعي ملكيتها الجميع ولا يرعاها أحد. كيف نميز بين المدن المنكوبة؟ في بلدان لم تعد بلدانا؟ هياكل مبان ومساحات مثل صورة متآكلة الحواف، انمحت ألوانها فلم يبق غير لون الرماد. مدن متناثرة على وجه أرض كنا نراها واحدة، بجبالها وسهولها وانهارها. في العراق واليمن وسوريا وليبيا. لقطات الخراب واحدة والصور واحدة، وأهل المدن في غربتهم المكانية، ما عادوا يميزون الأماكن التي ولدوا فيها أو شيّدوها بأنفسهم. مبان قد يبقى جزء منها منتصبا، بلا جدران بلا أبواب بلا نوافذ، مثل جوف فارغ، فقط ليتحدى قوة الانفجار من مادة كيمياوية أو قنبلة ذرية أو صاروخ أو قصف جوي بمئات الاطنان. كم من هيروشيما سنعيش؟
كل مدينة منها تستحضر برماديتها، اليوم، بعض هيروشيما. كانت (لهذا الفعل الناقص في ذاكرتنا جذور) متألقة بلون الشمس والسماء والأرض الخضراء ذات يوم أو لعله الأمس. في بيروت والعراق، يوم خرج الناس الى الشوارع صارخين. « نريد وطن» في الأول من تشرين الاول / أكتوبر في العراق، و«كلن يعني كلن» في 17 تشرين في بيروت. ورفع المتظاهرون علم البلدين سوية.
في سوريا تحضر هيروشيما في 13 مدينة. أكل القصف في حلب 36 ألف مبنى، وفي مدينة حمص 13778 بناء، ثم الرقة 12781، ومن ثم حماة 6405، ودير الزور 6405، إضافة إلى 5489 في مخيم اليرموك (معهد الأمم المتحدة للتدريب والبحث في 18 مارس 2019). ومع كل مبنى تغيب حياة عائلة، تتشرد في بلدان تضيف الى مأساتها محنة الاستغلال السياسي والاقتصادي.
استحضر الانفجار القاتل ببيروت هيروشيما، بفارق 75 عاما. واستحضر رش مدينة الفلوجة العراقية باليورانيوم المنضب والفسفور الأبيض هيروشيما بفارق 59 عاما. غاب التمييز بين البشر، ألغيت الحدود. تماهت بيروت في كارثتها مع هيروشيما وصارت الفلوجة هيروشيما « العراق الجديد».
في كل يوم يغادرنا فيه جرحى بيروت، يولد في الفلوجة أطفال برأسين ويموت آباء وامهات بالسرطان. أي أطفال سيولدون في بيروت نتيجة التلوث ومخلفات التفجير؟ المخلفات الأمريكية لا تزال تغتال الأطفال ببطء في الفلوجة. القاتل معروف إلا أن العدالة مفقوءة العينين، تائهة في دروب المدن الخربة. يقول المفكر الامريكي نعوم تشومسكي «ما يتعلق بالفلوجة، لم تقم الولايات المتحدة بنقل النساء والأطفال إلى خارج المنطقة، لقد قصفتهم.

أيها الصغار، لا تصمتوا، تكلموا، قاوموا الكبار في العالم كله، أرباب الحرب، اصرخوا فيهم، بأصوات ناصعة، وعيون تلمع، افتحوا أذرعكم، حرروها لتعانقوا الجميع، امنحوا الجميع عناقًا، يعيد دموع الطيبة للقلوب

كان هناك ما يقرب من شهرٍ كاملٍ من القصف، كان قصفاً شاملاً للمدينة، إذا كان هناك من تمكَّن من الخروج بطريقة ما، فهم ليسوا أكثر من مائتي ألف شخص فرّوا، أو خرجوا بطريقة ما… فالرجال تم الاحتفاظ بهم في الداخل ونحن لا نعرف ماذا حصل بعد ذلك، نحن أنفسنا لم نقدّم تقديرات عن عدد الضحايا الذين كنّا مسؤولين عن قتلهم»..
الانفجار القاتل في بيروت اختزل الزمن بين مدن نائية ما ابعدها. هيروشيما ـ الفلوجة – بيروت. رمزية الرعب في كيفية الموت: أسرع كما في القصف وهدم البيوت على رؤوس ساكنيها ودفنهم تحت الأنقاض أو بطيء يمتد على مدى عقود كما في المواد الكيميائية واليورانيوم المنضب؟ وينشج القلب… « أن نسبة حالات السرطان والتشوهات الخلقية في مدينة الفلوجة التي تعرضت لقصف أمريكي عام 2004 تفوق النسبة في مدينتي هيروشيما وناغازاكي اليابانيتين اللتين ألقيت عليهما قنابل ذرية في الحرب العالمية الثانية».
«في أقل من لحظة، التهم ثقب أسود من الدمار والموت كل شيء. لا نزال من هوة الصمت هذه نسمع صراخ أولئك الذين رحلوا»، قال البابا قرب «نصب السلام» في هيروشيما. هل من نصب للسلام لمحو مشاهد الجحيم في بلداننا، ودفاتر نسجل فيها أسماء من سقطوا ضحايا جرائم البشر ضد البشر، وليس تسونامي الطبيعة، لئلا يكونوا أرقاما واحصائيات تجردهم من انسانيتهم؟ في الموصل وثّق موقع «ايروور»، البريطاني المختص، الحرب الجوية، في العراق وسوريا، واصفا عدد ضحايا القصف الجوي الأمريكي، بالعراق «بأنه الأعلى منذ حرب فيتنام، ومع ذلك لا تبدي الحكومات الغربية والعراقية أي اهتمام بتوثيق اعداد الضحايا».
استخدمت أمريكا لقصف الموصل، القاذفة الجوية بي 52، التي تم تحديثها لتُزود بالصواريخ والقنابل الموجهة بالليزر، وطائرات أف 16 وأف-أي 18، وطائرات ريبر بدون طيار، بالإضافة الى مروحيات الأباتشي قاذفة القنابل. وإذا كان تنظيم داعش الإرهابي قد زرع الألغام، ولا يزال الكثير منها مدفونا تحت الركام، فان قوات التحالف رمت على المدينة « قنابل تزن الواحدة 500 رطل، تخترق الأرض لمسافة 15 مترا أو أكثر»، حسب مدير برنامج الأمم المتحدة للإجراءات المتعلقة بالألغام.
ما الذي سيجلبه المستقبل لبيروت التي احتضنتنا جميعا بكل صراعاتنا ومآزقنا وندواتنا وكتبنا وطموحات واحلام شبابنا؟ لبلداننا التي ينخرها الاستبداد والفساد والطائفية؟ هل ستلملم زيارة الرئيس الفرنسي ماكرون جراحها ويعيد لها ألقها واعتدادها بنفسها؟ متى تحولت الدول الاستعمارية الى منظمات إنسانية، أم انها إنسانية فعلا بالمقارنة مع حكام/ حيتان الفساد المحليين؟ هل لملمت زيارة الرئيس الأمريكي ترامب جراح العراق النازفة؟ كيف وهو يمنح الأوسمة لقتلة العراقيين ويبارك حكام الفساد؟ هل وصلنا حقبة نستجدي فيها، كشعوب ذاقت الأمرين من حكامها، العودة الى حضن « المُحرر» الذي وسمنا، على مدى قرون، بالدونية البشرية؟ هل سنكون آخر الباقين؟ أم سنرحل كما الياباني شاعر القنبلة سانكيشي توغي، ابن هيروشيما، مرددين مثله في نصب تذكاري: « أيها الصغار، لا تصمتوا، تكلموا، قاوموا الكبار في العالم كله، أرباب الحرب، اصرخوا فيهم، بأصوات ناصعة، وعيون تلمع، افتحوا أذرعكم، حرروها لتعانقوا الجميع، امنحوا الجميع عناقًا، يعيد دموع الطيبة للقلوب، وغنوا لهم: نحن أطفال هيروشيما».

كاتبة من العراق

 

 

عن أفلام رئيس الوزراء

العراقي وفيديو الطفل العاري

هيفاءزنكنة

 

وزع المكتب الإعلامي لرئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي، يوم 30 تموز/ يوليو، فيلما قصيرا تداولته أجهزة الاعلام العراقية والعربية، عن زيارته الى سجن مطار المثنى، وسط بغداد. وُصفت الزيارة بأنها «ليلية تفقدية مفاجئة». تأكد الكاظمي، خلالها «بنفسه من عدم وجود سجناء من المتظاهرين، وأصحاب الرأي». وسجن المثنى واحد من سجون نظام «العراق الجديد» ينافس في سمعته السيئة سجني «أبو غريب» و«التاجي». اذ لا يكاد أي تقرير حقوقي عالمي أو محلي يُنشر حول انتهاكات حقوق الإنسان بالعراق الا ويذكر فيه سجن المثنى، مرة كمركز للتحقيقات وأخرى كسجن «سري» تسيطر عليه الميليشيات وتُخضع المعتقلين «لكافة أنواع التعذيب، تبدأ بالضرب والخنق والصعق بالتيار الكهربائي في كافة أنحاء الجسم والحرق ونزع الأظافر والأسنان ومحاكاة الغرق، بهدف انتزاع اعترافات بتنفيذهم عمليات إرهابية لم يرتكبونها». ولا تخلو التقارير من توثيق حالات تهديد أو انتهاك واعتداء جنسي ضد المعتقلين من الذكور.
يأتي توقيت الزيارة مع عودة المظاهرات الغاضبة في عديد المحافظات، في ارجاء البلد، احتجاجا على انقطاع الكهرباء مع ارتفاع حرارة الصيف الى ما يزيد على الخمسين درجة مئوية، وأزمة المياه الصالحة للشرب بالإضافة الى المطالبة بالقبض على قتلة المتظاهرين في انتفاضة تشرين/ أكتوبر 2019، الذين بلغ عددهم 560، اعترف بهم في 30 تموز، رسميا، كشهداء، بالإضافة الى 30 ألف جريح ومعوق بشكل دائم جراء الاستهداف بواسطة القناصة واستخدام الرصاص الحي وبندقيات الصيد والغازات المسيلة للدموع. عاد المتظاهرون الى الشوارع على الرغم من قساوة الجو، ومخاطر انتشار وباء الكورونا، احتجاجا، أيضا، على حملة الخطف والاغتيالات المنهجية المترصدة بالمتظاهرين وكل ذي فكر حر، وكان آخرهم المحلل السياسي هشام الهاشمي. تلاه اغتيال خمسة متظاهرين وسقوط عشرات الجرحى، والبلد تحت قيادة الكاظمي الذي لاتزال وعوده ترن في آذان المواطنين. حين تعهد بأن الحكومة ستحقق في مقتل المتظاهرين. وذّكره المتظاهرون بأن وعود تشكيل اللجان بات مزحة سمجة، وكما اكدت منظمة هيومان رايتس ووتش «يجب على الحكومة، أن تحدد وتعلن عن الجماعات وقوات الأمن التي شاركت في عمليات القتل هذه أو نسقتها ومحاسبة المسؤولين. وبذل الجهود لتحديد مكان المتظاهرين الذين اختطفوا وما زالوا مفقودين، مع المساءلة الكاملة».
بالنسبة الى المفقودين، تقول اللجنة الدولية للصليب الأحمر « أن في العراق أكبر عدد من المفقودين في العالم. البعض منهم يتعرضون للاختفاء القسري، بما في ذلك، مؤخرا، بعض المشاركين في حركة الاحتجاج التي بدأت في تشرين/ أكتوبر 2019».
إزاء هذا كله، ما هي الاجراءات التي اتخذها الكاظمي؟ رأينا فيلمين وصورة. لابد وأن تكون حصيلة نصيحة أسداها له أحد مستشاريه حول أهمية الصورة / اللقطة المستخدمة إعلاميا وعلى مواقع التواصل الاجتماعي، لتُصبح هي الواقع والحقيقة، مهما كانت «اللقطة ـ الصورة» مفبركة لتبين بأنه يقوم فعلا بإنجازات مغايرة لمن سبقه.

يأتي هذا الفيديو بوحشيته، ليكشف الحقيقة عن زيف ادعاء حماية الشعب من قبل القوات الأمنية والشرطة، في بلد بلا قوانين، تحكمه مؤسسات تُسيّرها الميليشيات وعصابات الفساد

تناول الفيلم الأول زيارته « التفقدية المفاجئة» الى سجن المثنى. حيث نراه واقفا يتصفح بضع ورقات في مكتب أنيق مرتب ثم ينتقل للوقوف امام قضبان لردهة واسعة تتألق نظافة. نرى فيها عددا من المعتقلين الذين لايقلون نظافة وترتيبا عن المكان والكاظمي نفسه باستثناء انه يرتدي بدلة وكمامة. في رحلته للعثور على المتظاهرين المفقودين والمختطفين، نسمعه قائلا: « منو منكم صار له أسبوع؟ شهر؟ أكو (ثمة) واحد صار له أسبوع؟ أسبوعين؟ شهر؟ «. حين يهز المعتقلون رؤوسهم نفيا، يعيد صياغة أسئلته « منو أجدد واحد؟ أكو واحد من المتظاهرين؟». هكذا تأكد الكاظمي من عدم وجود متظاهرين معتقلين، وخرج فرحا بتفنيده التقارير الحقوقية الموثقة لاعتقال آلاف المحتجين. فهل من المعقول ان الكاظمي، الذي كان حتى 9 حزيران/ يونيو، رئيسا للمخابرات، ومن قبله صحافيا، لا يعرف أين يُحتجز المعتقلون من المتظاهرين؟
وإذا كانت الميليشيات هي المسؤولة وهو لا يعرف، فكيف استطاع تحرير المُختطفة الألمانية، قبل أيام، بسرعة قياسية، بينما تدور أمهات الشباب العراقي المُختطف باحثات عن ابنائهن وبناتهن في أكثر المعتقلات والسجون لا إنسانية، على مدى شهور وسنوات، ويواجهن الاهانات والاساءات ودفع الرشوات بلا جدوى.
الفيلم الثاني عن القاء القبض على جندي متهم مع اثنين آخرين، لا نراهما في الفيلم، برتبتي رائد وملازم. يعترف الجندي بانه والآخرين استهدفوا المتظاهرين الثلاثة، قبل أيام، ببنادق صيد. ويأخذنا الجندي المرعوب الى سيارة ليرينا وجود الرصاص فيها. المتهمون الثلاثة، كانوا ضمن القوة الأمنية المنتشرة في خطوط مواجهة المتظاهرين والممنوع عليهم، كما صرح وزير الداخلية، حمل السلاح. فكيف أخفى الثلاثة بنادق الصيد، وكيف اغتالوا المتظاهرين ولم تثر العملية التي تمت امام القوات الأمنية، اعتراضا؟ وإذا كان الثلاثة مسؤولين فعلا عن اغتيال اثنين من المتظاهرين، من المسؤول عن قتل الخمسمائة وثمانية وخمسين الآخرين؟ أجمعت التعليقات الغاضبة والساخرة على «الفيلم» أنه « حتى أفلام الدرجة العاشرة أحسن منه».
ولمعالجة أزمة الكهرباء القاتلة، وزع الكاظمي صورته بكامل قيافته بالبدلة والرباط جالسا خلف مكتب في غرفة شبه مظلمة وهو محاط بالشموع وهو يواصل الكتابة بكل همة وبلا قطرة عرق واحدة تدل على صحة الرسالة التي أراد ايصالها الى أبناء الشعب وهي أنه مثلهم، يعاني من انقطاع الكهرباء، الا انه ليس مثلهم لأنه يواصل العمل غير مبال بالحر!
هذه الحملة الإعلامية المبرمجة سقطت إزاء فيديو لم يتم تصويره من قبل محترفين ولم يشارك فيه الكاظمي بشكل شخصي. الفيديو الذي اشير اليه لم أستطع اكمال رؤيته. فمن منا يريد مشاهدة ضعف طفل عار أمام سادية جلادين يلتذون بما يقومون به الى حد تصويره ونشره، ليكون نسخة مما نفذه جلادو الاحتلال الأمريكي في أبو غريب؟ فيديو بلقطات مقززة يبين الاعتداء الوحشي على طفل يتوسل الرحمة من مجموعة من منتسبي قيادة قوات حفظ القانون، يتباهون بما هو اوطأ ما يمكن ان تصل اليه خسة « قوات الامن»، التي طالما وُثقت جرائمها وممارساتها في عديد السجون والمعتقلات، وقامت الحكومات بالتستر عليها.
خلافا لفيديوهات الكاظمي ذات السيناريو المُعد مسبقا، لتغطية الحقائق، يأتي هذا الفيديو بوحشيته وبذاءته، ليكشف الحقيقة عن زيف ادعاء حماية الشعب من قبل القوات الأمنية والشرطة، في بلد بلا قوانين، تحكمه مؤسسات تُسيّرها الميليشيات وعصابات الفساد. ولن يأتي الحل من قبل المنظومة الموجودة، فالعراق، يعيش « أزمة وطن، لا يحلها من يقف ضد الوطن»، كما يقول الكاتب أحمد الناصري.

كاتبة من العراق

 

 

سيبقى العراق

 دولة مارقة!

 

هيفاء زنكنة

 

بذلت الحكومات البريطانية التي تلت حكومة رئيس الوزراء توني بلير، التي شنت مع أمريكا الحرب ضد العراق، عام 2003، ان تنسحب تدريجيا من كل ما له علاقة بالبلد الذي ساهمت بتخريبه.
تُركز سياستها على طمس كل ما يجذب الانتباه إعلاميا وسياسيا الى ما يجري فيه، حاليا، كنتيجة مباشرة وغير مباشرة لاحتلاله، حتى يكاد يكون العراق سرابا انحسر، خاصة بعد انسحاب قوات الاحتلال البريطانية، ونجاح الحكومة في تسقيط القضايا التي رفعت ضد الجيش البريطاني وما ارتكبه من جرائم. وكللت نجاحها بتشريع قانون يحمي القوات العسكرية من المسؤولية تجاه اية جريمة او « انتهاك» يرتكب في العراق وغيره.
هذه المعطيات، مكّنت الحكومة البريطانية من حماية صورتها من أي حدث قد يلوثها في مجالات تعتبرها، ظاهريا على الأقل، تمس حقوق الإنسان ووضع القوات العسكرية العاملة خارج بريطانيا في مهام تُعّلب، غالبا، باعتبارها « مساعدات إنسانية « أو « مُنح تنموية». هكذا تنشط آلة الإعلام والدعاية الرسمية على تغييب العراق، ومسح شن الحرب العدوانية وانعكاساتها من ذاكرة الشعب البريطاني، الذي تظاهر بملايينه ضدها، باستثناء استحضاره، عند الحاجة، كساحة « حرب ضد داعش».
من هذا المنطلق وللإجابة على عدد من الأسئلة المكتوبة لنواب بريطانيين، وضح وزير الدفاع بن واليس، في مجلس العموم، بتاريخ 22 تموز / يوليو، موقف الحكومة استهله بالقول بانه سيتحدث عن « مكافحة داعش»، مهمشا بذلك، منذ البداية، بقية الأسئلة التي قد تحرج الحكومة، خاصة، وما يشير الى مسؤولية الحكومة فيما يحدث اليوم، في العراق، كنتيجة للغزو والاحتلال.
أكد الوزير، عدة مرات، على ان وجود القوات المسلحة في بلدان مثل العراق وسوريا ضروري بسبب وجود صراع مستمر « حيث الأخطار التي تفرضها أمثال داعش والدول المارقة موجودة دائمًا» ومحاربة هذه القوى تجعل البريطانيين ينامون بشكل أفضل في أسرتهم. وهو ذات الموقف الذي طالما تبنته الحكومات البريطانية المتعاقبة، سواء كان الحزب الحاكم هو حزب العمال أو المحافظين، لستر تدخلها الامبريالي واستعمارها في عديد البلدان، مستغلة تخويف المواطن من «الآخر / الإرهابي»، وتحت مسميات مختلفة تناسب الحقبة الزمنية والمصلحة الاقتصادية المتوخاة. فالإمبريالية تحتاج الإرهاب، دائماً. وإن لم يستدعَ الإرهاب استفزازا عبر منع الاحتجاج السلمي وجره للعنف المتصاعد، فهو سهل الصناعة بالتوريط وباختراق التنظيمات السياسية العادية.
وفق هذه السيرورة، يُحذر وزير الدفاع، من “احتمال عودة ظهور داعش هناك» وأنها « يمكن أن تضرب مواطنينا هنا» ويستطرد الوزير لتحيين وتعميق خطر داعش التي « تواصل نيتها في تنفيذ وإلهام الهجمات ضدنا، وتظل أهم تهديد إرهابي للمملكة المتحدة ومصالحنا». وهو ذات الخطاب، تقريبا، الذي استخدمه توني بلير عشية إعلانه الحرب يوم 20 آذار/ مارس 2003. قائلا انه أمر القوات بالمشاركة في “العمل العسكري بالعراق.» حينها لم تكن « داعش» قد صُنعَت بعد، فكانت «مهمتهم: إزاحة صدام حسين ونزع أسلحة الدمار الشامل». لأن « العالم يواجه تهديدا جديدا من فوضى ولدت إما من دول مارقة كالعراق أو من الجماعات الإرهابية المتطرفة… كلاهما يكره أسلوب حياتنا وحريتنا وديمقراطيتنا». وتتوقف « طمأنينة العديد من الدول على شجاعة وتصميم قواتنا». وإذا ما حدث وتساءل البعض عن هذه الدول التي ستوفر لها الطمأنينة، يرد بلير « لقد التزمنا أنا والرئيس بوش للعمل من اجل السلام في الشرق الأوسط على أساس دولة إسرائيل الآمنة ودولة فلسطينية قابلة للحياة».

الإمبريالية تحتاج الإرهاب، دائماً. وإن لم يستدعَ الإرهاب استفزازا عبر منع الاحتجاج السلمي وجره للعنف المتصاعد، فهو سهل الصناعة بالتوريط وباختراق التنظيمات السياسية العادية

الخطاب، اذن، واحد لتبرير « تدخل» القوات البريطانية. «العدو « جاهز للاستخدام سواء كان صدام حسين أو أسلحة الدمار الشامل او القاعدة أو داعش. وهل هناك أنبل من مهمة الدفاع عن أمن، ليس البريطانيين فحسب بل والعالم كله، وتوخي، في الوقت نفسه، تحقيق « السلام» بل وحماية أهل البلد المُحتل سواء من قبلهم او ممن غرزوه كما في فلسطين؟
لتحقيق هذا الهدف الانساني، يُخبرنا الوزير: « تواصل طائرات سلاح الجو الملكي البريطاني القيام بدوريات في سماء العراق، بشكل شبه يومي» وكانت قد شنت 16 هجوما، وضربت 40 هدفًا إرهابيًا منذ تموز/ يوليو 2019. وبفضلها و« بفضل قوات التحالف والقوات الشريكة المكونة من 82 عضوًا في العراق وسوريا»، تحقق النصر. ولئلا يتبادر الى الاذهان ان تحقيق النصر على داعش سيؤدي الى انهاء ضرورة سيطرة القوات الأجنبية على العراق، يقول الوزير متداركا « لكن القتال الصعب ضد داعش لم ينته».
لذلك يؤكد الوزير استمرار دور المملكة المتحدة « القيادي في الائتلاف العالمي» كما هو. فعلى الرغم من تقدير المملكة لقوات الأمن العراقية وتضحياتها في القتال ضد داعش، وعلى الرغم من اكمال أكثر من 50.000 فرد من الجيش العراقي والشرطة الاتحادية وحرس الحدود وقوات الأمن الكردستانية وكتائب الاستجابة للطوارئ التدريب الذي قدمته الدول المساهمة بقوات التحالف. الا انها « لا تزال بحاجة إلى المساعدة الدائمة لإزالة التهديد»، من خلال التدريب والتوجيه والتعليم العسكري المهني من قبل التحالف ومهمة الناتو في العراق والمبادرات الثنائية، بالإضافة الى تقديم الدعم الجوي الأساسي.»
ولم ينس الوزير اضافة الكليشيه الضرورية التي يجيدها المستعمِر عن رعايته للشعوب المُستَعمَرة وعبء الرجل الأبيض متحدثا عن « التزام المملكة المتحدة باستقرار العراق وسيادته»، متناسيا حقيقة مساهمته في تخريب كل ما له صلة بالاستقرار وسيادة البلد، ومنوها بتوقيع « مذكرة تفاهم حول العلاقة الدفاعية المستقبلية» في آب/ أغسطس 2019. وهي في الحقيقة اتفاقية ستسمح لبريطانيا بإبقاء قواتها في العراق. آخذين بنظر الاعتبار، بقائها مادامت مصلحتها تقتضي ذلك، بموافقة الحكومة المكونة من ساسة مُدجنين مهمتهم الأساسية حماية مصالحهم الخاصة ومصالح القوى الخارجية، وهذا ما يذكرهم به الوزير، بوضوح وقوة يصلان الى درجة التهديد، حين يقول « على الحكومة حماية قوات التحالف والبعثات الأجنبية ومحاكمة المسؤولين عن الهجمات. التحالف موجود في العراق بناء على طلب الحكومة العراقية، للمساعدة في الدفاع عن العراقيين وغيرهم، مكررا، ربما للمرة العاشرة في تصريحه، ضرورة وجودهم « ضد التهديد المشترك الحقيقي للغاية من داعش. بدون جهودهم، سيتم تشجيع داعش فقط».
ان اتخاذ أية حكومة قرار توقيع اتفاقية أو معاهدة مع جهة خارجية، يتطلب البحث والتمحيص وقراءة مدى قانونية الاتفاق وحجم الفائدة والضرر من قبل فريق خبراء في المجال المعني، فكيف اذا كانت الاتفاقية او المعاهدة تمس استقلال البلد وسيادته، مع دول احتلت البلد وسببت قتل ما يزيد على المليون مواطن، خلال فترة قياسية في قسوتها وهمجيتها، استنادا الى أكاذيب وتلفيقات بات مسؤولو دول الاحتلال انفسهم يعترفون بها؟ وهل طُرحت هذه الاتفاقيات المصيرية سواء مع بريطانيا أو أمريكا للاستفتاء؟ أم ان الاستفتاء الوحيد الذي سيتم، كما لاحظنا في الأسابيع الأخيرة، عبر التفجيرات والاغتيالات والصواريخ، التي ستبقى اللغة السائدة في « العراق الجديد»؟

كاتبة من العراق

 

 

حكومة الكاظمي وتوفير

«إستكانات» الشاي للعراقيين

هيفاء زنكنة

 

لعل واحدا من « إنجازات « حكومات الاحتلال منذ غزو واحتلال العراق في 2003، هو منح عديد المفاهيم والمصطلحات والأمثال المتعارف عليها معاني جديدة تتماشى مع مصالح الفئة المختارة لدحرجة البلد من حضيض الى آخر. فمن التحرير الى الديمقراطية ومن النزاهة والشفافية الى القضاء على الفساد والفاسدين، يتنقلون بتكرار مبتذل واستهانة منهجية بعقول الناس. فاستمراء الساسة في اتهام بعضهم البعض بالفساد، مثلا، أفرغ الفساد من معناه وجعله عملة رائجة لاتهام وتسقيط « الآخر» والإعلان عن نظافة ونزاهة صاحب الاتهام.
وإذا كان تكرار شعار « القضاء على الفساد» بعد 17 عاما من تنميته وتجذيره في كل مؤسسات البلد، ومن كبير مسؤوليها الى صغيرهم، قد يوحي بانه أسطوانة مشروخة الا ان الفاسدين، والحق يقال، يدهشوننا، يوميا، بإبداعاتهم في هذا المجال، حيث نجحوا في استثمار الأسطوانة المشروخة، المراد منها التكرار الممل، الى مجالس نقاش لا تنتهي في أستوديوهات (ما أكثرها!) تتناوب على استضافتهم على مدى 24 ساعة في اليوم. كلها، بلا استثناء، تدّعي انها تعمل من اجل مصلحة المواطن وكيفية توفير الأفضل للمواطنين، من الخدمات الأساسية الى الامن وحقوق الانسان وأحسن الأجواء لأداء الشعائر الدينية.
ولأننا في فصل الصيف، والعراق مشهور بلهيب حرارته، خاصة شهري تموز / يوليو وآب/ أغسطس، المعروف بانه اللَّهاب الذي يحرق المسمار بالباب، فان الأستوديوهات معبأة بالمتحدثين عما يسمونه « أزمة الكهرباء» وكيفية حلها عن طريق القضاء على الفساد. وهم أنفسهم سبب الفساد. وهي معالجة لا تهدف الى إيجاد حل ولو جزئي بل الى تحويل مأساة البلد الى مفردات مجردة لا تعني شيئا مهما كانت حقيقتها. لم يعد هناك من يتحدث عن معنى انقطاع الكهرباء لساعات وساعات يوميا ودفع المبالغ الكبيرة للحصول على التيار الكهربائي من أصحاب المّولدات الكهربائية الخاصة. الفاسدون المسؤولون عن انقطاع الكهرباء لا يتحدثون عن المرضى الذين يموتون في المستشفيات او المعامل المتوقفة عن العمل او طلاب وتلاميذ المدارس او حالات الكآبة وحتى الجنون الذي يمكن أن يصاب به الإنسان وهو يعيش تحت درجة حرارة تزيد على نصف درجة الغليان.
إنهم لا يتحدثون عن نزول العباد الى الشوارع مطالبين بحقهم في وطن يتوفر فيه، كما بقية بلدان العالم الأقل ثراء وامكانيات، بالكهرباء. متناسين حقيقة ان أكثر القرى بعدا في العراق كانت مزودة بالكهرباء فكيف بالعاصمة بغداد؟ ما يتحدثون عنه، على مدار الساعة هو الوعود البراقة وتشكيل اللجان والشفافية والنزاهة وهم يعرفون جيدا أنها علكة يلوكونها لطمس روائح الفساد الكريهة.
لم يغير تعيين مصطفى الكاظمي رئيسا للوزراء الكثير. فمنظومة الفساد أعمق من تغيير الوجوه، ان حدث. وهو ما لم يحدث. ما حدث هو تدوير الوجوه وتبادل المواقع، حسب العلاقة اما مع الولايات المتحدة الامريكية أو إيران. الانتظار والارتفاع والانحسار في علاقة البلدين المُحتلين هو ما يُشكل يوميات المواطن ومعه تتزايد وتتكرر الوعود.

الفاسدون المسؤولون عن انقطاع الكهرباء لا يتحدثون عن المرضى الذين يموتون في المستشفيات أو المعامل المتوقفة عن العمل أو طلاب وتلاميذ المدارس أو حالات الكآبة وحتى الجنون

تكرار الوعود هذا العام، لم ينخفض ولو درجة مئوية واحدة منذ تعيين مصطفى الكاظمي، بل ازداد لينافس وعود العام الماضي، والعام الذي سبقه، وكل عام منذ غزو البلد، يوم وعدوا بتحويل العراق الى فردوس لا مثيل له. ولم لا، كما تنص المحاججة، ما دام البلد يزخر بعقوله وثروته النفطية، وكل ما يحتاجه هو التخلص من النظام الدكتاتوري واحلال الديمقراطية!
بالإضافة الى الادعاءات الأولية التي بررت الغزو وهي كثيرة، باتت كل حكومة جديدة تنافس سابقتها في إطلاق التصريحات، حول القضاء على الفساد، بل وصلت البلاغة برئيس الوزراء حيدر العبادي الى القول إن الفساد أخطر من الإرهاب في ذات الوقت الذي كانت فيه حكومته منقوعة بالفساد. ولا يكاد كل رئيس وزراء جديد يعتلي كرسي منصبه حتى يلقي خطابا مغلفا بالنزاهة والشفافية، غير غافل عن القاء اللائمة على من سبقه، متهما الحكومات السابقة كلها بالفساد، مجندا الوزراء الجدد لتدوير ذات الأسطوانة حتى لو كانوا هم أنفسهم وزراء في الحكومات السابقة. كما هو علي علاوي، وزير المالية الحالي الذي كان وزيرا في حكومات فاسدة سابقة، والذي لم يخرج على الطور المعتاد يوم 16 تموز/ يوليو حين صرح «نحارب الفساد بكل قوة في كافة مؤسسات الدولة». كما لم يخرج على الطور حين حاول تبرئة الحكومة الحالية من اية مسؤولية سابقة او لاحقة، قائلا: «لا يمكن تحميل حكومة الكاظمي ما يمر به العراق من مشاكل مالية»، مضيفا « أن أكثر من 10 في المئة من الموظفين «فضائيون» ومزدوجو رواتب ». يشكل هذا التصريح المراد منه اثبات فساد الحكومات السابقة بودرة لتزويق وجه الحكومة الحالية. ومثل كل بودرة تتناثر بسرعة حالما يراجع المرء تصريحات مسؤولي الحكومات السابقة ويقارنها بالحالية فيجد انها ذات الأسطوانة المشروخة. فمن منا لا يتذكر تصريح وزير الكهرباء حسين الشهرستاني، وهو بالمناسبة عالم ذرة يُفترض فيه التحقق العلمي، بان العراق سيصدر الكهرباء عام 2013؟ وفي ظل حكومة حيدر العبادي، بتاريخ 30 أكتوبر 2018، ومع تزايد الاحتجاجات، تم ابلاغ المواطن بإنجازات مذهلة لحل ما يسمى بأزمة الكهرباء، مثلا، ومن بينها اعلان وزارة الكهرباء أنها أبرمت اتفاقيتين بشكل منفصل مع شركتي جنرال إلكتريك الأمريكية وسيمنز الألمانية لتطوير قطاع الطاقة الكهربائية. وان شركة «جنرال إلكتريك»، سلّمت الحكومة العراقية إستراتيجية لتطوير القطاع في البلاد ورفع قدرة المنظومة الوطنية وتشغيل المزيد من الأيدي العاملة. وأُبلغ المواطن المنتظر لأية بادرة تريحه من القيظ ان دول الخليج ستصدّر فائض الكهرباء إلى العراق. وتماشيا مع هذه الجهود الجبارة لعديد الدول والشركات ولكي يثبت العبادي انه معماري هذه « الإنجازات « العظيمة، بادر بإصدار أمر بتجميد عمل وصلاحيات وزير الكهرباء قاسم الفهداوي « على خلفية تردي خدمات الكهرباء وإلى حين استكمال التحقيقات». وتحولت التحقيقات، كالعادة، الى طُرفة غير مضحكة، يتبادلها المواطنون وهم يحتسون إستكانات الشاي الساخنة، أملا في احياء نظرية التبريد داخل أجسادهم عن طريق تبخر العرق.
وكي لا يُتهم الكاظمي بأنه ضد الشركات المزودة لشاي العراقيين أو أنه تخلف عن سلفه في تشكيل لجان التحقيق، ها هو يتصدر أستوديوهات الأخبار بمباركته « تشكيل لجنة نيابية تحقيقية بملف الكهرباء ويبدي استعداده للتعاون معها بهدف القضاء على الفساد». وهو فساد وصفه عضو اللجنة القانونية في مجلس النواب، في 14 تموز/ يوليو بانه «لا مثيل له في كل العالم، وهناك حيتان وجهات سياسية اعتاشت على عقود الوزارة». فكم «استكان» شاي سيشرب العراقيون انتظارا لصيد هذه الحيتان؟ ومن هو الصياد؟

كاتبة من العراق

 

 

هل العراقي أقل اعتزازا

بكرامته من الجزائري؟

هيفاء زنكنة

 

نصَّ البيان المشترك عن جلسة الحوار الاستراتيجي العراقي الأمريكي، المنعقدة في 10 حزيران / يونيو، على تجديد البلدين «تأكيدهما على المبادئ المتفق عليها في اتفاقية الإطار الاستراتيجي، لعام 2008، في مجالات الأمن، ومكافحة الإرهاب، والاقتصاد، والطاقة، والقضايا السياسية، والعلاقات الثقافية.» بمعنى آخر، لا جديد اطلاقا في الاتفاقية التي عاش في ظلها العراق خلل 12 عاما الأخيرة والتي سيواصل العمل بها بين الإدارة الأمريكية، أيا كان الرئيس المنتخب، والنظام العراقي، مستقبلا، وبلا تحديد زمني، وهي نقطة مهمة جدا لم تتم الإشارة اليها. وهي واحدة من عديد القضايا التي تم التغافل عنها عن طريق حذفها أي عدم تضمين ما كان يجب تضمينه لو كانت الاتفاقية لصالح العراق حقا.
اعتبر رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي أن الحوار حقق إنجازاً عراقياً كبيراً، من ناحيتين اعتبرهما من الأولويات وهما انسحاب القوات الأمريكية من البلاد وعدم بقاء أي قواعد لها بالإضافة الى وضع أسس لتعاون اقتصادي بين البلدين. ومن تتح له فرصة قراءة الاتفاقية بكاملها والتي تم التوقيع عليها عام 2008 ومن ثم البيان الصادر حديثا عن الحوار الذي اعتبره الكاظمي إنجازا كبيرا لوجد أن تصريح الكاظمي مبني على مغالطات واضحة حول سيادة العراق ووضع القوات الامريكية.
تبين مراجعة التفاصيل أن القوات باقية ولكن، وكما حدث في السنوات الماضية، تحت مسميات مختلفة يتم ابتكارها وفقا للحاجة. مستشارون، مدربون، قوات أمنية مساعدة لاستتباب الامن، جمع المعلومات، محاربة الإرهاب، عمليات خاصة، القصف الجوي ولا ننسى السيطرة الجوية عن طريق الطائرات بلا طيار. هذا هو المعنى الحقيقي للسيادة كما تنص عليه الاتفاقية، ويؤكدها البيان بوضوح يناقض تصريح الكاظمي تماما حيث ينص البيان « تعهدت حكومة العراق بحماية العسكريين التابعين للتحالف الدولي والمنشآت العراقية التي تستضيفهم بما يتماشى مع القانون الدولي والترتيبات المحددة لوجودهم كما يقرر البلدان».

ستثبت السنوات المقبلة أن اتفاقيات التبعية لا تمسح ذاكرة العراقيين مهما تم تزويقها، وأن الشعب العراقي ليس أقل اعتدادا بهويته الوطنية وكرامته من أشقائه في الجزائر

وبينما تتكرر في الاتفاقية والبيان مفردات « الصداقة» و «التعاون» و» الشراكة» و « تعزيز مصالح كلا البلدين» فان قراءة بنود الاتفاقية تدل على خلاف ذلك، وان المفردات مصاغة لتبرير وتكريس الهيمنة على بلد ضعيف ومنهك جراء الغزو والاحتلال من قبل ذات البلد الذي يدّعي الصداقة والشراكة. ففي مجال الاقتصاد والطاقة، ستزود أمريكا « المستشارين الاقتصاديين للعمل بشكل مباشر مع حكومة العراق»، وتحقيق « مشاريع الاستثمار المحتملة التي تنخرط فيها الشركات الأمريكية العالمية في قطاع الطاقة والمجالات الأخرى». سياسيا، أكد البيان على « أهمية مساعدة العراق في تطبيق برنامجه الحكومي والإصلاحي بالشكل الذي يلبي طموحات الشعب العراقي، بما في ذلك مواصلة الجهود الإنسانية، واستعادة الاستقرار، وإعادة إعمار البلد، وتنظيم انتخابات حرة وعادلة ونزيهة». وهي اهداف قد تبدو نبيلة، حقا، لولا أن أمريكا بغزوها واحتلالها وقائمة جرائمها المادية والبشرية التي ارتكبتها على مدى 17 عاما، وتهيئتها الأرضية لزرع الإرهاب ومأسسة الميليشيات الإيرانية، هي آخر بلد في العالم تهمه مصلحة الشعب العراقي او أي شعب آخر في المنطقة خاصة. بل ان ما يميز الإدارة الأمريكية هو سياستها العلنية والسرية لتغيير النظام الذي تلجأ اليه ضد الحكومات التي يُعتقد أنها تعمل ضد المصالح الاستراتيجية والأمنية والاقتصادية للولايات المتحدة. حيث قامت، مثلا، بـ 72 محاولة لتغيير النظام، أي الانقلاب العسكري او التمرد المسلح، اثناء العقود الأربعة للحرب الباردة حتى حوالي 1990 فقط. وهي تشمل 66 عملية سرية وست عمليات علنية، حسب صحيفة « الواشنطن بوست»، وهي من داخل المؤسسة الحاكمة الأمريكية، في 26 كانون الأول-ديسمبر 2016.
ثقافيا، كان مرور البيان سريعا. اذ اقتصرت الإشارة الى إعادة الأرشيف السياسي والقطع الاثرية المسروقة. الا ان الاتفاقية نفسها تُبين وجود «المستشارين الثقافيين»، في عديد المؤسسات الثقافية. ويوضح موقع السفارة الأمريكية، ببغداد، معنى « التبادل الثقافي» و « التفاهم المتبادل»، بشكل أفضل. فالمعنى الحقيقي للتبادل هو عدم وجود تبادل. اذ يتم من طرف واحد هو الأمريكي لتنظيم «ورش العمل والمحاضرات والعروض… تغطي البرامج مجموعة واسعة من المصالح بما في ذلك الاقتصاد والعلاقات الدولية وبناء الديمقراطية والدراسات الأميركية». انه، اذن، ضخ للثقافة من جانب واحد. اذ لا يحدث ويزور أمريكيون العراق ليتعرفوا على البلد الذي تم غزوه وتخريبه باسمهم أو « لإقامة علاقات إنسانية متينة والتي تبني جسورا من التعاون والتفاهم بين الشعوب»، كما تدّعي برامج « التبادل الثقافي»، لأن السفارة الأمريكية، أساسا، تحذر من زيارة العراق بل و» تحث المواطنين الأمريكيين ان يغادروا العراق فورا»، فكيف يمكن بناء « جسور التفاهم» بين مواطني البلدين في هذه الحالة؟
من المتوقع زيارة الكاظمي الى واشنطن، في الشهر المقبل، لتوقيع الاتفاقية. فهل هي لصالح الشعب العراقي كما يدّعي؟ وهل يجب القبول بالتبعية التي تنص عليها الاتفاقية، في كافة المجالات، لقاء إضعاف الميليشيات المدعومة إيرانيا، إذا كان هذا فعلا ما يريده الكاظمي من اجل بناء « العراق الجديد» وهو مصطلح أدخله الاحتلال عقب الغزو وتلاشى ليعود، اليوم، ليطفو من جديد؟ وهل اطّلع الشعب على تفاصيل ما سيتم ربطه به، لأمد غير محدد، في اتفاقية تتميز بالتضليل والتزييف؟ ماذا عن جرائم الاعتقال والتعذيب والاغتصاب والقتل التي ارتكبتها أمريكا منذ اليوم للاحتلال وسببت مقتل حوالي مليون مواطن؟ ماذا عن الحصانة من العقاب المتوفرة للقتلة من القوات الامريكية؟ هل سيقوم الكاظمي بتضمين الاتفاقية هذه القضايا قبل توقيعها؟
على الرغم من مرور 66 عاما على اندلاع الثورة الجزائرية ضد الحكم الاستعماري الفرنسي، لا يزال الجزائريون يتذكرون جرائم الحقبة الاستعمارية الفرنسية، ويطالبون فرنسا الاعتراف بما ارتكبته من جرائم نهب وتعذيب وقتل وتهجير واختفاء ومحو الهوية والاعتذار عنه. إن ما ارتكبته أمريكا في العراق، خلال فترة قياسية، يكاد يماثل، الى حد التطابق، ما قامت به فرنسا. وستثبت السنوات المقبلة أن اتفاقيات التبعية لا تمسح ذاكرة العراقيين مهما تم تزويقها، وأن الشعب العراقي ليس أقل اعتدادا بهويته الوطنية وكرامته من أشقائه في الجزائر.
كاتبة من العراق

 

 

ويسألونك عن طعم

الصداقة مع أمريكا!

هيفاء زنكنة

 

لا تزال المظاهرات المناوئة للتمييز العنصري في الولايات المتحدة الامريكية مستمرة. قد تؤدي هذه الاحتجاجات وما صاحبها من دعم في بلدان أخرى الى تغييرات سياسية وقانونية داخلية، إلا أن المؤكد هو أنها لن تمس السياسية الأمريكية الخارجية. كما لاتزال السياسة الخارجية كما هي توحد الحزبين الرئيسيين ولا يتطرق اليها غير قلة أما من الموسومين باليسار أو الذين يقسمون الأنظمة والدول في ارجاء العالم الى صنفين هما حلفاء الولايات المتحدة وأعدائها.

لا يخضع التصنيف الأمريكي للحلفاء والأعداء لمقياس أخلاقي أو إنساني او حتى القوانين الدولية في معظم الأحيان اذ ترتبط أمريكا بعلاقات وثيقة مع العديد من الأنظمة التي تتعارض قيمها وسياساتها مع الضمانات الدستورية الأمريكية للديمقراطية وحرية التعبير والحق في الإجراءات القانونية الواجبة والعديد من الأنظمة الأخرى.

ينعكس هذا التصنيف، بشكل كارثي، على علاقتها كقوة عسكرية كبرى مع شعوب دول الشرق الأوسط وأمريكا اللاتينية من بين الدول الأخرى التي تذوقت ولاتزال معنى «الصداقة» و«التحالف» و«التعاون» مع أمريكا، أو ما هو متعارف عليه بتسميات الاستعمار والاحتلال والغزو، أي الوجه الحقيقي للعلاقة.

ويوفر لنا «الحوار» الذي تم في الأسابيع الأخيرة بين الإدارة الامريكية والنظام العراقي، حول اتفاقية الإطار الاستراتيجي، والزيارة المرتقبة لرئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي الى واشنطن، نموذجا عمليا وآنيا لكيفية انتقاء وتثبيت آلية «التعاون» الأمريكي مع «الحلفاء» بالإضافة الى القاء الضوء على مفهوم الانتقائية الأخلاقية والترويج الإعلامي.

لتوضيح نوعية «التحالف» الذي تأمل جهات عراقية أن تحصده من توقيع المعاهدات مع أمريكا، وما ستتمخض عنه زيارة الكاظمي، يجدر التذكير بأن أمريكا لا تقيم علاقاتها مع الشعوب حسب ما تصبو إليه الشعوب وتقاتل من اجله. من البديهيات أن أمريكا تعمل بالدرجة الأولى والوحيدة لمصلحتها وتعاونها مع الآخرين، سواء كانوا دولا ام حكومات ام حركات وتيارات مختلفة، يٌقاس بمدى الفائدة المستخلصة منهم. لذلك تُقيم أمريكا علاقات وثيقة مع خمسين نظاما قمعيا في العالم، من بينها عديد الأنظمة العربية التي توفر لحكامها الحماية ضد شعوبها مقابل استحقاقات تدفع لها عاجلا ام آجلا. ولا تجد أمريكا حرجا في استبدال الحليف بمن كان عدوا أو العدو بمن كان حليفا أو وحسب استراتيجية مكافحة التمرد ان تدعم « تمردا» ضد من كان حتى الأمس حليفا، بغية تغيير النظام.

الأمثلة من التاريخ القريب متعددة. كما التعامل مع حليف الأمس شاه إيران، واللعب على الحبلين بين العراق وإيران (1980 ـ 1988)، وبينما كانت سوريا مدرجة في قائمة وزارة الخارجية الامريكية للدول الراعية للإرهاب منذ عام 1979، الا ان هذا لم يمنع الرئيسين بوش وبيل كلينتون من توكيل الرئيس الراحل حافظ الأسد على لبنان، مثلاً، (حكم الأسد من عام 1971 حتى وفاته في 2000)

يتخذ الدعم الأمريكي للأنظمة القمعية مستويات متعددة. حيث تسمح، أو ترتب، أو حتى في بعض الحالات توفر التمويل لمبيعات الأسلحة الأمريكية إلى 41 من البلدان الخمسين ذات الأنظمة القمعية

يتخذ الدعم الأمريكي للأنظمة القمعية مستويات متعددة. حيث تسمح، أو ترتب، أو حتى في بعض الحالات توفر التمويل لمبيعات الأسلحة الأمريكية إلى 41 من البلدان الخمسين ذات الأنظمة القمعية، أي بنسبة 82 في المئة. في حالات أخرى، تقوم أمريكا بمهام «التدريب» و «الاستشارة العسكرية» إلى 44 من أصل 50، أو 88 في المائة، لأنه بالإضافة إلى بيعها (أو منحها) الأسلحة وتدريبها، توفر الحكومة الأمريكية أيضًا تمويلًا مباشرًا للجيوش الأجنبية. من بين الحكومات القمعية الخمسين، تتلقى 32 منها «تمويلا عسكريًا أجنبيًا» أو تمويلًا آخر للأنشطة العسكرية من حكومة الولايات المتحدة. بل وتمضي ابعد من ذلك في علاقتها ودعمها عن طريق انشاء القواعد العسكرية، هذه الأوجه المتعددة وثّقها الكاتب والصحافي الأمريكي دافيد سوانسون في بحث له حول درجات تعاون ودعم الولايات المتحدة للأنظمة القمعية، والتي يتطرق فيها أيضا الى تفاصيل التدخل العسكري ودرجاته من الحرب بالشراكة، الى الغزو والاحتلال وتأسيس حكومات قمعية، من مصلحة أمريكا المحافظة عليه، كما في العراق.

سياسة أمريكا الخارجية اذن ثابتة وواضحة. ما هو متغير هو شخصية الرئيس، فنعومة خطاب الرئيس باراك أوباما تختلف عن عنجهية وابتذال ترامب غير ان كليهما حافظا على جوهر السياسة الخارجية، خاصة فيما يتعلق بمقدار وحدود الحماية التي توفرها أمريكا للحكام، الذين يتم انتقاؤهم كحلفاء، ومتى يصبح من الضروري التخلي عنهم واستبدالهم بحكام آخرين.

«الحليف»، اذن، من البلدان التي كانت مستعمرة او محتلة او المُستَغلة أو الخاضعة لحكومات قمعية بحاجة الى الحماية، هو المُتغير لا بالنسبة الى أمريكا، فقط، بل وبقية الدول العظمى ضمن تحالفات وصراعات ونزاعات متسارعة، بشكل مذهل، وخارج القوالب الكلاسيكية المتعارف عليها سياسيا وعسكريا. تُقاد بشكل حرب أهلية/ دولية متعددة الأطراف (يطلق عليها مصطلح نزاع او صراع تزييفا) في بلد واحد كما في سوريا وليبيا واليمن. وهي حروب أهلية بمعنى ان وقودها هم أبناء الشعب وثروة البلد، وهدفها إبقاء البلد ضعيفا من الناحيتين البشرية والمادية لتسهل السيطرة عليه، لأغراض استراتيجية، سواء من القوى الخارجية او النظام القمعي أو كليهما تحت مظلة «تحالف دولي». هي حرب دولية لمشاركة عديد الدول فيها وان لم تعد بالشكل التقليدي. حيث فتحت التكنولوجيا الحديثة والتقدم العلمي السريع في مجال تطوير السلاح والعتاد ابوابا واسعة لتقليل الخسارة البشرية في الجيوش الحديثة. فالطائرات بلا طيار والاستهداف الجوي والصواريخ المتطورة، بالإضافة الى العمليات الخاصة المرتزقة، بل واستخدام جنود وقوات «البلدان الحليفة» للقتال على ارض بلدهم، يشكل دافعا أساسيا في إصرار الإدارة الامريكية على سحب معظم القوات العسكرية واغلاق المعسكرات ذات التكلفة المادية والبشرية العالية، ما لم تقم الأنظمة الراغبة بحمايتها من دفع التكلفة بنفسها. مما يحول القوات الامريكية، مثلا، بهذا المعنى، أو فرقا منها، الى قوات مرتزقة مهيأة للاستئجار من أي نظام أو جهة في العالم. وهي قفزة نوعية في تغير معنى التواجد العسكري الأمريكي أو غيره من الدول العظمى في «البلدان الحليفة»، تثير سؤالا جوهريا يعيدنا الى ألف باء العلاقة بين المُستَعمِر والمُستَعمَر، في مرحلة التحرر الوطني، وهو ما هو الثمن الذي ستدفعه الشعوب حين تقوم الأنظمة القمعية بالاستجارة بمرتزقة الدول العظمى لحمايتها، وهل بإمكانها أن تنهض، من جديد، لتخوض حرب تحرير وطنية أخرى؟

كاتبة من العراق

 

في العراق صرنا

كلنا ندفع الجزية!

هيفاء زنكنة

 

إذا كان هناك من تفاؤل باقتراب فترة هدوء وأمان بعد التوافق الأمريكي ـ الإيراني على تنصيب رئيس المخابرات مصطفى الكاظمي رئيسا للوزراء بالعراق، فان وقائع الأسابيع الماضية أعادت المتفائلين، الى ارض الواقع المتدهور على كافة المستويات، سواء كانوا من الساسة المتهافتين على النهب والمتمرسين فيه أو أبناء الشعب المنهك الذي بات ينشد الأمان وأساسيات الحياة وحدها، أحيانا، في اية بادرة تمنحه فرصة للتنفس والتفكير، مهما كان مصدرها.

اذ تنشط، حاليا، في تجاذب أطراف البلد الى حد تمزيقه أربع قوى خارجية، وهي وباء كورونا والولايات المتحدة الامريكية وجمهورية إيران الإسلامية بالإضافة الى دخول وجه جديد/ قديم هو تركيا. يتداخل مع هذه القوى، كل على حدة، غالبا، وبشكل من الصعب تفكيكه، ساسة محليون تذوقوا طعم الفريسة، واكتسبوا خبرة لا تضاهى في نهش ثروة البلد، ومد جذورهم في مؤسساته من خلال ثلاثة محاور هي: التخويف من « الآخر»، والاغواء المادي والتعيين الوظيفي، بالإضافة الى التعكز على المرجعية الدينية وما يحيطها من طقوس تمتد على مدى العام.

تكّفل انتشار فايروس كورونا بتكذيب التصريحات الحكومية السابقة حول النجاح في احتواء الوباء ومعاقبة وكالة الأنباء « رويترز» التي اشارت الى ان عدد المصابين أكبر مما يعلن عنه. وصل معدل الإصابات، حاليا، بحدود ألف وخمسمائة يوميا وأبدت الأمم المتحدة قلقها لارتفاع عدد الوفيات، بينما دعت مفوضية حقوق الإنسان الحكومة الى اتخاذ إجراءات سريعة للحد من ارتفاعها المخيف. وفي الوقت الذي تستحق فيه الطواقم الطبية الثناء الا ان تردي وضع المستشفيات واهمالها دفع النائبة وحدة الجميلي الى وصفها بأنها « مقبرة للفقراء». ونرى في فيديو انتشر على صفحات التواصل الاجتماعي، وتم التحقق من صحته، جثامين ضحايا الكورونا مرمية خارج احدى المستشفيات. الأمر الذي أكده النائب جاسم البخاتي، قائلا « ان جثث المتوفين بفيروس كورونا تفوق الطاقة الاستيعابية للمستشفيات». مبينا « وصلتنا مناشدات من مؤسسات صحية وخاصة مستشفى الكندي بأن هناك مجموعة من الجثث وهناك تباطؤ في عملية نقلها ودفنها». وجاء الرد الحكومي متمثلا بعرض أفلام في القناة الحكومية الرسمية تبين حشدا من رجال برُتب عسكرية عالية وهم إما يسيرون أو يلتفون حول سيارة رش المعقمات. وتأتي وفاة النجم الرياضي أحمد راضي، وكان قد غادر المستشفى على مسؤوليته، قبل يومين من وفاته، احتجاجا، لتلقي الضوء على الإهمال الذي يعيشه المصابون بالفايروس في نظام صحي منهار.

في هذه الأجواء الكافكوية، المخيفة وغير القابلة للفهم في آن واحد، التي تتطلب أولوية التركيز على انقاذ حياة الناس، وتوفير الرعاية للمصابين وحملات التوعية، واتخاذ الإجراءات الضرورية للحجر الكلي للبلد، واكرام الموتى، وإلغاء كل ما هو غير مُلح، كما فعلت معظم دول العالم، سارعت حكومة الكاظمي، كالسراق تحت جنح الظلام، الى تنفيذ ما أطلق عليه اصطلاحا « اجراء حوار» مع الإدارة الامريكية. أي التباحث حول تعديل «اتفاقية الإطار الاستراتيجي»، المُوقـَّعة مع الولايات المتحدة الأمريكيَّة عام 2008، لغرض تنّظيم «العلاقة طويلة الأمد في المجالات الاقتصادية والدبلوماسية والثقافية والأمنية بين البلدين». وهي الاتفاقية الأكثر أهمية منذ احتلال البلد عام 2003، لا من ناحية بقاء القوات الأمريكية، كما يشاع، ولكن من ناحية الهيمنة على الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وهي الجوانب التي قلما يشار اليها علنا. وتنبع أهمية الاتفاقية من رغبة الإدارة الامريكية بتقليص عدد قواتها على الأرض، في أثر إعادة هيكلة الجيش الأمريكي، لتقليل تكلفة الخسائر البشرية والمادية في صفوفه، والاستعاضة عن القوات بزيادة الاعتماد على الطائرات بدون طيار، والقوة الجوية، والعمليات الخاصة بواسطة المرتزقة والشركات الأمنية بالإضافة الى الحكومات المحلية أو « الدول المُضّيفة» بالنيابة.

تبقى مسيرة البلد للتعافي مشروعاً طويل المدى بمراحل متعددة ومتكاملة بدءا من انقاذ وحماية حياة المواطنين وتوفير العيش الكريم الى إنضاج البدائل الوطنية والتنموية لاستعادة النسيج الاجتماعي في البلد

وموقف الرئيس الأمريكي ترامب واضح من مسألة طلب الحماية الأمريكية. فمن يرغب بالحماية عليه دفع التكلفة. وأكد يوم السبت الفائت، في خطاب له في الأكاديمية العسكرية الأمريكية ما ذكره في خطب سابقة، قائلا: «إننا نستعيد المبدأ الأساسي القائل بأن مهمة الجندي الأمريكي ليست إعادة بناء دول أجنبية ولكن الدفاع عن أمتنا والدفاع عنها بقوة من الأعداء الأجانب»، وتابع قائلا: «نحن ننهي حقبة الحروب التي لا نهاية لها». هذا من الناحية العسكرية، أما «الثقافية» وهي الأعمق والأكثر تأثيرا على بنية المجتمع في المدى البعيد، فيمكن تصنيفها ضمن اساسيات» القوة الناعمة». لتمرير الاتفاقية، أو الهيمنة النيو كولونيالية، تكثر في تصريحات الإدارة الأمريكية، عموما، مفردات تثير الاطمئنان وتساعد على تسويق الاتفاقية باعتبارها بين حليفين متكافئين أو بلدين صديقين. مفردات على غرار «شراكة، اتفاقية، تعاون». اما مضمون الاتفاقية فهو «استشارة، تدريب، مساعدة». وهي ذات التسميات التي تستخدمها إيران لتسويغ جرائم ميليشياتها المسلحة وتسخير الساسة الموالين لها داخل البلد.

وبينما يتواصل قصف المنطقة الخضراء بالصواريخ، والتي تبدو «رمزية» أكثر منها فعلية، شهدنا، في الأسبوع الأخير، سباقا من نوع مختلف نسبيا. اذ قصفت إيران قرى حدودية سببت خسائر مادية، وأضرارا بالممتلكات، علاوة على بث الخوف بين الآمنين من سكان تلك المناطق، حسب تصريح عراقي، في ذات الوقت الذي نفذت فيه تركيا عمليتين ضد «حزب العمال الكردستاني». الأولى جوية باسم «مخلب النسر»، والثانية برية باسم «مخلب النمر»، وتشير مصادر تركية الى رغبة الحكومة بإقامة قاعدة عسكرية لم يحدد موقعها بعد، لتضع حدا «لازدياد هجمات المقاتلين الأكراد على قواعد الجيش التركي على الحدود بين البلدين».

ان سياسة تمزيق العراق كبلد ذو سيادة وتفتيت شعبه الى طوائف وأقليات وعشائر وميليشيات تتصارع فيما بينها مستمر منذ احتلاله عام 2003، وإذا كانت « الرقعة صغيرة والشق كبير» و « صرنا كلنا ندفع جزية»، كما يقول منشدنا الراحل عزيز علي، فان تعيين الكاظمي لم يحد من سياسة القوى المتصارعة على الغنيمة. اذ لم يتخذ، حتى الآن، أية خطوة عملية تطمئن الناس وأولها مساءلة المسؤولين عن قتل 700 متظاهر واختطاف آخرين. والأدهى من ذلك أن عمليات الاغتيال مستمرة، من قبل « مجهولين»، آخرها اغتيال أستاذ جامعي في مدينة الناصرية، والمحامي طارق هلال من شمال بغداد. وإذا كان هناك انجاز للكاظمي يستحق الذكر فإنه مواصلة سياسة من سبقه من رؤساء وزراء، في إطلاق التصريحات بلا تنفيذ. وتبقى مسيرة البلد للتعافي مشروعاً طويل المدى بمراحل متعددة ومتكاملة بدءا من انقاذ وحماية حياة المواطنين وتوفير العيش الكريم الى إنضاج البدائل الوطنية والتنموية لاستعادة النسيج الاجتماعي في البلد. ومن هناك تحقيق التوازنات الإقليمية والعلاقات الدولية المتكافئة.

كاتبة من العراق

 

 

ألا يمثل ترامب

الشعب الأمريكي؟

هيفاء زنكنة

 

لم يعد فايروس كورونا القاتل هو الشاغل الأول للناس في أرجاء الكرة الأرضية. تغيرت الأولويات، فالعالم مشغول بالمظاهرات في أمريكا. انتقل غضب المتظاهرين، من ولاية أمريكية الى أخرى، ومنها الى بريطانيا وألمانيا وكوريا وفرنسا ومنها الى مدرج المسرح البلدي، بشارع الحبيب بورقيبة، وسط العاصمة التونسية.

اختلفت ردود الأفعال من بلد الى آخر. ففي تونس، وجّه حمة الهمامي، الأمين العام لحزب العمال، نداء « إلى شباب تونس، إلى نسائها وكادحيها ومثقّفيها ومبدعيها: انتصروا إلى أخواتكم وإخوتكم في أمريكا» مبينا فيه « إنّ تحرّك الشعب الأمريكي اليوم يعطي فرصة غير مسبوقة للقوى التقدمية في العالم لكي تعبّر عن مساندتها له وتشدّ أزره في مواجهته الوحش الرأسمالي الامبريالي الأمريكي» وإن « الشعب الأمريكي يقدّم خدمة كبيرة لشعوب العالم لأنه يفضح هذا الوحش الذي آذاها ويؤذيها ويضعفه ممّا يوفّر فرصة لهذه الشعوب حتّى تتمرّد عليه وتتحرّر من أغلاله».

ونشط في بقية البلدان العربية والإقليمية المجاورة، متحدثون باسم حكومات قمعية لاستنكار أسلوب مواجهة المتظاهرين « غير الديمقراطي» من قبل الإدارة الامريكية. في ذات الوقت الذي لا يجدون فيه حرجا باتباع أسلوب أكثر وحشية لقمع مظاهرات مواطنيهم. الكل يبررون ذلك بأنه ضرورة أمنية.

خلال أيام قليلة، ظهرت قراءات وتفسيرات متعددة للمظاهرات التي أججها مقتل جورج فلويد الأمريكي الأسود اختناقا تحت شرطي أبيض (لا أدري لم يوصف فلويد بأنه من أصول افريقية ويصفون الرئيس السابق أوباما بأنه من اصل كيني، وكأن بقية سكان أمريكا كلهم لا ينحدرون من أصول هي غير سكان البلد الأصليين، الذين تمت ابادتهم وبناء البلد الحالي على جماجمهم). تحولت صرخة فلويد الأخيرة « لا أستطيع أن أتنفس»، الى شعار سرعان ما تم تداوله ضد العنصرية وتكميم الأفواه وكل أنواع التمييز، بل وربطه متظاهرون في عواصم أوروبية بفرض الحكومات سياسة ارتداء الكمامات. خُلعت الكمامات التي باتت رمزا للهيمنة والسيطرة بدلا من الوقاية والحذر، واحتلت أخبار إيجاد لقاح سريع لمنع انتشار الوباء بوجبة ثانية المرتبة الدنيا في قوائم أكثر الأخبار قراءة او اطلاعا إعلاميا.

احتلت صورة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، واقفا امام كنيسة وهو يحمل الإنجيل، مساحة مساوية وموازية لصورة جورج فلويد والمتظاهرين، لتبين، مدى انقسام الشعب الأمريكي لا من ناحية لون البشرة فقط ولكن ما هو ابعد من ذلك، أي الناحيتين الاقتصادية والطبقية، المتداخلتين مع درجات الاستحواذ على مراكز السلطة، وكيفية الوصول اليها ومن ثم المهارة في صناعة الرضا الشعبي.

إن تأثير المظاهرات الامريكية سيبقى، محصورا بما سيفرض من تغيير على الوضع الداخلي، ولن يمس السياسة الخارجية التي هي في المحصلة سياسة دولة

ومن يراجع مسيرة ترامب سيجد أنه منذ ترشيحه رئيسا للولايات المتحدة الأمريكية، البلد الأقوى في العالم عسكريا وتكنولوجيا، كممثل للحزب الجمهوري، عمل على استقطاب شرائح مجتمعية يعرف جيدا أنها من ستوفر له فرصة البقاء في منصبه دورة أخرى. وانه، خلافا، لعديد الرؤساء الأمريكيين ممن سبقوه، نفذ فعلا معظم وعوده التي أطلقها اثناء الحملة الانتخابية، بغض النظر عن درجة استهجان نسبة من الشعب الأمريكي لبرنامجه ولا إنسانية أسلوبه في التطبيق البرنامج، بالإضافة الى كراهيتنا، نحن الذين نعيش نتائج عنجهية السياسة الأمريكية الخارجية وحروبها المدمرة.

صحيح أن سلوك الرئيس الأمريكي اتسم بالشعبوية التحريضية، واقترن خطابه بخلق المهاترات والعنصرية بواسطة تغريدات لم يعهدها العالم من قبل أي رئيس سبقه، وصحيح أنه تميز بسرعة إصدار الأحكام وتعيين المستشارين او طردهم أو إقامة علاقات دولية او وضع حد لها بسرعة، خلال ساعات أحيانا، قد جعلته محط سخرية ومصدرا لا ينضب لرسامي الكاريكاتير، الا انه نجح في تحقيق ما أراده جمهوره من الشعب الأمريكي، الذي صّوت له وفق نظام ديمقراطي يُعتبر أساس الوجود الأمريكي، تبعا لدستور يكاد يكون مقدسا. وهذه نقطة بالغة الأهمية، غالبا، ما يتم تجاهلها أو التعامل معها من قبلنا. اذ نُسقط على الديمقراطية الامريكية واختيار الشعب لحكامه عبر الانتخابات مواقفنا نحو الديمقراطية والدساتير في بلداننا في ظل أنظمة استبدادية ـ تابعة ومتوارثة. حيث لم تنم الديمقراطية بشكل عضوي، ونادرا ما كان الدستور مكتوبا من قبل أبناء البلد أنفسهم في معظم البلدان العربية بل والأدهى من ذلك، غالبا ما نجدهما اما مستوردين أو مفروضين من « الخارج» وفي حالة العراق من قبل قوات الاحتلال الأمريكي

هذه الأرضية تستحق الانتباه عند الكتابة عن المظاهرات الامريكية الحالية والدعوة الى مساندتها باعتبارها « ثورة»، وكأنها نبعت من شعب أجبرته قوات الغزو والحكام بالنيابة، على خوض انتخابات مفروضة عليه قسرا. المفارقة (أو لعله الإحساس بالمرارة)، هي اننا لم نقرأ أي نداء من قبل أي حزب أو تنظيم عربي أو عالمي يدعو الى دعم المعتصمين العراقيين في انتفاضة تشرين/ أكتوبر بتكلفتها العالية بحياة 700 شهيد ومئات المختطفين وآلاف الجرحى، خلال أربعة أشهر فقط. ولا يزال الصمت القاتل سائدا على الرغم من استمرار الاحتجاجات في عشر مدن عراقية للمطالبة بمحاسبة قتلة المتظاهرين والتخلص من الاحتلالين الأمريكي والإيراني.

بعيدا عن الصحافة العربية التي يبدو كتابها إما مصدومين لأن «الكلام المنمق الذي تستخدمه الإدارات الأمريكية للحديث عن وجوه المساواة والعدالة المتحققة في المجتمع الأمريكي، ليس حقيقة»، أو كأنهم اكتشفوا العجلة حين يصفون قتل فلويد بأنه يبين « ممارسات التمييز العنصري في دولة تدعي أنها زعيمة المساواة والحرية في العالم»، نجد أن ترامب استطاع، الحصول على رضا المصوتين له، اذ حقق لهم تحسنا اقتصاديا ملموسا وتخفيض نسبة البطالة، وبناء جدار عازل مع المكسيك، ومعاملة المهاجرين بطريقة تثير رعب كل من يحاول اللجوء الى أمريكا، وطرد من لا تحتاجهم، والعمل على تقليل القواعد العسكرية وتكاليف نفقاتها الكبيرة، وإجبار الحكام الراغبين بالحماية الأمريكية ضد شعوبهم، على دفع تكاليف القوات، كما فعل مع المملكة العربية السعودية. كما لم ينكث بوعوده السخية للكيان الصهيوني، بل اُعتبرت « صفقة القرن» إنجازا له، والاعتراف بالقدس عاصمة للكيان الصهيوني هو «الشيء الصحيح الذي ينبغي فعله». لتليها الموافقة على مد المستوطنات أينما أراد المحتل. كل هذا بموافقة أو صمت الخانعين من الحكام العرب.

إن تأثير المظاهرات الامريكية سيبقى، محصورا بما سيفرض من تغيير على الوضع الداخلي، ولن يمس السياسة الخارجية التي هي في المحصلة سياسة دولة، كما أن معظم مواطني الولايات المتحدة وأوروبا لا يهتمون كثيرا بالسياسة الخارجية إلا إذا مست وضعهم الاقتصادي بشكل مباشر. ولنتذكر أن معظم الشعب الأمريكي والبريطاني أنتخب الرئيس جورج بوش ورئيس الوزراء توني بلير على الرغم من المظاهرات المناوئة للحرب على العراق في كلا البلدين وفي أرجاء العالم.

كاتبة من العراق

 

ألا يمثل ترامب

الشعب الأمريكي؟

هيفاء زنكنة

 

لم يعد فايروس كورونا القاتل هو الشاغل الأول للناس في أرجاء الكرة الأرضية. تغيرت الأولويات، فالعالم مشغول بالمظاهرات في أمريكا. انتقل غضب المتظاهرين، من ولاية أمريكية الى أخرى، ومنها الى بريطانيا وألمانيا وكوريا وفرنسا ومنها الى مدرج المسرح البلدي، بشارع الحبيب بورقيبة، وسط العاصمة التونسية.

اختلفت ردود الأفعال من بلد الى آخر. ففي تونس، وجّه حمة الهمامي، الأمين العام لحزب العمال، نداء « إلى شباب تونس، إلى نسائها وكادحيها ومثقّفيها ومبدعيها: انتصروا إلى أخواتكم وإخوتكم في أمريكا» مبينا فيه « إنّ تحرّك الشعب الأمريكي اليوم يعطي فرصة غير مسبوقة للقوى التقدمية في العالم لكي تعبّر عن مساندتها له وتشدّ أزره في مواجهته الوحش الرأسمالي الامبريالي الأمريكي» وإن « الشعب الأمريكي يقدّم خدمة كبيرة لشعوب العالم لأنه يفضح هذا الوحش الذي آذاها ويؤذيها ويضعفه ممّا يوفّر فرصة لهذه الشعوب حتّى تتمرّد عليه وتتحرّر من أغلاله».

ونشط في بقية البلدان العربية والإقليمية المجاورة، متحدثون باسم حكومات قمعية لاستنكار أسلوب مواجهة المتظاهرين « غير الديمقراطي» من قبل الإدارة الامريكية. في ذات الوقت الذي لا يجدون فيه حرجا باتباع أسلوب أكثر وحشية لقمع مظاهرات مواطنيهم. الكل يبررون ذلك بأنه ضرورة أمنية.

خلال أيام قليلة، ظهرت قراءات وتفسيرات متعددة للمظاهرات التي أججها مقتل جورج فلويد الأمريكي الأسود اختناقا تحت شرطي أبيض (لا أدري لم يوصف فلويد بأنه من أصول افريقية ويصفون الرئيس السابق أوباما بأنه من اصل كيني، وكأن بقية سكان أمريكا كلهم لا ينحدرون من أصول هي غير سكان البلد الأصليين، الذين تمت ابادتهم وبناء البلد الحالي على جماجمهم). تحولت صرخة فلويد الأخيرة « لا أستطيع أن أتنفس»، الى شعار سرعان ما تم تداوله ضد العنصرية وتكميم الأفواه وكل أنواع التمييز، بل وربطه متظاهرون في عواصم أوروبية بفرض الحكومات سياسة ارتداء الكمامات. خُلعت الكمامات التي باتت رمزا للهيمنة والسيطرة بدلا من الوقاية والحذر، واحتلت أخبار إيجاد لقاح سريع لمنع انتشار الوباء بوجبة ثانية المرتبة الدنيا في قوائم أكثر الأخبار قراءة او اطلاعا إعلاميا.

احتلت صورة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، واقفا امام كنيسة وهو يحمل الإنجيل، مساحة مساوية وموازية لصورة جورج فلويد والمتظاهرين، لتبين، مدى انقسام الشعب الأمريكي لا من ناحية لون البشرة فقط ولكن ما هو ابعد من ذلك، أي الناحيتين الاقتصادية والطبقية، المتداخلتين مع درجات الاستحواذ على مراكز السلطة، وكيفية الوصول اليها ومن ثم المهارة في صناعة الرضا الشعبي.

إن تأثير المظاهرات الامريكية سيبقى، محصورا بما سيفرض من تغيير على الوضع الداخلي، ولن يمس السياسة الخارجية التي هي في المحصلة سياسة دولة

ومن يراجع مسيرة ترامب سيجد أنه منذ ترشيحه رئيسا للولايات المتحدة الأمريكية، البلد الأقوى في العالم عسكريا وتكنولوجيا، كممثل للحزب الجمهوري، عمل على استقطاب شرائح مجتمعية يعرف جيدا أنها من ستوفر له فرصة البقاء في منصبه دورة أخرى. وانه، خلافا، لعديد الرؤساء الأمريكيين ممن سبقوه، نفذ فعلا معظم وعوده التي أطلقها اثناء الحملة الانتخابية، بغض النظر عن درجة استهجان نسبة من الشعب الأمريكي لبرنامجه ولا إنسانية أسلوبه في التطبيق البرنامج، بالإضافة الى كراهيتنا، نحن الذين نعيش نتائج عنجهية السياسة الأمريكية الخارجية وحروبها المدمرة.

صحيح أن سلوك الرئيس الأمريكي اتسم بالشعبوية التحريضية، واقترن خطابه بخلق المهاترات والعنصرية بواسطة تغريدات لم يعهدها العالم من قبل أي رئيس سبقه، وصحيح أنه تميز بسرعة إصدار الأحكام وتعيين المستشارين او طردهم أو إقامة علاقات دولية او وضع حد لها بسرعة، خلال ساعات أحيانا، قد جعلته محط سخرية ومصدرا لا ينضب لرسامي الكاريكاتير، الا انه نجح في تحقيق ما أراده جمهوره من الشعب الأمريكي، الذي صّوت له وفق نظام ديمقراطي يُعتبر أساس الوجود الأمريكي، تبعا لدستور يكاد يكون مقدسا. وهذه نقطة بالغة الأهمية، غالبا، ما يتم تجاهلها أو التعامل معها من قبلنا. اذ نُسقط على الديمقراطية الامريكية واختيار الشعب لحكامه عبر الانتخابات مواقفنا نحو الديمقراطية والدساتير في بلداننا في ظل أنظمة استبدادية ـ تابعة ومتوارثة. حيث لم تنم الديمقراطية بشكل عضوي، ونادرا ما كان الدستور مكتوبا من قبل أبناء البلد أنفسهم في معظم البلدان العربية بل والأدهى من ذلك، غالبا ما نجدهما اما مستوردين أو مفروضين من « الخارج» وفي حالة العراق من قبل قوات الاحتلال الأمريكي

هذه الأرضية تستحق الانتباه عند الكتابة عن المظاهرات الامريكية الحالية والدعوة الى مساندتها باعتبارها « ثورة»، وكأنها نبعت من شعب أجبرته قوات الغزو والحكام بالنيابة، على خوض انتخابات مفروضة عليه قسرا. المفارقة (أو لعله الإحساس بالمرارة)، هي اننا لم نقرأ أي نداء من قبل أي حزب أو تنظيم عربي أو عالمي يدعو الى دعم المعتصمين العراقيين في انتفاضة تشرين/ أكتوبر بتكلفتها العالية بحياة 700 شهيد ومئات المختطفين وآلاف الجرحى، خلال أربعة أشهر فقط. ولا يزال الصمت القاتل سائدا على الرغم من استمرار الاحتجاجات في عشر مدن عراقية للمطالبة بمحاسبة قتلة المتظاهرين والتخلص من الاحتلالين الأمريكي والإيراني.

بعيدا عن الصحافة العربية التي يبدو كتابها إما مصدومين لأن «الكلام المنمق الذي تستخدمه الإدارات الأمريكية للحديث عن وجوه المساواة والعدالة المتحققة في المجتمع الأمريكي، ليس حقيقة»، أو كأنهم اكتشفوا العجلة حين يصفون قتل فلويد بأنه يبين « ممارسات التمييز العنصري في دولة تدعي أنها زعيمة المساواة والحرية في العالم»، نجد أن ترامب استطاع، الحصول على رضا المصوتين له، اذ حقق لهم تحسنا اقتصاديا ملموسا وتخفيض نسبة البطالة، وبناء جدار عازل مع المكسيك، ومعاملة المهاجرين بطريقة تثير رعب كل من يحاول اللجوء الى أمريكا، وطرد من لا تحتاجهم، والعمل على تقليل القواعد العسكرية وتكاليف نفقاتها الكبيرة، وإجبار الحكام الراغبين بالحماية الأمريكية ضد شعوبهم، على دفع تكاليف القوات، كما فعل مع المملكة العربية السعودية. كما لم ينكث بوعوده السخية للكيان الصهيوني، بل اُعتبرت « صفقة القرن» إنجازا له، والاعتراف بالقدس عاصمة للكيان الصهيوني هو «الشيء الصحيح الذي ينبغي فعله». لتليها الموافقة على مد المستوطنات أينما أراد المحتل. كل هذا بموافقة أو صمت الخانعين من الحكام العرب.

إن تأثير المظاهرات الامريكية سيبقى، محصورا بما سيفرض من تغيير على الوضع الداخلي، ولن يمس السياسة الخارجية التي هي في المحصلة سياسة دولة، كما أن معظم مواطني الولايات المتحدة وأوروبا لا يهتمون كثيرا بالسياسة الخارجية إلا إذا مست وضعهم الاقتصادي بشكل مباشر. ولنتذكر أن معظم الشعب الأمريكي والبريطاني أنتخب الرئيس جورج بوش ورئيس الوزراء توني بلير على الرغم من المظاهرات المناوئة للحرب على العراق في كلا البلدين وفي أرجاء العالم.

كاتبة من العراق

 

 

العراق: داعش

والكاظمي ونلسون مانديلا

هيفاء زنكنة

 

نشرت وكالة الأنباء العراقية، في 30 أيار/ مايو، بيانا لمديرية الاستخبارات أن القوات الأمنية بناء على معلومات استخبارية دقيقة اعتقلت 11 إرهابيا في مناطق مختلفة من جانبي الموصل الأيمن والأيسر.

يتزامن اصدار البيان مع عدم اصدار أي بيان حول هجوم ميليشيا التيار الصدري على خيام المعتصمين في ساحة التحرير ببغداد، واعتقال وقتل متظاهرين في مدن أخرى.

لماذا؟ كي يتماشى اصدار ومضمون البيان مع ازدياد التصريحات الحكومية الرسمية حول تصاعد عمليات تنظيم الدولة الإسلامية « داعش» وما يصاحبها، بالضرورة، من حملات اعتقال « الإرهابيين» في محافظات معينة، وُسمت بصبغة الإرهاب، منذ احتلال البلد عام 2003، ومنذ انبثاق مقاومة المحتل فيها.

فقد أدى الاستخدام السياسي لمفهوم «محاربة الإرهاب» وتوسيعه ليشمل بنودا قانونية عديدة، ومع الغياب شبه الكلي للقضاء النزيه، باعتراف المنظمات الحقوقية الدولية، الى منح الحكومات المحلية المتعاونة مع الاحتلال القدرة على شرعنة القاء القبض، لأي سبب كان، ورمي المعتقلين في غياهب السجون لسنوات بناء على شبهة أو وشاية أو خلاف، أو إصدار الاحكام السريعة بالإعدام بحيث استحق العراق لقب «المسلخ» من قبل رئيسة مجلس حقوق الإنسان في الأمم المتحدة، أو تغييب المعتقلين فلا يُسمع لهم خبرا. كما أدى الاستخدام السياسي ـ الدعائي ـ التحريضي الى انعدام الثقة باي اجراء أو تصريح حكومي أو انتصار في عملية أو اعتقال خلية إرهابية. واعتبارها، منفردة او مجتمعة، مجرد تضليل آخر يستهدف المواطنين لتمشية أمور الفئة الحاكمة أو للتغطية على فسادها وجرائمها.

وإذا كان تعيين مصطفى الكاظمي، رئيس المخابرات السابق، رئيسا للوزراء قد دفع البعض الى الإحساس بوجود ومضة أمل في نهاية نفق النظام المظلم أو لأنه، حسب المثل العراقي «اللي يشوف الموت يرضى بالسخونة»، خاصة بعد أن حظي تعيينه بالترحيب من قبل المنظومة السياسية المهيمنة على مؤسسات الحكم والمليشيات على اختلاف أنواعها بالإضافة الى المباركة الامريكية الإيرانية، فان الدلائل تشير الى ان الوعود الجوفاء متجذرة في صميم النظام وان اطلاقها، بعد كل تغيير سطحي، ضروري لمصلحة النظام وليس الشعب.

فالتقدم لتحقيق الوعد بإجراء انتخابات نزيهة، وهو أحد مطالب انتفاضة تشرين/ أكتوبر 2019، يصطدم باللانزاهة في مفوضية الانتخابات، وتبادل أعضائها الاتهامات بالمحاصصة والفساد. وبات كشف فساد الانتخابات السابقة هو الموضوع الأول في أستوديوهات التلفزة، للدلالة على نزاهة المتنافسين على عضوية المفوضية، والنتيجة: الكل فاسد والكل نزيه في آن واحد.

كان الكاظمي قد وعد بحسم «ملف المغيبين، لأن عوائلهم ما زالت تنتظر معرفة هل هم أحياء أم تم الغدر بهم من تلك الميليشيات الإرهابية»، كما طالب رئيس لجنة العمل والشؤون الاجتماعية والهجرة والمهجرين البرلمانية

أما فيما يخص المسؤولين عن قتل المتظاهرين فلم يُتخذ أي إجراء تقريباً لمساءلة قوات الأمن العراقية والحشد الشعبي على الرغم من وجود شهود عيان وفيديوهات وصور موثقة من قبل منظمات حقوقية محلية ودولية من بينها «وجود أدلة دامغة تشير إلى نمط تتعمد فيه قوات الأمن العراقية استخدام قنابل الغاز المسيل للدموع والقنابل الدخانية الثقيلة لقتل المتظاهرين بدلاً من تفريقهم وذلك في انتهاك مباشر للقانون الدولي لحقوق الإنسان، وقد كانت قوات الأمن على علم بمدى القدرة الفتاكة لهذه الأسلحة المقيتة، لكنها استمرت في إطلاقها كما يحلو لها». حسب برايان كاستنر، كبير مستشاري برنامج الأزمات المختص بالأسلحة والعمليات العسكرية في منظمة العفو الدولية. وكانت المنظمة قد وثّقت منذ 1 أكتوبر/تشرين الأول 2019 وطيلة فترة الاحتجاجات التي اندلعت في بغداد والمحافظات العراقية الجنوبية ـ استخدام قوات الأمن للقوة المفرطة، وفي مئات الحالات القوة المميتة لتفريق المحتجين. وأصدرت منظمة «هيومان رايتس ووتش « ومركز جنيف الدولي للعدالة وعشرات المنظمات المحلية تقارير موثقة مماثلة، فاذا كان هذا كله متوفرا فلم لم يقم الكاظمي، كما وعد، عشية تعيينه، بما هو أكثر من تشكيل لجنة تحقيق، يعرف العراقيون جيدا انها تعني، في الواقع، دفن التحقيق؟

وأثار قيام عديد الدول بإطلاق سراح وجبات من السجناء، لتقليل خطر انتشار وباء الكورونا، قضية آلاف المعتقلين والمغيبين الذين لا يعرف مصيرهم وكلهم، تقريبا، من المحافظات التي تواصل الأحزاب الطائفية وميليشياتها وصمها بالإرهاب، ومعاملتها على هذا الاساس. تواصل حكومة الكاظمي تجاهل هذه القضية الحساسة التي تُعتبر مقياسا لمدى جديتها في التعامل مع استمرارية حملة التطهير التي سارت عليها الحكومات الطائفية السابقة. وكان الكاظمي قد وعد بحسم «ملف المغيبين، لأن عوائلهم ما زالت تنتظر معرفة هل هم أحياء أم تم الغدر بهم من تلك الميليشيات الإرهابية»، كما طالب رئيس لجنة العمل والشؤون الاجتماعية والهجرة والمهجرين البرلمانية.

ان تحقيق العدالة، لا يتطلب تشكيل لجان جديدة تُضاف الى كومة اللجان النامية في الوزارات، بل يتطلب الاعتراف أولا بجسامة الجرائم المرتكبة ضد عموم الشعب والعمل ثانيا بوطنية صادقة على حلها. اللجان التي بدأ الكاظمي بتشكيلها لن تعيد للمواطنين حقوقهم لأنها استمرارية لسياسة التزوير والتضليل التي يعيشونها منذ 2003. وما تعرض له الناس من عقاب جماعي ونزوح قسري، لايزال مستمرا، ومصير آلاف الرجال والفتيان الذين اختفوا قسرياً على أيدي قوات الأمن أثناء النزاع، والإفلات من العقاب على انتهاكات حقوق الإنسان، يحتاج ما هو أكثر من تشكيل لجنة. فالنظام نفسه منخور بالفساد والطائفية والعنصرية مهما كان خطاب ساسته مغايرا على السطح. واستمرار بقاء المحتجين في ساحات المدن وخروجهم الى الشوارع، على الرغم من مخاطر وباء الكورونا، هو تصريح شعبي بعدم الثقة بما يُقال دون تطبيق، كما انه تأكيد على صلاحية المطالبة بوطن. وطن يوفر لأهله، جميعا، حقوقهم كمواطنين. بلا ساسة يدّعون العصمة، بلا مليشيات تمارس القتل بلا مساءلة، بقوات أمنية توفر لهم الحماية ولا تقتلهم وتشوههم. وطن يعيشون فيه بأمان ويتطلعون الى غد خال من الخوف. وطن وليس ساحة حرب تتنازع فيه أمريكا وإيران وما ينتجانه من منظمات ومليشيات إرهابية. وطن لا يحرم أهله من الكرامة وعزة النفس فـ» أي شخص أو مؤسسة تحاول أن تجردني من كرامتي ستخسر»، كما يُذكرنا نلسون مانديلا.

كاتبة من العراق

 

 

إحياء «داعش» في العراق

ضروري للمتنازعين عليه

هيفاء زنكنة

 

ظهرت بوادر تغير في خطاب مصطفى الكاظمي، بعد مرور 12 يوما فقط على تعيينه رئيسا لوزراء العراق، سواء كان خطابه موجها الى الادارة الامريكية ودول الاتحاد الأوروبي أو الشعب العراقي. فبعد أن كان يؤكد في خطبه الأولى، على أن حكومته «تنوي التحضير لإجراء انتخابات مبكرة ونزيهة، والتعهد بمحاربة فيروس كورونا المستجد في البلاد»، تَصدر خطبه، في لقاءاته مع السفير الأمريكي وسفراء دول الإتحاد الأوروبي، أمله في أن «تواصل الدول دعمها للعراق في حربه ضد داعش». وهو تغير كبير يعيد الى الأذهان سيرورة من سبقه من رؤساء الوزراء، مهما كان ادعاؤه مغايرا ومهما كانت مسميات «المنظمات الإرهابية» مختلفا. فمنظمة الدولة الإسلامية «داعش»، لم تكن تحتل المكانة الأولى في خطب التهنئة التي انهالت عليه سواء من قبل مايك بومبيو، وزير الخارجية الأمريكي أو محمد جواد ظريف، وزير الخارجية الإيراني.

كان هَّم الجميع التوصل الى توازن أمريكي ـ إيراني، يتفاوض من خلاله الطرفان على صيغة توافقية لحل اختلافاتهما، وتقاسم السيطرة على العراق، بشكل يرضيهما، بدون أن يعرضا أمن بلديهما للتهديد. وقد منحهما الاتفاق الاولي على اختيار الكاظمي الإحساس بأن في «مقدوره المساهمة في التخفيض من التوترات بين الولايات المتحدة وإيران»، كما ذكرت وكالة الأنباء الإيرانية. كما عبَّرَ مايك بومبيو، عن حسن نية الإدارة الأمريكية تجاه إيران أكثر منه «الشعب العراقي» باستثناء إيران من العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها لمدة 120 يوما لتصدير الكهرباء الى العراق.

ما هي دلالات تغير خطاب الكاظمي اذن؟ لماذا «داعش» الآن وما هي الجهة المستفيدة من ظهوره في هذا التوقيت بالتحديد؟ هناك جهات عدة تحتاج إعادة نفخ الروح بداعش أو استحداث غيرها إذا استدعت الضرورة. بالنسبة الى البقاء الأمريكي بالعراق، هل من قبيل الصدف قيام «داعش» بعمليات متفرقة في البلد، والنظام مقبل على مناقشة وإعادة النظر في تفاصيل الاتفاقية الأمنية الموقعة بين العراق وأمريكا، بداية الشهر المقبل؟

الأمر الذي دفع الناطق باسم القائد العام للقوات المسلحة أي الكاظمي الى التصريح الفوري بأن « العراق ما زال بحاجة لبقاء قوات التحالف الدولي لتدريب القوات العراقية وتجهيزها لمواجهة التحديات». أما بالنسبة الى إيران، يوفر ظهور داعش أرضية شاسعة لاستمرارية بقاء وسيطرة الميليشيات الموالية لها، على الرغم من تزايد الغضب الشعبي على وجودها، بعد أن ثبت قيامها باستهداف منتفضي تشرين الأول/ اكتوبر وحملات الاختطاف والاغتيال التي طالتهم. ويشكل الظهور الداعشي طوق نجاة للحشد الشعبي، الذي انحدرت شعبيته التي كان قد نالها، عند تأسيسه بناء على فتوى المرجعية الجهادية.

داعش ذات الوجوه والأشكال المتعددة هي عدو جاهز مُهيأ للاستخدام عند الحاجة، ولو لم توجد فعلا لتم اختراعها. فكل الأنظمة، تقريبا، بحاجة إلى « عدو«، يستقطب دعم الشعوب لحكامها مهما كانوا

اذ يعاني «الحشد الشعبي» من كساد في الشعبية حتى بين اتباعه المخلصين وغيرهم من أبناء الشعب بسبب فساد القادة، وطائفيتهم المزمنة، واخلالهم بالوعود الدنيوية التي بُذلت بسخاء للشباب المنخرطين بصفوفه، بالإضافة الى توثيق عديد الجرائم التي ارتكبها افراده في «المناطق المحررة»، والتي ترقى الى مستوى جرائم ضد الإنسانية، حسب تقارير منظمات حقوقية دولية. لذلك، قام الكاظمي، بنفسه، بزيارة رئيس الحشد في مقره الرئيسي وارتدى زي الحشد بتظاهرة إعلامية لم تحظ بها اية جهة أخرى وذلك لطمأنة إيران على عدم المس بأذرعها داخل البلد.

خلال أيام قليلة، عادت «داعش» لتغطي على وباء كورونا، وعلى فشل التعامل معه، وعلى الفساد المكشوف، وكل ما يراد التستر عليه إعلاميا وسياسيا. عادت لتستعيد مكانتها لدى الساسة كأداة جاهزة للترويع وتسويغ الإرهاب بحجة محاربة الإرهاب.

فعودة «داعش» ضرورة حتمية لكل المتنازعين على العراق وهو الخيار الأفضل لاستمرار منظومة الفساد السياسي والميليشيات. فما ان يُذكر اسم «داعش» حتى تُبرر سرقاتها ونهبها مليارات النفط بالإضافة الى استحواذها على أموال المساعدات الخارجية المقدمة لمحاربة «داعش» بحجة الدفاع عن «الشعب العراقي». بينما الحقيقة هي ان الكل، باستثناء «الشعب العراقي»، بأمس الحاجة الى داعش أو أية منظمة إرهابية أخرى. داعش ذات الوجوه والأشكال المتعددة هي عدو جاهز مُهيأ للاستخدام عند الحاجة، ولو لم توجد فعلا لتم اختراعها. فكل الأنظمة، تقريبا، بحاجة الى «عدو«، يستقطب دعم الشعوب لحكامها مهما كانوا. «داعش» الوقت الحالي هو «شيوعية» فترة الحرب الباردة و«مكارثية» الإدارة الامريكية ضد مثقفيها في خمسينيات القرن الماضي. وها هو سيف داعش يُشهر من جديد، بعد غيبة، لتعلن حكومة الكاظمي، كما الحكومات التي سبقتها، شن عمليات ضد داعش، باسم «اسود الجزيرة» في ذات المحافظات التي لم يزل مئات الالاف من سكانها قد هُجروا قسرا ولايزالون يعيشون في الخيام، ولم يكن الناطق الرسمي باسم قائد القوات المسلحة الكاظمي قد أكمل تصريحه بوجوب إبقاء القوات الأمريكية حتى شن طيران «التحالف» غارة على جنوب غربي محافظة نينوى. المحافظة التي لاتزال رائحة جثث ضحايا القصف الأمريكي تتخلل هواء خرائبها.

لم تعد الساحة السياسية، اذن، بعد أسبوع واحد من اعلان الحكومة الجديدة، تقتصر على «النزاع» الأمريكي ـ الإيراني بل أتت أضافة «داعش» وبالحجم الذي يستدعي القيام بعمليات عسكرية أرضا والقصف جوا، كعامل مستجد قد يعمل، على تقوية حضور «المُتنازعين» الأمريكي والإيراني وليس استعادة السيادة العراقية، حسب وعود الكاظمي في خطبه الأولى، فبقائهما وفق تقسيم الجو لأمريكا والأرض لإيران، مُفيد للطرفين خاصة وان استراتيجية أمريكا العسكرية لم تعد تعتمد على إبقاء المعسكرات والقوات على الأرض بل على الطائرات بلا طيار والعمليات الخاصة وكل أنواع التقدم التكنولوجي عن مبعدة بالإضافة الى القوة الناعمة، بجوانبها الثقافية والتعليمية. فالاتفاقية الاستراتيجية المنوي مراجعتها لا تقتصر على الجانب العسكري والأمني فقط كما يُشاع تضليلا.

ولعل التغير الأكبر الذي سيطرأ، جراء إحياء تنظيم داعش، هو مدى نجاح منظومة الفساد السياسية في استخدام الترهيب من داعش للقضاء على انتفاضة تشرين / أكتوبر نهائيا، بعد ان فشلت كل الأساليب القمعية بالإضافة الى فيروس كورونا في ذلك. اذ تشير دلالات تغير خطاب الكاظمي، خلال بضعة أيام من تعيينه، ان من وافقوا على تعيينه من أحزاب وميليشيات ومحتلين سيستعينون، من جديد، بشعار «محاربة الإرهاب» لقمع كل صوت مستقل يطالب باسترجاع الوطن من أيديهم، وسيبقى مدى نجاحهم مرتبطا بعودة المنتفضين إلى الساحات، بذات القوة والوعي الذي فشل الفاسدون باختراقه.

كاتبة من العراق

 

 

إنهم لا يعرفون

الشعب العراقي

هيفاء زنكنة

 

انهالت التهاني على « العراق»، كما الحامض حلو على رأس عروس أو رأس ولد في حفل ختانه. وأخيرا، صار للعراق رئيس وزراء جديد، يدعى مصطفى الكاظمي. صحيح أنه غير منتخب، رشحه رئيس جمهورية غير منتخب، إذ لم تزد نسبة الناخبين، في المرة الاخيرة، عن 18 بالمئة، إلا أن هذا غير مهم، فبعد انقضاء خمسة أشهر على اجبار المنتفضين رئيس الوزراء عادل عبد المهدي على الاستقالة، وبعد فشل مرشحين اثنين في الوصول الى خط النهاية، لم يعد هناك الكثير من الأمور المهمة بالنسبة الى ساسة « العملية السياسية» ومديريها. المهم أن يتم تعيين رئيس وزراء، أيا كان، وتقديمه باعتباره المنقذ بعد أن تم تعليق كل المساوئ، بضمنها قتل المنتفضين، بمشاركة وعلم الجميع، على شماعة رئيس الوزراء السابق.

حصلت المعجزة اذن، وُلد الطفل الذي يتنازع على أبوته اثنان، في بلد يدعى العراق. حال اعلان الولادة/ تشكيل الحكومة الناقصة، سارع الأبوان المتنازعان للاحتفال. مايك بومبيو، وزير خارجية أمريكا، كان الأول. لم يتحمل الانتظار فأرسل تغريدة ذكر فيها أنه «من الرائع التحدث مع رئيس الوزراء العراقي الجديد». وكاد، لفرط سروره أن ينهي التغريدة لولا تذكره أنه نسى إضافة الكليشيه الجاهزة أي « الشعب العراقي» أو أهل البلد المضَّيف (كما هو متعارف لدى قوات الاحتلال على تسمية أهل البلدان المحتلة)، فأكمل قائلا: «لقد تعهدت بمساعدته على تنفيذ أجندته الجريئة من أجل الشعب العراقي». ونافسه وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف، باستخدام كليشيه « الشعب العراقي»، مؤكدا « أن إيران ستقف دائما بجانب الشعب العراقي».

كلاهما يدعيان أنهما إنما يقومان بكل ما في وسعهما، وبذل كل التضحيات المادية والبشرية، من أجل « الشعب العراقي»، مما يثير، في خضم تبادل التهاني وتنفس الصعداء بالتصويت على الحكومة الجديدة، تساؤلا جوهريا، قلما يتم التطرق اليه، منذ غزو واحتلال البلد عام 2003، وهو: عن أي شعب يتحدثان؟ وأين هو هذا « الشعب العراقي» الذي يدّعيان الاهتمام به والعمل من أجله في مسار نزاعاتهما واقتتالهما ومفاوضاتهما على أرضه، بعيدا عن أراضيهما، حفاظا على مصالح أمنهما القومي؟ هل هو شعب افتراضي من « مكونات» استحدثت ونُشرت على ارض البلد، كالعشب الضار، آملين ان تكون، بمرور الوقت، الشعب المُراد تفتيته بين ديمقراطية الشيطان الأكبر وولاية فقيه الشيطان الأصغر؟

ماذا عن الشعب الآخر الذي قاطع الانتخابات، بشكل شبه جماعي، والشعب المقيم، بملايينه، في مخيمات النازحين والمدن المهدمة، ومئات الآلاف من المعتقلين والمسجونين والمختفين؟

إنهم «الشعب العراقي» الذي خرج مطالبا باستعادة وطنه وسيادته وهويته الوطنية ورحيل المحتلين الأمريكي والإيراني

ماذا عن الشعب الذي تكاد الاحتجاجات والاعتصامات أن تكون، لاستمراريتها، مطبوعة على جيناته ضد قوات الاحتلال الانكلو أمريكي أولا ثم ضد حكوماته بالنيابة والميليشيات المدعومة إيرانيا ثانيا، وضد كليهما وكل ما يمثلانه في انتفاضته الأخيرة منذ تشرين / أكتوبر 2019؟ الانتفاضة التي أجبرت عادل عبد المهدي على الاستقالة بعد أن تم تقديمه، كما هو مصطفى الكاظمي اليوم، باعتباره السياسي المعتدل، مالك الحل السحري لفض النزاع بين الشيطان الأكبر والأصغر، وخلق التوازن المطلوب بين المُحتَلين وساستهما المحليين. الانتفاضة التي لم تنجح الميليشيات، بتعاون أو تعامي القوات الحكومية في القضاء عليها، بل تأجلت، جزئيا، بعد انتشار وباء كورونا وحرص المنتفضين على سلامة عموم الشعب ليثبتوا بذلك، أنهم «الشعب العراقي»، المُهمل، المستهان به، الذي عمل المحتل على تغييبه، ومع ذلك يواصلون النضال بتكلفة الدم الغالي الذي دفعوه، بآلاف الضحايا ومئات آلاف الجرحى والمختطفين. إنهم « الشعب العراقي» الذي خرج مطالبا باستعادة وطنه وسيادته وهويته الوطنية ورحيل المحتلين الأمريكي والإيراني، وليس، كما يردد يوميا، ومع كل تغيير لأقنعة الوجوه الفاسدة، ان يكون حشية أرض يتبادل عليها المحتلون الأوضاع.

إن الصورة التي رسمها عدد من العراقيين المتعاونين مع الإدارة الامريكية في فترة ما قبل الغزو، وكان مصطفى الكاظمي واحدا منهم، عن شعب سيستقبل قوات الاحتلال بالزهور والحلوى، تمزقت مع قتل أول جندي للاحتلال، كما هي صورة الشعب الراكض للتضحية بنفسه من أجل «الأمام» ، التي فقدت وهجها العقائدي، بعد مرور 17 عاما على الاحتلال، وتأكد الشعب من أن شجرة التضليل سواء كانت مستندة على الديمقراطية أو « الدعوة» الدينية / الطائفية، بقيت هوائية بلا جذور في المجتمع العراقي، على الرغم من كل الجهود التي بذلها رؤساء الوزراء الذين سبقوا الكاظمي بدءا من أياد علاوي والجعفري ونوري المالكي وحيدر العبادي وانتهاء بعادل عبد المهدي، والذين تم تعيينهم، كلهم وفق المحاصصة الطائفية وإن بتعديلات طفيفة على السطح مثل إضافة صفة « المعتدل» أو « المستقل»، وكلهم، كما الكاظمي، كان الشرط الثاني لتعيينهم هو الحصول على رضى أمريكا وإيران معا، بحجة تحقيق ما يسمى بالتوازن السياسي داخل العراق.

طوال هذه الفترة، تعامل المحتل وساسته المحليون مع الشعب باعتباره هامشا في صفحة يكتبونها هم، الى أن رجرجت انتفاضة تشرين الأوضاع بقوة وكان بالإمكان أن تؤدي الى تغييرات حقيقية تمس جوهر العملية السياسية والفساد المستشري لولا انتشار وباء كورونا الذي وفّر للنظام فرصة تمديد البقاء. الأمر الذي يعيد الى الأذهان ذات التساؤلات التي واجهها رؤساء الوزراء السابقين وأهمها مدى معرفتهم بالشعب العراقي الحضاري، الأبي، المعتز بكرامته وحقوقه، ومدى ولائهم وتمثيلهم لهذا الشعب والوطن، بعيدا عن الرطانة الخطابية. وبالنسبة الى الكاظمي، هل سينفذ مطالب المنتفضين، ومن بينها تقديم المسؤولين عن قتل المتظاهرين الذين زاد عددهم عن 600 شخص وجرح أكثر من 24 ألف آخرين، الى القضاء، خاصة وأنها خطوة ستتطلب التحقيق معه، أيضا، بحكم كونه رئيسا للمخابرات، يفترض فيه، معرفة الفاعلين، أكثر من أي شخص آخر في حكومة تتحمل المسؤوليّة المباشرة عن الكثير من الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، وانتهاكات ترتقي الى جرائم ضدّ الإنسانيّة؟

ثم أليس هذا هو « نفس الطاس ونفس الحمام»، ما دامت الحكومة الجديدة، قد تم اختيار أعضائها وتعيين رئيسها من قبل نفس أشخاص النظام الفاسد وأحزابه وميليشياته؟ يشير نزول المحتجين الى الشوارع، في بغداد وعدة مدن أخرى، حال انعقاد الجلسة الاولى للحكومة الجديدة، أنهم يعرفون الأجوبة مسبقا وأن لعبة التسويف والمناورات، من ذات الوجوه، لم تعد تنطلي على أحد.

كاتبة من العراق

 

 

 

حرية الصحافة في مقياس

القمع الحضاري وغير الحضاري!

هيفاء زنكنة

 

إذا كان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب قد جعل واحدة من مآثره، مهاجمة الصحافيين المستقلين، بكافة أجهزة الإعلام، وبشكل شبه يومي، حتى في اليوم العالمي لحرية الصحافة (3 مايس)، فأنه انما يمارس، بذلك، تقليدا قديما لا يقتصر، كما قد نتوهم، على الحكومات العربية القمعية، بل ويحتضن الدول الغربية التي ترى نفسها مُصّدِرة للديمقراطية وحرية التعبير.

فمع الإقرار بوجود الاختلاف، بدرجات، حسب طبيعة النظام، وانتقائية سبل التعامل مع من يراد تكميم أفواههم، التي تتراوح ما بين الأساليب «الحضارية الناعمة» كالابتزاز والاغواء المادي والتهديد بجرائم فساد أو تهم أخلاقية والمنع من ممارسة المهنة، كما في الدول الغربية الى الأساليب «غير الحضارية»، كالاعتداء الجسدي والاعتقال والاختطاف والقتل، وهو ما يُطبق في بلداننا.

وإذا كان القتل الوحشي قد غّيب الصحافي السعودي المعارض جمال الخاشقجي فان عملية تغييب الصحافي الاستقصائي جوليان أسانج، تتم بشكل يماثل من يُفصد دمه بشكل بطيء، من خلال العزل الانفرادي ولَّيْ القوانين لتسليمه الى أمريكا حيث سيواجه الحكم بالسجن لمدة 75 عاما. وهي عملية تنفذها الحكومة البريطانية لصالح الإدارة الامريكية التي لا تغفر للصحافي ان يمس مصالحها أو أن يكون مستقلا بشكل حقيقي. فكان العمل على تحطيم حياة أسانج وفريق « ويكليكس» الذي كشف عن مئات الآلاف من الوثائق الأمريكية وغيرها الفاضحة لمعلومات عن جرائم بحق مواطني البلدان الديمقراطية نفسها كما البلدان المستهدفة بالغزو او الحصار او الابتزاز.

إنها المعلومات التي أريد لها أن تبقى طي النسيان لما تحويه من مساس بحرية الفرد والرأي ومساحة التآمر عليه والجرائم التي ترتكب باسمه، بذريعة «الأمن القومي».

يشكل ادعاء الحفاظ على « الأمن القومي» واحدا من أكثر الذرائع التي تستخدمها الأنظمة القمعية للسيطرة على الشعوب، وغالبا ما يكون الصحافيون من أوائل الضحايا.

ففي إيران، ثلثا أعداد المعتقلين هم من الصحافيين الذين يدفعون ثمنا مكلفا بسبب محاولتهم التحقيق في ملفات فساد مالي ترتبط بأشخاص نافذين في هيكل النظام، حسب منظمة « مراسلون بلا حدود»، في تقريرها الصادر حديثا، وتبوأت فيه إيران المرتبة 170 من أصل 180 دولة حول العالم في 2019. وتعتبر سلطات الاحتلال الصهيوني استخدام الذخيرة الحية ضد المتظاهرين وقتلهم أمرا يدعو للاحتفال وتبا لكل القوانين باستثناء قوانين الاحتلال العنصرية. من بين الشهداء، سقط في العام الماضي صحافيان، وفقد ثلاثة صحافيين على الأقل أعينهم بشكل نهائي. ولم تتوقف حملة الاعتقالات والاستجواب والاعتقال الإداري بالإضافة الى اغلاق وسائل إعلام فلسطينية بحجة التحريض على العنف.

يتعرض الصحافيون في العراق لكل أنواع المخاطر بدءا من الاعتداء الجسدي والتهديد إلى الاختطاف والقتل على أيدي الميليشيات، بينما يقف المسؤول الحكومي متفرجا أو مشاركا في جرائم الميليشيات

المفارقة الموجعة أن تتماهى سلطات دول عربية في القمع وتكميم الأفواه مع كيان الاحتلال الصهيوني والمنظمات الإرهابية المدعومة محليا وعالميا. وتمثل ممارسات الحكومات العراقية المتعاقبة منذ غزو البلد واحتلاله عام 2003، نموذجا صارخا لنظام يدّعي مسؤوليه، كما في الكيان الصهيوني، الديمقراطية واحترام حق الرأي والتعبير.

«سلامة الصحافيين في خطر أكثر من أي وقت مضى»، هو أحد عناوين تقارير دولية عدة تتناول وضع الصحافيين بالعراق. وهو وضع يشي باللامسوؤلية القانونية والإنسانية والأخلاقية لنظام فاسد يستهين بحياة مواطنيه، ويصوب رصاصه على كل صحافي مستقل يحاول الكشف عن الفساد ومرتكبي الجرائم، أو فضح حملات الاعتقال والتعذيب المنهجي أو تغطية الاحتجاجات، كما في الأشهر الأخيرة، ومنذ اندلاع انتفاضة تشرين الأول/ أكتوبر 2019. اذ يتعرض الصحافيون لكل أنواع المخاطر بدءا من الاعتداء الجسدي والتهديد إلى الاختطاف والقتل على أيدي الميليشيات، ومن يطلق عليهم تسمية « مسلحون مجهولون»، بينما يقف المسؤول الحكومي متفرجا أو مشاركا في جرائم الميليشيات.

وإذا كانت « مراسلون بلا حدود» قد وثقت اختطاف 48 إعلاميا واعدام 13 صحافيا من قبل منظمة الدولة الإسلامية « داعش»، اثناء سيطرتها على مدينة الموصل، فإنها تواصل توثيقها لخطورة ما يتعرضون له « في ظل تعنت الشخصيات السياسية والدينية التي تعتبر نفسها مقدسة وغير قابلة للانتقاد»، وأي نشر عنها يعرض الصحافيين للملاحقات بتهمة «إهانة رموز وطنية أو دينية».

ولا تدخر الحكومة، عبر هيئة تنظيم الإعلام، جهدا في منع أي بث مباشر وتعطيل خدمة الإنترنت وسحب التراخيص الإعلامية ورفع الدعاوى والغرامات. وعلى الرغم من ازدياد حالات الخطف والاغتيال وتوثيق العديد منها ووجود شهود العيان، لم يحدث وتم اعتقال أو معاقبة أي شخص واقصى ما تفعله الحكومة هو الإعلان عن تشكيل لجان تحقيق تزويقية.

تعكس آلية التعامل مع أجهزة الإعلام ذكاء الأنظمة وقدرتها على احتواء الأصوات الممثلة لشرائح معينة من الشعب، في الأوقات العادية، أو غالبية الشعب، عند الحاجة، في ظروف معينة، كالأزمات الاقتصادية والحروب والنزاعات المحلية والفترات السابقة للانتخابات. فالرئيس ترامب، مثلا، يختار التهجم على أجهزة إعلام معينة، مهما كانت حرفية إعلاميها، لأنه متأكد من استقطاب أجهزة إعلام أخرى ترتبط معه، ومع الطبقة التي تجد فيه ممثلا لها، بمصالح مشتركة.

تتبدى هذه القدرة في الجمع بين إطلاق الأكاذيب واتهام أجهزة الإعلام بالكذب، في ذات الوقت، بدرجات أقل حدة في أنظمة بلداننا، لأنها تجد في التغييب العنيف والمباشر للصحافيين والأصوات المعارضة، كالاختطاف والقتل، حلا سريعا يساعدها، أيضا، على ترويع بقية أبناء الشعب وتجذير الإرهاب الحكومي، مع الانتباه الى عامل مشترك يكاد يجمع ما بين كافة أجهزة الإعلام، في العالم، وهو قدرة الأحزاب السياسية الحاكمة أو المتنفذة على ركوب أجهزة إعلام معروضة للاستئجار أو البيع ، بكل العاملين فيها، من صحافيين وغيرهم، أو تأسيس شبكات إعلام كذراع لها، وتسييرها وفق ايديولوجيتها ومصلحتها سواء كانت سياسية او دينية او اقتصادية او كلها معا. تُبرر هذه التداخلات بانها علاقة مصالح متبادلة، وحين تؤدي، كما رأينا في تسويغ احتلال العراق، الى أضرار جسيمة بحق البلد وأهله، فأنها تُروج باعتبارها « وجهة نظر».

بعيدا عن قمع الأنظمة، أينما كانت، وجهودها في تصنيع الرضا الشعبوي المبتذل، يبقى صوت الصحافي المستقل مخيفا للطغاة والمحتلين، وتبقى القوانين الوطنية والدولية، التي توجب حماية الناس، واعتبار الاستهداف المتعمد للمدنيين، بمن فيهم الصحافيون وأجهزة الإعلام، في عداد جرائم الحرب، السلاح الأقوى لتحقيق العدالة للجميع، ومع تنامي دور صحافة المواطن التي غيّرت دور المواطن من مجرد متلق إلى فاعل لنقل المعلومة والحدث والتوثيق في عصر، نأمل أن يساهم في إزاحة كابوس السلطة وأنظمة الاستبداد عنها.

كاتبة من العراق

 

 

الحقيقة ـ الضحية الأولى

بين رويترز والنظام العراقي

هيفاء زنكنة

 

سحبت هيئة الإعلام والاتصالات العراقية ترخيص عمل وكالة الأنباء الدولية « رويترز»، لمدة ثلاثة أشهر وتغريمها 21 ألف دولار، لأنها نشرت تقريرا في الثاني من نيسان/ أبريل، نقلت فيه عن ثلاثة أطباء من المشاركين، بشكل وثيق في عملية إجراء الاختبارات لرصد الإصابات بفايروس كورونا، وعن مسؤول في وزارة الصحة، تأكديهم أن عدد حالات الإصابة المؤكدة بالفايروس في البلاد، يفوق الرقم المعلن من قبل الوزارة بآلاف، وان المصادر فضلت عدم الإفصاح عن اسمائها لأن السلطات أمرت الطواقم الطبية بعدم الحديث لوسائل الإعلام. أكدت «رويترز»، يوم 14 نيسان/ أبريل، صحة التقرير الذي، حسبما ذكرت، استندت فيه على « مصادر طبية وسياسية مؤهلة ومتعددة وإن رأي وزارة الصحة كان ممثلا فيه بصورة كاملة».

من الذي نصدقه عند قراءة تقرير عن مدى انتشار الإصابات بالفايروس، الناطق الرسمي العراقي أو وكالة الأنباء الأجنبية؟ أليس من الطبيعي أن نصدق التصريحات العراقية باعتبارها الأدرى بأحوال المواطنين؟ فلِم اذن يختار الكثيرون، التشكيك بالتصريحات الرسمية والميل نحو تصديق وكالات الأنباء الأجنبية؟

السبب الرئيسي هو تجذر الإحساس بعدم الثقة تجاه كل ما يقوم به النظام ويُصرح به، في عديد المجالات السياسية والاقتصادية والعسكرية والثقافية، وانعكس سلبا على الجانب الصحي والتعليمي. وهو إحساس قديم تنامى بشكل متسارع بعد غزو واحتلال البلد في 2003. اذ ازدادت الهوة ما بين ما هو منجز وما يُصرح به بشكل هائل. وباتت منصات التصريحات الحكومية أماكن لإطلاق الأكاذيب المفضوحة. خاصة بعد ان أصبح الساسة ينطقون بأصوات سيدهم المحتل واختلطت التصريحات « الحكومية» بتصريحات متحدثي قوات الاحتلال. فمن الناحية الإعلامية: تم تسخير صحافيين عراقيين لنشر مقالات تحمل أسماءهم إلا انها مكتوبة من قبل الجهاز الدعائي لقوات الاحتلال.

هدفت المقالات الى تشويه المقاومة وتقديمها باعتبارها «سنية ـ إرهابية» والى تعزيز موقع قوات الاحتلال كطرف إنساني محايد في «الاقتتال» بين العراقيين أنفسهم. 30 دولارا كانت مكافأة الصحافي لقاء المقالة الواحدة، بينما كانت الخسارة جسيمة لا تعوض وهي ثقة المواطن بنزاهة ومصداقية الصحافة وانعكاس عدم التصديق على ما تقدمه من معلومات حتى لو كانت حقيقية ولصالح المواطن فعلا.

من الناحيتين الأمنية والعسكرية، يعيش المواطن، غالبا، على اخبار الوكالات والصحافيين الأجانب ليعرف ماذا يحدث في بلده، بل وعلى الرغم من أكاذيب قوات الاحتلال المنهجية، كُشفت بعض الجرائم المروعة من قبل جنود للاحتلال، أصيبوا بنوبة صحو ضمير، وليس من قبل مسؤولين أو ساسة عراقيين.

ينشغل مسؤولو وزارة الصحة، بمناصبهم الموزعة ضمن المحاصصة الطائفية ـ السياسية، بتوقيع عقود مستشفيات لا تكتمل، واستيراد أدوية ومعدات وهمية

ولنأخذ الأمثلة التي خضّت العالم أخلاقيا. طقوس التعذيب والقتل في أبو غريب، عام 2004، من الذي كشفها؟ استخدام اليورانيوم المنضب والفسفور الأبيض ضد المقاومة في مدينة الفلوجة في 2004، من الذي كشفه؟ مجزرة حديثة في 2005، وحرق الطفلة عبير الجنابي وعائلتها بعد اغتصابها، عام 2006، من الذي كشفهما؟ مجرم الحرب إدوارد غالاغر، ضابط الصفّ في وحدة القوات الخاصة بالبحرية الأمريكية، من الذي كشفه؟ لم يكشف هذه الجرائم، التي تشكل قمة الجبل الجليدي المطمور، ساسة أو مسؤولون عراقيون، ولم يشر أي منهم اليها الا من باب اتهام الضحايا بالإرهاب مما يعني الحكم عليهم انهم بالموت.

تستدعي هذه المراجعة التساؤل عن ماهية المقياس الأخلاقي الذي يستند اليه المتحدثون الرسميون، وكيف التحقق من صحة تصريحاتهم، والوثوق بهم، عند مقارنتها بسجل صمتهم أو تواطئهم المستدام، إزاء جرائم يدينها العالم الإنساني، منذ عام 2003 وحتى اليوم؟ آخذين بنظر الاعتبار ان ما يمر به العراق ليس تاريخا سحيقا ليس بالإمكان التحقق من صحة وقائعه تاركا الناس متأرجحين بين هذه السردية وتلك. بمعنى أنها وقائع معاشة، يعرفها المواطن كل المعرفة. وفي عصر الصورة والفيديو والتواصل الاجتماعي والتوثيق والأرشفة اليومية من الصعب جدا إخفاء حقيقة الأحداث إلا إذا أراد المرء باختياره ولمصلحته الا يرى. ولعل أكاذيب مسؤولي النظام ومتحدثيه الرسميين عن الجرائم التي ارتكبت بحق المنتفضين في ساحات التحرير منذ تشرين/ أكتوبر 2019 وحتى الأيام الأخيرة، أفضل مثال عن الذين يختارون الا يروا، وإذا رأوا فبعين واحدة. ألم يقفوا اليوم بعد الآخر مصرحين بان قتل وجرح واختطاف آلاف المنتفضين، والموثقة بالصور والفيديوهات والفضائيات، مرتكبة من قبل «طرف ثالث» او «مجهولين»؟

ما ساعد على انخفاض الثقة بصدق وأخلاقية المتحدثين الرسميين، أيضا، سياسة تكميم أفواه الصحافيين إذا ما حدث ومس أحدهم عصبا حيا في جسد أحد المسؤولين الحكوميين أو قادة الميليشيات او من يتمتعون بالعصمة الدينية. فكان التخلص من الصحافيين الأجانب، واحدا من الخطوات الاولى لمنع اطلاع العالم الخارجي على ما يجري بالعراق، ثم تم التركيز على الإعلام العراقي المستقل ليحتل البلد، على مدى سنوات، أعلى قائمة الدول الأكثر خطرا للعمل الصحافي. وحين ظهرت صحافة المواطن ومارسها ناشطون، معظمهم من الشباب، امتدت إليهم ايادي ميليشيات الاختطاف والقتل، خاصة منذ انبثاق انتفاضة تشرين التي لاتزال مستمرة، وان بشكل محدود، بناء على قرار اتخذه المنتفضون حفاظا على حياة عموم المواطنين من انتشار وباء كورونا. وهو موقف ناضج يؤكد حرصهم على حياة الجميع، كما هو موقف العاملين في الجهاز الطبي، الذين يقومون بجهود جبارة لرعاية المصابين وعموم المواطنين، ضمن حدود الإمكانيات الفقيرة وظروف الإهمال التي يعيشها الجانب الصحي بانحدار متسارع منذ الاحتلال، والتي يتحمل مسؤوليتها ساسة العقود الوهمية، الى حد باتت فيه مستشفيات واحد من بلدان العالم الغنية، متهالكة تستجدي الأدوية والأجهزة والمعدات من المحسنين، بينما ينشغل مسؤولو وزارة الصحة، بمناصبهم الموزعة ضمن المحاصصة الطائفية ـ السياسية، بتوقيع عقود مستشفيات لا تكتمل، واستيراد أدوية ومعدات وهمية، معلنة بين الحين والآخر، عن انجاز «ضخم» لصالح المواطنين، كما فعلت منذ أيام، حين تباهت بتجهيز مركز للتبرع بالدم بكراسي عدد أربعة، مما دفع احد المواطنين الى ارسال تهنئة الى الوزارة، داعيا الله عز وجل ان تتمكن الوزارة من شراء مناضد شاي لتوضع امام الكراسي.

تفاصيل الفساد المعلب بالتضليل والاكاذيب، هي التي تدفع المواطن الى الشك بما يقدمه « الناطق الرسمي» من اهل بلده، ويفضل هضم وتداول الاخبار المقدمة اليه من خارج البلد. وهو موقف قد يبدو بسيطا الا انه بترجرجه خطر جدا ما لم يكن المواطن نفسه واعيا، وقادرا على الفصل بين العمل الحقيقي الذي تؤديه الهياكل الطبية مثلا والتضليل الإعلامي لنظام فاسد خاصة وان منع وكالة مثل «رويترز» سيؤدي الى تعزيز مصداقيتها وليس العكس.

كاتبة من العراق

 

 

 

هل يفهم العالم الآن

محنة الأسير الفلسطيني؟

هيفاء زنكنة

 

إذا كان فايروس كورونا قد فاجأ حكومات وسكان الدول الغربية بغزوه لبلدانهم، وما سببه من حصد للأرواح وخسارة اقتصادية وتفكيك التقارب المجتمعي، بالإضافة الى زرع القلق والخوف وعدم الاستقرار، جراء عدم معرفة ما سيجلبه الغد، والحرمان من الحياة اليومية العادية المألوفة لديهم، فان غزوه بلداننا لم يأت كمفاجأة بل كإضافة تراكمية الى ما يعيشه أهلنا من صنوف الغزو والاحتلال الأجنبي والاستبداد المحلي، وانعكاساتها حتى على الهواء والماء والتربة. توليفة الهيمنة على حياة المواطن باتت جزءا لا يتجزأ من وجوده في معظم البلدان العربية، فجاء الفايروس ليزيد من حجم المأساة واختزال حياة الانسان فيها الى صراع لا هوادة فيه من اجل البقاء.

وإذا كان فايروس كورونا قد مس كل البلدان العربية، مسببا الموت أينما حّلَ، بأعداد متفاوتة، وحسب قدرة كل بلد على الدفاع عن نفسه، فإن فلسطين المحتلة، بأسراها وغَزَتها (غزة السجن الأكبر في العالم)، تبقى الأكثر هشاشة بين كل البلدان، وان بدا ظاهريا غير ذلك، في ظل الترويج الدعائي الصهيوني، وتهافت عدد من الحكومات العربية على طمس القضية الفلسطينية.

في فلسطين المحتلة، يتعاون فايروس كورونا مع سلطة الاحتلال العنصرية على حرمان الفلسطينيين مما يمدهم بقوة الصمود والتضحية والبقاء، بعد محاولاتها في تدميره عبر الاستيطان والتهويد والضمّ والحصار. ويتزايد تأثير الفايروس بشكل مضاعف على الأسرى الذين وصل عددهم، نهاية شهر آذار 2020، إلى ما يقارب 5000 أسير ومعتقل، من بينهم 432 معتقلاً إدارياً، و41 أسيرة، و7 نواب في المجلس التشريعي، و183 طفلاً منهم 20 تحت 16 عاما، حسب «منظمة الضمير». ولا تزال سلطات الاحتلال مستمرة في اعتقال الفلسطينيين وزجّهم في مراكز التوقيف والتحقيق والسجون، التي تفتقر للحد الأدنى من متطلبات الحياة الإنسانية. حيث اعتقلت منذ بداية انتشار الوباء ما يقارب 357 معتقلاً ومعتقلة منهم 48 طفلا و4 نساء، في ذات الوقت الذي تقوم فيه عديد الدول بأطلاق سراح السجناء تفاديا لانتشار الفايروس بينهم.

وكأن انعكاس معاناة الأسرى والأسيرات وظروفهم المعيشية والصحية القاسية، خاصة المرضى منهم، على أسرهم ليس كافيا، قامت سلطات الاحتلال، بعد تفشي الفايروس، باتخاذ اجراءاتٍ تمس الأسرى والمعتقلين بحجة مواجهة الفايروس، حيث أعلنت العمل بنظام الطوارئ، الذي يتضمن إلغاء زيارات عائلات الأسرى وزيارات المحامين.

عن هذه القيود الإضافية كتبت المحامية فدوى البرغوثي، زوجة الأسير القيادي مروان البرغوثي، الذي يقضي عامه الـ(19) في سجون الاحتلال: «بعد زيارتي التي انتظرتها ثلاث سنوات، وسُعدت باللقاء الذي ساعدني على تجميع الصورة والملامح من جديد، بدأت أُحضر نفسي للزيارة الثانية. قبلها بأيام قليلة بلغنا الصليب الاحمر بوقف كافة الزيارات للسجون، لأعود أحسب الأيام من جديد لزيارة قادمة حين تسمح لنا كورونا».

في فلسطين المحتلة، يتعاون فايروس كورونا مع سلطة الاحتلال العنصرية على حرمان الفلسطينيين مما يمدهم بقوة الصمود والتضحية والبقاء، بعد محاولاتها في تدميره عبر الاستيطان والتهويد والضمّ والحصار

وفي ندائها الموجه الى العالم الذي ترى انه ذاق، أخيرا، طعم الحجر ومعنى العزل لعدة أسابيع، بسبب الفايروس، كتبت الاسيرة المحررة أمان نافع، زوجة الأسير نائل البرغوثي، الذي أمضى في الأسر 40 عاما « الآن أصبح العالم كله يستطيع ان يتخيل كيف يعيش الأسير الفلسطيني… ولكن من المستحيل ان يتخيل كيف استطاع أن يتحمل نائل البرغوثي 40 عاما داخل السجن؟» وكان نائل قد اعتقل للمرة الأولى عام 1978، وعمره 19 عاما، وحُكم عليه بالسجن المؤبد و18 عاما. وأفرج عنه عام 2011، ضمن صفقة «وفاء الأحرار» وتزوج من المحررة أمان نافع، إلى أن أعادت سلطات الاحتلال اعتقاله مجدداً في 2014، وأعادت حُكمه السابق، إلى جانب العشرات من محرري الصفقة الذين أُعيدوا إلى أحكامهم السابقة وغالبيتهم يقضون أحكامًا بالسّجن المؤبد.

يمنحنا الأسيران مروان ونائل البرغوثي، مع كل الأسرى والأسيرات، نموذجا لنضال شعب مستمر، على الرغم من التكلفة العالية، لإنهاء أشكال هيمنة تاريخية كالاحتلال والاستعمار الاستيطاني والعنصرية والتمييز، باتت تُقدم الى الأجيال الجديدة بأسماء تمّوه مضمونها لاختراق الشعوب وتضليلها. ليبقى صوت الأسرى جامعا موحدا لقضايا تعني البلدان العربية والعالم كله. صوت يحمل ردا لمن يبرر الصمت حول فلسطين بأن كثرة المصائب وتعددها في البلدان العربية من العراق الى سوريا واليمن وليبيا، خففت من اهتمامهم ومتابعتهم الهّم الفلسطيني.

ردا على ذلك أقول، انني حين تحدثت مع الأسير نائل البرغوثي، خفية، في مكالمة سريعة، عام 2015، لم يتحدث عن وضعه الخاص داخل السجن قرابة الأربعين عاما، أو عما تعرضت له عائلته من تنكيل واعتقالات وتهديم منزلين للعائلة أو حتى فلسطين، بل كان سؤاله الأول عن العراق. كمن يسأل عن صديق طفولة طال غيابه، قال: كيف العراق؟

وإذا كان الأسيران مروان ونائل محكومين بقيود الاحتلال حول التواصل مع العالم الخارجي، فان فدوى البرغوثي وأمان نافع، كما بقية ذوي الأسرى والاسيرات، لم تتوقفا يوما عن محاولة إيصال أصوات الأسرى، كلهم، الى العالم الخارجي. تقول فدوى «إن التضامن الدولي مع الشعب الفلسطيني وحقوقه ونضاله هو ضرورة في سياق المعركة الكبرى ضد مختلف أشكال الاستعمار»، بينما تنشط أمان، في ظل المخاوف من الفايروس الوبائي، ضمن حملة «الحرية لكل الأسرى»، قائلة: «لا يوجد أسير صغير أو كبير، على الاحتلال أن يطلق سراح كل الأسرى، لأن حياتهم أصبحت معرضه للخطر بسبب نسبة الإصابة العالية في صفوفهم في أراضينا المحتلة وأكثر السجون موجودة في أراضي 48.

نطالب حكومتنا الضغط بهذا الاتجاه والتواصل مع العالم للضغط على حكومة الاحتلال للإفراج عنهم جميعا.

فكيف بأسير لا يأكل طعاما صحيا او لا يرى الشمس ولا الهواء ان يقاوم هذا المرض؟ كل الأسرى الفلسطينيين في خطر. أنقذوهم قبل ان يقتلوهم».

يواجه الأسير اليوم خطر السجان/ الجلاد والوباء، وتعيش كل عائلات الأسرى التي ينتظر بعضها حرية أبنائهم منذ عقود، معاناة صعبة وتجارب قاسية، كما تؤكد فدوى برغوثي أن الشعب الفلسطيني وفيّ لمناضليه وأسراه وشهدائه وتضحيات أبنائه، وأن نضاله مستمر مهما بلغت المعاناة والتضحيات حتى نيل كامل حقوقه والعيش بكرامة وحرية، وهي غاية ستكون احتمالات تحقيقها أكبر ، لو شارك العالم ، في نزع فتيل استهتار وعنجهية نظام الاحتلال العنصري ، لا حماية للفلسطينيين فقط بل حفظا للسلام العالمي، وكما قال مروان البرغوثي اثناء محاكمته «إن اليوم الأخير في عمر الاحتلال هو اليوم الأول للسلام».

كاتبة من العراق

 

 

المثقف والاحتلال:

من النازية إلى «العراق الجديد»

هيفاء زنكنة

 

لايزال هناك من يعتبر احتلال بلده وجهة نظر تستحق النقاش. ولايزال النقاش دائرا بين أوساط المثقفين، بعد مرور 17عاما على غزو العراق واحتلاله، وما سببه من خراب مباشر وغير مباشر، حول استخدام او اختيار مصطلح أو نعت ملائم يصفون به ذلك الحدث الجلل. بهذا التيه يقف المثقفون لوحدهم، منعزلين عن بقية أبناء الشعب، وحتى عن ساسة النظام الذين جلبهم الاحتلال معه وقام بتنصيبهم كحكام بالنيابة، الذين باتوا يستخدمون مفردة «الاحتلال». بل ويذهبون، أحيانا، ابعد من ذلك، متغنين، بالمقاومة، أما بعد انتفاء الحاجة إليهم أو بعد عثورهم على « رب عمل» آخر، يتكفل بحمايتهم، ويمدهم بالعقيدة اللازمة لتبرير الاحتلال وتعاونهم معه فيما يُعرف قانونيا وأخلاقيا بالجريمة الأكبر.

احتلت الكتابات عن ذكرى الغزو في عام 2003، مساحات نافست ما يُكتب عن فايروس كورونا على صفحات التواصل الاجتماعي خاصة من قبل المثقفين. يُلاحظ عند مراجعة ما كتب، وجود انقسام حقيقي بين مؤيدي الاحتلال ومناهضيه. لم تخفت حدته على الرغم من مرور 17 عاما مثقلة بالخسارة البشرية والخراب والفساد والطائفية وخطر تقسيم البلد المسلط على الرؤوس مثل السيف. يمتد الانقسام عميقا ويطفو على السطح، بمفردات ومصطلحات، حسب الانتماء الحزبي، أكثر من غيره. الا ان ما يجمع الكل، في مرحلة التخبط السياسي، وتحول البلد الى ساحة اقتتال بين احتلالين، وانهيار الساسة الأخلاقي والديني المنعكس على شرائح مستفيدة من الاتباع، هو إصرار المثقفين على كونهم يمثلون وعي الامة، وان امتلاكهم عصا «الحقيقة»، يمنحهم عصمة اللاخطأ، و القدرة على الرؤية أبعد من بقية الناس. اذ قلما نرى مثقفا يعتذر عن مواقف سياسية له أدت الى ارتكاب جرائم ضد أبناء شعبه. فهو محق دائما وهو قادر على التبرير والمحاججة، وإذا ما باتت الحقيقة واضحة وضوح الشمس بالتوثيق والشهادات الحية ووجد نفسه محاطا بآخرين يمتلكون شجاعة الاعتراف بالخطأ او الجريمة، يلتفت حينئذ ليلقي اللوم على الشعب « الجاهل والمتخلف». الأمثلة كثيرة في هذا المجال، لعل أكثرها وضوحا هو قيام مثقف بإقناع إدارة بوش بان الشعب سيستقبل قوات الاحتلال بالأزهار والحلوى، كما منح المحتل الانطباع بانه، وحفنة عملت معه، يمثلون صوت الشعب، وان الشعب سيلتذ بالاستماع الى قصف عاصمته بغداد، كما يلتذ بسماع الموسيقى.

من هنا، من شيزوفرينيا المظلومية والرغبة المرضية بالانتقام، ومن الخلط الانتقائي (الانتقائي الممنهج وليس الغبي) ما بين القضايا وأدعياء القضايا، حّشَد بعض المثقفين أنفسهم (ولايزالون) لتسويق الغزو بمصطلحات تتماشى مع حاجة السوق، مهما كانت متناقضة المعنى، مثل ان الحل الوحيد لإنقاذ البلد من النظام الدكتاتوري هو القوات الأمريكية ـ البريطانية، أو التساؤل ببراءة مصطنعة: ما هو الحل اذن، لقد حاولنا وفشلنا… ما هو الحل؟

لايزال المثقف العراقي، يُنشد « التغيير والتحرير»، عاجزا عن لفظ كلمة الاحتلال، بعد مرور 17 عاما عليه. فهل اختلف مفهوم «الاحتلال» حقا أم أن دور المثقف في مجتمع يعيش حالة حرب وحشية مع احتلالين متصارعين، هو صراع مع نفسه؟

ومع الغزو ولترسيخ الاحتلال ومؤسساته، استحدثت أجهزة الإعلام الدعائي ـ العسكري ـ السيكولوجي، المصطلحات المطلوبة للتعميم وغسل أدمغة المواطنين عن طريق التكرار المستدام، مع مراعاة الاختلاف في الجمهور المتلقي وكيفية السيطرة على طريقة تفكيره وجعله يصدق ما يقال له. فما استحدثته الإدارة الامريكية لتحشيد الرأي العام الأمريكي مختلف عما أستحدث للتأثير على الشعب العراقي. ففي أمريكا وبريطانيا، انصب التحشيد الدعائي الإعلامي على اثارة الخوف والاحساس بالتهديد من النظام العراقي الذي يمتلك « أسلحة دمار شامل» وبإمكانها افناء بريطانيا، مثلا، خلال 45 دقيقة فقط، حسب خطب رئيس الوزراء البريطاني توني بلير.

وتطلبت مخاطبة الشعب العراقي مفردات تحمل مضامين مختلفة عن تلك الموجهة الى الأمريكيين. صارت اللغة محّملة برسائل أخرى معدة للاستهلاك المحلي: «التحرير» أو «التغيير» أو «الاستبدال» أو «حرب العراق». أما احتلال العاصمة التاريخية بغداد، فقد استبدل الاسم/ الرمز المرتبط بأذهان العرب والمسلمين بالعلم والثقافة والحضارة وكل ما يمثل عزة وكبرياء واعتداد الشعب، ب» سقوط بغداد». تدريجيا، لم يعد التأثر بهذه المصطلحات يقتصر على عموم الناس، بل تتسلل حتى الى عقول بعض المثقفين المناهضين للاحتلال، ليقوموا بتكرارها، بالنيابة، بلا تفكير، وبالإمكان ملاحظته في الكتابات عن ذكرى الغزو.

ان انقسام المثقفين العراقيين حول احتلال بلدهم ليس فريدا من نوعه. فالمثقفون الفرنسيون لايزالون يراجعون الوثائق والشهادات حول الاحتلال النازي لفرنسا ودور المقاومة والمتعاونين مع الاحتلال، حتى اليوم وعلى الرغم من مرور 100 سنة على الاحتلال وتقسيم البلد الى ثلاثة أجزاء وتنصيب حكومة فيشي « الفرنسية الوطنية» المتعاونة مع الاحتلال النازي ضد المقاومة.

وتمنحنا مراجعة دور المثقف الفرنسي، في جمهورية فيشي، مقاربة لفهم أفضل حول نقاط مهمة من بينها: كيفية التعامل مع مسؤولي النظام الحاكم الخاضع بدوره لسلطة احتلال أو متعاونا معها، ضد قوى الشعب المقاومة، وما هي طبيعة هذه القوى ونسبتها بالمقارنة مع نسبة « المتعاونين» مع المحتل؟ فقد كان في جمهورية فيشي مستويات تشابه متعددة وبدرجات مختلفة مع ما يجري في العراق منذ احتلاله. فكما فرضت أمريكا سياستها على الحكومات العراقية المتعاقبة وفق الاتفاقية الأمنية والاتفاقية الاستراتيجية تعاونت حكومة فيشي، برئاسة المارشال بيتان، مع الألمان في كافة المجالات وعلى رأسها الأمنية وتوفير الأيدي العاملة. وإذا كانت الطائفية قد أثبتت فائدتها للساسة العراقيين خاصة حول ظهور المهدي المنتظر لإحلال العدل، فان جمهورية فيشي وجدت في الدين المسيحي أداة لأقناع الناس بان المعاناة، كما المسيح، ستجلب العظمة للامة.

بالنسبة الى المثقفين، ارتبط البعض، بدرجات متفاوتة، بمؤسسات فيشي والمتعاونين مع المحتلين النازيين في باريس، لأسباب عديدة كالعنصرية والانتهازية والكراهية للشيوعية. كان من بينهم المعماري المشهور لو كوربوزييه، ومدير المسرح جان فيلار، والروائي لويس فرديناند سيلين.

ولعل نقطة الاختلاف الجوهرية التي تستحق الوقوف عندها في مجال المقارنة بين مواقف المثقفين الفرنسيين والعراقيين تحت الاحتلال، هي ان عديد المثقفين الفرنسيين الذين ارتبطوا بحكومة فيشي وتعاونوا مع الاحتلال النازي غّيروا مواقفهم بل وانضم عدد منهم للقتال ضمن صفوف المقاومة، على الرغم من ان عمر الاحتلال والجمهورية لم يتجاوز الأربع سنوات، بينما لايزال المثقف العراقي، يُنشد « التغيير والتحرير»، عاجزا عن لفظ كلمة الاحتلال، بعد مرور 17 عاما عليه. فهل اختلف مفهوم « الاحتلال» حقا أم ان دور المثقف في مجتمع يعيش حالة حرب وحشية مع احتلالين متصارعين، هو صراع مع نفسه؟

كاتبة من العراق

 

 

فلوجة المقاومة

لماذا يخشون ذكراها؟

هيفاء زنكنة

 

في الرابع من نيسان/ ابريل 2004، مرت ذكرى الهجوم الوحشي الذي شنه المحتل الأمريكي على مدينة الفلوجة، الواقعة على نهر الفرات، اقل من 60 كيلومترا غرب بغداد، على موقع «هاشمية الانبار»، عاصمة العباسيين الأولى في القرن الثامن، قبل بناء بغداد. أُطلق على الهجوم اسم «معركة الفلوجة الأولى ». شارك فيها خمسة آلاف جندي من المارينز والمرتزقة. استخدمت فيها قوات الاحتلال أسلحة محرّمة دوليًا ضد أبناء المدينة، والتي انتهت بفشل الهجوم وانسحاب قوات الاحتلال. كان انسحابا مؤقتا. لتشهد الفلوجة هجوما آخر، في تشرين الثاني/ نوفمبر من العام نفسه، وصفه أحد قادة جيش الاحتلال الأمريكي بانه «الأكبر منذ حرب فيتنام». تم الهجوم بموافقة رئيس الوزراء أياد علاوي، الذي كان الحاكم العسكري الأمريكي بول بريمر قد عينه يوم قرر مغادرة العراق.

تم خلال الهجومين، تهديم 70 بالمئة من مدينة الفلوجة، وقتل آلاف المدنيين، الى حد عجز فيه الأحياء عن دفن القتلى، فبقيت الجثث في الشوارع عدة أيام، وتم تحويل ملعب لكرة القدم، فيما بعد، الى مقبرة، ودفن البعض، في لحظات الأسى المطلق، احباءهم في حديقة الدار. احدى هذه اللحظات سجلتها الكاتبة نسرين ملك في قصيدة « الأب الذي دفن ابنه في حديقة الدار»، مخاطبة فيها الاب بوجع ينغرز عميقا في القلب: ارفع جسد ابنك الدافئ واصرخ كما لم تصرخ من قبل واسألهم ما الذي فعله ابنك؟… اجلس يوميا بجانب القبر، ابكِ لخسارتك وخسارتنا وأسالهم ما الذي فعله ابنك؟».

وإذا كانت قيادة الاحتلال، يومها، قد أصدرت اوامرها الى الجنود، ملخصة سياستها بجملة واحدة هي « اقتلوا كل ما يتحرك»، حسب شهادة عديدين منهم فيما بعد، وكان من جرائها قتل آلاف المدنيين، فإن جريمتها الأكبر، هي حين استخدمت اليورانيوم المنضب والفسفور الأبيض اللذين تم تشبيه آثارهما بما يعاني منه سكان مدينة هيروشيما اليابانية، حتى اليوم، منذ أن القى الجيش الأمريكي القنبلة الذرية عليهم. واثبتت دراسات علمية عديدة تأثير اليورانيوم المنضب والفسفور الأبيض الموثق بارتفاع ملحوظ في مستويات التشوهات الخلقية عند الولادة، جنبا إلى جنب مع ارتفاع معدلات الاصابة بالسرطان وظهور أمراض وتغيرات غير عادية في نسبة الجنس عند الولادة.

لماذا لا يراد من العراقيين والعالم تذكر الفلوجة؟ حاليا، تتعاون عدة جهات، تبدو مختلفة او متنازعة ظاهريا، وهي الاحتلال الأمريكي والمتعاونون معه وساسة الولاء الإيراني وميليشياتهم، على طمس ذكرى مقاومة الفلوجة وما لحق بها من تدمير بشري وتخريب عمراني، بعيد المدى. بالنسبة الى المحتل الأمريكي، ليس من مصلحته الإشارة الى ما حدث بالفلوجة، اذ لا تزال قواته موجودة في عدة قواعد عسكرية متناثرة في ارجاء الوطن من شماله الى جنوبه «بناء على طلب الحكومة العراقية لمحاربة الإرهاب»، وكان ولا يزال من المستحيل على قوات الاحتلال الاعتراف بمقاومة المدينة ضدها لئلا تكون مثالا يحتذى، عراقيا وعربيا. فقد يحطم المثال السردية التي بناها الغزاة، على مدى عقود، حول حاجة العراقيين إليهم كمحررين، والوعود التي قُدمت إليهم من قبل عراقيين متعاونين معهم، بأنهم سيتم استقبالهم بالزهور والحلوى بالإضافة الى استقتال قوات الاحتلال في احراز نصر يمحو من ذاكرة الشعوب هزيمة القوات الامريكية في حربها ضد فيتنام. هناك، أيضا، السقوط المهين لما يُسمى « ديمقراطية « العراق الجديد حسب الوصفة الامريكية.

صمت المثقف إزاء فاجعة أو حدث يمس الشعب، مهما كان، يعكس وجوده هو وكينونته ودوره ومدى استحقاقه لحمل سمة المثقف. وانتقائية الموقف الإنساني والنضالي سيؤدي، حتما، الى كسر بوصلته الأخلاقية

أما ساسة النظام، فانهم يتعامون عن الذكرى، بقوة، لأنهم كانوا ولايزالون يستنشقون هواء وجودهم عبر المحتل الأمريكي وهم مستعدون لاتهام الشعب كله بالإرهاب إرضاء لسادتهم، كما انهم يرغبون بمحو ذكرى المقاومة التي تستحضر عار تعاونهم واستخذائهم، اذ قلما يوجد من يرغب ببقاء من يذكره بحقيقته. لذلك يفضلون الهاء الشعب بإقامة مناسبات واحتفالات وطقوس تتماشى مع مصالحهم وسياستهم وتعمل، في الوقت نفسه، على تخدير الناس. مع المتعاونين مع المحتل الأمريكي، يقف الساسة من أتباع إيران. متفقين في اتهامهم المقاومة بالإرهاب لتبرير وحشية الميليشيات، متمثلة بالحشد الشعبي، وممارساتها اللا إنسانية ضد كل من يمثل المقاومة وعلى رأسهم اهل الفلوجة، الامر الذي دفع الكثيرين منهم، في شهادات موثقة لمنظمات حقوقية دولية، الى القول بأن « الحشد الشعبي هو الوجه الآخر لداعش، انهما وجهان لعملة واحدة».

بالمقابل، في ذاكرة العالم، لدى المؤمنين بحق الشعوب في المقاومة، في الحياة والحرية والكرامة، أصبحت الفلوجة رديف الغورنيكا، كمكان ولوحة. المكان هو عاصمة الباسك التي قاومت الديكتاتور الإسباني فرانكو، وحين فشل بإخضاعها طلب من المانيا النازية قصفها، فقُصفت يوم 26 نيسان/ ابريل، عام 1937. اللوحة هي «غورنيكا» للفنان الاسباني بيكاسو الذي كتب عنها مذكرا الالمان بجريمتهم: « عندما كان الجنود الألمان يأتون إلى الاستوديو الخاص بي، بباريس، وينظرون إلى لوحاتي الأولية عن الغورنيكا، كانوا يسألون «هل فعلت ذلك؟». كنت أجيب « كلا، أنتم من فعل ذلك».

موضحا فيما بعد سبب رسمه الغورنيكا « ليس الرسم ديكورا لتزيين الشقق. انه سلاح هجوم ودفاع ضد العدو«. لذلك، ساهم فنانون عالميون وكتاب ومسرحيون ومفكرون، من فنلندا الى أمريكا اللاتينية الى البلدان الاستعمارية تاريخيا كبريطانيا وفرنسا وإيطاليا الى مركز الامبريالية أمريكا، في تسخير ادواتهم الإبداعية والفكرية لفضح ما أطلقوا عليه « جريمة أمريكا» و«أمريكا تتصرف كالنازيين»، دفاعا عن “الفلوجة غورنيكا الجديدة» و«الفلوجة غورنيكا القرن الواحد والعشرين». آلاف القصائد كتبت (هناك موقع الكتروني متخصص بذلك) واللوحات رُسمت تستنكر وتصرخ وتحتج. متظاهرون في بلدان الاحتلال يعتصمون وينامون في الشوارع احتجاجا.

في العراق، بعيدا عن المحتل والساسة الفاسدين والمليشيات الاجرامية، تمر ذكرى غورنيكا القرن الواحد والعشرين، في العراق، بين المثقفين والإعلاميين، باستثناء قلة، بصمت مخيف. وهم جلوس يرثون أنفسهم، يكتبون حكايات ماضيهم البطولي، أو يتصفحون سيرة «الأئمة الصالحين»، لئلا يروا ما يمر أمامهم. لئلا يروا مسيرة أجنة محكوم عليها بالإعدام قبل ولادتها، وأطفال محكوم عليهم بالتشوه مدى الحياة، وأمهات شابات حُكم عليهن بارتداء السواد مدى الحياة. ان صمت المثقف إزاء فاجعة أو حدث يمس الشعب، مهما كان، يعكس وجوده هو وكينونته ودوره ومدى استحقاقه لحمل سمة المثقف. وانتقائية الموقف الإنساني والنضالي سيؤدي، حتما، الى كسر بوصلته الأخلاقية. فلا غرابة ان يكون صمت المثقف، إزاء جرائم الاحتلال، مخيفا أكثر من نازية المحتل.

كاتبة من العراق

 

 

لمكافحة الفايروس… حجر

حسابات الفاسدين في العراق!

هيفاء زنكنة

 

إذا ما توقف العالم، الآن، عن متابعة أخبار فايروس الكورونا وانتشاره وجداول أعداد المصابين به واحتمالات الإصابة به، أينما يكون المرء على وجه الأرض، ما الذي سيراه؟ ما الذي سيراه العراقيون، مثلا، بعد ان بشّر أدعياء الدين المواطنين بالحصول على مكان في الجنة، بجانب الأئمة الصالحين، حين يواصلون زيارة مراقد الأئمة وأداء الطقوس الجماعية، بل وأشاعوا بين الناس ان زيارة الامام الكاظم هي الأفضل للمرضى المصابين بفايروس كورونا لأن زيارة الامام، هي في الحقيقة، لم تعد مجرد زيارة دينية بل باتت تُسمى « زيارة الطبيب»؟

أذا ما توقف العالم عن النظر في مرآة الكورونا، المضببة بالخوف والترويع، ورؤية نفسه فقط، سيرى ان هناك عالما آخر لاتزال أحداثه المأساوية، سارية المفعول، كما هي قبل مجيء الفايروس، وستصبح أسوأ بكثير أثناء انتشاره، والاحتمال كبير بانها ستستمر، بعد التخلص منه.

ففي فلسطين، لا تزال الحياة كما كانت، سجينة الاحتلال العنصري، وتعاني غزة من انقطاع التيار الكهربائي، ومياه الشرب غير الآمنة، ولا يوجد فيها سوى 60 سريراً للعناية المركزة في الإقليم، 70 بالمائة منها قيد الاستخدام.

في سوريا التي بات من الصعب تبين ملامحها، ينتشر الخراب و11 مليون نازح ومهجر، وفي اليمن، نزح ما يقرب من 3.6 مليون شخص، يعيش أغلبهم في مخيمات مؤقتة، وفي ليبيا، يعيش 900 ألف ليبي في الملاجئ والمراكز المؤقتة وهم بحاجة إلى المساعدة الإنسانية.

في العراق، أيضا، الزمن متوقف، بالنسبة الى عموم الشعب بمنتفضيه المستمرين بمطالبتهم بالوطن، وسُذَجِه المتباكين على الماضي السحيق، ولكن بشكل خاص بالنسبة الى النازحين والمُهَجّرين والمعتقلين. انهم المَنسّيون المهددون أكثر من غيرهم قبل انتشار الكورونا وأثنائها.

حيث سُجلت أول حالة إصابة بالفيروس في مخيم للنازحين بدهوك، في كردستان، وتتزايد المخاوف بصدد النازحين المعرضة حياتهم للخطر أصلاً بسبب نقص الغذاء والمياه النظيفة ومتطلبات السلامة الصحية والتعرض للطقس البارد، وإصابة الأطفال والنساء بأمراض جلدية ومزمنة.

فبعد مرور عامين على اعلان النظام الانتصار على تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، لايزال مليون ونصف مواطن، في مدينة الموصل، الواقعة شمال العراق، لوحدها، غير قادرين على العودة الى بيوتهم، وذلك لعدم قيام الحكومة بإعادة الاعمار وتهيئة المساكن التي هُدمت اثناء الاقتتال مع قوات داعش والقصف الجوي من قبل قوات التحالف بقيادة أمريكا، وغالبًا ما يكون استئجار أو شراء ممتلكات جديدة باهظ الثمن، بالإضافة الى انعدام فرص العمل، والخوف من الانتقام بسبب الاتهام بالإرهاب. هذه الأسباب دفعت سكان المنازل المدمرة وعددها 138000، الى البقاء في مخيمات نينوى الخمسة.

بإمكان المجتمع الدولي أن يفرض الحجر الاقتصادي على الحسابات المالية واستثمارات ساسة الأنظمة الفاسدة ، كالعراق، الموجودة خارج البلد، وتوفيرها لمجالس طبية تمثل شعوب العالم، تستخدمها لشراء الأجهزة الطبية الضرورية لشفاء المواطنين المصابين المعرضين للموت، في ظل ادعاء الساسة الفاسدين عدم توفر الإمكانات المادية

وإذا كان النظام يتحجج، حاليا، بانشغاله بحماية المواطنين من الفايروس، فانه لم يفعل الكثير لمساعدة وحماية المواطنين قبله، بل اتبع سياسة جعلتهم يفضلون العودة الى المخيمات بعد اجلائهم قسريا منها، وفق «القرار 16» الذي لم ينشر ولم يمرر عبر البرلمان. وحدث واطلعت عليه منظمة « هيومان رايتس ووتش» الحقوقية.

شملت « إعادة التهجير»، ما يزيد على 37 ألف شخص خلال ستة أشهر في العام الماضي، معظمهم من النساء والأطفال، مما يعني أنهم حاولوا العودة إلى مناطقهم لكنهم غادروها، مرة أخرى، لأنهم وجدوا أن الحياة هناك غير ممكنة اطلاقا، على الرغم من ان حياة المخيمات نفسها تفتقر الى الخدمات الأساسية وتزيد من التعرض للمخاطر الأمنية، وتفاقم الوصمة الاجتماعية وتبادل الاتهامات زورا بدعم أو الانضمام إلى داعش لتسوية الحسابات أو الانتقام من الأعداء والمنافسين الشخصيين.

وتعاني النساء، بشكل خاص، من مشاكل التحرش الجنسي وعدم الحصول على الأوراق والوثائق الرسمية للأطفال، حسب المجلس النرويجي للاجئين، الذي وثّق وجود حوالي 45000 طفل في المخيمات، في جميع أنحاء العراق، بلا شهادات ميلاد أو وثائق مدنية أخرى، مما يعرضهم لخطر أن يُحكم عليهم بالسجن مدى الحياة على هامش المجتمع، اذ لا يمكنهم الزواج أو العمل مستقبلا، وقد يحصلون على علاج طبي بسيط، ولكن ليس اجراء عملية جراحية.

أما بالنسبة الى السجناء والمعتقلين، فقد أطلق « مركز جنيف الدولي للعدالة» نداء الى المجتمع الدولي للعمل من أجل حماية المعتقلين، والإفراج عن السجناء الذين يستند سجنهم على اعتباراتٍ سياسية أو طائفية. اذ أدت الاعتقالات التعسفية، والتطبيق التمييزي لقانون العقوبات، دون محاكمة عادلة، إلى اكتظاظ السجون والظروف اللاإنسانية، وعدم وجود رعاية طبية، مما يوّفر البيئة المثالية التي يزدهر فيها الفايروس ويُسهل انتشاره بين السجناء من ناحية، وبين السجناء والحرّاس من جهة أخرى. وأوضح المركز انّه يتلقى بانتظام أدلّة تُظهر أن العديد من السجناء يموتون بسبب هذه الظروف.

وأوضح انّه من آلاف حالات الاختطاف التي راجعها المركز، فانّ اختطاف معظم الضحايا يجري أثناء طريقهم إلى العمل، أو المدرسة، أو إلى مراكز التسوّق. وتشترك الشرطة أو قوات الأمن، مع الميليشيات بتلك الاعتقالات. وقد حذر المركز من نفاد الوقت ووجوب حماية سكّان العراق، مناشدا الأمم المتحدة والمجتمع الدولي عموماً للضغط على الحكومة العراقية من أجل إطلاق سراح السجناء السياسيين والمعتقلين لأسباب طائفية، وأولئك المحكومين احكاماً خفيفة.

ان مسؤولية حماية حياة المواطنين، جميعا بلا استثناء، تقع على عاتق الحكومة، مهما كانت الظروف. وتمتد المسؤولية في حالات معينة كالتي يعيشها العالم، حاليا، الى كل الحكومات والأنظمة.

بإمكان المجتمع الدولي، على الرغم من مواقفه المسيئة أو عدم جدواه بالنسبة الى شعوبنا، أن يتخذ مسارا آخر جراء عمله على حماية مواطنيه عبر حماية لمواطني دول أخرى، عن طريق تبادل المعطيات والتجارب وآخر المستجدات العلمية بالإضافة الى ارسال الأطباء والمواد والأجهزة الضرورية لأنقاذ الحياة الى البلدان التي تعاني من الشحة.

بإمكان المجتمع الدولي أن يفرض الحجر الاقتصادي على الحسابات المالية واستثمارات ساسة الأنظمة الفاسدة ، كالعراق، الموجودة خارج البلد، وتوفيرها لمجالس طبية تمثل شعوب العالم، تستخدمها لشراء الأجهزة الطبية الضرورية لشفاء المواطنين المصابين المعرضين للموت، في ظل ادعاء الساسة الفاسدين عدم توفر الإمكانات المادية.

كاتبة من العراق

 

 

إعادة انتشار الانتفاضة

العراقية وأشكال المقاومة الجديدة

هيفاء زنكنة

 

ونحن نشاهد غزو فيروس كورونا متناهي الصغر وسرعة انتشاره في أرجاء الكرة الأرضية، وهشاشة مقاومة الدول العظمى أمام اجتياحه المتسارع، ومع ازدياد أعراض الخوف، في بلداننا، من عدم إمكانية احتوائه، وفرض أيام العزلة الاجبارية وما تلاه من حجر على مستوى وطني، يجد العالم نفسه محاصراً إزاء أسئلة يصب بعضها في محيط الشائعات والتضخيم، بينما يمس البعض الآخر أمورا أعمق بكثير، لم يجد المرء نفسه مجبرا على مواجهتها أو حتى التفكير بها، سابقا، ما لم يكن معنيا بجوهر الحياة والإنسان أو مضطرا لمواجهة وباء عالمي.

تثير جائحة كورونا تساؤلات كثيرة لدى الجميع في أرجاء العالم، لعل أهمها خاصة في بلداننا، عن علاقة الدين بالعلم، حيث ينمو الفرد وهو يحمل في وعيه الداخلي، أي اللاوعي، مهما ادعى غير ذلك، درجات من القدرية والإيمان بتوليفة المعتقدات الدينية غير القابلة للنقاش، المعجونة، غالبا، بالأساطير والخرافات، حتى لم يعد، لفرط تداخلها، بالإمكان التمييز بينها. ولهذا الوعي اللاواعي للأفراد انعكاسات على مستوى الوعي الثقافي المجتمعي، والسلوك العام، والاحساس بالمسؤولية الاجتماعية، عموما، في ظل ضعف المستوى العلمي والاعتماد على الخارج في مجالات البحوث والتكنولوجيا. وتمتد التساؤلات لتشمل دور الفرد المتضائل أكثر فأكثر في مواقع اتخاذ القرار والمستوى العقلي للمسؤولين الحكوميين، وقدرتهم على خدمة عموم الشعب وليس الاتباع فقط، بالإضافة إلى مدى إمكانية غير الفاسدين القيام بمبادرات فردية ومجتمعية في جو يسوده القمع السلطوي والذعر من انتشار الوباء في آن واحد.

يشكل الوضع العراقي الحالي، باستمراريته منذ غزوه عام 2003، وبعد مرور 17 عاما على تسويقه كنموذج شرق أوسطي للديمقراطية الانجلو أمريكية، نموذجا مذهلا في تخبط نظامه الفاسد وسياسته الطائفية التي جعلت المواطن، مثل محكوم بزنزانة، فيها كوة واحدة، تطل على جدار عال، وينام ويصحو على وقع خطاب يخبره بأن الزنزانة والجدار هما لحمايته من « الآخر»، أي ابن بلده وأهله. انعكاسات هذه العزلة العقلية نراها بوضوح مخيف والبلد بمواجهة عدو حقيقي يستهدف كل الشعب.

ففي خضم التخويف وإشاعة الترويع من المواطن «الآخر»، رعى النظام نمو شرائح مجتمعية، استفاد من سذاجتها حينا وحاجتها إليه وضمان امتيازاتها حينا آخر، في علاقة تجذرت لتبرز على السطح بشكل طقوس وبُدع، تستمر على مدى العام، مسّوغة أعلى درجات النهب والفساد وانعدام الخدمات الأساسية وأهمها التعليم والصحة. طقوس تشغل الناس وتلتهم الأيام والسنين، ومعها القدرة على التفكير السليم، فازداد عدد الأتباع المنصاعين لأوامر أو توجيهات أو إرشادات، وفي الآونة الأخيرة، تغريدات رجال (كلهم بالمناسبة رجال) يرتدون زيا موحدا، ويتحدثون بلغة موحدة، هدفها الأول والأخير أن تضع حدا لأي تقدم وتطور فكري وعلمي، قد يهدد وجودهم والنظام المرتكز عليهم.

ما يقوم به المنتفضون من حملات توعية هو مسألة حياة أو موت بالنسبة لهم ولبقية أبناء الشعب، وفي تبنيهم مستوى آخر من مستويات النضال إنما يحافظون على سلامة بلدهم وأخذه إلى بر الأمان

وإذا كان هدف المُحتل هو الهيمنة على الشعوب المُستعمَرة عسكريا فإنه لن يكون قادرا على تحقيق هدفه بدون تعاون الحكومات المحلية الفاسدة، وأدعياء الدين المتعاونين معها على تخدير عقول العامة والتمثيل الذاتي لتخدير عقولهم هم أنفسهم، أيضا، كما يؤكد مسؤول ميليشيا بدر والحشد الشعبي، هادي العامري: «نحن مع رأي الإمام، الإمام إذا يقول حرب حرب، وإذا يقول صلح صلح»، وهو يتحدث عن إمامه هو وليس إمام الشعب كله.

من المؤكد قدرة المحتل على مسخ شريحة من الشعب، لفترة قصيرة، إلا أن من المستحيل تحقيقه النجاح في مسخ الشعب كله لفترة طويلة، فالشعب غني بتنوعه ووشائجه العميقة. إذ لابد وأن تواجه قوات الاحتلال، مهما كان مصدرها وتبريرها، المقاومة. وهذا ما أكدته المقاومة العراقية ضد الاحتلال أولا ومن ثم التظاهرات والاعتصامات المستمرة على مدى سنوات الاحتلال ثانيا والتي بلغت ذروتها في صحوة الشباب التي وصلت إلى أوجها في انتفاضة تشرين / أكتوبر 2019.

«علينا مواجهة فيروس كورونا وفيروس النظام الفاسد معا». هذه هي رسالة المنتفضين بعد مرور ستة أشهر على بدء الانتفاضة، وهم يعيشون يوميات نضال استثنائي يجعلهم متميزين بانتفاضتهم عن بقية العالم، ومتوحدين معه في خوفهم على شعبهم من انتشار الوباء. ينبع تميزهم من إصرارهم وصمودهم أمام أساليب القمع الوحشية التي أودت بحوالي 700 شهيد و25 ألف جريح، وإعاقة 3000 شخص فضلاً عن 54 محاولة اغتيال قتل فيها 26 شخصاً وأصيب 16 آخرون. هذه التكلفة البشرية الفادحة تدفع الكثيرين إلى المقارنة بما سببه فيروس كورونا في بلدان أخرى، حتى الآن، وما يثيره من ضجة مقابل الصمت العالمي المحيط بالانتفاضة وانعكاساتها الإنسانية. فكم من بلد دفع هذه التكلفة ثمنا للاحتجاج على نظام طائفي فاسد متعاون مع الاحتلال، خلال فترة وجيزة نسبيا؟

أما توحد المنتفضين مع بقية العالم لمكافحة الفيروس، فقد تبدى باتخاذهم قرارا واعيا بالانسحاب من ساحات التحرير، إلى حين، حرصا على حياة الجميع مع إبقاء عدد من الخيم، يواصل عدد من المنتفضين البقاء فيها، بمعدل أربعة لكل خيمة، للتذكير بمبادئ الانتفاضة وإبقاء جذوتها مشتعلة وفاء للوطن وللشهداء.

كما اختار المنتفضون مستوى آخر للعمل، تم تبنيه لمقاومة أو، على الأقل، تقليل عدد الإصابات بالفيروس، من خلال التوعية بمخاطره وحث أبناء الشعب على تطبيق الشروط الصحية، وأهمها الالتزام بحظر التجوال وتجنب الأماكن المزدحمة، خاصة فيما يتعلق بأداء الصلاة الجماعية وزيارة المراقد الدينية، وممارسة طقوس الزيارة من التشبث بشبابيك الأضرحة وتقبيلها، أي كل ما يعمل على نشر الفيروس بأسرع طريقة ممكنة، خاصة وأن عددا من أدعياء الدين لايزالون يروجون أن فيروس كورونا لن يمس الزوار المخلصين المواظبين على أداء الطقوس، لأن زيارة الأئمة والقيام بطقوسها سيحميهم.

ما يقوم به المنتفضون الآن من حملات توعية هو مسألة حياة أو موت بالنسبة إليهم وإلى بقية أبناء الشعب، وفي تبنيهم مستوى آخر من مستويات النضال إنما يحافظون على سلامة بلدهم وأخذه إلى بر الأمان. إنها خطوة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه في الوضع الكارثي الناتج عن غياب الحكومة، وعدم توفر الخدمات الصحية العادية ناهيك عن إمكانية مقاومة الوباء، وخشية كل الساسة والسلطات الأمنية، إصدار أمر وتطبيقه بالقوة لو اقتضى الأمر، بمنع الحشود من زيارات المراقد وإقامة الطقوس الجماعية، لئلا يتم اتهامهم بموالاة «الآخر» أو تلويث «المعتقد» الذي جعلوه، مع فسادهم وزيفهم واستغلالهم، المغذي الذي يبقيهم على قيد الحياة.

كاتبة من العراق

 

أمريكا أم إيران… من الذي

يعلم العراقيين ركوب الدراجة؟

هيفاء زنكنة

 

تمر هذه الأيام ذكرى الغزو والاحتلال الأنكلو أمريكي للعراق عام 2003. يأتي مرورها، على الرغم مما سببته من كوارث، بشكل يكاد يكون تسللا في ظل انتشار وباء فايروس كورونا. قد يكون التسلل او حتى النسيان ممكنا بالنسبة الى العالم، الا أنه يوم حُفر بأزميل من دماء الضحايا وخراب البلد في ذاكرة العراقيين على مدى 17 عاما. اذ لم يمر يوم دون ان يعيش المواطن انعكاساته الهائلة على حياته وعلى بلده وعلى المنطقة كلها.

حصدت سنوات الاحتلال من الأرواح ما يعادل او ينافس الجزائر، بلد المليون شهيد، الذي تربينا على اعتباره مثلنا الأعلى في النضال والتضحية، كما يكاد يقترب من ضحايا المحتل الصهيوني بشهدائه ولاجئيه واستمرارية محاولات اخضاعه لكل ضروب الإبادة الجماعية. هذا من الناحية البشرية، وإذا ما راجعنا قائمة الخسائر المادية وخراب البنية التحتية، لوجدنا البلد الذي يزيد عدد شبابه على نصف السكان، ينوء بأثقال تحد من طموحاته واحلام مستقبله، تاركة إياه مثل عجوز يجد صعوبة قصوى في التنفس والحركة والتفكير.

وإذا كانت سنوات الاحتلال قد شابها زيادة وتقليل عدد القوات الأمريكية أو قوات التحالف بقيادة أمريكا، على أرض البلد وسمائها، تحت مسميات متنوعة تراوح ما بين التدريب والاستشارة ومحاربة الإرهاب (المتمردين السنة، القاعدة، داعش) أو قوات التحالف كجزء من قوات حلف الناتو، فان ما أسست له سنوات الاحتلال، من طائفية وفساد ونهب للثروات، أعمق من مجرد تواجد القوات العسكرية أو عدم تواجدها. حيث اعتمدت لديمومة هيمنتها (المباشرة والناعمة) على نظام المحاصصة السياسية/ الطائفية الذي ما كان لقوات الاحتلال أن تبقى في العراق الى يومنا هذا لولا اعتمادها عليه، متمثلا بأولئك الذين تحالفت معهم من العراقيين، المستعدين لبيع ولائهم للشيطان، وأقرب ما يكونون الى المرتزقة في تأجير خدماتهم، بعيدا عن الوطن والوطنية، ما دام سيساعدهم على التخلص من عدوهم، ولأن للرغبة بالانتقام مذاق يماثل مذاق الدم للحيوانات الشرسة، الا أنه غير مستساغ من قبل عموم البشر، تم تغليف تحالفاتهم بالديمقراطية وحقوق الانسان.

وفرت سياسة المحتل الأمريكي المنهجية في القضاء على الدولة العراقية ومقوماتها الأرضية لتأسيس الأحزاب ذات الولاء الخارجي وللنمو السريع، كما الأعشاب الضارة، للميليشيات ذات الولاء الإيراني والمدعومة بأموال النفط العراقي، بينما يعيش شباب البلد وخريجوه في مستنقع الفقر المدقع والتهجير وغياب الخدمات الأساسية، من الماء الصالح للشرب الى الصحة والسكن، التي تتمتع بها بلدان أقل ثراء من العراق بكثير، بشرط وجود حكومة وطنية تمثل الشعب.

وفرت سياسة المحتل الأمريكي المنهجية في القضاء على الدولة العراقية ومقوماتها الأرضية لتأسيس الأحزاب ذات الولاء الخارجي وللنمو السريع، كما الأعشاب الضارة، للميليشيات ذات الولاء الإيراني والمدعومة بأموال النفط العراقي، بينما يعيش شباب البلد وخريجوه في مستنقع الفقر المدقع والتهجير وغياب الخدمات الأساسية

على مدى 17 عاما، عمل تحالف الشيطان الأكبر والاصغر غير المعلن، بكل الطرق المختلفة، على اقناع الشعب العراقي أنه عدو نفسه، وأنه يحمل بداخله خطيئة العنف الأزلية، وان الحل الوحيد لإنقاذه هو اما قبول مشروع المخلص الحضاري (أمريكا) او مشروع آية الله (إيران). صراع ومفاوضات أصحاب هذين المشروعين العلني داخل العراق حينا والسري حينا آخر، حسب مقتضيات مصلحتيهما منفردة او مزدوجة، يقودان العراق الى سيرورة هلاك لا مفر منه. وما عملية اغتيال الجنرال الإيراني قاسم سليماني، في العراق، ومن ثم تبادل حملات القصف الجوي والصواريخ بين أمريكا وإيران، في العراق أيضا، بالإضافة الى زيادة عدد قوات الاحتلال الأمريكي، فضلا عن تمتع الميليشيات الموالية لإيران بحرية الحركة والفعل، غير استهانة بكرامة وحياة الشعب العراقي. سيرورة تحقيق أي نجاح من قبل المُحتَلَين يعتمد على مدى نجاح أي منهما بغسل أدمغة الناس، مسح الذاكرة وغرز البدائل. وهي سياسة قديمة قدم الاستعمار، أثبت التاريخ انها قد تنجح لفترة قصيرة، الا من الصعب او المستحيل نجاحها على المدى البعيد. والمدى البعيد هو الذي تراهن عليه الشعوب الُمحتَلة لمقاومة الُمحتَل الذي يفوقها عسكريا وماديا وبشريا.

كان التشبيه المفضل لدونالد رامسفيلد، وزير الدفاع الأمريكي اثناء الغزو، هو الإشارة إلى العراقيين على أنهم أطفال يتعلمون ركوب الدراجة « كانت مهمتنا هي خلع عجلات التدريب والسماح لهم بتعلم الركوب بأنفسهم. المشكلة هي أننا ظللنا نأخذ عجلات التدريب في وقت مبكر جدًا واستمرت الدراجة في التحطم». هذا المفهوم الاستعماري المتضمن ان العراقيين لن يتمكنوا من الدفاع عن المكاسب التي يحققها لهم الجيش الأمريكي، وبالتالي هم في حاجة الى الوجود العسكري الأمريكي للدفاع عنهم، لا يختلف عن الموقف الإيراني الذي يرى أن إيران، من خلال ميليشياتها وفيلق القدس وقادته، هي منقذة العراق من الإرهاب الداعشي ـ الأمريكي ـ السعودي ـ الصهيوني، ولولا آيات الله وولاية الفقيه لما قامت للعراق قائمة.

هذه النظرة الدونية الى الشعب العراقي، متشابهة في جوهرها، حتى لو كانت أمريكا هي الهر الأكبر وممارسات إيران داخل العراق هي مجرد خرمشات قط صغير، حسب ادعاء البعض.

بعد مرور 17 عاما على غزو واحتلال العراق، تتنافس أمريكا وإيران على الهيمنة عليه جوا وأرضا، عسكريا وثقافيا، جاذبة اليها أعضاء الحكومة والبرلمان، كل حسب مصلحته وولائه ودرجة فساده. خارج لعبة شد الحبل هذه وما يتمخض عنها، بين الحين والآخر، من سقوط قتلى بين الطرفين وضحايا عراقيين، يعيش الشعب، في ذكرى احتلال بلده، ولأول مرة، يوميات انتفاضة جماهيرية، بدأت في الأول من تشرين 2019 وحققت، حتى الآن، من المنجزات ما لا يمكن القضاء عليه، مهما حاولت قوى الاحتلال بشقيه الأمريكي والإيراني.

«لا أمريكا ولا إيران.. ولاؤنا للعراق»، الشعار الذي رفعه المنتفضون إثر القصف الأمريكي، منذ أيام على مواقع لحزب الله العراقي، هو معنى السيادة للوطن الذي يريده المنتفضون.

هو المكان الذي تشارك فيه المرأة الرجل على قدم المساواة في الواجبات والحقوق، حيث تتم مقاضاة القتلة والإرهابيين المسؤولين عن سقوط الشهداء، كل الشهداء، على مدى سنوات الاحتلال، بلا حصانة أو تمييز. وطن حيث تُفتح أبواب العمل للشباب، ويستعيد الناس ثروتهم المنهوبة، وحيث يعيش المواطنون المنهكون لكثرة ما مروا به من فواجع، على مدى عقود، أياما يتمتعون فيها بحقهم: الكرامة والحرية والعدالة التي يستحقونها.

كاتبة من العراق

 

 

فلنحتفل… كل عام

وأنتِ والوطن بخير

هيفاء زنكنة

 

للمرة الأولى منذ غزو العراق واحتلاله عام 2003، تحتفل المرأة العراقية، ابنة اليوم، بعيد المرأة، بشكل أعادت فيه الى الأذهان ذكرى الاحتفالات التي كانت تعيشها أمها سابقا. عادت المرأة، أخيرا، للمشاركة في صنع الحياة، بعد غياب أريد له أن يدوم.

«نازلة آخذ حقي» و«أريد وطن»، شعاران رفعتهما مع شقيقها الرجل، وهي تناضل لاستعادة الفضاء العام، حقها الطبيعي في ساحات وشوارع بلادها التي ساهمت أمها وجدتها في بنائها وتنميتها على مدى سنوات الدولة الحديثة منذ عشرينيات القرن الماضي. وكما هو وضعها الحالي، منذ انتفاضة تشرين 2019، لتحرير وطنها من الاحتلال الأمريكي ـ الإيراني سواء تحت غطاء الديمقراطية أو الدين، لم تكن وحيدة. فوجودها وحضورها وقدرتها على البناء يتحدد، حاليا، كما في الماضي، بنضالها وتنمية قدراتها الذاتية سوية مع الرجل. ألم يكن الشاعر جميل صدقي الزهاوي من أوائل المنبهين الى حالها في مقالته «المرأة والدفاع عنها» المنشورة في آب/ أغسطس 1910، وفي شعره الذي هاجم فيه التخلف المجتمعي المسوغ باسم الدين، داعيا إياها الى الكفاح لتأخذ حقها في الحرية؟ والا تعبأ بالغربان الذين يواصلون النعيق، قائلا: «وذري من الدين القشور/ جميعها وخذي اللبابا. عزوا الحجاب الى الكتاب/ فليتهم قرأوا الكتابا».

فلا عجب أن تخرج ابنة العراق، بعد أكثر من مائة عام، من نداء التحرر من «بيت أُريد / بضيقه ليكون لحدا»، لتواصل ثورتها على ساسة، تجمعهم توليفة طالما عاشتها الشعوب المُستعمَرة، ما بين خدمة المحتل والفساد وارتداء الدين زورا استزادة بالتجهيل، لمنعها من المشاركة، مع شقيقها الرجل، بانتفاضة تطالب بالاستقلال والحرية والكرامة، خرجت متحدية كل من يرميها بالتهم الجاهزة المهترئة، كما فعل «السيد» أخيرا، حين رأى في نشاطها العام: «التحرّر والتعرّي والاختلاط والثمالة والفسق والفجور، بل والكفر والتعدّي على الذات الإلهيّة وإسقاط الأسس الشرعيّة والأديان السماويّة والتعدّي على الأنبياء والمرسلين والمعصومين». كل هذا بعد أن درست الفتاة وتخرجت وتفوقت في عصر تُسيره قدرة الجميع على العمل المشترك، بلا تمييز، من أجل التطور وبناء المستقبل بكل المستويات العلمية والتكنولوجية والثقافية.

خرجت الفتيات، وهن يرتدين العلم العراقي الجامع، ليحتفلن بوحدة الوطن، ضد الطائفية والنهب وخدعة «ديمقراطية» السياسة المبنية على تزوير الانتخابات وسرقة الأصوات. ضد أن تكون المرأة مجرد مقعد يجلس عليه الآخرون في البرلمان، وأن تستباح كرامتها كلما توجهت الى مؤسسة حكومية، وأن تعتقل وتعذب وتتهم بالدعارة وتهدد بالاغتصاب ما إن ترفع صوتها محتجة. ضد أن يكون الحل الرسمي لمليون أرملة بحاجة الى المساعدة هو إعطاء الرجل منحة لاتخاذ زوجة ثانية بدلا من تمكين المرأة وتوفير الرعاية الاجتماعية وفرصة العمل في واحد من دول العالم الغنية.

للمرة الأولى منذ غزو العراق واحتلاله عام 2003، تحتفل المرأة العراقية، ابنة اليوم، بعيد المرأة، بشكل أعادت فيه الى الأذهان ذكرى الاحتفالات التي كانت تعيشها أمها سابقا. عادت المرأة، أخيرا، للمشاركة في صنع الحياة، بعد غياب أريد له أن يدوم

فلنحتفل مع كل النساء في جميع أرجاء العالم، تقول المرأة في البلاد العربية. لنشارك العالم يوما من فرح نحن بأمس الحاجة اليه. ليس تغريبا أو تخليا عن الدين والموروث الاجتماعي بل رغبة في أن تكون المرأة، في البلدان العربية، بذات المستوى الحضاري للمرأة، أينما كانت، ما دامت تؤمن بالعدالة والمساواة والكرامة الإنسانية. فنساء البلدان العربية، من فلسطين الى اليمن والعراق وسوريا مرورا بتونس ولبنان، الى آخر القائمة، بحاجة، في خضم نضالها وصراعها سواء من أجل البقاء أو من أجل الحصول على ما هو أكثر من الأساسيات، أن تتاح لها فرصة تجر فيها أنفاسها وتشحن طاقتها المستنفدة في المعاش اليومي، في الصراع مع الماضوية، في الحروب المفروضة، في النضال ضد الاحتلال بأنواعه، وأحيانا من أجل ألا تخسر ما حققته الأمهات والجدات عبر أجيال. فهي تستحق أن تُكَرَم ويحتفى بها هي التي تواصل العيش والكفاح في منطقة تتحكم بها 40 بالمئة من الحروب والنزاعات الدائرة في العالم اليوم.

فلنحتفل بصمود المرأة الفلسطينية التي تمدنا جميعا، أينما كنا، بالأمل. إنها المرأة العربية/ امرأة كل النضال مجتمعة. تحمل في وجودها ومقاومتها، في جمال أسيراتها، في بقائها في وطنها، في عروقها، عنفوان الحياة. معها، لا حاجة لنا، بذكر الانتماء والهوية والعنوان. فهي الأصل، هي مانحة الحياة.

فلنحتفل، تقول الأسيرة كما المعتقلة السياسية، تحديا للاحتلال أو السلطات المحلية القمعية أو كليهما معا. الاثنان يريدان كتم صوتها وطمر رأيها، مهمشا أو منكرا وجودها، محولا إياها الى آلة خرساء تستجيب لما يراد منها بلا صوت، بلا حضور.

«أليس اليوم عيدا؟»، تتساءل المناضلة التونسية عواطف المزغني، وهي في السجن، الذي جعله نظام بن علي محل إقامة لمن يعارض نظامه الاستبدادي. تخبرنا في نصها المنشور في «دفاتر الملح.. كتابات تونسيات عن تجربة السجن السياسي»، كيف أنها قررت، بعد أن مسحت دموعها بظهر كفها، مستعيدة صوتها وعنادها، أن تحتفل وبقية السجينات بالعيد الكبير. قررت ذلك لئلا يرحل العيد الكبير دون أن تشارك فيه، تاركا إياها والبقية ضحايا للألم. أرادت ان يتمتعن ولو لساعات بمشاركة أولادهن وعوائلهن فرحة العيد بتكبيراته وفرحة أطفاله. فكان لهن ما أردن، دقائق وانفجرت ردهة السجن بالعيد.

فليكن الاحتفال تذكير بملايين النساء اللواتي أجبرن على مغادرة بيوتهن، جراء غزو أو قصف أو همجية ميليشيات. في سوريا واليمن والعراق ومن قبلهن فلسطين. هُجرن قسرا وهن لا يعرفن ما الذي ستجلبه الأيام المقبلة لهن ولعوائلهن، ليصبحن بين ليلة وضحاها نازحات في بلدان، توفر لهن الخيام حينا وتتاجر بحياتهن حينا آخر. هربا من الخطر في اوطانهن يواجهن الخطر في أماكن لا تقل قسوة عن الأوطان. بلا حقوق، تُنفى جسدا فتكافح يوميا لتحافظ على انسانيتها.

«كل عام وأنت والوطن بخير»، هذا ما تلقيته من مناضلة فلسطينية، بمناسبة يوم المرأة، إشارة الى مطالبة الجيل الجديد من المنتفضات العراقيات بالوطن. هكذا تتبادل نساء العالم العربي التمنيات بمناسبة يوم المرأة العالمي. وهو أسلوب فريد من نوعه بين نساء العالم اللواتي يكتفين، عادة، بتمني أن يكون اليوم سعيدا. إنهن يلخصن بذلك التأكيد على التلاحم ما بين التمنيات الشخصية والعامة، ومعنى الوجود المرتبط بوجود الوطن.

كاتبة من العراق

 

 

الانتفاضة العراقية:

قفزة نوعية في الوعي الجماعي

هيفاء زنكنة

 

منذ أن تم تعيين محمد علاوي كرئيس وزراء للحكومة العراقية الانتقالية، وحمى مزاد المقايضة على المناصب الحكومية في تسارع لا يختلف عن مزادات الحكومات السابقة، التي خرج الشباب منتفضين ضدها منذ الأول من تشرين / أكتوبر العام الماضي، ولايزالون يدفعون الثمن غاليا من دمائهم لوضع حد لها. ما لا يريد الساسة الحاليون فهمه أو يتعامون عنه، انتقائيا، هو ان إعادة تدويرهم، في مناصبهم أو اختيار أقاربهم أو من احتل منصبا في حكومات اللصوصية السابقة، انما هو ما تعتبره الانتفاضة السرطان الذي بات ينخر المنظومة السياسية وما بقي من الدولة من أعلى مسؤول فيها الى أصغر موظف، بضمنها كل المستويات الاقتصادية والأمنية. والأخطر من ذلك كله أنه بات جزءا لا يتجزأ من حياة المواطنين. صار أمرا عاديا أما حماية لأنفسهم او ابتغاء منفعة أو مجرد تسيير امورهم. بمعنى آخر، ان الفساد، بأشكاله، لم يعد حكرا على الطبقة الحاكمة، بل تسلل الى بنية المجتمع في دوائر الدولة وموظفيها والى المدارس والمستشفيات كما في الشوارع والمطارات والموانئ والأسواق، وحتى للعائلة والمحلة، مما يهدد بقاءه وجعله لقمة سهلة للإرهاب والتفتت. وهذا هو ما عاشه البلد في سنوات الاحتلال وما افرزه من ميليشيات مسلحة وإرهاب يتغذى على الفساد، خاصة، مع توفر أموال النفط الهائلة، وهو ما ترمي الانتفاضة لاستئصاله.

لذلك، يصر المنتفضون على رفض إعادة تدوير الساسة الحاليين، ليس حبا بالرفض فحسب، ولا لأن شكل الساسة لا يعجبهم او لأنهم مغرمون بالنوم في الساحات بعيدا عن بيوتهم وعوائلهم أو طمعا بالمناصب لأنفسهم، ولكن لأنهم يدركون جيدا حجم الكارثة التي سببها حكم الفاسدين والسراق وما سيجره إبقاءهم في مناصبهم على الوطن.

إن وعي المنتفضين بهذه الحقيقة وجعله أولوية ضرورة واستمرار لما توصلت إليه شعوب بلدان أخرى تعيش مرحلة الانتقال من نظام الى آخر، مع وجود بعض الاختلافات. ففي تونس، مثلا، التي تشكل نموذجا ناجحا للانتقال من نظام استبدادي الى ديمقراطي، لم يعد خافيا ان سيرورة الثورة لن تتم بالشكل الذي يحقق طموحات الشباب في مستقبل مغاير واستقلالية بناء الدولة وحمايتها، ما لم يتم القضاء على منظومة الفساد التي أسسها النظام السابق ولايزال المجتمع، على الرغم من التغير السياسي، وهنا مكمن الخطورة، يعيش يوميات استشرائه.

واذا كانت سيرورة العدالة الانتقالية قد فشلت في العراق بعد محاولاتها في سنوات الاحتلال الأولى، ولأسباب عديدة من بينها عدم القدرة على العمل تحت مظلة الاحتلال، وسياسة حكوماته المحلية الطائفية العنصرية، وغياب الاستقرار السياسي والأمني، فان مسار تحقيق العدالة الانتقالية، بأوجهه المتضمنة المساءلة والحقيقة والكرامة وجبر الضرر، بتونس، لم يؤد النجاح المتوقع وتعثر لكونه، كما يتبين من آخر تصريح أصدره المركز الدولي للعدالة الانتقالية، منذ أيام، بمناسبة عقد مؤتمر دولي بتونس، عنوانه « الحقيقة والمساءلة واسترداد الأموال المنهوبة وكيف يمكن للعدالة الانتقالية مكافحة الفساد «.

إن تشابه ممارسات الأنظمة الاستبدادية القمعية وحصرها الثروة الوطنية بأيدي قلة فاسدة، يجعل لتجربة الشعوب بمواجهة هذا النوع من الأنظمة وتوحيد جهودها للتخلص منها، قيمة تتجاوز حدود البلد الواحد، لتفرض أشكالا من النضال والتضامن

يعزو التصريح سبب التعثر الى «اقتصار ميدان العدالة الانتقالية طيلة سنوات، على العناية بقضايا الحرمة الجسديّة وانتهاكات الحقوق المدنية والسياسيّة»، مبيّنا أنّ بعض البلدان، كالأرجنتين وتشيلي وجنوب افريقيا، ركّزت على جرائم التعذيب والقتل والاختفاء القسري والاحتجاز المطوّل، « دون النظر في الفساد الذي تمّ ارتكابه من طرف المسؤولين «. وقد تم تسجيل استثناءات ملحوظة في عدد من البلدان، فقط، حين يكون بإمكان العدالة الانتقالية أن تضطلع بما يتعيّن عليها وذلك بمتابعة المساءلة عن انتهاكات حقوق الإنسان والفساد على حدّ السواء.

يختلف الوضع في العراق عن بقية الدول التي تعيش تجربة العدالة الانتقالية من نواح عدة لعل أهمها انعدام السيادة، وعدم وجود حكومة تمثل الشعب، وانتهاكات حقوق الانسان المستدامة، واحتلال العراق أعلى قائمة الدول الأكثر فسادا إداريا وماليا، وقد بلغ حجم السرقات في العقود وتهريب العملة مئات مليارات الدولارات، أي أرقاماً لا يمكن للمواطن استيعابها الا اذا تم تقريبها الى 15 ألف دولار للفرد الواحد (اذا كان الهدر نصف الدخل من النفط منذ الاحتلال فقط)، أي مائة الف دولار للعائلة العراقية الواحدة. الا ان متابعة تجارب الشعوب في تطبيق العدالة الانتقالية، كما في تونس وجنوب افريقيا، والاطلاع على خبرتها في مكافحة الفساد واستعادة الأصول المنهوبة والمكتسبة بصورة غير مشروعة، فضلا عن مساءلة الفاسدين، واصلاح القضاء وغيره من مؤسسات الدولة ضروري للاستفادة من نجاحاتها وتجنب اخفاقاتها.

ان تشابه ممارسات الأنظمة الاستبدادية القمعية وحصرها الثروة الوطنية بأيدي قلة فاسدة، يجعل لتجربة الشعوب بمواجهة هذا النوع من الأنظمة وتوحيد جهودها للتخلص منها، قيمة تتجاوز حدود البلد الواحد، لتفرض أشكالا من النضال والتضامن، لن تكون بالضرورة جديدة بل تعيدنا، في بعض ملامحها، الى حقب التحرر الوطني.

وهذا ما نلاحظ تطوره بين الشباب في ساحات التحرير بالعراق وفي الجزائر ولبنان. اذ استعادت المفاهيم التي حاربت الشعوب طويلا لامتلاكها، لأنها حق من حقوقها، كالوطن والحرية والكرامة ومعاقبة الظالمين والفاسدين، الى الواجهة في حيز الوعي المتنامي. وهي ذات القيم التي أراد المستعمر طمرها واستطاع بمرور الوقت، بالتعاون مع طبقة الفاسدين المحليين، أن يحقق نجاحات تبرعمت بشكل حكومات استبدادية وطائفية بالإضافة الى الخنوع امام المحتل.

اتضح عمق مطالبة المنتفضين بالوطن، مع استمرار الانتفاضة واستشهاد الشباب بشكل يومي تقريبا، لتصبح الدعوة الى اسقاط النظام ومحاسبة القتلة و « لا محسوبية ولا منسوبيه»، أساسية لتحديد تركيبة الحكومة المقبلة، وان كانت انتقالية، ولترسخ أسس اية حكومة وطنية مستقبلا. وهي قفزة نوعية تجمع ما بين الطموح بتنظيف السياسة والقضاء والاقتصاد والممارسات التي تخللت بنية المجتمع على مدى عقود. هذه المهام الضرورية إذا ما أُريد للعراق ان ينهض من كبوته، وقد منحت الانتفاضة بشجاعة شبابها وتضحياتهم، بقية أبناء الشعب، الأمل بإمكانية التغيير الحقيقي وليس فقط تدوير الفاسدين وهو ما كان يجري سابقا، كما رفعت من مستوى الوعي بالظلم والإهانة والحرمان من الحقوق من كونه استهدافا فرديا الى كونه جماعيا ووطنيا. وهذا ما لن يتمكن النظام الحالي بكل أسلحته المحرمة، المستخدمة ضد المنتفضين يوميا، وبكل وحشيته ولا اخلاقيته، من القضاء عليه، كما يريد، الى الأبد.

كاتبة من العراق

 

 

هل من قضية

يفوز بها العراقيون؟

هيفاء زنكنة

 

شهدت الأسابيع الأخيرة، ومع استمرار الانتفاضة في العراق، عودة عدد من وجوه «العملية السياسية» الأصليين، الذين دخلوا البلد مع الاحتلال، للظهور في الفضائيات الإخبارية، بعد انقطاع. من بين الوجوه البارزة أياد علاوي، أول رئيس وزراء عيّنه حاكم الاحتلال بول بريمر، والذي تم ارتكاب مجازر الفلوجة وتهديم مدينة المقاومة في ظل حكومته. في مقابلاته التلفزيونية الطويلة، هذه الأيام، يؤكد علاوي وقوفه إلى جانب المنتفضين وحرصه عليهم مستغربا قبول ابن عمه محمد علاوي، الذي يحبه كثيراً وهو إنسان طيب ونزيه، حسب تعبيره، منصب رئيس وزراء الحكومة الانتقالية. وفي مقابلة بعد أخرى يُقسم أياد علاوي بشرفه بأنه سيقف أمام المحاكم الدولية ليدلي بشهادته ضد الحكومة الحالية وأن لديه ملفات خطيرة سيقدمها في المحاكم ليفضحها. هل هي صحوة ضمير من أياد علاوي؟ وإذا كان جاداً بقسمه لماذا لا ينشر هذه الملفات والوثائق أو لم لا يقدمها الآن الى أية جهة قانونية دولية كخطوة أولى لوقف اغتيالات المحتجين السلميين، ولإظهار الحقيقة وكشف الوجه القميء البشع لحكومة المليشيات الفاسدة التي لا تتورع عن قتل أي شخص يعارضها، وربما لكسب ثقة أبناء الشعب وانه فعلاً سيقدم على فعل شيء بعيداً عن الظهور الإعلامي وتكرار ذات التصريحات الشعبوية؟

في المقابل، وبينما تواصل الحكومة العراقية استهداف المنتفضين بأكثر الوسائل وحشية اختطافاً وتعذيباً وقتلاً، الذين تجاوزت أعداد الضحايا المئات والجرحى والمقعدين والمعتقلين عشرات الآلاف وعدم تقديم أي من المسؤولين عن الجرائم الموثقة بالشهود والفيديوهات الى القضاء، تقوم منظمة محلية تدعى « الغد» بعمل حقيقي يمس حياة الناس فعلاً، وبلا تصريحات هوائية، إذ تستعد حاليا، لمقاضاة الحكومة الهولندية ومطالبتها بتعويضات لأنها تسببت بقتل 70 شخصا على الأقل، بينهم 22 امرأة و26 طفلا، في 2 حزيران 2015، في غارة جوية ألقت فيها طائرات أف 16 الهولندية، القنابل على مدينة الحويجة، الواقعة جنوب غرب كركوك. من بين المتضررين، امرأة قتل وجرح افراد عائلتها المكونة من 35 شخصا. هناك أيضا ضحايا أمراض من بينها السرطان والاصابة بالجنون، جراء المواد الكيمياوية المتصاعدة من القنبلة، والتي أثبت الإعلام الهولندي أن طائرة هولندية أسقطتها كجزء من عملية التحالف الدولي ضد تنظيم «الدولة الإسلامية» الإرهابي (داعش).

ولأن الحكومة العراقية لم تتخذ أي خطوة لمساعدة الضحايا، ولأن ساستها منشغلون بالنهب والصراعات واتهام وابتزاز بعضهم البعض، ولا أمل في ان يطالبوا، يوماً، أية جهة معتدية بدفع التعويضات للضحايا، أخذت المنظمة على عاتقها إعداد ملف يشمل حتى الآن قضايا 50 ضحية.

إن مواجهة إنكار الجرائم المرتكبة ضد الضحايا المدنيين من قبل حكومات تتطلب وجود حكومة وطنية تؤمن بحقوق مواطنيها وأولها حق الحياة

تكمن صعوبة إعداد الملف، وهي صعوبة يلاقيها كل من يفكر برفع قضية ضد أي حكومة، في التوثيق الدقيق لئلا يتم التشكيك بمصداقية القضايا وبالتالي خسارتها، كما حدث في قضية العراقيين الذين قامت القوات البريطانية بتعذيبهم، بين عامي 2003 و2004. وانتهت القضية، بعد سنوات، بالخسارة حيث نجح الادعاء العام البريطاني بتفنيد الأدلة وإثارة الشكوك حولها. ويشكل التأخر في تقديم القضايا صعوبة في الحصول على الأدلة، كما أن عدم تسجيل الحوادث والجرائم في حينها بشكل قانوني صحيح يزيد من تعقيدها، إلا أن هذه العوائق كلها لم تمنع المنظمة من تقديم الملفات وتكليف محام بتبني القضية.

العائق الأهم هو تحديد من هو المسؤول قانونيا وكيفية التعامل معه، خاصة إذا كانت الجهة المسؤولة حكومة أجنبية وليست شخصا أو جهة فاعلة داخل البلد. فأثناء مناقشة القضية في البرلمان الهولندي، في شهر تشرين الأول/ أكتوبر 2019، أصرت وزيرة الدفاع آنك بيليفيلد على أن العراق مسؤول عن معالجة الأضرار الناجمة عن التحالف الدولي المناهض لداعش، لأن الحكومة العراقية هي التي دعت قوات التحالف للدفاع عنها. وهي نقطة مهمة جداً من ناحية تفادي المسؤولية القانونية والذي إذا ما تم تقبلها ستفتح أبواب التعويضات ضد كل دول التحالف التي سببت مقتل آلاف الضحايا من المدنيين، جراء قصفها لعديد المدن العراقية، وسقوط الضحايا تحت ما سمّته « أخطاء ثانوية». تفاديا لذلك، وعدت الوزيرة الهولندية، بأنها ستتخذ قراراً في وقت قريب بشأن ما إذا كان سيتم فتح صندوق مساعدات خاصة لضحايا انفجار الحويجة «كبادرة حسن نية». وعادت بعد ذلك للتصريح بأنه وفقاً لقوات التحالف، فإن جميع الأعضاء يتحملون المسؤولية نفسها عن الإصابات الناجمة عن العمليات. فما هو عدد « الإصابات» التي تتحدث عنها الوزيرة؟ ليست هناك أرقام دقيقة. فحسب قوات التحالف في 26 أيلول/ سبتمبر أنها أجرت 34573 غارة جوية بين أغسطس/آب 2014 وأغسطس 2019، وأن ما لا يقل عن 1335 مدنياً قد قُتلوا من دون قصد في سوريا والعراق. بينما تؤكد منظمة « الحروب الجوية» الراصدة لأعداد الضحايا تراوح العدد بين 8214 و13125 من غير المقاتلين من المرجح أن يكونوا قد قتلوا نتيجة لأعمال التحالف خلال نفس الفترة.

وبالنسبة الى التعويضات، ترفض الحكومة البريطانية الاعتراف بوجود ضحايا مدعية بأنه لم يصب أي مدنيين في أكثر من 1300 غارة جوية تابعة للقوات الجوية الملكية في العراق، بينما تخلت الإدارة الأمريكية حتى عن نظام تسديد مدفوعات «التعازي» التقديرية الذي كانت تدفعه سابقاً في أفغانستان والعراق، مبينة في تقرير وزارة الدفاع السنوي عن الخسائر المدنية: «… في الحالات التي تطلب فيها دولة مضيفة أو حكومة دعماً عسكرياً أمريكياً للقوات العسكرية المحلية، قد يكون من الأنسب أن تستجيب الدولة المضيفة أو جيشها للاحتياجات وطلبات السكان المدنيين المحليين من خلال تقديم التعازي بنفسها».

ان مواجهة إنكار الجرائم المرتكبة ضد الضحايا المدنيين من قبل حكومات تتطلب وجود حكومة وطنية تؤمن بحقوق مواطنيها وأولها حق الحياة، أما مواجهة إنكار الجرائم ضد المواطنين من قبل حكومتهم، كما يحدث الآن في العراق، فيتطلب مواصلة النضال ضد هذه الحكومة من قبل كل أبناء الشعب، وأن تستمر صرخة المنتفضين: كفى استهانة بعقول الناس، فتغيير الأقنعة لا يعني تغيير الوجوه.

كاتبة من العراق

 

 

توجيهات

«السيد» للثائرة العراقية

هيفاء زنكنة

 

لم تكن تظاهرة النساء العراقيات يوم 13 شباط/ فبراير، مليونية بلغة الأرقام والاحصائيات، التي تستهوي زعيم التيار الصدري السيد مقتدى، كلما خطر على باله إطلاق أتباعه في شوارع المدن العراقية. كانت التظاهرة أكبر وأهم من ذلك بكثير. هتفت المتظاهرات بصوت يتحدى كل من يحاول إسكاتهن «صوت المرأة ثورة»، وهو صوت من تطالب بحقها « نازلة آخذ حقي»، وهو مقاومة « الحق سلاحي وأقاوم، أنا فوق جراحي سأقاوم، أنا لن أستسلم لن أرضخ، وعليك بلدي لا أساوم».

في مسيرة سلمية، غير رسمية، لم يشهدها العراق منذ عقود، تعالت أصوات النساء مرددة «هايه بناتك يا وطن هايه»، لتجسد ما هو أعمق من مجرد التحدي المؤقت لرجل دين يرى في مشاركة المرأة في الاحتجاج ضد الفساد والطائفية والاحتلال، وفي مطالبتها مع شقيقها الرجل باستعادة الوطن، دعوة الى « التحرّر والتعرّي والاختلاط والثمالة والفسق والفجور، بل والكفر والتعدّي على الذات الإلهيّة وإسقاط الأسس الشرعيّة والأديان السماويّة والتعدّي على الأنبياء والمرسلين والمعصومين»، حسب تغريدة له بلغت درجة الفتوى بين أتباعه «أفتى» فيها بأن «على المتظاهرين مراعاة القواعد الشرعيّة والاجتماعيّة للبلد قدر الإمكان وعدم اختلاط الجنسين في خيام الاعتصام».

تعامل البعض مع موقف المرأة هذا باعتباره مفاجئا واستثنائيا بينما سيجد من يتابع نضال المرأة العراقية ان صمتها هو الاستثناء، وان هذه التظاهرة وما سبقها من مشاركة يومية في مقاومة الاحتلال الأنجلو – أمريكي والتظاهرات والاعتصامات التي سبقت انتفاضة تشرينالأول / أكتوبر، امتداد طبيعي لنضالها المتميز، كما شقيقاتها في فلسطين والجزائر وتونس ولبنان والسودان وبقية البلدان العربية، في مراحل التحرر الوطني ومحاربة الاحتلال، وما تبعها من مناهضة الحكومات المستبدة وحكومات الاحتلال بالنيابة. ويشكل سكوتها، في السنوات الأخيرة، قطيعة فرضتها وحشية الاحتلال وعملائه، الذين كان واحداً من أكبر أهدافهم اخضاع كل من يفهم معنى الحرية والوطن.

فالفتاة الحاضرة في ساحات التحرير، اليوم، هي إبنة تلك الجدة التي قاومت الاحتلال البريطاني في أربعينيات القرن الماضي، وظن الكثيرون انها استكانت لعبودية الاحتلال والطائفية ونهب الوطن، غير انها خيبت آمال من أرادوها خانعة مستكينة لتثبت أن جذورها تمتد عميقاً في أرض البلد وأهله.

هزت الانتفاضة، عبر صمود المشاركة وبناء الثقة بالنفس وديناميكية الوعي، مفاهيم اجتماعية غالباً ما تبرز خلال التظاهرات والاعتصامات حول دور المرأة ووجوب حمايتها

أثبتت شهور الانتفاضة، أن سيرورة خروج المرأة الى الشارع، ومشاركتها على كل المستويات، ساعدت على تقوية مناعتها ضد الخنوع وعلى تطوير نفسها، ونفض غبار الأوهام التي فرضت عليها لتعيدها عقوداً الى الوراء، من هنا جاءت إضافتها النوعية الى الحراك الذي اختارت المشاركة فيه. فبمساهمتها مع أشقائها ارتقت بالحراك من مستوى الاحتجاج الى التظاهرة الى الاعتصام ثم الى الانتفاضة. وها هي تُبلغ العالم الصامت، بذكوره وإناثه، أنها شريكة في صنع ثورة. ثورة ستعيد للوطن، للعراق، ألقه. العراق الذي كان العالم يعرفه، قبل أن يدخله البرابرة بقناعين: الأول هو قناع الديمقراطية وحقوق المرأة، متمثلاً بالاحتلال الأمريكي، والثاني هو قناع الدين السياسي والطائفة متمثلاً بإيران. بعد 17 عاما من الاحتلال بقناعيه، المعجون ببقايا ما ناضلت ضده منذ بناء العراق الحديث، تمكنت المرأة من الانسلال خارج الجدران الكونكريتية التي نصبها الاثنان حولها، لتنطلق حرة أبية متحدية الخوف والترويع والإرهاب.

من الصعب التنبؤ بما سيجلبه الغد، في ظل الإرهاب الحكومي والمليشياوي المستمر ضد المنتفضين اختطافاً وقتلاً، ومع استمرار فرض الحصار على الساحات وحرق الخيم، والهجوم طعنا بالسكاكين، ومع استمرار التسويف والتحايل السياسي، ولعبة المفاوضات والممانعة بين أمريكا وإيران، إلا أن هناك تغيرات سياسية وثقافية ومجتمعية عاشها العراق منذ خمسة شهور لا يتطرق اليها الشك. جوهرها هو أن عراق الامس لن يتكرر، ودوام القمع وَهم، وأن المرأة العراقية التي استعادت كرامتها بفعل الثورة لن تعود الى ما كانت عليه. فقد هزت الانتفاضة، عبر صمود المشاركة وبناء الثقة بالنفس وديناميكية الوعي، مفاهيم اجتماعية، غالباً ما تبرز، بشكل قوي، خلال التظاهرات والاعتصامات والثورة والمقاومة، حول دور المرأة ووجوب حمايتها.

تستغل السلطات القمعية هذه المفاهيم لتحرم الثورة من نصف قوتها وذخيرتها الحية، تحت ستار القيم والدين والشرف، واستغلال خوف الآباء والامهات على حياة أبنائهم، خاصة البنات لما قد يتعرضن اليه من انتهاكات تمس الشرف، بينما تقوم ذات السلطات بالاعتداء على المرأة وانتهاك كل الاخلاق والقيم، بأشكال متعددة، تصل الى التحرش والمساومة الجنسية أو اعتقالها كرهينة، حين تحاول المرأة، مثلاً، الحصول على أي معلومات عن أحبائها المعتقلين. هذه الشيزوفرينيا المجتمعية ـ الدينية، بصدد المرأة، لا تقتصر على بيانات رجل الدين مقتدى الصدر بل تتعداه الى المنظومة السياسية، بمجملها، لما تشكله من فائدة كأداة قمعية. وما تغريدات الصدر غير الظاهر المعلن، في أساليب تبين ذعر الساسة الحاليين من استرداد المجتمع عافيته، وإعادته النظر في أساليب تفكيره وسلوكه وطقوسه التي أصبحت، خلافا لما هو متعارف عليه، مُسَخَرة للتفرقة بين فئات المجتمع، وخاصة بين الرجل والمرأة.

ان اتهامات السيد مقتدى الصدر المستهدفة لدور شباب الانتفاضة، والمرأة خصوصا، مكملة لمحاولات المحتل الأمريكي الذي أراد تبييض وجهه، متقرباً من المرأة، بمبادرات تراوح ما بين « تمكين المرأة» و « ورشات الديمقراطية»، في الوقت ذاته الذي دمر فيه البلد وسبب قتل ما يزيد على المليون مواطن. الامر المشابه لسياسة المستعمر الفرنسي بالجزائر، حين شنّ حملة «تحرير» موجهة للنساء تحت الاحتلال، تهدف إلى جذبهن بعيداً عن جبهة التحرير الوطني، من خلال مراسيم كان من بينها حق كشف النقاب للنساء في الأماكن العامة، والتعيين الرمزي للنساء المسلمات في المناصب العامة. فشلت حملة المُستعمر الفرنسي في إيقاف مسيرة التحرير، وها هم شباب الانتفاضة، إناثاً وذكوراً، يطالبون بوطنهم، ويدفعون ثمناً غالياً جداً، لإدراكهم أن هيمنة المستعمر، الاقتصادية والثقافية والمجتمعية، مهما كانت دولته أو قوميته أو دينه، تبدأ بواسطة العنف وتخريب البلد وحرمانه من سيادته وموارده، ولا تنتهي بتعيين مستخدمين مأجورين بل تستمر بأشكال تتجدد حسب مقتضيات الهيمنة، بينما تبدأ وتنتهي استعادة الانسان لوطنه باستقلاله وكرامته.

كاتبة من العراق

 

 

هل بإمكان أمريكا

تنظيف نفسها في العراق؟

هيفاء زنكنة

 

 كما في سنوات الحصار على العراق والتهيئة للغزو والاحتلال (1990 ـ 2003)، ترتفع أصوات بعض العراقيين، حاليا، وأكثريتها من المقيمين خارج العراق، مطالبة بالتدخل الأمريكي. ينتشر النداء على مواقع التواصل الاجتماعي وضمن المجاميع الخاصة، تحت ذرائع لا ينقصها حسن النية، وبأشكال متعددة من بينها ارسال عريضة موجهة الى البيت الأبيض لتحمل مسؤولية الغزو وإنقاذ المواطنين من حكومتهم المستبدة.

ليس هذا النداء جديدا، اذ سبقه نداء مماثل وجهه مفكر عربي، منذ ثلاثة أعوام تقريبا، بعنوان « اللي شبكنا يخلصنا». تم إطلاق المناشدة الأخيرة بالتزامن مع تعرض الشباب المنتفضين في ساحات التحرير، منذ تشرين / أكتوبر الماضي، للقتل والاختطاف والتعذيب، بلا تمييز بين ذكر أو أنثى، وبعد أن مست آلة القمع الوحشية حتى الأطفال المستخدمين لابتزاز ذويهم المتظاهرين واجبارهم على العودة الى بيوتهم. جاءت المناشدة، أيضا، في وقت لم تعد فيه الأحزاب والقيادات الشعبوية المستندة الى الدين او الطائفة قادرة على التضليل، وتمرير الخدع فترة أطول، خاصة مع تزايد عدد الشهداء والجرحى والمعوقين والمعتقلين، بينما يقف العالم الخارجي، بضمنه الدول العربية والاسلامية، أما متفرجا، متحالفا مع النظام، في انتظاره أن يتعب المنتفضون ويعودون الى بيوتهم، أو مراهنا على اضعاف إيران في مفاوضات جارية بين الطرفين، ضمن مجريات صراعهما على الأرض العراقية، ولا يتحمل فيها أي من الطرفين خسارة مباشرة، بل يدفع ثمنها أبناء الشعب العراقي.

تشكل هذه الأرضية محاججة المتوجهين الى أمريكا بمناشدتهم «ليس استجداء ولكن طلبا من أمريكا تصحيح خطئها التاريخي باحتلال العراق تحت مسمى الديمقراطية»، متسائلين بلوعة وحرقة قلب « ما هو الحل؟ هل نستسلم للميليشيات لتقتل كل شباب الشعب العراقي أم نطلب ممن وضع هؤلاء على رأس هرم السلطة ليحذفوهم من المعادلة السياسية الراهنة «؟

يعيدنا سؤال: ما هو الحل؟ الى سنين ما قبل الغزو. فالشعب محاصر وجائع جراء تدهور الوضع الاقتصادي بحيث صار راتب الموظف يساوي دولارين شهريا، ومعارضة الخارج، بأنواعها، كانت تساهم برسم صورة مضخمة عن أسلحة دمار النظام، وجيشه الأقوى المُهدد للعالم، ومفرمة اللحم التي أبكت بواسطتها آن كلويد، النائبة في البرلمان البريطاني، بقية النواب، عشية التصويت على وقوف بريطانيا بجانب أمريكا، لإنقاذ العراقيين من المفرمة، وبناء عراق الديمقراطية وحقوق الإنسان. وانتهينا بكارثة بشرية وبنى تحتية، ورثها ويعيش نتائجها شباب الوطن الان. ولا نزال نسمع أصوات من تعاونوا مع المحتل مبررين: « لم يكن هناك حل آخر»، أو « كان ذلك الحل الوحيد لإنقاذ العراق».

الحل هو وحدة المنتفضين وصمودهم وانضمام بقية أفراد الشعب إليهم، مع مواصلة ناشطي الخارج حملات التضامن والدعم وايصال صوت المنتفضين الى العالم الخارجي. على المدى البعيد: لا بديل عن النهوض التدريجي للقوى الذاتية

نحن، الآن، امام تاريخ يعيد نفسه. فاليوم، كما يكرر الكثير من اهلنا داخل العراق، أسوأ من الامس، ولا ندري ما الذي سيجلبه الغد. بعد تجاوز الانقسام الطائفي الذي أثبت تجاوزه، خلال أربعة أشهر فقط من الانتفاضة، كم كان واهيا وبلا جذور في المجتمع، طفت على السطح أصوات منقسمة حول الاستجارة/ الاستنجاد/ المناشدة أو المطالبة (سمها ما تشاء) إما بإيران او أمريكا. مع أن كليهما يحتلان العراق وفق صفقات تتجدد منذ الغزو عام 2003 بتوزيع المنافع والمناصب لزبائن كل منهما، و«قواعد اشتباك « و«خطوط حمر» في التجاذب والتنافس قبل التوافق، ويعرفان جيدا، ربما أكثر من النظام العراقي نفسه، تفاصيل ما يجري يوميا من جرائم يساهمان إما بارتكابها مباشرة، بواسطة الميليشيات والمرتزقة وقوات العمليات الخاصة، او بشكل غير مباشر عن طريق أتباعهما المحليين، ثم يتبادلون التهم والإدانات والاستنكار بشأنها.

ان إدراك المنتفضين لطبيعة وتشابك العلاقة بين الشيطان الأكبر والأصغر، بعد أن ذاقوا مرارة العيش، بلا كرامة، في ظليهما على مدى 17 عاما، هو الذي يجعلهم يرفعون شعار « ألعن أبو أمريكا وأبو إيران»، وهو الذي يميز انتفاضتهم ويحصنها ضد السقوط في مستنقع الاستجارة بهذا النظام أو ذاك. إن المنتفضين، بحكم معايشتهم اليومية للأحداث بتفاصيلها المفرحة والدامية معا، وفهمهم لمتطلبات النضال السلمي المشترك، بمواجهة قوى تتربص بهم، يعرفون أفضل منا نحن المقيمين على مبعدة، خارج الوطن، ونرى ونتفاعل مع ما يجري عبر شاشات التلفاز وأيديولوجيات أجهزة الاعلام واشرطة الفيديو (على أهميتها). يفرض علينا، هذا الاختلاف مستوى من النشاط التضامني، يتماشى مع مطالب المنتفضين، لا يزايد عليهم ولا يختطف أصواتهم ليجيرها لمصالح حزبية او شخصية، تفاديا لما حدث في الماضي، حين باع معارضو الخارج صوت الشعب العراقي المضطهد الى الإدارة الأمريكية مصورين إياه بانه سيستقبل قوات الاحتلال بالزهور والحلوى. إن هتاف المتظاهرين في مدينة النجف « مقتدى الصدر قاتل»، بعد أن تعرضوا لمجزرة دامية، اتهم بارتكابها اتباع الصدر، لا يعني أن يطالب المتضامنون معهم، خارج العراق، أن « تتحمل أمريكا مسؤولية خطئها وتنظف العراق ممن نصبتهم». هذه المطالبة، مهما كان حسن نية المطالبين بها او حرقة قلوبهم على شباب الانتفاضة، بحاجة الى التوضيح إذا ما أريد عدم تكرار الماضي وتجربته المريرة بكل تفاصيلها البشعة، بضمنها المجازر الحالية. هل من الصحيح استبدال مجرم بآخر؟ ماهي تفاصيل عملية التنظيف المُطالب بها؟ ماذا عن جرائمها هي (فساد، مجازر، اعتقالات وتعذيب، قصف المدن، يورانيوم منضب)؟ ثم من الذي سيحل محل الساسة الحاليين؟ إذا افترضنا صحة موقف مطالبي أمريكا بالتدخل، ما هو الثمن الذي يتوجب على العراق دفعه بالإضافة الى ما يدفعه الآن، خاصة بعد ان أكد الرئيس الأمريكي ترامب أن على الدول التي ترغب بالحماية الأمريكية أن تدفع الثمن، لأن أمريكا ليست منظمة خيرية؟ هل سيكون الثمن شن الحرب ضد إيران؟

ولننتبه جيدا الى حقيقة أن الاحتلال الأمريكي هو الذي أدى الى زرع ونمو الميليشيات الإيرانية وإرهاب داعش، وأن ما ارتكبته أمريكا ليس خطأ، كما يدعي ساستها، بل جريمة منهجية استهدفت تحطيم العراق بشعبه ودولته. ما هو الحل اذن؟ هناك بعض الاستشراف الآني: وحدة المنتفضين وصمودهم وانضمام بقية افراد الشعب إليهم، مع مواصلة ناشطي الخارج حملات التضامن والدعم وايصال صوت المنتفضين الى العالم الخارجي. على المدى البعيد: لا بديل عن النهوض التدريجي للقوى الذاتية، ومنها الحركات السياسية الجديدة، عبر رفض سياسات الاستعانة بالأجنبي والتعويل على القوى الخارجية، أيا كانت.

كاتبة من العراق

 

 

هل يستحق رئيس الوزراء

العراقي الجديد منحه الفرصة؟

هيفاء زنكنة

 

يحمل كل يوم يمر على المنتفضين، في ساحات التحرير، في العراق، تحديات جديدة بشكل حواجز كونكريتية. يواجهونها كما يفعل عدَاء الحواجز ولكن ليس على مسافة مائة متر المتعارف عليها، بل مسافة الماراثون، أي بالكيلومترات. ففي الاسبوع الماضي، تمكنوا من تجاوز أحد الحواجز التي تعوَد مقتدى الصدر، زعيم التيار الصدري وميليشيا سرايا السلام، على نصبها كلما بانت في الأفق ملامح تغيير حقيقي في منظومة الفساد والطائفية والقتل التي تسمى « حكومة». فعلى مدى عمر الانتفاضة التي بدأت في الاول من تشرين / اكتوبر الماضي، كان أتباع الصدر يتناوبون على البقاء في الساحات حينا، مدعين توفير الحماية للمنتفضين، والخروج منها حينا آخر بناء على أوامر «السيد» المتقلبة بسرعة تنافس سرعة المروحيات في قيظ تموز العراق. هناك قائمة طويلة من تقلبات المواقف التي اتخذها الصدر، منذ احتلال البلد عام 2003، وصارت سمة عجنت بها شخصية «السيد» وتصريحاته التي باتت أضحوكة كارتونية، إلى حد دفع عددا من المنتفضين الى رفع شعار «ما نريد وطنا… نريد نعرف ماذا يريد الصدر».

ركز الصدر وأتباعه، في الاسابيع الاخيرة، على تهيئة الأرضية لهجوم ميليشياوي تحت أنظار الحكومة والبرلمان والقوات الأمنية التي، غالبا، ما نراها في الفيديوهات، التي تصلنا لتوثيق يوميات الانتفاضة، وهي تقف متفرجة على مسلحي الميليشيات وهم يطلقون النار على المنتفضين، كما يقومون باعتقالهم واختطافهم ترويعا للآخرين. واذا كان رئيس الجمهورية برهم صالح قد تحول، فجأة، الى بطل وطني يتحدث، بأسى عن خلافات الأحزاب الشيعية التي تمنعها من ترشيح رئيس وزراء نزيه، فان أعضاء البرلمان لم يكلفوا انفسهم عناء الدوام، متمتعين بالإجازة باستثناء اليوم الذي نفذت فيه القوات الأمريكية عملية اغتيال « الضيف الإيراني»، قاسم سليماني، يومها وقفوا مرددين هوسة «كلا كلا أمريكا»، فكانت ردة فعل المنتفضين «ألعن أبو إيران لأبو أمريكا»، فالاحتلال، حسب منظورهم واحد حتى لو ردد البعض أن خرمشة أمريكا أكثر ألما من خرمشة إيران. بهذا أثبت المنتفضون وعيهم الذي تجاوز الأحزاب التاريخية المهترئة، والجديدة الطائفية، حول مفاهيم التلاعب السياسي، والقبول بالأمر الواقع، وتقاطع المصالح الذي قاد العراق من مصيبة الى كارثة.

أدى الهجوم على خيم المنتفضين وحرقها، في الاسبوع الماضي، الى ازدياد عدد المتظاهرين بدلا من ترويعهم واجبارهم على الانسحاب، مما دفع أتباع « السيد» الى العودة الى الساحات ومحاولة السيطرة عليها بالقوة، تحت مسمى «ذوي القبعات الزرق» في ذات الوقت الذي كانت فيه ماكنة أحزاب النظام تتهيأ لاحتواء الانتفاضة، سياسيا، بعد أن صمد المنتفضون، حتى الآن، أمام الاختطاف والتعذيب القتل والرش بالغاز القاتل.

لم لا يحاول محمد توفيق علاوي، وهو في المنصب الذي رضي بتسنمه، ولديه الدعم من تحالفين يملكان أشرس الميليشيات، وبمباركة إيران وأمريكا وحتى ترحيب الأمم المتحدة، أن يكسب ثقة الشعب بإجراء خطوات يمكن تنفيذها خلال أيام، على غرار اطلاق سراح المحتجين المعتقلين، ومحاسبة القتلة والجلادين؟

جاء التحرك السياسي تحت غطاء الحرص على الوطن والمتظاهرين وشعار « كلا، كلا، أمريكا»، لمقتدى الصدر، الذي بات مثل الطعام البائت غير المستساغ. اذ اتفقت كتلتا «الفتح» بزعامة هادي العامري، و«سائرون» بزعامة الصدر، بعد محادثات سرية بين الأحزاب المتصارعة، وبالتوافق مع إيران وأمريكا، على تعيين محمد توفيق علاوي، رئيسا للوزراء يحل محل عادل عبد المهدي الذي أجبره المنتفضون على الاستقالة. من المفارقات التي أثارت غضب المنتفضين السلميين كونه ذات التحالف الذي أوصل عبد المهدي الى المنصب. وإن سيرة حياة علاوي، تكاد تطابق سيرة عبد المهدي، في تذبذبه السياسي من تابع لآل الصدر إلى حزب الدعوة الشيعي، ومن قائمة « العراقية» العلمانية إلى تقديم نفسه كمستقل. عاد علاوي إلى البلد مع الاحتلال الأمريكي، انتخب نائبا، ثم تم تعيينه في حكومتي نوري المالكي (2006 ـ 2014) التي ساهمت بتحويل العراق إلى حقل قتل طائفي، تخلله قصف مدن المقاومة بالبراميل الحارقة، ومشاركة المحتل الأمريكي الاحتفالات بذريعة محاربة الإرهاب. أين هو علاوي من مطالب المتظاهرين وشروطهم لاختيار رئيس وزراء لتشكيل حكومة المرحلة الانتقالية؟ لا تدل سيرة علاوي وتاريخه القريب، على أنه يحمل أيا من المواصفات المطلوبة التي ستضمن عودة المنتفضين الى بيوتهم، ومنحه فترة زمنية يتم فيها تحقيق بقية المطالب حسب أولويتها من إجراء انتخابات بإشراف أممي، وتنظيف البلاد من الفساد، ومحاكمة المسؤولين عن قتل 700حوالي متظاهر وجرح 25 ألف واطلاق سراح المعتقلين المتعرضين، حسب كل التقارير الحقوقية المحلية والدولية، إلى أبشع أنواع التعذيب. فهو ابن العملية السياسية التي أسسها الاحتلال، واعتاشت عليها الأحزاب الممثلة بمجلس الحكم اولا وحكومات الاحتلال، بميليشياتها، ثانيا. واذا كان قد استقال من حكومة المالكي، عام 2012، لأن المالكي «لا يتخذ أي إجراء ضد المقربين منه بتهمة الفساد»، فقد جاءت الاستقالة بعد حوالي عشر سنوات من الصمت كبرلماني ووزير في حكومة أبدعت بخطف وقتل وتعذيب المعارضين بالإضافة الى مأسسة الفساد. ما يستحق الذكر أن علاوي صرح حينئذ، وبعد اتهامه هو نفسه بالفساد، واصدار حكم عليه، أنه « يملك وثائق تؤكد وجود عمليات كسب غير مشروع داخل الحكومة، وأنه سيكشف عنها في الوقت المناسب». وها هي قد مرت 8 سنوات على استقالته، وفرخ الفساد الإرهاب، وهو مقيم ببلد يستطيع فيه، كمواطن بريطاني، أن يقيم الدعاوى على الفاسدين، اذا اراد وهو آمن على نفسه وعائلته، فمتى هو الوقت المناسب؟

ماذا عن الآن، ولنفترض انه (أو غيره من مرشحي النظام)، يستحق اعطاء فرصة للعمل خاصة بعد أن بين في خطابه الأول اتفاقه مع المنتفضين في كل طلباتهم حاثا إياهم على البقاء في الساحات (كأن المنتفضين يتمتعون بالبقاء في الساحات، ليلا نهارا، وهم يحملون حياتهم على أكفهم) ؟ لم لا يحاول، وهو في المنصب الذي رضي بتسنمه، ولديه الدعم من تحالفين يملكان أشرس الميليشيات، وبمباركة إيران وأمريكا وحتى ترحيب الأمم المتحدة، أن يكسب ثقة الشعب بإجراء خطوات يمكن تنفيذها خلال ايام، على غرار اطلاق سراح المحتجين المعتقلين، ومحاسبة القتلة والجلادين؟ واذا كان فعلا يريد القضاء على الفساد، كما اعلن، فلم لا يكشف وثائق الاختلاسات والفساد التي يملكها؟ أم أن على المنتفضين أن يعيشوا، في وطنهم، رهائن لتدوير سلسلة الأكاذيب مرة أخرى!

كاتبة من العراق

 

 

الجيش الأمريكي

لن يكتب حاضر العراق

هيفاء زنكنة

 

بعد شهر واحد من بدء انتفاضة تشرين الأول/أكتوبر، أصدر معهد الدراسات الاستراتيجية ومطبعة كلية الحرب للجيش الأمريكي، الجزء الثاني ( 670 صفحة) من الدراسة التي خطط لها الجنرال الأمريكي ريموند اوديرنو، في أيلول/سبتمبر 2013، وأنجزها باحثو «مجموعة دراسة عملية حرية العراق»، بعنوان «الجيش الأمريكي في حرب العراق»، وكان الجزء الاول ( 700 صفحة) قد أصدر بداية العام المنصرم.

السؤال الذي يتبادر الى الذهن عند رؤية هذه المئات من الصفحات هو: ما الذي يجعل هذه الدراسة تستحق القراءة، بالنسبة إلينا؟ ما الفائدة منها وهي، كما يدل العنوان، قد لا تزيد عن كونها سردا لتاريخ احتلال يتم تسويقه باعتباره تاريخ حرب عادلة وأن نتائجها البشرية الكارثية مجرد أخطاء؟ تعتمد الاجوبة على كيفية قراءة الدراسة، واي منظور ينطلق منه القارئ.

يرى الباحثون المساهمون بإعداد الدراسة، ومعظمهم برتب عسكرية عالية، إن هذه الدراسة موجهة الى نوعين من القراء، الاول هم قادة الجيش الأمريكي الحالي وجيش المستقبل، لفهم طبيعة العمليات العسكرية وتحليلها وتقييمها، والثاني هو المدنيون في أمريكا وبلدان التحالف، لمساعدتهم على فهم تجربة الجيش في الحرب تفاديا لخلق فجوة بين الاثنين. كتبه الباحثون على غرار «الجيش الأخضر» عن تاريخ الحرب العالمية الثانية، حيث التركيز على العمليات العسكرية، من وجهة نظر القيادة العسكرية، مع محاولة تقديم وجهة نظر «العدو» وظروف البلد والمحتوى السياسي والاجتماعي لـ«الصراع».

إذا ما وضعنا جانبا، عدم التطرق الى الأسباب الحقيقية للغزو وتكرار القاء اللوم، بشكل مباشر وغير مباشر، على العراقيين أنفسهم للخراب الذي أصاب البلد وخسارة الأرواح، وتذكر أن هذه الدراسة، في جوهرها، سرد لتاريخ احتلال العراق، كما يراه قادة قوات الاحتلال، لوجدنا أن أهمية الكتابين تكمن في كيفية قراءة وتحليل المقابلات العسكرية التي أجريت خصيصا للدراسة، والسجلات والوثائق السرية البالغ عددها 30 ألف وثيقة تم رفع حجر السرية عنها للباحثين. مما يعني توفرها لكل من يمتلك الرغبة بفهم وقائع ونتائج العمليات العسكرية، خاصة اذا ما تم الرجوع، أيضا، الى وثائق ويكيلكس العراق، التي تشكل بحد ذاتها مخزونا لإدانة القوات الأمريكية والشركات الأمنية والمرتزقة، وكل من سبب قتل العراقيين، في المستقبل.

ما لم يتم التطرق إليه في الدراسة، باعتراف الباحثين هو أولا : دور قوات العمليات الخاصة، التي كانت فاعلة طوال فترة الحرب، لأن « قيادة العمليات غير مستعدة للسماح بالاطلاع على وثائقها» وترى أن الوقت لم يحن لذلك، وثانيا : دور قوات الأمن العراقية ودور «العدو». وتستخدم مفردة «العدو» للإشارة الى المقاومة التي اختار الباحثون تسميتها، أيضا، حينا بالتمرد واخرى بالإرهاب.

من التفاصيل الموثقة كيفية تعامل قوات الاحتلال ومجلس الحكم مع الميليشيات وأكثرها نفوذا فيلق بدر، الذي أسسته ايران، بقيادة هادي العامري

يبحث الكتاب الاول، بالتفصيل، قرارات بول بريمر والقوانين المعنية باجتثاث البعث وحل الجيش العراقي وتأسيس مجلس الحكم، بمحاصصته الطائفية التي يتحمل مسؤوليتها، حسب الباحثين، العراقيون السبعة، من معارضة نظام البعث التي كانت ناشطة خارج العراق وهم: احمد الجلبي، أياد علاوي، ابراهيم الجعفري، نصير الجادرجي، باقر الحكيم، مسعود بارزاني وجلال طالباني. إذ طلب منهم بريمر انتقاء بقية أعضاء مجلس الحكم من منظور «غير طائفي». فكانت النتيجة مجلس حكم طائفي، هيأ لمأسسة المحاصصة الطائفية في كل مؤسسات الدولة والحكومة ومجلس النواب، حتى اليوم.

من التفاصيل الموثقة الأخرى، التي تسترعي الانتباه لكونها اساسا لما يجري في البلد، حتى اليوم، ولعلاقتها المباشرة، بحالات الاختطاف والقتل التي يتعرض لها المنتفضون في ساحات التحرير، هي كيفية تعامل قوات الاحتلال ومجلس الحكم مع الميليشيات وأكثرها نفوذا فيلق بدر، الذي أسسته ايران، بقيادة هادي العامري. وقد كتب الباحث باتريك بتلر مقالة طويلة بعنوان « ماذا تكشف تصريحات اوديرنو عن حرب العراق؟»، ترجمها طارق العاني، عن خصوصية تعامل القوات الأمريكية مع فيلق بدر. لهذه المقالة أهميتها ازاء ندرة التغطية الإعلامية حول دراسة الجيش الأمريكي، عربيا أولا، ومحاولة الكاتب الجادة لإثبات أن العلاقة بين القوات الأمريكية وفيلق بدر، منهجية، بدءا من قول الجنرال أوديرنو، الذي كان حينها قائد فرقة المشاة الرابعة، عن احباطه حين علم بإطلاق سراح مجموعة من أفراد فيلق بدر اعتقلوا، لارتكابهم جريمة قتل في أيار/ مايو 2003، وتصريح ديريك هارفي، الذي خدم لاحقاً في مجلس الأمن القومي في حكومة ترامب، لوكالة رويترز في كانون الأول/ ديسمبر 2015 أكد فيه أن القوات الأمريكية أطلقت سراح قتلة من فيلق بدر، الذين تم إلقاء القبض عليهم وبحوزتهم قوائم لاستهداف بعثيين. وتشير احدى برقيات ويكيليكس – العراق الى أن عشرة آلاف عضو في بدر شكلوا فرق موت استهدفت أعضاء البعث من السنة والشيعة في البصرة والعمارة وديالى وبغداد، وأن «العامري قد يكون قد أمر شخصياً بشن هجمات على ما يصل إلى 2000 من السنة» وأن «إحدى طرقه المفضلة في القتل يزعم أنها تتم باستخدام المثقب لاختراق جماجم الخصوم «، في فترة التفاخر باستخدام المثقب لإثارة الرعب عندما أطلق الاحتلال العنان للميليشيات لارتكاب جرائم القتل الجماعي، في مناطق الحواضن الشعبية للمقاومة. وجرى تلويث المقاومة بالطائفية، بعمليات إضافية لفرق العمليات الخاصة الأمريكية بين 2005-2007، وسلسلة الجرائم المرعبة التي تلتها والموصوفة، في الدراسة غالبا، بأنها تمت عن طريق الخطأ.

ولاتزال حوادث القتل اللاإنسانية، تتكرر اليوم، في استهداف المنتفضين السلميين اختطافا وقتلا، واستخدام عبوات الغاز المسيل للدموع المخصصة للاستخدام الحربي التي تخترق، يا للمفارقة، جماجم « الخصوم»، من قبل المليشيات برعاية أمريكية. كما لانزال نقرأ تاريخنا وحاضرنا مكتوبا من قبل آخرين.

كاتبة من العراق

 

 

العراق: اغتيال الصحافة

ولعبة تدوير الساسة

 

هيفاء زنكنة

 

الى قائمة الشهداء العراقيين، نساء ورجالا، أضيف منذ ثلاثة أيام، الصحافي أحمد عبد الصمد وزميله المصور غالي التميمي، اغتيلا، كما بات متعارفا عليه، رسميا بالعراق «برصاص مسلحين مجهولين» فروا الى «جهات مجهولة». تؤكد هذه الصيغة الجاهزة المبتذلة، الاستهانة بأهم حقوق الإنسان وهو حق الحياة، بالإضافة الى حرية الرأي. وتهدد، بالنسبة إلى الصحافيين، جوهر عملهم، فضلا عن حياتهم. فمن من الصحافيين يجرؤ، في أجواء الترويع والتهديد على ذكر حقيقة ما يجري؟ كيف سيتمكن الصحافي، المستقل، من المحافظة على حياته، إذا ما قدم خبرا مغايرا للتصريحات الرسمية الجاهزة؟ ماذا حدث لـ «العملية السياسية» المُغلفة بورق حقوق الإنسان الصقيل؟ أم أن هناك تعريفا جديدا للصحافي وعمله لا يعرفه غير ساسة «العراق الجديد»؟

يدل استخدام الناطقين الرسميين باسم الحكومة هذه الصيغة على وجود توليفة من ساسة فاسدين وميليشيات ومرتزقة يستهدفون من يشاؤون، بحرية كبيرة، ولعلهم من القلة التي تتمتع بحرية الحركة والتعبير عن رأيها، عن طريق اغتيال من يتجاوز الخطوط الحمراء التي رسموها، خارج حدود القانون والدولة. وهي قلة تتمتع بالحصانة من العقاب بحكم كونها «مجهولة»، ولم يحدث وتم تقديم أي من أفرادها الى القضاء في ظل حكومات ودولة ما بعد الاحتلال. دولة بُنيت على « المجهولين» و»الأطراف» وأهمهم « الطرف الثالث». حيث اُستحدث مصطلح « الطرف الثالث»، منذ انتفاضة تشرين/أكتوبر، ليكون مشجبا تُعلق عليه مسؤولية جرائم الاغتيالات «المجهولة»، المتزايدة، خاصة بين العاملين في أجهزة الإعلام. فخلال شهرين، فقط، من بدء الانتفاضة وثقت « الجمعية العراقية للدفاع عن حقوق الصحافيين» تعرض نحو مئة صحافي للاعتداء والضرب، مع تحجيم ومهاجمة المؤسسات الإعلامية، وما تلاه من اختطاف واغتيالات تجاوزت الأربعين.

لقي الصحافي عبد الصمد والمصور غالي حتفهما عقب انتهائهما من تغطية الاحتجاجات وسط مدينة البصرة، جنوب العراق. وكان عبد الصمد قد فَنَد، في آخر تقرير له، « مجهولية» الاغتيالات وحالات الخطف واعتقال المتظاهرين، مُحملا الحكومة المسؤولية، مبينا أن هوية «المجهولين» معروفة لدى الحكومة. رشحته تغطيته للاحتجاجات الشعبية ووقوفه بجانب المتظاهرين، للتصفية السريعة على أيدي «المجهولين» من «الطرف الثالث»، لأنه تجاوز خطوطها الحمراء. «الخطوط الحمراء» التي رسمت للصحافيين والعاملين بأجهزة الاعلام، على اختلافها، لكيلا يتجاوزها أحدهم مؤكدا استقلاليته وقدرته على تقديم الحقيقة.

يستحق مصطلح «الخطوط الحمراء»، كما «المجهولين» والطرف الثالث»، أن يضاف الى إنجازات حكومات الاحتلال المتعاقبة. ففي تشرين الثاني/نوفمبر 2009، مثلا، حاول «مجهولون» اغتيال الصحافي عماد العبادي. شفى العبادي بعد أن تمكن أطباء في ميونيخ من إخراج ثلاث رصاصات من دماغه. عند عودته الى الناصرية، مدينته الواقعة جنوب العراق، رحب به الأصدقاء. كان من بينهم، ابن مدينته المطرب المعروف حسين نعمة، الذي صرح قائلا «نبهته أن يخفف من الكلام. هناك خطوط حمراء». لم يُعلق العبادي، يومها، بل فضل عدم الكلام. ولم يكن الصحافي جواد سعدون الدعمي من قناة البغدادية الفضائية، محظوظا مثل زميله، حيث اغتاله «مسلحون مجهولون»، وهو داخل سيارته في حي القادسية جنوب غربي بغداد، في 24 أيلول/ سبتمبر 2007.

إن رفض المنتفضين لكل من ساهم في الحكومات السابقة والحالية و»العملية السياسية» ليس دعوة إلى الانتقام بل إلى طموحهم في تحقيق تغيير حقيقي وبناء وطن دفع الشعب، ولايزال، ثمنه غاليا

يكاد لا يخلو عام من تقرير دولي يوصي « الحكومة» بحماية الصحافيين وتوفير الأجواء لممارسة عملهم. ففي عام 2013، أشار تقرير، أصدرته «لجنة حماية الصحافيين الدولية»، إلى تصدر العراق، قائمة الدول التي يفلت فيها قتلة الصحافيين من العقاب. وأكد التقرير إن المنظمات الإرهابية ليست المسؤولة الوحيدة عن قتل الصحافيين بل هناك «مسؤولون حكوميون وعصابات منظمة تقوم بقتل الصحافيين أيضاً انتقاماً منهم على عملهم، ودون أن يواجهوا العدالة».

وفي 2016، قُتل 13 صحافيا، معظمهم أثناء تغطية المعارك مع تنظيم الدولة الإسلامية، حسب الجمعية العراقية للدفاع عن حقوق الصحافيين، إلا أن 179 صحافيا تعرضوا لأنواع مختلفة من الاعتداءات من ضرب وتهديد بالقتل من «جهات مجهولة» على خلفية نشر تقارير صحافية عن الفساد في بعض مؤسسات الدولة. أما «إحصائية شهداء الصحافة العراقية» التي وثقت استهداف الصحافيين، منذ عام 2003 حتى 2016، فقد بينت أن عدد الضحايا الكلي هو 277 صحافياً ومساعداً إعلاميا منهم 22 صحافياً أجنبيا، و»أن الصحافي العراقي مستهدف من كل الأطراف المتنازعة دون استثناء».

إن أجواء الترويع المحيطة بعمل الصحافيين وتقييد حرية حركتهم، والتعبير عن آرائهم، وملاحقتهم بالإضافة إلى التصفية الجسدية، وإفلات مرتكبي الجرائم من العقاب، يزيد من اللجوء إلى القتل كأداة سهلة ومضمونة لكتم الأصوات المستقلة، وتحديد المعلومات المتوفرة للجمهور، ودفن الحقيقة مقابل إشاعة الأكاذيب وتضليل الناس.

وإذا كانت هذه هي معالم الصورة العامة منذ 16 عاما، فإن حملة القمع والاغتيالات ازدادت، بقوة، منذ انبثاق انتفاضة تشرين، بموازاة ازدياد الوعي لدى المنتفضين، بأن الحقوق لا يمكن نيلها لفرد دون غيره ولا لفئة دون غيرها، وإذا ما حدث ونالتها الفئة فأنها لن تكون صالحة، على المدى البعيد، لبناء وطن يتسع للجميع، مهما كانت أساليب الإغواء والابتزاز وشعبوية الخطاب. ان وصول المنتفضين الى هذه الحقيقة وتمسكهم بها، يُخيف أعضاء الحكومة والبرلمان والميليشيات الى أقصى حد، فهو يهدد مصالحهم الشخصية التي بنوها على حساب الوطن، كما يهدد كل أوهام الطائفية وصناعة الهويات الفرعية المزيفة، التي عملوا بجد على إشاعتها، لإبقاء المواطن جاهلا بحقوقه ووطنه وبناء مستقبله.

سيرورة الانتهاكات ومنهجية كتم الأصوات وحرمان المواطن من حقوقه، هي التي تدفع المنتفضين الى رفض إعادة تدوير الساسة، حتى من قدم استقالته من البرلمان، أيام الانتفاضة، بعد المشاركة في غنائم الاحتلال وجرائمه أو مسايرته مدة 16 عاما، شكاً بدوافعهم، مثل قصي السهيل (القيادي في حزب الدعوة الشيعي الذي «استقال» من ليرشحوه لرئاسة الوزراء كمستقل)، ورائد فهمي (سكرتير عام الحزب الشيوعي ، ومنذ ثلاثة أيام، أياد علاوي، رئيس وزراء أول حكومة عينها حاكم الاحتلال بول بريمر، اللذان لم يبدر منهما ما يدل على انتقالهما الى صف الشعب شهوداً، بما لديهم من وثائق ومعلومات. إن رفض المنتفضين لكل من ساهم في الحكومات السابقة والحالية و»العملية السياسية» ليس دعوة إلى الانتقام بل إلى طموحهم في تحقيق تغيير حقيقي وبناء وطن دفع الشعب، ولايزال، ثمنه غاليا.

كاتبة من العراق

 

 

 

المنتفضون العراقيون بين

الشيطان الأكبر والأصغر

هيفاء زنكنة

 

وأخيرا، حدث ما كان العراقيون يتوقعون حدوثه. طفت على السطح همجية طرفين يقتتلان على أرض العراق، بعيدا عن أراضيهم ومواطنيهم. في بلاد استبيحت، تدريجيا، بالتعاون مع من فتح لهم أبوابها. يمنحون فيها حق «الشهادة» والقدسية لمن يريدون والتلويث بـ«الإرهاب» لمن لا يريدون. بين «شهادتهم» و «إرهابهم»، ساحات يقطنها منتفضون، لا يريدون الطرفين، الشيطان الأكبر والشيطان الأصغر، بل يطالبون منذ الأول من تشرين الأول/أكتوبر الماضي، بوطن يتمتعون فيه بحقوق المواطنة، وسيادة الوطن عن طريق وضع حد للقواعد العسكرية لـ «الشيطان الأكبر» وميليشيات وساسة» الشيطان الأصغر».

جاء رد فعل النظام المنقسم ولاء أفراده بين الشيطانين، وحشيا وإجراميا. سالت على أرض الوطن دماء ما يزيد على الخمسمئة مواطن وعشرات الآلاف من الجرحى وآلاف المعوقين والمعتقلين. أُختطف ناشطون وناشطات وعُذب أطفال لاستخلاص اعترافات تدين آباءهم. شكك البرلمان والمرجعية بمطالب المنتفضين بداية وحين أُجبرا على الاعتراف بصحتها، شرع البرلمان بالتسويف والمماطلة بانتظار يأس المنتفضين وتخليهم عن ساحات بلادهم.

وعندما أُجبر رئيس الوزراء على الاستقالة بأمر من الشعب، وبانت دلائل اقتراب المنتفضين من تحقيق انتصارهم في التخلص من الشيطانين، كُتبت سيناريوهات جديدة للمناوشات واستعراض العضلات علنا، وتهيئة الأرضية لجولة جديدة للمفاوضات بين الطرفين سرا، بشرط القضاء على الانتفاضة. فقام الشيطان الأكبر بقتل الابن المفضل للشيطان الأصغر، أثناء زيارة سرية له « كضيف»، كما قيل لنا نحن السذج، ففاجأه الشيطان الأكبر بعدم الترحيب به ومن معه. إذ يرى الشيطان الأكبر نفسه أنه الأحق بالضيافة في العراق، أو كما يطلق عليه في قاموس الاستعمار الجديد «البلد المُضيف» وفق اتفاقيات موقعة مع أهل البيت.

مع تزايد التهديدات بتصعيد الاقتتال، في العراق، (لاحظوا ليس في طهران أو واشنطن)، ونجاح الشيطانين في تحويل الأنظار عن غضب الشعب ومطالبته بالوطن، خطب رئيس الوزراء المقال عادل عبد المهدي، في البرلمان، تضمنت من التناقضات ما يكاد يثير الشفقة عليه، لولا كونه مسؤولا، عن جرائم لا تغتفر بحق المنتفضين. ختم الخطبة بتقديم «خيار» انهاء الوجود الأمريكي بالعراق، واصفا إياه بأنه وجود أجنبي، وهو وصف يعيد إلى الأذهان خطابا لوزير الدفاع الأمريكي دونالد رامسفيلد عام 2004، قال فيه إن مشكلة العراق الأولى هي وجود الأجانب فيه، مستثنيا طبعا قوات الاحتلال الأمريكي، ربما لأنه اعتبرها من «أهل البيت»، كما يفعل عادل عبد المهدي، الآن، حين ينصح بإخراج الأجانب، كأن سليماني وبقية القيادة الإيرانية الفاعلة داخل العراق بالإضافة الى الميليشيات هم مواطنون عراقيون أبا عن جد.

إن المعنى العميق لمطلب المنتفضين حين ينادون باستعادة الوطن هو التخلص من المحتلين الأمريكي والإيراني، وتواجدهما المباشر وغير المباشر، وما أنجباه من المشوهين المتنافسين

ولا أدرى كيف لم ينتب عبد المهدي الخجل وهو يتحدث عن ضرورة الحفاظ على السيادة، وهو يعرف، جيدا، أن قوات الاحتلال الأمريكي والميليشيات الإيرانية والقصف التركي، لم يفتأوا ينتهكون سيادة العراق بشكل دوري وجماعي منذ 16 عاما! فهل كان النظام العراقي بحاجة الى اغتيال سليماني ليدرك أنه محتل من قبل أمريكا؟ ليطالب بالانتقام والثأر والقصاص العاجل وإعلان الحداد ثلاثة أيام لارتكاب أمريكا جريمة اغتيال ستة افراد، بينما مرر جريمة اغتيال أكثر من 500 شاب بصمت لا يضاهيه صمت؟

إن طلب انسحاب القوات الأمريكية وإلغاء تواجد القوات الأجنبية ردا على اغتيال مواطن عراقي هو ما يجب أن يكون لو كانت هناك دولة ذات سيادة تحترم وتقدر حياة مواطنيها، ولو كان المستهدف مواطنا واحدا، وما كان يجب أن يحدث منذ سنوات حين سبب الاحتلال الأمريكي زرع الإرهاب بأنواعه، وفتح الأبواب مشرعة للشيطان الأصغر ليتعاونا سوية، عبر عملائهما، على زرع الطائفية والفساد والتجهيل المنهجي بديلا للتوعية والتعليم، والاحباط بدلا من الأمل والموت بديلا للحياة، حتى تجاوز عدد الضحايا المليون منذ عام 2003، وها هو، الآن، رئيس وزراء مستقيل، يواصل الاستهانة بالمنتفضين والتكلفة الغالية التي يدفعونها ، يوميا، ليقدم مهزلة دحضها أعضاء البرلمان، حين وقفوا في البرلمان، هاتفين بغوغائية مبتذلة أمام الشعب المنتفض في الساحات منذ شهور، وأمام تضحيات الآلاف من المواطنين دما واعتقالا وتعذيبا: «نعم نعم… سليماني، كلا كلا… أمريكا». كيف يمكن لهذه المجموعة، بتاريخها وحاضرها المخزي، أن تعمل على تحرير البلد من قيوده، وعلى تحرير الأمة من الأسر الذي أوقعوها، هم أنفسهم، فيه؟

إن المعنى العميق لمطلب المنتفضين حين ينادون باستعادة الوطن هو التخلص من المحتلين الأمريكي والإيراني، وتواجدهما المباشر وغير المباشر، وما أنجباه من المشوهين المتنافسين، فسادا وطائفية وخنوعا، ما يضاهي أكبر صراع مافيوزي في أي مكان بالعالم. وهو ما لن يتمكن النظام الحالي من تحقيقه، حيث بلغت درجة انغماسه في الفساد المادي والإداري والأخلاقي، وتوفر ملفات الابتزاز المعدة ضد بعضهم البعض، حدا يمنعهم، وإن ارادوا، من تطهير أنفسهم.

إن مطالبة المنتفضين بحقوقهم سببت صدمة كبيرة للشيطانين الكبير والصغير، كما هو فشل المماطلات ومحاولات مد المواطنين بالأوهام ليتقبلوا واقعهم البائس. وقد حاول الطرفان، بمعاونة الساسة المحليين، مسخ الشعب ليحقق كل طرف منهما انتصاره على الآخر، ليحققا مصالحهما في التوسع والاستغلال والمحافظة على سلامة وأمن مواطنيهما والسيادة الوطنية. يتبادلان الأدوار، يهدد أحدهما الآخر، أو يتغازلان، يكمل أحدهما الآخر، على خشبة مسرح يدعى العراق. في 7 كانون الأول/ديسمبر الماضي، تفاوضا لإجراء صفقة، تبعها تغريدة من ترامب قال فيها «شكراً لإيران على مفاوضات عادلة للغاية. هل رأيتم، يمكننا عقد صفقة معا». اليوم يُشهر تغريداته مهددا. وكان من الممكن أن تستمر المسرحية، لصالح الطرفين، لولا انتفاضة تشرين، وهي حصيلة سيرورة كل المظاهرات والاعتصامات، السابقة، ضد من نخروا الأحلام بوطن. ونواة الأمل التي ستحقق النصر، حتما، إذا ما واصل المنتفضون امتلاكهم للساحات، على الرغم من المخاطر الجسيمة التي يتعرضون لها. تتطلب لتجاوزها انضمام بقية أبناء الشعب إليهم بحركة اعتصام مدني، خاصة من قبل عمال النفط، لإيقاف مد الغزاة، أيا كانوا، بما يطيل بقاءهم. وليقوم شباب البلد ببناء وطن بحجم آمالهم وطموحاتهم، مستقلا ليتعاملوا مع بقية بلدان العالم، على قدم المساواة لا كالعبيد.

كاتبة من العراق

 

 

عراق الانتفاضة

أين نحن ذاهبون؟

هيفاء زنكنة

 

من الصعب، ونحن على قرب يوم من بداية العام الجديد، التهرب من مراجعة أحداث العام الماضي واستشراف ما ستحمله الأيام المقبلة، بالنسبة الى الانتفاضة العراقية، الموشكة على دخول شهرها الرابع، خاصة بعد أن تحقق، فعليا، ما كان الجميع يتوقعه في تحويل مواقع في البلد، الى ساحات مناوشات واقتتال بين أمريكا وإيران. من ناحية المراجعة والتقييم الموضوعي، لا يختلف اثنان في أن الانتفاضة السلمية، حققت تغييرات، ذات أهمية كبرى، محليا وإقليميا، على الرغم من القمع الوحشي الذي تواجهه، يوميا.

محليا، أطلق الشباب الخريجون، والعاطلون عن العمل، والمهمشون صرخة احتجاجهم الأولى مطالبين بحقوقهم واستعادة وطنهم، بعد أن أدركوا أن المطالبة الجزئية المحصورة بمصلحة هذه الفئة أو الطائفة أو الشريحة المعينة دون غيرها لم تعد تجدي، وأنهم وصلوا قاع الطموحات والآمال التي يعيشها الشباب في معظم البلدان، فكيف ببلد غني كالعراق؟ وأدركوا أن انتماءهم الى حزب طائفي أو ميليشيا مسلحة أو الجلوس بانتظار تحقيق وعود العمل، بات مهزلة المهازل، واستهانة بعقولهم من قبل أحزاب فاسدة وحكومة تتحكم بها الميليشيات.

جاء هذا الإدراك بعد 16 عاما من بضاعة «الديمقراطية» والتخلص من المظلومية، فلا غرابة أن يختار المنتفضون الوقوف بعيدا (كالخائف من عدوى الإصابة بمرض خبيث) عن الأحزاب التي ساهمت بالعملية السياسية التي أسسها حاكم الاحتلال الأمريكي بول بريمر. رافضين تعيين أي شخص، كرئيس وزراء للحكومة الانتقالية، إذا كان ينتمي الى أي حزب، مهما كان، عمل ضمن إحدى حكومات الاحتلال منذ عام 2003 وحتى إجبار رئيس الوزراء عادل عبد المهدي على الاستقالة في الشهر الماضي. يبين اتخاذ المنتفضين قرارا كهذا، انعدام الثقة بالأحزاب مجتمعة، مما يجردها من شرعية وجودها كممثلة للشعب، بكل مواطنيه، يتوجب عليها أن تلعب دورا فعليا في نيابة الشعب، وأن تكون عوامل فاعلة ذات أهمية مركزية في نظام ديمقراطي.

محليا، أيضا، تمكن المنتفضون، ذكورا واناثا، من تقديم الإجابة على سؤال طالما طرح، على مدى سنوات الاحتلال الأمريكي والحكومات الميليشياوية، المُلفعة بالسواد، وهو: أين هي المرأة العراقية؟ خلال الانتفاضة، وفي فترة وجيزة نسبيا، استعادت المرأة مكانتها المعتادة، جنبا الى جنب مع الرجل، مطالبة بالوطن والحقوق المهضومة، منادية: نازلة آخذ حقي وعراق… عراق، كلنا عراقية.

إقليميا ودوليا، هتف المنتفضون ضد التدخل الإيراني بميليشياته وأمريكا بقواعدها العسكرية ومرتزقتها. أدرك المنتفضون أنهم لن يستعيدوا الوطن إذا لم يكن مستقلا ويتمتع بالسيادة. وأن تحقيق مطلب الوطن يقتضي التخلص من الاستبداد الداخلي والتدخل الخارجي معا.

هناك نقاط أساسية يواصل المنتفضون التركيز عليها، وهي: اصرارهم على البقاء في الساحات والشوارع، مؤكدين في تصريحاتهم « حتى ننال حقوقنا» و«وفاء لدم الشهداء»

لم تمر هذه المنجزات بسهولة. دفع المنتفضون ثمنا غاليا جدا لتحقيق جزء من حملة التنظيف الداخلية والخارجية. بالمقابل تكاتفت قوى الفساد والاستبداد الداخلي والخارجي، متشبثة بمصالحها وما تعتبره غنيمة حرب من جهة، وساحة لتسوية النزاع والمفاوضات السرية، خاصة، بين أمريكا وإيران، من جهة أخرى. فشهدت ساحات التحرير استماتة متلازمة المستبد – المحتل في الدفاع عن وجودها ومصالحها المهددة. قتلت مئات الشهداء وجرحت عشرات الآلاف واعتقلت وعذبت آلاف المتظاهرين. استخدمت كل ما يتوفر لديها من قتلة وأسلحة محرمة ضد متظاهرين سلميين. وحين رأت اصرارهم وصمودهم على مواصلة الطريق الذي شرعوا بالسير فيه، لجأت الى حملة الاختطاف أولا والذي استهدف النساء لمنعهن من المساهمة بأي نشاط كان، ثم القتل بواسطة كاتم الصوت ثانيا. وقد فاقت أعداد ضحايانا ما سقط في أي بلد آخر في العالم شهد الانتفاضة في العقد الأخير من السنين، سواء بالعدد أو بالنسبة لعدد السكان.

إلى جانب الاستهداف الجسدي للمنتفضين، تستعين متلازمة المستبد – المحتل بمواقع التواصل الاجتماعي، لترويع المنتفضين واستهدافهم نفسيا، عبر حملات تشويه منهجية تتهمهم بالعمالة لقوى خارجية، الكيان الصهيوني وأمريكا، مثلا. يساهم في حملات التشويه والتشكيك بطبيعة الانتفاضة عدد من الأكاديميين والمحللين، إضافة، الى عدد من المؤسسات البحثية التي تدعي الموضوعية. يقوم السذج بتدوير ومشاركة هذه المقالات والبحوث، بدون التأكد من صحة مصدرها وتوثيقها. تُنشر هذه الرسائل لترويع وتخويف ومنع الناس من الانضمام الى المنتفضين، او دفع الموجودين على المغادرة. ولا تخلو مواقع التواصل من قنوات بث (يوتيوب)، تبث رسائل تتضمن « فضح» هذا المحتل ضد ذاك، ينفذها أشخاص يرون في أمريكا الخلاص من « الظلامية الإسلاموية»، أو يرون في إيران الخلاص من « الشيطان الأكبر». كلا الطرفين يدعيان الوطنية وانقاذ العراق.

إزاء هذا كله، ما الذي يُعَول عليه المنتفضون، خاصة، مع توقع زيادة الضغط السياسي عليهم للوقوف بجانب « الحكومة» وإلا اُتهمت بالخيانة؟ «الحكومة» التي صارت تُقدم نفسها باعتبارها «العراق» بعد أن استهدف طيران الاحتلال الأمريكي مواقع ميليشيا حزب الله التابع للمحتل الإيراني قبل يومين. فهل «الحكومة» أو مليشيا حزب الله، هي العراق حقا؟

هناك نقاط أساسية يواصل المنتفضون التركيز عليها، وهي: اصرارهم على البقاء في الساحات والشوارع، مؤكدين في تصريحاتهم « حتى ننال حقوقنا» و «وفاء لدم الشهداء». نيل الحقوق يعني في حكومة انتقالية، نزيهة، لم يخدم أفرادها أي احتلال، أمريكيا كان أو إيرانيا أو مُنزلا من المريخ (حسب تعبيرهم)، واجبها الأول هو تمثيل الشعب العراقي، كله، ومحاسبة المسؤولين عن جرائم القتل، الذين يعرفهم المنتفضون ويُنكر النظام معرفتهم. أن شروط المنتفضين غير مستحيلة، وممكنة التحقيق، إذا ما توفرت الإرادة السياسية الوطنية، وتم وضع حد لمنظومة المحاصصة الطائفية والفساد، التي نخرت الدولة بكل مؤسساتها وتسربت، تدريجيا، الى بنية المجتمع، لتؤسس طبقة ساسة الأحزاب الحالية. كما شَرعت الأبواب للإرهاب، وكل من يرغب بقضم جزء من بلد، أصبح مفهوم السيادة فيه نكتة سمجة، أو قطعة قماش مهلهلة، تُستخدم، كما هو الدستور، لمسح الأوساخ السياسية. وأصبح كل مواطن مطالبا بإثبات وطنيته، عن طريق أما ان يكون مع أمريكا اذن هو ضد إيران، أو مع إيران اذن هو ضد أمريكا، متعامين عن حقيقة أن الاثنين مُحتلان للوطن، وإن بنسب متفاوتة.

في روايته الأخيرة، المعنونة «الأصل»، يحاول الكاتب الأمريكي المعروف دان براون، الإجابة على اثنين من أهم الأسئلة التي يواجهها الانسان عن الحياة: «من أين أتينا؟» و «أين نحن ذاهبون؟». يحيلنا السؤال الأول الى ضرورة معرفة أسباب الانتفاضة لأن «أولئك الذين لا يعرفون الماضي محكوم عليهم بتكراره»، كما يذكرنا الكاتب والفيلسوف الاسباني جورج سانتايانا، أما الإجابة على السؤال الثاني، فإنه محكوم بالأمل الذي يراهن عليه المنتفضون، ونحن معهم.

كاتبة من العراق

 

 

الفضائيات العراقية بين

الانتفاضة والابتذال الإعلامي

هيفاء زنكنة

 

أصبحت المقابلات التلفزيونية التي تجريها الفضائيات العراقية وعدد من القنوات العربية، مع شباب الانتفاضة، مرتعا خصبا أما لتمرير أجندة القنوات السياسية والربحية، وهي مسألة مفهومة، اذ ليست هناك أجهزة إعلام، تعمل كجمعيات احسان لصالح الشعوب، أو ساحة لاستعراض وتذاكي مقدمات ومقدمي البرامج ونشرات الأخبار، بذريعة « أن الشارع العراقي يتساءل»، وحين يدرك مقدم البرنامج، متأخرا، عادة، أن من يتحدث اليه هو الذي يمثل الشارع، يستدرك موجها سؤاله بصيغة تعميمية أكثر، على مستوى « هناك من يتساءل».

معظم هذه القنوات، تواصل تسويق نفسها، على الرغم من كل ما يدل على العكس، باعتبارها محايدة وموضوعية وتمثل صوت الشارع، فيستمرئ مذيعوها ومقدمو برامجها أداء أدوارهم، عن طريق الاستهانة بضيوف البرامج وبالتالي، ولطول ساعات البث، بعقول الناس. حيث برز، في الأسبوعين الأخيرين، إثر اقالة رئيس الوزراء عادل عبد المهدي، ومع تحقيق المنتفضين خطوتهم الأولى نحو التغيير واستعادة الوطن، الوجه الحقيقي للإعلام المخاتل، إزاء المنتفضين، عندما تتم استضافتهم من ساحات التحرير من مختلف أرجاء البلاد. فبدلا من الحديث عن مجريات الحياة اليومية للمنتفضين، وكيف يواصلون البقاء في الساحات والطرق، وتفاصيل التحكم بالمشاعر الإنسانية من غضب وخوف وتحد وهم يواجهون ويتعرضون لاستهداف وحشي، ورمي بالرصاص الحي، ورشهم بالغاز المسيل للدموع والذي يستخدم في مناطق الحروب، فقط، بالإضافة إلى رؤيتهم لزملائهم وأصدقائهم، وفي بعض الحالات أقربائهم، وهم يقتلون أمامهم أو يتم العثور على جثثهم بعد اختطافهم، بدلا من ذلك ، بتنا نرى عملية اخضاعهم، من قبل مقدمي البرامج ، لاستنطاق يذكرنا ببرامج أجهزة الإعلام الرسمية، التي يتم فيها استنطاق عضو عصابة أو إرهابي، بعد تعذيبه وتوقيعه على الاعتراف بطبيعة الحال.

معظم الفضائيات، تواصل تسويق نفسها، على الرغم من كل ما يدل على العكس، باعتبارها محايدة وموضوعية وتمثل صوت الشارع، فيستمرئ مذيعوها ومقدمو برامجها أداء أدوارهم، عن طريق الاستهانة بضيوف البرامج

شاهدنا، قبل أيام، نموذجا لأحد هذه المقابلات في فضائية، تواصل البث على مدى 24 ساعة يوميا. قدم البرنامج، ومدته ساعة، مذيع، أراد أن يثبت أنه صاحب سلطة على الضيف والجمهور، وأنه، وهذا هو الأهم سيحصل، شاء الضيف ام أبى، على الجواب الذي يريده، بالتحديد، لا أكثر ولا أقل. على مدى ساعة، دار المذيع، حول سؤال واحد بتنويعات استنطاقية متفاوتة، بمثابرة يحسد عليها. وهو ليس الوحيد بل بالإمكان اعتباره نموذجا لكثيرين غيره، من مقدمي البرامج العربية. أراد ان يعرف، بالضبط، بأسلوب استعراضي يجمع بين التهكم والجلوس بأوضاع مختلفة، لماذا لم يختر المتظاهرون، حتى الآن، متحدثا رسميا ناطقا باسمهم، يقوم بالتفاوض مع «الحكومة» لتحقيق مطالبهم، و… لماذا لا يخفف المتظاهرون من اصرارهم على المطالب؟

كان الناشط صبورا على الرغم من ملامح التعب البادية على وجهه. وكيف لا يتعب من قضى عدة اسابيع معتصما في ساحة مهددة بالموت، في كل لحظة، على أيدي الميليشيات والقوات الحكومية؟ كرر، المرة تلو المرة، مطالب المنتفضين وكيف أنها أساسية، يرتبط بعضها بالبعض الآخر، ولا يمكن المساومة عليها، خاصة بعد أن ختمت بدماء الشهداء. إنها حقوق غير مطروحة للمقايضة مع نظام فاسد استنفد مدة صلاحيته منذ سنوات، وصبر عليه أبناء الشعب حفاظا على السلم، وأملا في ان يستيقظ الفاسدون، يوما، ليدركوا مدى الخراب الذي جروا اليه العراق وأهله. كرر الناشط، أيضا، رفض المنتفضين لترشيح أي شخص ساهم، بطريقة أو أخرى، في العملية السياسية منذ عام 2003 أو ينتمي الى أحد الأحزاب المشاركة. فالخراب الذي أصاب البلد ليس مسؤولية فرد واحد بل مسؤولية نظام، وترشيح أحد أبناء النظام كرئيس للوزراء لإدارة الحكومة الانتقالية، هو ضحك على الناس، واستهانة واحتقار لا مثيل لهما للشهداء الذين دفعوا حياتهم ثمنا لاستعادة الوطن من أيدي الفاسدين. وكان الناشط موفقا، تماما، في استخدامه وصف النظام بالفساد باعتباره أساس القمع والاستبداد والطائفية والإرهاب. فالفساد، حسب ميثاق الأمم المتحدة، وقد تذوقه الشعب العراقي على مدى 16 عاما، هو الأخطر على استقرار المجتمعات وأمنها، والأسس الأخلاقية والعدالة وسيادة القانون. وذلك للصلات القائمة بين الفساد وسائر أشكال الجريمة، وخصوصا الجريمة المنظمة والجريمة الاقتصادية، بما فيها غسل الأموال، وتزوير العقود والتلاعب بموارد البلد، والتعيينات الوهمية وابعاد الاكفاء النزيهين المؤهلين لشغل الوظائف العامة، مما يهدد الاستقرار السياسي والاقتصاد الوطني والتنمية المستدامة.

مر مقدم البرنامج مرورا عابرا على تشخيص الناشط عن الفساد والفاسدين، ليركز على السؤال الذي بات قبلة أجهزة الإعلام، ومحط استنطاق يثير الشك، هو الكشف عن ممثلي المنتفضين. حاول الناشط أن يبين خطورة مثل هذه الخطوة، وكيف أن المنتفضين مهددون بالاختطاف والقتل اليومي لمجرد تواجدهم في الساحة فكيف إذا ما تم الإعلان عن أسماء متحدثين او مفاوضين باسمهم؟ الا يكفي عدد المختطفين والقتلى حتى الآن؟ وإذا كانت الحكومة جادة بالاستماع للمنتفضين فلم لم تقم بأي خطوة سريعة لكسب ثقة الناس حتى الآن؟ لماذا يواصلون التأجيل وإقامة الاجتماعات في فنادق فخمة، يَدَعون فيها، تمثيل المنتفضين، ويتصرفون وكأن الحياة المشلولة تسير بشكل طبيعي في البلد؟ قوبلت توضيحات الناشط الهادئة المنطقية، بإصرار مقدم البرنامج على تكرار السؤال، مما دفع الناشط الى تذكيره بانه جالس في استديو خارج العراق، متمتعا بالأمان، حيث لا يمكن أن تطاله الميليشيات أو يد الغدر، مضيفا «أما أنا، فموجود مع الآخرين في ساحة نخاطر فيها بحياتنا، ولا ندري ما الذي سيحدث في الدقائق المقبلة، ومن منا سيكون القربان المقبل، مع هذا نحن مصرون على البقاء، وفاء للشهداء ولأنها الطريقة السلمية الوحيدة التي ستجعلنا نسترجع العراق من الفاسدين ونعيد بنائه».

من بين الإنجازات التي تحسب للانتفاضة، بالإضافة الى توحيد الناس بعيدا عن الطائفية، ونشر الوعي السياسي والاقتصادي، وتقوية الروابط المجتمعية والثقافية، مساهمتها بشكل يومي في تعرية الأحزاب وفضح زيف أجهزة الإعلام المستند، خلافا لما يشاع، ليس على الأجندة السياسية والتجارية لمالكيها فقط، بل على ابتذال العاملين فيها، ممن يقدمون أنفسهم كإعلاميين.

٭ كاتبة من العراق

 

 

من الذي يريد عراقا قويا؟

هيفاء زنكنة

 

ما الذي ينتظره رئيس الجمهورية والبرلمان العراقي بعد اقالة رئيس الوزراء وحكومته، لترشيح بديل مؤقت يليق بمطالب وتضحيات المحتجين ودماء الشهداء؟ ما الذي سينفذه البرلمان، وهو المنتخب من قبل 18 بالمئة من المؤهلين للانتخاب، بينما يتواجد الـ 82 بالمئة منهم، حاليا، في ساحات المدن والمحافظات، احتجاجا على الطائفية والفساد والعمالة، التي غلفت حياة الشباب، الخريجين خاصة، خلال 16 عاما الأخيرة، في بلد يُعد واحدا من أغنى دول النفط المصدرة بالعالم، حيث يصدر 4 ملايين برميل يوميا، وتبلغ ميزانية حكومته 112 مليار دولار (ميزانية إيران للعام المقبل هي 35 مليار وسكانها ضعف سكان العراق) بينما لا يحمل خريج الجامعة، الذي يستشهد في ساحات الاعتصام، وفي جيبه اقل من الدولار يوميا؟

لنترك، جانبا، تاريخ الساسة العتيد في التعاون مع المحتل ومأسسة الطائفية ونهب ثروة البلاد. لنترك جانبا 16 عاما من تجريد المواطنين من الاحساس بالانتماء الى الوطن، وتصنيع الهويات الزبائنية، حيث الولاء لمن ينعم بالعمل او المال من أمراء الميليشيات ومافيات الفساد، ولنراجع سجلهم خلال الستة أسابيع الأخيرة، فقط، أي منذ اندلاع الانتفاضة في الأول من تشرين/ أكتوبر. ولنتبع مقولة « عفا الله عما سلف»، التي طالما كررها الزعيم الراحل عبد الكريم قاسم.

عند مراجعة سجل إنجازات رئيس الجمهورية والبرلمان والحكومة المُقالة (لاتزال سارية المفعول بانتظار تحقيق معجزة اختيار رئيس وزراء جديد)، خلال الستة أسابيع، تقريبا، من المظاهرات والاعتصامات السلمية (باعتراف العالم كله)، اقترفت منظومة « العملية السياسية»، أو «النظام الفاشي»، حسب المنتفضين، بشكل مباشر أو غير مباشر، أفعالا تجاوزت حدود الوصف بمفردات «الجرائم» و«الانتهاكات» التي توصف بها أفعال الأنظمة القمعية، عادة.

يضم سجل النظام، حتى اليوم، قتل ما يقارب 475 مواطنا وعشرين ألف جريح وآلاف المعتقلين، بالإضافة الى المختطفين الذين لا يُعرف مصيرهم. وهي أرقام تضمن الفوز الساحق للنظام العراقي على نظام الدكتاتور زين العابدين بن علي، بتونس، مثلا، والذي بلغ عدد ضحاياه، في الأيام السابقة للإطاحة به، 67 شهيدا. وتمت محاكمة الأمنيين الذين ارتكبوا الجرائم، بعد هربه، وهنا وجه التشابه مع بعض ما يجري حاليا في العراق «لأن القتلى الذين سقطوا برصاص الأمن خلال الثورة أصيبوا في أماكن قاتلة مثل الرأس والرقبة، وهذا يعني أن فعل القتل كان متعمدا وليس على وجه الخطأ»، حسب محامية عوائل الشهداء.

مهما كانت مسميات «الطرف الثالث» أو «المندسين»، والتي ترتب عليها استشهاد مئات الشباب في مجازر وحشية ارتكبت خلال وجود هذا النظام، وفشله في حماية المواطنين هو مسؤولية النظام. وأن أفراده، في ظل نظام وطني، سيحاكمون، بتهم القتل العمد والجرائم ضد الإنسانية

من بين «إنجازات» النظام، التي انغرزت عميقا بذاكرة الشعب، هي ارتكاب المجازر. اذ لم يعد معدل القتل اليومي، التدريجي، للمتظاهرين، يُشبع من تعودوا على شرب الدماء. فكانت مجزرة الناصرية، جنوب العراق، التي ذهب ضحيتها زهاء 32 قتيلاوأكثر من 225 جريحًا في 28 تشرين الثاني/نوفمبر، بينما قُتِل 15 متظاهرًا وجُرِح 157 آخرين في 30 تشرين الثاني/نوفمبر. تخللتها يوم 29 حملة تصفية المتظاهرين في مدينة كربلاء، استشهد خلالها 13 شخصا على الأقل وإصابة 865 آخرين. وأدى هجوم مسلحين على المتظاهرين، في ساحة الخلاني ومنطقة السنك، وسط بغداد، ليلة الجمعة 6 كانون الأول/ ديسمبر، الى مجزرة استشهد جرائها 25 شابا وجُرح نحو 130.

أدى استشراء القتل والاستهداف المنهجي للمتظاهرين الى استنكار عالمي بدءا من الأمين العام للأمم المتحدة الى فرنسا وكندا والولايات المتحدة، بالإضافة الى اصدار المنظمات الحقوقية الدولية، التقرير تلو التقرير، ادانة لاستمرار استخدام الذخيرة الحية ضد المتظاهرين مما أدى إلى ارتفاع عدد الوفيات والإصابات. ووصل الأمر بالبابا فرنسيس الى مناشدة « السلطات إلى الاستماع إلى صرخة الناس الذين يطلبون حياة كريمة وسلمية».

فمن هو المسؤول، اذن، عن ارتكاب هذه المجازر؟ يؤكد شهود عيان من بين المتظاهرين أنها ميليشيات مسلحة مدعومة إيرانيا، وأنها ميليشيا عصائب الحق وكتائب حزب الله. وتبين أشرطة فيديو عديدة مسيرة مؤيدي الحشد الشعبي، في ساحة التحرير، وهم يحملون السلاح وشعارات تأييد المرجعية مقابل المتظاهرين السلميين حاملي العلم. بينما يتهم الناطقون باسم النظام وكل ساسته، الطرف الثالث، او المندسين. ويقول المتحدث باسم الحكومة الإيرانية علي ربيعي أنهم «مضمرو سوء يريدون تخريب العلاقة بين العراق وإيران». أما المتحدثون باسم البيت الابيض الأمريكي فالمسؤول الأول هو إيران. أما وكالة انباء «ارنا» الإيرانية الرسمية فقد ذهبت أبعد من ذلك متهمة المتظاهرين أنفسهم بكونهم قد تم تحريكهم من قبل أمريكا والسعودية وإسرائيل «بهدف تخريب علاقات إيران مع العراق وسوريا».

في غياب وجود أي تحقيق عراقي مستقل حول الجرائم، وحملات التشويه والتضليل والتلفيق المستمرة، وعدم تحميل المسؤولية لأي جهة كانت، تبقى كل الاحتمالات حول هوية مرتكبي الجرائم، واردة. فأبواب العراق مشرعة أمام كل من هب ودب، وأرضه مسرحا لصراع يكاد لا يهدأ يوما بين إيران وأمريكا منذ احتلاله عام 2003 وتأسيس «العملية السياسية». فإيران ممثلة بالميليشيات المسلحة المحصنة من العقاب، وأمريكا بقواعدها العسكرية ومخابراتها وقدرتها على تنفيذ العمليات الخاصة بواسطة «الشركات الأمنية». كلا البلدين يدافعان عن مصالحهما وأمنهما، بعيدا عن أراضيها. كلا البلدين مستعدين وقادرين على تنفيذ «العمليات القذرة»، بأشكالها، على حساب حياة العراقيين، لإثارة الفتنة وديمومة ضعف البلد. فالعراق الضعيف، المستهلكة ثروته البشرية والنفطية، في نزاع مستمر، منخفض الدرجة، مفيد لكلا الطرفين. فمن الذي يريد عراقا قويا؟

يلعب ساسة النظام، نفسه، أدوارهم بمهارة عالية. فهم لايزالون يجتمعون سوية، يتبادلون الابتسامات، ولا ينسون أن يستنكروا «استخدام العنف» ضد المتظاهرين، بعد أن يتأكدوا من وجود الكاميرات لالتقاط صورهم. آملين بالبقاء، على الرغم من تآكل وجودهم المنخور بالفساد ودماء الشهداء، وهم يعولون على كسب الوقت وتخدير المنتفضين بالوعود المهدئة. متعامين عن أن الحقيقة الوحيدة الثابتة هي ان ما يجري، مهما كانت مسميات وتوصيفات «الطرف الثالث» أو «المندسين»، والتي ترتب عليها استشهاد مئات الشباب وحتى الأطفال في مجازر وحشية ارتكبت خلال وجود هذا النظام، وفشله في حماية المواطنين هو مسؤولية النظام. وأن أفراده، في ظل نظام وطني مستقل، سيحاكمون، ان آجلا ام عاجلا، بتهم القتل العمد والجرائم ضد الإنسانية.

كاتبة من العراق

 

 

«المندس» الناعم والمسلح

في الانتفاضة العراقية

هيفاء زنكنة

 

يكثر الحديث الإعلامي والسياسي، فيما يخص انتفاضة تشرين/ أكتوبر العراقية، في الأيام الاخيرة، أثر إقالة رئيس الوزراء عادل عبد المهدي، عن «المندسين». لا يضاهيه في كثرة الترداد، حتى على مواقع التواصل الاجتماعي، بأنواعها، غير نعت «الذيول» المستخدم لتوصيف أتباع الاحتلالين الأمريكي والإيراني، وهو تعبير أجدى وأوضح لوصف التبعية الفكرية والعملية. وعلى الرغم من كثرة الترداد، ليس هناك تعريف محدد ومتفق عليه للمندسين، بل يتم استخدام التوصيف وفق ما يراه الفرد او المجموعة أو الحكومة، إزاء فرد او مجموعة أو حكومة أخرى، كل حسب انتمائه ومشاعره المتأججة، في حالة الافراد والمجموعات، والأجندة السياسية، المنهجية المتشابهة، في حالة الحكومات والدول. حيث تفتخر أجهزة المخابرات المركزية، في كل بلد، بقدرتها على اختراق او الاندساس بين صفوف المعارضين والثوار ومنظمات المجتمع المدني، أحيانا، ناهيك عن المنظمات الإرهابية، للدلالة على حفظها للأمن وحماية المواطنين.

وتتمثل ظاهرة الاندساس بين المتظاهرين السلميين بأكثر صورها وضوحا في ممارسات الكيان الصهيوني تجاه الفلسطينيين، اذ تثبت عدة فيديوهات موثقة، كيف يندس ملثمون بين المتظاهرين وهم يرشقون قوات الاحتلال بالحجارة، ثم يطلقون النار على المتظاهرين بينما تنشغل مجموعة منهم بعزل أحد المتظاهرين عن رفاقه وضربه بقسوة قبل اعتقاله. هؤلاء المندسون يسمون «المستعربين». أما في مصر، فقد رصد فيلم «المندس»، الوثائقي، قضية الاعتداء على المظاهرات من قبل من يُطلق عليهم «المواطنون الشرفاء»، لتتم اضافتهم الى المندسين المتعارف عليهم من بين قوات الأمن.

شغلت ظاهرة الاندساس حيزا كبيرا من مساحة التغطية الإعلامية للانتفاضة ومتابعة التغيرات الجوهرية التي تمكنت من تحقيقها خلال فترة قصيرة، وبتكلفة بشرية عالية، دفعت الرأي العالمي، الى الانتباه اليها، رغم اختيارها الاولي بالتعامي عنها. فمنذ اليوم الأول للانتفاضة والتصريحات الرسمية تخلط بتعمد بين المتظاهرين السلميين الذين لم يحملوا غير العلم العراقي سلاحا و«المندسين»، سواء كانوا وهميين أو من الميليشيات أو قوات الأمن. يكاد لا يخلو أي تصريح رسمي سواء من قبل رئيس الجمهورية والوزراء الى أصغر عسكري أو أمني في الحكومة من اتهام «المندسين»، بحيث أصبحت السردية العامة الجامعة بين الترهيب وتبرير القتل متشابكة الى حد كبير. وبات تناقض السردية من مسؤول الى آخر، وهم يعيشون حالة التخبط ووحشية رد الفعل إزاء الانتفاضة غير المتوقعة، يوقعهم بمسؤوليات قانونية لا يدركون هم أنفسهم مدى تورطهم فيها. ومن المتوقع، فيما لو نجح الشعب في تشكيل حكومة وطنية مستقلة، أن تستخدم التصريحات والأوامر والأفعال التي يتم توثيقها كأدلة في محاكمتهم كمجرمي حرب مسؤولين عن قتل مئات المتظاهرين وجرح الآلاف وإعاقة المئات بشكل دائم.

لقد أثبت المنتفضون، حتى اليوم، أنهم حملة الوعي الوطني، وأنهم، هم أنفسهم، المرجعية الحقيقية الناشطة لتحرير وبناء الوطن، مهما كانت محاولات الاندساس والتشويه وتدوير الوجوه القديمة

حسب التصريحات الحكومية، يظهر «المندسون» بين المتظاهرين بمسميات وأشكال متعددة، مما يمنح النظام حق اعتقالهم وخطفهم وقتلهم. حيث تحدث عادل عبد المهدي عن وجود «الخارجين على القانون»، أما المتحدث باسمه فقد وصفهم بأنهم «مخربون» وأصدر الأوامر باعتقالهم. وأعلن الناطق باسم مركز الإعلام الأمني « أن المندسين بين المتظاهرين استخدموا الحجارة وأطلقوا النيران ضد القوات الأمنية». ويأتي التناقض الأكبر في تصريح وزير الدفاع الذي اتهم «جهة ثالثة» في استهداف المتظاهرين بالأسلحة القاتلة، مما وسع من مفهوم الاندساس ليشمل، للمرة الأولى، الإشارة الى الميليشيات أو قوى خارجية «مجهولة الهوية» وسرعان ما تبنى رئيس الوزراء، الذي بات يوزع التهم يمينا ويسارا، كمحاولة لإنقاذ نفسه من المستنقع الذي حفره لنفسه، بإلقاء مسؤولية حملة اختطاف الناشطين من رجال ونساء بالإضافة الى لواء في الجيش، على «طرف ثالث»، في ذات الوقت الذي يُكذب الناطق باسم وزارة الدفاع تحسين الخفاجي التصريحات التي تدعي وجود أطراف مجهولة، أو عدم معرفة المندسين، لأن» مشاهدة التظاهرات من خلال أجهزتنا وطائرات المراقبة والكاميرات الممتدة في كل أنحاء بغداد تعطينا حركة كاملة للمتظاهرين والمندسين ومن يسيء الى القوات الأمنية والتظاهرات». فاذا كانت أجهزة وطائرات المراقبة والكاميرات توفر الحركة الكاملة للمتظاهرين والمندسين فلم لم تميز القوات الأمنية بينهم وبين المتظاهرين؟ وكيف صار هم قوات النظام قتل المتظاهرين بدلا من اعتقال المندسين؟

في خضم التصريحات الرسمية المفضوحة في بث الاشاعات لتشويه الانتفاضة السلمية، وللتغطية على جرائم النظام، برز نوع آخر من «الاندساس»، الذي يمكن وصفه بالناعم لأنه أكثر قدرة على الاندماج بالمنتفضين. وهو سلاح ذو حدين. حيث نزلت الى ساحات الانتفاضة وجوه كانت معروفة، قبل الغزو والاحتلال عام 2003، بتعاونها، على مستويات مختلفة، مع الإدارة الأمريكية والحكومة البريطانية، اما بشكل حزبي أو شخصي، لإضفاء الوجه العراقي على غزو البلد. وقد تمت مكافئة العديد منهم بمناصب استشارية، أما لرئيس الجمهورية او رئيس الوزراء. هذا على المستوى الشخصي أما على المستوى الحزبي، فقد كانت المكافأة بشكل مشاركة برلمانية، عبر تحالفات تَدَعي تمثيل الشعب. تتواجد هذه الوجوه في ساحات الانتفاضة، أحيانا، لوهلة قصيرة تكفيها لالتقاط الصور، لأثبات نظافة مواقفهم، وصدى لشعار «نحن مع مطالب المحتجين» الذي يردده كل ساسة « العملية السياسية»، بينما يتزايد سقوط الشهداء. ولا تخلو الساحات من وجوه حزبية تريد ركوب موجة التحرير، بعد اقصائها من «العملية السياسية»، التي كانت من أشد المؤيدين والمنظرين لديمقراطيتها عمليا وفلسفيا، وبعد ان فشلت في الحصول على مكاسب ترى نفسها جديرة بها.

ما هو الدور الذي سيلعبه «المندسون»، على اختلاف تسمياتهم، وتنوع طرق استغلالهم، سواء كانوا من مستخدمي السلاح او أصحاب الخطب الناعمة، بعد اقالة عادل عبد المهدي وحكومته بقوة المنتفضين المباركة بدماء الشهداء؟ لقد أثبت المنتفضون، حتى اليوم، أنهم حملة الوعي الوطني، وأنهم، هم أنفسهم، المرجعية الحقيقية الناشطة لتحرير وبناء الوطن، مهما كانت محاولات الاندساس والتشويه وتدوير الوجوه القديمة.

كاتبة من العراق

 

 

 

 

 

 

 

تهديدات الحاكم بأمره

ومسار الانتفاضة في العراق

هيفاء زنكنة

 

إذا ما حدث ولجأ أحدنا إلى «غوغل»، بحثا عن الأنظمة التي تستهدف المتظاهرين السلميين بالرصاص الحي والقناصة، لوجدنا أن الكيان الصهيوني يحتل مركزا متقدما في استهدافه أبناء الشعب الفلسطيني، ولوجدنا، أيضا، أن النظام العراقي، بات منافسا حقيقيا في استهدافه المتظاهرين السلميين، مما يؤكد، بما لا يقبل الشك، ما نعرفه جميعا، وهو أن أنظمة الاحتلال والقمع، تستنسخ الإرهاب والممارسات الاجرامية.

فالمنتفضون في العراق المحتل أمريكيا وإيرانيا، كما في فلسطين المحتلة من قبل الكيان الصهيوني، ومنذ الأول من تشرين/ أكتوبر، يواجهون وهم يحملون حياتهم على أكفهم، الموت الذي يزرعه القتلة خشية امتداد الحياة.

وإذا كانت المقاومة الفلسطينية قد علمتنا أنها الحياة، فإن مقاومة المحتل الأمريكي، في الأعوام التالية لغزو العرق، قد علمتنا أن المقاومة تعني أن تكون موجودا، أن تكون إنسانا. وها هي انتفاضة تشرين/ اكتوبر، تبين انها، بوحدة تمثيلها للشعب، ومطالبتها بإسقاط النظام الطائفي الفاسد، وإنهاء الاحتلالين الأمريكي والإيراني، قد وصلت مرحلة التغيير النوعي لتراكم ما سبقها من مقاومة وحراك شعبي.

لئلا ننسى: كيف أثبتت التظاهرات، عراقيتها ووطنيتها، منذ الشهر الأول للاحتلال، عام 2003، حين تظاهر عدد من سكان مدينة الفلوجة أمام مدرسة ابتدائية مطالبين قوات الاحتلال بمغادرتها، رافعين شعار «أيها المحتلون القتلة سنخرجكم إن آجلا أم عاجلا». فتعاون المحتل مع الحاكم المحلي على إبادة المدينة واتهام أهلها بالإرهاب. أثمرت المقاومة المسلحة، البطولية، الدامية، رغم تشويهها بالطائفية بـ«العمليات السوداء» المدارة من الاحتلال، بسحب المحتل أغلب قواته وإبقاء وجوه محلية بالنيابة مشاركاً هذه المرة خصمه إيران. واستمرت التظاهرات، بشكل متقطع في كافة أرجاء البلاد بمطالب مختلفة لتعود، بقوة في 25 شباط (فبراير) 2011، تزامنا مع ثورات الحرية في تونس ومصر. جوبهت التظاهرات بالرصاص الحي فاستشهد 27 متظاهرا وتم اعتقال وتعذيب عشرات المتظاهرين. لئلا ننسى، كانون الثاني/يناير 2013، كيف وصف نوري المالكي، رئيس وزراء نظام «حزب الدعوة»، التظاهرات الشعبية والاعتصامات التي ساهم فيها ما يزيد على المئة ألف مواطن، على مدى أسابيع، بأنها «نتنة» وطائفية وأنها «فقاعة»، وهي «عملية تواصل مع جهات أجنبية» وأن المحتجين هم «أصحاب أجندات خارجية» متوعدا إياهم، وهو يزم شفتيه، بقوله: ‘انتهوا قبل أن تنهوا».

وهي اتهامات أطلقها أمين عام حزب مذهبي دينيا / طائفي سياسيا، بامتياز. أما بالنسبة إلى تهمة «التواصل مع جهات اجنبية» أو وفق «أجندات أجنبية»، فليس هناك، في العالم كله، من لا يعرف أن حكام « العملية السياسية»، وصلوا الى سدة مناصبهم بدبابات الاحتلال الانكلو أمريكي؟ فاذا لم يكن هذا تواصلا مع جهات أجنبية فما هو معنى التواصل والأجندة الاجنبية؟

الانتفاضة الحالية ليست وليدة شهر تشرين/ أكتوبر بل استمرارية المقاومة ضد المحتل والنضال الذي دفع آلاف المواطنين حياتهم ثمنا للوصول إليها اليوم، وأن ادعاء النظام الحالي أنه ليس مسؤولا عن خراب 16 عاما، استهانة أخرى بعقول الناس وبحياة الشهداء. وهذا ما أثبت المنتفضون انهم لن يسكتوا عليه هذه المرة

ولنتذكر أن الشعارات التي وصفها المالكي بأنها « نتنة» تضمنت المطالبة بإطلاق سراح المعتقلين ووضع حد للتعذيب والإهانات اليومية واحتقار الناس، والترويع بتهم الإرهاب الجاهزة، ومعاقبة المسؤولين عن انتهاكات حقوق الإنسان المنهجية التي فاقت كل تصور، بحيث بات العراق على رأس قائمة الدول المنفذة لأحكام الإعدام في غياب نظام قضائي نزيه، حسب تقارير الأمم المتحدة.

ولنتذكر، كما أثبتت، تظاهرات الأنبار، أنها كانت منظمة من قبل لجان شعبية، أشرفت كل لجنة منها على أحد الجوانب العملية كالمحافظة على أمن وسلامة المتظاهرين، وتحديد مداخل التظاهرة، ومراجعة الشعارات والكلمات الخطابية لئلا تتعارض مع الروح الوطنية، بالإضافة الى الاشراف على توفير اماكن التواصل الاجتماعي ووجبات الطعام والمحافظة على نظافة المكان، وعلى الندوات التثقيفية في خيم الاعتصام. أي انها كانت وسابقاتها، على مدى 16 عاما، الأرضية الخصبة التي مهدت للانتفاضة الحالية، بتنظيمها الرائع، وروحها العراقية الأصيلة، وجرأة شبابها ودماء شهدائها.

واجهت الاعتصامات السابقة محاولات اختطاف واحتواء وتشويه متعددة، يكررها المتشبثون بغنيمة السلطة حاليا تجاه المنتفضين. مقابل حيوية المنتفضين وتنظيمهم « مدن الساحات»، المزودة بالأساسيات التي فشل النظام بتزويد البلد بها على مدى 16 عاما وبميزانية سنوية بحدود 120 مليار دولار، يقوم النظام بالدفاع عن وجوده ومصالح أفراده، مسخرا مختلف الأساليب الجامعة بين القمع الوحشي ونعومة الخطاب. يشمل القمع الوحشي الغاز المسيل للدموع والرصاص الحي والقناصة، بالإضافة الى اغتيال الناشطين واختطافهم، خاصة الشابات. دعائيا، لجأوا الى توليفة خطر المنتفضين على البلد ونشر الفوضى وحرق الممتلكات العامة وتعطيل الحياة اليومية والعمالة لقوى خارجية.

أما الشكل الناعم للاحتواء، فقد تبدى بظهور عادل عبد المهدي، محاطا بساسة النظام، وهو يعلن « تفهمه» لمطالب المتظاهرين في ذات الوقت الذي « يحذرهم» من الفراغ السياسي وإحداث الفوضى وتعطيل ميزانية الدولة، ومحملا إياهم حرمان الأطفال من التعليم بسبب مشاركة المدارس في المظاهرات. هكذا ألقى مسؤولية الخراب على عاتق المتظاهرين، وبالتالي وباعتباره القائد العام للقوات المسلحة أفسح المجال لشرعنة قتلهم. معه، احتل بقية الساسة من نواب ورؤساء أحزاب وقادة ميليشيات، شاشات الفضائيات ليعلنوا، جميعا، «تضامنهم» مع المنتفضين، و«حرصهم» على حياتهم، في ذات الوقت الذي تواصل فيه قوات الأمن والمليشيات استهدافها لهم، وسقوط الشهداء من الشباب بشكل يومي. ولا تخلو الساحة الدعائية الإعلامية من وجوه مسؤولين سابقين، يعاد تدويرهم، حاليا، كمحاولة لاستبدال وجه بآخر، تحايلا على المتظاهرين، وانعكاسا، في الوقت نفسه لمدى تمزق النظام وخوف قادة أحزاب «العملية السياسية»، مما سيحمله المستقبل. انطلاقا من هذا، أعلنوا ما أطلقوا عليه «وثيقة الشرف» التي قابلها المنتفضون بالتهكم والسخرية. كما سخروا من دعوات النظام، سواء بلسان رئيس مجلس النواب أو « مثقفي» النظام، الى ترتيب لقاء لعرض طلباتهم وتوجيه «النصائح» لهم بانتخاب من يمثلهم ويتحدث باسمهم بشكل علني. وهي «النصيحة» التي لا يكف مقدمو البرامج التلفزيونية العراقية، عن تكرارها ببلادة ببغائية، ويرفضها المنتفضون جملة وتفصيلا لأنهم يعرفون جيدا ما الذي سيكون عليه مصير من سيتم الإعلان عن أسمائهم وأن الوضع الحالي يقتضي العمل التنسيقي الجماعي خاصة بعد أن أدركت النقابات والاتحادات الوطنية أن عليها المشاركة بالانتفاضة قبل أن يفوت الأوان. ومن يتابع مسار الثورة التونسية، سيجد أن وقوف اتحاد الشغل الى جانب الشباب، على تأخره، بالإضافة الى عدم تدخل الجيش، أحدث تحولا كبيرا في انتصار الثورة.

ان مراجعة مسارات التظاهرات في العراق، على مدى حقبة الاحتلال ومواصلة ذات الوجوه والأحزاب الهيمنة على السلطة، وموارد النفط، وتخريب التعليم، والصحة، والصناعات المحلية، وإفراغ البلد من عقوله، سيبين بوضوح أن الانتفاضة الحالية ليست وليدة شهر تشرين/ أكتوبر بل استمرارية المقاومة ضد المحتل والنضال الذي دفع آلاف المواطنين حياتهم ثمنا للوصول اليها اليوم، وأن ادعاء النظام الحالي أنه ليس مسؤولا عن خراب 16 عاما، استهانة أخرى بعقول الناس وبحياة الشهداء. وهذا ما أثبت المنتفضون انهم لن يسكتوا عليه هذه المرة.

كاتبة من العراق

 

 

المرأة العراقية: «نازلة آخذ حقي»

هيفاء زنكنة

 

بعد سنوات من التغييب القسري، خرجت المرأة العراقية الى الشارع منتفضة بجانب الرجل. أجاب خروجها على سؤال ملح طالما طرحه متابعو المظاهرات والاعتصامات التي تغطي شوارع المدن وساحاتها منذ الغزو الانكلو – أمريكي وما تلاه من انتهاكات وجرائم. كان السؤال: اين هي المرأة العراقية؟ متضمنا سردية إنجازاتها، وهي المعروفة بنضالاتها التاريخية والمعاصرة؟ لماذا الغياب والبلد المحتل بأمس الحاجة الى صوتها؟ كيف تسكت من ساهمت ببناء العراق منذ عشرينيات القرن الماضي، وهي الرائدة في مجال التعليم، والأدب، والنشاط السياسي، والدفاع عن الوطن ضد الاستعمار والظلم والقمع؟

أثار خروج المرأة الى ساحات مدنها وهي تصدح «نازلة آخذ حقي»، اهتماما بالغ الأهمية في داخل العراق وخارجه. فالمرأة التي تتمتع بحرية الحركة في الفضاء العام هي المؤشر الحضاري لأهل البلد، بعيدا عن المتاجرة بحضورها من قبل الأنظمة القمعية.

نساء وفتيات من مختلف الأعمار، من مختلف المهن، خريجات وطالبات، ربات بيوت وعاملات، يشاركن، يوميا، في مظاهرات واعتصامات بشكل لم يشهدها العراق المحتل سابقا. في كل المظاهرات السابقة، منذ الاحتلال ثم في أعوام 2011 و2015 و2018، كان هناك، دائما، عدد لا يزيد على أصابع اليد الواحدة، من ناشطات المجتمع المدني، أو أمهات وزوجات المعتقلين، يقفن أمام معسكرات الاعتقال او المراكز الأمنية، أملا في أن يسمعن خبرا عن أحبائهن، مخاطرات بتعريض أنفسهن للامتهان والاذلال.

أما الآن وخاصة منذ 25 تشرين/ أكتوبر، فقد بات حضور المرأة جزءا لا يتجزأ من المطالبة باستعادة الوطن، بديمومة الانتفاضة، ونسغها المتصاعد في ساحات صارت مدنا بفضل مساهماتها. فهي التي ترسم، وتحاجج مقدمي البرامج التلفزيونية المشككين بأهمية الاحتجاجات وماهية المطالب، وتعالج الجرحى، وتعزف الموسيقى، وتشارك في أعداد الطعام وحملات تنظيف أماكن الاعتصامات. نراها بعينيها المحمرتين جراء الغازات المسيلة للدموع والقنابل الدخانية، وهي توزع قناني الماء لغسل عيون الآخرين المستهدفين مثلها.

تثير مشاركة المرأة في انتفاضة تشرين، تساؤلا آخر عن سبب عدم خروجها سابقا؟ أين كانت، بهذه الاعداد الكبيرة في حراك التظاهرات المتواصلة منذ عام الغزو؟ لقد استهدفت المرأة، بشكل خاص، بحملات الترهيب والترويع، المتبدية بالاختطاف والتعذيب ناهيك عن التحرش الجنسي والاغتصاب. وقائمة المعتقلات وتعرضهن لأبشع أنواع التعذيب منذ اليوم الأول للغزو، تحت مختلف الأسباب، طويلة. صار الحرص على سلامة المرأة، الى حد منعها من مغادرة البيت، أولوية المجتمع الذي يحمل، أساسا، الموروث المجتمعي لمفهوم الشرف، المجسد بالمرأة، والذي تستغله السلطات القمعية والاحتلال، كسلاح ضد المرأة وعائلتها وعشيرتها.

وجاء استهداف المرأة العاملات في المجال العام، خطفا وقاتلا، سواء من قبل أفراد أو ميليشيات أو جهات حكومية، ومع انتشار التفاصيل، بدون إلقاء القبض على الجناة أو تقديم توضيح من الجهات المسؤولة، ليرسخ حالة الخوف بين النساء، ومنعها من ممارسة أي نشاط عام.

لم تعد المرأة، كما بقية الشباب، مخدوعة بخطاب الأحزاب المنمق ووعود الحكومات الفاسدة. تعبت من التهجير القسري من بلاد هي ملكها ووطن استحوذ عليه الحرامية. فخرجت مع أشقائها الشباب الى الشوارع، ليعيدوا للعراق كرامته المتمثلة بهم

ولأن المرأة هي المسؤولة عن العائلة عند غياب الرجل قتلا او اعتقالا، لم تعد أولوية المرأة، كما السابق، المساهمة بالشأن العام، بل باتت أولوياتها متعلقة برعاية العائلة، وتوفير بعض الأساسيات الضرورية لمواصلة الحياة. ولايزال لحملات التهجير القسري وسياسة العقاب الجماعي، والعيش في المعسكرات تأثيرا يماثل الإصابة بالشلل وتفتيت القدرة على التفكير ابعد من اللحظة. ينطبق هذا الحال المأساوي على عموم النساء مما أدى الى انكفائهن بعيدا عن الفضاء العام.

بالمقابل، لعبت الطائفية ومحاصصاتها، دورا في استقطاب مجموعات نسوية، وكان لفساد الأحزاب السياسية تأثيره اختيار البرلمانيات اللواتي اقتصرت أدوارهن، غالبا، على ترديد سياسة أحزابهن وان كانت ضد المرأة، وامتد التأثير على الحراك النسوي العام، عبر المنظمات النسوية وتحديد أولوياتها، وفقا لأجندات الجهات الداعمة، سواء كانت داخلية أو خارجية.

ففي الفترة التي تلت ما بعد الغزو مباشرة، نشطت ضمن «العملية السياسية» التي صاغها المحتل، نسوة استعماريات اخترن أن يكن وجها للاحتلال واداة لتسويغ الغزو والحرب وبخطاب غالبا ما يستبدل أو يعارض القضايا الوطنية والاجتماعية والطبقية الأساسية بقضايا التمايزات الثقافية الأخرى الجنسوية أوالجندرية، مع أهميتها كجوانب على المجتمع الانتباه اليها في سياق تطوره لكنها تصبح بحال «كلمات حق أريد بها باطل» مقابل الصراع الوطني والاجتماعي الدموي العاتي.

اختفى هذا النوع من الناشطات، تدريجيا الواحدة بعد الأخرى، معلنات بان المجتمع العراقي ذكوري، ابوي، بعد أن تضاءلت حصتهن في الاستيزار الى الصفر، وأصبحت نسبتهن في البرلمان أداة تبييض وجه أمام الدول الغربية أكثر منها تمثيلا حقيقيا للمرأة وحافزا لتنشيطها وتوفير فرص العمل والانتاج.

ومع تبني قوات الاحتلال الأمريكي سياسة تفعيل تعاون المرأة العراقية التي قادها قائد قوات الاحتلال الجنرال دافيد بترياس، متبعا بذلك نصيحة مستشاره في مكافحة التمرد دافيد كيلكولان، القائل: «احصل على دعم المرأة فتفوز بدعم العائلة كلها. أملك العائلة، حينئذ تخطو خطوة كبيرة إلى الأمام في تعبئة السكان»، ومع استحداث «مبادرة دعم المرأة العراقية» التي أطلقها فيلق مهندسي قوات الاحتلال ويرتبط معظمها بالقواعد العسكرية، تحت شعارات «تمكين المرأة» و «مشاركة المرأة في بناء الاقتصاد». ومنح النساء المتعاونات عقودا بقيمة 180 مليون دولار، أدى هذا كله، خاصة في فترة تزايد عمليات المقاومة ضد المحتل، الى الحاق الضرر وتلويث سمعة عمل المرأة في المجال العام. وإذا اضفنا الى ذلك فرض رجال الدين السياسي (وكلهم رجال) تفسيراتهم الطائفية المتماشية لا مع التدين كمعتقد شخصي، بل مع سياسة الأحزاب المتبنية لهم، وغالبا ميليشياتها، على المرأة بكل تفاصيل حياتها منذ طفولتها وكيفية تزويجها الى تصويتها للانتخابات وتغسيلها عند وفاتها، لوجدنا أن كاهل المرأة كان ينوء بالكثير مما لا يحتمل، فبدت وكأنها تخلت عن ذاتها المقاومة.

إلا أنها عادت، مع بقية الشباب لتعيد إلينا الأمل. متألقة بشبابها لتكون، كما كانت، قوية، أبية، رافعة الرأس، وهي ترفض العودة الى البيت ما لم يتم تحقيق مطالب المنتفضين وهي منهم. في لحظات التعب والضعف الإنساني، تقف وهي ملتفة بعلم بلادها، لتقسم مع بقية الشباب بأنهم لن يكونوا للعِــدَى كالعبيد، مرددين « موطني»، بكلماته المتجذرة عميقا في الوعي العربي الجماعي، من فلسطين الى العراق. لم تعد، كما بقية الشباب، مخدوعة بخطاب الأحزاب المنمق ووعود الحكومات الفاسدة. تعبت من التهجير القسري من بلاد هي ملكها ووطن استحوذ عليه الحرامية. فخرجت مع أشقائها الشباب الى الشوارع، ليعيدوا للعراق كرامته المتمثلة بهم. العراق الذي لم يعودوا قادرين على تحمل رؤيته محتلا، مهانا، مستباحا.

كاتبة من العراق

 

 

على المغول الجدد

الرحيل فالعراق يسير بأهله

هيفاء زنكنة

 

لو أتيحت للرحالة المغربي ابن بطوطة أن يزور بغداد التحرير هذه الايام، قادما من القرن الرابع عشر، لوجد نفسه، كما نجد أنفسنا، إزاء لحظة إنسانية تاريخية، ستجعله يغير ما أمـلاه عـلى ابـن جُـزَي في «تـحـفـة الـنّـظّـار في غـرائـب الأمـصـار وعـجـائـب الأمـصـار». حين وصف رحلته الى العراق، قائلا عن بغداد «وهذه المدينة العتيقة وإن لم تزل حضرة الخلافة العباسية، ومثابة الدعوة الإمامية القرشية، فقد ذهب رسمها. ولم يبق إلا اسمها. وهي بالإضافة إلى ما كانت عليه قبل إنحاء الحوادث عليها والتفات أعين النوائب إليها كالطلل الدارس، أو تمثال الخيال الشاخص، فلا حسن فيها يستوقف البصر، ويستدعي من المستوفز الغفلة والنظر، إلا دجلتها التي هي بين شرقيها وغربيها كالمرآة المجلوة بين صفحتين، أو العقد المنتظم بين لبتين. فهي تردها ولا تظمأ ونتطلع منها في مرآة صقيلة لا تصدأ، والحسن الحريمي بين هوائها ومائها ينشأ».

ما لم يذكره ابن بطوطة ومن قبله الرحالة الاندلسي ابن جبير ان «مدينة دار السلام، وحضرة الإسلام، ذات القدر الشريف، والفضل المنيف، مثوى الخلفاء، ومقر العلماء»، التي اعتبر الإمام الشافعي أن مَن لم يدخلها «ما رأى دنيا، ولا رأى ناسا»، لم يبق الا اسمها، لأنها تعرضت الى أقسى حدث في تاريخها وهو غزو المغول عام 1258. حيث «وضعوا السيف في أهلها» كما ذكر المؤرخ ابن الفوطي ووجدها أحد المؤرخين «وقد رحل عنها سكانها، وبان عنها قطانها، وتمزّقوا في البلاد، ونزلوا بكل واد».

في تشابه مؤلم، سبب الغزو الأمريكي، عام 2003، الذي أسس للاحتلال المشترك مع إيران، لبغداد وبقية العراق، ذات الخراب البشري والعمراني الذي خلفه المغول. انها ذات البغداد. جعلها المغول الجدد على وشك التمزق طائفية وفسادا. مدارسها طينية ومستشفياتها مقابر للمرضى. نساؤها يخشين السير في الشوارع ورجالها معرضون للاعتقال والتعذيب والتغييب. يرحل عنها سكانها خوفا من القمع والقهر والموت. أغنياؤها يتمتعون بالملايين وفقراؤها من النساء والأطفال يتسابقون على التقاط ما يمكن التقاطه من القمامة. الخريجون عاطلون عن العمل. ثروة البلد يتشارك في نهبها الحاكم الفاسد وسادته. مظاهراته واحتجاجاته خلال 16 عاما، تقمع خطفا وقتلا لأنها «بعثية، إرهابية، داعشية، تخريبية». وتجاوز عدد ضحاياه أما قتلا بشكل مباشر أو نتيجة انعدام الخدمات الصحية المليون مواطن.

إنها ذات البغداد، عاصمة البلد الغني الذي يريد الغزاة، كما جيران السوء جميعاً، شرقا وغربا، شمالاً وجنوباً، ابقاءه مريضا، ضعيفا، جائعا، مستخذيا، بلا كرامة، عاجزا عن التفكير أبعد من يومه، ينخره عنف زرعوه وهم يحاولون اقناعه بانه هو السبب لأنه يحمل جينات العنف. الى أن نهض الشباب في الاول من تشرين/ اكتوبر.

نزل المزيد من المتظاهرين، نساء ورجالا، إلى ساحات المدن وجسورها، متعهدين باستمرار الاعتصامات، مهما كان الثمن، مطالبين باستعادة الوطن من أيدي من تصرفوا على مدى 16 عاما، بشكل يماثل المغول في دمويتهم

ليكون يوما سيؤرخ حدثا لم يشهده البلد منذ عاش العراق وبقية الدول العربية فرحة التحرر من الاستعمار. انتفض الشباب على الحكومة والأحزاب وقدسية المرجعيات ومليشيات الاحتلال. مدركين بان صمتهم ان استمر سينتهي بتدمير انفسهم، تدمير الانسان وحضارته التي صنعها عبر التاريخ. انتفضوا على الحاضر المرير، المتمثل لا بالنظام فحسب، بل وحتى أهاليهم الذين خدعتهم أوهام الطائفة، وصمتوا إزاء الخراب والموت البطيء بانتظار تحقيق الوعود. بانتظار غودو. انتظروا ولم يأت الموعود.

باستمرار الانتفاضة، سقطت الجدران الكونكريتية التي أسسها وبناها ويرعاها المحتل والحكام بالنيابة. معها سقطت قائمة التهم الجاهزة. باتت مجرد هراء. إلا أن هذا لا يعني أن النظام وشريكيه سيتنازلون بسهولة امام المتظاهرين، مهما كانت انتفاضتهم سلمية. وإذا كانت قائمة الشهداء قد بلغت 325 والجرحى عشرة آلاف، فان استمرار الاستهداف الوحشي للمعتصمين، بينما يتحدث ساسته عن الاصلاحات، يبين أنهم استساغوا طعم الدم ولن يتوقفوا عن شرب المزيد. ومن يقرأ بيانات وتصريحات رئيس الوزراء عادل عبد المهدي، بعد إزالة العبارات المنمقة، الفضفاضة، وتجريدها من « سوف» وعود الاصلاح سيجد أن نية القضاء على الانتفاضة هي التي يريد النظام ومستشاروه وميليشياته الإيرانية، تنفيذه. بينما يقف «المستشارون» الأمريكيون، في معسكراتهم المتناثرة كالبثور على وجه العراق، بانتظار مشاركة الغنيمة.

فبعد أن وزع النظام وميليشياته قناصين عراقيين وإيرانيين على سطوح البنايات، واستخدم الرصاص الحي والغازات المسيلة للدموع المصنعة خصيصا للمعارك الحربية، انتقل الى مرحلة المراوغة اللفظية، والتهديد المبطن، والتستر بعباءة المرجعية وعدد من المثقفي قراط الطائفيين. كلهم يدعون، سوية مع عبد المهدي، انهم حريصون على سلامة المتظاهرين، وعلى الممتلكات العامة، والتعليم، والمستشفيات. في الوقت الذي يعرفون فيه جيدا انهم لم يكملوا أثناء حكمهم مشروعا حقيقيا واحدا (هناك طبعا آلاف المشاريع الوهمية)، وانحدر مستوى التعليم والصحة الى أسوأ المستويات في العالم (حسب المؤشرات الدولية)، وان حرصهم على حياة المتظاهرين تم تطبيقه على الارض بقتلهم. اما قطع الانترنت الذي يعني بان بإمكان النظام أن يقتل الناس كما يشاء بدون أن يطلع العالم الخارجي على جرائمه، فان عبد المهدي يبرره بقوله « لأنه يستخدم للترويج للعنف والكراهية والتآمر على الوطن وتعطيل الحياة العامة». كما يشرعن قتل المتظاهرين بذريعة ان النظام « في وضع دفاعي كامل» وانه «لا يستخدم النار بل أبسط الوسائل»، مستهجنا بحرقة المتهم البريء «ومع ذلك نُلام»! وليصب الملح على جروح المتظاهرين وذوي الشهداء وليقتل الشهداء مرة ثانية وثالثة، أطلق النظام عددا من المثقفي قراط ليجلسوا في استديوهات الفضائيات (عزت الشابندر، الشرقية، 8 تشرين الثاني/نوفمبر) مدافعين، عن جرائمه، بحجة ان القوة الخفيفة للدولة تحمي المؤسسات، والى حد لوم الضحايا (وهو نهج شائع لدى المحتل الصهيوني) في ذات الوقت الذي تم فيه قتل ستة متظاهرين، ونزل المزيد من المتظاهرين، نساء ورجالا، الى ساحات المدن وجسورها، متعهدين باستمرار الاعتصامات، مهما كان الثمن، مطالبين باستعادة الوطن من أيدى من تصرفوا على مدى 16 عاما، بشكل يماثل المغول في دمويتهم، وأطلقوا من وعود الاصلاح الكاذبة ما يجعل حتى ملابس الامبراطور العاري حقيقة بالمقارنة.

كاتبة من العراق

 

هل لمتظاهري العراق برنامج محدد؟

هيفاء زنكنة

 ما هي مطالب المنتفضين في ساحات التحرير في العراق؟ منذ انبثاق انتفاضة الشباب في الأول من تشرين الأول/ اكتوبر، في عديد المدن، ويكاد لا يخلو برنامج تلفزيوني، محلي أو عالمي، أو مقال صحافي من طرح هذا السؤال ومحاولة الإجابة عليه. وإذا كانت الإجابة، في أيام الانتفاضة الأولى، محصورة بأصوات المسؤولين الحكوميين وقادة الأحزاب والميليشيات (يقدمون أنفسهم كساسة)، فإنها لم تعد تقتصر على وجوه النظام أو حتى البرلمانيين الذين كانوا يقدمون أنفسهم باعتبارهم ممثلي الشعب. غاب النواب، اختفوا عن أنظار المشاهدين والجمهور عموما. سقطت أقنعة التجارة بمحنة «المظلومين» من داخل منظومة تجد أن بقاءها في السلطة هو الأولوية وأن الشعب لا يزيد عن كونه « فائض قيمة»، في بلد ريعي، ومن الأفضل التخلص منه، مهما كانت همجية الطرق المستخدمة.

بهذا المنطق، تمت شرعنة شراسة قمع المتظاهرين، المصرين على استعادة وطنهم وملكية شوارعهم بطرق سلمية، وأساليب إبداعية، قلما شهدها العراق سابقا. في المقابل «أبدع» النظام في استهدافه المتظاهرين، بدون تمييز بين الرجال والنساء والأطفال ما أدى إلى قتل 250 مواطنا وجرح عشرة آلاف، حتى الآن. وحين قام «فريق التحقق الرقمي»، التابع لمنظمة العفو الدولية، في 31 تشرين الأول/ أكتوبر «بتحديد الموقع الجغرافي وتحليل أدلة في مقاطع فيديو، صورت بالقرب من ساحة التحرير في بغداد، توثّق الوفيات والإصابات بما في ذلك اللحم المتفحم، والجروح التي انبعث منها «الدخان»، تبين أن أنواع قنابل الغاز المسيل للدموع التي أطلقتها شرطة مكافحة الشغب وقوات الأمن الأخرى، على المتظاهرين مباشرة، هي من نوعين مختلفين من بلغاريا وصربيا. ويبلغ وزنها 10 أضعاف ثقل عبوات الغاز المسيل للدموع. وعلى عكس معظم قنابل الغاز المسيل للدموع التي تستخدمها قوات الشرطة في جميع أنحاء العالم يتم تصميم هذين النوعين على غرار القنابل العسكرية الهجومية المصممة للقتال مما أدى إلى إصابات مروعة، وموت متظاهرين بعد أن أغرست القنابل داخل رؤوسهم. كما قال العديد من الشهود إن ما يصل إلى 10 قنابل – والتي يشير إليها المحتجون باسم « الدخانية» – يتم إطلاقها في الوقت نفسه على المناطق المزدحمة، وينبعث منها نوع من الدخان رائحته مختلفة عن أي قنابل غاز مسيل للدموع سبق أن شاهدوها. وقد وجد بحث أجرته المنظمة أنه نظرًا لوزنها وتركيبها، فإنها أكثر خطورة بكثير على المحتجين. وأكد خبير الطب الشرعي للمنظمة أنهم «لم يروا مثل هذه الإصابات الشديدة بسبب هذا من قبل».

يعيدنا استخدام هذه الأسلحة المخيفة والسموم وما تسببه من إصابات مروعة في صفوف المتظاهرين، إلى يوم 8 تشرين الثاني/نوفمبر 2004، حين بارك رئيس الوزراء، آنذاك، أياد علاوي هجوم قوات الاحتلال الانجلو أمريكي على مدينة المقاومة الفلوجة بحجة تحريرها، مستخدمين اليورانيوم المنضب وجيلا جديدا من الفسفور الأبيض الذي يذيب أجساد الضحايا.

الساسة والمحللون الذين يحاولون الحط من قيمة التظاهرات وتشويه المطالبة بالسيادة والحرية والكرامة صاروا يتحدثون عن عدم وجود قيادة واضحة لها

ولايزال أهل الفلوجة، وبقية المدن التي تناثر فيها غبار الموت البطيء، يعانون من الارتفاع الملحوظ في مستويات التشوهات الخلقية عند الولادة، جنبا إلى جنب مع ارتفاع معدلات الإصابة بالسرطان وظهور أمراض وتغيرات غير عادية في نسبة الجنس عند الولادة، حسب تقارير علمية معروفة.

ولأن القتلة يتشابهون واصل رئيس الوزراء السابق نوري المالكي سياسة سلفه فأمر بقصف المدينة بالبراميل المتفجرة، بحجة تخليصها من «الإرهاب»، ولكن مع بعض الاختلاف. لم يعد المحتل الأمريكي هو «السيد» الوحيد، بل بات «آية الله»، الجالس في طهران شريكا يمثله قاسم سليماني، قائد فيلق القدس الإيراني، الذي صار وجوده على الأرض العراقية ملحوظا أكثر من دوام النواب في البرلمان العراقي. ولأن سليماني يعرف جيدا أن خونة أوطانهم لايؤتمنون، حضر إلى بغداد، هذه الأيام، ليشرف بنفسه على أداء أتباعه من الميليشيات إلى الوزراء وقادة الأحزاب والنواب، عسكريا ودعائيا.

الملاحظ أن الساسة والمحللين الذين يحاولون الحط من قيمة التظاهرات، وتشويه المطالبة بالسيادة والحرية والكرامة، صاروا يتحدثون عن عدم وجود قيادة واضحة وانعدام البرنامج، بعد أن فشلت اتهاماتهم التي وأدت المظاهرات السابقة، وبعد أن بات للمظاهرات شعار موحد هو «نريد وطن»، يتفيأ في ظله الطلاب والعمال والأكاديميون والمهمشون وعدد من النقابات، وبات الحضور النسائي، ملمحا متميزا، متجاهلين حقيقة أن للانتفاضات ديناميكية تجعل النكوص إلى الوراء مستحيلا وأن التغيير حاصل لامحالة.

إن عدم وجود قيادة واضحة أمام عدسات الكاميرات وفي الاستديوهات ضروري إزاء القمع والإرهاب الرسمي. أما بالنسبة إلى المطالب والبرنامج، فقد تداولت مواقع التواصل الاجتماعي، في الأيام الأخيرة، ما الذي يعنيه المتظاهرون بـ «نريد وطن» ويتضمن برنامجا، من أهم نقاطه: استقالة الحكومة الحالية، تشكيل حكومة انتقاليّة مؤقتة لمدة ثلاثة أشهر فقط، وتتألف من شخصيات تتوفر فيهم أربعة شروط هي: أن يكونوا مستقلين ولم يسبق لهم العمل في أي حزب سياسي سابقاً. لم يسبق لهم العمل في أي حكومة أو مجلس نواب سابق، ولا في أي حكومة محلية أو مجلس محافظة، أن لا يتقدموا للترشيح في الانتخابات المقبلة ولا يشاركوا في الرعاية أو الترويج لانتخاب أي مرشّح، وأن يكونوا من المشهود لهم بالنزاهة والشجاعة والوطنيّة، وأن يتم تعديل قانون الانتخابات وتشكيل مفوضية مستقلة جديدة للانتخابات بنفس شروط أعضاء الحكومة الانتقاليّة، إجراء انتخابات جديدة ويكون موعدها قبل نهاية فترة الحكومة الانتقاليّة، أن يقوم مجلس النوّاب الجديد بتعديل الدستور بفترة لا تتجاوز ثلاثة أشهر، أن تتعهّد الحكومتان الانتقالية والدائمة بإجراء تحقيق عاجل حول الجهات والأشخاص الذين تسببوا بقتل المتظاهرين، وإنزال حكم القضاء العادل بهم، وتعويض أسر الشهداء والتكفل بعلاج الجرحى وتعويضهم، وأن يتعهّد مجلس القضاء الأعلى أن يتم فوراً إطلاق تحقيق «من أين لك هذا؟» بحق المسؤولين الحاليين والسابقين، وسائر موظفي الدولة، واسترداد الأموال من السرّاق مهما كانت الجهة التي تقف خلفهم.

تمنحنا هذه المطالب، ملامح وليس بالضرورة كل ما يمكن أن يعيد البلاد إلى أهلها، ليتمتعوا بكل حقوق المواطنين بلا استثناء، بالإضافة إلى السلام، إقليميا ودوليا. هل هذه أضغاث أحلام ونحن نرى أصبع كل من هب ودب مغروزة في غنيمة العراق؟ لا أظن ذلك. وبإمكان المتظاهرين تحقيقه إذا ما استمروا رافضين لحالة اللا كرامة والإهانة المفروضة عليهم. إنه ليس مشروعا من المستحيل تحقيقه من قبل المتظاهرين الذين نجحوا، خلال شهر واحد، من إسقاط المشروع الاستعماري الطائفي بمحو الهوية الوطنية، ومنظومة التمييز، وهيمنة الأحزاب الفاسدة، والخوف من الميليشيات وأوهام القدسية التي لا تمس.

كاتبة من العراق

 

 

شعراء الشوارع يستعيدون عراقهم

هيفاء زنكنة

 

مع استمرار المظاهرات في عديد المدن العراقية، وإشهار النظام أدوات قتله بوجوه المتظاهرين، ومع سقوط المزيد من الشهداء، بشكل يومي، ومع حالة الخرس العربية المزمنة، برزت من صميم الانتفاضة، مستويات إبداعية متعددة لتتحدى نظام اللانظام، وعمليته السياسية الطائفية، الفاسدة، التي أسسها المحتل.

تنوعت مستويات الإبداع، التي طالما تميز بها الشعب العراقي، لتساهم في كسر حواجز الخوف والتقسيمات الطائفية والدينية والعرقية المفبركة. فمن الفن التشكيلي والكاريكاتير إلى الموسيقى والشعر والغناء إلى رفع شعارات تخطها الأيدي بحرقة قلب وغضب بات من المستحيل كبته. توحدت، هذه الأوجه المتعددة، جميعا، معبرة بالألوان، والمفردات، والصور عن الظلم والأمل والأحلام وحب الحياة. انضم الفنانون إلى المتظاهرين الشباب ليصرخوا بوجوه من استهانوا بكرامتهم بأن الشوارع ملكهم، والمدن ملكهم، وسيبقون فيها حتى يستعيدون الوطن. فالطغاة مهما تحصنوا بأسلحتهم، وأجهزة إعلامهم، وأموال فسادهم، ودعم سادتهم، يخشون الكلمة واللون وصوت المغني، خاصة إذا ما خضبتها دماء الشهداء.

وإذ ترحب الانتفاضة الجماهيرية بانضمام الطلاب والجامعات والأكاديميين ونقابة المحامين والمدرسين إليها، للتضامن مع من نزلوا إلى الشوارع يوم الأول من تشرين الأول/ اكتوبر وحتى اليوم، يقف أبناء الشعب متسائلين: هل نعيد اجترار الدموع ونلطم حتى إسالة الدم من صدورنا، وتحويل الشهداء إلى صور جامدة بلا حياة، ننساها بعد حين؟ رافضين للحلول الكاذبة ومقايضة الشهداء وتضحياتهم، يقول المتظاهرون: سنبقى وفاء لآمال الشهداء الذين سقطوا مطالبين بحق الكرامة وان يعيشوا سنوات تحقيق طموحاتهم في وطنهم. في شوارع مدنهم. أن يكتبوا قصائد أحلامهم بأنفسهم، لأنفسهم، ولأبناء شعبهم.

يقول المتظاهرون، في لحظات قتل زملائهم، وأجسادهم محروقة بالغاز: نحن أخوة الشهداء، وأهلنا في أرجاء الدول العربية يعرفون معنى ذلك جيدا، وهم يرفعون أجساد أبنائهم العارية إلا من دماء رصاص القناصين والغارات الجوية والغازات الخانقة لأنفاس شباب كل ما يريدونه هو بناء الأمل. هذه صباحات بلداننا ومساءاتها. نراها عبر شاشات التلفاز أو نعيشها ونحن نتساءل أي بلد عربي سيعيش الغدر والتنكيل اليوم؟ فلسطين؟ العراق؟ سوريا؟ أي البلدان هو؟ الشهداء متشابهون وخراب المدن متشابه. وآه… كم يتشابه الطغاة في أكاذيبهم وخنوعهم أمام أسيادهم الأجانب، واستئسادهم تجاه شعوبهم المقاومة الحية. ألم يكن شاعرنا الرصافي محقا بقوله «عبيد للأجانب هم ولكن على أبناء جلدتهم أسودُ»!

منذ الأيام الأولى للمظاهرات اختفى معظم الساسة وقادة الأحزاب وأعضاء البرلمان، باستثناء الخطاب الفضائي الذي ألقاه رئيس الوزراء عادل عبد المهدي وملهاة رئيس البرلمان الحلبوسي حول تحقيقه مطالب الشباب، ارتدى بقية الساسة طاقية الإخفاء، ليصبح المجال مفتوحا أمام الشعب من جهة وأجهزة النظام القمعية والقتلة من الميليشيات الإرهابية من جهة أخرى.

منذ عام 2003، عام الغزو والاحتلال، والعراق ينتفض ويثور كالبركان الذي ما أن يهدأ لفترة حتى يستعيد توهجه وغليان نيرانه

إزاء صمت أجهزة الإعلام أو شراء سكوتها، سيطر الشباب المتظاهرون، داخل العراق، على الفيسبوك ومواقع التواصل الاجتماعي ليتبادلوا وينشروا أخبارهم وما يحيط بهم، والتحليل والتعليق والصور والفيديوهات الناقلة للحدث الآني المباشر، التي غالبا ما ترفض أجهزة الإعلام الرسمية نشرها أو تقوم بنشرها بشكل انتقائي دقيق.

خارج العراق، في أمريكا وأوروبا، استحدث الشباب المتضامن مع المتظاهرين مجموعات «واتساب» تتابع وتتفاعل وتنظم التظاهرات أمام السفارات العراقية وأجهزة الإعلام الرئيسية كالبي بي سي ومقرات الحكومات ورؤساء الوزراء والأمم المتحدة. أبدعوا أساليب جديدة لجذب الانتباه إلى الإبادة التي يتعرض لها المتظاهرون داخل العراق، وإدانة الصمت الدولي، وتهرب الدول الغربية، وأمريكا خاصة من مسؤوليتها في غزو واحتلال العراق وتهيئة الأرضية للتقسيم والفساد والأرهاب.

مع الشباب المتظاهرالمستقل الذي لم يعد يطالب بالخدمات الأساسية باعتبارها أحلاما وطموحا بل حقا على الحكومة توفيرها، وقف عدد من فنانينا الكبار. لم تعد البلدان التي يقطنونها جدارا عازلا بينهم وبين المتظاهرين كما لم يعد اختلاف العمر فاصلا بين النشاط الإبداعي وانخراط الشباب في عملية التغيير، التغيير الضروري للتطوير المستمر في ديناميكية تعكس حب العراق.

خلال ايام قليلة أنتج الفنانون، ورثة الفن المعروف بمقاومته للاحتلال والقمع، عددا كبيرا من الاعمال الفنية، وفروها للجميع على صفحات الفيسبوك والانستغرام وكل مكان يجدون فيه متنفسا للحرية والتواصل مع المتظاهرين. رأينا فنانين يشاركون في المظاهرات، ورأينا آخرين عبر تخطيطاتهم ولوحاتهم ومنحوتاتهم. باتت أصوات المتظاهرين جزءا من الأعمال الفنية في لحظات اقتراب المخيلة والأحلام من الواقع. حملت أعمال الفنانين عناوين الشارع: لا لاغتيال المتظاهرين، نريد الوطن، قوات مكافحة الشغب وهي تداهم المتظاهرين، كلهم حرامية، نازل آخذ حقي، ولنا كلام آخر. وقد اختار منظمو المهرجان السنوي العالمي في مدينة ردينغ البريطانية، عشرين عملاً فنيا جديدا عن الانتفاضة لتعرض متزامناً مع ورشة حاشدة يوم الجمعة الماضي عن رحلة لتاريخ موسيقى العود العراقي كان مخططا لها منذ أشهر.

ضمن مجموعات الواتساب الشبابية باتت اللغة، بالتعليقات التغريدية القصيرة وأخطائها النحوية، سلاحا للتهكم من أعضاء الحكومة ومجلس النواب والأحزاب، وحتى المراجع الدينية التي تحاط عادة بالقدسية، مسها رشاش السخرية والتهكم. ولا تخلو صفحات التواصل من نقل دقائق ما يجري في الساحات والشوارع بأسلوب سردي يجمع بين المعلومة والتحدي والسخرية، بات منتشرا أثناء الانتفاضة. كتب أحد الشباب ناقلا إلينا خبر انضمام التلاميذ والطلاب إلى المتظاهرين:

«حدث تغيير كبير في العراق، خرج عشرات الآلاف من الطلاب من جميع مستويات التعليم في شوارع بغداد في احتجاج عام ينضم إلى المحتجين. حيث استيقظت الحكومة النايمة على صداع كبير، لا يمكنهم إطلاق النار على طلاب الصف الخامس الابتدائي بحقائب مدرسية من الرجل الحديدي

يهدد ساسة النظام العراقيين بالفوضى إذا ما استمرت المظاهرات وتم انضمام بقية شرائح الشعب إلى العصيان المدني، متعامين عن حقيقة أن وجودهم، بأحزابهم وميليشياتهم وولائهم لغير الشعب، هو الفوضى بعينها.

«إنه الوطن»… يقول شباب العراق

هيفاء زنكنة

 

في الأسبوع الرابع من المظاهرات في العراق، التي شملت عديد المدن في أرجاء البلاد، وبعد استشهاد 200 متظاهر وجرح حوالي ثمانية آلاف، لم يعد المتظاهرون الشباب يطالبون، فقط، بتحسين الخدمات. تكلفة الحياة الثمينة دفعتهم إلى إعادة ترتيب الأولويات. تعافوا من المطالب الخدماتية منذ تصنيع «العملية السياسية» وليدة الاحتلال الانكلو أمريكي عام 2003. تراجعت مطالب الماء الصالح للشرب والكهرباء والخدمات الصحية، على أهميتها القصوى، وهي ليست منة حزبية أو حكومية، بل من أساسيات حقوق الإنسان، وقاعدة هرم الاحتياجات الإنسانية التي ترتقي بالشعوب، ليعود إلى الواجهة أحد المطالب التي برزت أثناء مظاهرات تموز/ يوليو 2018، مع اختلاف مهم. اذ عاد المطلب، أساسيا وبشكل جماعي أقوى وأعمق هذه المرة، وبالتزامن مع المطالبة بحرية الرأي والمساواة بين المواطنين. صارت الهمسة صرخة تنادي «نريد الوطن».

بعد أن أثبت المتظاهرون أنهم خارج الأحزاب، بأنواعها، والمرجعيات الدينية بأنواعها، وتجار الفساد والتبعية للمحتل بأنواعه، لم يعودوا بحاجة إلى إثبات نقائهم الديني والمذهبي ودفع تهم الاندساس والإرهاب والبعث، وبعد أن نفضوا عن أنفسهم الخوف من التهم الجاهزة، المانعة لخروجهم إلى شوارع مدنهم واستعادة ملكيتها (الشوارع ملك للناس، للشعب… أليس كذلك؟)، صار الشعار المختلف الذي شهد ولادة طبيعية، من صميم حراكهم ومبارك بقدسية دمائهم هو «نريد الوطن». مطلب تبناه الشباب في داخل وخارج العراق، لاستعادة ما سلب منهم، وامتد كما لاحظنا من مظاهرات لبنان، في الأيام الأخيرة، إلى بلدان أخرى، بينما تستمر تصريحات الساسة ورجال الدين في إدانة العنف والفساد، كأنهم ليسوا غارقين فيهما، وكأن الشهداء يتساقطون نتيجة تغير مفاجئ في درجات الحرارة وليس قناصة النظام.

«نريد الوطن»، مطلب عضوي يماثل بانتشاره «الشعب يريد اسقاط النظام»، متضمنا، في الوقت نفسه، ما هو أبعد من مجرد اسقاط النظام، ومأسسة المحاصة الطائفية وتوزيع أسهم الفساد. حيث يطمح المتظاهرون إلى البناء، إلى التوحيد بديلا لسياسة التفكيك الاستعمارية المنفذة بالنيابة. إلى العيش في وطن لا مقاطعات القرون المظلمة. إنهم، يعملون من أجل هدف، تم تغييبه عمدا، خلال سنوات الاحتلال وحكامه بالنيابة، ممن ساهموا، ولايزالون، في تفتيت مفهوم الوطن، والترويج للهوية «السائلة»، والولاء لمن يقدم «العرض الأفضل»، ما دام الوطن، حسب منظورهم، سينمحي، تدريجيا، إزاء القبول بالواقع الجديد.

بعد أن أثبت المتظاهرون انهم خارج الاحزاب، بأنواعها، والمرجعيات الدينية بأنواعها، وتجار الفساد والتبعية للمحتل بأنواعه، لم يعودوا بحاجة الى اثبات نقائهم الديني والمذهبي ودفع تهم الاندساس والإرهاب

سواء كان الواقع مضمخا بوعود ديمقراطية المحتل الأمريكي أو دكتاتورية ولاية الفقيه. كلاهما يريدان، بشكل أو آخر، اختزال الوطن ـ العراق بطبقات معانيه، المتعددة، العميقة في ثرائها، إلى ايديولوجيا السرير الحديدي المعد سلفا، كما صنعه الحداد وقاطع الطريق اليوناني بروكرست، الذي كان يهاجم الناس ويقوم أما بمط أجسادهم أو قطع أرجلهم ليتناسب طول أجسامهم مع سريره الحديدي. فالسياسة الاستعمارية الجديدة، لم يطرأ تغير كبير على فحواها: إنها تعتاش وترتزق على مغذي الحاكم المحلي، العبد الذي يحصل على ترقية، فيُسمح له بالخدمة في بيت السيد بدلا من الحقل، إذا كان يخدمه بإخلاص، كما وصف المغني الأمريكي الأسود هاري بيلافونتي رجلاً أسود آخر هو كولن باول، وزير الخارجية الأمريكي أثناء غزو العراق.

انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي دعوة المتظاهرين للمطالبة بحق لا ينص عليه ميثاق حقوق الإنسان، بهذا الشكل المباشر، الصريح : نريد الوطن. وهي خطوة أذهلت كل أحزاب «العملية السياسية»، من الإسلامية إلى العلمانية، ومن القومية إلى الشيوعية، والتي تاجرت جميعا بتحالفاتها، من انتخاب «ديمقراطي» إلى آخر، تحت شعارات ظاهرها محاربة الفساد والمحاصصة، وباطنها «معا من أجل المحاصصة والفساد». لم تعد التظاهرات مرهونة بخدعة نحن ضد الفساد، نحن نزهاء. نحن مع سيادة العراق، نحن وطنيون.

ولعل أكبر خدع الاحتواء التي عاشها المتظاهرون على مدى سنوات الاحتلال هي التي يطلقها «سماحة حجة الإسلام والمسلمين السيد مقتدى الصدر دام عزه»، الذي يروج له، بعد تحالف الحزب الشيوعي معه في الانتخابات والبرلمان، أنه «مدني». فالمعروف، ومن مراجعة بسيطة، لمجريات المظاهرات السابقة، أنه من يتدخل دائما، بالتعاون مع المرجعية الدينية، على انقاذ النظام، في لحظات اقتراب المتظاهرين من تحقيق التغيير. فهو الذي منح نظام نوري المالكي مهلة ستة أشهر لإجراء الاصلاحات الخدمية التي طالب بها المتظاهرون عام 2011 بعد أن كان رئيس الوزراء نوري المالكي نفسه قد طلب مهلة شهر واحد. ثم عاد ومنح المالكي مهلة أخرى بعد أن خرج المتظاهرون لمطالبة حكومة نوري المالكي بتقديم استقالتها، وكانت النتيجة احتواء المتظاهرين ووضع حد للمظاهرات عبر استخدام أجهزة النظام القمعية واختيار مقتدى الصدر الانزواء في إيران. وكرر التكتيك نفسه مع متظاهري البصرة وغيرها في سنوات تالية مغادرا العراق في لحظات الأزمات الحادة بذريعة الدراسة حينا وكتابة الشعر في حين آخر. وها هو يعود اليوم، بعد صمت لا يضاهيه غير صمت مرجعية النجف على قتل المتظاهرين وتزايد أعداد المختطفين والمعتقلين، واستنكار المنظمات الحقوقية الدولية، واصرار المتظاهرين على الاستمرار، محاولا أن يمدد بقاء ساسة العملية السياسية الفاسدين، وهو وتحالفه جزء لا يتجزأ منها، عبر تخدير الانتفاضة بشعاراته المعتادة «كلا كلا أمريكا» و «كلا كلا للفساد… نعم نعم للإصلاح».

يعلمنا التاريخ أن عمر مغازلة الأوهام وشعبوية الخطاب السياسي، ونشر سياسة القبول بالأمر الواقع، وتخويف المطالبين بتغييره بالفوضى، خدعة قد تنطلي على الشعوب لفترة إلا أنها لن تطول. وخدعة الاصلاح، بعد مرور 16 عاما من فقدان السيادة الوطنية وبؤس الحياة اليومية، والمشاريع الوهمية، لم تعد تنطلي على أحد مهما حاول الساسة تعليبها بشكل جذاب. وحين يخرج الشباب متظاهرين، مطالبين باستعادة ملكيتهم للوطن، فلأنهم يدركون أن دماء الشهداء لا تغسلها وعود القتلة، وأن التعويضات المادية لا تعيد للأمهات أبناءهم، ومنح الشهداء «منزلة الشهيد» من قبل القتلة هو امتهان لكرامة المنتفضين. وهو مخدر سيوفر للفاسدين المستغلين ديمومة بقائهم. وإبقاء المواطن في غيبوبة، مربوطا بآلة تنفس اصطناعي. إنه الميت الحي وهو المطلوب.

كاتبة من العراق

 

جينات العائلة العراقية

تنتفض في تشرين

هيفاء زنكنة

 

باستثناء المشاركة الرمزية في المظاهرات المليونية التي شهدها العالم في شباط/ فبراير 2003، معلنا بصوت واضح الرفض الشعبي، لشن الحرب على العراق، لم يساهم عراقيو الخارج، باستثناء قلة، وفي حالات نادرة، في مظاهرات او اعتصامات تساند وتدعم اي فعل شعبي، ينفذ داخل العراق، مهما كانت شرعيته القانونية والاخلاقية، وخاصة اذا كان يدعو الى اجراء تغيير حقيقي في هيكلية « العملية السياسية» أو اسقاط النظام. أسباب الصمت العلني كثيرة، أهمها ان معظم العراقيين المقيمين في اوروبا وأمريكا وصلوها لأسباب سياسية، وفق درجة القمع في حقب مختلفة، وليست اقتصادية كما في عديد البلدان العربية.

وقد نقل العراقيون معهم في رحيلهم الى بلدان الاقامة الجديدة حقائب ثقيلة من العقد والخلافات بالاضافة الى الولاء الايديولوجي الضيق والمحدود للأحزاب التي ينتمون اليها. ومع صعوبة التأقلم مع المجتمعات الجديدة، خلق كل حزب لأعضائه منظمات مجتمع مدني، جمعيات او منتديات او حسينيات او نواد، مهدت الأرضية منذ انشائها، لمأسسة غيتوات الطائفية سواء كانت علمانية أو دينية، خارج البلد استعدادا للعودة اليه بعد «التحرير».

حصلت معظم هذه المنظمات والمنتديات، منذ تسعينيات القرن الماضي، على التمويل من بلدان الاقامة. فكان من الطبيعي، ان يتعاملوا مع قضايا العراق، غالبا، وفق سياسة البلد وجهة التمويل. وازداد التحكم «الناعم» بهذه المنظمات والمنتديات، بعد اعلان أمريكا سياسة «الحرب على الإرهاب» وفرض السياسة على دول اخرى. فمن يتم تمويله من قبل مؤسسة بريطانية، مثلا، ليس من مصلحته وضع الاحتجاج على سياسة الحكومة البريطانية في العراق، واستفادتها من عقود النفط والسلاح الشركات الأمنية ضمن برنامجه. المنفعة الاقتصادية لصالح بريطانيا أرض محظور مسها. وتوجيه الاتهام الى استخدام التعذيب من قبل القوات البريطانية وهي ذاتها التي تدرب القوات العراقية على «حقوق الانسان»، ارض محظورة هي الأخرى، ومفهومة ضمنيا بدون الحاجة الى وضعها على الورق ضمن البرنامج المعلن لمنظمة المجتمع المدني. فبات معظم نشاط هذه المنظمات/ الجمعيات/ المنتديات يقتصر على تنظيم السفرات والحفلات وعروض الازياء ومناسبات الاعياد وذكرى تأسيس الحزب صاحب الجمعية، واستشهاد الامام الحسين، ومجالس العزاء. ولا تخلو البرامج من محاضرات تمس، بحذر، ما يجري في العراق وبشرط ألا تؤثر، بأي شكل من الاشكال، على «طمأنينة ورضا» عقول الحاضرين. واذا كان هناك ما يثير الغضب والحزن حول ما يدور في بلدهم الام فهو وجود «الإرهابيين» وانقياد «المتخلفين»، من ابناء الشعب، لهم.

الشباب العراقي قرر أن يأخذ زمام الأمور بيده، وألا يعتمد على الساسة والبرلمان والأحزاب، وأن ينزع عن رجال الدين، من أصغرهم إلى أكبرهم، رداء القدسية المذهبية

وكان لظهور تنظيم الدولة الاسلامية «داعش» واعلانه مدينة الموصل، شمال العراق، عاصمة له، الحد الفاصل لدى الكثيرين، لتناسي او التعامي أو غسل جرائم المحتل الانكلو أمريكي، بدءا من الاعتقال والتعذيب الى القتل المنهجي البطيء باليورانيوم المنضب وابادة مدن المقاومة. وفر تنظيم داعش الاداة الأفضل لمسح كل ما تم ارتكابه قبله، لتقتصر المطالبة بتحميل المسؤولية والعقاب عليه. ومع تشغيل الماكنة الاعلامية المحلية والاقليمية والدولية، بات تنظيم «داعش» التيزاب السائل لإذابة او غسل الذاكرة من كل ما حدث قبل حزيران 2014، واعادة تركيبها حسب المطلوب. انعكس ذلك على عراقيي الخارج سواء كانوا في البلاد العربية، المكممة لأفواه مواطنيها، اساسا، أو في اوروبا وأمريكا.

الا أن هذه الصورة، تغيرت تماما منذ الاول من تشرين/ اكتوبر، العام الحالي. اذ شهدت العواصم الاوربية وأمريكا عديد المظاهرات والاعتصامات المساندة لانتفاضة الشباب العراقي، الذي قرر أن يأخذ زمام الامور بيده، وألا يعتمد على الساسة والبرلمان والاحزاب، وان ينزع عن رجال الدين، من أصغرهم الى أكبرهم، رداء القدسية المذهبية. مطالبا بصوت واحد «نريد وطن»، مشخصا، بعيدا عن الولاءات الحزبية التقليدية، وبحكمة، توصل اليها عبر سنوات الصبر على الفاسدين، وانتظار صحوة ضمير المستحوذين على ثروة العراق باسم الدين ووجهه الطائفي البشع، ان من ينحني بخنوع امام «السادة» يستحق الركل.

فمن لندن الى جنيف الى موسكو وبرلين ومن باريس الى أثينا ومدريد وواشنطن ومن كندا الى استراليا وجميع بلدان اللجوء والهجرة، نظم شباب الخارج، المولود معظمهم خارج العراق، ولأول مرة، عديد المظاهرات المساندة لأخوتهم بالعراق. وقفوا أمام السفارات العراقية وفي الساحات العامة ومقرات الحكومات احتجاجا وتنديدا بسياسة النظام الفاسد، مطالبين بالتغيير، وبجرأة تجاوزت مخاوف آبائهم، مؤسسي جمعيات ومنتديات احزاب الخارج، باسقاط النظام. انبثقت المظاهرات، أكثر من كونها نظمت، بشكل عفوي، مشحون بالعواطف، اختلط فيها الغضب بالأسى، من قبل شباب بأعمار تماثل اخوتهم المتظاهرين بالعراق، ولم يحدث ان انخرطوا بأي حزب أو شاركوا باية مظاهرة سابقا.

خرجوا، اليوم بعد الآخر، مؤكدين تضامنهم، بشعارات أعدوها على عجل، وسهروا الليل لطباعة صور شهداء الانتفاضة بأنفسهم، تصرفوا وكأنهم يسابقون الزمن، في صياغة هتافات واعداد منشورات بعدة لغات، ليوصلوا اصواتهم الى مواطني اوروبا وأمريكا، ويتواصلون، في الوقت نفسه، مع اخوتهم المعرضين لخطر الموت قنصا، وهم يحملون راية الحرية لعراق خال من الاحتلال الأمريكي ـ الإيراني. كسروا حاجز الخوف من الاتهامات الجاهزة بالبعثية والداعشية والطائفية والإرهاب.

وهذا، بحد ذاته، انجاز كبير سيبقى رمزا لانتفاضة الشباب وان تمكن النظام الفاسد من دفعها جانبا الى حين. الانجاز الآخر هو نجاحهم في دفع منظمات وجمعيات الاحزاب التقليدية على الخروج من قوقعة مواقفهم الخجولة أو الانتهازية لئلا يفوتهم قطار الحرية.

فشباب الانتفاضة، سواء كانوا داخل أو خارج العراق، هم حاملو جينات العائلة العراقية، المعتادة، المكونة من كل القوميات والاديان والمذاهب في آن واحد. أراد الاستعمار الجديد وحكامه بالنيابة، تفكيكها، بذرائع مختلفة، ليتقاتل افرادها فيما بينهم، بينما يقف جانبا ملتذا بانتصاره، ففشل. وانتفاضة تشرين، سواء استمرت أم تأجلت الى حين، هي افضل دليل.

كاتبة من العراق

 

 

انتفاضة الشباب

تعيد للعراق عافيته

هيفاء زنكنة

 

اذا كان خروج شباب البلاد العربية الى الشوارع احتجاجا وثورة، قد فاجأ العالم في عام 2011، وتكاتفت لإعادة تشكيله وصياغته، وفق المطلوب، الحكومات المحلية المستبدة والقوى الاقليمية والعالمية، فان انتفاضة الشباب العراقي، الحالية، في يومها الثامن، لم تفاجئ احدا، وها هي محاولات اجهاضها جارية، كما سابقاتها، من قبل عدة جهات متداخلة بتوليفة ميليشياوية – سياسية – دينية محلية واقليمية، وحجج معجونة بالفساد المحلي والدولي.

ففي كل مرة يخرج فيها المتظاهرون الى الشوارع احتجاجا، لأسباب تبقى في جوهرها واحدة، على اختلاف المدن والمناطق العراقية، مطالبين بالخدمات الاساسية الضرورية لإدامة الحياة والكرامة، في بلد غني تبلغ ميزانيته السنوية 120 مليار دولار، ويتم فيه استيراد المهندسين والعمال أما من الخارج أو تعيين غير المؤهلين نتيجة الفساد، تقوم قوات الحكومة «الديمقراطية» وميليشيات الاحزاب المدعومة إيرانيا، بإطلاق النار على المتظاهرين، بينما يقف سادة «الديمقراطية» من الحكومة البريطانية الى الادارة الامريكية، جانبا، وهم يحصدون غنيمة الحرب والخراب الذي زرعوه عقودا وأسلحة.

قائمة المظاهرات السابقة طويلة وتمتد من شمال العراق الى جنوبه منذ غزوه واحتلاله عام 2003. وفي كل مرة يسقط فيها الشهداء، تتستر الحكومة وقادة الاحزاب المستفيدة باتهامات جاهزة. احتجاجات واعتصامات أعوام 2011 ـ 2013، في الفلوجة والحويجة والرمادي والموصل، تم وصفها بالإرهاب وانها بتنفيذ « القاعدة». متظاهرو البصرة في العام الماضي، وصفهم حزب الدعوة الإسلامي الشيعي، بأنهم «مجرمون، آثمون، داعشيون، بعثيون… ويجب ان يعاقبوا». واتهم رئيس الوزراء السابق حيدر العبادي المتظاهرين، في أيلول/سبتمبر 2015، بالعمالة لـ «قوى خارجية» تريد «استهداف الدولة»، كما ساهمت قنوات إعلامية، يمولها رئيس الوزراء السابق نوري المالكي، بنشر خبرا مفاده ان مخطط التظاهرات «يهودي صهيوني ماسوني» من أصل عراقي. أما متظاهرو النجف، المدينة المعروفة بأنها مركز المرجعية الدينية الشيعية، المطالبين بالكهرباء والماء الصالح للشرب، عام 2018، فقد تم اطلاق النار عليهم، فاستشهد اثنان وجرح 15 آخرين، تلاها قتيلان و40 جريحا في مدينة كربلاء. برر المسؤولون جريمتهم بأن الضحايا كانوا «إرهابيين، مخربين».

على مدى السنوات، أثبتت حكومات «العملية السياسية»، انها لا تكتفي بإهمال مطالب المتظاهرين واطلاق النار عليهم أو رمي مدنهم بالبراميل الحارقة، بل تواصل تكميم اصواتهم عبر اعتقال وإغتيال الناشطين والعقاب الجماعي. ولجأت، في العام الماضي، الى قطع الانترنت، عدة ايام، منعا للتواصل الاجتماعي وايصال اخبار الانتهاكات والجرائم الى العالم الخارجي. هذه الآلية، بمستوياتها المتعددة، يتم تطبيقها، كلها، على المتظاهرين، حاليا، بعد تطعيمها بتقنية ارهابية جديدة لم تستخدم سابقا، وهي استخدام القناصين لاغتيال المتظاهرين بالإضافة الى رجال الشرطة والجيش، اذا ما حدث، ورفض أحدهم اطلاق النار على المتظاهرين، خاصة وهم يرون بأم اعينهم عدم حمل المتظاهرين لأي سلاح كان، واكتفائهم بالهتافات واعلان الغضب سلاحا.

ان العراق الذي أريد لشعبه الخنوع، ولثروته النهب، ولأرضه التقسيم، بذريعة الطائفية والعرقية، حي يرزق، بشبابه، ورثة تاريخه العريق وحضارته الممتدة عميقا في جذور الانسانية

ان استهداف المتظاهرين بالرصاص الحي ونشر القناصين ليس انتهاكا لحق الحياة الحياة فحسب بل جريمة ضد الإنسانية تتحمل السلطات مسؤوليتها.

ومن يتابع هتافات المتظاهرين سيجدها، كما كانت منذ تظاهرات بدء الاحتلال، تقريبا، باستثناء شعار «ارحلوا»، برمزيته الخاصة التي تبدت بتونس ومصر. فمن «باسم الدين باكونا (سرقونا) الحرامية» و«ما نريد واحد ملتحي، نريد واحد مستحي» للدلالة على زيف ادعياء الدين، و«طلعت ريحتكم» و« كل النواب حرامية»، للدلالة على استشراء الفساد بين الحكومة والنواب معا، الى «ايران برة برة بغداد تبقى حرة»، للدلالة على تبعية الحكومة للمليشيات المدعومة ايرانيا، وعدم الرضا العام عن سياسة التبعية والخنوع لأية قوة خارجية.

واذا كانت كثرة ترداد الشعار الاخير، في التظاهرات الحالية، هو الذي أوحى للساسة بأن يركزوا حملة تشويههم للمتظاهرين، وبالتالي تبرير قتلهم، على اتهامهم بانهم عملاء لامريكا والسعودية، فانهم يتعامون عن حقيقة هي ان ليس كل من ينتقد احتلال ايران للعراق هو مؤيد لأمريكا والسعودية، بالضرورة، وليس كل من ينتقد أمريكا هو مؤيد لإيران، وليس كل مناهض للكيان الصهيوني معاديا للسامية. لم تعد هذه الوصفات الجاهزة للتشويه سارية المفعول. فالشاب العراقي الذي يجد نفسه عاطلا عن العمل او يفتقد سبل العيش الكريم، وقد بلغت نسبة البطالة 40 بالمئة، بينما يتمتع ساسته، مهما كانت طائفتهم او عرقهم، بسرقة أو تمكين سرقة مليارات الدولارات، أمام ناظريه، وتحويل البلد الى ساحة صراع بين أمريكا وايران، لا يحتاج ان يكون عميلا لأحد ليفهم ويدرك وينتفض. أنه تجسيد لشعاره: «نازل آخذ حقي».

بالإضافة الى الاتهامات، حاول الساسة ورجال الدين، ولايزالون، تخدير المتظاهرين بالوعود الزائفة في سيناريوهات جاهزة الى حد اثارة التقزز. من بين رجال الدين، يحتل مقتدى الصدر المركز الاول في حرباوية المواقف والتي انضم اليها الحزب الشيوعي في تحالف غير مقدس، للفوز بالانتخابات الاخيرة التي ساهم فيها 18 بالمئة من السكان فقط، للدلالة على فقدان الثقة بكل سلة الاحزاب. واحتل رئيس البرلمان الحلبوسي، بجدارة، قمة الابتذال السياسي، قبل يومين، حين وجه دعوة للمتظاهرين لزيارته واخباره بمطالبهم، متظاهرا، في كوميديا من الدرجة العاشرة، بانه لا يعرفها، وكأن المظاهرات الحالية هي الاولى من نوعها في البلد، وكأن شهداء الاحتجاجات منذ 16 عاما، كانوا يتسلون بالموت.

ان العراق الذي أريد لشعبه الخنوع، ولثروته النهب، ولأرضه التقسيم، بذريعة الطائفية والعرقية، حي يرزق، بشبابه، ورثة تاريخه العريق وحضارته الممتدة عميقا في جذور الانسانية، ولم يتم لصقه بالغراء «الانكليزي»، خلافا لادعاءات الغزاة والمحتلين. الثمن غال، وصلت فاتورة الحرية خلال الاسبوع الاخير ما لا يقلّ عن 100 شهيد برصاص القوات الحكومية وميليشياتها، وجرح اكثر من 6000 واعتقال بحدود 650 شخصاً.

مع ذلك، ينهض العراق، في كل مرة من رماد القمع والارهاب، لينتفض، ويدفع في كل مرة دماء ابنائه قربانا من اجل عراق حر موحد، ليتخلص من نظام فاسد مبني على طائفية أسسها المحتل الانكلو أمريكي. الطائفية التي أرادوا بواسطتها تقسيم الاهل والارض، وها هم المتظاهرون يغسلونها بدمائهم من على وجه العراق المحتفي دوما بكل اهله.

كاتبة من العراق

 

 

مقارنة «شرعنة العنف»

بين بريطانيا والعراق

هيفاء زنكنة

 

«شرعنة العنف»، كان هو التعليق الأهم الذي أستخدم لوصف تبادل الاتهامات، بلغة لا تليق، بين نواب مجلس العموم البريطاني، في الأسبوع الماضي. كان الاجتماع الذي تراشق فيه النواب، والوزراء وعلى رأسهم رئيس الوزراء، مفردات، لم تستخدم، سابقا، هو الاول للمجلس بعد ان قضت المحكمة العليا، في بريطانيا، بعدم قانونية قرار رئيس الوزراء بوريس جونسون، بتعليق عمل البرلمان لمدة خمسة أسابيع. من بين المفردات التي تم التلفظ بها، وأعتبرت سابقة في تاريخ المجلس، « خيانة» و«متعاونين» و«الاستسلام» و«هراء»، عبر فيها رئيس الوزراء عن موقفه ازاء اعضاء البرلمان الآخرين، وخاصة ضد أعضاء تحدثوا عن مخاوفهم من تهديدات تلقوها بأشكال متعددة. دفع احتدام النقاش واسلوب الشجار حول «البريكست»، جون بيركو رئيس مجلس العموم الى القول في اليوم التالي أنّ الجدال حول البريكست قد هبط إلى مستوى متدنٍ لم يشهد له مثيلا طوال وجوده في البرلمان.

شهدت بريطانيا، في الثلاث سنوات الأخيرة، استقطابا سياسيا، وصل الى مرحلة العنف حتى بين افراد العائلة الواحدة، وهو حدث نادر في تاريخها المعاصر. يدفعنا هذا التصاعد الحاد في مشاعر البريطانيين تجاه قضية واحدة لا غير هي البريكست، والانقسام الشعبي ووصوله مرحلة التهديد والعنف الجسدي، خلال فترة زمنية قصيرة هي ثلاث سنوات فقط، الى النظر في الوضع العراقي، خاصة من نواحي التحريض على الانقسام وإثارة الكراهية، في الخطاب السياسي للنخبة، المفترض فيها تمثيل الشعب، ومدى نجاح التحريض في إشعال حرائق الفتنة وتجييرها لصالح هذا الحزب او ذاك.

علينا الاقرار بأن التحريض الدعائي / الطائفي/ العرقي المؤسس لتركيبة الأحزاب الحالية، يشهد نجاحا في تجييش العواطف الفجة المرتبطة بالطائفة والدين والعرق، من خلال شعبوية الخطاب، وتحويله الى تجارة يتم التعامل فيها مع المواطن باعتباره مستهلكا لبضاعة الحماية من كراهية «الآخر». وفق هذا المنظور، يوفر الحزب السياسي المهيمن على ثروة البلد، الحماية والعمل وسبل العيش للمواطن الذي ينتمي الى طائفته او دينه او قوميته، تأسيسا لقاعدته الشعبية وضمانا لرضوخ المواطن لإرادة قيادة الحزب. أحد العوامل الرئيسية في تسهيل نجاح الهيمنة الحزبية، خاصة اذا ماتوفر لها «التعاون» الخارجي، كون العراق بلدا ريعيا يعتمد في ميزانيته على النفط. فمن الذي يجرؤ على انتقاد حزب ساعد على منحه راتبا لقاء وظيفة وهمية، أو تعيينه وأقاربه في وظائف على حساب غيره، أو منحه منصبا يعرف جيدا انه لايستحقه من ناحية الكفاءة، ناهيك عن الأخلاق؟

التحريض الدعائي / الطائفي/ العرقي المؤسس لتركيبة الأحزاب الحالية، يشهد نجاحا في تجييش العواطف الفجة المرتبطة بالطائفة والدين والعرق، من خلال شعبوية الخطاب، وتحويله الى تجارة يتم التعامل فيها مع المواطن باعتباره مستهلكا لبضاعة الحماية من كراهية «الآخر»

أثبتت سياسة حكومات الاحتلال المتعاقبة منذ 16 عاما، ان خلق ونشر الكراهية ضرورة، لا يمكن الاستغناء عنها، بالنسبة الى السياسي حين يدرك عدم قدرته على تمثيل عموم الجماهير، وشكلت الرطانة السياسية – الطائفية جزءا لا يتجزأ من سيرورة التطويع والترويع والابتزاز لإنجاح الاستقطاب المفتت للبنية الاجتماعية، كطريقة للفوز على خصومه، وهي بالتأكيد الطريقة الامثل لخلق أجواء عنف تتيح له الوقوف، ضاربا بقبضة يده على صدره، دلالة تحقيق النصر. ويمثل نوري المالكي، الامين العام لحزب الدعوة الشيعي، حاليا، ورئيس الوزراء لدورتين سابقتين، نموذجا يستحق ان يوضع بجانب اهم مجرمي الحرب في العالم، لما زرعه من إرهاب نتيجة لغة التحريض التي مارسها، معتمدا على الشعارات التي أطلقها وحزبه لشحن وتأجيج العواطف. وكلها مصاغة لتعكس احساسه العميق بنقاء طائفته وسردية استحقاقها التاريخي للحكم. حيث ساهم أما شخصيا او من خلال أتباعه، بالنيابة، بطرح مقولات لاستفزاز بقية الشعب، ودفعهم الى الاحساس بهامشيتهم وما يصاحب ذلك، عادة، من الرغبة بالانتقام. كان استخدامه للرطانة الشعبية أداة جعلته يحتل المنصب الاعلى في الدفاع عن طائفته، وبطلا يطمأن مادحيه بانهم باقون في الحكم الى الأبد، وتبا للديمقراطية، ولا خوف عليهم ما دام هو موجودا، مكررا «هو يكدر واحد ياخذها حتى ننطيها»، أي هل هناك من يجرؤ على أخذ الحكم منا لكي نتخلى عنه، مؤكدا بأنه «شيعي» قبل أن يكون عراقيا، وداعيا الى تنفيذ احكام الاعدام، مباشرة، في الساحات، حال القاء القبض على «الإرهابيين». ومهددا باندلاع حرب أهلية في حال يتم «التلاعب بنتائج الانتخابات»، أي عدم فوز حزبه.

ولكن، أين الشعب العراقي في هذه الفوضى التي تنخر البلد نخرا؟ ليس بالامكان القبول بالجواب المغري، المتداول، حاليا، حتى بين المثقفين والسياسيين اليساريين، وهو لوم «الشعب المتخلف». وهو لوم يخفي، في أعماقه، الاحساس بالاحباط والغضب وفي نفس الوقت، تمنح اللائم أو موجه الاتهام، فرصة الوقوف على منصة أخلاقية أعلى من بقية الشعب، وتمكينه من الاستحواذ على صك عدم المسؤولية. لقد مرت أجيال من الشعب العراقي، بحروب لا يعفى من مسؤوليتها أحد، سواء من القوى العالمية اللاهثة خلف الثروات أو حماقات الحكام واستعدادهم لارتكاب الجرائم بشعارات وطنية او قومية. حفرت الحروب وما تلاها من حصار اختزل المواطن الى مستجد للطعام والدواء، جروحا لم تتح لها فرصة الاندمال بل الحفر أعمق مع الغزو وما جلبه من ساسة، يمكن تلخيص كل برامجهم السياسية بكلمة واحدة هي «الانتقام». لم يقتصر استخدام الرطانة السياسية – الطائفية – العرقية على نوري المالكي، ولم تنته بانتهاء فترة حكمه، اذ يكتظ البرلمان، اليوم، بهذا المالكي أو ذاك، حسب ما تجسده هيكيلية «المحاصصة الديمقراطية». فاذا كانت قضية البريكست قد قسمت البرلمان والشعب البريطاني الى مع وضد، خلال ثلاث سنوات، فان نواب البرلمان العراقي المقسم، وفق المحاصصة التي مأسسها المحتل الأمريكي مع نظيره البريطاني، يبنون حضورهم وتأهلهم لـ «تمثيل الشعب» على ادعاءات أحقية تاريخية سحيقة، واحاسيس تختلط فيها المشاعر القومية والدينية، وهي مشاعر لا خلاف حولها، لولا ارتباطها بالمصالح الفردية الفاسدة والمظلومية المزمنة، على حساب الوطن الجامع لكل مواطنيه، والتلاحم المجتمعي الصميم المبني على التزاوج والتاريخ المشترك. ان حالة «شرعنة العنف» التي تتم مناقشتها في بريطانيا كنتيجة لخلاف سياسي عمره ثلاث سنوات، وسط المطالبة باستقالة الحكومة المسؤولة بل وحتى معاقبة رئيس الوزراء، يعيشها العراق بمعنى أوسع وأشمل هو «شرعنة الإرهاب»، ولن تنتهي ما لم يتم التحرر من قبضة الطبقة المسؤولة سواء في الحكومة أو البرلمان.

كاتبة من العراق

ماذا لا تساعد الحكومةالبريطانية المسيحيين العراقيين؟

هيفاء زنكنة

 

في مقابلة مع «راديو 4 ـ البي بي سي»، بلندن، صباح يوم الاحد الماضي، تحدث القس العراقي جرجيس، ضمن الفترة المكرسة للبرنامج الديني، عن مأساة المسيحيين في العراق، تعرضهم لشتى الضغوط، ومعاملتهم كأقلية من المستحسن التخلص منها، بأي طريقة كانت، بضمنها التهجير القسري والاغتيال. وكان حديثه مؤثرا حين أكد اختياره البقاء في العراق، لمساعدة الناس، على الرغم من كل التهديدات التي يتلقاها، متسائلا بأسى يعصر القلب بما معناه: أليس العراق وطن المسيحيين منذ العصور السحيقة؟

تحدث القس، ساردا قصته الشخصية، متجنبا الأرقام والاحصائيات، على أهميتها، لأنه من الصعب فهم معنى الأرقام والاحصائيات حين تتعلق بجوانب الحياة اليومية. وتزداد الصعوبة، حتى تكاد تكون مستحيلة، عندما ترتبط بالحياة الانسانية نفسها، وترتفع الأرقام لتتجاوز الآلاف، ما لم يتم ربطها بقصة، يمكن للمرء التماهي معها، بدرجة من الدرجات، لتقترب الأرقام من الأذهان. ولكن، كيف يمكن التقريب بين أعداد ضحايا الحروب وقصصهم، لاستيعاب محنتهم، وقد تجاوزت أعدادهم الملايين، وهي في نمو يزداد تسارعا بمرور الايام، لتشمل، بدرجة أو أخرى، في حصيلة الأمر، كل الناس على اختلاف قومياتهم وأديانهم؟ وكيف يمكن تلافي استخدام القصص الانسانية لاستغلال تعاطف الناس وتجييشهم لصالح أجندة سياسية محددة أو مشروع كولونيالي؟

يمنحنا تاريخ الكولونيالية وحاضرها الاستعماري الجديد، عديد الامثلة على استغلال ظلم الأقليات لتفتيت القضايا وجعل حتى أكثر القضايا إنسانية «غيتو» لما يطلق عليه «تنافس الضحايا»، للفوز بالحماية من ذات الجهة او القوة المسببة للمأساة أو من ترتكب ذات الجرائم ضد آخرين. فمن من الناس لم يتعاطف مع الشابة اليزيدية نادية مراد، التي مرت، بابشع الظروف على يد مقاتلي «الدولة الإسلامية»، وكيف باتت رمزا وصوتا للضحايا من أهلها وأتباع دينها؟ وكان من المفترض ان تكون صوتا للضحايا في جميع انحاء العالم، بعد تعيينها سفيرة للنوايا الحسنة من قبل الأمم المتحدة، وفوزها بجائزة نوبل، الا انها قبلت بتسخير مأساتها لصالح الكيان الصهيوني (تعمدا أم سذاجة؟) حالما دعيت لزيارته، بدعوة من نائبة صهيونية، لتتحدث في الكنيست عن مأساة «شعبها» والعمل مع « «الإسرائيليين» على انهاء الظلم ضده، متجاهلة بذلك الظلم المستمر الذي توقعه حكومات الكيان الصهيوني، الاستيطاني، العنصري، المتعاقبة ضد الشعب الفلسطيني، بمن فيه النساء الفلسطينيات. هكذا تتم تجزئة معنى «الظلم» ومفاهيم تحقيق العدالة وانهاء الاحتلال، وفق انتقائية منهجية تماثل حماية الغيتو العرقي أو الديني.

إذا كان النظام العراقي قد بذل أقصى جهده، منذ الاحتلال الذي لعبت فيه بريطانيا دورا رئيسيا، عام 2003، لمأسسة مجتمع تسود فيه طائفة واحدة، وأعداد المهجرين قسرا الكبيرة، فانها اختارت التعامي عن مسؤوليتها في الانتهاكات

يأخذنا نموذج نادية مراد، وهي ليست الوحيدة من نوعها، الى البناء الإعلامي حول القصة الشخصية، لجذب الانتباه الى قضية انسانية، واضاءة أحداث قلما يتم الانتباه اليها، اعلاميا، على الاقل، في خضم تسارع الاحداث اليومية المتأججة، فعلا، خاصة في بلداننا، أو المسيرة وفق أجندات سياسية واقتصادية، في جميع انحاء العالم. يقابل الجانب الإنساني الايجابي، فيها جانبا آخر يمنحها امكانية الاستخدام للتضخيم والمبالغة، وتعمل على الغاء قصص الآخرين، او التغطية على جوانب قد تكون اكثر اهمية من غيرها.

خلافا للكثيرين ممن يتم استدراجهم، إعلاميا، للتفوه وفق اجندات جاهزة، تحدث القس جرجيس، بعاطفة عن العراق وعن اسباب اختياره مواصلة العيش فيه، لافتا، في الوقت نفسه، الانظار الى مأساة تفريغ البلد من أهله. وهي نقطة مهمة جدا للدلالة على سياسة نظام يدعي الديمقراطية وتمثيل المواطنين، بينما يقمع معظم المواطنين، وتتنافى سياسته وفساده وممارساته الطائفية، مع أبسط مظاهر الديمقراطية وحقوق الانسان، بضمنها حرية المعتقد الديني. وهي النقطة الجوهرية التي تجاهلها البرنامج الديني الذي فضل إعلاميوه التمشي على سطح مأساة المسيحيين بالعراق بدون التعمق في الاسباب التي أدت الى التحول المذهل تجاههم، في بلد هم جزء لايتجزأ من تركيبته التاريخية. بالاضافة الى ذلك، تم، بعد مقابلة القس العراقي، تقديم موجز لتقرير أعده أسقف كنيسة تورورو فيليب ماونستيفن، بناء على تكليف وزير الخارجية البريطاني جيريمي هانت، بعد أن سادت حالة من الغضب حيال المعاملة السيئة والتهديدات بالقتل التي تلقتها الباكستانية آسيا بيبي بعد اتهامها بالتجديف في باكستان. يكشف التقرير، الذي تشكك جهات علمية بصحة طريقة التوصل الى نتائجه وإحصائياته، الى ان 80 بالمئة من المسيحيين يتعرضون للاضطهاد، وان «المسيحيين هم أكثر الجماعات تعرضا للاضطهاد الديني»، وأضاف جيريمي هانت، قائلا: «في بعض المناطق، يقترب مستوى وطبيعة الاضطهاد من التعريف الدولي للإبادة الجماعية». مبينا ان سبب الامتناع عن مواجهة هذه المشكلة هو «وجود قلق في غير موضعه حيال أن يكون الخطاب في هذه القضية صادرا من استعماريين عن دين يرتبط بقوى استعمارية أكثر من ارتباطه بالدول التي دخلناها كمستعمرين».

وهو محق طبعا فيما يخص ارتباط الدين، اي دين كان بالقوى الاستعمارية وسياسة الدول القمعية، فضلا عن الاستغلال الاقتصادي، حيث تشكل الحملة العسكرية التي شنها جيش ميانمار وأدت إلى مقتل الآلاف وتهجير أكثر من 700 ألف شخص من الروهينجا، الأقلية المسلمة، في ظل نظام «ديمقراطي»، أحد الامثلة الحية. كما هو العراق الذي اختاره وزير الخارجية للاستشهاد باحصائياته قائلا» تراجع عدد المسيحيين، في العراق، إلى 120 ألف مسيحي مقابل 1.5 مليون مسيحي قبل 2003». وكان المطران بشار متى وردة، رئيس أساقفة أربيل، عاصمة إقليم كردستان العراق، في زيارة له الى لندن، في 25 أيار/مايو، قد أكد «انه منذ الغزو الأمريكي للعراق الذي أطاح بنظام صدام حسين في عام 2003، تضاءل عدد المسيحيين بنسبة 83 في المئة»، مطالبا الحكومة البريطانية، في لقاء له مع وزير الخارجية، أن توفر مساعدة عاجلة للأقلية المسيحية.

ما هو نوع المساعدة التي قدمتها الحكومة البريطانية، حتى الآن، للمسيحيين العراقيين وغيرهم ممن يعانون من الاضطهاد والتمييز ومصادرة الحقوق بانواعها، باستثناء منح اللجوء لقلة منهم؟ والسبب؟ اذا كان النظام العراقي قد بذل أقصى جهده، منذ الاحتلال الذي لعبت فيه بريطانيا دورا رئيسيا، عام 2003، لمأسسة مجتمع تسود فيه طائفة واحدة، حسب كل التقارير الحقوقية المحلية والدولية، واعداد المهجرين قسرا الكبيرة، فانها اختارت التعامي عن مسؤوليتها في الانتهاكات والجرائم المرتكبة تحت الاحتلال بل واستمرت في بيع السلاح وتقديم الدعم المعنوي، والاكثر من ذلك الصمت على ممارسات النظام، في اجواء هيأت الارضية للإرهاب، وعدم اتخاذ اية خطوة رادعة بحق المسؤولين وعدد منهم من حاملي الجوازات البريطانية. وهذا ما لم يتطرق اليه مقدمو البرنامج البريطاني أو وزير الخارجية، عند الحديث عن مأساة المسيحيين، متجاهلين مأساة الشعب الذي يعيش آثار جريمة الاحتلال، بشكل يومي من إرهاب واغتيال واحكام اعدام وهدم للبنية المجتمعية، لبلد هو ملك لكل اهله وليس لطائفة أو دين أو عرق «مختار».

كاتبة من العراق

 

 

دموع أيام عاشوراء

و«هيهات منا الذلة»

هيفاء زنكنة

 

 

حفل الاسبوع العراقي السابق، على هامش أيام عاشوراء واحياء ذكرى استشهاد الحسين، بلقطات تجمع، مثل كل تظاهرة حاشدة، بالعواطف المتأرجحة ما بين النبل والاستغلال. هناك اولا لقطات الحشود، على اختلاف الجنس، المرتدية للزي الأسود من اعلى الرأس الى اخمص القدمين، السائرة مسافات طويلة متوجهة الى مدينة كربلاء، للمشاركة الجماعية بالطقوس المألوفة، وترداد «قراءات» ترشها المايكروفونات الضخمة، على المشاركين، بأصوات رجال يتنافسون فيما بينهم، على استعراض قدرتهم، على اعادة صياغة الحدث التاريخي، استدرارا لدموع المعزين. ويتجاوب معهم المعزون بكاء، فالدموع تخفيف عن الذنوب وكل دمعة تقربهم أكثر من نيل الثواب. ثواب المغفرة. ويتنافس «الرادود»، أي السارد، الفلاني مع العلاني على إيصال الجمهور الى ذروة الحزن المتبدي لا بالبكاء، فقط، بل حثه على المشاركة الجسدية، الفعلية، بأساليب مختلفة تراوح بين اللطم على الصدور وكفخ الرأس، في الايام الاولى، حرصا على طاقة جمهور المعزين، ثم التدرج الى ضرب الكتفين والظهر بالسلاسل وتطبير الرأس، حتى اسالة الدم، بعد ارتداء الكفن الابيض، في اليوم الاخير. يشكل الدم السائل بلونه القاني على الكفن الابيض، التماهي الاكبر مع مفهوم الشهادة كما تتجسد بتضحية الحسين بنفسه وأهله من اجل المبادئ. المفهوم الذي بات، عبر التكرار السنوي وتغذيته بالأساطير والطقوس، الاقتراب الأكبر من قدسية الحسين الشهيد واهل بيته ممن استشهدوا معه.

لا يقتصر اداء هذه الطقوس على العراق، فقط، بل يمتد الى دول اخرى، يوجد فيها اتباع المذهب الشيعي، بالدرجة الاولى، وان يصر اتباع المذهب السني على رمزية الحسين للجميع. يتسع الامتداد من إيران الى تركيا وباكستان وغيرها، مع اختلاف درجة الحاق الاذى الجسدي للمعزين بأنفسهم على وقع أصوات «الردادة» وانتشار البدع، وهي كثيرة، كنوع من المنافسة، في ابداء درجة التفاني بطاعة الأولياء، وتشكل رؤية احد المعزين للحسين في نومه، وأمره اياه باطلاق الرصاص على نفسه ثلاث مرات مع التأكيد له بانه سيبقى حيا، اللقطة الثانية التي خلفتها ايام عاشوراء لهذا العام، وهي النموذج الافضل للايمان الطقسي الغيبي وكيفية المساهمة في تصنيع المقدس، عبر العصور. انتشر فيديو الرجل الموعود بالحياة بعد اطلاق الرصاص على نفسه على مواقع التواصل الاجتماعي، منذ أيام، حيث شوهد وهو محاط بحشود تشجعه تكبيرا، الى ان اطلق النار على نفسه، فعلا، ومات.

يزداد العبء أطنانا على المثقف والمفكر المتدين، الباحث عن الحقيقة حول الحدث التاريخي ومعانيه، وسط ركام الطقوس والتشويه والاستغلال السياسي وصمت الفاسدين، خاصة، في بلد يتعثر تحت اقدام المحتلين

لا يكاد بلد في العالم يخلو من اقامة الطقوس الدينية، تأكيدا، ربما، لحاجة الانسان الى ممارسة الطقوس الجماعية، أيا كانت، سواء كانت ارتداء الملابس زاهية الالوان للتوجه الى الكنيسة صباح كل يوم أحد، او الى الجامع للصلاة الجماعية يوم الجمعة، او اصرار اليهود على عدم مغادرة البيت، واطفاء الكهرباء، والامتناع عن الطبخ او القيام باي عمل كان، كل يوم سبت، بالاضافة الى حلق شعر المرأة وارتداء الباروكة. هذه نماذج بسيطة للدلالة على ان العراق ليس شاذا أو متميزا، بشكل عام، بطقوسه وممارساته المذهبية أو الدينية. فلكل شعب، مهما كان عدد مواطنيه صغيرا، تنوعه الثقافي المتبدي بالشعائر والطقوس التاريخية أو حتى ما قبل التاريخية، بل وليس من المستبعد اعتبار الانتماء السياسي، في حقبة زمنية معينة، «دينا»، حسب قوة الاعتقاد به والاستعداد للتضحية بالحياة من أجله. ولاتزال صورة الحشود في الشوارع، بعد ثورة الرابع عشر من تموز، عام 1958، حية باذهان ابناء جيلنا، حين كان مصطلح المظاهرات المليونية يطلق على جماهير العراق الشيوعي، ايامها، ثم استخدم المصطلح لوصف المظاهرات المليونية ايام كان العراق «بعثيا»، وها هي الحشود المليونية تسير وتركض وتموت دوسا تحت الاقدام، في العراق «الشيعي».

الا ان الاختلاف نابع من تميز هذه الحقب كلها، ونحن لا نتحدث عن الماضي السحيق، بل عن العراق المعاصر الذي نعرفه حق المعرفة، بممارسة القمع. فما ان يستولي حامل قومية أو معتقد سياسي على السلطة، حتى تصبح اهم منجزاته قمع «الآخر»، والعمل، على اجتثاثه، بأبشع الطرق. وبدلا من توفير المجال لممارسة الحق الاساسي في حرية التعبير عن الرأي، للجميع، بلا استثناء، يصبح هذا الحق، بقوة السلطة القمعية، انتقائيا للصفوة الحاكمة وعوائلها ومريديها. وما يجعل انتقائية، عراق اليوم، منذ الاحتلال، الأكثر خطورة، هو توليفة مزج العقيدة المذهبية بالتمييز الطائفي وتغييب الآخر والفساد السياسي. واذا كان عدد من المفكرين والمثقفين المتدينين قد سخروا حياتهم لتنقية المذهب مما اصابه عبر العصور من تراكمات طقوسية وتنقيته من عوامل الفتنة، وتحويل الماضي الى حاضر، والوهم الى حقيقة، وهو ما يلجأ اليه الضعفاء في فترات الظلم انتظارا لتحقيق العدالة، فانهم يواجهون وبعد مرور 16 عاما على وصول «المظلومين» الى السلطة، مأزقا فكريا حقيقا يضعهم بمواجهة تحول الضحية الى جلاد، وتعريض حياتهم، انفسهم، للخطر بعد التخوين والتكفير العلني، وسط اجواء ترويع لا تقل إرهابا عن المكارثية الأمريكية ضد المتهمين بالشيوعية اثناء الحرب الباردة، مع اختلاف جوهري يجمع ما بين الدراما والكوميديا في آن واحد. فبينما يعاني كل من يدعو الى التعقل وتحكيم العقل في ممارسات واستغلال أيام عاشوراء، طقوسيا وسياسيا وتحويلها الى دجاجة تبيض الذهب، من التكفير، نرى سباقا من نوع آخر، يضم ادباء وشعراء وفنانين يتزاحمون على كتابة القصائد والنصوص ورسم اللوحات «اقترابا من شعاع عاشوراء» و«للتعبير عن الحزن للمأساة التي تعرض لها الإمام الحسين (ع) وأصحابه والولاء والاستفادة من معانيها الخلاقة في الحياة ومواجهة الطغاة من السلاطين والحكام على مدى التاريخ». ولم يخل حشد الادباء المبايعين من أديب شيوعي متقدم في مركزه الحزبي، مناديا بحرقة قلب «نحن أيتامك يا حسين». يحدث هذا والحزب متحالف سياسيا، مع تيار الصدر، الذي ارتكب من الجرائم، أعدادا لا تحصى، متمتعا بالحصانة الدينية. ليزداد العبء أطنانا على المثقف والمفكر المتدين، الباحث عن الحقيقة حول الحدث التاريخي ومعانيه، وسط ركام الطقوس والتشويه والاستغلال السياسي وصمت الفاسدين، خاصة، في بلد يتعثر تحت اقدام المحتلين، بينما يلطم قادته وينشجون بالبكاء هاتفين «هيهات منا الذلة».

كاتبة من العراق

 

تاجر سلاح أمريكي

يساوي مليون عراقي

هيفاء زنكنة

 

بينما يتبادل النواب العراقيون اتهامات الفساد بأصوات عالية، إما داخل البرلمان او خارجه، في استديوهات الفضائيات العراقية والعربية، بدون ان يخشى أحدهم المساءلة، وبأساليب وصلت، أخيرا، حد اتهام أحد النواب، بتغريدات وألفاظ نابية، زميلة له بممارسة الدعارة، نجدهم، في غمرة انشغالاتهم اليومية هذه، يتلقون بصمت أسطوري، أخبارا لها انعكاسات خطيرة على سيادة وتنمية العراق، ومن المفترض ان تكون من صلب وظيفتهم، التي يتلقون رواتبهم للقيام بها.

فمن جهة، تواصل تركيا قصف مناطق حدودية بحجة مطاردة مقاتلي حزب العمال الكردستاني (البي كي كي)، ومن جهة أخرى تواصل إيران استخدام العراق كممر وسوق لبيع المخدرات وكسر الحصار الأمريكي المفروض عليها، بشتى الطرق، التي تراوح بين التدخل السياسي، ودعم المليشيات، والتفجيرات، والاغتيالات الإرهابية، في ذات الوقت الذي تتنعم فيه أمريكا والشركات الاحتكارية بالنفط بأرخص الاسعار، وسمسرة عقود السلاح، و ما يسمى بمشاريع اعادة الاعمار، بلا اعمار، منذ 16 عاما.

يأخذنا مصطلح «اعادة الاعمار» الى خبر تجاهله الساسة ومعظم أجهزة الاعلام العراقية، أخيرا، وتابعه الزميل العالم عماد خدوري، على موقعه الالكتروني. يشير الخبر الى خسارة العراق دعوى قضائية، بقيمة 140 مليون دولار، أقيمت ضده في الولايات المتحدة الأمريكية، قبل عشر سنوات. أقامت الدعوى شركة تدعى «واي اوك» للتكنولوجيا وأرملة ديل ستوفيل، وهو تاجر سلاح و«رجل أعمال» يملك مع شقيق له الشركة المذكورة، وكانت له علاقة وثيقة بأحمد الجلبي، أهم الأدوات العراقية للاحتلال الأمريكي. حصل ستوفيل على عقد، بقيمة 25 مليون دولار، من الحكومة العراقية لاعادة تأهيل عدد من الدبابات الروسية القديمة، كما كانت له علاقاته المتشابكة مع الادارة الأمريكية، ضمن مشروع اعادة اعمار العراق، الذي بلغت قيمته 125 مليار دولار، وتخلله الفساد الذي شمل كبار ضباط الجيش الأمريكي بالاضافة الى مسؤولين عراقيين. في احدى جولاته، داخل العراق، محاولا التشبه برامبو، وهو يحمل على كتفه رشاشة لا تفارقه، ويدخن سيجارا يضفي على شخصيته جانب التأمل فيما حوله، تم اغتياله، عام 2004، ولم يتم القاء القبض على قاتليه، وان اصدرت جهة أدعت انها من المجاهدين بيانا حول تنفيذها العملية. حينئذ، أصبح حاله حال آلاف العراقيين الذين تم اغتيالهم منذ الغزو الانكلو أمريكي للبلد عام 2003، من قبل «مجهولين»، وتقدر اعداد الضحايا بما يزيد على المليون شخص.

كان من أولى خطوات مجلس الحكم الانتقالي، إثر الاحتلال، تصريح عبد العزيز الحكيم، رئيس المجلس حينئذ، عام 2003، بأنه يجب على العراق دفع تعويضات الحرب لإيران البالغة قيمتها 100 مليار دولار عن خسائرها وضحايا الحرب العراقية الإيرانية

قبل إطلاق النار عليه، بعد خروجه من معسكر التاجي، شمال بغداد، وهو أحد أربع معسكرات منح رئيس الوزراء السابق نوري المالكي عقود خدماتها الكلية، عبر شركة يديرها وزوج ابنته باسم «آفاق»، الى شركة يديرها جنرال أمريكي متقاعد يدعى فرانك هلمك، كان ستوفيل قد تعاون مع لجنة التحقيق الفيدرالية، في أموال وعقود اعادة الاعمار، مقابل منحه الحصانة ضد المساءلة القانونية. فرسم ستوفيل للجنة، صورة تليق برواية ابطالها من المافيا، كما ذكر الصحافي الاستقصائي جيمس غلانز، في صحيفة « نيويورك تايمز»، في 15 شباط/فبراير 2009. تحدث ستوفيل بالتفصيل عن مئات الآلاف من الدولارات المحشوة بصناديق البيتزا، يتم تسليمها خلسة إلى مكاتب المقاولات الأمريكية في بغداد، وعشرات الالاف من الدولارات الموضوعة في أكياس ورقية التي يتم تسليمها كمكافآت الى مسؤولين في مناطق مختلفة من المنطقة الخضراء، حيث المركز الرئيسي للادارة الأمريكية بالعراق. وقام ستوفيل بتسليم اللجنة وثائق وملفات عن قادة أمريكيين كبار مسؤولين في مشروع اعادة الاعمار الأمريكي بالاضافة الى العراقيين، فتم اغتياله بعد شهر من ذلك، وتحولت القضية، تدريجيا، الى مطالبة الحكومة العراقية بالتعويضات التي تشمل ثمن عقد الدبابات الروسية والمحاماة وخسارة الشركة والقضاء على مدى عشر سنوات.

مما يضعنا امام مهزلة لا تضاهيها غير مهزلة انحطاط المهاترات والاتهامات الشخصية بين المسؤولين والنواب الى مستوى يمكن تسميته بـ«سياسة المجاري»، وانعكاس ذلك على الحكومة الحالية، وما تثيره أخبار على غرار فوز شركة وعائلة ستوفيل بالتعويضات من تساؤلات حول وجود حكومة اساسا بالمقارنة مع بقية الحكومات بالعالم، على اختلاف مستواها السيادي والتمثيلي للشعب. فاذا كان حال ستوفيل كضحية مماثلا لبقية الضحايا من العراقيين، على مدى 16 عاما الاخيرة، فان المطالبة بالتعويض عن مقتله بالاضافة الى قيمة العقد الذي لم تستوفه الشركة، وتحميل الحكومة العراقية المسؤولية، وقبول الحكومة المسؤولية وابعاد الشبهة عن الجنرالات وتجار الحروب الأمريكيين، يشكل اهانة لا تغتفر بحق الضحايا العراقيين الذين لم يحدث وطالبت الحكومة بحق، ولو مواطنا واحدا منهم، اغتالته قوات الاحتلال على الرغم من توفر الوثائق والشهود. وهذا ما شاهدناه في ملهاة دفع التعويضات الى كل فرد وشركة ومبنى تقدم بطلب التعويضات من العراق جراء احتلال الكويت. ولا تزال قائمة المطالبات مفتوحة على الرغم من مرور عقود عليها، و«تحرير» البلد من النظام الذي كان مسؤولا عنه، ودفع العراق مبلغ 52.4 مليار دولار حسب قرار الأمم المتحدة. وعلى نفس الخطى، كان من أولى خطوات مجلس الحكم الانتقالي، إثر الاحتلال، تصريح عبد العزيز الحكيم، رئيس المجلس حينئذ، في 2003، بأنه يجب على العراق دفع تعويضات الحرب لإيران البالغة قيمتها 100 مليار دولار عن خسائرها وضحايا الحرب العراقية الإيرانية. ولم يتوقف عبد العزيز الحكيم، وان كان هذا مفهوما باعتباره رئيس المجلس الاسلامي الاعلى المشكل بإيران، لحظة ليتساءل عمن سيدفع التعويضات للضحايا العراقيين، مؤسسا بذلك عقيدة، يستمرئ النظام الحالي ممارستها، وهي الاستهانة بحياة المواطن العراقي واحساسهم الداخلي بالدونية تجاه الآخرين. وهي السيرورة التي أدت الى تجاهل حياة مليون مواطن عراقي من قبل حكومته المنتخبة، افتراضا، مقابل دفع التعويضات لتاجر سلاح ومرتزق، ميزته ان حكومته لم تتخل عنه، مهما كانت الاسباب.

كاتبة من العراق

 

 

العراق: في بيتنا شخص مفقود

هيفاء زنكنة

 

في لقاء صحافي مع راديو «البي بي سي»، صباح الاول من ايلول/ سبتمبر، بمناسبة مرور 80 عاما على احتلال ألمانيا النازية لبولندا وإشعال فتيل الحرب العالمية الثانية، أكد السفير البولندي بلندن، على ضرورة مواصلة بلده المطالبة بتعويض ضحايا الغزو، عام 1939. ويشمل مصطلح الضحايا القتلى، والمختطفين، ومن اقتيدوا الى معسكرات العمل الاجباري، والمهجرين قسرا، وكل من اختفى ولم يسمع منه ذووه أو لم يعثر على جثته. يلخص هذا الموقف مفهوم العدالة والمثابرة على المطالبة به. فللضحايا وذويهم حقوق لا تسقط بمرور الزمن ومن واجب حكوماتهم المطالبة بها والعمل على تحقيقها.

في ظل الاحتفال بذكرى نشوب الحرب العالمية، وتعهد الدول العظمى على ألا تتكرر للمرة الثالثة، والعمل على تحقيق العدالة كشرط اساسي للاستقرار الأمني والسلام العام، مرت، خلال الاسبوع الماضي ذكرى يوم من نوع آخر. يوم التذكير بنكبة المفقودين. وهي ظاهرة تتميز بها، بشكل خاص، دول الشرق الأوسط (حيث يدور 40 بالمئة من الحروب والنزاعات بالعالم) وأفريقيا وأمريكا اللاتينية. بهذه المناسبة رشح تقريران صادران عن منظمتين دوليتين هما «الصليب الاحمر الدولي» و«هيومان رايتس ووتش»، العراق باعتباره البلد الذي يضم أعلى رقم من المفقودين بالعالم، ففي كل بيت هناك شخص مفقود، جراء عقود من الحروب والصراعات.

وحسب تقرير منظمة « هيومان رايتس ووتش»، تقدر «اللجنة الدولية لشؤون المفقودين»، التي تعمل بالشراكة مع الحكومة العراقية لتحديد المفقودين وإعادتهم، أن عدد المفقودين في العراق يتراوح بين 250 ألف شخص ومليون شخص. منذ 2014، أخفى الجيش العراقي والقوى الأمنية العراقية قسرا رجالا عربا سُنة في إطار عمليات مكافحة الإرهاب بالإضافة إلى حالات أخرى. تقع مسؤولية الاختفاءات القسرية على عاتق مجموعة من عناصر الجيش والقوى الأمنية، حيث أن العديد منها حصل عند نقاط التفتيش أو في منازل المخفيين. لم تقدم السلطات العراقية أي معلومات حولهم بالرغم من طلب أُسرهم. كما لم تستجب السلطات لطلبات هيومن رايتس ووتش حول القنوات المتاحة للأسر للبحث عن أقاربهم. كما أوقف البرلمان مبادرتين لإصدار قانون جديد يحظر الاختفاء القسري كجريمة بعينها في 2015، ومرة ​​أخرى في 2017.

واذا كانت تنظيم «الدولة الاسلامية» قد ارتكب عديد الجرائم ضد المدنيين والتي تم تصنيفها، دوليا، كجرائم ضد الانسانية، فان الحكومة العراقية، تمارس ومنذ انتهاء القتال ضد التنظيم، اشكالا ومستويات متعددة من العقاب الجماعي لأُسر المشتبه بانتمائهم إلى التنظيم. حيث تتسع مظلة الاتهامات والاعتقالات والاعدامات، حسب اهواء ورغبات الانتقام الفردية والمسيسة للميليشيات والأحزاب، في غياب النظام القضائي النزيه، وهي حقيقة لم تعد بحاجة الى النقاش.

اذ يتم منع «عائلات عراقية يُتصور بأن لها صلات مع داعش، بسبب الاسم أو الانتماء القبلي أو الجغرافي، من الحصول على التصريحات الأمنية المطلوبة للحصول على بطاقات هوية ووثائق رسمية أخرى».

في العراق، يُمارس التعذيب على أوسع نطاق، ويطبّق فيه حكم الاعدام على الشبهات بعد محاكماتٍ سريعة غير عادلة، ويوضع مئات الآلاف من الأبرياء في السجون

ينعكس هذا العقاب الجماعي على حرية الحركة، والحق بالتعلم، والعمل، بالإضافة إلى الحق بالاستفادة من استحقاقات الرعاية الاجتماعية والحصول على وثائق الميلاد والوفاة الضرورية للإرث والزواج. مما يعني انهم، يعيشون في سجن يفتقرون فيه حتى الى الحقوق التي تكفلها القوانين للسجناء والمعتقلين.

وحين يصرح المسؤولون الحكوميون بان على العوائل التقدم بالشكوى واقامة الدعاوى القضائية لنيل حقوقهم، تثبت التقارير الحقوقية الموثقة استحالة ذلك، اذ يمنع « الحرمان من التصريحات الأمنية هذه العائلات من تقديم شكاوى للجان الحكومية لتعويض المتأثرين بالإرهاب والعمليات الحربية والأخطاء العسكرية، وتقديم دعاوى قضائية أو الاعتراض على مصادرة أراضيهم من قبل القوى الأمنية العراقية أو عائلات محلية أخرى»، ويصل العقاب حد الحرمان، في بعض الأحيان، من الحصول على المساعدات الإنسانية.

واذا كانت المرأة هي حاملة العبء الاكبر، عند فقدان الزوج وتغييبه، في رعاية العائلة من الابناء الى ذويها وذوي الزوج، فان تعرضها وهي تبحث عن المفقود من افراد عائلتها، عند غياب شخص آخر يقوم بذلك، قد اكتسب بعدا جديدا، منذ الغزو عام 2003، وتبدت ملامحه بشكل، يكاد يكون مألوفا ومقبولا رسميا، أثر اعلان الانتصار على تنظيم «الدولة الاسلامية». حيث باتت المرأة المحتاجة الى المساعدة أو المراجعة الرسمية، مهما كانت درجتها، مستباحة الجسد والكرامة لكل من يرى في نفسه ذرة سلطة. وتتدرج الاستباحة من التعنيف اللفظي الى الابتزاز الجسدي. من المؤسسات التي تسيطر عليها الميليشيات «المسيسة» الى حراس وقوات أمن المعتقلات والسجون، صارت المرأة غنيمة حرب وجسدا يتم من خلال امتهانه تحقيق الانتقام ضد «الآخر». فما نفذه تنظيم « الدولة الاسلامية» ضد المرأة الإيزيدية، لأنها تشكل «الآخر» المنبوذ الذي يستحق الاهانة عبر استباحة الجسد والهيمنة، يستمر ارتكابه، اليوم، ضد نساء المفقودين والمعتقلين والمتهمين بتهمة «الداعشية» الجاهزة، خاصة في «المدن المحررة»، مع فارق غالبا ما يتم تجاهله، وهو ان الفعل الاجرامي الذي نفذه تنظيم «الدولة الاسلامية»، اجمع العالم، كله، على ادانته ومحاربته وقصف مرتكبيه حتى الموت، ووضع أطفاله ونسائه في معسكرات يعاملون فيها كالحيوانات، بالاضافة الى تعويض ضحاياه، أما ضحايا الميليشيات والإرهاب الحكومي المباشر وغير المباشر، فانه يحدث داخل جدران كونكريتية من الصمت والانتقام المنهجي.

لكسر دائرة العنف والانتقام المهدد بالقضاء على العراق ككل، هناك أصوات حقوقية تطرح حلولا، يرون انها ستفتح كوة أمل لأهالي المفقودين والمعتقلين، وقد يتحقق من خلالها، اذا ما طبقت بنية صادقة، ما يساعد على استعادة اللحمة المجتمعية التي أصابتها عثة الطائفية والانتقام والفساد بالتآكل. أحد الحلول المطروحة، ما قدمه مركز جنيف الدولي للعدالة، في الدورة 41 لمجلس الأمم المتحدة لحقوق الانسان ( 24 حزيران/يونيو 2019 )، في كلمة نبه فيها الى حجم وعمق انتهاكات حقوق الانسان، بالعراق، في ظل دولة « يُمارس فيها التعذيب على أوسع نطاق، ويطبّق فيها حكم الاعدام على الشبهات بعد محاكماتٍ سريعة غير عادلة، ويوضع مئات الآلاف من الأبرياء في السجون والمعتقلات لسنوات طويلة دون محاكمة. دولة التي يصل فيها الفساد الى بيع المناصب الوزارية، ومناصب المحافظين، ووكلاء الوزارات، والمدراء العامّين بلّ كل الوظائف العامة… دولة يُشرّع برلمانها قوانين للتمييز بين المواطنين في الرواتب والتقاعد والخدمات على أسس طائفية وسياسية». لهذه الاسباب، طالب المركز مجلس حقوق الانسان بدراسة حالة حقوق الإنسان في العراق، بشكل مفصل، وتعيين مقرّر خاص لها من قبل المجلس. قد لا تكون هذه الخطوة، حلا جذريا لكارثة المفقودين والمعتقلين وانقاذا لحياة القابعين في غياهب السجون بانتظار تنفيذ احكام الاعدام، الا انها خطوة قد تكسر حاجز الصمت المسربل للكارثة وتوثيقا لمحاسبة المسؤولين. قد لا يتشابه مصير العراق والمنطقة مع المصير الاوربي، حيث يستمر توثيق الجرائم وتحصيل التعويضات بعد 80 عاماً من حدوثها في ثلاثينيات القرن الماضي، لكن مبدأ العدالة واحد مهما اختلفت طرق تحقيقه.

كاتبة من العراق

 

 

قصف الكيان الصهيوني

للعراق ليس وجهة نظر

هيفاء زنكنة

 

الكيان الصهيوني يقصف مواقع منتقاة في العراق. ما كان سيشكل جريمة شخصية ووطنية لا تغتفر ضد كل مواطن عراقي، أيامنا، بات اليوم «وجهة نظر»، كما كان الاحتلال لديهم أنفسهم، تناقش على منصة مرفوعة خارج البرلمان للاستهلاك السريع وامتصاص الغضب، بتصريحات سياسية منمقة، سرعان ما تم وضعها في خانات التقسيم الطائفي والعرقي الجاهزة. فهل تجذرت هذه التقسيمات وأصبحت أعمق مما نظن فعلا؟ للتوضيح، لنأخذ نموذجا مصغرا.

من الشائع، على صفحات التواصل الاجتماعي، تبادل التهاني بالأعياد ومناسبات نجاح الابناء، والاحتفاء بما يحققه الاصدقاء وابناء الوطن الواحد عموما. فما ان تفوز فتاة بشهادة رياضيات، مثلا، في بلد أوروبي، أو ان ينجز شاب ورقة بحث، حتى نسارع الى تهنئة بعضنا البعض بالفوز. وهذا أمر طبيعي في مواقع كانت مهمتها، في البداية، تشجيع التواصل ومشاركة الافراح والاتراح. الا ان صيغة التعامل تغيرت حتى فيما يتعلق بتحقيق الانجازات الفردية. اذ برزت، في الآونة الاخيرة، ظاهرة جديدة، بين المتواصلين العرب والعراقيين خاصة. وهي ظاهرة خطيرة، في زمن تقسيم البلدان وتفتيت الهوية، وان بدت بريئة الغاية. إذ لم يعد ناشرو أخبار النجاح والتفوق، حتى لو كان الانجاز تفوقا مدرسيا في مرحلة الطفولة (الابتدائية والمتوسطة)، يكتفون بذكر اسم الشخص ونشر صورته ودرجة نجاحه، بل وإضافة قوميته ودينه ومن ثم الاسترسال في تفصيل مدى تعرض طائفته ومنطقته للعنف. وكيف أنه حقق النجاح على الرغم من ذلك كله. وغالبا، ما يلي نشر الخبر السعيد، بهذه الصيغة، تعليقات تزيد من جرعة التمييز الديني والقومي والطائفي، بلغة يُستدل منها ما هو أبعد من التهنئة بالنجاح. فهل يعكس هذا درجة تغلغل العنصرية الطائفية/ الدينية/ العرقية، في النفوس؟ والى أي حد ستؤثر هذه اللغة وصياغتها في تكوين الهوية الفردية للطفل أو الشاب، صاحب الانجاز، وانعكاسها على الهوية الجماعية للمجتمع، مستقبلا؟

هناك عدة مستويات لقراءة هذه الظاهرة. فالاحتفاء بالنجاح المدرسي حدث مجتمعي تقليدي يعتز به الأهل والاصدقاء يصل الى حد اقامة الحفلات واستقبال المهنئين ومنح الناجح الهدايا. فنشر اسم الناجح ـ المتفوق وصورته، يحملان في داخلهما، مسبقا، النجاح في التواصل مع الآخرين والاستجابة التلقائية، بلا حواجز، للصورة والحدث.

فالقارئ مهيأ، بحكم الموروث المجتمعي، للتعاطف، فهو يعرف جيدا معنى الاحتفاء بالنجاح وبوده المشاركة بفرحة الاهل والاصدقاء. تجعل، هذه الخلفية، من السهل جدا على من يرغب بتمرير رسالة معينة القيام ذلك. وهنا يأتي دور اللغة. ولا أعني تعدد اللغات بين قوميات مختلفة في البلد الواحد، حيث احتمال سوء الفهم موجود، بل استخدام اللغة الواحدة، ولكن بالتمايز في المفردات للدلالة على ذات الحدث. وهنا تكمن خطورة تناقل الاخبار وفق هيكلة لغوية جاهزة، بدون التمعن بدلالة المفردات، وامكانية تسخيرها للتشظي، حتى حين تستخدم لنقل خبر بسيط، هدفه الظاهر والمعلن تجميع الناس. فما هي ضرورة الاشارة الى ان المتفوق في امتحانات الاعدادية هو يزيدي أو كردي أو تركماني، ثم التشعب نحو المذهب بطريقة من الطرق، مع ملاحظة عدم استخدام مفردة «العراقي»؟ قارنوا ذلك بنشر صورة طالبة فلسطينية وقد كتب تحتها «الطالبة الفلسطينية شروق دويات، حكمت 16 سنة في سجن اسرائيلي». فلسطين، هنا، هي الهوية.

ما هي ضرورة الاشارة الى ان المتفوق في امتحانات الاعدادية هو يزيدي أو كردي أو تركماني، ثم التشعب نحو المذهب بطريقة من الطرق، مع ملاحظة عدم استخدام مفردة «العراقي»؟

اليس الأجدى نشر صورة المتفوق واسمه واسم مدرسته، ومدح وتكريم مدرسيه؟

طالما استخدم السياسيون اللغة كسلاح للدعاية والتحريض والتسويغ سواء اثناء الحملات الانتخابية أو أثناء الحروب. وهم الأكثر حرفية ومهارة في الاستخدام الممنهج للغة الاقناع وتمرير المعلومات ذات الاجندة المدروسة «فاللغة السياسية مصممة لتبدو الاكاذيب حقيقة والجريمة محترمة، وما هو هوائي صلب، وينطبق هذا على كل الاحزاب السياسية من المحافظة الى الفوضوية» حسب الكاتب الانكليزي جورج اورويل.

الأمر الذي يضع على كاهل المواطن العادي مسؤولية كيفية تلقي المعلومات واستيعابها، والاكثر من ذلك، مسؤولا عن تدويرها، في عصر شبكات التواصل الاجتماعي المشجعة على التدوير بدون تمحيص أو تدقيق للمعلومات، خاصة عند وجود صورة تستقطب الاهتمام أكثر من اللغة المصاحبة لها.

يساهم التدوير السريع، لأخبار بلغة ذات دلالة معينة، الى تصنيع هوية معينة، تتدرج باستخدام مفردات دالة ثقافيا، بالإمكان تشبيهها بلغة الازياء أو اللحى، وان كانت اللغة أعمق بكثير.

فالمسلم المتدين، مثلا، يكتب عند وفاة شخص ما «الله يرحمه»، أما غير المتدين/ العلماني فيقول «لروحه السلام». ويلاحظ، في اوقات النزاع والصراع الاهلي، أو تسنم فئة معينة للسلطة، تغييرا في المفردات ذات العلاقة بالهوية، لتصبح مفردات وطريقة نطق الجهة الأقوى هي السائدة. بالإضافة الى نمو الفجوة الدلالية الواضحة – الانقسام في معنى الكلمات، مما يؤدي، تدريجيا، الى تفتيت الهوية الموجودة.

قد يكون تقديم صورة المتفوق مصحوبة بتحديد القومية أو الدين أو المذهب، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، عبر رموز تٌصنع هوية – هويات بديلة، تطبيقا لما يعرف بسياسات الهوية، والذي نراه بأوضح صوره في منظمات المجتمع المدني، حيث يتم تحديد الهوية التي يستند عليها عمل المنظمة، حسب العرق أو الدين أو الجنس أو الإثنية أو الأيديولوجية…الخ. ويكمن الخطر الأكبر في الأجندات السياسية المرافقة لتصنيع الهويات، بعيدا عن المحيط الاجتماعي ـ الثقافي، والمؤدية الى تقسيم البلد وتخريب المشترك التاريخي الحضاري وفق « المظلومية» الدينية أو المذهبية أو العرقية.

وتكتسب اللغة خصوصية فارقة عندما ترتبط بايديولوجيا حزب أو تيار سياسي. والامثلة كثيرة في معاناة العراق والمنطقة، خلال حوالي اربعة اجيال، من تيارات ايديولوجية مزقت النسيج الاجتماعي الغني بخلطته التاريخية المتبدية في تركيبة كل عائلة على الإطلاق. فالتيارات القومية العربية، مثلاً، تاجرت بمفاهيم عنصرية واصول قبلية نقية تقصي ولا تجمع، تحت شعارات الوحدة، وجاءت التيارات الإسلامية بالتقسيم الطائفي الاكثر خطورة، بالتكفير المتبادل، وباستدعاء المقدسات المزعومة وغير المزعومة، وفقدت التيارات العلمانية اليسارية، ومنها الحزب الشيوعي مثلا، بعد عقود من تمثيلها الصراع الوطني ضد الاستعمار مع النضال لتحقيق العدالة الاجتماعية والمواطنة البعيدة عن العنصرية والمذهبية، هذا التميز نتيجة فقدانها التدريجي للاستقلالية.

ليست هناك براءة في اللغة. فكل مفردة محملة بالمعاني، وتعتمد على كيفية استخدامها، لا لفهم الماضي والحاضر ولكن، وهذا هو الاخطر، في حال البلدان المهددة بالتقسيم المجتمعي، في تصنيع الذاكرة لمن سيحل محلنا مستقبلا. وقد يكون الطفل المحتفى بنجاحه هو حامل ذاكرة ما يوصف به حاليا من انتماء طائفي او عرقي، ليواصل حمل هوية فرعية مصنعة تنأى به عن الآخرين وان شاركهم بقعة الارض ذاتها. وهنا تكمن مسؤوليتنا، جميعا، في الانتباه الى ما تحمله اللغة من رسائل، وتجنب تدويرها المباشر، لأنها قادرة على تدوير ما هو أكثر من التهنئة البريئة. وقد تكون هذه خطوة بسيطة جدا لاستيعاب «وجهة النظر» حول نجاح الكيان الصهيوني في قصفنا.

كاتبة من العراق

 

 

كيف تنجح في اخضاع بلد كالعراق؟

هيفاء زنكنة

 

من يتابع تصريحات الساسة واجراءات رجال الأمن والشرطة، بالعراق، التي ينثرونها على المواطنين، بين الحين والآخر، حول نوعية الملابس التي يجب على الرجال والنساء ارتداؤها، أو تصنيف المدن كمقدسة أو غير مقدسة وتسميتها وفق ذلك، وعما اذا كان وجود عازفة كمان، في احتفال رسمي، لافتتاح بطولة لكرة القدم، مخل بالآداب العامة وقدسية المكان أم لا، سيظن، حتما، ان البلاد بألف خير اقتصاديا وسياسيا وحضاريا، ولم يبق فيها ما يستحق المتابعة والاصلاح غير هذه الامور. فهم يعملون بجد على اقناع الآخرين، وربما أنفسهم، ان البنـــية التحتــــية للبـــلد، التي ساهموا بتخريبها، عن طريق التعاون مع المحـــتل ومأسسة الفساد، قد أعادوا اصلاحها، كما يرون في الطائفـــية التي ساهموا بغرزها في الجسد العراقي، إلى حد تغيــير شكل الوجه والمظهر واسماء الافراد والاماكن واضفاء «القدسية» على هذا المكان أو «العصــمة» على ذاك الشخص، حلا مثاليا لنقاء وطني ما كان بالامكان تحقيقه لولا وجودهم.

أما التهجير القسري وفق انتقائية الدين والمذهب والقومية، فيرونه، في قرارة أنفسهم، الحل الافضل للنقاء الطائفي الذي لا يقل ابتذالا ووحشية عن النقاء العنصري. واذا ما اتفقنا، افتراضا، مع القائلين بأن التمييز الطائفي والعرقي كان موجودا بالعراق، قبل الاحتلال، وربما، كما يقترح البعض، قبل مئات السنين، فان من المستحيل، لأي مواطن أو راصد للاوضاع، مهما كانت درجة معارضته للنظام السابق، انكار دور النظام الحالي في ايصال البلد المنهك، جراء الحروب والحصار، إلى هوة تهدد الكل بالابتلاع. إذ بات عراق، اليوم، بفضلهم، لايذكر الا بصيغة «الافعل» انحدارا.

فهو الاسوأ في قائمة الفساد العالمية، وهو الاقل أمانا للصحافيين، وهو الاكثر انتهاكا لحقوق الانسان، والادنى بمستوى التعليم والصحة، والاقل سيادة اذ تحتله قوات عدة دول في آن واحد وتقصـــفه دول اخرى، والاكثر تنفيذا لاحكام الاعدام، وسجـــونه ومعتقلاته الاكثر اكتظاظا، وليس هناك ما هو أكـــثر انتشـــارا من التعذيب فيه غير بسملة الساسة وقادة الميليشيات المسلحة، المدعومة داخليا من المرجعية الدينية وخارجيا من دول اقليمية أهمها إيران. وهي توليفة تجعل من رئيس الوزراء و «القائد العام للقوات المسلحة»، مجرد إطار لصورة تتحكم بها الميليشيات، لأنها الاقوى والأكثر هيمنة على الشارع والمؤسسات من قوات الجيش والشرطة والأمن معا. وهذه حقيقة، لم تعد مطروحة للنقاش.

ان انتشار شبكات بيع الاعضاء البشرية واستخدام الاطفال والنساء للتسول والدعارة بالاضافة إلى تحول العراق من بلد خال من المخدرات إلى أكبر ممر تهريب من ايران، يوازي ان لم يفوق تخريب البنية التحتية

لهذا، تلجأ أحزاب الحكومة، بين الفينة والفينة، إلى مناورات لتلهي الناس، وتستقطب الاهتمام الاعلامي. هدفها تغطية عجزها عن النظر في التدهور الكارثي، للبلد ككل، وتعاميها عن ايجاد حلول جذرية . وبما ان المستوى العقلي لأصحاب السلطة محدود ويقتصر على اختلاق الحيل وابتكار طرق للاستزادة من الفساد، سرعان ما تنقلب مناوراتهم لاشغال الناس ضدهم. كما في الضجة الكبيرة التي أثيرت حول ظهور عازفة كمان في حفل افتتاح بطولة كرة القدم، بمدينة كربلاء، التي بات اسمها، منذ الاحتلال، «كربلاء المقدسة». لم تكن المرأة عارية او كاشفة عن مفاتنها، ولم ترقص بمجون أو تغني بصوت شبق، كما الاتهامات الجاهزة، بل كل ما فعلته هو انها عزفت النشيد الوطني. فقامت الدنيا ولم تقعد. وطفت على السطح تعريفات عن القدسية والفضيلة وحرمة الاماكن والاخلاق، بينما يدفن ذات المعترضين، في اعمق الاعماق، استثماراتهم في شبكات تمتهن استغلال الأطفال في التسول، وتجارة الأعضاء البشرية، واستدراج النساء للعمل ضمن شبكات الدعارة.

وكأن التهجم على الموسيقى ليس كافيا، انشغلت شرطة مدينة كركوك، الواقعة شمال بغداد، بملاحقة مرتدي الشورت أو البرمودا، وهو سروال قصير يصل طوله حد الركبة، والذي يميل الشباب، خاصة، إلى ارتدائه، كبقية البشر، في ارجاء الكرة الارضية، عند ارتفاع درجات الحرارة صيفا، والتي تصل بالعراق إلى حد تذويب الاسفلت في الشوارع، وشي البيض عليه. قسوة الطبيعة هذه المتزامنة مع انقطاع التيار الكهربائي وانعدام الماء الصالح للشرب، في الجنوب ، خاصة، لم يمنعا المتحدث باسم وزارة الداخلية من التهديد بان: «إن ارتداء الشورت أو البرمودا ممنوع… وكل من يخالف سوف يحاسب». فكانت رد فعل الناس، شن حملة ساخرة على مواقع التواصل الاجتماعي مع التذكير بـ «فتاوى» ممنوعات ومحرمات تنظيم «داعش»، الذي اجتمعت 56 دولة على محاربته في العراق، بينما يحظى النظام الحالي بدعم ذات الدول، بدون الاشارة إلى أي من ممارساته «الداعشية».

واذ تواصل شرطة كركوك «محاربة الشورت»، واعتقال مرتديه، تعيش المحافظة روتين الجرائم اليومية من سرقات وابتزاز، وتهديد بلا انقطاع، في المدينة المتنازع عليها بسبب نفطها والمتنازع فيها، في الحقيقة، بسبب نفطها أيضا ولكن بعد تعبئته بحاويات القومية الملونة. كما يواصل المجرمون ارتكاب جرائمهم، بلا مساءلة وفي أجواء آمنة، بحماية أحزاب وميليشيات تستفيد، بنسب سمسرة مذهلة. من بين الجرائم التي تم توثيقها هي الاتجار بالاعضاء البشرية. حيث وثَّق المرصد العراقي لضحايا الاتجار بالبشر وجود وجود 27 شبكة اتجار بالبشر، يتخذ معظمها من إقليم كردستان ملاذاً آمناً، من بينها ثلاث شبكات تستغل مجموعات من الأطفال والنساء، للتسول في أزقة محافظة كركوك وشوارعها.

ان انتشار شبكات بيع الاعضاء البشرية واستخدام الاطفال والنساء للتسول والدعارة بالاضافة إلى تحول العراق من بلد خال من المخدرات إلى أكبر ممر تهريب من ايران، يوازي ان لم يفوق تخريب البنية التحتية التي نفذها المحتل الامريكي كاستراتيجية للحصول على عقود «اعادة الاعمار». وهو يمثل قفزة نوعية في كيفية تحويل العراق من دولة إلى «سوق حرة» للمتاجرة بالانسان جسدا وعقلا. اذ أكتشف المحتل و«خدم المنازل» ان العراق لم يرضخ قصفا واعتقالا وتفجيرا، فوجد في نشر هذه الشبكات امكانية تحقيق التخريب الداخلي من جهة والتظاهر بالانفتاح والاستقرار من جهة أخرى. ولأن كل ما تم تنفيذه من أساليب اخضاع عموم الناس لم تنجح حتى الآن (وان تركت جروحا)، والدليل تجدد استنباط اساليب القهر والاخضاع.

أن الخزين التاريخي الحضاري للبلد أعمق بكثير ولن ينضب حتى بهجرة وتشرد الملايين منذ الاحتلال، وقبله في سنين الحروب والإنقلابات. لكنها مسألة زمن، وأننا سنشهد عاجلا ام آجلاً ما الذي سيفرزه جهاز المناعة العراقي في مقاومته فـ «الجلادون من ورق مقوى»، كما يذكرنا، اذا نسينا، الشاعر الجزائري الفرنسي الراحل جان سيناك.

٭ كاتبة من العراق

 

 

العدالة والملح في دفاتر تونسيات

هيفاء زنكنة

 

لمركز «العدالة الانتقالية الدولي» نشاطات في ست دول عربية، هي: الجزائر ولبنان وتونس والمغرب ومصر وفلسطين. كما قام المركز ببعض النشاط في العراق إثر الاحتلال لفترة لم تطل، إذ بات تطبيق مبادئ العدالة الانتقالية، في ظل الاحتلال والحكومات المتعاقبة، أمراً مستحيلاً. خلافاً لذلك، شهدت تونس استمرارية نشاط المركز، بمستويات متعددة منذ الثورة عام 2011. نشاط تبدى بدعم عمل «هيئة الحقيقة والكرامة»، ومكافحة الفساد، وتعويض ضحايا الاستبداد.

وكان للمرأة حصة. مثال ذلك، مشروع «أصوات الذاكرة» الذي ضم أربعة أوجه، من بينها إقامة ورشة للكتابة الإبداعية، كانت حصيلتها إصدار كتاب «دفاتر الملح: كتابات تونسيات عن تجربة السجن السياسي». بواسطته، تمكنت المشاركات من تسليط الضوء» على كيفية تأثر الحياة العادية لمواطنة ما، بقسوة، عندما يكون أحد أفراد عائلتها هدفاً للقمع أو لأنها تجرّأت هي نفسها على الاختلاف»، حسب سلوى القنطري، مديرة المكتب بتونس، التي شخصت تحديا «لا يزال يشهده التحول الديمقراطي بتونس، وهو الانقسام الإسلامي العلماني» الذي يحدد الهوية بشكل صارم قائم على الأيديولوجية، ما يؤدي في النهاية إلى إنكار أيّ تعاطف أو تضامن محتملين مع «المختلف»، حسب تعبيرها.

عالجت الورشة تساؤلات كثيرة على غرار: هل بالإمكان الكتابة عن وجع الروح بشكل لا يحبط القارئ ويدفعه إلى وضع الكتاب جانباً؟ كيف نكتب تجربتنا إذن؟ كيف يمكن سرد الأحداث المستخلصة من الذاكرة، وغربلة الحقيقة، وتوثيق التجربة المريرة التي أرادتها السلطات القمعيّة عقابا لكلّ من يعارضها، على مدى عقود طويلة، والتواصل مع القارئ في الوقت نفسه؟ كيف الوصول إلى مستوى «الكتابة عن الضجر بدون أن نصيب القارئ بالضجر»، كما ينصح أحد النقاد؟ ولماذا تريد المشاركات الكتابة بهذا الشكل، أساساً، وقد قام معظمهن بتقديم شهاداتهن، رسمياً، سابقاً؟

كان من الواضح أنّهنّ يرغبن في الكتابة لعدّة أسباب، من بينها وبكلماتهن: توثيق التجربة من أجل حفظ الذاكرة الجماعيّة، والتوثيق للأجيال المقبلة، ونكتب لأولادنا، والتعريف بما حدث لنا وبتاريخنا، لإبراز ما جرى لآلاف السجناء من القفّة إلى المراقبة الإداريّة، ووفاء للضحايا ولاستمراريّة النضال بشكل جديد لإظهارالحقيقة، ولنتصالح مع أنفسنا والآخرين ضمن مسار العدالة الانتقالية، لئلا تتكرّر الجرائم، ولئلا يتكرّر التعذيب، ولتحقيق المصالحة والتواصل وقبول الآخر.. هذه الأسباب دفعت المشاركات إلى المواظبة على الكتابة وهن يتوخين تحقيق هدف الورشة العام الذي يطمح إلى تشجيع كل النساء على كتابة قصصهنّ بأنفسهنّ، ولا يُكتفى بما يكُتب عنهن بالنيابة. وأن تكون الكتابة مختلفة عن التدوين السائد لأغراض التوثيق وتسجيل الشهادات التي تستوجب دقة المعلومة لا المشاعر والمعاني. وأن يكتبن قصصهنّ بشكل إبداعيّ، وظلالها وعمقها الإنسانيّ التي غالباً ما يهملها كُتاب التاريخ، باعتبارها تفاصيل جانبية لا تستحقّ التسجيل. فلكلّ مشاركة قصّتها الاستثنائية، وكلّ ما تحتاجه هو تنمية التقنية الفنيّة الضروريّة لتدوين القصّة.

في بلادنا ذاكرة مليئة بالتفاصيل الموجعة تريد أن تُخرج إلى عامّة الناس ما اختزنته من لحظات كانت تبدو عابرة، لكنّها اندست عميقاً في التواريخ الفرديّة والنفوس المعذّبة

الملاحظ في الكتاب، حصيلة الورشة، أن كاتبات النصوص لسن جميعاً من المعتقلات السياسيات، بل شاركتهن الكتابة نساء عشن تجربة اعتقال أحد أفراد عائلتهن، وهن في سن تقل عن العشر سنوات، ما حفر في ذاكرتهن صوراً يختلط فيها الخوف مع الأسى والرغبة بالتغيير في آن واحد. نهى الديماسي، مثلاً، شهدت اعتقال والدتها واقتيادها بعيداً عنها وهي في سن الثالثة. وميلان حامي شهدت مأتم جدها بعد اعتقال والدها بحضور رجال الأمن: «كان من بين الحضور أناس لا يبكون. كانوا الوحيدين الذين يشبهونني. وقتها أحسست تجاههم بالاطمئنان. روعني نحيب من حولي، فخلت أنّ الصامتين سيكونون ملجأً لي. عرفت فيما بعد أنّهم من الأمن وأنّ المفرّ الذي اخترته كان نفسه يدعو إلى الفرار».

وسلافة مبروك استمعت إلى كلام والدها عن الأعين والآذان التي تراقبهم وتسمع كلامهم، بعد اعتقال شقيقها، فـ «تخيّلت جدران الغرف وقد التصقت الآذان بها، وعيون كبيرة وكثيرة فوق أشجار الزيتون تسترق السمع إلى حديثنا، أما أذنا الحارس وعيناه فأكبر بكثير. تخيلت أنّه بالإمكان أن يمدّها فتصل وراء بيتنا، ولا بدّ أنّه سيسمع كلام أمي وأبي عن بورقيبة الذي نهرانا عن ذكره. أحسست بالحيرة والخوف… فكيف لبيتنا الريفي الواقع وسط غابة الزيتون أن تصل إليه وتراقبه كل هذه العيون والآذان؟»

عن هذه التفاصيل والذاكرة، كتب الروائي والأكاديمي شكري المبخوت في تقديمه للكتاب: «فثمّة في بلادنا ذاكرة مليئة بالتفاصيل الموجعة تريد أن تُخرج إلى عامّة الناس ما اختزنته من لحظات كانت تبدو عابرة، لكنّها اندست عميقاً في التواريخ الفرديّة والنفوس المعذّبة. لم تكن هذه التفاصيل في ضمائر القرّاء مثلي موجودة إلاّ على نحو باهت ضبابيّ بين مصدِّق ومكذِّب. ولكنّها إذ تروى تبدو أوضح قليلاً علّها تمنح للمترجرج غير المتشكّل حبكة تكشف وجهاً من الحقيقة. فأن تروي الضحيّة مسارها الفرديّ يعني أنّ الذاكرات التي منعت من إخراج ما اختزنته من ألم ممضّ وأوجاع مبرّحة قد منحت فرصة لتقول وتعبّر عن سخطها وغيظها فتراكم العلامات الدالّة على التعسّف فتدين وتصرخ وتحتجّ وتطالب بنصيبها من الحقيقة الغائبة والمغيّبة».

إنّ ما كتبته النساء في «دفاتر الملح» يقربنا خطوة من فهم ما مررن به من ألم وحيرة وإحساس بالظلم والاضطهاد، من تساؤلات ربّما بقي بعضها بلا أجوبة. إلا أنّهن، وهذا هو الأهمّ، كتبن نصوصهنّ وهنّ مدركات، تماماً، أنّ هدف الكتابة ليس الانتقام أو طلب الغفران، بل وسيط التعافي عبر مشاركة الآخرين الحقيقة. وكشف الحقيقة هو أساس العدالة إذا ما أريد للمجتمع أن يتعافى، آخذين بنظر الاعتبار مسألة في غاية الأهمية، وهي أن الحقيقة «باعتبارها مطلباً أخلاقيّاً وسياسيّاً وقصّة تفتقر دائماً إلى حبكة دقيقة مفصّلة، لا يمكن تجزئتها ولا توظيفها سياسيّاً بالمعنى الحزبيّ للسياسة»، ما يقودنا إلى تساؤل يلخصه المبخوت «فأيّ الوجوه ستغلب وقد بدأت المصارحة؟ وأيّة هويّة جماعيّة جديدة سيبتكرها هذا المشروع السرديّ الجماعيّ وغيره من المشاريع الأدبيّة التي تعتمل هنا وهناك في بلادنا؟». وهو تساؤل عام لا يمكن إهماله إطلاقاً. تساؤل يشمل الجميع وليس النساء وحدهن. وكما هو معروف، إن مقياس نجاح أي كتاب، بعيداً عن الآنية، هو مدى ما سيثيره من تساؤلات تحفز على التفكير والمبادرة. فهل سيكون للملح في دفاتر النساء دور في بناء الحقيقة المشتركة؟

كاتبة من العراق

 

 

بين أمريكا والعراق

الفاسد يعاقب الفاسد!

هيفاء زنكنة

 

نشر البنك المركزي العراقي تعميماً بتاريخ 24 يوليو/ تموز، أمر فيه المصارف العاملة في العراق بتجميد حسابات أربعة عراقيين «متورطين في قضايا فساد أو انتهاكات لحقوق الإنسان». العراقيون الأربعة هم: محافظ نينوى السابق، ومحافظ صلاح الدين السابق، وآمر كتيبة بابليون التابعة للحشد الشعبي، وآمر لواء 30 الحشد الشعبي.

كان من الممكن الاحتفاء بهذه الخطوة واعتبارها منطلقاً لتأسيس مسار حقيقي للقضاء على الفساد وانتهاكات حقوق الإنسان، لو كان قرار التجميد قد جاء تطبيقاً لقرار قضائي أو قانوني عراقي، إلا أنه صدر وجاء تطبيقه من قبل المصرف المركزي بشكل سريع (لعله الأسرع منذ احتلال البلد عام 2003) ليس نتيجة قرار عراقي، بل استجابة للعقوبات الأمريكية الصادرة بحق الأربعة الذين تتهمهم الإدارة الأمريكية بالفساد وانتهاك حقوق الإنسان. جاءت هذه الخطوة في أعقاب سلسلة قرارات اتخذتها الإدارة الأمريكية، وأكدتها السفارة الأمريكية، ببغداد، لتبين التزامها « للعمل مع الحكومة العراقية وجميع العراقيين المناهضين للفساد وانتهاكات حقوق الإنسان المُرتكبة من قبل مسؤولين حكوميين.، كما أوضح سيغال ماندلكر، وكيل وزارة الخزانة لشؤون الإرهاب والاستخبارات المالية. وكان نائب الرئيس الأمريكي، مايك بنس، قد أضاف بعداً «إنسانياً» آخر على القرار حين صرح قائلاً: «الولايات المتحدة لن تقف متفرجة بينما تنشر الميليشيات المدعومة من إيران الرعب». ولا تقتصر العقوبات على الأشخاص الأربعة فقط، بل شملت ما فرضته وزارة الخزانة الأمريكية على شخصين آخرين بتهمة تهريب أسلحة إلى ميليشيات عراقية يدعمها الحرس الثوري الإيراني، بالإضافة إلى شركة «موارد الثروة الجنوبية» المتهمة بتسهيل «وصول الحرس الثوري الإيراني إلى النظام المالي العراقي من أجل التهرب من العقوبات».

كل هذا تم خارج نطاق القانون والقضاء العراقي وكل ما له علاقة بالسيادة الوطنية، لكنه تم حسب «قانون ماغنتسكي العالمي»، وهو قانون تم تطويره عام 2017 ليخول الرئيس الأمريكي، بالإضافة إلى سلطاته الحالية، سلطة فرض عقوبات على المواطنين غير الأمريكيين، ومعاقبة المسؤولين الحكوميين الأجانب «الفاسدين والمتورطين في انتهاكات حقوق الإنسان» في أي مكان في العالم.

وقد لاقى تطبيق القانون على عدد من «المارقين»، أشخاصاً وحكومات، ترحيباً من عديد المنظمات الحقوقية الدولية، ما شجع دولاً أخرى على تطبيقه. الأمر الذي يثير تساؤلاً حول عدم ترحيبنا به والتهليل لمنجزاته. فلم لا نحتفي بقرار سيؤدي، عند تطبيقه، إلى إنهاء فيروس الفساد المستشري بالنظام العراقي الحالي، كما يضع حداً لانتهاكات حقوق الإنسان التي طالما طالبنا بمحاسبة مرتكبيها؟

هناك أسباب عديدة لا تدعو إلى التفاؤل بهذا المنجز، تتضح أمامنا حالما نلقي نظرة سريعة على السياسة الأمريكية تجاه العراق في مرحلة ما بعد الاحتلال، وسيرورتها الحالية. هكذا نفهم المستقبل. فمن لا يقرأ الماضي سيبقى أمياً إزاء المستقبل. فجوهر العلاقة هو الاستغلال الإمبريالي (نفط، أمن الكيان الصهيوني، حلبة للمناوشات مع إيران واستنزاف لدول الخليج)، ساعدها في الاستمرار وجود نظام طائفي عنصري فاسد، غير معني بالسيادة الوطنية والوطن.

أحد الجوانب المهمة للعمل التضامني المتكافئ هو التمكن من كشف الاتفاقيات والمساومات الثنائية غير المعلنة، المقيدة، ومن ثم اتخاذ الإجراءات بصددها

نظام يتأرجح ما بين استجداء الحماية الأمريكية والإيرانية، لأنه يرى أن عدوه الأول هو الشعب. يغذي ديمومة هذه العلاقة النهب المنهجي لأموال البلد في سنوات الاحتلال الأولى، ومن ثم الفساد المتمثل بالعقود الضخمة، بقيمة مليارات، في مجالات الإعمار والسلاح والنفط والشركات الأمنية، التي تم منحها إلى شركات أمريكية بعد إعلان انسحاب القوات العسكرية، عام 2011. وتم التوقيع على معظمها في أثناء وجود نوري المالكي، أمين عام حزب الدعوة، رئيساً للوزراء مدة 8 سنوات، أشرف خلالها على تأسيس شبكة فساد منظم يقوم من خلالها رجال أعمال ومسؤولين حكوميين عراقيين حاليين وسابقين مرتبطين به، بالعمل مع شركات أجنبية مقابل دفع حصة معينة. وقد نشر موقع « ديلي بيست» الاستقصائي، المتابع لقضايا الفساد الأمريكية، في 24 يوليو/ تموز، تقريراً بعنوان «العلاقات المشبوهة لجنرال أمريكي متقاعد بالعراق». يضم التقرير تفاصيل دقيقة بأسماء الأشخاص والشركات والتاريخ والأماكن، عن شبكة العلاقات الخفية والعقود العسكرية والتجارية بين الجنرال فرانك هلمك، الذي كان من نجوم الاحتلال وتقاعد في 2011 ليصبح «رجل أعمال»، فتحت له علاقته بنوري المالكي أبواباً واسعة في مختلف الشركات المشبوهة المرتبطة بالنظام السياسي العراقي.

هذا غيض من فيض، يعطينا نموذجاً لنوعية العلاقة الفاسدة بين مسؤولي الإدارة الأمريكية والساسة العراقيين. فمنذ عام 2004، أي بعد عام من الغزو، تلاشى ما مجموعه 218 مليار دولار، أي أكثر من الناتج المحلي الإجمالي للعراق في العام السابق، في جيوب السياسيين ورجال الأعمال من الطرفين، وهو رقم رسمي يعتبره كثيرون ضئيلاً بالنسبة للتقديرات السابقة. وفي كل يوم تطفو على السطح معلومات جديدة، موثقة، عن الفساد المشترك وعلاقته بالإرهاب، وعن انتهاكات حقوق الانسان الصادرة عن منظمات حقوقية عراقية وأمريكية مستقلة، لتواجه جداراً من الصمت من الإدارة الأمريكية بل وإصراراً على مد النظام بالسلاح والحماية.

فهل يلام من لا يحتفي بالإعلان الأمريكي عن فرض العقوبات على أربعة عراقيين وشركتين، بتهمة الفساد والانتهاكات، حين اقتضت مصلحتها في مسار المناوشات مع إيران؟ كيف يمكن الوثوق بدولة غزت البلد وأسست للطائفية والفساد والإرهاب، وجعلته نموذجاً محفوراً بذاكرة العالم، لإجراءات التعذيب التي جعلتها الإدارة الأمريكية قانونية؟ كيف يمكن الوثوق بجلاد؟ بإدارة يقودها رئيس متهم بالفساد والاعتداءات الجنسية، يتباهى بصداقة ودعم وترسيخ الكيان العنصري الصهيوني، على حساب الشعب الفلسطيني، ولم يبق بند من بنود حقوق الإنسان لم ينتهك، داخل وخارج أمريكا، تحت رئاسته؟ رئيس عنصري يشكك حتى بالأمريكي إذا كان لون بشرته مختلفاً، ووالداه من بلد آخر، فكيف إذا كان عراقياً؟

وهل يلام من لا يثق بوعود وتصريحات رئيس الوزراء عادل عبد المهدي، بعد إعلان العقوبات الأمريكية، وبعد أن أوعز المصرف المركزي بتنفيذها، ليصرح بعد ايقاظه، فجأة، من سباته العميق: «أحلنا ملف عقوبات وزارة الخزانة الأمريكية على المستشارين القانونيين للبت بها»، وأن هناك «قضايا لم تحسم بمختلف مؤسسات الدولة بلغت بمجملها 4117 قضية»، لافتاً إلى وجود «1367 قضية فساد محالة إلى محاكم النزاهة»؟

ليس بالإمكان وضع الثقة بالفاسدين المحليين أو العالميين، والفساد في أدنى مستوياته وأقذرها حين يرتبط بالاحتلال والإرهاب. لذلك نرى تزايد الاعتصامات والمظاهرات، في أرجاء البلد، من قبل مختلف شرائح الشعب.

والحاجة ماسة جداً إلى التنسيق والتكاتف بين الجميع تحت الشعار الواقعي الموحد «الفساد يقتلنا»، بالإضافة إلى التنسيق مع منظمات التضامن والمنظمات الحقوقية خارج العراق، وبضمنها الأمريكية المستقلة، غير المرتبطة بالإدارة، المعنية بالشفافية والنزاهة وحقوق الإنسان. أحد الجوانب المهمة للعمل التضامني المتكافئ هو التمكن من كشف الاتفاقيات والمساومات الثنائية غير المعلنة، المقيدة، ومن ثم اتخاذ الإجراءات بصددها.

 

مئات المنظمات

الحقوقية في العراق:

الشعب إذن بخير!

هيفاء زنكنة

 

قد يتبادر إلى الأذهان عند قراءة تقرير منظمة «هيومان رايتس ووتش»، الصادر بداية الشهر الحالي عن حال المعتقلين والسجناء بعنوان «العراق: آلاف المحتجزين، منهم أطفال في أوضاع مهينة» ـ أن العراق خال من المنظمات الحقوقية المحلية والدولية، ما يمنح السلطات المحلية حرية مطلقة في انتهاك حقوق الإنسان، خاصة المعتقلين، بلا مساءلة، وأن هذه المنظمة هي الوحيدة التي ترصد الانتهاكات والخروقات، فيسهل التشكيك بتقاريرها أو تجاهلها، كما يحدث عادة.

التقرير مزود بصور مهولة لأجساد متراصة بأوضاع مشوهة أكروباتيكية، من الأحداث واليافعين، في سجون الرجال، و كما هي أجساد النساء والأطفال في سجون النساء. وهو ليس بالأمر المستغرب إذا ما علمنا أن الطاقة الاستيعابية القصوى لمراكز الحبس الاحتياطي الثلاثة في شمال العراق، مثلاً، هي 2500 شخص، بينما وصل عدد المحتجزين هناك، بحلول يونيو/حزيران، إلى 4500 سجين ومحتجز تقريباً، من بينهم 1300 شخص حُوكموا وأُدينوا وكان ينبغي نقلهم إلى سجون بغداد منذ ستة أشهر على الأقل. ووصل عدد السجينات بسجن النساء في بغداد 602 امرأة، بينما لا يتسع بناء السجن المتهالك لغير 200.

الحقيقة هي أن العراق لا يعاني من قلة المنظمات الحقوقية على الإطلاق، إذ إن هناك مئات المنظمات المحلية، بالإضافة إلى «المفوضية العليا لحقوق الإنسان»، وهي منظمة حكومية تقدم نفسها كهيئة مستقلة شكلت بموجب قانون عام 2008، لتعمل على «ضمان حماية وتعزيز احترام حقوق الإنسان وحماية الحقوق والحريات المنصوص عليها في الدستور وفي القوانين والمعاهدات والاتفاقيات الدولية المصادقة عليها من قبل العراق». برلمانياً، هناك «لجنة حقوق الإنسان» المكونة من 12 نائباً (تم تعيينهم وفق نظام المحاصصة)، وتختص هذه اللجنة -حسب موقعها- بثلاث مهمات، من بينها «متابعة شؤون السجناء والمعتقلين في السجون».

دولياً، لدينا فروع 23 منظمة من منظمات الأمم المتحدة التي تغطي كافة جوانب حقوق الإنسان، وعدة منظمات حقوقية دولية تتابع الشأن العراقي، من بينها: منظمة العفو الدولية، وهيومان رايتس ووتش، ومراسلون بلا حدود، ومركز العدالة الانتقالية الدولي، وأطباء بلا حدود.

وأبرز المكاتب، عملياً، وأكثرها نفوذاً هو «مكتب حقوق الإنسان» في بعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق (يونامي)- الذي تم تأسيسه وفقاً لولاية قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في حزيران 2018، للعمل على «تعزيز المساءلة وحماية حقوق الإنسان والإصلاح القضائي والقانوني من أجل توطيد سيادة القانون»، من خلال العمل «مع حكومتي العراق وإقليم كردستان والحكومات المحلية ومؤسسات حقوق الإنسان الوطنية والمجتمع المدني لتعزيز حقوق الإنسان بطريقةٍ حيادية»، أي وباختصار شديد، إنه يهدف إلى العمل مع كل من يتلفظ أو يدعي أو يمثل حقوق الإنسان من أعلى سلطة في الدولة الى أصغر مؤسسة، مروراً بمنظمات المجتمع المدني والدولي.

هذا كله غيض من فيض من منظمات المجتمع المدني التي يتخصص العشرات منها بشأن المعتقلين والمسجونين. ومن يراجع مواقع هذه المنظمات ويقارنها بما يعرفه تمام المعرفة عن حال المعتقلين اللاإنساني، في عموم البلد، لا بد وأن يتساءل عن جدوى هذا الكم الهائل من المنظمات المحلية والحكومية والدولية، والمواقع الإلكترونية، والمطبوعات الملونة بجداولها وإحصائياتها، والدعم المادي الكبير للمؤتمرات والورشات، والتغطية الإعلامية للوفود وزيارات التفقد لمراكز التأهيل والسجون، وإصدار البلاغات؟

تتراكم المظالم كما حدث في الماضي القريب والبعيد، وتنتقل إلى روح الانتقام، ويختلط العنف مع اللجوء إلى أي داعم خارجي أو إرهابي داخلي مهما كانت أهدافه، فتعود الدورة من جديد، وتسيل الدماء، ويتهدم البلد على رؤوس أهله

هناك، بطبيعة الحال، عدد من المنظمات المستقلة، فعلاً، الجادة في عملها، والتي غالباً ما يجد الناشطون فيها أنفسهم عرضة للتهديد والابتزاز والمضايقات وحتى الاختطاف. منظمات تحاول أن تجد لها حيزاً خارج حدود الفساد والاتهامات الجاهزة بالإرهاب. أما بقية المنظمات، وهي كثر، فإنها تتنافس فيما بينها على الدعم المادي الذي لا يصلها منفصلاً عن تبعية الأجندة السياسية – الطائفية – العرقية. أي أنها تمثل -بحكم التمويل الحزبي والحكومي والفساد- أداة لاستمرارية الخروقات والانتهاكات التي تتظاهر بمحاربتها، ولكن تحت غطاء تمويهي زاه يدعى الديمقراطية وحقوق الإنسان.

من يراجع أعمال هذه المنظمات سيجد صوراً عن لقاءات مع مسؤولين يبتسمون أمام عدسات أجهزة الإعلام وهم يقدمون دروع التقدير إلى ممثلي المنظمات الدولية وهم يؤكدون على «اعتماد السبل القانونية في استقبال الشكاوى والمناشدات ومتابعتها إلى حد إقامة دعاوى قضائية في حال عدم استجابة الجهات المعنية». ويتم تداول هذه التصريحات في القنوات التلفزيونية التي يزيد عددها على 200 قناة تابعة لأحزاب تلتحف بحقوق الإنسان، في الوقت ذاته الذي يستمر فيه التعذيب والاعتقال والموت داخل السجون المكتظة.

كيف يتعامل المواطن، ضحية الانتهاكات، وهو محاط بادعاءات الديمقراطية وحقوق الإنسان؟

النصيحة التي تسديها هذه المنظمات للمعتقلين هي اللجوء إلى القضاء. وهذا ما فعله الطالب علي حاتم السليمان ( 23 عاماً) الذي كان في طريقه من الفلوجة إلى بغداد، عام 2005، لإجراء الامتحانات، وتم اعتقاله في نقطة تفتيش بسبب تشابه اسمه مع شيخ عشيرة متهم بالإرهاب. تم اقتياده إلى مقر للجيش حيث عذب. يقول علي في شهادته التي كتبها مصطفى سعدون، رئيس المرصد العراقي لحقوق الإنسان، بأنه حين تم تسليمه إلى أهله، بعد عشرة أيام من التعذيب، كانت كفاه قد أصيبتا بالغنغرينا، وعظام أصابعه مكسورة ولا يقوى على تحريك يديه، فكان الحل الوحيد هو بتر الكفين. نفد علي النصيحة، فأقام دعوى قضائية في المحاكم. حقق القضاء بما حصل معه، ثم ذهب إلى وزارة الدفاع أكثر من مرة لمقابلة قيادات عسكرية هناك على أمل نيل تعويض. ولا يزال بعد خمسة أعوام من المراجعات بلا تعويض وبلا مستقبل وبلا عقاب للجلادين.

إن وضع حد لهذه الممارسات الوحشية يعتمد، بالأساس، على وجود حكومة تسعى فعلاً لوضع حد لها، قانوناً وممارسة، وبدونها كما بينت تجاربنا وتجارب كل الشعوب، تتراكم المظالم كما حدث في الماضي القريب والبعيد، وتنتقل إلى روح الانتقام، ويختلط العنف مع اللجوء إلى أي داعم خارجي أو إرهابي داخلي مهما كانت أهدافه، فتعود الدورة من جديد، وتسيل الدماء، ويتهدم البلد على رؤوس أهله كلهم مرة أخرى. لن يتم تجنب دورة الانتقام والتخريب إلا بقيام حكومة يرى مسؤولوها أبعد من مصلحتهم الآنية المعجونة بالطائفية والفساد. إلى أن يتحقق ذلك، لعل الضغط على الأمم المتحدة لتعيين مقرر عام لحقوق الإنسان، وإرسال خبراء دوليين مستقلين للقيام بزيارات منتظمة لمواقع الاحتجاز، وإنشاء فريق من مفتشي السجون المستقلين لمراقبة الأوضاع ـ قد يكون خطوة بالاتجاه الصحيح.

 

 

العراق: «الشهداء»

لا يقتلون بالقصف الأمريكي!

هيفاء زنكنة

 

في كل يوم، يقدم لنا مسؤولو النظام العراقي، على اختلاف تدرجاتهم الوظيفية، مثالاً جديداً للاستهانة بالحياة البشرية والكرامة الإنسانية. ففي مقابلة تلفزيونية (قناة التغيير – 7 تموز) مع ناجحة الشمري، مدير عام مؤسسة الشهداء، بدرجة وزير، حول استحقاقات الشهداء وعن إمكانية شمول ضحايا «ملجأ العامرية»، بالاستحقاقات، حالهم حال بقية الضحايا الذين تتبناهم المؤسسة، وبعد أن بين لها الإعلامي أن الضحايا -ومعظمهم من النساء والأطفال- قتلوا جراء القصف الأمريكي المباشر، وهي حقيقة يعرفها الجميع.. قالت السيدة الشمري: لا يمكن اعتبارهم شهداء لأنهم ماتوا اختناقاً. وكان الملجأ قد استهدف بإحدى الغارات الأمريكية على بغداد، يوم 13 فبراير 1991، بواسطة طائرتين من نوع أف-117 تحمل قنابل ذكية، ما أدى إلى مقتل 408 مدنيين. يعيد تصريح السيدة الشمري إلى الأذهان تصريح سيدة أخرى، هي وزيرة الخارجية الأمريكية مادلين أولبرايت، التي قالت عندما سئلت عن وفاة أكثر من نصف مليون طفل جراء الحصار الاقتصادي على العراق.. إنه ثمن مناسب للحصار.

أن تتلفظ وزيرة خارجية دولة فرضت عقوبة الحصار على العراق لأسباب سياسية واقتصادية، أمر قد يفهم، مهما كانت لا إنسانيته، ربما كمؤشر للدلالة على نجاح فرض سياسة القوة. أما أن يصدر من سيدة عراقية تمثل مؤسسة للشهداء العراقيين وتم تعيينها لأنها «ولدت من رحم شريحة ذوي الشهداء»، كما تذكر في سيرتها الذاتية، أي أنها عانت من استلاب حق الحياة، كما تدعي، وتفتخر بدراستها الشريعة الإسلامية وعملها ضمن عديد المؤسسات الدينية والحقوقية، فمن الصعب تقبل التصريح المستهين بحياة 408 ضحية، وحرمان عوائلهم من مستحقات هي من حقهم، خاصة وأن ساسة النظام وذويهم وذوي ذويهم يتمتعون بها، ومن ضمنهم السيدة الشمري التي تذكر في سيرتها أن «قافلة الشهداء في عائلتها تطول».

تم تعريف «الشهيد»، حسب القانون الذي سنه النظام الحالي: هو «ضحية نظام البعث المباد والحشد الشعبي وضحايا جرائم الإرهاب» فقط . ولأهله الحق إما بقطعة أرض أو تعويض مادي قدره 65 ألف دولار، والحصول على تقاعد، وعلاج ذوي الشهداء خارج العراق، ولأولاده أولوية القبول بالجامعات والبعثات الدراسية إلى الخارج، والحج، وأولوية التعيين في الوظائف الحكومية، حيث قامت مؤسسة الشهداء بتعيين (16000) من ذوي الشهداء في وزارات الدولة المختلفة.

 يجب ألا يكون رد الاعتبار للضحايا ورعاية ذويهم وتوفير الحياة الكريمة محط استهانة من قبل أية حكومة مهما كان توجهها السياسي. إنه جزء أساسي من سيرورة تحقيق العدالة

على هذا المنوال، وتحت تصنيف لقب «الشهيد»، الموظف طائفياً -بحكم إشاعة فكرة أن نظام البعث كان سنياً والإرهاب سنياً، والضحايا من الشيعة- قامت المؤسسة بالمصادقة على (48894) شهيداً، للفترة من 2/8/2007 ولغاية 01/11/2014، حسب تقرير المؤسسة للفترة المحددة، وسيكون الرقم أعلى بكثير لو ضم التقرير مصادقة المؤسسة على «الشهداء» طوال سنوات حكم البعث. بلغ عدد المستفيدين من عوائل الشهداء الذين تسلموا راتباً تقاعدياً (146475)، وهذا قبل أن تشرع المؤسسة بإضافة «شهداء» الحشد الشعبي، المؤسس بعد فتوى المرجعية بالجهاد عام 2014، بالإضافة إلى عشرات المليشيات المدعومة إيرانياً. بالمقابل، قام النظام الحالي بحرمان الجنود الذين قتلوا أثناء الحرب العراقية الإيرانية (1980 – 1988) من مخصصاتهم كشهداء، بالإضافة إلى عدم الاعتراف بقضايا ضحايا الحصار الجائر (1990 – 2003)، والغزو والاحتلال الإنجلو أمريكي عام 2003، وما ترتب على ذلك من إرهاب حصد الأرواح وزرع الفتنة الطائفية وهدم البنية التحتية.

كان بإمكان السيدة الشمري، وهي المسؤولة برتبة وزير، حسب قانون المؤسسة، والمفترض فيها تحقيق العدالة وتوفير فرص الحياة الكريمة لذوي الشهداء، أن ترد عند سؤالها عن ضحايا الملجأ قائلة إن القانون الحالي لا يعالج كل القضايا، مثلاً، وأملنا أن يتم تصحيح الوضع في المستقبل القريب. هذا، لو حرصت -طبيعة الحال- على مشاعر أهل الضحايا، على الأقل، أو توخت تحقيق العدالة لجميع الضحايا كخطوة أولى في مسار وضع حد للضيم والجور والتصالح مع الذات والمجتمع.

إن موقفاً كهذا، والسيدة الشمري، ليست نموذجاً فريداً من نوعه بين ساسة النظام، هو واحد من مجموعة مواقف تمييزية تدفع إلى تعميق الإحساس بالظلم والتهميش، وبالتالي إشاعة الفتنة الطائفية، يعززها الإحساس بتجيير مؤسسات ذات أهداف إنسانية، على غرار «مؤسسة الشهداء»، إلى وسيلة لمنح الامتيازات وبناء قاعدة اجتماعية طائفية تجسد سياسة النظام المنهجية في الانتقام وإرساء مفهوم انتقائي للعدالة، على كل المستويات. وإلا كيف تبرر مؤسسة تحمل اسماً كالشهداء، يتجذر عميقاً في الموروث الجماعي العربي والإسلامي، بالتضحية والدفاع عن الوطن، بعدم اعتبار من انضم إلى المقاومة ضد الاحتلال الأمريكي – البريطاني شهيداً؟ كيف يمكن تجاهل بطولة من قاوم غزو تسبب بوفاة ما يزيد على المليون مواطن، وتهجير أربعة ملايين، وتخريب مدن بكاملها، وتوفير البيئة لإرهاب الدولة والقاعدة وداعش والميليشيات؟ ماذا عن ضحايا إرهاب مليشيات الأحزاب الحكومية؟ والمفارقة الأكبر، كيف يمكن تبرير أن يجرد من شارك كعسكري في الحرب ضد إيران في الثمانينيات من كونه شهيداً، بينما يمنح اللقب للأسير العراقي « التَواب» الذي أعلن توبته (اختياراً أو تحت التعذيب) وهو في معتقلات إيران، ثم تم إرساله إلى جبهة الحرب للقتال في صفوف القوات الإيرانية ضد العراقية؟ ماذا عن أهالي 1627 عسكرياً أسيراً توفوا في المعتقلات الإيرانية، و1616 ممن وجدت رفاتهم في مقابر على الحدود الإيرانية؟

يجب ألا يكون رد الاعتبار للضحايا ورعاية ذويهم وتوفير الحياة الكريمة محط استهانة من قبل أية حكومة مهما كان توجهها السياسي. إنه جزء أساسي من سيرورة تحقيق العدالة والتأسيس الحقيقي لمجتمع يعمل بجد على التخلص من العلاقات المرضية المشوهة الناتجة عن سياسة حكومات محلية وقوى عالمية تتغذى على تقسيم الناس وانتقائية العدالة حسب مقولة «كل الناس متساوون، لكن بعضهم متساوون أكثر من غيرهم»، للكاتب الإنكليزي جورج أورويل.

٭ كاتبة من العراق

 

 

ذوّبوا الليل يا أهل البصرة

هيفاء زنكنة

 

 عاد المتظاهرون، بمدينة البصرة في جنوب العراق، إلى الشوارع من جديد في الشهر ذاته تقريباً، كما في العام الماضي، كما لو كان سكان المدينة الغنية بالنفط، يستعيدون ذكرى تظاهراتهم واعتصاماتهم، التي لم تثمر شيئا في العام الماضي. عادوا، كما في الزيارة السنوية للأماكن المقدسة، وهم يحملون المطالب ذاتها: الخدمات الأساسية، كالتزود بالكهرباء والماء، خصوصاً مع ارتفاع درجات الحرارة التي قاربت خمسين درجة مئوية، وحق العمل. وأضيف إليها، هذه الأيام، مطلب إنصاف المتضررين من احتجاجات العام الماضي، ومحاسبة المتسببين. لا تخلو المظاهرات من أصوات منفردة تطالب بوضع حد لنفوذ الميليشيات المتحكم بحياة الناس أكثر من الحكومة.

كانت تظاهرات العام الماضي قد تأججت نهاية شهر حزيران/ يونيو، وواجهتها القوات الأمنية باستخدام الذخيرة الحية، وقتل متظاهرين سلميين، بالإضافة إلى تنفيذها حملة اعتقالات تعسفية وتعذيب المعتقلين. وصل عدد ضحايا الاحتجاجات إلى 13 قتيلاً ومئات الجرحى، واكتفى خلالها ساسة الحكومة بإطلاق التصريحات الهوائية والوعود الفارغة بحل المشاكل ووضع آليات عمل، وتشكيل لجان لمتابعة عمل لجان أخرى تم تشكيلها لتهدئة الغضب سابقاً، ورسم مسار إستراتيجي للنهوض بواقع الخدمات!

أصاب الصحافيين، خلال تغطيتهم الاحتجاجات وقضايا الفساد في العام الماضي، رشاش القمع؛ إذ قامت الأجهزة الأمنية، بين 14 تموز/يوليو و6 أيلول/سبتمبر 2018، بالاعتداء على سبعة صحافيين من جميع أنحاء العراق واعتقالهم، وتم إحراق مكاتب اثنين من وسائل الإعلام المحلية. وسجل تقرير للجنة حماية الصحافيين، ومقرها نيويورك، حالات مغادرة أربعة صحافيين محافظة البصرة، بعد أن قامت الميليشيات المسيطرة هناك بتهديدهم بالقتل.

بالنسبة إلى الوضع الحالي لا يبدو، حتى الآن، أن هناك اختلافاً كبيراً، سواء في سيرورة التظاهرات أو الاستجابة الحكومية؛ إذ أعلن المتظاهرون أنهم سيستمرون حتى تحقيق المطالب، ووجهوا النداء إلى مختلف شرائح المجتمع للخروج معهم، في الأيام المقبلة. بينما شرعت القوات الأمنية بإطلاق التهديدات ضدهم وضد الصحافيين في حال تغطيتهم المظاهرات. بل واستبقت الأحداث باعتقال كادر قناة السومرية المكون من مراسلة ومصور أثناء تصويرهم التظاهرات قبل أيام. ولم يتم إطلاق سراحهما إلا بعد تدخل وزير الداخلية شخصياً، مما يثير التساؤلات حول سلامة الصحافيين المستقلين في حال رفض وزير الداخلي التدخل، في بلد معروف بغياب القضاء النزيه، وعمل الصحافي في بيئة مسيّسة تعتبر وسائل الإعلام أدوات سياسية قبل أي شيء آخر. وكانت السلطات قد حذرت، في نوفمبر/تشرين الثاني 2018، وسائل الإعلام من إظهار عدم احترامها «للرموز الوطنية أو الدينية»، ما يجعل الصحافي عرضة للاعتقال والسجن حالما يكتب عن أي سياسي أو معمم «يقدم نفسه» كرمز وطني، الأمر الذي يرسخ، بقوة، مكانة النظام العراقي بين بقية الأنظمة العربية المبدعة في ابتكار أساليب تكميم أفواه أبناء الشعب عموماً والصحافيين خصوصاً. إذ ترى في الصحافي المستقل أداة تخشاها أشد الخشية إن لم تتمكن من شرائه، إما بالمال والتهديد والابتزاز والاعتداء الجسدي، أو الاختطاف والقتل.

من الواضح أن قائد عمليات البصرة ذا الرتبة العسكرية العالية لا يعتمد في عمله أو تصريحاته على احترام الدستور، بل على ترهيب وترويع المواطنين عموماً، ومنهم الصحافيون

ضمن هذا المسار، وقف قائد عمليات البصرة، قاسم نزال، أمام الكاميرات ليحذر وسائل الإعلام، قائلاً: «إن الإعلامي الذي نلزمه بتظاهرة غير مرخصة راح ايكون بالتوقيف موجود إن شاء الله»، ما معناه، باللهجة العراقية، أنه تهديد صريح للصحافيين بالاعتقال وما يترتب عليه، في حال تغطية الصحافيين للتظاهرات في محافظة البصرة، حسب مرصد الحريات الصحافية، الذي دعا «القائد العام للقوات المسلحة» إلى تبيان موقفه من التهديد، الذي يعتبر «مخالفة واضحة لبنود الدستور العراقي» الذي جاء في مادته الـ(38): «تكفل الدولة حرية التعبير عن الرأي بكل الوسائل، وحرية الصحافة، بالإضافة إلى حرية الاجتماع والتظاهر السلمي».

من الواضح أن قائد عمليات البصرة ذا الرتبة العسكرية العالية لا يعتمد في عمله أو تصريحاته على احترام الدستور، بل على ترهيب وترويع المواطنين عموماً، ومنهم الصحافيون. ولا بد أنه -إما لغبائه المنسوج بالعنجهية أو لسذاجته- لم يسمع بوجود بدائل إعلامية بإمكان المتظاهرين اللجوء إليها في حال قيامه باعتقال الصحافيين. وهي بدائل أو أساليب تكمل ما هو موجود، توصلت إليها الشعوب لمناهضة القمع السلطوي المباشر. هناك، مثلاً، «صحافة المواطن» التي باتت منذ ما يزيد على العقد منافسة للصحافة التقليدية، أو مكملة لها، لتمتع ممارسيها بميزات قد لا تتاح للصحافي المحترف، خصوصاً إذا كان الصحافي عرضة للمراقبة والتهديد والمنع من ممارسة مهنته من قبل الأجهزة القمعية، كما هو حال الصحافيين المستقلين بالعراق مثلاً.

وشرعت «صحافة المواطن» الأبواب التي كانت مقتصرة على الإعلام التقليدي في نقل الأخبار وتحليلها. أما الآن فبإمكان كل مواطن يملك كاميرا أو هاتفاً جوالاً مزودا بكاميرا، أن ينقل الخبر إما بنفسه على صفحات التواصل الاجتماعي، «فيسبوك وتويتر وإنستغرام» وغيرها، بالصور والفيديو والمدونات والرسائل السريعة الناقلة للأخبار لحظة بلحظة، أو عبر التواصل المباشر مع أجهزة الإعلام التقليدية، وتزويدها بالصور والتعليقات والتحليل، أو تنبيهها إلى ما يجري من أحداث فور حصولها، كما لو كان المواطن مراسلاً من مكان الحدث. هذه الإمكانية المتوفرة للجميع ساعدت، في السنوات الأخيرة، على تغيير ميزان القوى بين المتظاهرين والقوات الأمنية، وقللت إلى حد ما من وحشية الإجراءات القمعية التي تمارسها هذه القوات، في البلدان العربية، ضد المتظاهرين سلميا. كما ساعدت على استقطاب أفراد جدد إلى الحركات الناشطة المطالبة بالتغيير السلمي لأوضاع لم يعد بالإمكان السكوت عليها.

في العام الماضي، أدركت الحكومة خطر هذا الأسلوب عليها، فعمدت إلى قطع الإنترنت لمنع انتشار الصور والفيديوهات المصورة التي جرى التقاطها، سواء من قبل المواطنين أو الصحافيين، والتي تظهر قمع السلطات للتظاهرات السلمية. وهو تعتيم متعمد منح القوات الحكومية تفويضاً بالقمع دون خشية انتشار الأخبار. إلا أن المتظاهرين يعرفون جيداً أن قطع الإنترنت لا يمكن أن يدوم إلى الأبد، ما يوفر لهم سلاحاً يضاف إلى بقية مستويات مقاومة الظلم والقمع والفساد، بشرط توخي المصداقية وألا يكونوا الوجه الآخر لعملية التزوير الحكومية.

كاتبة من العراق

 

 

علاقة الحب والكراهية بين أمريكا وإيران

هيفاء زنكنة

 

مع تصاعد دقات طبول الحرب الأمريكية ضد إيران، بدأنا نسمع صداها، فرحًا، في قلوب شخصيات وأحزاب عراقية ترى في الحرب «تحريرًا» من الاحتلال الإيراني. بل وبلغت الحماسة بالبعض حدًا جعلهم يغردون ويتبادلون التهاني بقرب الخلاص، مهددين إيران بقوة أمريكا وضربات الرئيس ترامب التي لا ترحم. بيانات ورسائل على «فيسبوك» وصور كاركاتيرية، وهي مشاعر ومواقف قد يكون هناك ما يبررها بحجة إنقاذ البلد والتخلص من «الاحتلال»، لولا أن هذه المجموعات والأحزاب ذاتها وقفت بقوة عام 2003 ضد الاحتلال الأمريكي، الذي تبنته وبررته في الوقت ذاته أحزاب عراقية أخرى (ولا تزال)، بذريعة «التحرير» أيضًا. وهو تبادل سريع للمواقع والتغير في فترة زمنية قصيرة نسبيًا من منظور القيم الأخلاقية على الأقل، ويقدم صورة هلامية عن مبادئ كانت تعتبر، حتى وقت قريب، قيمًا ثابتة المعاني، لا يتطرق إليها الشك، في العلاقة بين الشعوب ومحتليها مهما كانت هوية المحتل.

فكيف تحول الغازي المحتل إلى المنقذ المنتظر؟ ما الذي يدفع هذه الأحزاب التي كانت مناوئة للاحتلال الأمريكي إلى الاستنجاد بأمريكا؟ وهل هناك ما يضمن ثبات السياسة الأمريكية تجاه شعوب المنطقة؟

في شبكة العوامل الداخلية والخارجية المتداخلة والمتصارعة سياسيًا واقتصاديًا وعسكريًا، بالإضافة إلى الصراع الديني-المذهبي الدامي، على غنيمة العراق، تبرز أكثر من غيرها تعقيدات علاقة أشبه ما تكون بعلاقة يتخللها هاجس الحب-الكراهية، بصعوده ونزوله بين الإدارة الأمريكية والنظام الإيراني. مهر المحب هو العراق، الوزة التي تبيض ذهبًا. تختلف هذه العلاقة عن الأمثلة التاريخية المعروفة بين المستعمِر والمستعمَر. إذ لم تتعرض إيران إلى احتلال أمريكي مباشر، كما العراق مثلًا، مما انعكس على نوعية العلاقة بين الطرفين. فتتم المناوشات، حتى عند صعودها إلى أسوأ مستوياتها، مهددة بالعنف والاقتتال في بيوت الجيران وليس في البيت الأمريكي أو الإيراني، كما رأينا في لبنان وسوريا والعراق.

هذا الصعود والنزول في العلاقة، ونقل ساحة الصراع إلى بيوت الجيران، ومن ثم التوصل إلى هدنة، بشكل أو آخر، يوضح عرض النظام الإيراني مساعدة أمريكا في تسهيل شؤون احتلال العراق، «فنحن أدرى بالعراق»، كما صرح مسؤول إيراني، حينئذ، لإغراء الإدارة الأمريكية بقبول النظام كشريك. كان الهدف هو أن يتم تجنب نقل الصراع بأي ثمن كان إلى داخل البيت الإيراني لحين استشراف ملامح وخارطة العلاقة المستقبلية، بعد «تنظيف» بيت الجيران ممن كان يعترض على وجودهما غير المرحب به.

علاقة أشبه ما تكون بعلاقة يتخللها هاجس الحب ـ الكراهية، بصعوده ونزوله بين الإدارة الأمريكية والنظام الإيراني

ما لم يكن حسبان الطرفين هو بروز المقاومة التي وإن لم تنتصر بمعنى التخلص الكلي من الاحتلال بشقيه الأمريكي والإيراني، إلا أنها نبهت الإدارة الأمريكية إلى وجود شعب لم يستقبل الاحتلال بالزهور والحلويات، كما طمأنها عراقيون قبل الغزو. ونبهت إيران إلى وجود أصوات مغايرة لمن راهنت على استقبالهم لها داخل البيت، بل ومنحها عقد ملكية الدار بكامله.

جرت سياسة الإقصاء الطائفي، وانبثاق المقاومة المسلحة، إلى لجوء المحتلين، الأمريكي والإيراني، إلى تقوية أدواتهما للهيمنة أولًا، ومن ثم تهيئة الأرضية للتوافق فيما بينهما على حساب العراق. فاستخدمت، بالإضافة إلى القصف والتفجيرات والعقاب الجماعي وحملات الاغتيال المستهدفة للأصوات المستقلة، أسلحة ذات مفعول أعمق وأكثر ضررًا على المدى البعيد من مجرد القتل المباشر؛ أسلحة تستنزف بنية المجتمع وتآخيه لتتركه منهكًا، غير قادر على المقاومة أو المبادرة، لا يطلب شيئًا في الحصيلة غير البقاء على قيد الحياة، مرددًا وهو يرفع يديه عاليًا باتجاه السماء: «حسبنا الله ونعم الوكيل».

أصبح العراق سوقًا مفتوحة على مدى 24 ساعة يوميًا، لميليشيات ومنظمات طائفية انبثقت كأذرع الأخطبوط، إما كأدوات معدة للتخريب الممنهج، أو كنتيجة حتمية للاحتلالين. فانتشرت الميليشيات المدعومة إيرانيًا، التي سارع بعض الشباب للانضمام إليها؛ لأنها وظيفة مضمونة الراتب في الحياة الدنيا، ومضمونة الفردوس في الحياة الأخرى. بينما سارع آخرون للانضمام إلى منظمات مسلحة؛ لأنها وعدتهم بدولة الخلافة في الحياة الدنيا، والفردوس في الحياة الأخرى. تكشف الوثائق المسربة، سواء من قبل «ويكليكس» أو غيرها، حجم اختراق هذا المحتل أو ذاك في هذه المنظمات، وحجم التسليح المتطور لكل الجهات من قبل مصادر التسليح ذاتها.

إن مرور 16 عامًا على الغزو الأمريكي الذي هيأ للاحتلال الإيراني، جذَّر انقسامًا مجتمعيًا يغذيه الفساد والمصلحة الفردية المرتبطة بهذه الفئة أو تلك، بحثًا عن الحماية الجسدية والمادية، بدون أن تمتد أو تتوسع لتشمل الجميع، قوامها الخوف من الآخر لدى البعض، والنظر إلى الماضي بنوستالجيا مرضية لدى البعض الآخر. وإذا كان مزيج الإحساس بالمظلومية والعجز عن أحداث التغيير وتغليب المصلحة الفردية/الفئوية على مصلحة الوطن، هو الذي دفع البعض إلى التحالف مع المحتل الأمريكي في غزوه لبلدهم، عام 2003، وإلى فتح الأبواب مشرعة للنظام الإيراني، فإنه هو ذاته عمليًا ما يدفع الأحزاب والشخصيات التي ناهضت الاحتلال الأمريكي إلى الترحيب بشن الحرب ضد إيران لإزالتها؛ لأنها-كما يحاججون- مرض الإيدز، أما أمريكا وإسرائيل فإنهما مرض الجدري! ما يعني، ضمنيًا، عرض أنفسهم كبديل للنظام الحالي.

إن الأحزاب التي تعاونت مع المحتل الأمريكي، عام 2003، لم تفكر أو لم تعبأ بما سيجلبه الاحتلال من خراب على الشعب والبلد. كما أن الأحزاب والشخصيات المهللة، حاليًا، لقصف إيران لا تفكر إطلاقًا بما سيجره ذلك من نتائج كارثية على الشعب العراقي أيضًا. فمن ناحية الهجوم الأمريكي، العراقيون أدرى من غيرهم بمعنى ذكاء الصواريخ ودقة الاستهداف واعتبار الضحايا خسائر جانبية. ومن ناحية «الدفاع» الإيراني، العراقيون أدرى من غيرهم بهمجية الميليشيات والسيارات المفخخة والتفجيرات والاغتيالات، فهل فكر مشجعو الإدارة الأمريكية بالفعل الأمريكي، ورد الفعل الإيراني على الشعب العراقي، وهو الرهينة على أرض لن تتوانى كل الأطراف عن استخدامها كساحة لتحقيق النصر؟ وماذا عن الشعب الإيراني؟ إذا كنا نحرص دائمًا على التمييز بين الحكومات العربية المستبدة والشعوب، فلمَ لا نفعل الشيء ذاته مع إيران؟

لحسن الحظ، أوقف الرئيس الأمريكي إطلاق الصواريخ على إيران قبل التنفيذ الفعلي بدقائق. لعل الرئيس الأمريكي، ترامب، أدرك أنه على وشك تجاوز خطوط اللعبة المحددة مع إيران.

مهما تكن الأسباب، هذه هي المرة الأولى التي يتنفس فيها الناس الصعداء، وأنا منهم، ليس إعجابًا بالإدارة الأمريكية؛ إذ إنها أساس البلاء الذي نعيشه، ولا حبًا بنظام الملالي الشمولي الذي لن يتقاعس عن إرسال أطفاله للموت، بعد أن يضع في أعناقهم «مفاتيح الجنة»، ولكن حرصًا على أهلنا في المنطقة كلها.

 

على شعوب الدول الغربية أن تثور أيضاً

هيفاء زنكنة

 

عن أعداد اللاجئين جراء الحروب والاحتلال والاضطهاد، بأنواعها، أخبرتنا المفوضية العليا لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة، منذ أيام، بأن إجمالي العدد وصل حوالي 71 مليون وهو أعلى رقم تسجله منذ 70 عاماً. مما يعني، إذا ما حاولنا تقريب الرقم الى الاذهان، أن هناك 37 ألف مشرد جديد، في العالم، يوميا، يلقى الكثير منهم حتفه وهو يحاول الوصول إلى أوروبا، بحثاً عن الأمان. مقابل ذلك، انخفض عدد المسجلين كلاجئين في مختلف الدول، حسب السياسة الحكومية المتبعة تجاه اللاجئين، مما يعني زيادة عدد مخيمات/ مجمعات/ دور القصدير/ كارافانات النازحين وتحولها، وهذه ظاهرة مرعبة، من مخيمات مؤقتة تفي بالحاجات الانسانية المؤقتة، الى أماكن بقاء دائمة، تمتد وتتوسع، عبر الاجيال، حاملة في أسس إنشائها معاني الظلم والتهميش والتمييز بأنواعه. ولأن بعض النازحين يولدون في المخيمات ويقضون معظمم حياتهم هناك، تصبح حياتهم ذاتها موسومة بكل ما هو غير مستقر، من التعليم والرعاية الصحية الى الطموح المستقبلي ومعنى الحياة.

من الحقائق المعروفة أن 40 في المئة من اللاجئين (خارج بلدانهم) والنازحين (داخل بلدانهم) في العالم، أي 28 مليون أنسان، هم من البلدان العربية، وبشكل أساسي من فلسطين (6) وسورية (13)، بالإضافة الى العراق (5) واليمن (2). وتعتبر مخيمات المهجرين الفلسطينيين المتوسعة، مع ولادة كل طفل، منذ النكبة عام 1948 وحتى اليوم، هي النموذج الأوضح لحياة انسان، يجبر على مغادرة بيته قسراً ويعيش حياة محكومة بمنعه من حق العودة جراء الاحتلال الاستيطاني.

أدى تجذر التعاون بين الدول الإمبريالية والأنظمة المستبدة في المنطقة العربية، في العقود الأخيرة، الى انتشار مخيمات النازحين واللاجئين على وجه خارطة المنطقة، مهددة إياها ببناء مدن من نوع جديد وولادة جيل جديد من السكان، سيكون همه الاول، إذا لم يتمكن من العودة إلى بيئته التي حرم منها، هو الهجرة بأي شكل كان وبأي ثمن كان.

ففي مخيم الزعتري، المقام في الأردن، لاستقبال اللاجئين السوريين منذ انتفاضة 2011، يولد يوميا ما بين 12-15 طفلاً، ويعيش فيه أكثر من 90 ألف لاجئ، ثلثهم ولدوا فيه، وحجمه بحجم مدينة في الأردن. ووصل عدد سكان مخيم دوميز 1، من السوريين في إقليم كردستان العراق، المنتصب أساسا لاستقبال ألف شخص فقط، إلى 33,000 نسمة، تبعه إنشاء مخيم دوميز 2، ثم مخيم ديباكة، الذي أنشئ لاستيعاب 5000 شخص، لكنه استقبل أكثر من 36 ألف في أقل من ستة أشهر مع زيادة النزوح من القرى والأقضية القريبة من الموصل.

أدى تجذر التعاون بين الدول الإمبريالية والأنظمة المستبدة في المنطقة العربية، في العقود الأخيرة، إلى انتشار مخيمات النازحين واللاجئين على وجه خارطة المنطقة

وإذا كانت القوى العظمى، بقيادة أمريكا، متفقة حول توفير الحماية للأنظمة العربية الاستبدادية التي تؤدي دورها في الهيمنة والاستغلال بالنيابة، مما يوضح حقيقة أن الغالبية العظمى لحالات اللاجئين طويلة الأمد في العالم موجودة في الدول النامية، فإنها تبدي بعض التفاوت الطفيف في قبولها للاجئين الهاربين من بلدانهم جراء سياستها الخارجية.

فبينما تميل الإدارة الأمريكية نحو تقليد الكيان الصهيوني في بناء جدران العزل العنصري ومنحه معنى أوسع ليشمل حظر حركة الشعوب، تمارس الحكومة البريطانية، الحليف الرئيسي لأمريكا في أوروبا، سياسة لا تقل عنصرية عن أمريكا، في قبولها اللاجئين، ولكن بأسلوب أقل عنجهية. ففي الوقت الذي استقبلت فيه بنغلادش، بميزانيتها القليلة، ما يزيد على المليون لاجىء من المسلمين الروهانجا، تضع الحكومة البريطانية شروطا قاسية لقبول اللاجئين وتخضعهم، لإجراءات تزيد من تدهور أوضاعهم النفسية، في حال قبولهم. من بينها إجراءات معيقة للم شمل الأسرة والذي نوقش قراره يوم 20 حزيران/يونيو الحالي، في البرلمان البريطاني، بعد أن طالب أحد النواب بإعادة النظر فيه وإجراء تعديلات عليه ليتماشى مع قوانين اللجوء الدولية، متسائلاً عما إذا كانت المملكة المتحدة والمجتمع الدولي قد قاما فعلاً بكل ما في وسعهما لحل هذه المشكلة.

هذا النقاش يقودنا الى التساؤل حول امكانية حل أية مشكلة كانت بدون معرفة الاسباب المؤدية اليها ومن ثم معالجتها، وما لم تتغير وجهة النظر الرسمية الأمريكية – الأوربية تجاه اللاجئين لتعترف بأنهم مضطرون لمغادرة بلدانهم لا حبا أو طمعا بأمريكا وأوروبا بل للمحافظة على حياتهم وحياة أبنائهم، من احتلال وحروب ونزاعات، غالباً ما يكون سببها هذه الدول نفسها. وبما أن هذا الاعتراف بعيد المنال، الى حين، ونظراً لتفاقم أعداد وسوء أوضاع اللاجئين، قدمت الأمم المتحدة وعديد المنظمات الدولية العاملة في هذا المجال برامج تؤكد على الالتزام بالتضامن الدولي وتقاسم المسؤولية، وبدأت بتنفيذ بعض بنودها وإن لا يزال معظمها مجرد حبر على ورق، خاصة بعد أن أصبحت مأساة اللاجئين تجارة رائجة ومصدر ربح لبعض الدول والشركات الكبرى والأفراد بالإضافة الى الفساد المالي الذي يلتهم أموال المعونات والمنح عبر الوسطاء.

تقترح لجان الأمم المتحدة أن الحل الوحيد هو العودة الطوعية، وان تعمل الحكومات الوطنية على احترام مبدأ العودة الطوعية، وضمان أمن العائدين، والحماية الكاملة لحقوقهم. محذرة من أن عودة اللاجئين الى الوطن قبل الأوان نتيجة عوامل الدفع من بلدان لجوئهم سينتهي بهم المطاف، على الارجح، في مجمعات مؤقتة بديلة، أو يعودون الى بلد اللجوء، أو أن يصبحوا مهاجرين غير نظاميين. كما يمكن أن تكون العودة غير الطوعية عاملاً مزعزعاً للاستقرار في بلدان الأصل، مما يعجّل بتجدد التوتر وحتى تجدد العنف. هذه الصورة تنطبق، أيضاً، على عودة النازحين إلى مناطقهم التي أجبروا على مغادرتها بعد تهديم بيوتهم لأسباب طائفية أو دينية أو عرقية.

ان ما تطرحه برامج الأمم المتحدة من حلول ستساعد على حل مأساة اللاجئين والنازحين ولكن فقط حين تتوافر إرادة سياسية حقيقية لمعالجة القضايا التي أدت الى النزوح واللجوء أساسا، من قبل المجتمع الدولي والحكومات الوطنية، وأن تعمل كل الجهات المعنية على وضع حد لمنهجية اعتبار المنطقة العربية سوقا لتصريف السلاح وثمنا لحماية الحكام الفاسدين. وهذا لن يتحقق بانتفاضات شعوبنا فقط، فقد انتفضت وثارت الشعوب العربية بما فيه الكفاية سواء ضد الاستعمار في حقبة ما قبل التحرر الوطني وضد الاستبداد في حقبة ما بعد التحرر. لن يتجسد الحل لإنهاء الظلم وتحقيق العدالة، على كل المستويات، ما لم تنتفض شعوب الدول الغربية، أيضاً، على حكّامها، لتغيير سياستها الخارجية والعمل سوية، مع بقية شعوب العالم، من أجل تغيير حقيقي.

 

العنف الجنسي

لا يقتصر على المرأة فقط

هيفاء زنكنة

 

لا يمكن للقوات الأمنية، بأمرة الأنظمة القمعية، إلا أن تلجأ إلى أكثر الأساليب انحطاطا لتكميم الأفواه والهيمنة على الشعب. هذه حقيقة لم يعد بالإمكان التشكيك بها، لأنها من صلب وجود هذه الأنظمة التي تتغذى على العنف، بأنواعه، وأكثره سفالة هو الاغتصاب الذي لم يعد يقتصر على النساء كسلاح لمنعهن من المشاركة بأي نشاط عام بل وامتد بممارساته الكريهة ليشمل الأطفال والرجال، في بلدان عديدة، تمزقها الحروب أو حين تشهد تظاهرات احتجاجية، مهما كانت سلمية مسارها. وما حدث في السودان، في الأسابيع الأخيرة، نموذج لسلوك الأنظمة القمعية حيث ارتكبت وحدة قوات التدخّل السريع «الجنجويد»، المتنفذة ضمن وحدات الأمن، والتابعة لنائب رئيس المجلس العسكري محمد حمدان دقلو، عديد الانتهاكات وبضمنها اغتصاب نساء ورجال، أثناء فض الاعتصام أمام مقر القيادة العامة للجيش منذ 3 يونيو/حزيران، حسب مصادر متعددة.

يكاد لا يخلو بلد عربي من الجرائم الوحشية ذاتها التي نشهدها، حاليا، في السودان، وإن كان على مستويين هما بسبب المشاركة في التظاهرات أو الاعتقال. فسجل العراق وليبيا وسوريا، حافل، يدل على خوف الأنظمة المزمن من شعوبها وحاجتها الماسة إلى سلب كرامة الشعوب بأي أسلوب كان. وليس هناك ما هو أكثر نجاحا، بالنسبة إليها، من الهيمنة على أجساد الضحايا لسحق الكبرياء وإذلالهم. وقد شهد العقد العربي الأخير، تطور آلية الحد من مشاركة أفراد الشعب، خاصة المرأة، في أي حراك اجتماعي، من التهديد بالضرب أو الاعتقال أو إعاقة الحركة إلى استخدام انواع كانت نادرة، نسبيا، كالاختطاف والقتل والاغتصاب. ففي العراق، أصبح اختطاف المتظاهرين وضربهم ومن ثم إطلاق سراحهم والسماح لهم بالحديث عما عانوه، ليكونوا أمثولة تخيف الآخرين، شائعا. كما، بين الحين والآخر، اختطاف أحد الناشطين وتغييبه، لتصل درجة الترويع حدا أقصى. وإذا كانت المرأة العراقية قد استحوذت على حصة كبيرة من التهديد بالقتل أو الاغتصاب، وتنفيذهما، فعليا، في حالة المعتقلات والسجينات، منذ غزو العراق عام 2003، فإن القتل والاغتصاب طالا الرجال أيضا، في سجون الاحتلال الأمريكي والبريطاني والحكومات العراقية على حد سواء. حيث أصبح التهديد بالاغتصاب أو الاغتصاب الفعلي، ضد الاثنين، معا، ليمس «الشرف» كقيمة اجتماعية وأخلاقية عالية، متناميا بشكل طردي مع ازدياد شراسة الأنظمة في استقتالها للدفاع عن مصالحها، وثقة الجناة بعدم محاسبتهم وتقديمهم للعدالة.

ويتطابق ما ارتكبه الجناة في لسودان ضد المرأة المشاركة في التظاهرات مع المرأة المصرية التي عاشت التجربة نفسها أثناء اعتصامات ميدان التحرير وأماكن أخرى، واحيانا لمجرد وجودها في الأماكن العامة، حيث انتشرت مجموعات التحرش التي تعتدي على الفتيات بطريقة منظمة مما دفع الحكومة إلى سن قانون يجرّم التحرش الجنسي بعد تزايد الضغوط لمكافحتها.

إذا كانت المرأة العراقية استحوذت على حصة كبيرة من التهديد بالقتل أو الاغتصاب وتنفيذهما فعليا، في حالة المعتقلات والسجينات، منذ غزو العراق عام 2003، فإن القتل والاغتصاب طالا الرجال أيضا

ويُعدّ العنف الجنسي ضدّ الرجال والفتية في سوريا من بين انتهاكات حقوق الإنسان التي قام «مشروع جميع الناجين» والأمم المتحدة بتوثيقها، بدءًا من سبتمبر/أيلول 2017 وحتى أغسطس/آب 2018، ليضاف إلى قائمة العنف الجنسي ضد المرأة والفتيات. وهي تفاصيل قلما يتم التطرق إليها من قبل الضحايا والمنظمات الحقوقية معا. حيث يقتصر عمل المنظمات على توثيق حالات العنف ضد الفتيات والنساء باعتبار الجناة رجالا، بالإضافة إلى «الصور النمطية السائدة حول «الرجولة» التي تُعزّز التصورات في أوساط العاملين في المجال الإنساني بأن بإمكان الرجال رعاية أنفسهم وأنهم ليسوا بحاجة إلى المساعدة»، كأن العالم كان بحاجة إلى رؤية صور التعذيب في «أبو غريب» وخاصة المجندة الأمريكية ليندي انجلاند بابتسامتها المنتشية وسط الضحايا العراة، ليعرف أن الجلاد واحد، أيا كان جنسه. ولا فرق في تأثير هذه الانتهاكات الجسيمة على نفسية الضحايا. حيث يعانون، حسب التقرير، من الإحساس بالعار، وفقدان الثقة بالنفس، واضطرابات النوم، والإحساس بقلّة الحيلة، والشعور بالارتباك، والتفكير في الانتحار. وينتاب الناجون من الرجال الإحساس بفقدان الذكورة ولوم الذات. وتُعزى هذه المشاعر إلى الثقافة المجتمعية والتوقعات السائدة من الرجال والفتية، باعتبارهم مسؤولين عن حماية أنفسهم وعوائلهم.

تبين شهادات عديد الضحايا سواء من المشاركين بالتظاهرات أو المعتقلين السياسيين بالإضافة إلى المنظمات الحقوقية المحلية والدولية أن الخطوة الأولى لوضع حد لهذه الانتهاكات البشعة هي كسر حاجز الصمت والعمل على مقاضاة الجناة. قد لا يكون هذا سهلا، لمن يعيش في ظل نظام قمعي أو احتلال، إلا أنه حق إنساني وقانوني وأخلاقي يجب عدم التخلي عنه مهما طالت السنين، إن لم يكن من أجل الضحايا أنفسهم فمن أجل أبنائهم، لئلا تتكرر المأساة. ولدينا في تقدم ثلاثة مواطنين كينيين، يمثلون آلاف الضحايا، بقضية ضد الحكومة البريطانية لأنهم تعرضوا للتعذيب من قبل قوات بريطانية أثناء انتفاضة الماو ماو في خمسينيات القرن الماضي، سابقة تستحق التقليد والتقدير. فقد ارتكبت هذه الجرائم في فترة الاحتلال البريطاني لكينيا قبل أكثر من ستين عاما، لكن الاغتصاب من الجرائم التي لا تسقط بمرور أي زمن، وقد استغرقت القضية سنوات، إلا أن الضحايا رفضوا التخلي عن حقهم، ونجحوا في أجبار الحكومة البريطانية عام 2013 على دفع تعويضات والاعتراف بممارسة التعذيب ضدهم ومن بينهم رجل تعرض للإخصاء وامرأة تعرضت للاغتصاب. وقدمت المحكمة سابقة قانونية من ناحية الإقرار بتجريم التعذيب الذي مورس على الضحايا، ذكورا أو أناثا، باعتباره عنفا جنسيا وليس جسديا فقط. ويوضح مركز العدالة الانتقالية الدولي مصطلح «الانتهاكات الجنسية» بأنه يمكن أن يأخذ أشكالا متعددة، بما في ذلك الاغتصاب والاغتصاب الجماعي والاستعباد الجنسي والتعرية القسرية والإجبار على القيام بأفعال جنسية مع الآخرين. وهو تعريف ينطبق، بكل بساطة، على ممارسات سلطة الاحتلال الأمريكي ـ البريطاني والحكومات العراقية المتعاقبة، بالإضافة إلى بقية الأنظمة العربية القمعية. وسيبقى انتهاك الجسد أداة لسلب الكرامة الإنسانية، ما لم تتوصل الجماهير إلى التخلص من الأنظمة القمعية، وإقامة حكم يمثلها، تكون واحدة من مهامه الأولى مقاضاة الجناة، وخاصة أفراد قوات الأمن الذين يفترض بهم حماية الناس.

كاتبة من العراق

 

 

المظاهرات السلمية

بين لندن والسودان

هيفاء زنكنة

 

أكد إطلاق النار على المتظاهرين في الخرطوم وسقوط الضحايا ما نعرفه جيدا عن وحشية الأنظمة الاستبدادية المستندة إلى قوة السلاح، وخوفها العميق من أي حراك شعبي قد يستهدف هيمنتها، مهما كان مسالما. أكد، أيضا، أن الشعوب العربية تخوض مواجهة يومية، إزاء أنظمة تخاف مطالبة الشعوب بحقوقها وتتمترس خلف شعارات تسرقها من الشعوب نفسها، لتتفوه بها من على منصات مبنية من أجساد الضحايا. إنها أنظمة تعمل، بشكل منهجي، منذ عقود، على تغيير مفهوم « العدو». لم يعد العدو احتلالا أو استعمارا أو هيمنة أمبريالية، بل العدو هو الشعب، فهي تخاف شعوبها أكثر من الاحتلال والاستعمار وكل ما تربينا عليه من مفاهيم حول الوطن والوطنية. الشعب بمنطق الاستبداد و»الحرب على الإرهاب»، هو من يهدد الأمن وبالتالي يتوجب التخلص منه، بكل الطرق الممكنة.

وباستثناء الحالة الجزائرية الحضارية التي لم يستخدم فيها العنف ضد المتظاهرين قط في أشهر الاحتجاج الأربعة فإن القمع الوحشي، والتهجير القسري والاغتيالات هي ملامح أولية لخارطة انتهاكات مخيفة تعرض ويتعرض لها المواطن العربي في فلسطين والسودان واليمن والعراق والسعودية ومصر وسوريا والبحرين وليبيا. لينضم بذلك إلى الواقفين (بالكاد) تحت مظلة «عولمة العنف» في إيران وتركيا ومنها إلى افريقيا ودول أمريكا اللاتينية، على اختلاف درجات العنف، حسب تنويعات وابتكارات الأجهزة الأمنية المحلية والدولية.

من خراطيم المياه إلى الرصاص المطاطي إلى رش المتظاهرين بالرصاص الحي في العراق، واستهدافهم بواسطة القناصين والطائرات بلا طيار في غزة لتكون النتائج، على الرغم من استمرار الجماهير بالاحتجاج بطرق سلمية، غالبا، أما مخيبة للآمال ومحبطة للتوقعات أو بعيدة المدى، من ناحيتي التراكم الكمي واثارة الانتباه عالميا، ولا تمنح المتظاهرين حلولا تضع حدا لمعاناتهم، إلى حين، ليتمكنوا من استعادة قواهم وتوفر لهم فسحة للتفكير على المدى البعيد.

وإذا كانت التظاهرات مرتبطة بأذهاننا بمحاربة الاستعمار، وحاضرنا بمحاربة متلازمة الأنظمة الاستبدادية والاحتلال، فإن اللجوء إليها لا يقتصر على بلداننا، بل إنها أداة طالما استخدمت، ولا تزال، من قبل شعوب البلدان التي استعمرتنا للاحتجاج والمطالبة والدعوة إلى التغيير، مع فارق جوهري وهو أن هذه الشعوب تنزل إلى شوارع مدنها وهي تشعر بالأمان، وعلى الأغلب بأجواء احتفالية تزخر بالموسيقى والغناء وارتداء الأزياء التنكرية والأقنعة الساخرة وترفع شعارات تجمع ما بين الطرافة والمطالب الجادة. فهي تعلم بأن الشوارع والمدن والساحات العامة والبلاد بما فيها ملك لها، وأن الشرطة ( باستثناء حالات نادرة) موجودة لحمايتها.

شاهد المتظاهرون، عبر شاشات التلفزيون، قصف العراق ونهبه وتخريبه وسقوط ما يزيد على المليون قتيل ليعيش العراقيون حتى اليوم نتائج حرب عدوانية مبنية على الأكاذيب

على الرغم من هذه الفروق الأساسية بيننا و»بينهم»، يشير رصد عدد من المظاهرات الجماهيرية الحاشدة، في بريطانيا وأمريكا، مثلا، إلى بروز سؤال مهم يواجه منظميها المثابرين وهو عن مدى قدرة المظاهرات، كأداة فاعلة، على تغيير السياسات الحكومية؟ هل تؤدي إلى إحداث تغيير حقا؟ أم أنها مجرد طقس من طقوس الديمقراطية التي يجب ممارستها من جهة، ومنبع رضى للناس لأنها تمنحهم الإحساس بالمساهمة بعمل جماعي أو كونه مجرد تنفيس للغضب بحضور آخرين ممن يشاركونهم الرأي والموقف؟

مظاهرتان كبيرتان تستحقان النظر لمعرفة القدرة على التغيير الفوري. تمت الاولى في 15 فبراير/شباط 2003، أي قبل إعلان الحرب على العراق بشهر. وضمت حوالي 35 مليون شخص من جميع أنحاء العالم، خاصة في أوروبا وأمريكا، وكانت أكبر تظاهرة احتجاجية في تاريخ البشرية، تتم قبل نشوب الحرب وليس بعدها. وصفها صحافي نيويورك تايمز باتريك تايلر بأنها أثبتت أن هناك «قوتين عظيمتين في الكون هما الولايات المتحدة، والرأي العام في جميع أنحاء العالم». حينها، شهدت لندن خروج مليوني محتج إلى الشوارع معلنين رفضهم لشن الحرب. «ليس باسمنا»، كان الشعار الاول الذي يدين رغبة الحكومة البريطانية بالوقوف جنبا إلى جنب مع الإدارة الأمريكية في غزوها العراق. فهل حققت المظاهرة هدفها؟ وماذا كان رد فعل الحكومة البريطانية وهي الممثلة للشعب في بلد يعتبر من أمهات الديمقراطية في العالم؟

لم يتم إطلاق الرصاص الحي على المتظاهرين. إلا أن رئيس الوزراء توني بلير فعل ما هو أسوأ من ذلك. أهان المتظاهرين بقوله إن من حقهم التظاهر فبريطانيا بلد ديمقراطي، معتبرا غضب وكراهية الناس له ثمنا للقيادة وتكلفة قناعته بما يفعل. وبعد أيام، نفد ما أراده. شاهد المتظاهرون، عبر شاشات التلفزيون، قصف العراق ونهبه وتخريبه. وسقوط ما يزيد على المليون قتيل، ليعيش العراقيون، حتى اليوم نتائج حرب عدوانية مبنية على الأكاذيب.

المظاهرة الثانية هي التي تمت في الأسبوع الماضي، في لندن ومدن بريطانية أخرى، احتجاجا على زيارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، واستقباله الاحتفالي الرسمي الكبير هو وعائلته من قبل الملكة. شارك في المظاهرة آلاف المحتجين الذين ساروا حيث كان ترامب مجتمعا برئيسة الوزراء البريطانية. أراد المتظاهرون أن يبلغوهما بأن وجود ترامب غير مرحب به وأن الدعوة الرسمية وما صاحبها من احتفاء لا يمثلان الشعب. كان الجو احتفاليا، وكان لحضور الشعارات المنددة بسياسة ترامب تجاه فلسطين والاعتراف بالقدس عاصمة للكيان الصهيوني مكانته، واختتم رئيس حزب العمال جيريمي كوربن المظاهرة بخطاب ندد فيه بسياسة ترامب العنصرية اللا إنسانية.

حققت المظاهرة نجاحا على مستويين. الأول هو تحديد حركة ترامب في العاصمة ومنعه من التجوال فيها بسيارته المصفحة الفارهة إلا لمسافة قصيرة جدا، واقتصر تنقله على الهليكوبتر خوفا على حياته. مما يذكرنا بهبوطه الليلي، بطائرة مطفأة الأضواء، أثناء زيارته القاعدة الأمريكية، في بغداد، نهاية كانون الأول/ ديسمبر 2018، وكيف عبر عن امتعاضه وحزنه لطريقة الزيارة السرية. المستوى الثاني لنجاح المظاهرة هو إطلاقه واحدة من أكاذيبه عند سؤاله عن رد فعله تجاه المتظاهرين فأجاب نافيا وجودهم. كان حجم الكذبة كبيرا إلى حد دفع حتى مراسلي أكثر القنوات التلفزيونية تحيزا إلى تقسيم الشاشة، إلى نصفين يبين أحدهما ترامب وهو يكذب والنصف الثاني آلاف المتظاهرين تحت بالون وردي يمثل ترامب وهو يبكي كالطفل. صحيح أن هذه المظاهرات لم تنجح بمنع الزيارة، كما لم تمنع إقامة حفل التكريم إلا أنها نجحت في تحديد حركة رئيس أقوى دولة في العالم وساهمت بتعرية أكاذيبه.

ولأن الحكام الفاسدين يتغذون على الأكاذيب شاهدنا الشاشة ذاتها وقد تم تقسيمها إلى نصفين لنقل أخبار السودان. حيث العصيان المدني الشامل والشوارع الخالية تماما، كاستفتاء سلمي ضد المجلس العسكري، مقابل متحدث ترامبي الهوى باسم المجلس قائلا إن الحياة طبيعية ولا تغيير!

كاتبة من العراق

 

هل تهيئ أمريكا

ملفات ابتزاز حلفائها؟

هيفاء زنكنة

 

تختمر في أجواء استعدادات الادارة الأمريكية لشن حرب أخرى بعيدا عن أراضيها، أسئلة ملحة حول مدى وحجم التعاون أو الشراكة التي غالبا ما يتم ادعاؤها من قبل الادارة الأمريكية من جهة والحكام العرب من جهة أخرى. ولعل أكثر التساؤلات أهمية، هو مدى ودرجة التعاون الاستخباراتي بين وكالة الاستخبارات الوطنية الأمريكية واجهزة الاستخبارات العربية، وبالتحديد عما اذا كانت وكالة الأمن القومي الأمريكية (NSA) تتقاسم آلية استخدام المعطيات والبيانات الحديثة المسماة « آر تي – آر جي» مع الدول العربية؟ ثم ما هي هذه الآلية التي باتت تربط الاستخبارات الأمريكية بمعظم الدول الغربية بلا استثناء؟ وما هي أهميتها بالنسبة الى الدول العربية؟ وهل تستخدمها أمريكا للحرب ضد الإرهاب فقط أم لإعداد الملفات لابتزاز حلفائها أيضا؟

ليس سرا قدرة الولايات المتحدة الأمريكية على مراقبة المكالمات الهاتفية للاشخاص وتجميع المعلومات عنهم ومن ثم اتخاذ اجراء رادع بحقهم تحت ذرائع مختلفة، لعل اكثرها استخداما، منذ الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول هو « الحرب على الإرهاب». ويعود الفضل، بشكل خاص، لاثبات ما كان يعتبر نظرية مؤامرة يتداولها الموسومون بكراهية أمريكا الى أدوارد سنودن، موظف وكالة الاستخبارات الأمريكية ( سي آي أي) السابق الذي سرب تفاصيل برنامج مراقبة الولايات المتحدة للهواتف والإنترنت، والعسكري مانينغ واسانغ مدير ويكيليكس. كل واحد منهم يدفع، منذ سنوات، ثمن إظهار الحقيقة سجنا ونفيا، وفي حالة أسانج مواجهة ما لا يقل عن عشرين تهمة سيحاكم جراءها، اذا ما قامت السلطات البريطانية بتسليمه الى أمريكا.

كان لتسريبات سنودن وقع كبير على الادارة الأمريكية لأنها فضحت وأثبتت دورها في المراقبة اليومية المستمرة للمواطنين الأمريكيين بالإضافة الى المراقبة في فرنسا وايطاليا والمانيا. وتشير اعادة قراءة الوثائق المسربة من قبل موقع « انترسيبت» الاستقصائي المعروف بباحثيه، الى ان أمريكا ليست البلد الوحيد الذي استفاد من هذه الامكانية بل ان ما اهملته القراءة الاولية للوثائق، ويعاد تقييمه الآن، هو جانب التعاون المتبادل بين دول لم يكن معروفا عنها استخدام ذات الآلية مثل النرويج.

أكثر التساؤلات أهمية، هو مدى ودرجة التعاون الاستخباراتي بين وكالة الاستخبارات الوطنية الأمريكية وأجهزة الاستخبارات العربية

فضح سنودن قوة رقمنة تقاسم الاستخبارات، ووجود مركزين افتتحا بقاعدة بوغرام بافغانستان في تشرين الثاني/نوفمبر 2005. حيث بدأت هناك مهمة تطوير ما يعرف بـ « آر تي – آر جي» أي نظام معالجة البيانات التي أدخلت في عام 2007، من قبل وكالة الأمن القومي الأمريكية (NSA)، خلال احتلال العراق وأفغانستان، ومع تزايد قوة المقاومة العراقية. هذا النظام قادر على تخزين البيانات من مصادر عديدة، مثل الهواتف المحمولة والغارات والاستجوابات والإشارات التي يتم جمعها من أجهزة الاستشعار الأرضية، وكذلك بواسطة المنصات المحمولة جواً والطائرات بدون طيار والأقمار الصناعية. بواسطته أصبح لمحللي الاستخبارات، لأول مرة، القدرة على الوصول مباشرة إلى قواعد بيانات وكالة الامن القومي، ودمجها مع المعلومات الجديدة والبحث فيها وتحليلها. ومن ثم، وهذا هو الاهم، تبادلها مع القادة العسكريين المحليين في ذات الوقت الذي يتم فيه حدث ما ( الوقت الفعلي)، ويتطلب اتخاذ اجراء سريع، كالقصف أو قائمة بالأهداف المستهدفة بدون اللجوء الى بيروقراطية الأخذ والرد وانتظار الاوامر المكتوبة. واذا كانت افغانستان هي المختبر الاول لتجربة النظام المستحدث، حيث تفتخر القيادة الأمريكية بانها قتلت 6534 « عدو» في عام واحد، متجاهلة أعداد الضحايا المدنيين، فان العراق هو المكان الذي تم فيه التطبيق الاحدث لما وصفه الجنرال دافيد بترايوس، القائد العسكري للعراق سابقا، ورئيس السي آي أي السابق، بانه « اهم انجاز عسكري تم استخدامه حتى الآن.. وعامل رئيسي في نجاح عمليات « مكافحة التمرد»، متجاهلا هو الآخر مئات الآلاف من الضحايا المدنيين. وجاء النجاح، حسب بترايوس، بعد ان مكّن النظام وكالة الامن القومي ليس على مراقبة الاتصالات من العراق فحسب، ولكن أيضًا للهيمنة على أجهزة الهاتف والكمبيوتر العراقية، لفتح بوابة الوقت الحقيقي لتصبح كل المعلومات المتعلقة بالعراق متوفرة للمحللين والعسكر.

من أجل تغطية بغداد، حسب تقرير « انترسيبت»، كان يجب أن يكون النظام قادرًا على استيعاب 100 مليون «حدث مكالمة» أو سجلات بيانات وصفية، ومليون « صوت» أو تسجيلات للمكالمات الهاتفية، و 100 مليون سجل بيانات وصفية أخرى عبر الإنترنت – يوميًا. كما اقتضى تحولا تدريجيا في تجميع الاشارات التقليدية من جمع وتخزين فقط ما هو مطلوب للعثور على «الإبرة في كومة قش» إلى « تجميع كومة قش». أي جمع كل شيء وخزنه. وحسب الصحافي الاستقصائي غلين غرينوالد (15 تموز/يوليو 2013): « أن وكالة الأمن القومي تحاول جمع ومراقبة وتخزين جميع أشكال التواصل البشري». مما يعني انها تقوم بتحليل « نمط حياة» الاشخاص لا للاستهداف الآني فحسب بل لحين الحاجة. لذلك بلغ عدد المحللين بالعراق خمسة آلاف، يتم تمريرهم كمستشارين وفي افغانستان ثمانية آلاف.

استوقفني، كمثال على العمل الاستخباري، ما جاء ذكره في احد التقارير التي سربها سنودن والمتوفرة الآن على الانترنت، حيث فشل أحد المحللين في تحديد مكان تواجد عراقي « مشكوك بأمره»، لإلقاء القبض عليه، لأنه كان يتعمد تفكيك هاتفه الجوال حالما يقترب من مكان سكنه بحي الشعلة ببغداد، فقام المحلل بمتابعة اشارات هاتف زوجته وتكوين صورة عن تحركاتها وروتين ايامها ومن ثم ربطها بتحركات زوجها، الى ان تم القاء القبض عليه.

يعيدنا المثال الى التساؤل حول استعداد أمريكا لتوفير هذه الانظمة الاستخبارية المتقدمة لأجهزة استخبارات الدول العربية؟ وما هو دور الكيان الصهيوني وموقفه ازاء ذلك؟ وماذا عن الحكام والمسؤولين العرب الذين يرون في أمريكا حليفا لا يمكن الاستغناء عنه، إزاء نظام الهيمنة الجديد نسبيا إزاء مفهوم السيادة الوطنية؟ ما هي الاسرار التي سجلتها انظمة الاستخبارات الذكية عن نمط حياتهم وحياة افراد عوائلهم ربما ليس للتخلص منهم الآن ولكن… ما هي ضمانات عدم استخدام البيانات والمعطيات المحفوظة عنهم ككومة القش مستقبلا؟ وهل نحن هنا أمام مفهوم اوسع للابتزاز الامبريالي السهل بالجملة لكل من هو في موقع سلطة؟

كاتبة من العراق

 

 

كيف تشتري صمت

الحكومة البريطانية؟

هيفاء زنكنة

 

من الصعب، هذه الايام، العثور على خبر رسمي أو غير رسمي في أجهزة الاعلام البريطانية عن العراق. الا ان الشهور الأخيرة شهدت بعض المتابعة من جهات رسمية. فقد طرح أسقف كوفنتري، في الاسبوع الماضي، سؤالا على الحكومة، عن تقييمها للتقارير التي تفيد بأن حوالي 45000 طفل في مخيمات النازحين العراقيين، لا يحملون وثائق هوية مدنية، وما هو الموقف من الحكومة العراقية لضمان عدم استبعاد هؤلاء الأطفال من المواطنة والمجتمع العراقي في المستقبل؟ فكان جواب اللورد أحمد وزير الدولة، مصاغا بعناية دبلوماسية معتادة، بأن الحكومة البريطانية على دراية بالتقارير الإعلامية، وإن لم يتم التحقق من الأرقام المذكورة. وإن الحكومة مدركة لهشاشة وضع هؤلاء الأطفال ومخاطر استبعادهم من الجنسية العراقية والمجتمع في المستقبل. لذلك تستمر الحكومة ببيان قلقها للسلطات العراقية بما في ذلك أهمية الاعتراف الرسمي بجميع الأطفال. والمعروف ان عدد الأيتام، بالعراق، وصل حوالي 800 ألف طفل حتى نهاية 2017.

آخذين بنظر الاعتبار ان الحكومة البريطانية برئاسة توني بلير وقفت جنبا الى جنب مع الادارة الأمريكية برئاسة جورج بوش، مستخدمة «تحرير العراق»، وإرساء حقوق الانسان، من بين ذرائع الحرب، وان معظم الوزراء واعضاء البرلمان، الحاليين، يعترفون بان شن الحرب كان خطأ تاريخيا، سيكون السؤال البديهي: لم لا تتخذ الحكومة اجراءات ردع أكثر فاعلية، بصدد انتهاكات حقوق الانسان التي تمارسها الحكومة العراقية، ضد مواطنيها، والتي تمس بشكل خاص الشرائح الأكثر ضعفا في المجتمع كالاطفال؟ ما الذي يمنع الحكومة البريطانية من اتخاذ موقف واضح صريح، تجاه حكومات ما بعد «التحرير»، على الرغم من كثرة التقارير المحلية والدولية عن انتهاكات حقوق الانسان، وبضمنها تقارير منظمة الأمم المتحدة؟ ثم ما هي آلية الضغط التي تتحدث عنها الحكومة البريطانية فيما يخص الالتزام بحقوق الانسان القانون الدولي؟ وهل هناك سابقة في هذا المجال؟

هناك آليات ضغط عديدة بامكان الحكومة البريطانية اللجوء اليها اذا شاءت. ونعم هناك سابقة تتعلق بالعراق. حيث « شهد عام 2002 نشرًا غير مسبوق لوثيقة عن حالة حقوق الإنسان في بلد واحد. في تشرين الثاني/نوفمبر، نشرت وزارة الخارجية ملفًا عن انتهاكات حقوق الإنسان، بعنوان «صدام حسين: الجرائم وانتهاكات حقوق الإنسان – تقرير عن التكلفة الإنسانية لسياسات صدام». جاء فيه تفاصيل عن التجاهل المنهجي للنظام العراقي لحقوق الإنسان لمواطنيه، بما في ذلك استخدامه للتعذيب واضطهاد الأقليات وعمليات القتل التعسفي المتكررة التي تحدث هناك». اذا كانت الحكومة البريطانية قد وقفت بهذا الشكل «الانساني الرائع» ضد سياسة النظام العراقي السابق في انتهاك حقوق الانسان لمواطنيه، لماذا السكوت الآن، وانتهاكات حقوق الانسان وصلت حدا لا يمكن السكوت عليه؟

هناك عدة أسباب، من بينها:

ما الذي يمنع الحكومة البريطانية من اتخاذ موقف واضح صريح، تجاه حكومات ما بعد «التحرير»، على الرغم من كثرة التقارير المحلية والدولية عن انتهاكات حقوق الانسان

أولا: ان القوات العسكرية البريطانية، نفسها، منغمسة في كثير من الخروقات وبعضها يصل حد ارتكاب جريمة حرب. وتعمل الحكومة جاهدة على تشريع قانون يمنع محاسبة القوات مهما كانت الجرائم التي ارتكبها افرادها في البلدان المحتلة.

ثانيا: عقود النفط الموقعة بين شركات النفط البريطانية ووزارة النفط العراقية لصالح الشركات وفي جو الفساد المستشري بلا محاسبة.

ثالثا: العقود التجارية، اذ تشهد الصادرات من السلع والخدمات البريطانية إلى العراق ارتفاعا مضطردا، بمعدل زيادة عشرة بالمئة سنويا. وكان وزير شؤون الشرق الأوسط، قد زار العراق نهاية كانون الثاني/يناير، مؤكدا: «تجمع بيننا طائفةٌ من الأولويات المشتركة والمتزايدة باطراد، ومن بينها الأمن والتنمية والسياسة الخارجية والتجارة». تبعه وزير التجارة الدولية، معلنا أثناء زيارته العراق في 14 نيسان/ أبريل أن المملكة المتحدة ستوفر دعما إضافيا قدره مليار جنيه إسترليني للشركات البريطانية العاملة في العراق.

رابعا: تصدير السلاح والمعدات العسكرية. هناك زيادة كبيرة في عدد تراخيص التصدير. فخلال أربع سنوات فقط، من 2013-2017، زاد إجمالي عدد التراخيص أكثر من 12 مرة من 46 إلى 559 ترخيصا.

خامسا: تعتبر العقود التي حصلت عليها الشركات الامنية العسكرية البريطانية، بعد الغزو، من غنائم الحرب الكبيرة. هناك 80 شركة عسكرية بريطانية تعمل في العراق، ويقال إن بعض الشركات الكبرى تدين بوجودها للأرباح المكتسبة في الحربين ضد العراق وأفغانستان. ولوجود الشركات الامنية أذرع متعددة تمتد ما بين توفير الحماية والأمن الى القتال كمرتزقة، وان تفضل الشركات والدول التي تستأجرها عدم الاشارة الى ذلك. ما تفضل ذكره للتعريف بنفسها، كما تفعل شركة «أيجز» البريطانية الشهيرة، هو «شركة بريطانية للأمن وإدارة المخاطر مقرها لندن… لدينا خبرة كبيرة وقاعدة عملاء عالمية… نحن مزود أمن رئيسي للحكومة الأمريكية». وتؤكد الشركة انها تعمل في العراق منذ عام 2004 ولديها «مجموعة كبيرة من عملاء قطاع النفط والغاز». تضاهيها بالعمل في حقول نفط البصرة، شركة «جي فور أس» البريطانية ذات التاريخ الطويل في إدارة نقاط التفتيش وسجون الاحتلال الصهيوني، حيث يتواصل التعذيب والمعاملة اللا إنسانية المهينة. وهي ذات الانتهاكات التي تعرض لها المواطن العراقي بالاضافة الى تدمير الممتلكات، وإساءة استخدام السلطة، وقتل المدنيين، كما في ساحة النسور ببغداد. وللشركة بالبصرة لوحدها 500 مسلح بأحدث الاسلحة و200 مصفحة عسكرية. وكان رئيس الوزراء السابق حيدر العبادي قد منحها عقدا طويلا بعد ان تم الغاء عقود عالمية معها بسبب تاريخها السيئ.

يشير تقرير لموقع «رصد العنف المسلح» الى ان الشركات الأمنية البريطانية تعمل في 17 دولة من بين 30 دولة تدرجها وزارة الخارجية تحت تصنيف دول لا تراعى فيها حقوق الإنسان، وبضمنها العراق. فما الذي تفعله هذه الشركات هناك؟ ما هي الرقابة الموجودة في هذه العمليات، خاصة في بعض الأماكن التي تتورط فيها الحكومة في انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان؟ ومن الذي يدفع هذه الشركات؟ يجيب التقرير: لا نعرف. والسبب هو انها تمارس اعمالها وحتى عناوينها واسماء الشركات بطرق تضليلية، كما ان تأسيسها، غالبا، من قبل عسكريين سابقين او بالتعاون مع عسكريين بريطانيين، يجعل التوصل الى تشعبات اعمالها ومدى تدخلها بالشؤون الداخلية للبلدان التي تستأجر فيها، صعبا جدا.

أما ما يرش الملح على الجروح فهو اعلان وزير شؤون الشرق الأوسط، اليستر بيرت عن تخصيص 16 مليون جنيه إسترليني لصندوق الإصلاح وإعادة الإعمار في العراق. وهو مبلغ يقل عن واحد بالألف لايزيد عن كونه فتاتا بالمقارنة مع مما غنموه من شن الحرب وتدمير البلد، و ما يغنمونه وهم يعبرون عن «قلقهم» على وضع اطفال بلا وثائق.

كاتبة من العراق

 

 

ليس حبا بالنظام الإيراني

هيفاء زنكنة

 

لا مفر، هذه الأيام، مهما حاولنا، من متابعة أخبار التهيؤ العسكري لإشعال جحيم حرب جديدة بين أمريكا وإيران في العراق، أو استمرارية جحيم حرب دائرة، الآن، في اليمن وليبيا، فضلا عن الاستيطان الصهيوني في فلسطين. أكرر مفردة «جحيم»، فهذا العالم العربي، الذي يتفتت كالخبز البائت أمام أنظارنا، لا يزال متمسكا بإصرار أسطوري على الا تقل الحروب على أرضه عن أربعين بالمائة من حروب العالم. حروب تمطر على أهله قنابل، تزداد وزنا مع كل حرب جديدة وصواريخ غبية، مؤهلة ان تكون ذكية، لفرط استخدامها في دروس القتل.

فمن حقل القتل الأول، بفلسطين، تطايرت بذرة الموت الاستعماري الاستيطاني لتحط في العراق واليمن وسوريا وليبيا، برعاية محلية. قتل الأجنة والأطفال، بغزة، مثلا، تراه الحكومات العربية، خبرا عاديا مألوفا، لا يستحق حتى مقاضاة المجرمين على الرغم من انها، جميعا، تدعي وصولها الحكم عبر انتخابات ديمقراطية تمثل الشعب.

هذه الحكومات العاجزة عن حماية شعوبها، قادرة على تشكيل «تحالف» ضد شعوبها، نتيجته واضحة منذ البداية كما في اليمن: تجويع الناس وسقوط الضحايا من المدنيين أينما كانوا سواء في حفلات الزفاف والجنازات أو المستشفيات والمدارس. أفعال إجرامية متغطرسة، يتماهى خلالها، حاملو السلاح وصانعوه وباعته ومشتروه، وهم يرددون ذات الاعذار التي تجعل، من القتل، الخيار الوحيد، الذي لا حل غيره.

يقول رئيس وزراء الكيان الصهيوني بنيامين نتنياهو، مبررا سقوط الضحايا الفلسطينيين، نتيجة القصف المكثف، بضمنهم الأطفال، انه يستهدف «العناصر الإرهابية في قطاع غزة». ولا يختلف كثيرا عنه، المستشار القانوني لـ«التحالف العربي»، حين يبرر مقتل 22 طفلا في غارة جوية للتحالف على اليمن بأن الغارات تمت استنادا إلى معلومات استخباراتية بأن الحافلة كانت تقل قياديين حوثيين، وهو ما يجعلها «هدفا عسكريا مشروعا». وهما لا يختلفان عن المتحدث باسم القوات الأمريكية حين يبرر مقتل 200 شخص، بمدينة الموصل، جراء غارة لها، في آذار/مارس 2017، قائلا إن ارتفاع أعداد الضحايا متوقع مع دخول الحرب على المتشددين أعنف مراحلها.

وإذا كان حكام المملكة العربية السعودية ودولة الامارات الحاليين يدفعون مليارات الدولارات لشراء الأسلحة الأمريكية، بالإضافة الى «أتاوة» الحماية والرعاية لهذا الجناح من القبيلة دون غيره، فان الإدارة الأمريكية تزود الكيان الصهيوني، بالمقابل، بالمساعدات العسكرية البالغة مليارات الدولارات، والحماية مجانا. مما يوضح بما لا يقبل الشك من هو الحليف الدائم ومن هو المؤقت، وكيف أسقطت هذه التحالفات مفهوم «السياسة فن الممكن»، الذي يلجأ اليه الحكام العرب لتبرير أفعالهم، الى «الاستئثار الممكن بالخنوع».

ما هو موقف الشعوب العربية إزاء استمرارية العقيدة الأمريكية بأن «العالم ساحة معركة» والاعتماد على الصواريخ وغارات الطائرات بدون طيار، بالإضافة الى العمليات السرية الخاصة المحفزة للاقتتال وإثارة الفتن والضغائن حتى بين أبناء الشعب الواحد، ووجود غربان السلاح والحروب الذين يقتاتون على الموت؟

من الواضح، أيضا، ان الرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب، مهما كانت الأوصاف الدونية التي تُطلق عليه، لا يختلف عن سلفه باراك أوباما، الذي امطرته البشرية بالمديح والثناء، أو سلفه «الصالح» جورج بوش حين يتعلق الأمر بالسياسة الخارجية وحماية المصالح الأمريكية العسكرية وغيرها في المنطقة. فاذا كان الرئيس ترامب قد طلب، منذ يومين، التحضير الفوري لملفات عديد العسكريين الأمريكيين المتهمين أو المدانين بارتكاب جرائم حرب بما في ذلك العسكري الذي من المقرر محاكمته لقتله مدنيين عزلا أثناء خدمته بالعراق، لأنه يفكر في العفو عن هؤلاء الرجال في «يوم الذكرى» الذي يوافق 27 أيار/مايو والذي تحيي فيه الولايات المتحدة ذكرى جنودها الذين قتلوا في المعارك اذا كان هذا ما سيقوم به ترامب، ليشرعن قتل المدنيين في البلدان المحتلة او يرونها مهددة للمصالح الأمريكية، فان الرئيس أوباما كان قد سبقه الى تشريع برنامجين

للاغتيال بواسطة الطائرات بدون طيار، لصالح وزارة الدفاع والسي آي أي، في باكستان وأفغانستان واليمن والصومال والعراق، تحت ستار الحرب على الإرهاب، وبعد ان تمت تسمية «الاغتيال» بأنه «قتل مستهدف»، حسب وثائق مسربة كشفها جيريمي سكاهل، الصحافي الاستقصائي الأمريكي، في كتابه « الحروب القذرة».

ومن بين التفاصيل التي تم الكشف عنها في الوثائق المسربة أن تسعين بالمائة من الأشخاص الذين قُتلوا في الغارات الجوية بطائرات بدون طيار لم يكونوا هم الأفراد المستهدفين. وكشفت الوثائق، أيضًا، عن الإجراءات التي تم من خلالها تحديد الأفراد للقتل والتحرك من خلال عملية أطلق عليها اسم «سلسلة القتل»، وبترتيب مع الرئيس أوباما نفسه، تم وضع الأفراد في «دورة الاستهداف»، وهي نافذة مدتها شهران يكون للجيش الأمريكي فيها «السلطة» للقيام بعملية الاغتيال. ولن ننسى التشريع الاوبامي الذي منح فيه القوات المسلحة صلاحية توجيه الضربات الجوية ضد أهداف الدولة الإسلامية في العراق وسوريا حتى لو أدت إلى سقوط الضحايا من المدنيين، بمعدل عشر ضحايا لكل غارة، بدون الرجوع إلى القيادة العسكرية المركزية، إذا ما تبين ان هدف الغارة الجوية يستحق ذلك.

ما هو موقف الشعوب العربية إزاء استمرارية العقيدة الأمريكية بأن «العالم ساحة معركة» والاعتماد على الصواريخ وغارات الطائرات بدون طيار، بالإضافة الى العمليات السرية الخاصة المحفزة للاقتتال وإثارة الفتن والضغائن حتى بين أبناء الشعب الواحد، ووجود غربان السلاح والحروب الذين يقتاتون على الموت؟

ان آلية القتل قصفا واستخدام جيل جديد من الطائرات بلا طيار، هي السائدة الآن، وستكون، كما تشير، كل الدلائل، الى انها ستستمر كسلاح مفضل في الحرب / الحروب المقبلة، التي يتم الاستعداد لها، بحماس منقطع النظير، من قبل دعاة الحرب في أمريكا وإيران والسعودية، التي ستكون ساحتها العراق، ولن تكون السعودية او الامارات أو إيران بمنأى عنها. ولن تكفي كل الجدران التي يبنيها ترامب والكيان الصهيوني لحمايتهما.

وإذا كان مايك بومبيو، وزير الخارجية الأمريكي، يعتقد ان الله قد أرسل ترامب لينقذ إسرائيل من إيران والسعودية تعتقد ان أمريكا ستخلصها من إيران أيضا، أليس من الواضح أين ستقع الحرب التالية؟ أليس ما يجري في فلسطين والعراق واليمن كافيا ليدرك غربان الموت من الحكام العرب المستجيرين بأمريكا ان هذه الحرب لو لم تكن ضد إيران لكانت ضد بلد عربي، لأن الإدارة الأمريكية بحاجة ماسة الى عدو يحميها من نفسها ويوفر لمموليها فرصة استثمار ثرواتهم؟

هذه الحرب، إذا حدثت، ستكون المصيبة الأكبر على الشعب العراقي الذي عاش من الحروب ما يجعل ذاكرته مثقوبة بالرصاص، وسينهي أي أمل بالتعاون مع شعب بلد مجاور يعاني هو الآخر من استبداد يماثل ما تعيشه الشعوب العربية. ليس حبا بالنظام الإيراني، فما فعله في العراق وعرضه مساعدة أمريكا على احتلاله وتخريبه، جريمة لا تغتفر، ولكن حرصا على ما تبقى من العراق، علينا الا نتعاون مع أمريكا والكيان الصهيوني، فتاريخهما وحاضرهما أفضل دليل على مخططاتهما مستقبلا.

كاتبة من العراق

 

 

للقاتل اسم والضحايا العراقيون بلا أسماء

هيفاء زنكنة

 

أصدر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، في الأسبوع الماضي، عفوا عن ملازم اول بالجيش الأمريكي، محكوم بخمسة وعشرين عاما، لارتكابه جريمة قتل المواطن العراقي علي منصور، اثناء التحقيق معه كمتهم بالانتماء الى تنظيم القاعدة عام 2009. جاء العفو، حسب البيان، بعد ضغط عسكري وسياسي وشعبي كبير، باعتبار الملازم جنديا أمريكيا نموذجيا. ماذا عن الضحية العراقي علي منصور؟ ما الذي نعرفه عنه باستثناء تبرير القاتل بانه قتله دفاعا عن النفس؟ وفقا لوثائق المحكمة، أقتاد الملازم وفصيله علي منصور إلى منطقة صحراوية نائية، بالعراق، بعد ان قررت القيادة إطلاق سراحه. إدعى الملازم انه يستجوبه حول هجوم سابق على جنود أمريكيين، فأمره بالتعري ثم أطلق عليه النار في الرأس والصدر.

أثار قرار العفو غضب عديد المنظمات الحقوقية والسياسيين، بأمريكا، ولكن… ما هو رد فعل الحكومة العراقية والساسة وأعضاء البرلمان عن العفو، وهم يقرأون سيناريو تبرير القتل التافه، خاصة وان جريمة القتل المتعمد هذه، هي واحدة من قائمة طويلة من جرائم وانتهاكات قوات الاحتلال، التي تمر مرور الكرام، منذ 2003، بلا مساءلة من الجهة العراقية وغالبا ما يتم الالتفاف حولها بشتى الطرق «القانونية» أمريكيا؟

ماذا عن آخر المحاكم؟ فبعد أسبوعين، سيتم تقديم قائد العمليات الخاصة التابعة للبحرية الأمريكية، ادوارد غالاغار، للمحاكمة بتهم قتل مدنيين عراقيين، عام 2017، أثناء وجود القوات، على مقربة من مدينة الموصل، للقيام، كما يطبل رسميا، بمهمات «تدريبية واستشارية»، مساندة للقوات العراقية في الحرب ضد تنظيم «داعش». يعتبر هذا القائد واحدا من ابطال القوات الأمريكية الخاصة، وقناصا ماهرا، ونموذجا يحتذى بجرأته وشجاعته في محاربة أعداء أمريكا في أفغانستان والعراق، حاز جراءها على أوسمة شرف عديدة. الا ان مسار «بطولاته» توقف عندما تقدم سبعة من زملائه، الأقل رتبة منه، بالشكوى ضده لأنهم ما عادوا قادرين على تحمل ارتكابه جرائم قتل المدنيين في الموصل. الا ان القيادة رفضت الاصغاء إليهم حفاظا على سمعة الوحدة العسكرية التي يُفتخر بانها تضم نخبة الجيش الأمريكي. فثابر المشتكون، حتى تم الاستماع إليهم، خاصة بعد ان كشف عدد من الصحافيين تفاصيل جرائمه وحيثيات ارتكابها، فلم يعد أمام قيادة الوحدة من خيار غير اجراء التحقيق واعتقال المتهم وتقديمه الى المحاكمة.

يتبين من الشهادات، انه كان يقضي معظم وقته جاثما في أماكن القنص ليتمتع باصطياد المارة من المدنيين، حيث كان يصوب خمسة أو عشرة أضعاف القناصة الآخرين. أخبر قناصان المحققين أن غالاغار، أطلق في أحد الأيام، النار على فتاة ترتدي حجابًا مزينًا بالأزهار، كانت تسير مع فتيات أخريات على مقربة من ضفة النهر. ثم شاهدا الفتاة وهي تسقط على الأرض، ممسكة ببطنها، فسحبتها الفتيات الأخريات بعيداً. كما قام، مرة أخرى، بأطلاق النار على رجل عجوز كان يرتدي دشداشة بيضاء، وسقط الرجل على الأرض مضرجا بدمائه. سجلوا: نحن في الموصل عام 2017.

هل هي عقلية المُحتَل المبنية على الدونية والحط من قيمة أخيه المواطن، لكي لا يُذكره بما آل اليه من انحطاط، ام هو الخوف من كشف الحقيقة وتحميله مسؤولية المشاركة بجرائم يتكشف وجهها البشع يوما بعد يوم؟

يقول الشهود، كما جاء في تحقيق صحيفة « نيويورك تايمز»، أنهم شعروا بالقلق الشديد إزاء قيامه بإطلاق النار على المدنيين، الى درجة أنهم صاروا يطلقون طلقات تحذيرية، على بعد متر أو اثنين فقط من المدنيين، لإخافتهم حتى لا يتمكن قائدهم من اصابتهم. وفي أيار/مايو، من العام الماضي، حدث أمر لم يعد بإمكانهم السكوت عليه. إذ تم احضار جريح، عمره 14 عاما، الى الوحدة العسكرية اثناء احدى المعارك مع داعش. يقول افراد الوحدة إنهم وضعوه على الأرض وبدأوا بمداواته. اثناء قيامهم بذلك جاء القائد غالاغر وأبرز سكينًا خاصا كان يفضل حمله. وبدون ان يقول شيئا، على الإطلاق، قتل الأسير طعنا في الرقبة والجذع. بعد ذلك، جمع أفراد الفصيل كلهم حول وعلى جسد الصبي الميت وأمر بإقامة حفل تجنيد. وهو احتفال يتعين فيه على الجندي القيام بطقوس خاصة بإعادة التجنيد طوعًا وأن يرفع يده اليمنى ليقسم ولاءه وطاعته للدستور. وقام أحد افراد الفصيل بالتقاط الصور. سجلوا: نحن في الموصل ،2017، وهي الفترة التي شهدت تعاونا شاملا بين القوات الأمريكية مع الجيش والحشد الشعبي، قتالا على الارض وقصفا بآلاف الغارات الجوية في خمس محافظات وتنسيق الهجوم البري والدوريات المشتركة. ونتج عنها هدم بنايات كاملة بما فيها من سكان، ولا تزال جثث الضحايا تُسحب من تحت الأنقاض. كان من السهل، أثناءها، على المسلحين إيجاد الذريعة لارتكاب أي جريمة كانت بدوافع سادية شخصية او عنصرية أوسع.

ولعل ما يحز بالنفس ويحفر عميقا بالقلب، هو موقف الضباط العراقيين الذين عند جلبهم للشهادة نفوا حدوث الجريمة بل وأضافوا بأن جريمة القتل لا تتماشى مع شخصية القائد غالاغار! أي أن الضباط العراقيين كذَّبوا أفراد الفصيل الأمريكي الذين استيقظت ضمائرهم.

هذه، أيضا، ليست المرة الأولى المسجلة التي يتسلى فيها أحد قوات الاحتلال بقتل المدنيين ثم يدعي انه قتل «إرهابيا» أو انه ضحية ثانوية. ففي عام 2006، مثلا، قام العريف لورانس هاتشينز من سلاح مشاة البحرية وجنود آخرون بقتل هاشم إبراهيم عواد (52 عاما) ثم وضعوا بندقية كلاشنيكوف وجاروفا، بجوار الجثة للإيحاء، بأنه كان يخطط لزرع قنبلة. وتم تقديم العريف الى المحكمة التي حكمت بإطلاق سراحه.

يعيدنا تقديم قائد عسكري أمريكي للمحاكمة، هذه الأيام، بقضايا قتل مدنيين عراقيين، الى رد فعل الحكومة العراقية تجاه فضيحة التعذيب في سجن أبو غريب. جاء الرد بلسان رئيس الجمهورية الراحل جلال طالباني، الذي قال، بروحه المرحة، حين جوبه بصور تعذيب المعتقلين من قبل قوات الاحتلال الأمريكي: «عادي ولا يقارن بما كان يحدث في سجون صدام حسين»، مشرعنا بذلك، عمليات التعذيب والقتل، كسلوك رسمي منهجي، وكأنه شارك بـ«تحرير العراق» ليواصل ما هو «عادي» ولا يخرج عليه.

ان ما تقوم به الحكومة والبرلمان، حاليا، وهي متدثرة بالغطاء الديمقراطي ولجان حقوق الانسان، تجاه الجرائم التي ارتكبتها قوات الاحتلال، أسوأ بكثير من موقف الطالباني المبتذل. لتصبح هوة الانحدار الأخلاقي والوظيفي بلا قاع.

بتنا نصغي، باستثناء قلة من الأصوات، الى مزيج من الصمت حينا ونفي حدوث الجرائم، أساسا، في حين آخر، ليتم التستر على جرائم حرب من واجب أية حكومة وطنية أن تلجأ الى المحاكم الدولية ومجلس الأمن والأمم المتحدة للمطالبة بحقوق الضحايا من مواطنيها. فهل حاول أحد أعضاء لجنة حقوق الانسان بالبرلمان، مثلا، معرفة أسم الفتاة ذات الحجاب المُوَرد أو العجوز الذي كان يرتدي دشداشة بيضاء، اللذين تسلى القائد الأمريكي بقتلهما؟ هل هما بلا أسماء؟ كيف يكون للقاتل أسما والضحايا بلا اسماء بلا هوية؟ فهل هي عقلية المُحتَل المبنية على الدونية والحط من قيمة أخيه المواطن، لكي لا يُذكره بما آل اليه من انحطاط، ام هو الخوف من كشف الحقيقة وتحميله مسؤولية المشاركة بجرائم يتكشف وجهها البشع يوما بعد يوم؟

كاتبة من العراق

 

 

إنهم يخشون  الجنين الفلسطيني

هيفاء زنكنة

 

لم يتغير الكثير: القاذفات الإسرائيلية، الطائرات بلا طيار، القناصون، وحشية التدمير المنهجي، والهدف الرئيسي هو قتل المدنيين. شهداء غزة المقاومة يتزايدون. الزنانة، طائرات الاستطلاع، تغتال شابا في فالوجة غزة. لم تعد آلة الكيان الصهيوني النهمة تشبع من استهداف مقاتلين يدافعون عن ارضهم أو شبانا يطالبون بحقهم بالحياة والكرامة، أو محمد الدرة ابن العاشرة، أو الأطفال الأربعة من عائلة واحدة الذين مزقت جثثهم على رمال شاطئ غزة وهم يلعبون: اسماعيل (9 سنة)، وزكريا (10 سنة)، وعاهد (10 سنة)، ومحمد رامز (11 سنة).

يوما بعد يوم، ازدادت شهية الوحش، بات ينشد دماء الضحايا ممن هم أصغر سنا حتى وصل الرضع والأجنة ببطون أمهاتهم. فكانت الرضيعة صبا محمود أبو عرار (14 شهرا) وأمها فلسطين صالح أبو عرار (37 سنة) وجنينها الذي كانت تريد ان تسميه عبد الله.

في الأسبوع الماضي، شاهدنا، عبر قناة الجزيرة، صبا، وهي موضوعة في ثلاجة الموتى، محتضنة نفسها، في غياب الأم، كأنها نائمة ببراءة لولا معرفتنا المسبقة باغتيالها، ولولا كثرة عدسات التصوير المتحلقة حولها، لتودعها بصورة أخيرة بعد ان زينت أمها شعرها بضفائر صغيرة وورود ملونة. انها وجه غزة تحت 150 غارة خلال 24 ساعة.

في عام 2004، شاهدنا أبا يبكي وهو يحتضن النصف العلوي من جسد طفلته المحروق بجيل جديد من النابالم، رشته قوات الاحتلال الأمريكي على مدينة المقاومة، الفلوجة، غرب العراق.

في عام 2006، شاهدنا على الهواء مباشرة، عبر قناة الجزيرة، أيضا، كيف تمكن عمال الإنقاذ اللبنانيون، في قانا المتعرضة لقصف الكيان الصهيوني، من سحب جثث 27 طفلاً من تحت الأنقاض. شاهدنا رجلاً يحمل فتاة في الرابعة من العمر ترتدي ثوبًا بلا أكمام تزينه زهورا صغيرة. كان وجهها وذراعيها وساقيها العاريتين مغطاة بالتراب.

في ذات العام، أغتصب جنود الاحتلال الأمريكي الطفلة عبير قاسم الجنابي (14 عاما) من بلدة المحمودية، جنوب بغداد، ثم قتلوها وحرقوها سوية مع أمها وأبيها وشقيقتها الصغرى هديل (5 سنوات).

منذ عقود ونحن نرى وجوه الأطفال، يغطيها الموت، الواحد تلو الآخر، من بلد عربي الى آخر وهي جامدة، بعيون مفتوحة على سعتها، تحدق بنا، ذعرا. ضحايا يصبحون، كلهم، بلا استثناء، في لحظات الشهادة، طفلا واحدا، هو طفلنا. كم يتشابه ضحايا الجرائم البشعة! من جنين وغزة في فلسطين إلى الفلوجة وحديثة وإسحاقي في العراق إلى بيروت وقانا في لبنان، من تمكنت عدسات المصورين تخليد لحظاتهم الأخيرة مع من لم يحظ بتلك الثانية المجمدة بالزمن.

وفي كل مرة نغضب ونبكي الشهداء، من الأطفال، ونشعر بالذنب لأننا خذلناهم لأننا لم نحمهم، لأننا لم نوفر لهم فرصة ان يعيشوا سنوات عمرهم. لأننا لانزال أحياء. حتى نكاد والقلب يدمع دما، ان يخامرنا الشك: هل نحن القتلة؟ هل صحيح اننا لا نحب أطفالنا؟ هل يتوجب علينا الوقوف بين الجثامين والانقاض لطلب المغفرة قائلين: «سامحونا»؟

إن تجدد آليات محاربة الشعوب، بكل المستويات قصفا وقمعا وحصارا، يعني شيئا واحدا. إنها، على الرغم من كل الإمكانيات المادية والعسكرية، لم ولن تنجح. وإن روح مقاومة الشعوب الحية، للمستعمر والمستبد، هي الباقية

اثناء قصف بغداد في حملة «الصدمة والترويع» التي شنتها أمريكا ضد الشعب العراقي، عام 2003، وأمام منظر الخراب وحالة الخوف من ان يمحى العراق وأهله، خرجت امرأة أردنية، في أواسط العمر، الى الشارع، مرتلة مثل كاهنة بمعبد تحوك طلب المغفرة، قائلة: «سامحنا يا عراق».

نحن، أهل البلدان المحتلة، المستعمرة، المعرضة للقصف والاغتيالات، نغضب ونبكي ويخامرنا الشك لأننا لسنا غزاة إرهابيين، ننتشي بالموت. الارهابيون لا يتساءلون، لا ينتابهم الشك، لأنهم يتمتعون بالقتل ويطلقون صرخات الابتهاج لحظة سقوط الضحايا مضرجين بدمائهم. يطلق القاتل الصهيوني، ضحكات هستيرية مشتركة مع جنديين آخرين، في فيديو متوفر على اليوتيوب، بعد اصابته شابا فلسطينيا أعزل: «ها… ها… لقد أصبته ابن ال…»..

جنود جيش الاحتلال الاستيطاني، لا يقتلون لأنهم ينفذون الأوامر فقط، بل لأنهم يجدون لذة في القتل، كما تثبت افعالهم، وبتشجيع من المسؤولين. «أفضل الجنود الذين يضحكون وهم يطلقون النار»، يقول عضو الكنيست بيتسالئيل سموتريش. ويصف وزير الأمن صرخات الابتهاج بقتل الفلسطينيين بأنها «ردود فعل إنسانية»، ويؤيده وزير الدفاع قائلا انهم ينتمون الى «الجيش الأخلاقي بالعالم». وبينما تمتد وتتسع مستوطنات الكيان الصهيوني باحتقار كلي للقانون الدولي والاتفاقيات الدولية، يفتخر المستوطنون بتسجيل فيديو يحتفلون فيه بقتل الرضيع الفلسطيني علي دوابشة حرقا مع والديه وهم أحياء في قرية دوما بالضفة الغربية.

ماذا عن الحكومات والشعوب العربية؟ معظم الحكومات، ترى في زمن انحطاطها، ان فلسطين باتت عبئا عليها وليس احتلالا يجب التخلص منه. بعد ان كانت فلسطين في فترات التحرر الوطني جزءا لا يتجزأ من هوية الأمة والحق الذي لا يساوم عليه. وما كان عارا يتم التستر عليه وانكاره إذا ما كشف بات شرفا يتسابق الحكام على نيله بذريعة القبول بالأمر الواقع. وتبقى صورة السلطان قابوس، الواقف منكمشا، في قصره، في العاصمة مسقط، مع نتنياهو، رئيس «مستوطنة إسرائيل»، هي النموذج الأقوى للذل الذي انحدر اليه الحاكم العربي. في لحظة تماهى فيها الخنوع بالخوف من ان يترك وحيدا أمام شعبه. ماذا عنا؟ كيف تمكن الحاكم الذي نتفق على انه لا يمثلنا من خلع حتى ملابس الامبراطور أمامنا؟

علينا الاعتراف بان تعاون الحاكم العربي مع القوى الاستعمارية أعمق مما نتصور. وهي علاقة تتجدد فيها آليات محاربة الشعوب حسب الحاجة المرحلية. ويتماشى نجاحها مع قدرة الحاكم على استقطاب شرائح مجتمعية يرتبط بقاؤها ومصالحها به أو، وهو ما نراه بوضوح حاليا، تفتيت كل شعب الى عدة شعوب، وكل منها يعيش في غيتو يتم التحكم بحياة افراده الاقتصادية والأمنية، فلا يستطيع التفكير أبعد من الهم المعيشي اليومي. انها السياسة الاستعمارية القديمة « فرق تسد» بمسميات جديدة.

ان تجدد آليات محاربة الشعوب، بكل المستويات قصفا وقمعا وحصارا، يعني شيئا واحدا. إنها، على الرغم من كل الإمكانيات المادية والعسكرية، لم ولن تنجح. وإن روح مقاومة الشعوب الحية، للمستعمر والمستبد، هي الباقية. وإلا كيف يواصل الشعبان السوداني والجزائري الثورة وهم يرفعون العلم الفلسطيني بجانب اعلامهم؟ ولم تخش أكبر قوة عسكرية بالمنطقة الجنين الفلسطيني وهو الذي لم يولد بعد؟

 

رومانسية زمن القتل في العراق

هيفاء زنكنة

 

من بين الأسئلة التي أثارتها قيادة «مكافحة التمرد» في العراق وأفغانستان، قبل وبعد غزو البلدين، سؤال بالغ الأهمية، وهو: كيف نكسب قلوب وعقول أهل البلدان «المضيفة»؟ قدمت القيادة العسكرية عديد الخطط، الآنية منها والاستراتيجية، في مؤلفات بات بعضها متوفرا للعامة، كجواب يعالج إشكالية الكراهية الطبيعية أو النامية تدريجيا عند اهل البلد، وان قام البعض بالترحيب بها بداية. وكما ان للعملة وجها آخر، واجهت الإدارة الأمريكية، بشقها السياسي، السؤال نفسه، ولكن بصيغة مختلفة وهي: كيف نكسب قلوب وعقول الشعب الأمريكي ورضاه على شن الحرب؟

اعتمدت الإدارة الأمريكية، لتحقيق مستوى معين من الرضا أو القبول، على مخطط استراتيجي شرعت به منذ التسعينيات. فأسست لذلك لجنة عمليات معلوماتية خاصة، استغلت بواسطتها كل مستويات الاستهداف الدعائي النفسي، من الاعلام الى الجامعات ومراكز الدراسات والبحوث ودور النشر. وكان لدور النشر أثر كبير في تبرير الحرب وان لم يحظ بذات الاهتمام الذي حظيت به أجهزة الاعلام من ناحية الرصد، بحكم سرعة وآنية التأثير الإعلامي السمعي والبصري، بالمقارنة مع بطء وعمق تأثير الكتب. تشكل هذه الجهود جانبا مما شخصه نعوم تشومسكي ونورمان هيرمان في كتابهما «صناعة الرضا»، المنشور عام 1988، عن تلاعب النخب المتحكمة بالعقل الجمعي الأمريكي منذ عشرينيات القرن الماضي.

منذ ان بدأت حملة التهيئة لشن الحرب على العراق، في أعقاب الحادي عشر من سبتمبر، وقائمة الكتب الأمريكية ـ البريطانية عن العراق في تزايد مستمر. وبعد ان كان عامة الأمريكيين والبريطانيين لا يفرقون بين العراق وإيران، إذ حالما تخبرهم أنك من العراق يأتيك التساؤل «إيران؟»، أصبح العراق بلدا يتصدر قائمة الأخبار والمطبوعات، خاصة حين سارع مهندسو الحرب الى تحشيد الأجواء الدعائية النفسية لتقديم صورة للبلد، تسوغ ارسال قواتهم للقتال فيه والتضحية بحياتهم من أجل «تحريره».

تزايد، أيضا، بمرور الوقت، اهتمام دور النشر باستقطاب المؤلفين، من عسكريين ومحللين سياسيين الى «خبراء» في معرفة الشرق الأوسط ونفسية العرب المسلمين، وإن لم ينطق أحدهم باللغة العربية غير كلمة « مرهبا». في تلك الأجواء، المنفتحة على سوق الحرب، باتت هناك فرصة لتسويق كتب كانت تقتصر في موضوعها، حتى ذلك الوقت، على البحوث الأكاديمية التي قلما يقرأها أحد من خارج الحلقة الأكاديمية المغلقة تقريبا. فسارعت دور النشر ومؤسسات الدراسات الاستراتيجية والبحوث والفكر، الى نشر كتب تعريفية بالعراق، تاريخا وحاضرا، واضافة تقارير القمع والاستبداد المناقضة لحقوق الانسان، والخطر المؤكد على العالم من بلد قادر على الوصول بأسلحة دماره الشامل الى الغرب، وبالتحديد بريطانيا، خلال 45 دقيقة، حسب خطب رئيس الوزراء البريطاني توني بلير!

ومع تنوع مستويات التحشيد، دخل عالم النشر بحماس يكاد ينافس الاعلام البصري والسمعي لتأطير صورة بلد بحاجة الى التحرير والديمقراطية، وخلق وعي شعبوي يضاف الى الوعي التاريخي المترسب في الذاكرة الاستعمارية، عن عبء الرجل الأبيض وتحمله مسؤولية رفع مستوى وتمدين الشعوب المتخلفة.

اعتمدت الإدارة الأمريكية، لتحقيق مستوى معين من الرضا أو القبول، على مخطط استراتيجي شرعت به منذ التسعينيات. فأسست لذلك لجنة عمليات معلوماتية خاصة، استغلت بواسطتها كل مستويات الاستهداف الدعائي النفسي، من الإعلام الى الجامعات ومراكز الدراسات والبحوث ودور النشر

أكتسب الكتاب أهمية قصوى في مخاطبة شريحة مجتمعية قد تشكك أو لا تثق بدور الاعلام، الا انها مستعدة نفسيا لتقبل ما هو منشور بالكتب بحكم العلاقة التقليدية بين المثقف والكتاب. لذلك حققت كتب عدد من الباحثين والصحافيين المتخصصين نجاحا في تهيئة أرضية شن الحرب العدوانية والتقبل النفسي باعتبارها جزءا لا يتجزأ من السياسة الأمريكية في «الحرب على الإرهاب»، والمحافظة على الأمن الداخلي واصطياد «الإرهابيين» في بلد ناء بحيث لا يمكن ان يعرض حياة الأمريكي للخطر.

فتم اصدار كتب وتوزيعها بشكل كبير بموضوعات تعكس فكر المحافظين الجدد وخاصة محور دونالد رامسفيلد ـ دك تشيني- بول وولفوتز، الذين تصدروا مراكز صنع القرار في الإدارة الأمريكية.

شكل هذا المحور أساس عديد الكتب المبررة لشن الحرب والاحتلال، كحل وحيد لدمقرطة العراق، متجاهلين ما ستسببه الحرب من خراب بشري وعمراني وانعكاساتها على الاستقرار الاقليمي. كان هذا قبل الغزو أما بعده وتحت الاحتلال، فقد غزت الأسواق كتب من نوع مغاير، احتل عدد منها قوائم الكتب الأكثر مبيعا. اذ انضم الى مؤلفي الكتب اشخاص لم يكونوا يحلمون يوما بالكتابة ناهيك عن النشر. مرتزقة وجنود وضباط. نساء ورجال. سجناء ومدمنو مخدرات ومرضى يعانون من صدمة ما بعد الحرب. اذ أفرزت الحرب على العراق اعلى نسبة من جنود الاحتلال المصابين بصدمات وأمراض نفسية حتى بالمقارنة مع الحرب الأمريكية ضد فيتنام. لجأ معظم الجنود العائدين الى جنس المذكرات للكتابة عن تجربة القتال في العراق، وابراز روح التضحية و«الهوس بإخبار القراء أن الحرب مروعة» مع الإصرار على «ان كل الجنود أشخاص طيبون يبذلون قصارى جهدهم في وضع سيئ»، كما يذكر الصحافي توم بيتر في دراسة له. وكما يذكر الجندي السابق في العراق نيكو ووكر السجين حاليا بتهم ادمان وبيع المخدرات وعدة محاولات نهب للبنوك «مقارنةً بما كنت أفعله في العراق، بدا أن سرقة البنوك بمثابة أفعال أطفال. من الواضح أنه كان خطأ، وأنا أدرك ذلك الآن».

أنها مذكرات يسهب فيها كتابها بإظهار ما تعرضوا له من أخطار، ليكسبوا عطف القارئ الأمريكي حتى ان كانوا مجرمي حرب، متعمدين عدم ذكر العراقيين، أو ذكرهم بطريقة تبين بان موت العراقي محزن ولكن المأساة الحقيقية هي معاناة الجندي الأمريكي.

من بين الكتب التي لاقت نجاحا بعناوين تدل على مضمونها: زمن القتل بالعراق، بوابة قاتل بالعراق، كنا واحدا: جنبا إلى جنب مع مشاة البحرية الذين دخلوا الفلوجة، وفي الرمادي: القصة المباشرة لمشاة البحرية الأمريكية في أكثر مدن العراق دموية. وتمنح دور النشر مساحة كبيرة للجنديات اللواتي يكتبن مذكراتهن. اذ نشر لهن عناوين على غرار: أحب بندقيتي أكثر مما أحبك: شابات في الجيش الأمريكي، وعصبة شقيقات: أمريكيات بالعراق.

المفارقة الكبيرة التي نراها عند اطلاعنا على حمى نشر هذه النوعية من الكتب هي ان نشر الكتب العاطفية ببطولة مقاتلين ومرتزقة بالإضافة الى نشر المذكرات التي تسلط الأضواء على مفهوم البطل/ الجندي الذي يضحي بحياته من اجل نشر «القيم الديمقراطية»، نجح في استقطاب المخيال الشعبي الأمريكي والغربي عموما والفوز بقلوب وعقول الناس العاديين أكثر من كل حملات الترويج الدعائي بكثير. يقول مدير دار نشر «سورسبوكس»: «هناك الكثير من الاهتمام بقواتنا ودعمها. جميع الرومانسيات ذات الطابع العسكري تبيع بشكل جيد للغاية. يصنع الرجال العسكريون أبطالا كبارا، وتصنع النساء العسكريات بطلات رائعات».

الأمر الذي أكده استطلاع أجراه مركز بيو للأبحاث، بأمريكا، مبينا ان 91 بالمئة من الأمريكيين يشعرون بالفخر والاعتزاز بمن خدموا في الجيش، اثناء غزو واحتلال العراق، بينما كانت نسبة من وافقوا على غزو العراق هي 36 بالمئة فقط!

 

 

شكرا جوليان أسانج

هيفاء زنكنة

«احرقهم… نعم كلهم!»، يقول الجندي الأمريكي مشجعا زميله وهو يرش العراقيين الذين يتراكضون في الشارع، في بغداد الجديدة، تحت مروحية الاباتشي. يعجبه مرأى الضحايا على الأرض، فيصرخ فرحا «آه، نعم، أنظر إلى هؤلاء الأوغاد الميتين. منظر لطيف». وعندما اكتشفت قوات الاحتلال، فيما بعد، وجود طفلين بين الجرحى، قال المسؤول عن رش الضحايا بالرصاص، مبررا جريمته «حسنًا، إنه خطأهم… جلب أطفالهم إلى المعركة». ليس هذا الحوار واطلاق صرخات الفرح بالقتل المتعمد هو لقطة في فيلم هوليوودي. بل هو واحد من الأفلام والوثائق السرية التي كشفها الصحافي جوليان أسانج عام 2010، في تسريبات، ما بات يعرف بـ«ويكيليكس»، التي أدت إلى القاء القبض عليه من قبل الشرطة البريطانية، يوم الخميس 11 نيسان/ أبريل، بعد إخراجه عنوة من سفارة الاكوادور، في لندن، بعد سبع سنوات ونصف من بقائه لاجئا فيها. تم خلال سنوات لجوئه الكشف عن مئات الآلاف من الوثائق الأمريكية وغيرها الفاضحة لتبادل المعلومات التي طالما أريد لها ان تبقى طي النسيان، والا يطلع عليها المواطنون لما تحويه من مساس بحرية الفرد والرأي ومساحة التآمر عليه، غالبا، بذريعة «الأمن القومي».

كان الفيديو الذي كشف جريمة قتل 12 مواطنا عراقيا، عام 2007، بضمنهم صحافيون عاملون لدى وكالة أنباء رويترز، وهما نمير نور الدين ( 22 عاما) ومساعده سعيد شماغ ( 40 عامًا، متزوج. ترك أرملة وأربعة أطفال)، والذي ساعدت صحيفة «الغارديان» البريطانية، على توزيعه بشكل واسع، ومن ثم تناقلته أجهزة الإعلام، في جميع انحاء العالم، هو الذي سلط الأضواء بقوة على أهمية عمل فريق «ويكيليكس» التحقيقي الصحافي، المستند إلى حق حرية التعبير، وهو الذي جعل الادارة الأمريكية تطالب برأس الفريق أسانج، حسب فرضية إقطع الرأس تتخلص من الجسد، وبعد أن القت القبض على الجندي الأمريكي برادلي ماننغ، الذي قام بتسريب الفيديو، مع 750 ألف وثيقة عسكرية ودبلوماسية أخرى، إلى «ويكيليكس».

احتل الفيديو أهمية خاصة، أيضا، على الرغم من كشفه بعد مرور ثلاث سنوات على ارتكاب المذبحة، لأنه أوضح بالصوت والصورة، زيف الادعاءات عن « التحرير» و«انسانية» المحتل.

اذ بينت صرخات الابتهاج بحصد الأرواح من طائرة مروحية من طراز أباتشي (المرتبطة بالاذهان بالمجازر الأمريكية بفيتنام)، وبآلات القتل المتطورة، كيف تعتبر قوات الاحتلال نفسها: إنها فوق البشر. وكيف ترى العراقيين كأوغاد مجهولي الهوية، يحاولون الحاق الضرر بهم وهم الذين جاؤوا لـ« تحريرهم».

كان الفيديو الذي كشف جريمة قتل 12 مواطنا عراقيا، عام 2007، بضمنهم صحافيون عاملون لدى وكالة أنباء رويترز، هو الذي سلط الأضواء بقوة على أهمية عمل فريق «ويكيليكس» التحقيقي الصحافي، المستند إلى حق حرية التعبير

العراقيون، إذن، أوغاد، بلا اسماء، بدون إنسانية – وتجريدهم من إنسانيتهم، كفعل منهجي متعمد، ​​يجعل قتلهم سهلاً. هكذا، مارس المحتل الأمريكي والبريطاني التعذيب، بأبشع صوره، في سجن أبو غريب ومعسكر «بريد باسكت»، وارتكب المجازر في مدينة حديثة (التي تمت مقارنتها بمذبحة ماي لاي خلال حرب فيتنام) ؛ والاسحاقي (حيث قتل 11 مدنيا عراقيا في يونيو 2006) ؛ والفلوجة التي تم هدم 70 بالمئة منها، بالاضافة إلى اغتصاب وحرق الطفلة عبير الجنابي وعائلتها، ومن ثم اتهام « المتمردين السنة» ليغطي الغزاة جريمتهم. وغالبا ما يأتي أحدهم ليبرر جرائم قتل الاطفال بأن الخطأ هو «خطأهم»، أي اهل البلاد، لأنهم يجلبون الاطفال إلى أرض المعركة. ولأن جوهر المحتل واحد أينما كان، استمعنا إلى ذات التبرير من قبل ناطق باسم الكيان الصهيوني عندما وثقت كاميرا (قناة فرانس2) في 30 أيلول/سبتمبر 2000، جريمة قتل الطفل الفلسطيني محمد الدرة ( 11 سنة)، وهو بحضن والده جمال، وسط قطاع غزة، لحظة بلحظة. حيث واصل جنود الاحتلال رشهما بالرصاص بعد أن اختبأ خلف برميل إسمنتي طلبا للحماية من عمليات إطلاق النار. إدعى متحدث الكيان الصهيوني، للتبرؤ من قتل محمد الدرة، بعد أن هزت صورته ضمير العالم «أن الفلسطينيين يضحون بأطفالهم لتشويه صورة إسرائيل»!

بالاضافة إلى الفيديو، نشرت منظمة «ويكيليكس» الاعلامية، يوم 22 أكتوبر 2010، أكبر تسريب عسكري سري في التاريخ، وهو نشر 391،832 من «سجلات حرب العراق»، التي توثق الحرب واحتلال العراق، من 1 يناير 2004 إلى 31 ديسمبر 2009 (باستثناء شهري مايو 2004 ومارس 2009) كما سجلها جنود الأحتلال في التقارير الرسمية، ووصفوا فيها الاحداث، كما رأوها وسمعوا عنها، دقيقة دقيقة. وهي أول لمحة حقيقية عن التاريخ السري للحرب التي كانت حكومة الولايات المتحدة مطلعة عليه طوال الوقت، حسب تعبير ويكيليكس.

توثق السجلات المنشورة في موقع Iraq War Logs ))، بالتفصيل، وفاة 109،032 شخص في العراق، تتألف من 66،081 ‘مدني’ ؛ 23984 «عدو» (من يطلق عليهم اسم المتمردين) ؛ 15،196 «دولة مضيفة» (قوات الحكومة العراقية) و 3،771 «صديقة» (قوات التحالف). غالبية القتلى أي 60 بالمئة من 66 ألف هم من المدنيين. بلغ معدل القتلى 31 مدنيا في اليوم خلال فترة السنوات الست. للمقارنة، توضح «مذكرات الحرب الأفغانية»، التي أصدرتها ويكيليكس سابقا، والتي تغطي نفس الفترة، مقتل حوالي 20 ألف شخص. مما يجعل ضحايا العراق الموثقين لدى قوات الاحتلال خلال نفس الفترة، خمسة أضعاف العدد في أفغانستان لنفس النسبة السكانية. وغني عن القول ان أعداد الضحايا أكبر بكثير اذا ما حسبنا وفيات الجرحى بعد حين، وكذلك الوفيات نتيجة دمار المستشفيات وانتفاء الخدمات الطبية وسوء المواصلات.

هذه الأعداد المسماة بـ«الوفيات الإضافية» هي التي تم التعامل معها عالميا لتقدير نتائج الحروب السابقة، والتي استخدمت في تقديرات مجلة لانسيت الطبية المعروفة عالميا، عام 2006 عن وفيات العراق الإضافية، وهي 654 الف عراقي في السنين الثلاث الاولى للاحتلال.

بالنسبة الينا كعراقيين، للسجلات الأمريكية العسكرية التي كشفها جوليان اسانج، مهما كانت نسبة تسجيلها، أهمية قصوى، خاصة في مجال محاسبة المسؤولين عن شن الحرب ضد العراق كمجرمي حرب، والى ان يبادر عدد من الباحثين العراقيين بتفكيك الرموز المتعارف عليها عسكريا، التي استخدمت بكتابتها، ومن ثم ربطها بمجريات الاحداث والجرائم التي غطتها الصحافة، وتقديم ولو جريمة واحدة إلى المحاكم الدولية، إلى ان يتم ذلك اقول شكرا جوليان اسانج فلولا ما سربته لنا أنت وفريق منظمة «ويكيليكس» من سجلات جرائم بحق شعبنا، من حقائق عن الحرب الامبريالية القذرة، لما كان بامكاننا حتى ان نحلم بذلك.

 

حملات التضامن العالمي

هل بامكانها تغيير العالم؟

 

هيفاء زنكنة

 شهد الأسبوع الماضي، في لندن، ومدن عربية وغربية أخرى، مظاهرات لدعم مسيرة «العودة الكبرى» وذكرى «يوم الأرض» الفلسطيني الذي يرمز إلى مقاومة الاحتلال الإسرائيلي. كانت هناك وقفة احتجاجية، أمام سفارة الكيان الصهيوني نظمتها «حملة التضامن مع فلسطين» في بريطانيا، ودعت منظمة «أوقفوا الحرب» البريطانية بالمشاركة مع عدة منظمات تضامنية بريطانية ـ فلسطينية، الى مظاهرة ونشاطات، يوم 11 أيار/مايو، تقام في جميع ارجاء بريطانيا، بعنوان «موجود… أقاوم… أعود»، وهو عنوان يجمع بين الوجود الانساني وحق المقاومة وحق العودة الى الوطن. وهو شعار أطلقته المنظمة الاسبانية للتضامن مع الشعب العراقي، ومقاومته للاحتلال الانكلو ـ أمريكي عام 2003. كان الشعار «أنا أقاوم… انا موجود»، المقتبس بتصرف من مقولة للكاتب الفرنسي البير كامو، حيث يصبح الوجود وحب الحياة شكلين من أشكال المقاومة. واذا كانت حملات التضامن تقتصر، حتى وقت قريب، على التظاهرات والاعتصامات واقامة الندوات، فانها تطورت، أخيرا، لتمتد على مدى اسابيع وشهور، بهدف تجذيرها بالذاكرة، ومقارعة النسيان، كما في «اسبوع التضامن مع الشعب الفلسطيني» و«شهر التضامن مع العراق» الذي يمتد في شهري آذار/ مارس ونيسان/ أبريل، سنويا، للتذكير بجريمة الحرب العدوانية ضد العراق وأحتلاله، وللتعريف بنتائج الاحتلال من خراب بشري ومادي.

تتزايد هذه النشاطات التضامنية، الجامعة احيانا بين عديد القضايا العربية في آن واحد، وعلى رأسها الاحتلال الصهيوني لفلسطين، بشكل طردي مع تصاعد حمى الاستسلام والاستخذاء الرسمي العربي. ومن يراجع يوميات الخنوع الرسمي، الذي كان مستورا في الماضي وبات مكشوفا بلا خجل الآن، سيظن ان هناك مسابقة (أو لعلها صفقة العصر!) تتنافس على الفوز بها أنظمة الاستبداد والفساد.

في هذه الاجواء ومع التغطية الإعلامية المتصهينة، العربية والغربية معا، وتسويق «ديمقراطية» الانتخابات بالغزو والاحتلال، تبرز أسئلة على مستوى: ما هي اهمية هذه التظاهرات؟ ما هو جدوى الوقوف أمام سفارة كيان مستهتر بالقوانين الدولية، يحظى بدعم أمريكي، مع وجود حكام عرب يرون ان مهمتهم الأولى هي قمع شعوبهم، وجعلهم مستعدين لقبول الاستعمار؟ ثم ما هو معنى «التضامن»، وآلة القتل الامبريالية تتغذى على الضحايا بشكل يومي؟

يقدم تحالف «أوقفوا الحرب»، الذي يضم عدة منظمات بريطانية ـ فلسطينية، في دعوته الى اقامة نشاطات تضامنية متعددة، بعض الاجوبة عما يهدف اليه الفعل التضامني: « يحتاج الشعب الفلسطيني إلى تضامننا أكثر من أي وقت مضى، ويدعو إلى احتجاجات عالمية لحماية حقوقه الجماعية. مع استمرار (إسرائيل) في انتهاك القانون الدولي وانتهاك حقوق الإنسان، هناك مسؤولية تقع على عاتق المجتمع الدولي في مساءلتها والضغط من أجل وضع حد لقمع الشعب الفلسطيني». كما يبين منظمو «شهر التضامن مع العراق»، وجها آخر لتنظيم الشهر، فأن يبقى العراق في الذاكرة، قضية في غاية الأهمية لملايين الضحايا الذين يستحقون العدالة، وهو ضروري للتذكير بجرائم الاحتلال في تهديم دولة وتفكيك مجتمع واستهداف ثقافة شعب، ولكي لا تتكرر الجريمة أبدا.

إن العمل التضامني، بمستوياته المتعددة، فعل أخلاقي، لا يستند الى المصالح الفردية، بل يستمد قوته من القيم الإنسانية المشتركة المناهضة للظلم والقمع والطغيان

على مستوى آخر، أنه مناسبة للاحتفاء بتاريخ ومقاومة الشعب العراقي، وطموح العراقيين في تحقيق السلام المبني على المساواة والعدالة. وهي مناسبة يشترك بها كل ناشط بمبادرته وتنظيمه ومن زاويته، ولا تسجل الا لمصلحة العراق كبلد في وعي ابنائه ووعي الانسانية ككل.

يربط التضامن بين ما هو اجتماعي، وسياسي، وأخلاقي، معا، في نهج سياسي متميز يعترف بمصادر القوة الاجتماعية من ناحية ومصادر الدافع الأخلاقي من ناحية أخرى.

هذه الأهداف الواضحة ذات اهمية قصوى لحث الجماهير على التفاعل الايجابي، والعمل على انجاز تغيير محدد من قبل مجموعة توحدت لهذا التغيير. مع مراعاة التأكيد على ان حملات التضامن العالمية سواء كانت سياسية أو إجتماعية، قلما تؤدي الى إحداث تغيير فوري، ونادرا ما تكون فاعلة لوحدها. والوعي بهذه النقطة يجنب الناشطين وعموم الناس خيبة الامل والاحباط المرتبطين بالرغبة برؤية نتيجة مثمرة فورية. ان حركات التضامن العالمي تهيئ الارضية للتغيير، لكنها نفسها لا تغير. ولانها تنبع من القاعدة الجماهيرية، وليس من قمة الهرم السلطوي، فانها تتوخى التوعية فضلا عن ممارسة الضغط السياسي. وتكمن قوتها، بعيدة المدى، في تمتين العلاقة والنضال المشترك بين شعوب الدول حتى الامبريالية منها. فلمدة أربع سنوات، في أواخر ثمانينيات القرن العشرين، واصل المتظاهرون المناهضون للفصل العنصري احتجاجهم المستمر، ليلا ونهارا، خارج سفارة جنوب إفريقيا في لندن. ولا يمكن لأحد ان يدعي ان انهاء النظام العنصري أو اطلاق سراح نلسون مانديلا كان نتيجة الاعتصام، الا انه لايمكن لأحد ان ينكر أهمية تذكير الحكومة البريطانية المتواطئة مع النظام العنصري بأنها لا تمثل الشعب البريطاني كله، ولا ينكر أهمية احساس ضحايا التمييز العنصري بأن هناك من يتضامن معهم، فضلا عن تطوير أساليب التضامن من خلال استمرارية الاعتصام وسيرورته. وهذا هو ما يهدف اليه منظمو «شهر التضامن مع العراق»، في عامه الاول، ونراه، بشكل واضح، في نجاح حملة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات (بي دي أس)، التي تأسست عام 2005، وشرعت بتوجيه نداء الى شعوب العالم، يطالبهم بدعمها كشكل رئيسي من أشكال المقاومة الشعبية السلمية الفلسطينية، وكأهم شكل للتضامن العالمي مع نضال الشعب الفلسطيني من أجل حقوقه. صحيح ان حملة المقاطعة لم تنجح بانهاء الاحتلال الا انها حققت نجاحا ملحوظا في قيادة حملة مقاطعة الكيان الصهيوني، على مختلف المستويات الاقتصادية والثقافية والفنية، الى حد دفع الكيان الصهيوني الى اعتبارها خطرا أمنيا يهدد بقائه.

يكمن نجاح حملة التضامن في وضوح الهدف وامكانية تحقيقه من قبل كل من لا يريد الوقوف بجانب المحتلين/ الطغاة/ الجلادين. هذه الامكانية تمنح الفرصة للاستمرارية وبالتالي خلق ديناميكية الأمل وعدم الاصابة بالاحباط واليأس ازاء جسامة المهمة. إن العمل التضامني، بمستوياته المتعددة، فعل أخلاقي، لا يستند الى المصالح الفردية، بل يستمد قوته من القيم الإنسانية المشتركة المناهضة للظلم والقمع والطغيان. ولكي نساهم جميعا في هذا الفعل الاخلاقي النبيل «لا يتعين علينا الانخراط في أعمال بطولية كبرى للمشاركة في عملية التغيير. الأعمال الصغيرة، عندما تضرب بملايين الناس، يمكن أن تغير العالم «، كما يذكرنا المؤرخ الاشتراكي الأمريكي الراحل هوارد زن.

كاتبة من العراق

 

هدية أمريكا إلى العراقيين

كوكتيل الملوثات السامة

هيفاء زنكنة

 

احتل خبر علمي، في الاسبوع الماضي الموقع الثاني بعد « البريكست» في اجهزة الاعلام البريطانية. وتناول خبر ثان موضوعا مماثلا ولكن في أمريكا. وللخبرين علاقة وثيقة بالعراق والدول المحيطة به. تناول الخبر الأول نتائج الابحاث التي أجرتها جامعة « سنترال لانكشاير»، ببريطانيا، على مقربة من «غرينفيل تاور»، بلندن، الذي تعرض لحريق هائل أودى بحياة 72 من سكانه في حزيران/يونيو 2017.

أجريت الابحاث بعد ان اشتكى عدد من السكان المقيمين على مقربة من المبنى من مشاكل صحية تراوح أعراضها بين السعال المصحوب بالدم والامراض الجلدية وصعوبة التنفس. بعد مرور ستة أشهر على الحريق، تم تجميع عينات من التربة، فتبين إن مستويات المواد الكيميائية السامة التي أطلقها الحريق عالية وأن كثيرا منها سامة بشكل حاد أو مزمن، مما سيزيد من احتمال الاصابة بأمراض الربو والسرطان. وحين قام فريق من جامعة كاليفورنيا، في لوس أنجلوس، بتحليل عينات من التربة والحطام مأخوذة من ستة مواقع على بعد 1.2 كم من المبنى، كشفت الدراسة عن «تلوث بيئي كبير» في المنطقة المحيطة، بما في ذلك الرواسب الزيتية التي جمعت بعد 17 شهرًا. بناءً على مستوى المواد الكيميائية التي تم اكتشافها، خلص العلماء إلى زيادة خطر حدوث عدد من المشكلات الصحية لتلك الموجودة في المنطقة. وأوصوا باجراء فحص صحي، طويل الأجل، لتقييم أي آثار صحية ضارة للحريق وما أفرزه من مواد، على المدى البعيد، على السكان المحليين وحتى فرق الانقاذ وعمال التنظيف.

أما الخبر الثاني فمفاده تبنى الكونغرس الأمريكي مطالبات الجنود بالتعويضات المادية والرعاية الصحية، وهم الذين قاتلوا بالعراق وأفغانستان واصيبوا بالامراض جراء التلوث الناتج عن حرق النفايات في القواعد الأمريكية. وصفت السناتور آمي كلوبوشار، من الحزب الديمقراطي، حرق النفايات قائلة «هذا هو عامل جيلنا البرتقالي»، في إشارة إلى مبيد الأعشاب السام الذي رشته أمريكا على غابات فيتنام بين 1955 و 1975، للقضاء على المقاومة الفيتنامية، وأصاب رذاذه الجنود الأمريكيين ايضا، مسببا لهم أمراضا مستعصية.

لهذين الخبرين، علاقة وثيقة بالتلوث البيئي الهائل، المسكوت عنه رسميا، الذي يعيش في ظله المواطن العراقي. وقد يصلحان، بالاضافة الى ما هو متوفر من بحوث عراقية ودولية، كنقطة انطلاق لمحاكمة الدول التي استخدمت أنواع الاسلحة (وبعضها محرم دوليا) وما نتج عنها من تفجيرات واطلاق لملوثات سامة على مدى عقود بدءا منذ التسعينيات. ان ما توصل اليه العلماء من تأثير السموم الكيمياوية على السكان المقيمين على مبعدة كيلومترات من غرينفيل تاور نتيجة حريق تم حصره بشكل سريع بالمبنى نفسه ولم يمتد الى أماكن أخرى (وهذا ما يجب ان يكون حرصا على حياة المواطنين)، يشكل مقارنة مرعبة بما تعرض له العراقيون، في عديد الأماكن والمدن، على مدى عقود وليس أياما.

إن السموم الموجودة في الدخان الناتجة عن حرق النفايات في المنشآت العسكرية الأمريكية في العراق، يمكن أن تلعب دورًا مهمًا في التسبب في سرطان قدامى المحاربين». وإن «نسبة الإصابة بالسرطان الأعلى بكثير تأتي من العراق الآن ومن أفغانستان أكثر من الحروب الأخرى

تشكل أصناف الاسلحة ونوعية القنابل والمواد الكيميائية التي تم استخدامها ضد العراقيين، من قبل قوات التحالف بقيادة أمريكا وبريطانيا، قائمة لا تساويها بطولها غير قائمة الامراض التي تغزو أجسادهم، وتتجذر في حالة النساء الحوامل وصولا الى الأجنة حيث أثبتت البحوث المستقلة قدرتها على التغيير الجيني.

من بين الأسلحة التي تم استخدامها، بالاضافة الى التجريبية، اليورانيوم المنضب، القنابل العنقودية والنيوترنية والحرارية، الفسفور الابيض (نوعه المحرم)، النابالم، وبحدود 19 ألف قنبلة « ذكية» و حوالي 9 آلاف «غبية». هذا جزء بسيط مما رصدته. د سعاد ناجي العزاوي، الاستاذ المشارك في الهندسة البيئية، في بحوثها وأوراقها العلمية العديدة. ومن أهم هذه البحوث 12 بحثا، حول التلوث الإشعاعي باليورانيوم المنضب في العراق، بعد حرب الخليج الأولى، واختيار أفضل المواقع لردم والتخلص من النفايات الصناعية والمشعة. توصلت في آخر ورقة علمية لها، بعنوان «نمذجة انتقال ملوثات اليورانيوم المنضب جنوب العراق»، الى استنتاجات مهمة من بينها ان التربة الملوثة بتركيز عال ومتوسط هي مصدر مستمر لانبعاث غاز الرادون الذي يستنشقه المواطنون بشكل مستمر. وان المناطق الملوثة بأكاسيد ونويدات انحلال اليورانيوم المنضّب بتراكيز عالية تعتبر مصادر تلوث مستمرة لأنها تصبح عالقة في الجو مع كل عاصفة رملية في المنطقة، مما يعرض السكان والبيئة الاحيائية لجرعات اشعاعية اضافية ترفع من مستويات معاملات الخطورة، للاصابة بالأمراض الناجمة عن مثل هذا النوع من التلوث.

واذا كان ما أطلقه حريق «غرينفيل تاور» من سموم، قد سبب أعراضا مرضية للسكان وهو مبنى واحد، فماذا عن قصف المدن (الفلوجة والموصل مثلا) و حرق قوات الاحتلال لمخلفاتها في حفر مكشوفة في 52 قاعدة عسكرية (بضمنها كردستان وكربلاء)؟ لم يعر المحتل اية اهمية للسموم التي نثرها الى ان ظهرت نتائجها على قواته. وكان لوفاة ابن جو بايدن، نائب الرئيس الأمريكي السابق، الذي كان ضمن قوات الاحتلال بالعراق، واصيب فيما بعد بسرطان دماغ من النوع النادر، تأثير اعلام، خاصة حين قال جو بايدن في مقابلة تلفزيونية مع «بي بي أس نيوز أوار» الأمريكية، بانه يعتقد «أن السموم الموجودة في الدخان الناتجة عن حرق النفايات في المنشآت العسكرية الأمريكية في العراق، يمكن أن تلعب دورًا مهمًا في التسبب في سرطان قدامى المحاربين». وان «نسبة الإصابة بالسرطان الأعلى بكثير تأتي من العراق الآن ومن أفغانستان أكثر من الحروب الأخرى».

ومن يزور الموقع الحكومي للمحاربين القدامى الأمريكيين، سيجد معلومات مخيفة عن نوعية النفايات التي يحرقها المقاولون والجيش في حفر مفتوحة. من ضمنها: «المواد الكيميائية والطلاء والنفايات الطبية والبشرية وصناديق المعادن / الألومنيوم والذخائر وغيرها من الذخائر غير المنفجرة ومنتجات البترول ومواد التشحيم والبلاستيك والمطاط والخشب والأغذية الفاسدة. ويضاف الوقود النفاث كمعجل»، ويعتمد مدى انتشار الدخان على مواقع الحرق والرياح السائدة.

في أواخر صيف 2008، تم حرق 147 طنا من النفايات في اليوم، في قاعدة بلد لوحدها. وحسب الموقع الحكومي الأمريكي ان السموم المتصاعدة من الحرق تؤثر على الجلد والعينين والجهاز التنفسي والقلب والأوعية الدموية والجهاز الهضمي والأعضاء الداخلية. وفي نوفمبر 2018 نشرت قناة « فوكس نيوز»، نتيجة دراسة علمية، عنوانها «قدامى المحاربين يعانون من وفيات عالية بسبب السرطان نتيجة التعرض لحرق النفايات في الهواء الطلق»، أعدها باحثون في جامعة أوغوستا في جورجيا، خلصت الدراسة الى ازدياد احتمال وتطور سرطانات خطيرة وأمراض أخرى.

مقابل ذلك، ماذا عن ضحايا السموم والتلوث من العراقيين؟ هناك تعتيم حكومي شامل يتغذى على الفساد الأمريكي – العراقي المشترك، ويبقى الأمل الوحيد، حاليا، هو بعض المبادرات الفردية المعنية بتجميع المعلومات ونتائج البحوث واعداد الملفات لمقاضاة المسؤولين، على أمل النجاح، كما في فيتنام، مستقبلا.

كاتبة من العراق

 

 

في الموصل جريمة وليست فاجعة

 

هيفاء زنكنة

 

انها المرة الأولى، منذ غزو العراق عام 2003، التي يقوم فيها محتجون بمطاردة رئيس الجمهورية، يخترقون حاجز حمايته وحرسه المسلح الخاص، ويجبرونه على الفرار، وهو على وشك الاختناق من صرخات الغضب، وموجة الأجساد التي انهكها الحزن. أجبروه على نزع ابتسامته، المستهينة بالناس عادة، ليرتسم على وجهه ذعر، صورته أجهزة الموبايل المرتفعة على الرؤوس. سجلت العدسات كيف بات همه الاول في تلك اللحظات، هو الهرب ممن افترض انه جاء ليكذب عليهم. زحف الى السيارة المصفحة التي تحمل أسم «حماية القائد». تجاذبته الايدي، وسُحبت سترته عدة مرات حين اراد الجلوس فيها. أراد المحتجون ان يعرف ان غرق الضحايا، بالموصل، جريمة وليس فاجعة، وانه، يجب ان يحاسب كما كل مسؤول، أيا كان منصبه، فالفساد معروف، والإرهاب معروف، والاستهانة بحياة المواطنين وحقوقهم لم تعد سرا خفيا، وان السمكة فاسدة من رأسها.

المحتجون هم أهل ضحايا العبٌارة التي أودى غرقها، منذ ايام، بحياة 120 شخصا، بينهم 62 امرأة و18 طفلا، كانوا قد ارتدوا ملابس العيد متوجهين الى جزيرة أم الربيعين، للاحتفال بعيد نوروز، ببدء الربيع، وعيد الأم. المحتجون هم من أهل الموصل، المدينة التي لايزال ضحايا «تحريرها قصفا»، تحت الانقاض، بعد مرور ثلاثة أعوام. المدينة التي يتحكم بحياة أهلها اليوم ميليشيات طائفية، ومحافظ فاسد يمتهن السمسرة، مع آخرين، في عقود «اعادة الاعمار» الوهمية، حاميا نفسه بكل الطرق وبضمنها اعتقال الصحافيين المستقلين وحصر موافقات التصوير والتغطية الإعلامية به شخصياً.

هل كانت زيارة الموت مفاجئة وغير معروفة الأسباب؟ من يراجع يوميات الموصل، منذ الاحتلال، وحتى اليوم، سيجد نفسه ازاء جواب مخيف. فالموت بأشكاله غير المبررة، المبتذلة، والوحشية، مقيم في المدينة. يتجول في أزقتها وغاباتها، قد يغادرها لوهلة الا انه سرعان ما يعود اليها متخفيا أو كاشفا عن أوجهه. فللموت، بالموصل أوجه متعددة. كان المحتل الأمريكي أولها حين أولت قوات الاحتلال للمدينة «رعايتها» وذلك لموقعها الخاص وتنوعها الديني والعرقي. ولأنها، مثل مدينة الفلوجة، رفضت الخضوع للمحتل وقاومته، بكل الطرق الممكنة، كما ينص ميثاق الأمم المتحدة بحق الشعوب بمقاومة الاحتلال. فكانت معركة الموصل في تشرين الثاني/نوفمبر 2004 التي نجحت المقاومة فيها من استعادة ثلثي المدينة، الى ان تم أرسال 20 ألف جندي من الفرقة 101، المحمولة جواً، بقيادة اللواء ديفيد بترايوس، الذي تمت ترقيته فيما بعد الى منصب القائد العام للقوات الأمريكية، ومن ثم رئيس وكالة المخابرات الأمريكية (السي آي أي) مكافأة له على إنجاح سياسة «مكافحة التمرد» في الموصل أولا ثم بقية العراق. وأرسلت قوات الاحتلال، بالتعاون مع نوري المالكي رئيس الوزراء الذي كان يعرف نفسه بأنه «شيعي قبل ان يكون عراقيا» تعزيزات عسكرية لكبح «التمرد» مرة اخرى عام 2007.

عملت أجهزة الاعلام بحمية ومثابرة على التضليل وتخدير العقول، صاحبها فساد القضاء، لتوفير الحماية لساسة «العملية السياسية»، وارتكاب كل الخروقات والجرائم خارج نطاق القانون، بينما صار مصير أي شخص يحاول ولو اثارة التساؤل حول حقيقة ما يجري، الاتهام بالإرهاب

منذ ذلك الحين، وحتى العام الماضي، وعمليات قوات الاحتلال، سواء كانت أرضا أو جوا (بعد احتلال داعش للموصل في 2014) مستمرة تحت عناوين مختلفة ولمحاربة «أعداء» بأسماء تتغير بتغير المتطلبات. فاذا كان «العدو» في بداية الاحتلال هو البعثي والصدامي وضباط الجيش الصدامي المنحل، فأنه تحول تدريجيا الى الإسلامي الإرهابي، عضو تنظيم القاعدة، أولا ثم الدولة الإسلامية (داعش) ثانيا، ولاتزال ماكنة انتاج «العدو» ناشطة لتسويق عدو جديد.

بالتزامن معها، عملت أجهزة الاعلام بحمية ومثابرة على التضليل وتخدير العقول، صاحبها فساد القضاء، لتوفير الحماية لساسة «العملية السياسية»، وارتكاب كل الخروقات والجرائم خارج نطاق القانون، بينما صار مصير أي شخص يحاول ولو اثارة التساؤل حول حقيقة ما يجري، الاتهام بالإرهاب والعمالة بل والتصفية الجسدية.

وفي ظل الحكومات العراقية، ونتيجة للفساد المستشري، حسب التقرير الأخير لمرصد الحريات الصحافية الدولي، باتت «المؤسسات الحكومية تعتم على المعلومات، مما يعرض الصحافيين الى الخطر والملاحقة والتهديد، ولا سيما الساعين الى استحصال معلومات ووثائق متعلقة بالفساد المتعدد الاوجه، فغالباً ما تلجأ تلك المؤسسات إلى حظر نشر المعلومات ومنع تداولها». فتزايد عدد مكاتب «المتحدثين الرسميين» المختصين بتقديم البيانات حول «أنشطة» المسؤولين الايجابية فقط، بالإضافة الى منابر الاعلام الحزبية، بينما أغلقت الابواب امام الصحافيين.

هذه هي خلفية جريمة غرق العبارة. انها ليست « حادثا» مؤسفا أو كارثة بيئية نترحم فيه على أرواح الضحايا، نقيم مجالس العزاء وقد نقبض بعض التعويضات، ثم ننسى. بينما يواصل السراق النهب من جهة والجلوس في استديوهات القنوات الفضائية، متظاهرين بالنزاهة واتهام الآخرين بالنهب، من جهة أخرى. نحن ازاء عصابة تتقن الكذب على الشعب وتزوير الحقائق. إذ من الضروري تزوير التاريخ واضفاء صفة النبل على ما يرتكبونه.

وهذا هو بالضبط ما أعلنوا أنهم «سيقومون» به، إزاء «فاجعة العَبٌارة». أرسل رئيس الوزراء عادل عبد المهدي، بعد ان رأى ما لحق برئيس الجمهورية برهم صالح، تغريدة الى رئيس البرلمان طالب فيها بإقالة محافظ نينوى «للاهمال والتقصير الواضحين في أداء الواجب والمسؤولية، ووجود ما يدل من تحقيقات تثبت التسبب بالهدر بالمال العام واستغلال المنصب الوظيفي». ووافق البرلمان على الطلب داعيا الى « تشكيل لجنة تحقيق». يهدف هذا القرار، كما هو واضح، الى القاء اللوم على ثلاثة أشخاص هم المحافظ ونائبيه، بعد ان اكتشف رئيس الوزراء، فجأة، وبقدرة قادر، اهمال وتقصير المحافظ، فأرسل تغريدته للاعلان عن اكتشافه وبيان نبل أخلاقه. غاية القرار الحقيقة هي طمر الفساد الأكبر، المتجذر بعمق المؤسسات الحكومية في كافة ارجاء العراق وليس الموصل لوحدها، بدءا من رأس السمكة حتى ذيلها.

أما الاعلان عن تشكيل لجان التحقيق أو فتح الباب لذوي الضحايا للمطالبة بالتعويضات، فانه مسخرة أخرى واستهانة لا مثيل لها بذكرى الضحايا وذويهم، فكلنا يعلم مصير مئات لجان التحقيق التي تم تشكيلها منذ الغزو وحتى اليوم. أنها لجان فضائية، حسب معجم العملية السياسية، واذا وجدت لغرض دفع مخصصات لأعضائها، فلم يحدث وتم الاعلان عن نتائجها. أما طلب اهل الضحايا بالتعويضات، فكلنا يعرف تكلفة التقدم بأي طلب كان الى أية جهة حكومية والذي من المستحيل انجازه بدون دفع مئات وآلاف الدولارات. إن ما قام به المحتجون، في أعقاب انتشال الضحايا، فعل نابع من فهم لما حدث والظروف التي ادت الى حدوثه، وهو أعمق من المخدر الذي تقدمه الحكومة والبرلمان.

كاتبة من العراق

 

 

هل نحن مسؤولون عن مجزرة نيوزيلندا؟

 

هيفاء زنكنة

 

قيل وسيقال الكثير حول المجزرة التي ارتكبت اثناء صلاة الجمعة، يوم 15 مارس/ آذار، في مسجدين، في مدينة كرايست تشيرش، في نيوزيلندا. وقد يكون ما لن يقال أكثر. ففي لحظات الفاجعة الانسانية الجماعية، وحتى ما يليها، يصاب العقل بصدمة تعيقه عن رؤية الحدث بجوانبه المتعددة، وغالبا ما تكون الاستجابة العاطفية خليطا من حزن وألم وذعر وغضب واستعادة لذكريات مريرة، في آن واحد. يتبدى هذا بوضوح على المستوى الانساني ـ الفردي وامتداده الجماعي. فتكون ردود الافعال، الآنية والبعيدة في بعض الحالات، نوعا من التشبث الانتمائي بالمجموعة، أيا كانت. خاصة اذا استقطبت الفاجعة الاهتمام سياسيا واعلاميا، وبات مادة خصبة للتداول بين ساكني مواقع التواصل الاجتماعي.

توفرت هذه المواصفات، كلها، في ردود الافعال حول ارتكاب مجزرة الجامعين وما تلاها. فهي المرة الاولى التي يحدث فيها مثل هذا العمل الإرهابي في البلد الذي بدا للعالم، حتى لحظة المجزرة، كأنه يغفو، بسلام، بعيدا عما ينتاب البقية. جاء جرس الاستيقاظ، بشكل شاب ابيض، وصل الى نيوزيلندا من استراليا، مسلحا، سلاحه مجاز قانونيا، وليس لديه أي سجل في دوائر الشرطة او القوات الامنية او الاستخبارات، في كلا البلدين، على الرغم من تنسيق الاجهزة الامنية بينهما. نفذ جريمته بتخطيط دقيق الى حد ترتيب البث الحي، دقيقة بدقيقة، وهو يرتكبها. تكلف نداء التنبيه الى وجود «اليميني المتطرف»، حسب توصيفه محليا وعالميا، دماء ما يزيد على الخمسين ضحية وعشرات الجرحى، من مصلين مسالمين، نساء ورجال وأطفال، كانوا يظنون أنفسهم آمنين في المسجدين، يوم الجمعة.

تبين مراجعة سردية ظهور «الإرهاب»، المفاجئ في نيوزيلندا واستراليا، التي انتشرت بعد ارتكاب المجزرة، وجود ثقوب عميقة، أو فراغات واسعة في الفكر الغربي السائد. لعل أهمها هو تغاضي اجهزة الامن والاستخبارات الغربية، عموما، عن وجود وممارسات اليمين الابيض المتطرف، المركزة على نشر خطاب الكراهية ضد اللاجئين و«الاجانب» من غير البيض. فهي لا تتعرض لهم، مهما فعلوا تقريبا، بينما تتجه ملاحقتها ومراقبتها وتركيزها الأمني المكثف على المسلمين. حيث بات الإرهاب، سمة ملتصقة بالمسلم مهما كانت قوميته أو خلفيته العرقية. انه متهم بشكل أو آخر، حتى لو كان، قد ولد أو ترعرع في بلد اوروبي. انعكس هذا الوضع، تدريجيا، على عامة الناس، الذين يتشكل وعيهم عبر الخطاب الاعلامي والسياسي، لتسود شيطنة المسلمين ويصبح تصنيفهم كإرهابيين مقبولا ومألوفا بلا تمحيص.

للإرهاب منظمات وحكومات تمارسه. وأن تصبح المطالبة بالبحث عن جذوره وإيجاد الحلول هو الهدف، إذا ما أردنا ترسيخ ما يجمع الناس بعيدا عن «نحن» و«هم»

ولدينا أمثلة على توجيه اصبع الاتهام، اعلاميا، الى مسلمين، حال وقوع حادث يستهدف مدنيين في اية مدينة اوروبية، والى ان تظهر الحقيقة تكون صورة المسلم كإرهابي قد رسخت بالاذهان. أدى هذا الامر، ومع ظهور منظمات تستخدم الإسلام لستر جرائمها، والتشويه المنهجي المتعمد والاختراق المخابراتي أو «العمليات السوداء» المنسوبة الى حركات مقاومة الغزو والاحتلال، الى تحشيد قوى الامن لمراقبة المسلمين وملاحقة البعض، وتزايد حملات الضغط والمراقبة ضدهم، مما وفر للأبيض اليميني المتطرف حرية الحركة وعدم الملاحقة. لذلك، من الطبيعي، ألا يوجد سجل لمرتكب المجزرة الاسترالي (مع آخرين لابد قد تعامل معهم في رحلاته الى بلغاريا واسرائيل وتركيا وغيرها في مجرى اختيار موقع جريمته) وهو الذي قضى عامين في شراء السلاح والاعداد الدقيق لجريمته.

ان مجزرة المسجدين ليست حصيلة فعل فردي مختل، أو «تفاحة فاسدة»، كما قيل عن تعذيب المعتقلين من قبل قوات الاحتلال الامريكي، بسجن ابو غريب. انها حصيلة تغذية منهجية، سياسيا واعلاميا لـ «الإسلاموفوبيا»، على مدى عقود، من قبل جهات متعددة تراوح بين المحتل الاستيطاني، والغازي الامبريالي، وتجار السلاح والهيمنة على النفط مرورا بالحكام العرب المستبدين. أنه واقع بتنا نعيشه، تتخلله أصوات مستقلة انتبهت منذ وقت مبكر الى تأثير هذه السياسة، وتداعياتها الوخيمة، ومسؤولية أجهزة الاعلام في تناولها. وهذا ما أكد عليه الاعلامي البريطاني جيمس أوبراين، في حديثه عن المجزرة، قائلا في برنامجه الاذاعي في «أل بي سي»: «إن وسائل الإعلام تتحمل بعض المسؤولية عن إطلاق النار على المسجدين في نيوزيلندا… من خلال نشر مقالات تثير الكراهية ضد المسلمين». كمثال على ذلك، حدد جيمس مقالين، نشر الأول في صحيفة «الصن ـ The Sun»، وهي الصحيفة الأوسع انتشارا في بريطانيا. إدعى كاتب المقال: «إذا كنا نريد السلام، فنحن بحاجة إلى قدر أقل من الإسلام»، أما المقال الآخر فنشر في مجلة The Spectator، الناطقة تقريبا باسم حزب المحافظين البريطاني، وحث فيه كاتب المقال على الخوف من المسلمين، قائلا: «لا يوجد ما يكفي من الخوف من الإسلام في حزب المحافظين». ويخلص جيمس أوبراين أن «مثل هذه المقالات ساعدت على خلق ثقافة يدخل فيها رجل إلى المسجد حاملا بندقية ويبدأ إطلاق النار».

ولكن، هل هناك تمييز ضد المسلمين، في بلد ديمقرطي، مثل بريطانيا؟ خلص تقرير صدر عن لجنة الحراك الاجتماعي في أيلول/سبتمبر 2017 إلى أن المسلمين يعانون على نطاق واسع من التمييز والعنصرية في مكان العمل، بسبب الخوف من الإسلام، على الرغم من تفوقهم على نظرائهم من غير المسلمين في التعليم. وما يقرب 50٪ من الأسر المسلمة في حالة فقر، مقارنة مع أقل من 20٪ من إجمالي السكان. سرد التقرير العوائق التي تحول دون النجاح، بما في ذلك الصور النمطية السلبية عن المسلمين. كشف التقرير أن النساء اللاتي يرتدين الحجاب يواجهن تمييزا خاصا بمجرد دخولهن مكان العمل. صرحت الأستاذة جاكلين ستيفنسون، من جامعة شيفيلد هالام، التي قادت البحث، أن «المسلمين يتم استبعادهم أو التمييز ضدهم أو خذلانهم في جميع مراحل انتقالهم من التعليم إلى العمل».

جمع رد فعل رئيسة الوزراء النيوزيلندية بين التأثر الكبير والاحساس بالصدمة جراء حدوث فعل «إرهابي»، في بلد كنيوزيلندا، واستنكار ان يكون مرتكب الجريمة «منا»، مخاطبة السكان المسلمين قائلة «انتم نحن». وهذا هو الموقف الانساني والسياسي السليم لمن يؤمن، حقا، بالتنوع البشري وحق العيش بأمان. وهذا هو بالضبط الموقف الذي يجب تبنيه عند إدانة الإرهاب، بأنواعه. وألا تقتصر الادانة على فئة أو مجموعة بشرية دون غيرها، فللإرهاب منظمات وحكومات تمارسه. وان تصبح المطالبة بالبحث عن جذوره وإيجاد الحلول هو الهدف، اذا ما أردنا ترسيخ ما يجمع الناس بعيدا عن «نحن» و«هم».

 

 

تاثيرات « عام العدس» على الشعب العراقي!

هيفاء زنكنة

 

لا أظن أن هناك مواطنا، خارج حدود العراق، سيحظى بهدية من حكومته، تماثل ما حظي به المواطن العراقي. ولأن يوم المرأة لايزال طريا في الذاكرة، بعد مرور ثلاثة أيام،، يمكن اعتبار «الهدية»، بعد تغليفها بورق ملون، هدية خاصة للمرأة العراقية، تثمينا لدورها في المحافظة على بنية المجتمع. انها هدية صالحة لكل المناسبات والفصول والأعياد الدينية والتقليدية، ومنها شهر رمضان الكريم، كما أعلنت الأمانة العامة لمجلس الوزراء. الهدية الثمينة التي تناقلت أجهزة الاعلام تفاصيلها هي باقة عدس، عفوا، نصف كيلو عدس. ستقدمه الحكومة العراقية «دعماً للعائلة العراقية في الشهر المبارك»، حسب بيانها الرسمي.

وبما ان منجزات الحكومات، منذ غزو العراق عام 2003 حتى اليوم، تحمل في جوهرها، الاستهانة وازدراء المواطنين من جهة، وابتذال اللامنطق من جهة ثانية، تطورت عند المواطنين، بالمقابل، وكنوع من الدفاع عن سلامة البقية الباقية من العقل، موهبة جديدة، هي روح النكتة والتهكم والسخرية السياسية، والتي لم يكن المجتمع العراقي مشهورا بها، كما الشعب المصري، مثلا. فانتشرت النكات والكتابات السياسية الساخرة بالإضافة الى الكاريكاتير، بسرعة مذهلة، مستهدفة المحتل الأمريكي، بداية، لينضم اليه الإيراني لاحقا. تلاه التهكم اللاذع ضد الساسة الفاسدين وخاصة مستخدمي الدين الإسلامي، من الطائفتين، لستر سرقاتهم وفضائحهم «الدنيوية»، فضلا عن منظمة الدولة الإسلامية «داعش» التي واجهها المواطنون بنكات، اختلط فيها التهكم بالتقزز، من ممارساتها الهمجية. ولم يسلم المواطنون، أنفسهم، من استهداف أنفسهم أو بعضهم البعض، بروح السخرية المعجونة بالألم والحسرة، متجاوزين حدود اللياقة، أحيانا. صار البعض يمنح نفسه صفة المراقب، المستهجن لما يراه، غير المنتمي الى «الحشود». ليتمكن بذلك من تبرئة نفسه من المسؤولية، وامتطاء صهوة القيم الاخلاقية، متسائلا باستغراب اتهامي: كيف يسكتون على الضيم الذي يزداد وقعا عليهم كل يوم؟

وإذا كانت السخرية، السياسية خاصة، تهدف الى فضح الزيف والنفاق والفساد، فأنها، على الاغلب، لا تطرح حلولا، على الرغم من تعدد أشكالها ومستوياتها، مما يدفع الى التساؤل عن جدوى ممارستها؟

تشير متابعة انتشار روح التهكم والسخرية السياسية، في العراق اليوم، إلى ازدياد متابعيها، نتيجة تطورها بأشكال جديدة، مثل تصوير الفيديوهات القصيرة جدا، وتناقلها عبر مواقع التواصل الاجتماعي. مما جعل ملكيتها عامة للجميع. لم تعد تقتصر، كما في الماضي، على «النخبة».

حيث باتت، بالإضافة الى كونها سلاحا لفضح تداعيات مواقف سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية، مثيرة للجدل، أو فساد مالي أو أخلاقي أو خيانة للوطن، أداة فاعلة يواجه بها أبناء الشعب التدهور السريع، غير المعقول، للقيم التي تربوا عليها، ومفارقات الواقع المرير، بتناقضاته وتشوهاته.

بما أن منجزات الحكومات، منذ غزو العراق عام 2003 حتى اليوم، تحمل في جوهرها، الاستهانة وازدراء المواطنين من جهة، وابتذال اللامنطق من جهة ثانية، تطورت عند المواطنين، بالمقابل، وكنوع من الدفاع عن سلامة البقية الباقية من العقل، موهبة جديدة، هي روح النكتة.

واقع ان يكون المرء ابن ثاني أكبر بلد منتج للنفط، بالمنطقة، بلغت ميزانيته للعام الحالي 88 مليار دولار، بينما يعيش ربع السكان و50 بالمئة من أطفال المحافظات الجنوبية تحت خط الفقر. بلد «لايزال 1.8 مليون من مواطنيه، يسكنون الخيام، بعد مرور أكثر من سنة على انتهاء العمليات القتالية» حسب منظمة الصليب الاحمر الدولي، في الشهر الماضي. وهي العمليات التي طالما استخدمت لتبرير الفساد الذي بلغ حدا بات فيه المسؤولون، أنفسهم، يحذرون من نتائجه وهم يتراشقون التهم. آخر المسؤولين «النزهاء» هو ملا بختيار، مسؤول الهيئةِ العاملة في المكتب السياسي للاتحاد الوطني الكردستاني، الذي صرح، يوم 21 شباط، ان «حجمَ الفساد، وصلَ الى أكثر من 800 مليار دولار، منذ الاحتلال، وان عددَ المدارس المبنيةِ من طين فيهِ يبلُغ 60 الفَ مدرسة». بينما يتمتع الساسة وحواريهم بالغنى الفاحش. الغنى الذي بلغ حد أن يوزع احدهم على المدعوين لعرس ابنته، ليرات ذهبية بدلا من «الحامض حلو».

هذا الواقع المنسوج بالظلم، والتمييز الطبقي والعنصري العرقي والديني والطائفي، وتمكن المتورطين بقضايا الفساد الفاحش من الهرب إلى خارج البلاد أو بقائهم مطلقي السراح بموجب «قانون العفو العام»، مهد الأرضية لنمو روح السخرية والتهكم لابلاغ رسالة محددة مهما كان تأثيرها صغيرا. وتشكل ردة الفعل الساخرة على اضافة نصف كيلو العدس، الى الحصة التموينية، للتوزيع خلال شهر رمضان، وبعد ان نقصت مفرداتها تدريجيا، بعد الاحتلال، مثالا يثير الضحك، كاشفا، في الوقت نفسه، زيف الادعاءات الرسمية وعدم تطابقها مع الواقع.

بدأت حملة السخرية بنش بعض الناشطين وسم «عدس الحكومة يجمعنا». ليليه «حملة التبرع بالعدس للحكومة». كلاهما تصدرا قائمة انتشار التغريدات في العراق. وأدت منحة العدس الى النظر، من جديد، في كيفية تطبيق بعض القوانين الحكومية على المواطنين، فكتب أحدهم: «كل مواطن له الحق في استلام مادة العدس مالم يكون مشمولا بإجراءات المساءلة والعدالة». وتم إيضاح الشروط أكثر، بتعليق آخر: «من شروط استلام العدس في شهر رمضان المقبل، ان يكون المستلم من أبوين عراقيين بالولادة، وأن لا يكون قد استلم عدس في زمن النظام السابق».

لم يفًوت عدد من فناني الكاريكاتير العراقيين المشهورين، فرصة معالجة ثيمة العدس، فرسم الفنان أحمد المندلاوي عائلة مكونة من أربعة أفراد: أب وأم وصبي وفتاة، واقفون، كأنهم ينظرون الى المجهول، وهم ينشدون نشيدا حماسيا، يرتبط لحنه الشائع بالذاكرة الجماعية العربية، بعد استبدال كلماته المعروفة بمفردة العدس، ليصبح «العدس الساطع آت وانا بطني جوعان… العدس الساطع آت بحلول شهر رمضان». ونشرت صورة تمثل عادل مهدي، رئيس الوزراء، وهو جالس على الارض، مرتديا الدشداشة، متسائلا «والله دايخ بالعدس نطي ربع كيلو لو ميت (مئة) غرام… حيرة

وبينما اقترح أحد المؤرخين تسمية العام الحالي «عام العدس» موضحا « في أزمنة شيوع الأمية، كان الناس يؤرخون بالوقائع.. فيقولون «سنة الجراد». واليوم لشيوع الأمية بنسبة مرعبة اقترح ان يؤرخ للعام الذي نحن فيه بعام العدس». إرتأت الكاتبة بثينة الناصري ان يمتد الاقتراح ليشمل « ومن يولد له مولود ذكر في هذا العام سوف يسميه : عدس (إذا كان سنيا) وعداس (إذا كان شيعيا) و(عوديسو) إذا كان كلدانيا، وإذا كانت انثى فسوف تشيع اسماء : عدسة /عديسة/عدوس». كما صار البعض يتبادل التحيات التقليدية مطعمة بالعدس على غرار يا صباح أو يا مساء العدس.

أما على مستوى التضامن الدولي، فقد أخبرنا أحد النشطاء بأن شركة أديداس، المشهورة، متعددة الجنسيات، قررت أن تحذف حرفين (يد) من علامتها التجارية ليصبح أسمها «أداس» تضامنا مع شعب العراق. مما يستدعي، حتما، إطلاق هوسة عشائرية شعبية، يتم أداؤها ترحيبا اذا ما زار أحد مدراء الشركة البلد،: «ها…أخوتي… ها، أفرح يا شعبنا، البرلمان أنطاك أداس». يقودنا استعراض هذه النماذج الساخرة الى تساؤل يستحق التوقف عنده حول تأثيرها: هل هي مجرد تنفيس آني عن الغضب أم إنها نوع من المقاومة السلمية؟

 

عن يوم المرأة وجيل عراقي بلا عُقد حزبية

 

هيفاء زنكنة

 

كما جرت العادة، ستقام بمناسبة يوم المرأة العالمي، احتفالات رسمية في معظم البلدان العربية. حيث سيقوم أولياء الامر من الحكام والساسة ورؤساء الأحزاب وأصحاب منظمات المجتمع المدني، بتلاوة المديح النسائي والتسبيح عليها وطليها بالثناء، وكيف انها تشكل نصف المجتمع ولولاها لما قامت للمجتمع قائمة… وأنها…. الى آخر الأسطوانة المشروخة، وهم ذات الحكام والساسة الذين يمارسون كل أساليب القمع والاضطهاد والتمييز ضدها، أما بشكل مباشر أو غير مباشر. فخطاب الوقوف بجانب المرأة والدفاع عنها كليشيه، تزويقية، ضرورية للأنظمة العربية للظهور بمظهر حضاري ومتمدن ونفي سمات التخلف والرجعية.

ولا يقتصر استغلال « قضايا» المرأة على الأنظمة، بل استنسختها، في ظل « الديمقراطية» منظمات المجتمع المدني، المتلقية للدعم بحجة «تمكين» المرأة والدفاع عن حقوقها. وكما جرت العادة، ما ان تشارف ساعات « يوم المرأة» على الانتهاء حتى يكرر المسؤول والسياسي وعوده بتحسين الأوضاع وإصدار القرارات بين يديه ويرميها بأقرب سلة مهملات. أما منظمات المجتمع المدني فإنها ستواصل خطاب التمكين الى أن ينتهي الدعم المالي المكرس للتسويق والذي وفر لأصحابها ما لم يكونوا يحلمون به لولا المتاجرة بقضايا المرأة.

هذا، بطبيعة الحال، لا ينطبق على كل منظمات المجتمع المدني، اذ يخوض عدد منها صراعا قد يستهلكها، أحيانا، من اجل الحفاظ على استقلاليتها المادية والعملية. كما تبرز، بين الآونة والأخرى، مجموعات مكونة من ناشطين، يجمعهم هدف الحراك من أجل الكل، بلا استثناء، وبلا تمييز بين المرأة والرجل، مما يعيدنا الى حقب حركات التحرر الوطني، التي شارك في خوضها ودفع ثمن التحرر من الاستعمار وهيمنته واستغلاله للشعوب، كل أبناء الشعب من الرجال والنساء معا. مثل هذه النشاطات، بآليتها وسيرورتها، المستقلة، تساعد على التشبث بالأمل، وابعاد شبح الأسى والإحباط العام، بعيدا عن « الأيام» المُختطفة من قبل الأنظمة والساسة.

من بين النشاطات التي نثرت حماسا، غير معهود، في الأسابيع الأخيرة، في الاوساط العربية، والعراقية خاصة، بلندن، وهي المنشغلة عادة بمراكمة المآسي، قيام مجموعة من الناشطين، بنشاط نوعي جديد، استحوذ على تغطية إعلامية متميزة، نسبيا، من قبل أجهزة الاعلام الغربية.

تضمن النشاط أوجها عدة. اعتصامات وأفلام وملصقات ومعرض وورشة فنية. فخلال شهر كامل، سبق افتتاح المتحف البريطاني معرضا بعنوان «أنا آشور بانيبال ملك العالم ملك آشور» عن الامبراطورية الآشورية، ومركزها نينوى عملت المجموعة (لا يزيد عدد أفراد نواتها على أصابع اليد الواحدة) على الاعتصام المتكرر داخل وخارج المتحف، بحضور مئات المشاركين، وتصوير كل ما يحدث ومن ثم نشر الأفلام والتصريحات والمقابلات عبر مواقع التواصل الاجتماعي باستهداف مكثف. احتج الناشطون على تمويل شركة النفط البريطانية «بريتيش بتروليوم» للمعرض. وهي الشركة التي تركت آثار استغلالها البشع على كل البلدان التي عملت فيها، ومنها العراق «ووفقاً لوثائق الحكومة البريطانية الصادرة في عام 2011، كانت شركة بريتش بتروليوم مستقتلة للدخول إلى العراق قبل غزو عام 2003، حيث «مجال النفط الكبير». مما يجعل الشركة، متواطئة في حرب أسفرت عن مقتل مئات الآلاف من العراقيين وتشريد الملايين، حسب تصريح الناشطين.

خطاب الوقوف بجانب المرأة والدفاع عنها «كليشيه» تزويقية، ضرورية للأنظمة العربية للظهور بمظهر حضاري ومتمدن ونفي سمات التخلف والرجعية.

عند مراجعة تفاصيل نجاح المجموعة، والتغطية الإعلامية التي حظيت بها، من قبل صحف معروفة مثل « الغارديان» و«الاندبندنت»، وعدد من المواقع الفنية، نتوقف لنتساءل: ما الذي جعلها تحقق ما لم تتمكن نشاطات أخرى للجالية العراقية وغيرها من تحقيقه؟

هناك أسباب عديدة.

أولا: قامت المجموعة بعدة نشاطات متنوعة لتستقطب بذلك جمهورا متعدد الاهتمامات. ثانيا: تمت الاعتصامات داخل وخارج حيز غير سياسي، بل معروف، عالميا، باحتضانه للحضارات من جميع ارجاء العالم، بحيث ان « استعمارية» المكان، من ناحية الاستيلاء على كنوز وآثار البلدان المستَعمرة، مختلف عليها حتى بين الكثير من المثقفين الذين تعيش بلدانهم حروبا ونزاعات «أهلية». إذ يرون في المُستعمِر من يحافظ على الآثار في مكان واحد بينما يقوم أبناء البلدان، أنفسهم، بتهريب آثارهم لتباع في الأسواق العالمية وتُركن، الى الابد، في خزانات لا يمكن حتى القاء النظر عليها. ولم تستهدف الاعتصامات «حضارية» المكان بل تمويل المعرض لتضيء جانبا يحمل أقسى التناقضات.

ثالثا: لم يقتصر النشاط، بأوجهه المتعددة، الاحتجاجية والفنية، على تأثير سياسة الشركة على العراق، لوحده، بل فضح سياستها في بلدان مختلفة من العالم. هذه المعالجة أنقذت المجموعة من السقوط في «غيتو» الصراع بين الضحايا وتنظيم نشاطات تفتقد الى التواصل التضامني. وهو مطب كبير، بات سائدا في العقدين الأخيرين، حيث يتم جلب الانتباه الى مأساة بلد ما أو مجموعة بشرية أو أقلية أو جندر، دون ربطها بما يجري للآخرين في البلد نفسه أو في بقية ارجاء العالم، فتكون النتيجة تفتيت القضايا الإنسانية واستهلاك جهد الناشطين.

رابعا: رأينا في النشاط المتنوع عودة الى التضامن، بمفهومه الحقيقي، بين مجموعة من الناشطين الذين ينتمون الى بلدان مختلفة ويجمعهم الوعي بعولمة الاستغلال من قبل شركات احتكارية عابرة للأوطان، يهيمن عدد منها على الثروات الوطنية، بينما تقوم أخرى ببيع السلاح.

وتراعي كلها تبييض الوجوه بـ«المساعدة الإنسانية» وتوفير الدعم لنشاطات ثقافية وحضارية. ازدواجية هذه الأدوار، تطرق اليها منظمو الاعتصامات والمعرض بشعارات ذكية واعمال فنية رائعة، ساعدت الجمهور على النظر أبعد من الاعراض السطحية.

خامسا: ينتمي أفراد المجموعة التي قامت بالتنظيم، كونهم شبابا، الى جيل عراقي لا يحمل حقائب العُقد السياسية، وموروث صراعات الماضي، وانعكاساته على نشاطات المنتمين الى الأحزاب السياسية التقليدية. ما يحملونه هو حب العراق والاعتزاز بحضارته وعدالة قضيته، وهذا هو الأهم. وهم يماثلون، بذلك، الجيل الفلسطيني الذي وُلد وعاش، بعيدا عن الوطن، ولم يزر افراده فلسطين الا ان فلسطين، بالنسبة اليه، قضية عادلة، تمس جوهر الوجود الإنساني، ولا يمكن التخلي عنها الا إذا تجرد الفرد من انسانيته.

كاتبة من العراق

 

الإعدامات ودورات الانتقام في العراق

هيفاء زنكنة

 

يتم بين الحين والآخر إطلاق نداءات استغاثة من داخل أحد السجون العراقية لجذب الانتباه الى ما يعانيه السجناء من أوضاع مزرية لا تليق «حتى بالحيوانات» حسب تعبير أحد السجناء الذي تمكن، أخيرا، من ابلاغ رسالته الى مصدر موثوق به، منبها الى نقل اعداد من الاحداث المعتقلين بتهمة الإرهاب، من مدينة الموصل، الى سجن الناصرية سيئ الصيت، لكثرة تنفيذ احكام الإعدام. طالب صاحب الرسالة «ذوي الضمائر الحية» والمجتمع الدولي بالتدخل لإنقاذ حياة الفتيان. يحيلنا هذا النداء وتهمة «الإرهاب» التي وسمت الفتيان، وعلى الاغلب اعترافاتهم، الى تصديق ناقل النداء حسب المعطيات المتوفرة حتى اليوم حول واقع المحاكمات الجائرة التي تتم في العراق، في ظل نظام قضائي يتسم بالعيوب العميقة، حسب تقرير لمنظمة «هيومان رايتس ووتش»، الحقوقية، حيث «يُحرم المتهمون، ولاسيما المشتبه في علاقتهم «بالإرهاب»، من حقهم في الحصول على الوقت الكافي والتسهيلات الكافية لإعداد الدفاع، وفي عدم تجريم النفس أو الاعتراف بالذنب، واستجواب شهود الادعاء. وتستمر المحاكم في قبول «الاعترافات» التي تُنتزع تحت وطأة التعذيب كأدلة. وحُكم بالإعدام على العديد من المتهمين الذين أُدينوا إثر محاكمات جائرة».

ولا تكتفي السلطات العراقية بإصدار وتنفيذ أحكام الإعدام بحق المعتقلين بتهمة «الإرهاب»، خاصة، بعد ان شرعنت المعركة ضد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) كل أنواع الانتهاكات بحجة محاربة الإرهاب، بل غالبا ما تشمل الاعتقالات المحامين الذين يدافعون عن المتهمين واتهامهم بأنهم أعضاء في التنظيم. ومع حرمان المعتقلين من التواصل مع ذويهم أو العالم الخارجي، عموما، صار من السهل على السلطات العراقية، تنفيذ الإعدامات دون نشر أي أرقام رسمية حول هوية المعتقلين أو جرائمهم أو مشاركة هذه المعلومات مع الجهات الفاعلة الدولية، مكتفية، أحيانا، بإصدار تصريح مقتضب ينص على «تنفيذ حكم الإعدام بعدد من الإرهابيين»، في حال تعرضها لضغط دولي يطالبها باحترام حقوق الانسان، مستهينة بذلك بواحد من أهم حقوق الانسان على الاطلاق وهو حق الحياة الذي تواصل انتهاكه، يوميا، بإعداماتها التي جعلتها تحتل المرتبة الرابعة في اعلى معدلات الإعدام في العالم، بعد إيران، والصين، والسعودية.

يشير فوز العراق بهذه المرتبة «العربية»، الى وجود هوس مرضي يدعى عقوبة الإعدام، ينتشر كما الطفيليات والاعشاب الضارة، بين حكام وساسة البلدان العربية، ولا يوجد في الأفق ما يدل على التخلص منه، إذا ما استمرت حالة الاستبداد السلطوي، واعتبار الشعوب أعداء غير جديرين بالحياة، على وضعها الحالي، ومع ازدياد تنفيذ أحكام الإعدام بأعداد متزايدة من الرجال ولا يستثني النساء، ويمتد، بلا استثناء أيضا، من مصر الى العراق الى المملكة العربية السعودية مرورا بسوريا، ليمنح خارطة الدول العربية لونا قانيا يُزيد من محنة شعوبها وتصاعد الإحساس بالظلم.

أمر رئيس الوزراء حيدر العبادي بتنفيذ أحكام الإعدام بشكل فوري في السجون بعد ثلاث ساعات فقط من تفجير الكرادة… وتم اعدام 65 محكوما، كانوا موجودين في السجن عندما تم التفجير الإرهابي

الاعدامات، اذن مستمرة وإصدار الاحكام بالإعدام يتزايد، في البلدان العربية وما يجاورها، بسرعة مخيفة تدفع العديد من الناشطين الحقوقيين والقانونيين، الى استخدام مفردات ادانة لم تكن واردة، في قاموسهم اللغوي سابقا، تجاه الحكومات التي حولت العقوبة من حكم نادر الإصدار الى فعل عادي قد يتعرض له أيا كان ولأي سبب كان. اذ يوفر القضاء العراقي، مثلا، للمسؤولين فرصة، لا مثيل لها، لانتقاء التهمة التي يراد منها إنزال عقوبة الإعدام، حيث يسمح بعقوبة الإعدام في نحو 50 ‏جريمة.

فبات من المتعارف عليه في تصريحات ناطقين باسم مجلس حقوق الانسان، بالأمم المتحدة، مثلا، استخدام مفردات على غرار «الإقدام على ‏إعدام الناس بالجملة هو امر بغيض وقذر، وكأنه مسلخ لصناعة اللحوم في مجزرة ‏للحيوانات»، لوصف سلسلة الاعدامات بالعراق و«مسلخ بشري» لوصف التصفيات الجماعية في السجون السورية.

إن اختيار 140 بلدا، من أصل 192 بلدا، عضوا في الأمم المتحدة، التخلي عن عقوبة الإعدام، ليس عبثا، بل ناتج عن دراية واقتناع بأن عقوبة الإعدام هي العقوبة النهائية القاسية واللاإنسانية والمهينة ـ في جميع الحالات بلا استثناء، باعتبارها تشكل انتهاكاً للحق في الحياة نفسه، وان تاريخ البشرية والبحوث ذات العلاقة، أثبتت بما لا يقبل الشك، بان الإعدام ليس رادعا لارتكاب الجرائم بل، غالبا، ما يؤدي الى ولادة جيل يحمل في داخله بذور الانتقام، في حال، اعدام الأبرياء. وهذا ليس مستبعدا إذا ما تم تنفيذ حكم الإعدام، بسبب خلفيات إيديولوجية أو سياسية أكثر من كونه حكمًا للردع. وهو ما نراه بوضوح في العراق. فالقضاء مُسير سياسيا، ينتهشه الفساد، وخاضع كالعبد لمزايدات هستيريا شعبوية الخطاب السياسي مما يساعد على استخدام أحكام الإعدام للترويع والترهيب وكوسيلةٌ لتصفيةٍ وتطهيرٍ عرقيّ تحت مظلة القانون. ففي تموز/ يوليو، مثلا، وفي اعقاب تفجير الكرادة، ببغداد، مثلا، أمر رئيس الوزراء حيدر العبادي بتنفيذ أحكام الإعدام بشكل فوري في السجون بعد ثلاث ساعات فقط من تفجير الكرادة، وتم اعدام 65 محكوما، كانوا موجودين في السجن عندما تم التفجير الإرهابي.

وبينما يواصل القضاء غير النزيه تنفيذ احكام الإعدام، تقوم السلطات بتغطية الانتهاكات التي ترتكبها أو تتعامى عن ارتكابها، من التعذيب والإعدام خارج نطاق القضاء والاختفاء القسري، ضد المواطنين، بالإعلان عن تشكيل لجان تحقيق. ولم يحدث ونشرت أيا من تلك اللجان، التي يتجاوز عددها المئات، النتائج التي توصلت إليها. وبدلا من ان تقوم السلطة ولجانها بالبحث عن الحقيقة والعثور على الجناة ومحاسبتهم قضائيا، يسارع المسؤولون، تخديرا لمشاعر الغضب الشعبي وتغطية لفشلهم، بتنفيذ احكام اعدام جماعية بمعتقلين، بعضهم موجود في السجن منذ سنوات، بعد أيام من كل تفجير إرهابي.

إذا كان هناك من درس علمنا إياه تاريخ العراق، خاصة، فهو ان تنفيذ أحكام الإعدام لن تحل مشاكل العراق ولن تضع حدا للإرهاب، مهما كان نوعه، بل انه أحد عوائق استعادة اللحمة الاجتماعية والمصالحة، بعد سنوات من تأجج المشاعر وبذر روح الانتقام المستغل سياسيا. أحد الأسئلة التي تستوقفنا عند البحث في عقوبة الإعدام وتعذيب المعتقلين، هو: كيف سيساعد اختطاف فتيان ونقلهم الى سجون، بعيدا، عن ذويهم، تحت طائلة قضاء غير نزيه، معروف بأحكامه الجائرة، الى المصالحة؟

يقول بيتر ماورير، رئيس اللجنة الدولية للصليب الأحمر (شباط/فبراير 2019) على وجوب اتباع الإجراءات القضائية وتوفير ظروف احتجاز لائقة تطبق بشكل منصف على جميع المحتجزين بصرف النظر عن الاتهامات الموجهة إليهم أو بلدانهم الأصلية. وإذا كانت السلطات جادة في مكافحة الإرهاب، فيتوجب عليها « الكشف عن مصير العدد الهائل من الأشخاص الذين لا يزالون في عداد المفقودين» الذين تصل أعدادهم مئات الآلاف.

«لقد التقيت في الموصل بعائلاتٍ تبحث عن أحبائهم المفقودين. أخبروني بما يعتصر قلوبهم من آلام يومية بسبب عدم معرفة مصير ذويهم. ولا بد للمجتمع ـ والسلطات العراقية ـ التصدي بشكلٍ مباشر لهذه المشكلات التي تؤجج العواطف».

كاتبة من العراق

 

من شباط إلى شباط أحزاب عراقية تحتضر!

 

هيفاء زنكنة

 

إذا كان شهر آذار/ مارس المقبل، هو شهر استحضار ذكرى الغزو الانكلو أمريكي والعدوان الاجرامي على العراق، فان لشهر شباط / فبراير، حيزا خاصا في الذاكرة الجماعية العراقية، لا ينافسه فيها غير شهر تموز/ يوليو. فشهر تموز يرتبط بتاريخنا السحيق بالإله تموز (الراعي)، الذي عاقبته عشتار آلهة الحب والحرب، عندما اكتشفت خيانته، بإنزاله الى العالم السفلي/ عالم الأموات ثم ندمت فأنقذته لتعيده الى الحياة ستة أشهر سنويا. والأول من تموز هو عيد ميلاد كل العراقيين، الذين لا يعرفون تاريخ ميلادهم. والرابع عشر من تموز، عام 1958، هو ميلاد الثورة (يسميها البعض انقلابا) ضد النظام الملكي، التي صاحبها قتل وسحل رموز العهد الملكي، بطريقة بشعة، غطت على جوانبها المشرقة.

والسابع عشر من تموز/يوليو، عام 1968، هو الانقلاب (يسميه البعض ثورة بيضاء) الذي جاء بحزب البعث العربي الاشتراكي الى السلطة بصحبة اعتقالات وتصفيات، وفي الثلاثين من تموز، بذات السنة، جرى انقلاب أخرى (يسميه البعض تصحيحا) صاحبته اعتقالات وتصفيات لقادة الانقلاب / الثورة الذي تم قبله بأسبوعين.

قد يتبادر الى الاذهان ان سلسلة هذه الاحداث (الدامية أو المشرقة حسب الانتماء الأيديولوجي لمن عايشها او منظور من يكتب عنها)، تُمكن شهر تموز من احتلال قمة الشهور التراجيدية في التاريخ العراقي المعاصر، وبلا منافس، الا ان أحداث شهر شباط الدامية، منذ عام 1949 وحتى اليوم، تثبت أنه ينافس شهر تموز، في مآسيه. كما تثبت أنه لايزال هناك متسع، في الذاكرة الجماعية العراقية، لتراجيديا الأسى والحزن والاحساس بالظلم الناثر للانتقام، على الرغم من اكتظاظها بعقدة الذنب وجلد الذات، للمساهمة أو السكوت (لا فرق) على مقتل الامام الحسين، منذ 1400 عاما. ومنذ ذلك اليوم، واجيال العراقيين تدفع «فوائد» دَيونِ لم يقترضوها.

في شهر شباط/فبراير، من كل عام تزورنا، الذكرى بعد الأخرى، وهي مخضبة بالموت. ففي 14 شباط، 1949، أعدم النظام الملكي تحت الوصاية البريطانية، مؤسس وقائد الحزب الشيوعي يوسف سلمان يوسف (فهد)، ورفيقيه زكي محمد بسيم وحسين محمد الشبيبي. وتم تعليق جثثهم في بغداد. وكان قد شنق قبلهم في الشوارع صلاح الدين الصباغ ورفاقه زعماء حركة مايو 1941 من قادة الجيش العراقي المتمرد على بريطانيا والوصي عبد الاله، وهم اول شهداء الحركة القومية العربية في العراق.

ووصل حزب البعث الى الحكم في 8 شباط/فبراير من سنة 1963، بشكل لا يقل عنفا. اذ استهل بإعدام رئيس الوزراء الزعيم عبد الكريم قاسم، بعد محاكمة صورية عاجلة في دار الإذاعة ببغداد، مع اثنين من مرافقيه، وعرض جثثهم، بطريقة مهينة، على شاشة التلفاز، في نفس اليوم. تلت ذلك حملة اعتقالات وتعذيب وتصفيات، طالت أعضاء ومؤيدي الحزب الشيوعي خاصة. وإذا كان الحزب الشيوعي يستعيد ذكرى « يوما لا يقارن ما ارتكب فيه من جرائم الا بما اقترفه الفاشيون والنازيون، وقد يكون فاقهم فيها… ويصعب تصور حجم الدماء الشيوعية الغالية التي سفحها الانقلابيون الفاشيون، وكم الارواح العزيزة التي ازهقوها»، ببيانات وتصريحات نارية، لا يذكر فيها تحالفه ومشاركته الحكم مع أولئك « الانقلابيين الفاشيين» بعدها ببضع سنوات وتصفية جميع القوى الأخرى هذه المرة.

قسمت الصراعات الدموية الضحايا الى « شهداء» يحملون ختما خاصا بأحد الأحزاب دون غيره. بات الشهيد ملكا خاصا خاضعا للتغييب أو المزايدات السياسية والاستغلال المادي. وبدت الصورة بأوضح صورها في فترة ما بعد الغزو. فصار «الشهيد»، في الأحزاب الطائفية، ورقة مقايضة للحصول على المناصب والعقود والابتزاز

يستعيد حزب البعث ذكراه، هو الآخر، ولكن كيوم ثورة “قوضت الحكم الديكتاتوري القاسمي بعد ان انحرف بثورة 14تموز 1958، عن مسارها الوطني والقومي». نُشرت تأكيدا لهذه النقطة، على مواقع التواصل الاجتماعي، صورا ‏ وُصفت بأنها « نادرة جدا لشهداء ثورة الشواف قبل وبعد إعدامهم. الثورة التي انتفض فيها اهل الموصل ضد الطاغية الدكتاتور عبد الكريم قاسم ودموية الحزب الشيوعي الذي قتل عشرات الآلاف من اهالي الموصل وكركوك ومناطق أخرى من العراق».

وذكر بيان أصدره حزب البعث، الأسبوع الماضي، بأن “الحزب قدم من اجل الثورة كوكبة من الشهداء الابطال»، كما تطرق الى ما اسماه «ردة 18-11- 1963 واصفا إياها بأنها» اقترنت بشن حملات قمعية ضد مناضلي حزب البعث العربي الاشتراكي الابطال من اجل اجتثاثه والقضاء عليه واعتقل آلاف البعثيين وتعرضوا للتعذيب والاعدامات والحرمان الوظيفي».

قسمت الصراعات الدموية الضحايا الى « شهداء» يحملون ختما خاصا بأحد الأحزاب دون غيره. بات الشهيد ملكا خاصا خاضعا للتغييب أو المزايدات السياسية والاستغلال المادي. وبدت الصورة بأوضح صورها في فترة ما بعد الغزو. فصار «الشهيد»، في الأحزاب الطائفية، ورقة مقايضة للحصول على المناصب والعقود والابتزاز.

ولم يقتصر شهر شباط على صراعات وتقاتل الأحزاب الرئيسية فحسب بل تعداها الى الولايات المتحدة الأمريكية، حيث أصدر الرئيس الأمريكي جورج بوش الأب، يوم 13 شباط/فبراير، عام 1991، أمره بقصف ملجأ العامرية المدني، ببغداد، بقنابل (ذكية) حرقت 800 طفل وامرأة اتخذوا من الملجأ ملاذا، من القصف اليومي المستمر، على بغداد، خلال التسعينيات. فأصبحت اجساد الضحايا المتفحمة شهادة حية على جريمة لم يحاسب عليها أحد. جريمة ستبقى «عارا على الإدارات الأمريكية المتعاقبة طالما انها لم تعتذر لذوي الضحايا، وطالما انّها لم تتخذ الاجراءات القانونيّة لمحاسبة المخطّطين والمنفذين لجريمة الحرب هذه»، حسب مركز جنيف الدولي للعدالة.

ان مسؤولية الحرب العدوانية ضد العراق، وهي الجريمة الدولية العليا كما عَرفٌتها المحكمة العسكرية الدولية في نورمبرغ، في أعقاب الحرب العالمية الثانية، تقع على عاتق الولايات المتحدة الأمريكية وشريكتها الأولى بريطانيا. وإذا كان الاحتلال قد قرر محاكمة الرئيس العراقي السابق صدام حسين، كما صرح بنيامين ب. فيرينكز، أستاذ القانون، وأحد المدعين العامين للولايات المتحدة في المحاكمات العسكرية للمسؤولين الألمان في أعقاب الحرب العالمية الثانية، في مقابلة أُجريت في 25 آب/أغسطس 2006 فانه « كان يجب محاكمة جورج دبليو بوش، أيضاً، لأن حرب العراق كانت قد بدأت من قبل الولايات المتحدة بدون إذن من مجلس الأمن الدولي». وعن إمكانية تحقيق العدالة قانونيا، قال: «يمكن أن تكون هناك دعوى مقنعة بأن الولايات المتحدة مذنبة بارتكاب الجريمة العليا ضد الإنسانية، لكونها حربا عدوانية غير شرعية ضد دولة ذات سيادة».

هذه الجريمة الدولية الأعلى، التي يصر البعض على اعتبارها «تغييرا»، شرذمت الأحزاب العراقية، المؤسسة قبل وبعد الاحتلال، وجردتها من آخر رابط يمنحها شرعية الوجود، وهو الوطنية وتمثيل العراقيين بشكل حقيقي. ليصبح شهر شباط، بتصريحاته الجوفاء وانتقائيته الشعبوية في النظر الى احداث تاريخية تتطلب تشخيص الحقيقة، نموذجا لاحتضار حزبي دام أمده. وستبقى مسؤولية اجبار الدول المعتدية على الاعتذار وتحمل مسؤولية الاضرار التي الحقتها بالبلد بشريا وعمرانيا، مؤجلة بانتظار استعادة الدولة وحكومة وطنية لا تحمل تابوت شهر شباط الثقيل على كتفيها.

كاتبة من العراق

 

 

)سيلفي( مثقفين عراقيين مع رئيس الجمهورية

هيفاء زنكنة

 

كيف يمكن ألا نفتخر ونتباهى برئيس جمهورية يزور معرضا للكتاب ببغداد صحبة «السيدة الأولى» وهو يقف بين كُتاب وناشري وموزعي اهم أداة لنشر الثقافة والمعرفة، في بلد متعطش للنشر والكتابة والقراءة، بعد تحقيق «الانتصار» على الإرهاب؟ لماذا لا ننضم الى جموع المصفقين والمرحبين وملتقطي الصور و«السيلفي»، مع رئيس جمهورية أنيق، بوجه حليق، ولباس غربي (خلافا لمرتدي العمامة والدشداشة والشروال)، يتحدث اللغة العربية بطلاقة (وهو الكردي)، ويحضر صحبة زوجته (بينما يخفي بقية الساسة زوجاتهم أما في البيت أو خارج العراق)؟ كيف لا نؤيده، وهو يخاطب الوسط الثقافي العراقي والعربي والعالمي، بكلمات نبيلة هي جوهر ما يصبو اليه أي مثقف كان، خاصة، في بلداننا، مؤكدا: «ان حريةُ التفكيرِ والتعبير عن الرأي مكفولةُ دستورياً في العراقِ الديمقراطي تعززها حريةُ حركةِ الكتاب وتجاوزُ أيِّ رقابةٍ على الفكرِ»؟

كيف لا نهز رؤوسنا اعجابا بجرأته، وهو يقف مستنكرا بأسف شديد جريمة اغتيال الكاتب علاء مشذوب، في الأسبوع الماضي، الجريمة التي رأى انها تفرض عليه والمسؤولين والمجتمع « العملَ بجهد استثنائي لكشف الجناة والقبض عليهم وإحالتهم للعدالة، والعمل أيضا بجهد فاعل، أمنياً واستخبارياً وسياسياً واجتماعياً، لأن تكون هذه الجريمة دافعاً آخر لاجتثاث العنف والإرهاب وأي تهديد لحياة وأمن وكرامة المواطن»؟

أليس الأجدر بنا كمثقفين، اذن، الاحتفاء ببرهم صالح كرئيس جمهورية لا مثيل له، ونسارع لالتقاط الصور معه، لنمسك بلحظة تاريخية نادرة، استنادا الى هذه التصريحات الجامعة لمواقف سياسية مسؤولة وفكرية وثقافية، يؤكد فيها على «حريةُ التفكيرِ والتعبير عن الرأي… وحرية حركة الكتاب وتجاوزُ أيِّ رقابةٍ على الفكرِ»؟

ما الذي يمنعنا من ذلك؟ هل هو موقفنا منه كسياسي ساهم بشكل فاعل، على مدى عقود، في تسويق غزو واحتلال «بلده»، متعاونا مع محتل مسؤول، بالدرجة الأولى، عن الخراب البشري والعمراني، عن مأسسة التمييز الطائفي العنصري، وما تلاه من إرهاب لا يكاد يخلو خطاب له من ذكره؟ أما حان الوقت لأن نتخلص من اوهامنا، حول المفاهيم الديناصورية التي نحملها، كالوطن والوطنية والخيانة والعمالة، وأن نرضى بالأمر الواقع، كما يفعل آخرون، وان نؤمن، بما تم تصنيعه من هويات مستحدثة، وان الاحتلال لا يزيد عن كونه مجرد اختلاف في وجهات النظر؟

ما الذي يقف حائلا بيننا وبين القبول بـ«الأمر الواقع»، كما يجسده شخص رئيس الجمهورية، وتصريحاته التي تغطي كافة الأصعدة، من حرية التعبير والرأي الى توفير الحماية والأمن لمن يمارسها؟

ان قائمة ترهيب وقتل الصحافيين والكُتاب والناشطين طويلة، وأحدثها (ولن تكون الأخيرة) جريمة قتل الروائي والباحث علاء مشذوب التي سبقها اختطاف واختفاء الناشط المدني الشاب جلال الشحماني، وقتل الشاعر بكر علي، وسوران مامه حمه، وسردشت عثمان، ولسنا بحاجة الى ذكرها بالتفصيل للدلالة على قمع حرية الرأي والتعبير

الحائل الأول والأخير الذي لا يمكننا التعامي عنه حتى لو رضينا، كما يراد منا جميعا، بالأمر الواقع، هو ما يدحضه الواقع نفسه، المتبدي بالفجوة الصارخة بين الرطانة والتطبيق. بين الادعاء والممارسة، وبين الحقيقة والتظاهر بالحقيقة تبعا لمنطلقات نفعية انتهازية. والقاء نظرة سريعة على واقع «حرية التعبير»، في العراق، منذ شهر واحد فقط (ولن أقول منذ عام 2003)، وموقف المسؤولين السابقين واللاحقين، وعلى رأسهم رئيس الجمهورية، يُكذّب بما لا يقبل الشك، تصريحات برهم صالح في معرض الكتاب، لتتكشف، كما هي عارية، مبتذلة، بابتسامة واسعة تحسده عليها جوليا روبرتس، مستهينا، بالكتب ومؤلفيها وناشريها، وحرية الفكر والتعبير.

فخلال الشهر الماضي فقط، سجل المركز العراقي لدعم حرية التعبير (حقوق)، مقتل صحافي، بالإضافة الى 15 انتهاكاً بحق الصحافيين، والمتظاهرين. أبرزها اعتقالات متكررة لصحافيين يعملون في قناة NRT، بإقليم كردستان، بناء على شكوى مقدمة من المكتب السياسي للحزب الديمقراطي الكردستاني، وفصل طلبة جامعيين بسبب التعبير عن آرائهم في الفيسبوك، بالإضافة الى ممارسة تحرشات من قبل قوات امنية، وتهديدات مبطنة على خلفية اعداد تقارير صحافية او تصوير مواد مرئية، واعتقال ستة متظاهرين في البصرة من قبل مفرزة تابعة لشرطة النفط، لمجرد طلبهم الموافقة على إقامة تظاهرة. وقدم مركز ميترو للدفاع عن حقوق الصحافيين، تقريره السنوي يوم 17 كانون الثاني/يناير، في مدينة أربيل، موثقا 349 انتهاكاً ضد الحريات الإعلامية في الإقليم فقط، بضمنها ضرب الصحافيين والهجوم المسلح من قبل قوات أمنية على بيوتهم وحرق مقار إعلامية، وإيقاف بث قنوات محلية.

وقام النظام في تموز/يوليو من العام الماضي، بقطع الانترنت، تبعها تقييد مقصود للوصول إلى منصات وسائل التواصل والإعلام الاجتماعية، في ارجاء العراق، عدة أيام، ردا على الاحتجاجات المطالبة بالخدمات الأساسية، ومنها الماء الصالح للشرب، في البصرة. وكان الهدف من هذه الخطوة هو كبح الاحتجاجات ووقف انتقادات الحكومة عبر الإنترنت.

ان قائمة ترهيب وقتل الصحافيين والكُتاب والناشطين طويلة، وأحدثها (ولن تكون الأخيرة) جريمة قتل الروائي والباحث علاء مشذوب التي سبقها اختطاف واختفاء الناشط المدني الشاب جلال الشحماني، وقتل الشاعر بكر علي، وسوران مامه حمه، وسردشت عثمان، ولسنا بحاجة الى ذكرها بالتفصيل للدلالة على قمع حرية الرأي والتعبير، فجريمة اختطاف او قتل واحدة في البلدان التي تتمتع بالحرية كافية لاستقالة مسؤولين وملاحقة المجرمين. أما في العراق، فأقصى ما يقوم به المسؤولون هو تحويل الجريمة الى خطاب «أسف واستنكار» تخديرا لمشاعر الناس الى ان يتم نسيان الجريمة في زحمة المآسي اليومية. فما هي مسؤولية المثقف المتميز بوعيه النقدي في هذه الحالة؟ هل هو ابداء الأسف والاستنكار كما يفعل الساسة، فيكون المثقف تابعا للسياسي، أو في أحسن الأحوال، واقفا بجانبه ليلتقط «سيلفي» كما حدث في معرض الكتاب، لنترك القيم الأخلاقية جانبا، لنترك «الوطن للجحيم والموت والعصابات والمخابرات»، كما يُذكرنا الروائي حمزة الحسن في نصه «من قتل علاء مشذوب؟»

كاتبة من العراق

 

 

العراقيون يرحبون بعودة الأمريكان!

هيفاء زنكنة

 

جاء انتشار صور وفيديوهات القوات الأمريكية وهي تتجول متمتعة باسترخائها ببغداد، وبالتحديد في شارع المتنبي، قلب العراق الثقافي، إعلانا رسميا بأن الإدارة الأمريكية، لم تعد ترضى بفكرة التواجد المستور وأنها تصرخ بأعلى صوتها، معلنة عن حضورها العسكري المباشر بالإضافة إلى مرتزقة الشركات الأمنية.

وكانت زيارة الرئيس الأمريكي ترامب إلى بغداد، نهاية العام الماضي، بدون الاتصال أو التواصل أو لقاء أي مسؤول عراقي، هي خطوة رسمية بحرق ذريعة المساعدة والتواجد» كمستشارين ومدربين»، والانتقال إلى مرحلة مطالبة المسؤولين العراقيين بالإقرار بفضل أمريكا في « التحرير» سواء عام 2003 أو 2017، خاصة وأن أمريكا، بمنظور الإدارة الأمريكية، سابقا وحاليا، تدفع الثمن غاليا بأرواح جنودها وأموال دافعي الضرائب. وتأتي المطالبة بدفع التكلفة وإلا… الموجهة إلى النظام العراقي مماثلة لمطالبة أو إنذار السعودية بدفع تكلفة حمايتها وإلا… الرسالة الموجهة إلى عديد دول العالم، تشمل النظام العراقي ومفادها أن هذه الخدمات ليست مجانية والولايات المتحدة الأمريكية ليست جمعية خيرية مسجلة عند هذا النظام أو ذاك.

هذه الشروط الواضحة وأهمها القبول بالحضور العسكري العلني وإعادة فتح المعسكرات وزيادة عدد القوات، وتصريح الرئيس ترامب، منذ يومين، بأننا لن نغادر العراق، يشكل نقلة نوعية في سياسة الولايات المتحدة الخارجية وهي مختلفة عن سياستها أثناء رئاسة باراك أوباما، التي ركزت على استثمار «القوة الناعمة» والعمليات الخاصة والقصف الجوي، والاكتفاء بأكبر سفارة في العالم ومستخدمي الشركات الأمنية الخاصة (المرتزقة) وعدد محدود من القوات العسكرية، كما كانت مسترخية في نظرتها إلى الواقع العراقي كساحة للنزاع أو الاقتتال مع إيران نتيجة توقيعها الاتفاق النووي، الذي قام الرئيس ترامب بإلغائه وإعادة فرض العقوبات عليها، وها هو يقول للعالم (متجاهلا الساسة العراقيين)، إنه يريد مراقبة إيران من القاعدة الأمريكية، باهظة الثمن، من العراق.

فما هو موقف الساسة العراقيين؟ إن إعلان الإدارة الأمريكية عن الحاجة إلى إقامة معسكرات إضافية وشروعها بذلك فضلا عن نشر أو تسريب صور وأفلام العسكريين الأمريكيين في أرجاء مختلفة من العراق، بالإضافة إلى بغداد، أخذ الساسة العراقيين وقادة الميليشيات على حين غرة وأحرجهم لأنه مزق الغشاء الذي طالما تستروا به حول السيادة والنفي المطلق حول وجود القوات الأمريكية. فمن منا لا يتذكر تصريح رئيس الوزراء السابق حيدر العبادي، مؤكدا: «لا يوجد أي جندي أمريكي مكلف بمهمة قتالية في العراق»، في الوقت الذي كانت القوات موجودة في قاعدة القيارة العسكرية الجوية، جنوب مدينة الموصل، ومن منا لا يتذكر تصريح معظم المسؤولين وقادة ميليشيا الحشد بأن الانتصار على مقاتلي «الدولة الإسلامية» (داعش) تم بأيدي قوات الحشد بينما تجاوز عدد غارات التحالف الجوية، بقيادة أمريكا، على مدينة الموصل لوحدها 12 ألف غارة بين يونيو/حزيران 2014 إلى 2017، فقط، وسببت مقتل آلاف المدنيين.

اليوم تتعالى أصوات السياسيين، من شيعة وسنة، وبقومياتهم، مشاركين في إطلاق صيحات الوطنية والحرص على «السيادة» والنزاهة

اليوم، تتعالى أصوات السياسيين، بقضهم وقضيضهم، من شيعة وسنة، وبقومياتهم، مشاركين في إطلاق صيحات الوطنية والحرص على «السيادة» والنزاهة.

وبينما تتصاعد حمى الخطاب الشعبوي إلى أقصى درجات التهديد والوعيد عند قادة الميليشيات المدعومة، إيرانيا، والتي باعتراف أبو مهدي المهندس، نائب رئيس ميليشيا الحشد الشعبي، لم تمس قوات الاحتلال الأمريكي سابقا، يسارع الساسة السنة، بمساعدة أجهزة إعلامهم، إلى الترويج بأن العراقيين يرحبون بعودة الأمريكان. ولا يكتفون بذلك، بل هناك من بات يروج لتصريحات «مسؤولين» أو «مصادر مطلعة» أن «الشارع السنّي يرحب تمامًا بالقوات الأمريكية وانتشارها في مختلف المدن والمحافظات السنية».

وإذا كانت ميليشيا الحشد (حسب ادعائها) قد هادنت قوات الاحتلال وسكتت على وجودها بذريعة محاربة الإرهاب أي «داعش»، وانتظر قادتها إلى أن قامت أمريكا بوضع عدد منهم ضمن قائمة الإرهاب، كما حدث للمهندس، فانقلبوا عليها، أو إلى أن بلغتهم الجهة الداعمة ـ إيران، بوجوب تغيير دفة المسار، فإن الساسة «السنة» المشاركين بالعملية السياسية، ومن يدعون تمثيل «الشارع السني»، كما ساسة الأديان والقوميات الأخرى، من أدعياء التمثيل للشعب بعد تفتيته، وجدوا ملاذهم في أحضان التفاوض السري مع المسؤولين الأمريكيين، بذريعة التخلص من النفوذ الإيراني، ليسقطوا أبناء الشعب في هوة «أما… أو» متناسين بانتقائية لا مثيل لها جرائم المحتل الأمريكي ومسؤوليته في مأسسة التمزيق الطائفي والفساد.

إن الاستنجاد بقوات الاحتلال الأمريكي، أو قوات ولاية الفقيه، بعد أن أثبتت الـ 16 سنة الأخيرة، بما لا يقبل الشك، رغبة كل منهما بالدفاع عن مصالحه وحل نزاعاته، على أرض العراق، جريمة لا تغتفر يرتكبها ساسة العملية السياسية على اختلاف أديانهم ومذاهبهم وقومياتهم ضد العراق، ونتيجتها الحتمية تقديم أهله قربانا لصراع ابتلع حتى الآن، حياة ما يقارب المليون مواطن. كما أن النداءات والحركات الاحتجاجية المطالبة بالإصلاح لم تعد ذات فاعلية بل وباتت أداة يتم تسخيرها لصالح النظام وتخفيف الضغط عليه، بحكم توجهها نحو الاحزاب ذاتها المنغمسة بالفساد، خاصة مع هيمنة ميليشياتها على الشارع واختطاف أو قتل كل من يجاهر بالاحتجاج. وإذا كان دعاة «الاحتجاج المطلبي» المشاركين في اللعبة السياسية نفسها قد نسوا اختطاف الناشط جلال الشحماوي، وعدم العثور عليه حتى اليوم، من بين آخرين، ها هم يعاد تذكيرهم بجريمة اغتيال الروائي والباحث د.علاء مشذوب، عصر السبت، في مدينة كربلاء، حيث اخترقت جسده 13 طلقة. والجريمة التي ارتكبها: التذكير بمصاب العراقيين، وأهل مدينته التي عشقها، جراء الطائفية والفساد المستشري.

كاتبة من العراق

 

 

انهم يقتلون المجتمع المدني في العراق!

هيفاء زنكنة

 

على مدى ثلاثة أيام تلقى عدد من رجال الدين من محافظة نينوى، شمال العراق «تدريبات مركزة على كيفية بناء السلام والتعايش والحد من الكراهية»، في ورشة أدارها « مشرف على عمليات بناء السلام» من منظمة مجتمع مدني تدعى «سند لبناء السلام». وتهدف المنظمة من خلال الورشة الى»بناء السلام» و«خلق فرص السلام»، بالإضافة الى «التسامح والتآلف والتعايش المجتمعي وفضاء الإنسانية». مما يعني ان المنظمة تفترض، إما بحسن نية أو لأن التمويل المتوافر يتطلب برنامجا كهذا، إن أهل الموصل، خاصة، ونينوى عموما، لم يحدث وأن عاشوا سوية بسلام وان المنظمة قادرة على تحقيق ذلك بقدرة مديرها ولقبه الرسمي «مشرف على عمليات بناء السلام». وهو لقب، ظننته قد استخدم، في البداية، من باب المزاح، في مجال مسميات نشاطات المجتمع المدني المستحدثة، إلا أن مواصلة القراءة أكدت ان المسألة جدية. ويستحق عمل المنظمة الذكر عند رصد مصادر تمويل المجتمع المدني بالإضافة الى النظر في ماهية المشاريع ومدى استجابتها للحاجة الفعلية للمجتمع، منذ الاحتلال عام 2003 وحتى اليوم.

الملاحظ ان منظمة «سند لبناء السلام» تأسست عام 2013 بدعم من «معهد الولايات المتحدة للسلام». وهو مؤسسة يتمتع أعضاء مجلسها بعلاقات وثيقة مع أجهزة الاستخبارات الأمريكية. مما يضع علامة استفهام حول دور المعهد وماهية توفيره التمويل والدعم لمنظمات مجتمع مدني في بلد قامت أمريكا بغزوه، وهي المسؤولة الأولى عن تخريبه، بشريا وعمرانيا، بشكل مباشر وغير مباشر. وتصبح علامة الأستفهام أكبر حين يتم تمويل منظمات المجتمع المدني في البلد المحتل تحت شعار رنان هو «بناء السلام»، فعن أي سلام يتحدثون؟ هل هو ذات « السلام» الذي يحاول الكيان الصهيوني تسويقه، يوميا، بينما يدير آلة القتل المنهجي ضد الفلسطينيين؟ ألم يتم تفريغ السلام من فحواه النبيل بعد؟

مشروع آخر يستحق الاشارة، أنجزته منظمة مجتمع مدني تدعى «مؤسسة تجديد عراق لتنمية وتطوير الاقتصاد» تقدم نفسها باعتبارها « جادة في تطوير الوضع الاقتصادي والعلمي في العراق كمساهمة في بناء العراق الجديد». أما المشروع الذي أنجز نهاية العام الماضي، فهو «حملة تشجيع البدء المبكر للرضاعة الطبيعية»، حيث تدرب خلال يومين 20 شخصا من ملاكات الصحة على «تشجيع الأمهات العراقيات على ترضيع الأطفال حديثي الولادة». ويؤكد موقع المؤسسة على ان الحملة تمت بدعم «من الشعب الأمريكي» و«المؤسسات الإنسانية» ووزارة الصحة وبالتعاون مع منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونسيف). هذه المعلومات، تثير التساؤل حول ماهية المشاريع: فمتى توقفت الأمهات العراقيات عن إرضاع اطفالهن حديثي الولادة؟ حسب علمي، أنه إذا كانت هناك مشكلة فهي ان الأمهات يواصلن الارضاع لسنوات ما لم يكن هناك سبب صحي مانع وليس العكس. بالإمكان اعتبار هذه المشاريع نموذجاً مصغراً لمشاريع «إعادة الاعمار» على مدى أعوام الاحتلال.

لم تكن ولادة «المجتمع المدني» الذي برز بمنظماته وشبكة اتصالاته، في العراق المحتل منذ عام 2003، طبيعية

وفي كتابه «كانت نيتنا حسنة»، يكشف الدبلوماسي الأمريكي بيتر فان بورن، قائد فريق إعادة الإعمار التابع لوزارة الخارجية الأمريكية في العراق، عن قائمة طويلة من المشاريع الخيالية أو الوهمية التي قام بها فريق الإعمار وفي كلا الحالتين لم تكن ذات فائدة إطلاقاً للمجتمع العراقي بينما «كلفت دافع الضرائب الأمريكي أموالاً طائلة»، حسب تعبيره، وان كانت الأموال، في الحقيقة، مستخلصة من العراق نفسه.

يتساءل فان بورن أثناء تمحيصه طبيعة المشاريع: «إذا ما تم تعيينك مسؤولا عن «إعمار العراق»، هل ستنفق أموال دافعي الضرائب على لوحة جدارية في أخطر أحياء بغداد لتشجيع المصالحة من خلال الفن؟ ماذا عن إنشاء «مصنع الحليب» النائي المعزول الذي لا يستطيع العاملون فيه نقل الحليب إلى السوق؟ أو إدارة صف لتدريب العراقيات على صنع المعجنات وفتح المقاهي في شوارع قصفت وتفتقر إلى الماء والكهرباء؟».

وإذا كانت مئات المشاريع قد تم تجميدها بعد الانسحاب الجزئي لقوات الاحتلال عام 2011، فإن ما أسس له من فساد مالي بقي متغلغلاً، في بنية الحكومات العراقية ومؤسساتها، من أعلى المناصب القيادية الى أصغرها، ومقبولاً، عملياً، من قبل كل المنخرطين في العملية السياسية، وبات، وهنا الخطر الأكبر، مؤثراً، أيضاً، على طبيعة وعمل «المجتمع المدني»، بذات المواصفات وبدرجات قبول متفاوتة، محليا وعالميا.

لم تكن ولادة «المجتمع المدني» الذي برز بمنظماته وشبكات اتصالاته، في العراق المحتل منذ عام 2003، طبيعية. فباستثناء قلة من المنظمات المستقلة، فعلاً، جاءت ولادة معظم البقية مشوهة، بعدما أعلن ديك تشيني، وزير الخارجية، أن أي عمل مدني تدعمه جزء من سياستها الرسمية وليس كما تشاء المنظمات أو الناشطون. عدد منها كان جزءاً من القوة الناعمة لبلدان أخرى ساهمت بالغزو وكانت قد أسست في الخارج لتسويق الخطاب الدعائي لشن الحرب، ومن ثم تم تصديرها الى داخل البلد لترويج خطاب «بناء الديمقراطية». العدد الآخر، تم تأسيسه داخليا، في فترات تطلبت نشاطا دعائيا ترويجيا معينا، مثل تأسيس مئات المنظمات قبل الانتخابات لتصويرها بأنها «نزيهة وشفافة». هذه المنظمات تتلاشى حالما تنتفي الحاجة اليها وينتهي التمويل. وإذا كانت من أبرز مصادر الدعم والتمويل لمنظمات « المجتمع المدني» الناشطة داخل العراق هي وكالة الاستخبارات الأمريكية (سي آي أي) ووزارة الدفاع (البنتاغون) ووزارة الخارجية الأمريكية والوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، في فترة الاحتلال الأولى فإن مسؤولية التمويل تقاسمتها منظمات أمريكية، مدعومة حكوميا، باشرت ذات المهمة وهي: المعهد الديمقراطي الوطني للشؤون الدولية، والمعهد الجمهوري الدولي، ومركز المشروعات الخاصة المستقلة، والمركز الأمريكي للتضامن الدولي من أجل العمل («مركز التضامن»)، وعدة منظمات أصغر مثل معهد الولايات المتحدة للسلام. مهمتها، على اختلاف أسمائها، تصدير السياسة الأمريكية تحت أغطية ملونة ومزركشة بالديمقراطية والمصالحة والسلام.

ولم يقتصر هوس تأسيس المنظمات على بلدان الاحتلال فقط، إذ سرعان ما اكتشف ساسة الحكومة العراقية أهميتها كأداة للتظاهر بالديمقراطية وحقوق الانسان أمام المجتمع الدولي والدول المانحة من جهة، ولإجهاض عمل المنظمات المستقلة من جهة أخرى. فباتت المنظمات الكبيرة المهيمنة على الساحة امتداداً طبيعياً للحكومة، اذ يحتل رؤساء عدد من أكبر منظمات المجتمع المدني المهيمنة على الساحة مناصب حكومية عليا، بالإضافة الى الأحزاب الفاسدة القادرة على التمويل، وتم تحويل «المجتمع المدني» من مجموعة من المنظمات التطوعية التي تنشأ وتعمل باستقلالية عن الدولة إلى واجهات لمن يدفع ناهيك عن تمثيل السياسة الخارجية لدول أخرى، والأدهى من ذلك حين تكون الدولة الممولة هي محتلة للبلد وعملت بمثابرة على تهديم بنيته التحتية وسببت مقتل مليون مواطن.

ان تدخل الأحزاب ووصاية الحكومة يعني موت المجتمع المدني فما بالك بالتدخل الأجنبي؟ ما بالك إذا كان الأجنبي هو المحتل الذي هدم البلد وعاد متظاهراً ببناء السلام من خلال منظمات ومشاريع تغذي قلة من المستفيدين أو السذج، وتمنع قيام مجتمع مدني فاعل يعمل على تشكيل الوعي ورفع المستوى الثقافي والتفكير المستقل والانجاز الحقيقي.

كاتبة من العراق

 

لماذا فشلت المظاهرات العراقية حتى الآن؟

هيفاء زنكنة

 

بعد هدوء نسبي، عاد المتظاهرون للاحتجاج بمدينة البصرة، جنوب العراق. عادوا مطالبين بذات المطالب التي دفعوا ثمنها غاليا: حياة العشرات واعتقال ناشطين واختطاف آخرين لا يعرف مصيرهم. فمنذ شهر تموز/ يوليو، في العام الماضي، والمتظاهرون يطالبون بأبسط الخدمات من الماء الصالح للشرب والكهرباء إلى توفير فرص العمل ووضع حد للفساد المتفشي، بأنواعه، في مؤسسات الدولة. يتظاهرون في بلد هو ثالث أعلى بلد مصدر للنفط بالعالم، وتنطلق أصواتهم بغضب ومرارة ورجاء من محافظة تعتبر أم النفط في العراق. وحين تجاوز الإحساس بالظلم مداه وأستهدف المتظاهرون مراكز الأحزاب والأداة المحلية باعتبارها تجسيدا للفساد الإداري والسياسي، وكما في المرات السابقة، جوبهوا بالرصاص الحي والغاز المسيل للدموع.

في أيلول/سبتمبر، من العام الماضي، وبعد مظاهرات شهرين تحت أشعة الشمس الحارقة، هطلت على سكان البصرة، زخات من زيارات مسؤولين حكوميين وممثلي المرجعية الدينية بمدينة النجف، وهم يحملون أطنانا من الوعود لتحسين الأوضاع. الا ان أيا منها لم يتحقق. عاد المسؤولون إلى الاستكلاب حول المناصب وعاد ممثلو المرجعية لاعتلاء منصة خطبة الجمعة واعظين. اختفت الأموال وتبخرت الوعود. فقرر المتظاهرون، يوم الجمعة الماضي، العودة إلى الشارع للاحتجاج. وهذه ليست المرة الأولى التي تتصاعد فيها نيران الاحتجاجات إلى حد منح الناس أملا بالتغيير ثم يخفت وهجها تدريجيا ويعود من يعود إلى داره وقد أضيفت طبقة جديدة من خيبة الأمل إلى حياته. وشباب البصرة ليسوا الوحيدين الذين يخاطرون بحياتهم للاحتجاج على الأوضاع وتقديم قائمة مطالب، تبقى في مضمونها، واحدة. بل انهم حلقة في سلسلة مظاهرات واعتصامات لو قمنا برصدها واحدة واحدة لوجدنا إنها تجاوزت المئات، منذ غزو البلد عام 2003.

وزيارة قصيرة إلى آلة البحث «غوغل» ستقود الباحث إلى صور مذهلة لساحات وشوارع المحافظات والمدن العراقية المكتظة أحيانا بالمتظاهرين والخالية الا من العشرات في أحيان أخرى. احتجاجات تمتد من شمال العراق إلى جنوبه، من إقليم كردستان إلى مشارف حقول النفط الجنوبية. تدحض الصور وقائمة المظاهرات الطويلة، المتعددة، فكرة اقتصار الاحتجاجات على «إرهابيين» من محافظات تم وسمها إعلاميا ودعائيا بالإرهاب. إذ تزين الاحتجاجات خارطة العراق بمدنه من السليمانية إلى الموصل والرمادي وبابل والناصرية والبصرة مرورا ببغداد التي شهدت امتداد روح الربيع العربي اليها عام 2011 على مدى شهور من الاعتصامات في ساحة التحرير، بقلب بغداد، فيما أطلق عليه أسم سلسلة «جمعة الغضب».

توجهت المظاهرات نحو المحتل، بشكل خاص، في فترة الاحتلال الانكلو أمريكي المباشر (2003 ـ 2011)، خاصة في مدن غرب العراق (الفلوجة والرمادي مثالا) لتنتقل بمطالبها نحو الحكومات العراقية (المنتخبة ديمقراطيا افتراضا) في السنوات التالية، في بقية المدن، لتشمل توفير الخدمات والحقوق الأساسية، من تعليم وصحة وسكن، ونال إقليم كردستان نصيبه من الاحتجاجات ومواجهتها بالعنف من قبل قوات الأمن والشرطة.

ركن المحتجون إلى الصمت، خاصة، بعد ان أصدرت المرجعية الدينية بالنجف، فتوى الجهاد ضد الدولة الإسلامية (داعش)، وباتت «داعش» أداة مقبولة محليا ودوليا، قانونيا ودينيا، لاتهام أي محتج بالإرهاب والداعشية.

اعلان الحكومة العراقية النصر على منظمة « داعش»، ومجيء حكومة جديدة أطلقت الوعود بالشفافية والقضاء على الفساد، بسخاء حاتمي، وما تلاه من تلاشي الوعود، أعاد الإحساس بالظلم بين المحتجين إلى موقع الصدارة. فعادت الاحتجاجات المتناثرة في عدة مدن

الا ان اعلان الحكومة العراقية النصر على منظمة « داعش»، ومجيء حكومة جديدة أطلقت الوعود بالشفافية والقضاء على الفساد، بسخاء حاتمي، وما تلاه من تلاشي الوعود، أعاد الإحساس بالظلم بين المحتجين إلى موقع الصدارة. فعادت الاحتجاجات المتناثرة في عدة مدن.

عند مراجعة كثافة وتعدد الاحتجاجات، واستمراريتها في أرجاء البلاد على مدى طويل يقارب 16 عاما، ومع أعداد الضحايا الكبير وخطف الناشطين بالإضافة إلى قصف مدن المحتجين بالبراميل المتفجرة (في الفلوجة)، نجد أنفسنا أمام سؤال مُلح هو: لماذا لم تحقق المظاهرات والاعتصامات، المطالب التي لايزال المتظاهرون يطالبون بها؟

هناك، بطبيعة الحال، مجموعة عوامل متداخلة، من بينها تسرب النفس الطائفي إلى بعض المظاهرات وتدخل المرجعية الدينية لصالح الحكومة بحجة تهدئة الحال وشعبوية الخطاب السياسي للأحزاب المسيطرة بحكم الفساد بالإضافة إلى استخدام بعبع «الإرهاب».

الا ان أحد العوامل المهمة التي غالبا ما يتم تجاهلها هو محلية الاحتجاجات أو، بأحسن الأحوال، امتدادها الجزئي المستند إلى التحشيد الطائفي والعرقي بعد التغييرات السكانية التي مررت بعد الاحتلال وافرغت مناطق كثيرة من اختلاطها التاريخي الطبيعي. فحركات الاحتجاج في إقليم كردستان، مثلا، لا تدفع الشباب إلى الاحتجاج في الرمادي أو كربلاء أو البصرة والعكس بالعكس، حتى حين تكون المطالب واحدة وشاملة مثل القضاء على كابوس أو إرهاب الفساد أو المطالبة بالأجور وحق العمل. لا تطرح الحركات المحلية حلولا جذرية وطنية عامة للتغيير، وبسبب طبيعة مطالبها وكونها بلا قيادات ذات خبرة في تطوير سيرورة الاحتجاج نرى انها تصبح ضحية تلاعب الأحزاب والفساد إذ تستغل في الصراعات على المناصب، حالما تتم مساومتها لقاء تحقيق أحد المطالب حتى تتخلى وتستكين ثم تعاود الخروج إلى الشارع بعد حين، مما يجعلها بسبب هذا التذبذب عاجزة عن قلب المعادلة الموجودة وعاجزة عن كسب جمهور صامد.

الإشكالية الأخرى هي فشل هذه التحركات الاجتماعية في استقطاب شرائح المجتمع المختلفة بالإضافة إلى فشل قوى المجتمع المدني، النقابات خاصة، في الانضمام اليها، باستثناء شركة نفط الجنوب، برئاسة حسن جمعة. فاحتجاجات خريجي هندسة النفط الشباب الذين لا تقوم شركات النفط بتعيينهم هم وعمال النفط الآخرين بل تجلب العمال والمهندسين الأجانب، لم تشهد يوما انضمام نقابة المحامين أو المعلمين أو اتحاد الكتاب والصحافيين لمساندة احتجاجهم، ولا دورا لغرف التجارة لمناهضة الفساد والابتزاز وفرض النزاهة في المجال الاقتصادي اليومي. بينما تبين تجربة الإحتجاجات والانتفاضات الشعبية في العالم إلى ان دور المهنيين في تزعم التظاهرات تمنحها درجات من الانضباط والنضوج والحصانة من الإختراق والتلاعب. تشير التجربة العراقية حتى الآن إلى تجميد الاحتجاجات في أماكنها بدون ان تتمكن من قطع خطوة أخرى باتجاه التجذر المجتمعي والاحساس العام بانه لم يعد هناك من حل غير العمل الجماعي، من الخريجين الشباب والعمال والطلبة والفلاحين إلى المهنيين ونقاباتهم. والانتقال من مرحلة الاحتجاج إلى إنتفاضة للتغيير تبدأ بالعصيان المدني الشامل والاضراب العام وكل النشاطات النقابية المحلية والعامة المبرهنة على التحرر الفعلي من الطائفية والعرقية، المستندة على فكر يخرج من الاطار المحلي إلى العام، ومن المصلحة الفردية إلى الوطنية لا بمفهومها الدعائي الفارغ الذي يتشدق به الساسة الحاليون بل المفهوم الجامع الذي تربينا عليه يوم لم نكن نُعرف أنفسنا بالطائفة أو الدين بل بكوننا عراقيين.

كاتبة من العراق

 

تثقيف «أطفال داعش»؟

هيفاء زنكنة

ناقش برنامج إذاعي عراقي موضوع تثقيف اطفال داعش الذين عاشوا مع التنظيم خلال فترة سيطرته على بعض المدن والمحافظات العراقية لكي يتم زجهم في المجتمع مرة اخرى بدون افكار داعش التي زرعها في عقولهم. وهي فكرة يرحب بها على مستويين. الأول لأنقاذ الأطفال، وهم ضحايا حقيقيون، من مصير مظلم، من خلال تأهيلهم والثاني هو إنقاذ المجتمع من بروز طبقة جديدة من الإرهابيين. خلُص البرنامج الى ان مسؤولية أداء هذه المهمة الإنسانية ـ النفسية ـ التعليمية تقع على وزارة العمل والشؤون الاجتماعية، بدون التطرق الى « إنجازات» الوزارة السابقة والحالية، ومدى قدرتها على تقديم أية خدمة كانت للمواطن. هنا نصل الى نقطة من الأفضل تسميتها باسمها الصحيح وهي استغفال المواطن إعلاميا، وهي نقطة تقتضي مهارة في التقديم تنتفي فيها « المسؤولية» الى حد لا يعود فيه مجال حتى لمفارقة المضحك المبكي. فمن خلال تكريس الساعة تلو الساعة لمقابلات « المسؤولين» المهرة في لعبة رمي المسؤولية على آخرين وبوجود مقدم برامج يناقش « الآن» دون العودة الى « الأمس»، صار المجال واسعا لكي تمارس معظم أجهزة الإعلام دورا كبيرا في التجهيل السياسي الممنهج وتزوير المعلومات ونشر الأكاذيب بشكل مغلف بالحقيقة، مستغلة انشغال المواطن بالهرولة خلف اساسيات الحياة من ماء وكهرباء وسكن.

يتبدى دور الإعلام التضليلي، بأشكال متعددة، منها، وهو الأذكى، عبر عدم تقديم الصورة كاملة، أحيانا، وفي التركيز على جانب واحد من القضايا وتضخيمه الى حد الغاء وجود بقية الجوانب، أحيانا أخرى. ومع هيمنة جو الخوف من تقديم الحقائق بعيدا عن الاتهامات المتبادلة بين فاسدين سياسيا ـ دينيا ـ أخلاقيا، يصبح حل المواطن الوحيد ان يرفع يديه باتجاه السماء باكيا مناديا « حسبي الله ونعم الوكيل».

نرى في تغطية خبر الحريق الذي اندلع في دار تأهيل الأحداث المشردات بمنطقة الاعظمية في بغداد، مثالا. مسؤولية من موت الفتيات حرقا وإصابة أخريات؟ كيف تمر جريمة بشعة كهذه بدون مساءلة؟ وهل هو الحدث الأول في سلسلة « إنجاز» وزارات مشغولة بنفي المسؤولية؟ ما الذي سيمنع تكرار جرائم مماثلة مستقبلا؟ وما هو دور الإعلام في تغطيتها؟

أدت أجهزة الإعلام دورها المعروف، عراقيا، بامتياز. وهو نشر التصريحات الرسمية، بدون مساءلة أو استقصاء، لعدة وزارات، الواحدة تلو الأخرى، من وزارة العدل الى الداخلية الى وزارة العمل والشؤون الداخلية، بالإضافة الى عدة مسؤولين، وكل جهة تدَعي قيامها بتحقيق عاجل، وكل العراقيين يعرفون ان « التحقيق العاجل» يعني، في الواقع، عدم التحقيق او، غالبا، التحرك السريع لطمس الحقيقة.

إن مأساة دار الحنان ودار الأحداث بالأعظمية تمثل نسبة قليلة من مآس وجرائم يعاني منها كل من تتكفل إحدى الوزارات بـ « رعايته» خاصة الأطفال والاحداث والمسنين

وواصلت أجهزة الإعلام تغطيتها «الجاهزة» حتى بعد تسرب معلومات تدين القائمين على إدارة الدار وعديد المسؤولين من قوات الأمن الى الساسة. وبلغت المهزلة الإعلامية ـ الحكومية أوج ذروتها حين نقلت أجهزة الإعلام، بلا مساءلة أيضا، تصريحا لوزارة العمل ذكر فيه ان ما حدث في دار تأهيل المشردات هو انتحار جماعي للفتيات. سبقه، قبل يوم تصريح لوزارة العدل حول قيام مجموعة من « المودعات المحكومات» بأعمال شغب نتيجة مشاجرة بينهن ادت الى وفاة ستة منهن. تلاها تصريح للوكيل الأقدم بوزارة العمل عن وجود ست جثث لفتيات نزيلات تتراوح اعمارهن بين 14 ـ 17 سنة في إحدى زوايا الغرفة محترقات بالكامل. مؤكدا اعتقال مديرة الدار وعدد من الحارسات والحراس لغرض التحقيق واجراء اللازم، وأنه لم يتبين وجود جريمة جنائية او خطأ بشري. وعادت وزارة العمل، يوم السبت، للتأكيد بأن الحريق كان مدبراً. وإن « 8 نزيلات» لقين مصرعهن وأصيبت 24 بجروح. وبنشاط محموم، يُحسد عليه، عاد وكيل الوزارة، الى منصة التصريحات، مساء السبت لينفي « الاشاعات» (يعني مواقع التواصل الاجتماعي) القائلة ان من اسباب اعمال الشغب والحريق تعود لسوء المعاملة وعدم توفير الخدمات الكافية للنزيلات، مؤكدا «توفير الخدمات والطعام بشكل كافٍ وفقا للمقاييس العالمية، فضلا عن حسن المعاملة «. مركزا على ان الدار محصن « من قبل الحرس والشرطة من الخارج مع عدم وجود تماس من قبلهم مع أي من المستفيدات في الداخل». وللنفي الأخير أهمية خاصة لأنه جاء ردا، على ما نشرته احدى الصحف وتم تناقله عبر الفيسبوك عن وجود شبكة منظمة للدعارة، يديرها ضباط فاسدون، بالتعاون مع موظفين حكوميين وإن الحريق “اندلع بعد شجار بين عدد من النزيلات، وموظفين في الدار، متورطين في إدارة شبكة دعارة تقدم خدمات جنسية لساسة وتجار، لقاء مبالغ مالية».

فأين الحقيقة؟ وكيف يمكن التوصل اليها وقد دفن جزء منها مع الضحايا والجزء الآخر محجوز مع بقية الأحداث، وبعضهم أطفال، وممنوع منعا باتا الحديث معهم؟ كل هذه الجرائم تتم بحق الاحداث والأطفال والعراق هو أحد الموقعين على اتفاقيات حمايتهما ومع وجود قانون عراقي يفصل تفصيلا دقيقا كيفية التعامل مع وحماية وتأهيل الأطفال والأحداث المشردين والجانحين. والأدهى من ذلك، هذه ليست الجريمة الأولى التي تمر بلا تحقيق او اعلان نتيجة تحقيق او مساءلة. فمن منا لا يتذكر جريمة «دار الحنان» للأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة، التابع لوزارة العمل والشؤون الاجتماعية، حين عثرت يوم العاشر من حزيران عام 2007، دورية للجيش العراقي برفقة مستشارين من الجيش الأمريكي، في الدار، شمال غرب بغداد، على 24 يتيما من ذوي الاحتياجات الخاصة، مقيدين الى اسرتهم، بعضهم منذ أكثر من شهر، غير قادرين على الوقوف والحركة بسبب حالة الهزال الناجمة عن المجاعة، كما تعرض بعضهم لاعتداء جنسي.

في حينها، طالبت النائبة جنان العبيدي (رئيس لجنة الصحة في مجلس النواب) بإجراء تحقيق عاجل لمحاسبة المسؤولين. فتم نسيان الجريمة. اليوم، أعربت عضو مفوضية حقوق الانسان فاتن عبد الواحد الحلفي، « عن قلقها حول الاحداث» وان كانت المفوضية بانتظار نتيجة تحقيق وزارة الداخلية. مما يعني، نسيان الجريمة.

إن مأساة دار الحنان ودار الأحداث بالأعظمية تمثل نسبة قليلة من مآس وجرائم يعاني منها كل من تتكفل إحدى الوزارات بـ « رعايته» خاصة الأطفال والاحداث والمسنين، سواء كانت وزارة العمل أو الداخلية أو العدل. مما يجعلنا نعرف مسبقا طبيعة التثقيف والتأهيل الذي سيحظى به « أطفال داعش»، كما بإمكاننا توقع المستقبل الذي سيجلبه الأطفال الينا جراء نوعية « التثقيف» الذي تنفذه الدوائر الرسمية!

كاتبة من العراق

 

الحكومة العراقية بين شعبوية

الخطاب ومسلخ الاعتقالات

هيفاء زنكنة

يتم بين الحين والآخر، تسريب خبر أو صورة لا يمكن نسيانها عما يعيشه المواطن العراقي، عموما، أو المعتقلون والسجناء بشكل خاص. حيث لا يُكتفى بحرمان المعتقل من حريته، وهو المطلوب من إبقائه رهين السجن، بل يتعداه الى حرمانه من كافة حقوقه وتجريده من إنسانيته. اذ يختزل المعتقل في بلادنا، إلى «شيء» يتسلى به الجلاد أما انتقاما أو إرضاء لنزعاته السادية أو تطبيقا لسياسة حكومية منهجية. ولا يمكن التمييز بين الأسباب بسهولة إذ غالبا ما تتداخل في ما بينها حيث يعزو الساسة منهجية التعذيب الى السلوك الفردي المختل أو كما برر قادة الاحتلال الأمريكي، عند فضح جلاديهم في أبو غريب، بأنه نتيجة وجود « بضع تفاحات فاسدة»!

ورغم إدراكنا إن التعذيب ليس غريبا على العراق، الا ان الاحتلال الانكلو ـ أمريكي أضفى عليه طابعا وحشيا مستحدثا، يليق بالتطورات « الحضارية» الامريكية والبريطانية مثل استخدام الموسيقى والعري والفيديو لتصوير إجبار المعتقلين على الممارسة الجنسية، وكانت تطورات نفسانية استحدثت لكسر كرامة ومعنويات السجناء المصنفين «متعصبين أخلاقيا». وتم ذلك بالتعاون مع الجلادين المحليين الفخورين بأساليبهم التقليدية.

من بين الصور المروعة التي تم تسريبها، أخيراً، ووجدت لها حيزاً في بعض وسائل الاعلام والتواصل الاجتماعي، وجود مئات المعتقلين، المتراصين جسديا، سواء كانوا على الأرض أو على أسرة ذات طابقين في عنبر بلا نوافذ وليس فيه سنتيمتر واحد فارغا. كيف يتنفسون؟ حركة الذراع تتطلب دفع المحيطين بمن يرغب برفع ذراعه. كل معتقل يشغل حيزاً لا يزيد على الربع متر مربع بينما توصي القوانين الدولية بأربعة أمتار مربعة كحد أدنى. هل النية قتلهم اختناقا؟ الوجوه شمعية بلا مشاعر. العيون جامدة، تحدق بلا شيء فاضحة مرحلة التشيؤ التي وصل اليها المعتقلون وهم على وشك الوصول الى نهاية يعرفونها. إنه الإعدام الذي تمهد له شعبوية الخطاب السياسي بحماس لا نظير له منذ الاحتلال عام 2003 باعتباره « مطلبا جماهيريا»، ويقف مسؤولو وزارة العدل والقضاة معتذرين من الشعب لأنهم تأخروا بتنفيذه لأسباب خارجة عن ارادتهم!

إن شعبوية الخطاب السياسي، المتبنى من قبل قائد أو حزب، يبدو ظاهريا، وكأنه إرضاء وتحقيق لرغبات الشعب، وكأنه تسليم السلطة الى الشعب، الا انه في جوهره لا يزيد عن كونه سياسة تدجين للشعوب. يتبناها الساسة أو يتزايد حماسهم لتبنيها، بشكل خاص، عندما يواجهون أزمة حقيقية قد تؤدي إلى ازاحتهم من مناصبهم ومواقع المسؤولية. حينئذ يبدأون التنقيب عميقا في الوعي الجماعي ليبرزوا الى السطح ما كان مطموراً منذ زمن بعيد أو تصنيع ما يرضي نزعات آنية يمسدون بها مشاعر الشعوب المنهكة والمنشغلة بتلبية الحاجات الأساسية فلا تعود قادرة على التفكير بما هو أبعد. يرسخونها في الوعي الجمعي عبر التكرار. وهو ما حدث في العراق بعد احتلاله. فالطائفية التي تبنتها أحزاب بلا جذور حقيقية في المجتمع العراقي، تصاعدت نتيجة ضخ الخطاب الشعبوي الطائفي ـ السياسي، اليومي، في مجتمع منغمر، بعد حروب وحصار واحتلال، بالمحافظة على البقاء، الذي يستحيل تحقيقه الا عبر الانتماء والاحتماء بهذه الاحزاب.

أعداد المعتقلين الهائلة في جحيم السجون والمعتقلات، وغالبيتهم من أبناء مذهب واحد، وبتهم جاهزة حيكت ضدهم منذ غزو العراق، يثبت أنها سياسة تخدير جماعي تستخدم لمنح الحكومة صورة من يأخذ بالثأر لصالح أهل الضحايا

في هذه السيرورة، بات من السهل على الأحزاب الطائفية تبرير كل ما يجري من فساد واعتقالات وحالات اختفاء، تحت ذريعة « الإرهاب»، برعاية الولايات المتحدة الامريكية. وبينما ينشغل الشعب بمشاهدة برامج تلفزيونية يبث من خلالها الساسة رسائلهم الشعبوية، بلغة تجمع ما بين الابتذال والبذاءة والقدح الأخلاقي، يتم تمرير قوانين تعاقب الشعب نفسه وتزيد من حالة الانقسام الديني والطائفي والعرقي والعشائري. من بين القوانين، المادة الرابعة من قانون مكافحة الإرهاب، وعقوبتها الإعدام، المُسَخر لأغراض طائفية سياسية وتصفية حسابات في ظل الافلات من العقاب. فلا عجب ان يتزايد عدد المعتقلين في سجون مكتظة مثل قطيع خراف بانتظار الذبح. وهي بالتحديد الصورة ألتي استنكرتها بشدة نافي بيلاي، المفوض السامي السابق لحقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة، في 19 نيسان/ابريل، 2013، واصفة الاعدامات في العراق بأنها «بغيضة وقذرة وتشبه مجازر ‏الحيوانات». وهو تصريح وتوثيق يجب التوقف عنده لسببين: الأول انه وصف حال المعتقلين قبل اعلان الدولة الإسلامية وإعلان الحكومة العراقية محاربتها الإرهاب متمثلا بداعش، في حزيران/يونيو 2014، وإتهام كل معتقل بأنه « داعشي». ثانيا، ازدياد الوضع سوءا حيث « أتاحت المعركة ضد داعش للحكومة العراقية وقوات حكومة إقليم كردستان حرية تنفيذ الانتهاكات الجسيمة تحت ستار مكافحة الإرهاب» حسب التقرير الأخير لمنظمة « هيومان رايتس ووتش» الذي أكدت فيه تنفيذ القوات العراقية إعدامات غير شرعية، وعذبت، وأخفت قسراً مئات المشتبه بهم… كما عمدت القوات العراقية إلى تعذيب وإعدام الأشخاص الذين تم أسرهم في ساحة المعركة وحولها مع إفلات كامل من العقاب، وفي بعض الأحيان حتى بعد نشر صور ومقاطع فيديو عن الانتهاكات على مواقع التواصل الاجتماع». وإذا كان هناك من يُسوّغ للحكومة وميليشيا الحشد الشعبي انتهاكاتها وجرائمها بحجة محاربة داعش فان « الانتصار» عليها واستبدال حكومة حيدر العبادي بحكومة عادل عبد المهدي لم يأت بجديد، إذ يشير التقرير إلى» ان السلطات العراقية تنفذ حاليا إعدامات من دون نشر أي أرقام رسمية أو مشاركة هذه المعلومات مع الجهات الفاعلة الدولية». وهناك أخبار تناقلتها مواقع التواصل الاجتماعي، منذ فترة، عن اعدام 70 سجينا، في يوم واحد، في سجن الحوت، بمدينة الناصرية، جنوب العراق. وهو سجن غالبا ما يتم تنفيذ الاعدامات فيه بشكل جماعي، بمباركة علنية من مجلس المحافظة ومليشيا الحشد الشعبي التي كلما تأخر تنفيذ الاعدامات، بسبب إعادة النظر بالقضايا مثلا، تهدد قوات الميليشيا باقتحام السجن وتنفيذ الاحكام بنفسها بحجة انه « مطلب شعبي».

تتغذى حكومة عادل عبد المهدي، غير المكتملة بعد، منذ ايامها الأولى على شعبوية الخطاب السياسي المناهض، ظاهريا، للخطاب الطائفي. الا ان أعداد المعتقلين الهائلة في جحيم السجون والمعتقلات، وغالبيتهم من أبناء مذهب واحد، وبتهم جاهزة حيكت ضدهم منذ غزو العراق، يثبت أنها سياسة تخدير جماعي تستخدم لمنح الحكومة صورة من يأخذ بالثأر لصالح أهل الضحايا. وقد تنجح آنياً إلا أنها ستقود، حتما، الى السقوط أكثر فأكثر في هاوية تمزيق البلاد.

كاتبة من العراق

 

ماذا وراء تغيير الكنيسة الأنغليكانية خطابها حول

«المصالحة» في السياسة الخارجية؟

هيفاء زنكنة

 

حين ناقش مجلس اللوردات البريطاني يوم 14 كانون الأول/ ديسمبر الحالي، موضوع «المصالحة: دور السياسة الخارجية والدفاع البريطانية والتنمية الدولية»، أعطيت المنصة أولا لرجل دين يحتل المركز الأعلى في هرم الكنيسة الأنغليكانية وهو رئيس أساقفة كانتربري. كان هدفه، طرح فكرة مشاركة الكنيسة في مشروع الحكومة الهادف الى تضمين « المصالحة» بين الجهات المتنازعة في سياستها الخارجية.

ركز الأسقف، بعد تعريفه مفهوم المصالحة مستخدما مفردات «التسامح» و«المغفرة»، على أهمية الدور الذي تلعبه الكنيسة في عديد دول العالم، للمساهمة في مساعدة المجتمعات المتناحرة على المصالحة، مشددا على ضرورة التعاون الحكومي البريطاني مع الكنيسة ومنظماتها، في سيرورة تحقيق المصالحة، أذا ما تم تبني سياسة تجمع ما بين وزارتي الخارجية والدفاع وهيئة التنمية الدولية، بديلا للسياسة الحالية المستندة على تحقيق «الاستقرار، الأمان، والأمن».

في محاججته لإعطاء الكنيسة دورا رسميا في الهيئة المستحدثة، حول السياسة الخارجية والدفاع والتنمية، نوه رئيس الأساقفة أن 85 بالمئة من سكان العالم ينتمون الى أحد الأديان او يؤمنون بمعتقد ديني. وفي نقلة من الديني الى التجاري، أكد الأسقف على إن إحلال السلام، في العالم، هو « في مصلحة بريطانيا. فهو يوفر الفرص التجارية، ويُسهل التنمية، ويقلل من الهجرة وأعداد اللاجئين». وهي وجهة نظر أيدها بقية اللوردات الذين شاركوا في الجلسة، مؤكدين أهمية دور بريطانيا في تحقيق «المصالحة» بين أفراد المجتمعات المتنازعة، لما تجلبه المصالحة من استقرار يصب بالنهاية في مصلحة بريطانيا. وأن فشل المحاولات السابقة التي قادتها بريطانيا، وكلفتها ميزانية كبيرة، سببها حدة نزاعات واقتتال اهل البلدان أنفسهم، مما يستدعى، حاليا، تدخل بريطانيا لتحقيق المصالحة بينهم أولا. وهو ذات المنطق الاستعماري الاستعلائي القديم، الذي طالما استخدمته الامبراطورية لتبرير غزو البلدان والاستيلاء على ثرواتها، ولكن بلغة جديدة، تضم مفردات المصالحة والعدالة الانتقالية ومنظمات المجتمع المدني، لتمكنها من تشويه الحقيقة.

لم يشر رئيس الأساقفة وبقية اللوردات، الى ان استثمار بريطانيا في النزاعات والحروب، كما يدل الوضع الحالي، في الشرق الأوسط وأفريقيا، هو الأكثر ربحا لبريطانيا، خاصة، في مجالي تجارة السلاح وعقود النفط. وغالبا ما تلجأ الحكومة الى تغطية دورها في النزاعات والحروب، كما حدث بالعراق، مثلا، عن طريق ابراز « المساعدات الخارجية الإنسانية» إعلاميا. ولا تختلف بريطانيا كثيرا عن الولايات المتحدة في هذا المجال، حيث يذكر الموقع الإلكتروني للوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID) بصراحة: «كان المستفيد الرئيسي من برامج المساعدات الخارجية الأمريكية دائمًا هو الولايات المتحدة. ساعدت برامج المساعدات الخارجية في إنشاء أسواق رئيسية للسلع الزراعية، وخلقت أسواقًا جديدة للصادرات الصناعية الأمريكية، ووفرت مئات الآلاف من فرص العمل للأمريكيين» ولم تذكر التغطية على مبيعات السلاح المتعاظمة دوما.

لم يشر رئيس الأساقفة وبقية اللوردات، الى أن استثمار بريطانيا في النزاعات والحروب، كما يدل الوضع الحالي، في الشرق الأوسط وأفريقيا، هو الأكثر ربحا لبريطانيا، خاصة، في مجالي تجارة السلاح وعقود النفط

وهو ذات الدور الاستعماري التاريخي الذي اشتهرت به بريطانيا والغرب، عموما، بمساعدة الكنيسة، ولا يزال مستمرا مع بعض التغيير الطفيف، وهو ما يُذكرنا به رجل الدين الجنوب أفريقي المطران دزموند توتو بقوله»: «عندما جاء المبشرون إلى أرضنا بالكتاب المقدس، أغمضنا عيوننا وصلّينا. عندما فتحنا عيوننا، كان لدينا الكتاب المقدس ولديهم أرضنا».

فهل تقترح الكنيسة، هنا، القيام، حقا بدور في اجراء مصالحة حقيقية بين أبناء الشعب الواحد المتنازع فيما بينه، أم انها تحاول استعادة دورها التقليدي والحصول على حصة من «الاستثمار»، بالشراكة مع الدولة، باعتبار منظماتها جزءا من القوة الناعمة، وهو المصطلح الذي أشار اليه عدد من اللوردات في سياق اعتبروه ايجابيا؟

اقترح رئيس الأساقفة في كلمته إقامة «وحدة مصالحة مشتركة تضم مجموعات عامة وخاصة ومنظمات دينية بشكل شراكة». مذكرا بنجاح الكنيسة في تحقيق المصالحة، خلال أيام، في مناطق نزاع مستمر بينما فشلت محاولات السياسيين على مدى أربع سنوات، مستشهدا بدور رؤساء الأساقفة في جنوب السودان، وان لم يذكر السياسة التي اتبعتها الكنيسة وبعثاتها التبشيرية ومنظماتها في تشجيع الانقسام الديني وحتى الطائفي، أحيانا، بين أبناء الدين المسيحي الواحد، ناهيك عن المساهمة بشكل أو آخر في تقسيم البلدان.

كما ذَكر مجلس اللوردات، بأهمية المنظمات المسيحية الأنغليكانية الفاعلة في 165 دولة بالشراكة مع 85 مليون شخص. منبها الى ضرورة دعمها ماديا فمعدل ما تحصل عليه «الأنغليكانية»، الثلاثينية «المتطوعة»، للعمل «الإنساني» في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، أقل من 4 دولارات في اليوم. مؤكدا بما لا يقبل الشك « ان المنظمات الدينية المسيحية موجودة قبل النزاع وأثناءه وبعده».

نوقشت كلمة رئيس الأساقفة بالتفصيل. حيث أتفق اللوردات، جميعا، على أهمية اضافة «المصالحة» الى السياسة الخارجية البريطانية وتحديد ميزانية لها، بالإضافة الى ميزانية «صندوق الصراع والاستقرار والأمن»، المعمول به، حاليا، والذي طالب المتحدث باسم حزب العمال تحويله الى «صندوق سلام»، والكشف عن تفاصيل الجهات التي تتلقاه وعلاقتها بحقوق الإنسان. وهي نقطة تستحق التوقف عندها لمراجعة سياسة بريطانيا الخارجية، المتميزة بازدواجية المعايير، تجاه بلداننا، بشكل خاص، تحت برقع «الديمقراطية»، ومساندة الأنظمة الاستبدادية في آن واحد.

وبلغت المناقشة قمة المفارقة حين تحدث إيرل هاو، وزير الدولة، وزارة الدفاع، ونائب رئيس مجلس اللوردات، مؤكدا أهمية تعزيز آليات العدالة الانتقالية، التي يمكن أن تشمل لجان الحقيقة، والعمليات القضائية، وآليات التعويض للضحايا، واعتبارها أمر أساسيا في عمل الحكومة البريطانية. واستطرد متحدثا عن تقديم «الدعم المباشر لمشاريع المصالحة المحلية على الأرض». مثالها: تمويل عملية مصالحة، في سهول نينوى وكركوك في العراق، والتي تشمل أحداث المجتمع المدني! ولم يغفل مسؤول الحكومة البريطانية عن ذكر صعوبات عملهم، لأن « الصراعات تصبح أكثر تعقيدًا يومًا بعد يوم: تصبح أكثر تدويلًا، وتصبح مجموعاتها المسلحة غير الحكومية أكثر تجزؤًا، وتصبح اقتصادات الحرب التي تنشئها أكثر قوة. « وهو، باختصار شديد، شكل آخر من أشكال التدخل الخارجي المهدد للسيادة الوطنية.

ما الذي يعنيه نقاش إضافة «المصالحة « الى السياسة الخارجية البريطانية بالنسبة الينا؟ انه يعني شيئا واحدا: قناع جديد لوجه قديم. استخدام مفاهيم نبيلة كالمصالحة والعدالة الانتقالية وتعويض الضحايا كأذرع للتدخل والاستغلال والقاء اللوم على اهل البلدان الأصليين لتغطية جرائم الغزو والاحتلال والتدخل في الشؤون الداخلية. ولمن يعاني من ضعف الذاكرة نذكر ان تأسيس الكيان الاستيطاني الصهيوني تم بوعد بلفور البريطاني، وان بريطانيا كانت شريكة أمريكا في غزو وتخريب العراق. واذا ما كانت جادة في تضمين المصالحة في سياستها الخارجية وبروح التسامح المسيحي الذي يدعو اليه رئيس الأساقفة،، مع الإقرار بحسن نية عديد القساوسة في الغرب، فالأجدر بها ان تبدأ بالاعتراف بجرائمها وتعويض ضحاياها.

كاتبة من العراق

 

بين التمييز الطائفي والتمييز

العنصري ـ العراق نموذجا

 

هيفاء زنكنة

 

قدم «مركز جنيف للعدالة»، في الاسبوع الماضي، تقريرا الى لجنة الأمم المتحدة للقضاء على التمييز العنصري ،في دورتها الحالية، المنعقدة من 26 تشرين الثاني/نوفمبر الى 14 كانون الأول/ ديسمبر. وقد ناقشت هذه اللجنة مذكرة الحكومة العراقية حول الحقوق الملزمة لكل الدول الاعضاء الموقعة على اتفاقية القضاء على التمييز العنصري.

تقرير مركز جنيف مهم ويستحق الدراسة لأنه يقدم منظورا جديدا لانتهاكات حقوق الانسان. فهو يستند في جوهره على المعلومات والوثائق والشهادات المتراكمة لديه اما كمصدر رئيسي أو غير رئيسي من تقارير المنظمات العراقية أو الدولية الحقوقية عن حال حقوق الانسان المنتهكة، بشكل يومي بالعراق، منذ الاحتلال. ويكاد يكون هناك شبه اجماع حول عجز الحكومة العراقية عن حماية حقوق المواطن لكونها حكومة فاسدة مبنية على المحاصصة الطائفية والعرقية، حتى بات ساسة الحكومة، أنفسهم، يستخدمون ذات اللغة في تصريحاتهم لا لتحسين اوضاع المواطنين بل لاستهداف بعضهم البعض.

يعزو المركز، سبب فشل الحكومة في التعامل مع المواطنين، وكونها سببا بالحاق الأذى بالمواطن بدلا من حمايته، وبالتالي تدهور عموم الوضع السياسي والاقتصادي، الى سياسة التمييز العنصري التي تمارسها الحكومة وتنعكس على الحياة اليومية بكل جوانبها. لتثبيت وجهة نظره هذه يلجأ المركز الى محاججة قانونية تستند الى دلائل مستخلصة من تقارير الأمم المتحدة نفسها بالاضافة الى الشهادات والافلام التي حصل عليها من خلال تعاونه مع العديد من منظمات المجتمع المدني داخل العراق وخارجه، ليعيد الى الاذهان استخدام التعبير ذاته لوصف الحال في جنوب أفريقيا، سابقا، وحكومة الاستيطان الصهيوني، حاليا.

يبدأ التقرير بمناقشة المقصود بتعبير التمييز العنصري ثم يحاول اثبات ممارسته، بالعراق، استنادا الى سياق القانون العراقي والدستور. اذ ينص تعريف اتفاقية القضاء على التمييز العنصري على ان «التمييز العنصري» هو «أي تمييز أو استثناء أو تقييد أو تفصيل يقوم على أساس العرق أو اللون أو النسب أو الأصل القومي أو الاثني ويستهدف أو يستتبع تعطيل أو عرقلة الاعتراف بحقوق الإنسان والحريات الأساسية أو التمتع بها أو ممارستها، على قدم المساواة، في الميدان السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي أو الثقافي أو في أي ميدان آخر من ميادين الحياة العامة».

يجب إجراء تحقيق دولي شامل ومستقل فيما يتعلق بجميع حالات إساءة المعاملة والتمييز وجميع انتهاكات حقوق الإنسان الأخرى في العراق، والا تقتصر على جرائم «الدولة الإسلامية»، حسب قرار مجلس الأمن، اذا ما أريد وضع حد لمعاناة الشعب العراقي وتحقيق العدالة بشكل حقيقي

يستوقفنا هنا عدم ذكر التمييز القائم على أساس المعتقدات الدينية والذي يستند اليه المركز في محاججته بأن العرب السنة وعدد من الأقليات معرضين للتمييز العنصري. لمحاججة هذا الاستثناء، يذكر المركز بأنه «في السياق العراقي يثير مفهوم التمييز العنصري في كثير من الأحيان التمييز على اساس المعتقدات الدينية. وبالنسبة للعديد من المجموعات العرقية، فان الدين يشكل جزءًا لا يتجزأ من هويته العرقية، وبالتالي فإن التمييز ضدّ مجموعة ما، والذي قد يستند إلى موقفٍ ديني، قد يصبح بالفعل تمييزاً على أساس العرق». مستندين الى سابقة مهمة وهي استخدام اللجنة الأممية (لجنة الأمم المتحدة للقضاء على التمييز العنصري) لمصطلح «الأثنية ـ الدينية»، في تقريرها السابق عن العراق، عام 2014، لوصف الحالات.

لا يغفل التقرير مسؤولية الاحتلال الانكلو أمريكي في مأسسة التمييز الطائفي والعرقي أثر الغزو عام 2003، خاصة حين لجأ الحاكم العسكري الأمريكي بول بريمر الى تقوية مركزه عبر اعلانه « التشاور مع المرجع الشيعي الأعلى السيد علي السيستاني حول أي مسألة تتعلق بالعمل والسياسات الحكومية، من تكوين الحكومة إلى محتويات الدستور الجديد» متوصلا الى ان «التماس الرأي العام من رئيس جماعة دينية واحدة في اتخاذ قرارات السياسة العامة يتعارض مع المُثل الديمقراطية المتمثلة في المساواة في الحقوق والتمثيل العادل لجميع الآراء في صنع القرار الحكومي». مع ملاحظة أن مسؤولي الأمم المتحدة، خاصة، الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة في العراق، يواصلون هذا المنحى على الرغم من تناقضها مع دور الأمم المتحدة كجهةٍ محايدة وعلى الرغم من معارضة « العديد من السياسيين العراقيين، بمن فيهم أعضاء (من الشيعة) في البرلمان. إنهم يعتقدون أن إعطاء قائد ديني، هو نفسه لم يدّعِ أبداً أي خبرة في قضايا الحكم، مثل هذه السلطة الرسميّة سيكون عائقاً امام التطور السليم للنظامٍ الدستوري وسيادة القانون».

وعلى الرغم من أن الدستور العراقي (2005) يحظر التمييز العرقي، إلاّ أن نظام التمثيل الطائفي أصبح هو الاساس في توزيع المناصب في الدولة من رئيس الدولة الى الوزارات الى أبسط الوظائف بل والى تقديم الخدمات على اساس تمييزي ايضا. حيث حلّت المحاصصة الطائفية محلّ الكفاءة، ومع مواصلة تشريع القوانين لصالح الشيعة والأكراد (باعتبارهما ابناء المظلومية)، ومع بروز ظاهرة الانتساب الى « أهل البيت» ومعاملة المنتمين اليه بمحسوبية متطرفة، بات بقية المواطنين مهمشين في بلدهم ويتعرضون للتمييز. ويستخدم المركز لتعزيز وجهة نظره حول المقصود من تعبير التمييز العنصري «لذلك، فأن ما قد يبدو في البداية أنه تمييز على أساس الدين، وهو ما لا تشمله الاتفاقية، هو في الواقع تمييز على أساس النسب او الانحدار، والذي تغطّيه الاتفاقية». ويفصل التقرير التزامات الدول بموجب الاتفاقية مثبتا اخلال العراق بها، خاصة من خلال فشل الحكومة في القضاء على التمييز بكافة أشكاله، ووجوب عدم الانخراط أو رعاية أو حماية «أي عمل أو ممارسة للتمييز العنصري» بل حماية المواطنين وتوفير المساواة أمام القانون».

يقدم التقرير أدلة موثقة عن انتهاكات الحكومة اما بشكل مباشر او غير مباشر بواسطة الميليشيات المسلحة المسكوت عن جرائمها، ومن بينها اعتقال واحتجاز الأفراد على أساسٍ طائفي خالص وأن غالبية المُعتَقلين، من العرب السنة، يُحتَجزون في سجونٍ سرّية حتى لا تعرف أسرهم مكان احتجاز المُعتقل، ليثبت ان الحكومة لا تمتثل للمادة 2 من الاتفاقية التي تنص على استخدام «كل الوسائل المتاحة لها» لإنهاء التمييز العنصري. يخلص التقرير الى ان الحكومة والميليشيات المدعومة يستهدفون، كسياسة عامة « العرب السنة باختطافهم، وتهديد وقتل قادتهم الفكريين والدينيين والاجتماعيين، وإهانة رموزهم، وتدمير أو حرق أماكن عبادتهم (المساجد)».

يقدم المركز عدة توصيات مهمة موجهة الى الحكومة لوضع حد للتمييز العنصري وحالة امتهان الكرامة التي يعيشها المواطن، من بينها: الغاء الميليشيات، اصدار قانون لمنع خطاب الكراهية من قبل المسؤولين، والغاء محاصصة المراكز القيادية. أما بالنسبة الى الأمم المتحدة، فيجب إجراء تحقيق دولي شامل ومستقل فيما يتعلق بجميع حالات إساءة المعاملة والتمييز وجميع انتهاكات حقوق الإنسان الأخرى في العراق، والا تقتصر على جرائم «الدولة الإسلامية»، حسب قرار مجلس الأمن، اذا ما أريد وضع حد لمعاناة الشعب العراقي وتحقيق العدالة بشكل حقيقي.

كاتبة من العراق

 

 

جائزة «كتاب فلسطين»

وتفنيد الرواية الصهيونية

 

هيفاء زنكنة

 

كيف يمكن مواجهة وتحدي السردية ـ الرواية الصهيونية السائدة، عن تاريخ وحاضر فلسطين، عن شعب يمارس عشرات الانواع من المقاومة، اليومية، لمحتل يبني وجوده على رواية خيالية وهمية للتاريخ الفلسطيني، تستمر في تعريف التفكير السائد في أجزاء كثيرة من العالم، خاصة في الغرب؟ ما هي سبل تفنيد الرواية الصهيونية المهيمنة دعائيا واعلاميا، لئلا يعيد التاريخ الوهمي انتاج نفسه؟

عن هذه التساؤلات المهمة، تحدث رمزي بارود، المستشار الاعلامي ومؤلف كتاب «الارض الأخيرة: قصة فلسطينية»، في كلمته، كمتحدث رئيسي، في احتفالية جائزة «كتاب فلسطين» الدولية، لعام 2018، التي تمنحها «ميدل إيست مونيتور»، في المملكة المتحدة، منذ عام 2011، لأفضل كتاب جديد صادر بالإنكليزية عن فلسطين.

استلمت لجنة التحكيم التي تضم خمسة خبراء 44 كتابا عن فلسطين صدرت هذه العام وتراوح في موضوعاتها بين الاكاديمي والروائي والفني والمذكرات والسيرة الذاتية بالاضافة الى كتاب عن الطبخ الفلسطيني وكتاب للاطفال. تمنح الجوائز عادة الى تصنيف يضم الكتاب الاكاديمي والسيرة / المذكرات والادبي / الفني مع ترك الباب مفتوحا امام الكتاب الجيد ليفرض نفسه، أيا كان موضوعه إذا حدث وكان خارج التصنيف المحدد. لاحظت لجنة التحكيم ان ما يميز الكتب المستلمة، هذا العام، عن غيرها من الاعوام السابقة، وجود نسبة من الكتب المترجمة من العربية الى الانجليزية، وهي مسألة ذات دلالة مهمة خاصة وان حركة الترجمة الى اللغة الانكليزية (من اي لغة كانت، فكيف بالعربية، قليلة حتى بالمقارنة مع بقية اللغات كالالمانية والاسبانية. شجع هذا الزخم النسبي لجنة التحكيم على التفكير باضافة جائزة اخرى تكرس للكتب المترجمة.

يستحق استلام 44 كتابا عن موضوع واحد، التوقف عنده، خاصة إذا كان الموضوع عن قضية، تصرف ملايين الدولارات لمحاربتها، بشكل يومي، سواء من قبل اجهزة الاعلام والمنظمات الصهيونية، مباشرة، أو منظمات الرصد والمراقبة الناشطة في الجامعات ومراكز البحوث، واتهام كل من يتناول القضية الفلسطينية بالبحث او التأليف أو الدفاع حتى عن أبسط حقوق الشعب الفلسطيني، بتهمة «معاداة السامية» الجاهزة مثل ملصق رخيص. النقطة الثانية التي تستحق الذكر هي ان مؤلفي هذه الكتب هم ليسوا بالضرورة فلسطينيين، بل غربيين، من المملكة المتحدة وأمريكا وفرنسا وايطاليا، مما يؤكد حقيقة تستميت «دولة المستوطنة» في انكارها، وهي ان القضية الفلسطينية في جوهرها، قضية نضال من اجل العدالة.

كيف يمكن مواجهة وتحدي السردية ـ الرواية الصهيونية السائدة، عن تاريخ وحاضر فلسطين، عن شعب يمارس عشرات الانواع من المقاومة، اليومية، لمحتل يبني وجوده على رواية خيالية وهمية للتاريخ الفلسطيني؟

منحت الجائزة الاولى المكرسة للانجاز الاكاديمي مشتركة الى د. مها نصار، عن كتابها «إخوة متباعدون» و كولن أندرسن عن «بلفور في قفص الاتهام». تناولت نصار، الأستاذ مساعد في كلية دراسات الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في جامعة أريزونا، كيفية قيام مثقفي الداخل الفلسطيني بالتواصل مع بقية الفلسطينيين في المنفى بالاضافة الى العرب، ومحاولاتهم لكسر نطاق العزلة المحيطة بهم. كتاب نصار حصيلة بحث سنوات في وثائق ونصوص أرشيفية بالاضافة الى مقابلات مثقفين عاشوا تلك التجربة منذ النكبة وحتى منتصف الستينات.

أما كتاب «بلفور في قفص الاتهام» فقد تم اختياره من بين عدة كتب عالجت موضوع وعد بلفور. وهو يصف عقودا من الخيانة والخداع ضد الشعب الفلسطيني وبالتحديد من قبل الحكومة البريطانية، بدءاً من آرثر بلفور و«إعلانه». يتم ذلك من خلال سيرة حياة الصحافي، جي أم جيفريز، الذي كشف عن الخيانة من خلال المقابلات والأبحاث في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي التي نشرها بكتابه المعنون «فلسطين: الواقع»، كاشفا بشكل توثيقي دقيق كيفية اقناع الصهاينة السياسيين البريطانيين والحكومات المتعاقبة لمساعدتهم على تحويل فلسطين ذات الاكثرية العربية إلى دولة يهودية.

نال د. رجائي بصيلة جائزة «أفضل كتاب مذكرات» عن كتابه «في أرض ميلادي: طفولة فلسطينية»»، عن الحقبة الزمنية التي سبقت عام النكبة 1948. كما تم تكريم د. سليم تماري، رئيس تحرير «فصلية القدس» وأستاذ علم الاجتماع في جامعة بيرزيت بجائزة «إنجاز العمر» لمساهماته المتميزة في التاريخ الاجتماعي لفلسطين. عن دراساته، يقول تماري: «أركّز دراساتي حول حداثة فلسطين والتحوّلات الاجتماعية، وبشكل خاص بروز الهوية الفلسطينية عند نهاية الفترة العثمانية. وكذلك طبيعة هذه الفترة والعلاقات الاجتماعية التي كانت سائدة إبّانها. وعلاقة فلسطين مع البلاد الشامية والسلطنة العثمانية». وكان كتابه «المذكرات الجوهرية»، المكون من جزأين، وحرره رفقة عصام نصار، قد فاز بجائزة افضل كتاب مذكرات لعام 2014. وتتميز كتب تماري بتركيزها على سير ومدونات اشخاص مغمورين سياسيا. فجوهرية، مثلا، موسيقار نشر الموسيقى الشعبية بشكلٍ واسع في فلسطين، ودوّنها. كما قام بتدوين مشاهداته في بداية القرن العشرين في فلسطين. ولعل الاهتمام بتفاصيل حياة الناس العاديين «يسمح بالكشف عن جانب من النسيج الاجتماعي والثقافي العربي. الجزء الذي لا نقرأه في التاريخ الرسمي»، كما يقول تماري، هو ذاته الذي يدعو اليه رمزي بارود لأستعادة الرواية الفلسطينية وتفنيد الرواية الصهيونية التي تحركها دعائيا، اذ « يجب أن تركز القصة، الآن، بشكل كامل، على حياة ووجهات نظر الأشخاص العاديين ـ اللاجئون، والفقراء، والطبقة العاملة الفلسطينية». وليست هذه مسؤولية وواجب الفلسطينيين لوحدهم بل مسؤولية» كل من يرغب بتقديم فهم حقيقي لنضالنا التاريخي».

ان احتفالية « جائزة كتاب فلسطين»، بالكتب الصادرة باللغة الانجليزية عن فلسطين، وتكريم مؤلفيها، للسنة السابعة، هو خطوة عملية، بعيدة عن الرطانة الرسمية السائدة، لدعم نضال الشعب الفلسطيني، من خلال تشجيع الكتاب والناشرين على انتاج المزيد من الكتب عن فلسطين. كتب تتوخى البحث العلمي الرصين في الرواية السائدة، اعلاميا وسياسيا، لتبرير احتلال بلد وتطهيره من سكانه الاصليين. انها، ايضا، كتب توثق الحضور الفلسطيني وتفاصيل الحياة اليومية من خلال اليوميات والمذكرات والكتابات الأدبية، شعرا وقصة ورواية. انها بداية رحلة يعمل منظموها وكل المساهمين في رعايتها على استمرارها على الرغم من كل الصعوبات.

كاتبة من العراق

 

 

رعاية الماضي وتدمير المستقبل

شراكة النفط البريطانية

والمتحف البريطاني حول العراق

 

هيفاء زنكنة

 

ما الذي اراده عدد من الناشطين حين دخلوا المتحف البريطاني وأدعوا بانهم لجنة ترحيب من شركة النفط البريطانية بريتيش بتروليوم (BP) ووقفوا يتبادلون الانخاب وهم يشربون، بدلا من النبيذ والشمبانيا، أقداحا من «النفط»، اثناء العرض الخاص المقام للصحافيين خلال افتتاح واحد من اهم المعارض عن حضارة آشور بعنوان حيث افتتح المتحف البريطاني اخيرا معرضا بعنوان «أنا آشور بانيبال ملك العالم ملك آشور» عن الامبراطورية الآشورية، ومركزها نينوى، شمال العراق؟ ما علاقة شركة النفط بالمتحف العريق؟ ولم الاحتجاج على معرض يبين للعالم حضارة وتراث العراق بعيدا عن السياسة والحروب؟

النقطة التي استرعت انتباه الناشطين ودفعتهم إلى تنظيم الاحتجاج بشكل مبتكر الاحتجاج هي وجود شركة النفط البريطانية «بريتيش بتروليوم» كجهة ممولة للمعرض. «ووفقاً لوثائق الحكومة البريطانية الصادرة في عام 2011، كانت شركة بريتش بتروليوم مستقتلة للدخول إلى العراق قبل غزو عام 2003، حيث «مجال النفط الكبير». إن تركيز الشركة على اهتماماتها ضمن خطط الغزو البريطانية يجعلها متواطئة في حرب أسفرت عن مقتل مئات الآلاف من العراقيين وتشريد الملايين، حسب تصريح الناشطين.

المسألة، اذن، أعمق بكثير من مجرد دعم جهة ما لنشاط ثقافي ـ حضاري بريء يهدف إلى التعريف بالحضارة وبناء الجسور بين الشعوب. ومبادرة الناشطين الاحتجاجية ليست نزوة مؤقتة بل سيرورة عمل يحمل أبعادا تضيء جوانب متعددة من نشاطات وفعاليات ثقافية ـ فنية، غالبا ما يتم تسويقها بشكل «انساني ـ حضاري». هذه النشاطات تقع ضمن ما يمكن توصيفه بانه جزء من عولمة «الاحتلال». اذ يقوم المحتل بتخريب بلد ما، ثم يسارع إلى «التبرع» بمساعدته «انسانيا» و«اعادة» بنائه بعد ان يجني عقودا خيالية، عرفانا بالجميل من الساسة المحليين، الفاسدين، الذين قام بتنصيبهم. هكذا أصبح احتلال الدول الغنية بمواردها، كالعراق، مهنة/ صناعة مربحة إلى أقصى حد، وأقلها تكلفة خاصة بعد أن أقنع المحتل، وهو خليط من سياسيين وصناعيين وتجار اسلحة وشركات نفط احتكارية وأكاديميين، الساسة العراقيين برعاية ما بذره من فتن عرقية ودينية ومذهبية.

للترويج لهذه الصناعة المؤسساتية العالمية، ولئلا تتهمهم شعوبهم بان دماء الشعوب المستعبدة تلطخ ايديهم بالدماء، يضطر محتكرو صناعة الاحتلال والحروب، إلى انجاز بعض «الاعمال الخيرية» لأهل البلد المحتل، معتمدين في الغالب على سذاجة أو طيبة أو خبث بعض من يعمل عندها في أقسام الإعلام والثقافة. فهناك جدوى دعائية واضحة مثلا في مساعدة خمسة من ذوي الاحتياجات الخاصة أو جلب ضحية تفجير في البلد الذي خربوه إلى أوروبا للعلاج، او جلب أكاديمي لحمايته من «الحرب الاهلية» في بلده، أو اقامة معرض عن «السلام» في سفارة بلد الاحتلال أو، على المستوى العالمي، رعاية مؤسسات ثقافية، ذات سمعة جيدة. هذه نماذج من نشاطات، شهدناها بصدد العراق منذ احتلاله، عام 2003، وصاحبتها تغطية إعلامية واسعة، تهدف إلى تبييض افعال الجهات المساهمة في الاحتلال وما سببته من خراب. وليس هناك مثالا افضل، في الوقت الحالي، من التعاون القائم بين «بريتيش بتروليوم بي بي» والمتحف البريطاني.

إن تركيز شركة النفط البريطانية بريتيش بتروليوم على اهتماماتها ضمن خطط الغزو البريطانية يجعلها متواطئة في حرب أسفرت عن مقتل مئات الآلاف من العراقيين وتشريد الملايين

قام المحتجون اثناء تواجدهم داخل المتحف باستقبال بشرب «شمبانيا النفط» لجلب الانتباه إلى العلاقة المشينة بين شركة النفط والمتحف البريطاني الذي «يسهّل تبييض أعمال الشركة في العراق، من خلال السماح للشركة برعاية معرض يقدمها كراع حميد وحارس للتراث العراقي» حسب بيان وزعه الناشطون توضيحا لاسباب احتجاجهم. من بين الاسباب الأخرى: مسؤولية بريتيش بتروليوم وشركات نفط أخرى عن التلوث البيئي ومنه تلوث المياه. كما أدت سياسة الشركة في تشغيل العمال الاجانب بدلا من العراقيين إلى تفاقم تدهور الوضع الاجتماعي والاقتصادي، اذ بينما يمثل قطاع النفط 89٪ من ميزانية الدولة و99٪ من عائدات التصدير العراقية، إلا ان 1٪ فقط من الوظائف تمنح للعراقيين.

لم يكتف الناشطون بالاحتجاج على الدور الذي يلعبه المتحف البريطاني في استخدام الثقافة والتاريخ العراقيين لتغطية أعماله المشينة، وتبييض ممارسات شركة النفط، فقط، بل اعلنوا تضامنهم مع المتظاهرين في داخل العراق من اجل اساسيات الحياة ثم أوضحوا مطالبهم من المتحف البريطاني، المتضمنة إنهاء رعاية وتمويل شركة بي بي لمعارض المتحف البريطاني وبالتالي عدم الترويج لشعارات الشركة في المتحف. وقام الناشطون باعادة صياغة شعارات الشركة الترويجية وتقديمها بمضامين تفضح سياستها في العراق. من بين شعارات الناشطين المبتكرة، بذكاء، وقاموا باطلاقها باسم الشركة: «نحن على استعداد للقيام بكل ما يلزم للحفاظ على السيطرة على ثروة المنطقة ومواردها» و«نحن سعداء لأننا كنا قادرين على وضع اهتماماتنا في قلب غزو المملكة المتحدة للعراق عام 2003»، ولعل الشعار الاكثر اقترابا من واقع ما حققه الغزو هو «رعاية الماضي وتدمير المستقبل».

وبينما أكد متحدث باسم المجموعة أهمية أن ينهي المتحف رعاية الشركة، أثار في الوقت نفسه تساؤلا في غاية الاهمية حول وجوب افصاح المتحف عن «كيفية الحصول على القطع اللازمة لهذا المعرض»، خاصة وان القطع الأثرية المنهوبة من العراق منتشرة بأمريكا واوروبا وتباع، أحيانا، بشكل علني في المزادات العالمية، وكان آخرها الجدارية الآشورية المنهوبة من قصر ملكي آشوري، بمحافظة نينوى، قرب الموصل، شمال غرب العراق، ويعتقد أنها تعود للفترة 883 ـ 859 قبل الميلاد، وتم بيعها بمزاد كريستي بنيويورك.

«لن نسمح باستغلال الثقافة العراقية، خاصة، من قبل الجهات التي ساهمت في هذا الدمار»، كرر الناطق باسم المجموعة الجريئة التي نجحت في اثارة الاهتمام بقضية جوهرية يحاول الكثيرون اخفاء حقيقتها تحت ستار رعاية الثقافة والفن والحضارة والمساعدة الإنسانية. وهي حقيقة غزو العراق من أجل الهيمنة على نفطه كسبب أولي. واذا كان المساهمون في تدمير العراق قد خدعوا الناس لفترة الا ان دماء الضحايا الابرياء ستبقى ملتصقة بأيديهم « وﻟـﻦ ﺗﺘﻤﻜﻦ ﻛﻞ ﻋﻄﻮر الجزيرة اﻟﻌﺮﺑﻴﺔ ﻣـﻦ إزالة رائحتها»، اذا ما استشهدنا بمقولة ليدي ماكبث، البطلة الشكسبيرية، التي اصابتها لوثة مرأى دماء ضحيتها على يديها.

كاتبة من العراق

 

تصنيع جيل الشباب حسب

الطلب في البلاد العربية!

 

هيفاء زنكنة

 

في فيلم وثائقي تونسي قصير عرض منذ أيام في مهرجان قرطاج السينمائي عن تأسيس الفرقة السيمفونية للشباب، عنوانه «اسمعني»، يقول أحد العازفين ردا على سؤال عما يريد أن يفعله مستقبلا، ما معناه «أريد أن أسافر، أن اغادر تونس».

يحيلنا جواب كهذا الى أسئلة عدة تنتصب امام عيوننا عن علاقة جيل الشباب بما يدور حولهم، سياسيا، وموقفهم من جيلنا، جيل الآباء، خاصة من كان منهم ناشطا سياسيا. كيف، اذن، يرى الشباب الجيل الاقدم/ الأكبر سنا، سياسيا، بعيدا عن الاحترام التقليدي المرتبط بالتقدم في السن المتجذر بالتربية العائلية والقرابة والموروث الاجتماعي والدين؟ كيف يرانا بتجربتنا التي تمتد عقودا في الماضي ولا يعرفها الجيل الحالي الا عبر رواية من سبقهم وبلا معايشة حقيقية؟ كيف يرانا من هم جزء منا الا انهم باتوا يعاملون كـ»آخرين» أو كطبقة شبه منفصلة عنا؟

لا توجد دراسات او تقارير للإجابة على هذه التساؤلات وان نشرت، خاصة في العقود الثلاثة الأخيرة، مئات التقارير الصادرة عن منظمة الأمم المتحدة، بكافة فروعها، ومنظمات دولية أخرى، عن الشباب، الذين تعرفهم المنظمة أنهم الأشخاص الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و24 سنة. كما مضت المنظمات الدولية أبعد من ذلك بتأسيسها فروعا مختصة بشؤون الشباب، وحددت الأمم المتحدة يوم 12 آب/ أغسطس، من كل عام، للاحتفال بالشباب والدور المهم الذي يلعبونه في مجتمعاتهم حول العالم. وهي خطوات نبيلة، حقا، لو لم تقتصر، غالبا، على المشاركة « الاحتفالية»، التي تقوم بها الحكومات كجزء من بروتوكولات توقيع الاتفاقيات، الباقية أبد الدهر حبرا على ورق، أما بسبب هيمنة الدول العظمى على آلية تطبيق الاتفاقيات أو بسبب طبيعة الحكومات الاستبدادية، وسياساتها التي لا تقيم وزنا لشعوبها، بل تستخدم توقيع الاتفاقيات كأداة تزويقيه لنيل رضى الدول العظمى. مع ملاحظة ان الدول العظمى، نفسها، لا تقيم وزنا لهذه الاتفاقيات من ناحية الممارسة العملية. فالتعذيب لايزال يمارس، بأبشع صوره، حسب سياسة الحرب على الإرهاب، مثلا، مع بعض التنويع على الرغم من وجود اتفاقية «مناهضة التعذيب». فالولايات المتحدة لا تعذب معتقليها، بنفسها، بل تنقلهم الى سجون عربية وأفريقية، لتعذيبهم بالنيابة. وتوفر لنا مراجعة كيفية تطبيق الاتفاقيات عديد الأمثلة حول ممارسات لا إنسانية لا تزال تمارس في معظم بلدان العالم في ظل الإفلات من العقاب.

من خلطة الرؤية «النبيلة» للمنظمات الدولية وخشية الدول العظمى من وصول «الإرهابيين الشباب» اليها، بعد اعلان أدارة الرئيس الأمريكي «الحرب على الإرهاب»، ومع تصاعد حراك «شباب الربيع العربي»، ولد الاهتمام الدولي المكثف، غير المسبوق، بالشباب العربي، كظاهرة متميزة، كأن الشباب لم يكونوا موجودين سابقا. كأن من تجاوزوا حدود عمر (15 ـ 24) لم يكونوا أطفالا ولن يكونوا… ماذا؟ بصراحة، لا اعرف ما هو تصنيف من هو أكبر من 24 عاما. وان كنت متأكدة ان منظمة الأمم المتحدة ستجد لهم تسمية ما قريبا لتميزهم عن البقية في تقاريرها ومؤتمراتها.

الشاب الفلسطيني الذي يضحي بحياته يقف جنبا الى جنب مع والديه وأهله ورفاقه في الاعتصامات. كلهم يحملون ذات المبدأ ولا يشكل تقدم العمر حاجزا يفصلهم

أصبح «الشباب العربي» أو «الشباب في البلدان العربية»، فجأة، عنوانا لتقارير واحصائيات واستفتاءات ومؤتمرات وورشات تدريب. يكاد لا يخلو نشاط حكومي، أجنبي أو محلي، أو نشاط منظمة مجتمع مدني، أجنبية أو محلية، من ملامسة موضوع « الشباب» بشكل أو آخر.

احتلت مفردة « الشباب» مكان مفردة « المرأة» التي كانت شائعة لدى المنظمات الباحثة عن التمويل والدعم في الثمانينات من القرن الماضي، كما احتلت موقع مفردة « الديمقراطية» التي كانت لازمة ضرورية قبل وبعد احتلال العراق، مباشرة، وأزاحت مفردة «الإرهاب» التي التصقت بمعظم نشاطات العقد الأخير، من السياسية والاقتصادية الى الفكرية والثقافية. هذا لا يعني، ان مفردة « الشباب» كانت غائبة عن اللغة. الا انها لم يحدث ونالت هذا الاهتمام المركز، سابقا، من ناحية تنظيم المؤتمرات والورشات الدولية والنشاطات المحلية، الى حد اختلاق موضوعات وهمية، أحيانا، لكي يتم تضمين عنوان « الشباب». يقول مدربان تونسيان معتمدان من كلية موظفي منظومة الأمم المتحدة للعمل على التخطيط في مجال حقوق الإنسان والإدارة المستندة إلى النتائج، عام 2015: «هذه هي المرة الأولى التي ندرب فيها جمهوراً من الشباب وإنها حقاً لأول مرة في تونس!» وضمت الورشة متدربين من عشرين منظمة بمسميات تحمل كلها تقريبا مفردة «الشباب».

إزاء هذه المعطيات، والدفع القوي نحو تشكيل صورة لدور مستحدث، ما هو موقف بقية الناس البالغة نسبتهم 70 بالمئة من نسبة «الشباب» الذين يمثلون 30 بالمئة من مجموع 370 مليون نسمة، بعد ان أصبحوا شريحة تكاد تكون منفصلة عن البقية؟ وهل هناك تمايز حقيقي يصل حد القطيعة بين الأجيال، كما يقال لنا، أو اننا على وشك السقوط في فخ تصنيع تفتيت آخر؟ وما هي كيفية الخروج من المياه الراكدة التي بتنا مصنفين تحتها لأننا «هرمنا» كما صرخ الكهل التونسي الهائم في شارع «الحبيب بورقيبة»، بتونس، أيام الثورة الأولى؟

ليست هناك إجابات واضحة على هذه الأسئلة الا ان هناك دلائل تشير الى بعض الإجابات حول العالم العربي، على الاقل. هناك تفاوت في مواقف الشباب من شخص الى آخر ومن بلد الى آخر. فمقابل التونسي الراغب بالهجرة في قوارب الموت، وهي رغبة لا تقتصر على الشباب، هناك من يتشبث بالبقاء في تونس التي منحته التعليم ويرغب برد الجميل اليها، كما قالت العازفة الشابة في فيلم «اسمعني» وصفق لها الجمهور من كل الاعمار. والشاب الفلسطيني الذي يضحي بحياته يقف جنبا الى جنب مع والديه وأهله ورفاقه في الاعتصامات. كلهم يحملون ذات المبدأ ولا يشكل تقدم العمر حاجزا يفصلهم. انهم يعرفون جيدا ان حصار غزة وتهديد اهل القدس والخليل وإقامة الحواجز هي صناعة إسرائيلية ـ أمريكية، تهددهم منذ الطفولة وحتى الشيخوخة. آخر الحواجز هو وقف دعم منظمة الاونروا، صرح التعليم الفلسطيني. وهي ذات المأساة التي يواجهها اهل العراق واليمن وليبيا. التجهيل الممنهج هو الحاجز الحقيقي بين اهل البلد الواحد. فما الذي يعرفه الطفل العراقي الذي عاش 15 عاما تحت الاحتلال، محروما من اساسيات الحياة من الدراسة الى الرعاية الصحية الى المأوى والاحساس بالأمان. هل هو شاب بمقاييس الأمم المتحدة أم عجوز بمقاييس واقع التدهور السيزيفي العراقي؟

تشير هذه الدلائل، الى حقيقة بسيطة: حين يكون الناس في قاعدة الهرم، حيث يناضلون من اجل أساسيات البقاء على قيد الحياة والحفاظ على الكرامة، لا فرق هناك بين الشباب وكبار السن. ولن يتمكن المجتمع من تحقيق ذاته الا حين يتم جمع نسبة الثلاثين بالمئة مع السبعين بالمئة وليس تجزئتها.

كاتبة من العراق

 

 

صورة السلطان قابوس في

حضرة رئيس وزراء «المستوطنة»

 

هيفاء زنكنة

كيف نقرأ صورة السلطان قابوس، الواقف منكمشا، في قصره، في العاصمة مسقط، مع نتنياهو، رئيس « مستوطنة إسرائيل»، إزاء خارطة غير واضحة المعالم رغم كونها مضيئة؟ ما هي دلالاتها بالنسبة إلينا، كمتلقين لخبر « سري» فاحت رائحته، وكشعوب تؤمن بالعدالة وحقها القانوني والأخلاقي، بمقاومة الظلم؟ ما الذي تعنيه صورة كهذه ودلالاتها لأبنائنا، لجيل شباب باحث عن قدوة تحتذى، في خضم سرعة تصنيع الهويات، التي تضاهي سرعة إعداد وجبة مكدونالد؟

تتناول الأسئلة، أيضا، كيفية استخدام الصورة من قبل وسائل الإعلام الإخبارية التابعة للسلطة في تشكيل الأخبار والسياسة والرأي العام. كما تنظر، في حال الاحتلال الاستيطاني وحملة التطبيع الرسمية العربية المكثفة، أخيرا، بمسميات مختلفة، عما إذا ستكون دلالات الصور المنشورة جزءا من سيرورة الحملة الصليبية المسماة « خطة القرن أو السلام»، دفعا للخطيئة الأزلية التي يحملها الغرب الأوروبي ويحاول من خلالها تنظيف نفسه من عار « الهولوكوست» الذي ارتكبه ثم جعل من أرض فلسطين وشعبها قربانا لنيل الغفران. ليصبح «الهولوكوست» الغربي أداة تسويغ لتطهير عنصري، ممنهج، ضد السكان الأصليين فيما يريدون تحويله إلى «مستوطنة إسرائيل». المستوطنة العنصرية حيث « الكل متساوون إلا أن البعض أكثر مساواة من غيرهم» كما يذكر الكاتب الإنجليزي جورج اورويل في روايته الشهيرة «مزرعة الحيوانات».

بالنسبة إلى صورة السلطان. كلنا يعرف أهمية الصورة وكيف أنها، تتجاوز، أحيانا، الخطب والتحليلات، وتختزل في لقطة واحدة، قد لا تستغرق عشر الثانية، آلاف الكلمات وحقبا زمنية كاملة. فجيفارا، بصوره، لايزال حيا بيننا، والطفلة الفيتنامية الراكضة عارية بجسدها المحروق بنابالم طائرات القصف الأمريكي، لاتزال تركض باكية ألمها في أفغانستان والعراق. وصور التعذيب في « أبو غريب» أعادت إلى الأذهان ممارسات المحتل الفرنسي في الجزائر. وأسقطت صور أطفال وشباب الانتفاضات الفلسطينية، وهم يواجهون الدبابات بحجارتهم، وبطائرات الورق، أسطورة التفوق الصهيوني. ولكن، ليست كل الصور المحفورة بالأذهان تنطق بمعاناة الناس أو تخلد فعلا شجاعا ونبيلا. فبعض الصور تسبب عكس ذلك، لذلك تحتاج صورة زيارة رئيس وزراء « مستوطنة إسرائيل»، إلى مسقط، يوم 25 تشرين الثاني/ أكتوبر، وبرفقته رئيس الموساد، قراءة خاصة تتجاوز كونها حدثا عابرا أو مجرد لقطة بروتوكول رسمي. أشير، بشكل خاص، إلى صورة السلطان واقفا مع نتنياهو إزاء خارطة مضيئة إلا أنها، وهنا المفارقة، التقطت من زاوية غيبت معالمها.

تبقى دلالة الصورة الأولى والأخيرة بالنسبة إلى عموم الناس في البلدان العربية والإسلامية هي السقوط الأخلاقي الجامع بين الرجلين مهما كانت التبريرات المصاحبة لعقد اللقاءات

يظهر في الصورة، الملتقطة يوم 25 تشرين الأول/اكتوبر، إذن، رجلان: أحدهما، أي السلطان، وهو الأقرب إلى عدسة الكاميرا، عجوز، ضئيل، بحاجة إلى من يسنده، يرتدي زيا وطنيا بلون غامق. استدارة وجهه نحو يمينه تزيد من ظلمة وجهه. يتكأ بيده اليسرى على طاولة أمامه، بينما يحمل باليد الأخرى عصا رفيعة، طويلة، نهايتها حمراء. اللافت للنظر أن يده تشبه جزءا من هيكل عظمي. يؤشر بالعصا على موقع في خريطة، تحتل مركز الصورة، إلا أننا لا نتمكن من رؤية تفاصيلها. يقف بجانبه رجل أصغر سنا، ممتلئ الجسد، يرتدي بدلة غربية حديثة فاتحة اللون. يضع يده اليسرى على الطاولة بقوة، ليس استنادا بل استحواذا، بينما يؤشر بيده اليمنى على مكان ما في الخريطة. يبدو نتنياهو بكامل الصحة والسيطرة على حركة جسده بالمقارنة مع الرجل الضئيل بجانبه. ملامح وجه نتنياهو واضحة وهو يبدي اهتماما فائقا بالموقع الذي يشير إليه السلطان بعصاه على الخريطة. الرجلان وحيدان تماما في عزلة مطلقة إلا من الخريطة ووجود رف من الكتب، في زاوية بعيدة من الصورة. نفهم من نظرات الرجلين أن الخريطة مهمة جدا ويبدو وكأنهما يتبادلان الحديث عنها. هل هي لحظة اقتسام الخليج العربي؟ ترى هل منح السلطان « ضيفه» ما لا يملكه ليزيد من التوسع الاستيطاني الصهيوني اليومي على حساب الأراضي الفلسطينية، في لحظة تماهى فيها الخنوع، وهو سمة يتمتع بها الحكام العرب بامتياز، مع هلعهم من أن يصبحوا أيتاما أمام شعوبهم؟ وإلا لم الخلوة؟ أين زوجة نتنياهو ورئيس الموساد، ورئيس هيئة الأمن القومي ومدير عام الخارجية يوفال روتيم، ورئيس ديوان رئيس الوزراء يؤاف هوروفيتس، والسكرتير العسكري لرئيس الوزراء العميد أفي بلوت؟

من الذي التقط هذه الصورة المهينة عمدا حيث تم تقديم السلطان بشكل قلما يراه الآخرون؟ إنها، إذا استعرنا مقولة سوزان سونتاج عن التصوير «جريمة قتل ناعمة ومناسبة لوقت محزن وخائف». أشك أن يكون المصور عمانيا أو لعله عمانيا يعرف جيدا ما يفعله. يعرف أن « الصورة مشهد تمت إعادة انتاجه أو إنشائه»، كما يقول المفكر البريطاني جون بيرغر، مما يعني أن صورة السلطان ونتنياهو لا تزيد عن كونها إعادة تشكيل للقاءات طالما تكررت سابقا، سواء من قبل السلطان أو بقية الحكام العرب، وكل ما في الأمر الآن أن اللقاءات لم تعد سرية. لم تعد تمارس كالموبقات في الخفاء. إنه فعل تطبيع علني (وهو نعت في غاية التهذيب).

الصورة، كما هو معروف، رأي. فمن هو كاتب الرأي في الصورة؟ ولمن تم توجيهها؟ إنها موجهة، إلى الجمهور الغربي والعربي ـ الإسلامي معا. فوجود السلطان العجوز ببشرته الداكنة، وزيه الوطني الغامق، وضعفه الجسدي مقابل نتنياهو ببشرته البيضاء وبدلته الغربية وفضوله المركز على الخريطة (ونحن نعرف المغزى العميق للخريطة) هو تشكيل هوليوودي جاهز، يجمع بين رجل القرون الوسطى الموشك على التهاوي إزاء رجل أبيض (هكذا يقدم المستوطن نفسه) يرتدي بدلة الغرب «الحداثية».

بالمقابل، تبقى دلالة الصورة الأولى والأخيرة، بالنسبة إلى عموم الناس في البلدان العربية والإسلامية، هي السقوط الأخلاقي الجامع بين الرجلين، مهما كانت التبريرات المصاحبة لعقد اللقاءات. إنه سقوط أخلاقي يقف بمواجهته، تحديا، شباب المقاومة الفلسطينية ومساندوهم في حركة مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها (البي دي أس) في أرجاء العالم.

كاتبة من العراق

 

 

هل يمكن تطبيق العدالة الانتقالية في العراق؟

هيفاء زنكنة

 

يحيلنا تعدد مصادر القوة والعنف، في عراق ما بعد الغزو الانكلو امريكي، ما بين الميليشيات وأحزابها وحكوماتها، الى تنوع أساليب طمس الحقيقة، من الإعلامي التضليلي، الناعم، الى الوحشي المتبدي باختفاء المعارضين والاغتيال والاعدامات الجماعية، بعد استخلاص اعترافات تلفزيونية عن تهم مختلقة.

ذلك كله يمر بلا عقاب، على الرغم من توفر قوائم بأسماء من تم اختطافهم، وتصفيتهم من الأكاديميين والصحافيين والعلماء وأئمة المساجد اثناء وجود قوات الاحتلال، بشكل مباشر، أو غير مباشر عبر المتعاونين معه من ساسة حكومات الاحتلال. هذه القوائم موثقة من قبل منظمات حقوقية، عراقية ـ دولية، أملا في مساءلة المجرمين في مسار تحقيق «العدالة الانتقالية»، في ظل حكومة وطنية، مستقبلا. وهو مسار تم الشروع بتنفيذ نسخة مشوهة منه، أثر الغزو وتحت الاحتلال، مباشرة، فاستخدم كأداة للانتقام تحت مسمى «اجتثاث البعث»، بأيدي ميليشيات وقوى خارجية، مؤديا الى شرعنة القتل والاقصاء، بدلا من ان يستعيد العراقيون عافيتهم الوطنية والشروع ببناء البلد المهدم.

ان تحقيق العدالة الانتقالية، ليس سهلا الا انه ليس مهمة مستحيلة. ولدينا أمثلة حققت خطوات ناجحة في بلدين عربيين هما المغرب وتونس، وبالإمكان الاستفادة من تجربتيهما إذا ما اخذنا بعين الاعتبار تمايزهما الجوهري عن الوضع العراقي، اذ يتمتع كلا البلدين بحكومة وطنية تبنت مسيرة تحقيق العدالة الانتقالية للجميع بلا استثناء، عبر حقب زمنية مختلفة تمتد، في حالة تونس، الى مرحلة التحرر الوطني من الاستعمار الفرنسي. ولا تكون حصرا لفئة متضررة دون غيرها، كما لا يشرف عليها ذات الساسة الذين ساهموا أو أشرفوا أو كانوا في موقع المسؤولية حين ارتكاب الانتهاكات والجرائم. وهذا ما لم يتم في العراق، حين اقتصر تطبيق كيفية التعامل مع تركة الماضي، على النظر في قضايا ضحايا النظام السابق وتعويضهم وتجاهل قضايا وحقوق مئات الآلاف من ضحايا الغزو والاحتلال على مدى 15 عاما.

مما يثير تساؤلات جوهرية عديدة حول مفهوم «العدالة الانتقالية»، لا تمس فقط انتهاكات حقوق الانسان في حقبة محددة هي الانتقال من نظام دكتاتوري الى ديمقراطي. لكنها تمس، بشكل مباشر، في حالة العراق، ساسة الحكومة « المنتخبة» حاليا، استنادا الى سؤال أكثر تحديدا وهو: هل بالإمكان تطبيق « العدالة الانتقالية» في بلد محتل؟ وهل بالإمكان تنفيذها بشكل مستقل وشفاف من قبل ساسة تعاونوا مع الاحتلال ويتحملون مسؤولية الخراب المتراكم؟ الى أي حد سيكونون قادرين على كشف الحقيقة وقد انخرطوا بطمسها بدرجة أو أخرى، متغاضين عن الجريمة الأكبر، قانونيا واخلاقيا، في جميع بلدان العالم، أي التعاون مع المحتل؟

هل بالإمكان تنفيذ العدالة الانتقالية بشكل مستقل وشفاف من قبل ساسة تعاونوا مع الاحتلال ويتحملون مسؤولية الخراب المتراكم؟

تسري هذه التهم على معظم الساسة الذين تناوبوا على استلام المناصب منذ عام 2003، ولا تستثنى منها حكومة رئيس الوزراء الجديد عادل عبد المهدي، بل ربما تعنيه أكثر من غيره لأنه كان قد درس وأقام على مدى عقود في فرنسا، وهو أدرى من غيره بمعاقبتها الصارمة للمتعاونين مع الاحتلال النازي، الى حد دفع الرئيس شارل ديغول الى تأسيس المحاكم الاستثنائية الفرنسية سنة 1944، لا بهدف محاكمة المتعاونين مع الاحتلال النازي باعتبارهم قد ارتكبوا جريمة خيانة تخل بالوطنية، فحسب، بل لوضع حد لفوضى التصفيات خارج القانون. يعرف القانون الفرنسي جريمة خيانة الوطن بانها «القيام عمدا سواء بفرنسا او بالخارج بتقديم دعم مباشر او غير مباشر لألمانيا وحلفائها او الاضرار بوحدة الامة او بحرية الفرنسيين او بالمساواة فيما بينهم». الا تنطبق هذه المواصفات على المتعاونين مع الاحتلال سواء من خارج أو داخل العراق خاصة وانه كان قد صنف بانه « محتلا» بقرار من الأمم المتحدة؟

ولا بد ان عبد المهدي يعرف سلم العقوبات الذي حدده ديغول ليضع على رأسها الحرمان من حق الانتخاب والترشح للانتخابات والحرمان من الوظيفة العمومية او شبه العمومية ومن الوظائف السيادية. وسلكت تونس المسار نفسه فكان قانون «تحصين الاستقلال» الصادر عام 1957، الذي تم فيه تعريف المتعاون، تفصيلا، بانه “كل تونسي تعمد اعانة سلطات الحماية بصفة مباشرة او غير مباشرة قبل 31 تموز/يوليو 1954… وكل من باشر وظيفا في مصالح الامن او الصحافة او الاخبار وكل من شارك في المجلس الكبير او مجالس الاعمال او المجالس البلدية… وكل من شارك في تنظيم مظاهرة فنية او اقتصادية او سياسية او غيرها لفائدة الاستعمار». وجاء الحرمان من المشاركة بالانتخابات تصويتا وترشحا والحرمان من جميع الوظائف العمومية من أولويات العقوبة. فلماذا لم يتم الأخذ بهذه العقوبات إزاء المتعاونين العراقيين مع الاحتلال بل وباتوا يحتلون ذات المناصب التي يجب ان يحرموا منها؟

هذه العقوبات تم تطبيقها، فعلا بالعراق، ولكن وفق قانون المحتل فكان قانون «اجتثاث البعث» الذي أصبح خلافا للتجربة الفرنسية بعد التحرير والتونسية (1956 ـ 2011) حملة تطهير منهجية، كما وصفها تقرير المركز الدولي للعدالة الانتقالية: «إرث مر… دروس من عملية اجتثاث البعث في العراق». وشكلت حملة التطهير الخلفية لتأسيس « الهيئة الوطنية العليا للمساءلة والعدالة» في عام 2008، التي لم تضع حدا زمنيا لعملية اجتثاث البعث، وبقي عملها، كما هو معنيا بملاحقة المتهمين بالانضمام الى حزب البعث، وان تخللها النظر في إعادة المفصولين ظلما الى وظائفهم، في ظل مناورات وصفقات سياسية في فترات الانتخابات، على الرغم من اسمها المقترن الى حد ما بالعدالة الانتقالية والمفترض ان يشمل انتهاكات وجرائم الحقب السياسية المختلفة.

إن أعمدة العدالة الانتقالية ترتكز على إظهار الحقيقة والمساءلة والمحاسبة والحيلولة دون تكرار الانتهاكات وانصاف الضحايا والمصالحة وان يتم ذلك وفقا لمعايير مقررة وطنيا. وهي النقطة الأكثر أهمية التي تعيدنا الى السؤال الملح: ماذا عمن تعاون مع المحتل، وماذا عن جرائم المحتل نفسه وكل الاضرار التي سببها؟ هل بإمكان المتعاونين معه مطالبته بالتعويضات، قانونيا، من اجل انصاف الضحايا؟

كاتبة من العراق

 

 

من هم أعداؤنا  ومن هم أصدقاؤنا  في العراق؟

هيفاء زنكنة *

 

«العراق هو الرابط الذي يجمع بين العديد من القضايا ـ الإسلام مقابل الديمقراطية، الغرب مقابل محور الشر، القومية العربية مقابل بعض أنواع الثقافة السياسية المختلفة. إذا نجح الأمريكيون هنا، فإن هذا سيكون ضربة هائلة لكل شيء يرمز اليه الإرهابيون «. هذه الفقرة ليست مقتطعة من خطاب للرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الإبن أو وزير دفاعه دونالد رامسفيلد، في تسويقهما شن الحرب على العراق. أنه تصريح لبرهم صالح، رئيس العراق، حاليا، حين كان رئيس وزراء كردستان، استهل به كليفورد ماي، رئيس مؤسسة أبحاث مكافحة الإرهاب، في مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات، محاججته حول ضرورة استمرار احتلال العراق، في مؤتمر « الجهاد في العراق» الذي انعقد بواشنطن في 5 أيلول / سبتمبر 2003. أي بعد الغزو والاحتلال الانكلو أمريكي بما يقارب الستة أشهر. لخص كليفورد طبيعة المشروع الأمريكي مصنفا اهل منطقة معينة بالعراق كإرهابيين، قائلا “أليس من الأفضل أن نستقطبهم بالعراق ونقصفهم بطائراتنا في تكريت، بدلاً من ان يعبروا الحدود الكندية والمكسيكية بحثاً عن مراكز التسوق لتفجيرها كانتحاريين؟». اعتبر كليفورد ان المقاومة ضد الوجود الأمريكي كمحتل هي تفجيرات إرهابية «تشير إلى أن جهادًا عالميًا يجري الآن ضد الولايات المتحدة ـ مع نقطة ارتكازها في العراق»، متسائلا « من هم أعداؤنا؟ من هم أصدقاؤنا؟ ما هي السياسة التي يجب على الولايات المتحدة اتباعها للدفاع عن نفسها وفي النهاية تحقيق النصر؟». هذه التساؤلات لاتزال قائمة بالنسبة الى كليفورد ماي ومن يمثلهم، كما انها تستدعي طرح أسئلة أخرى والعراق مقبل، شاء أم أبى، على وجبة ساسة لعبوا أدوارا مهمة في تسويق الاحتلال وها هم، يتسنمون المناصب بأقنعة جديدة.

فمن هو كليفورد ماي؟ وما هو مضمون رسالة برهم صالح التي استخدمها لتلخيص موقف « مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات»؟ وما هو سبب الاهتمام بالعراق قبل 15 عاما؟ وماذا عن الآن؟

كليفورد هو رئيس مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات (FDD). وهي منظمة، أفرادها من المحافظين الجدد، تأسست في أعقاب هجمات 11 أيلول/سبتمبر بهدف الضغط لشن «الحرب على الإرهاب» العدوانية في الشرق الأوسط والسياسات «الموالية لإسرائيل» في واشنطن. زعمت المجموعة في البداية أنها تشن معركة إيديولوجية مع «الحركة الإسلامية المتشددة» في «حرب عالمية… تشن ضد مجتمعات ديمقراطية». بينما تدعي أن مهمتها هي «تعزيز التعددية والدفاع عن القيم الديمقراطية ومحاربة الأيديولوجيات التي تدفع الإرهاب».

تعمل المؤسسة ضد الكيانات والقوى المعارضة للمشروع الأمريكي، خاصة «مشروع القرن الأمريكي الجديد»، التوسعي للمحافظين الجدد، في جميع أنحاء العالم، فتركز في عملها، بواسطة اللوبي النشط، والمؤتمرات « الاكاديمية والفكرية»، على التحريض ضد دول معينة باعتبارها، من أبرز أعداء أمريكا، وكونها « تحتضن عقائد متطرفة تغذي الإرهاب»، مركزة معظم أنشطتها في توجيه النقد والتحريض ضد هذه البلدان، الى حد التحريض على غزوها بعد تصنيفها كمعادية للمشروع الأمريكي « الديمقراطي» والصهيوني الاستيطاني بفلسطين.

الترحيب الأمريكي ـ الصهيوني، بالرئيس الجديد وتحول مقتدى الصدر من عدو الى شريك، يدل على ان اهتمام أمريكا بالعراق، لايزال ساري المفعول

فمؤسسة « الدفاع عن الديمقراطيات» معروفة بولائها المطلق لإسرائيل، وبتوجهاتها اليمينية المتشددة، وتتلقى تمويلا من منظمة المؤتمر اليهودي العالمي. حين قدم رئيسها كليفورد ماي طلبه الأول لتسجيل المؤسسة كمنظمة غير ربحية، في أمريكا، شرح أن هدف المؤسسة هو « توفير التعليم لتعزيز صورة إسرائيل في أمريكا الشمالية وفهم الجمهور للقضايا التي تؤثر على العلاقات العربية الإسرائيلية».

بالنسبة الى العراق، شنت المؤسسة حملة قوية لتسويق غزوه أو ما يسمونه «تحرير العراق»، وفق مشروع القرن الأمريكي الجديد. ففي 23 كانون الأول (ديسمبر) 2002 ـ نشر بول كريسبو، وهو ضابط سابق في مشاة البحرية وملحق عسكري، وزميل أقدم في مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات، موضوعا أكد فيه ان «النصر السريع في العراق يمكن أن يحوّل الشرق الأوسط». وان «العراق هو المركز الجغرافي ومركز الثقل الإستراتيجي للمنطقة.، وقد تم «تحييده بعد ان كان نظاما مارقا»، باحثا في إمكانية جعله « حليفا محتملا». وهو ذات المنظور الذي روج له برهم صالح، ولا يزال.

علينا الانتباه هنا الى انه ليس المنظور الليبرالي الذي يسقطه العديد من المحللين السياسيين على برهم صالح، كما فعلوا مع أحمد الجلبي الذي تم تلميعه بصبغتي الليبرالية والديمقراطية، بل انه منظور المحافظين الجدد، الذي يخطئ البعض حين يظنون انه انتهى مع إدارة بوش. فمشروعهم لايزال حيا ومتجددا من خلال مؤسسات فكرية واكاديمية وإعلامية يهيمن عليها الصهاينة، حماة إسرائيل، بقوة. وتكرس دورية « الحرب الطويلة» الصادرة عن المؤسسة، جهودها لتقديم تقارير وتحليلات عن الحرب الأمريكية الطويلة (المعروفة باسم الحرب العالمية على الإرهاب). ويتم إنجاز ذلك من خلال برامج مراسليها المعتمدين، وجمع الاخبار من جميع ارجاء العالم، والخرائط، والبث الالكتروني، وغيرها من وسائط التواصل المتعددة.

يتمثل مشروع المحافظين الجدد، بأوضح صوره، اذن، عبر عمل المؤسسة الدؤوب التي ترى ان ما حدث، بالعراق « أخطاء ـ رغم أنها هامة في بعض الحالات ـ لا تزال تكتيكية وقصيرة الأجل، وليست استراتيجية وطويلة الأجل». وأن الضبابية المحيطة بالوضع العام «لم تغير الأسباب التي دفعتنا الى خوض الحرب».

ان إزالة « ضبابية الوضع « بالعراق، يتطلب وجود ساسة عراقيين يواصلون عملها، لذلك، لاحظنا سيل المقالات المنشورة في الصحافة والمواقع اليمينية المتشددة ضد الإسلام، والمؤيدة لكيان الاحتلال العنصري، المؤسسة ومعهد المبادرة الأمريكي، المهللة لبرهم صالح بعناوين على غرار « الأكثر موهبة بين السياسيين الاكراد» و « على البرلمان العراقي اختيار برهم صالح رئيسا « وانه «الأفضل « ممن يستحسن التعاون معهم، على الرغم من صلاحياته المحدودة.

من جهة أخرى، رحب خليل زاد، أحد مهندسي الاحتلال البارزين والسفير الأمريكي السابق، بفوز تحالف مقتدى الصدر والحزب الشيوعي وحصولهم على 56 مقعدا في الانتخابات، واصفا مشاركة الصدر بالعملية السياسية التي كان ضدها، سابقا، باعتبارها نقطة تحول له من « متشدد الى قائد سياسي» وهو فعل « إيجابي. لأن تعريف النجاح هو تحويل الأعداء إلى شركاء بنائين». هذا الترحيب الأمريكي ـ الصهيوني، بالرئيس الجديد وتحول مقتدى الصدر من عدو الى شريك، يدل على ان اهتمام أمريكا بالعراق، لايزال ساري المفعول، وستشهد الأيام المقبلة صراعا دمويا بينها وإيران المحاصرة اقتصاديا، من خلال ميليشياتها، ولن يكون العراقيون غير ضحايا « أخطاء» او مجرد «خسائر» ثانوية.

 

 

البيئة والوعي الجماعي العراقي

بعيدا عن ساسة العشرين في المئة

هيفاء زنكنة

 

في الوقت الذي يستمر فيه ساسة «العراق الجديد» بالصراع على المناصب وكيفية الاستيلاء على أكبر حصة من اموال النفط وعقود الاعمار، يعيش العراقيون سجناء اللحظة. يكاد يكون ارتباطهم بالمستقبل سرابا لولا حرصهم على البقاء احياء من اجل أطفالهم.

ومن يتابع صرخات الاستنجاد والاستغاثة التي يطلقها الناس، يوميا، عبر أجهزة الاعلام، وشبكات التواصل الاجتماعي، سيتساءل عن البلد الذي يقطنونه، وعن الحكومة التي تدير شؤونهم. وسيخطئ من يظن انهم من سكان بلد مدقع الفقر يعاني من قحط الموارد الطبيعية. وسيكون مصيبا من يعتقد ان أولياء الامر فاسدون حتى النخاع وان حياة أبناء الشعب لا قيمة لها لديهم، وانهم يدركون جيدا مدى الخراب العمراني والبيئوي والبشري الذي ألحقوه بالعراق، لذلك أبقى كل واحد منهم أبناءه وكل افراد عائلته خارج «الوطن»، حرصا عليهم، لئلا يمسهم ما يصيب بقية الناس من أمراض ومخاطر.

فقد بات البلد بفضلهم وفضل آبائهم من الغزاة، بؤرة للتلوث، بأنواعه، والامراض والاوبئة، بحيث لم تعد الصفات المستخدمة، عادة، دوليا، مثل «أزمة» لوصف التدهور البيئي، تنطبق عليه. فما يتعرض له العراق من نقص في مستوى المياه والتصحر « كارثة « سيؤدي الى ان تصبح بلاد ما بين النهرين صفحة منسية من التاريخ، حسب منظمة اليونسكو. وهي كارثة يحذر منها خبراء عراقيون من بينهم د. كاظم المقدادي ود. هيثم الشيباني ود. محمد العبيدي. كلهم خبراء بيئة يواصلون رصد الوضع البيئي والكتابة عنه توضيحا وتوعية وتحذيرا، بالإضافة الى تقديم المقترحات الهادفة الى الجهات الرسمية، على أمل توفر النية الصادقة للإصغاء والأخذ بها.

تتسم الصورة التي يوضحها الخبراء بتفاصيل مخيفة. أبرزها شحة المياه وتلوثها والمواد المشعة. شحة المياه أسبابها عديدة، تبدأ بهيمنة إيران وتركيا على مصادرها سواء عن طريق بناء السدود او تحويل مجرى الأنهار. أدت الشحة الى العواصف الترابية وما تسببه من امراض تصيب الجهاز التنفسي. كما أدت الى زيادة سرعة التصحر ووصولها نسبة خمسة بالمئة سنويا. وهي نسبة خطيرة تؤدي انعكاساتها الى اعاقة الزراعة والهجرة وتغيير أنماط العيش وتزايد نسب البطالة. تقع مسؤولية هذا الجانب من الكارثة البيئية على عاتق الحكومة التي لم يكن همها، على مدى سنوات حكمها منذ عام 2003 وحتى اليوم، وضع خطة استراتيجية لإيجاد حل لمشكلة المياه مع الدول المجاورة. وهي مشكلة بجوهرها، سياسية قانونية. وكان بإمكان الحكومة إيجاد حل لها وفق القانون الدولي.

اتخذ المواطنون، في مقاطعتهم الانتخابات ومظاهرات البصرة، خطوة ايجابية نحو الارتقاء بالوعي الجماعي من المناشدة والترجي الى أخذ زمام المبادرة

الجانب الآخر المهمل هو اعمار البنية التحتية أي محطات تحلية المياه ومجاري الصرف الصحي، وهي من أهم ما تلتفت اليه الدول، عادة، إدامة وتوسيعا حسب زيادة السكان السنوية. وقد دمر بعضها عام 1991، ونفوس العراق وقتها نصف ما هو عليه اليوم، وتم إصلاحها وتشغيلها أثناء الحصار حتى 2003. حيث لا يوجد سوى 30 محطة لمعالجة مياه الصرف الصحي في العراق، تعمل دون حدود الكفاءة المقبولة. بعض المحافظات لا توجد بها محطات. أدى نقص معالجة النفايات والرمي المباشر في الأنهار، إلى مستوى عال من التلوث، مؤديا الى انتشار الأمراض التي تنقلها المياه. وقد أكدت إدارة صحة البصرة أن مياه الشرب في أكثر من 70 في المائة من المناطق ملوثة وغير صالحة للاستهلاك البشري. ورصد البرنامج الإقليمي لمنظمة الصحة العالمية 60 وباءً في مناطق مختلفة من البلد. فهل يستغرب العالم حين يثور أهل البصرة ضد كل ما يمثل النظام الذي لم يفعل شيئا إيجابيا لهم على مدى 16 عاما تقريبا بل وجردهم، وهم أهل المدينة الغنية بنفطها وتاريخها الحضاري، من كرامتهم، مختزلا إياهم الى استجداء ماء الشرب وإصابة الآلاف منهم بالتسمم والاسهال؟ ارقام المصابين مذهلة. تجاوزت الأسبوع الماضي المائة ألف، حسب دائرة الصحة في البصرة.

ولاتزال المشاكل على حالها، اليوم، على الرغم من المظاهرات والاعتصامات وصرخات المواطنين المطالبة بأبسط حقوق العيش الكريم. وما يزيد الطين بلة هو تبادل الاتهامات بين الوزراء والمسؤولين في الحكومة كمحاولة لتغطية الفساد، وتبييض الوجوه من المسؤولية. فمسؤولو البيئة مثلا يتهمون وزارتي النفط والكهرباء بتلويث البيئة بسبب عدم معالجة مخلفاتهما، حيث تصرف بشكل مباشر الى مياه الأنهر، بينما ترمي الوزارتان المسؤولية على مجالس المحافظات وعدم توفر الميزانية.. الى آخر ذلك من المهاترات التي تهدف الى اشغال المواطنين بدلا من إيجاد الحلول.

وإذا كان المحتل الأمريكي ـ البريطاني هو المسؤول الأول عن التلوث الاشعاعي والكيميائي، سواء عن طريق استخدام اليورانيوم المنضب في قصفه واستهدافه العراق في التسعينيات ثم عام 2003، فأن صمت المسؤولين العراقيين، الذين اشتركوا معه بذريعة « التحرير»، يحملهم المسؤولية أيضا. خاصة وانهم ساهموا بنشر التقارير وإطلاق التصريحات المضللة عن عدم مضار الاشعاع، بالإضافة الى عدم ممارستهم صلاحياتهم لإجبار دول الاحتلال على تحمل مسؤولياتهم القانونية وتنظيف المناطق المنكوبة، بينما تدل كل البحوث والتقارير العلمية الدولية والعراقية المستقلة على تأثير الاشعاع المرعب الذي وصفه عدد من العلماء بأنه يفوق التلوث الإشعاعي الناتج عن قنبلتي هيروشيما وناغازاكي، والمتبدي، عمليا، بزيادة حالات الإصابة بأمراض السرطان والتشوهات الخلقية للأجنة، والذي يخشى انتقال مضاره جينيا، واستمرار آثاره على مدى أجيال.

ما هو الحل؟ كل الحلول مرتبطة بوضع حد للفساد المالي والإداري والاخلاقي. الفساد المعشش في عقول وأجساد المسؤولين والذي انعكس على حياة الناس بشكل مصائب تبدو وكأن من المستحيل إيجاد حل لها. فما من مشروع، مهما كان حجمه وأهميته الا وامتدت اليه أصابع السراق من اعلى منصب بالحكومة الى أصغره، لتحوله الى هيكل فارغ من الادعاءات والحشو اللفظي، ومشاريع توفير المياه الصاحة للشرب وبناء محطات التصريف وصيانة المجاري والتزود بالكهرباء، واحدة من الأساسيات المهملة تماما. وقد اتخذ المواطنون، في مقاطعتهم الانتخابات ومظاهرات البصرة وبقية المدن، خطوة ايجابية نحو الارتقاء بالوعي الجماعي من المناشدة والترجي الى أخذ زمام المبادرة. وهي خطوة، إذا ما تلتها مبادرات مجتمعية وطنية أخرى، ستؤدي بالنتيجة الى التغيير السياسي الحقيقي وليس تدوير الوجوه الفاسدة، بنسبة انتخاب عشرين بالمئة، كما يجري الآن.

٭ كاتبة من العراق

 

 

ناشطون من أجل الإنسانية

نحن كثرة وهم قلة

هيفاء زنكنة

ما هي شرعية محكمة شعبية، يؤسسها حقوقيون عاملون في بلدان مختلفة لوضع رئيس الولايات المتحدة الأمريكية ورئيس الوزراء البريطاني، جنبا الى جنب، في قفص الاتهام، لمحاكمتهما بتهمة شن حرب عدوانية وارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، في العراق؟ وإذا كان المشروع الأمريكي ـ البريطاني لغزو واحتلال العراق، هو لتحقيق الديمقراطية، كما تم الترويج له، وإذا كانت النهايات الفعالة للممارسات الإمبريالية، ستحقق الديمقراطية، وهي ما نصبو اليه أيضا، ما هو الفرق بين المشروع الديمقراطي الإمبريالي ومشروعنا؟ 

تساؤل آخر: ما هي هذه الديمقراطية؟ ومن هم «نحن»؟ ما هي حدود المسؤولية الدولية القانونية والأخلاقية لمساعدة الشعوب المقهورة تحت أنظمة قمعية؟

ما هي مفاهيم حقوق الانسان والمساعدة الإنسانية وكيفية استخدامهما لتبرير الحرب الإمبريالية والاحتلال، من منظور عقيدة المحافظين الجدد، متمثلة بتصريح دونالد رامسفيلد، وزير الدفاع الأمريكي، عام 2002، أن «الحرب على الإرهاب هي حرب من أجل حقوق الإنسان»؟ 

هذه بعض الأسئلة التي تثيرها د عائشة شوبكشو في كتابها الذي صدر أخيرا، بعنوان « من أجل حب الإنسانية: المحكمة العالمية عن العراق». يعالج الكتاب، بمنهجية أكاديمية، تجمع ما بين علم الاجناس البشرية والعلوم السياسية، تجربة غير مسبوقة في نطاقها العالمي وبنيتها ورقيها، ضمن تقليد «محاكم المجتمع المدني»، لكونها شبكة لا مركزية وغير متداخلة من التعاون التضامني عبر القارات

وهي استمرارية من ناحية المفهوم، وان بتطبيق مغاير، لمحكمة الضمير التي أسسها المفكر البريطاني برتراند راسل عن الحرب الأمريكية ضد فيتنام بالتعاون مع الكاتب الفرنسي جان بول سارتر

اعتمدت د. شوبكشو في مؤلفها على تجربتها الشخصية كطالبة دكتوراة، وكناشطة حضرت الاجتماع التأسيسي للمحكمة، صيف 2003، الذي استغرق ثلاثة أيام، وحضره ناشطون من جميع انحاء العالم. ولها يعود الفضل في تسجيل كل ما دار في الاجتماع من نقاشات لتدارس كيفية وآلية التأسيس. كما حضرت وساهمت بصورة فعالة في جلسات المحكمة التي تم انعقادها في 12 مدينة، حول العالم، من بينها بروكسل ونيويورك ولشبونة وكيوتو باليابان

الكتاب، برأيي، وثيقة مهمة، عن تجربة شارك فيها مئات الناشطين من كتاب وقانونيين وفنانين ومؤرخين، ومن بينهم حوالي عشرين عراقيا، من داخل وخارج العراق، في حقبة شهدت احتلال بلدهم وارتكاب أبشع الجرائم بحق الناس وانبثاق المقاومة. تحاجج شوبشكو الادعاءات التي استخدمت لشن الحرب، من ناحيتي القانون الدولي والإنساني، بالإضافة الى المسؤولية الأخلاقية، مستعرضة مواقف العديد من المفكرين والفلاسفة والأكاديميين، من الحرب كأداة لتغيير الانظمة، بذريعة حمايتها وتحريرها، ومواقف وشهادات اما من ساهموا في المحاكمة او وقفوا ضدها او استصغروا مدى فاعليتها

جاء توقيت الاجتماع التأسيسي للمحكمة، في إسطنبول، بعد ان شهد العالم في 15 شباط/فبراير 2003، أكبر مظاهرة في تاريخ البشرية تتم قبل شن الحرب وليس اثنائها. شارك فيها الملايين ضد حرب كانوا يعرفون جيدا زيف ادعاءاتها. التظاهرة التي صورها مخرج الأفلام الوثائقية الإيراني أمير أميراني في فيلمه «نحن كثرة». وهو عنوان مقتبس من كلمة الروائية الناشطة الهندية أرونداتي روي «لاتنسوا! إننا كثرة وهم قلة. هم يحتاجوننا أكثر مما نحتاجهم».

للإجابة حول سؤال شرعية المحكمة، توصل المجتمعون الى ان شرعيتها هي مقاومة الشعب العراقي للاحتلال وحين «تفشل مؤسسات القانون الدولي الرسمية في التصرف، فإن من حق وواجب المجتمع المدني العالمي تشكيل محكمة تروي وتنشر الحقيقة عن حرب العراق». مما يقتضي تأسيس محكمة ضمير، قد لا تملك قوة التنفيذ القانوني، الا انها ضرورية» لقول الحقيقة ونشرها وإنشاء سجل تاريخي بديل لاحتلال العراق، بما في ذلك المقاومة العالمية لها». وأكد الروائي جون بيرغر أهمية إنشاء مثل هذه المحكمة، «اذ يجب الاحتفاظ بالوثائق لأن الجناة، بطبيعتهم، سيحاولون تدميرها. على كل شخص أن يؤرخ الموت والدمار الذي لا يوصف الذي تجلبه. على كل شخص تسجيل المعارضة الكبيرة لهذه الحرب، بحيث لا يصبح بالإمكان نسيان الجرائم». 

بعد مرور عامين، في حزيران 2005، عقدت الجلسة النهائية، باسطنبول، حيث تم تقديم أربع وخمسين شهادة وتقرير أمام لجنة التحكيم برئاسة الروائية والناشطة الهندية المعروفة أرونداتي روي، وبحضور آلاف المساندين والناشطين في مجال حقوق الانسان. في واحدة من أكثر اللحظات المؤثرة في المحكمة، دخل عدد من الناشطين العراقيين وهم يحملون راية، بشكل شريط سينمائي، طوله حوالي 22 مترا، مكون من صور جرحى وقتلى ومشوهي ضحايا الغزو واستخدام اليورانيوم المنضب. استمرت بعض اللجان الحقوقية المشاركة في عملها ضد الاحتلال حتى اليوم. وانتظم بعضها بدعم من مؤسسة راسل للسلام في محكمة بروكسل لجرائم الحرب. كما ساهمت في جلسات كوالالمبور الحقوقية التي ادارها رئيس وزراء ماليزيا مهاتير، ويستمرون في لقاءات دورية لشبكة مناهضة الحرب التي دشنت هذا العام مشروع «شهر التضامن مع العراق». 

من بين العراقيين الذين ساهموا في أعمال المحكمة أما كشهود أو خبراء أو ناشطين أو فنانين: ايمان أحمد، نرمين المفتي، سعاد العزاوي، فاضل البدراني، سلام عمر، رضا فرحان، كريم خليل، هناء البياتي، عبد الاله البياتي، وهناء إبراهيم.

الملاحظ ان عدد العراقيين كان، خاصة، في الاجتماعات التأسيسية، قليلا. ربما لصعوبة ومخاطر السفر والظهور الإعلامي في نشاط مضاد للاحتلال مع تزايد استهداف المناوئين له. مما جعل حضورهم، هامشيا، مقتصرا، أحيانا، على تقديم الشهادات. الأمر الذي لم يعتبره المشاركون مشكلة. توضح المؤلفة: «في رأيي، لأنه كان ينظر إلى «الإنسانية» على أنها المجتمع الأكبر الذي انتهكته الحرب على العراق». فأصبحت الحرب على العراق تهديدا للعالم. و«لتوظيف لغة القانون الدولي، اعتبرت الجرائم التي ارتكبت ضد الشعب العراقي جرائم عالمية ضد الإنسانية». وكما جاء في قرار ادانة الرئيس الأمريكي جورج بوش ورئيس الوزراء البريطاني توني بلير «الحرب على العراق هي حرب ضدنا جميعا». مما جعل الحضور العراقي، رمزيا، وحركة المجتمع المدني العالمي تمثله من خلال الدفاع عن نفسها. وهي نقطة مهمة تستحق النقاش والمراجعة بالإضافة الى تقييم المساهمة في المحاكمة ككل، الامر الذي لم يقم به حتى الآن، أيا منا، نحن الذين ساهموا في نشاط، بات جزءا من ذاكرة التضامن الإنساني العالمي. وان نواصل التحدي بنشاط تهدف استراتيجيته، الى استنزاف الامبريالية «فلنسخر منها، بفننا، بموسيقانا، بأدبنا، بعنادنا، بفرحتنا بالحياة، بخيالنا، بكل عزمنا وبقدرتنا على رواية تاريخنا»، كما تقول الرائعة ارونداتي راي.

٭ كاتبة من العراق

 

قتل المرأة في العراق حلال!

هيفاء زنكنة

 

أضيفت الى سلسلة التصفيات المستشرية، في جميع انحاء العراق، أخيرا، حملة تصفية، منهجية، تستهدف نساء يعملن في المجال العام. يفصل بين ارتكاب الجرائم فترة زمنية قصيرة لا تتعدى الأسابيع، وأحيانا، أياما معدودة. ففي شهر آب/ أغسطس أعلن عن وفاة اثنتين من خبيرات التجميل هما رفيف الياسري ورانيا الحسن في «ظروف غامضة»، بقيت بلا تفسير من الجهات المعنية. تلاها اغتيال ثلاث نساء هن الدكتورة سعاد العلي، عضو منظمة الود لحقوق الانسان، وكانت ناشطة بشكل خاص اثناء انتفاضة البصرة، على مدى شهور، وسحر الإبراهيمي مديرة مركز مساج والموديل تارة فارس ذات الحضور اللافت للانتباه على صفحات التواصل الاجتماعي

ولأن ما يجمع النساء المستهدفات هو العمل، في المجال العام، على اختلاف طبيعته، تم تسليط الضوء، على اغتيالهن أكثر من عمليات الاغتيال الأخرى سواء كانت سياسية أو بفعل الانتقام الشخصي، سواء من قبل افراد او ميليشيات أو جهات حكومية. ومع انتشار التفاصيل، بدون القاء القبض على الجناة او تقديم توضيح من الجهات المسؤولة، امتد تأثير اغتيالهن ليرسخ حالة الخوف بين النساء خصوصا بين الناشطات من جهة والنساء العاملات في مجال التجميل من جهة أخرى.. 

هذه ليست المرة الأولى التي يتم فيها استهداف النساء بالعراق، بل ان هناك من الاحصائيات والتقارير الحقوقية المحلية والدولية ما يثبت ان المرأة استهدفت، لمنعها من ممارسة أي نشاط عام أو غير عام، بشكل مستمر، ومستويات مختلفة، وبأشكال متعددة من الصعب حصرها، تراوح ما بين الاختطاف والقصف والتهجير والاعدام، منذ ان وطأ الغزاة أرض العراق، بذرائع مختلقة، كان من بينها «تحرير» المرأة. حتى باتت مفردة «التحرير» تساوي، عمليا، التحرير من الحياة

وإذا كان المحتل مسؤولا، بشكل مباشر، عن ارتكاب جرائم قتل واغتصاب شملت النساء والرجال، معا، بحكم طبيعة المحتل المبنية، بجوهرها، على تركيع أهل البلد المحتل، تحت مسمى ديمقراطية وحقوق انسان انتقائية فأن ساسة حكومات الاحتلال، العراقية، المتعاقبة، أضافت الى ذلك النكهة المحلية، المتمثلة بما يسمونه، تباهيا، «تقاليدنا وعاداتنا وموروثنا الديني». وكلها، كما أثبتت سنوات حكمهم، تقاليد وعادات وتشريعات دينية، منتقاة بشكل دقيق، لتلائم الساسة الذين نجحوا في مأسسة وتكريس قيما مجتمعية، جديدة، مبنية على الفساد العام، الشامل، لكل النواحي الأخلاقية والمالية والإدارية. هكذا ساهموا، بشكل فعال، في تخريب ما لم يتمكن المحتل من تخريبه بداية وهو اللحمة المجتمعية الوطنية وبوصلته الأخلاقية

من هذا المنطلق، وضمن الجدل الواسع الذي تخللته الشائعات والاقاويل، كتب البعض، على صفحات التواصل الاجتماعي، معلقا على حملة اغتيال النساء، باعتبارها استهدافا سياسيا منهجيا لبنية المجتمع. بينما كتب آخرون تعاملوا معها من منظور قمع حرية المرأة، وابقائها حبيسة التقاليد العشائرية البالية والفتاوى الدينية، وقتلها بذريعة الدفاع عن الشرف أو « غسل العار»، خاصة مع تزايد اعداد الشباب المنضمين الى الميليشيات، ذات القوة المطلقة، والمعصومة من العقاب بحكم قوة السلاح و»القوة الإلهية» المقدسة التي يتسربلون بها

وفي الوقت الذي تعددت فيه أسباب ادانة قتل النساء، عموما، تصاعدت، أصوات تركز على التمييز ما بين اغتيال امرأة وأخرى. أصوات من الواضح انها تؤيد، فكرة قتل نساء معينات، دون غيرهن، وتشرعن جريمة القتل وفق منظورها الشخصي أو المجتمعي أو الديني. هنا تصبح ادانة ارتكاب الجريمة مشروطة بتفسيرات تتيح للقتلة تنفيذ جريمتهم بل والتفاخر بها. لتصبح جريمة قتل المرأة وساما يتقلدونه وليس فعلا اجراميا يستحق المساءلة القانونية والعقاب

وقد برزت شرعنة قتل المرأة بأوضح صورها في محاولة البعض توجيه تهمة الدعارة الى المرأة ـ الضحية. كان من بينهم مقدم البرامج، في شبكة الاعلام العراقي، حيدر زويد، الذي أرسل تغريدة أثر اغتيال تارة فارس، واصفا إياها بأنها عاهرة. مما يمكن ترجمته، على ارض الواقع، بأنها استحقت القتل في وضح النهار

وهذه ليست المرة التي تقتل فيها امرأة أو يحط من قيمتها كإنسانة من خلال اتهامها وتلويث سمعتها بهذه التهمة. فقد شهدت مدينة البصرة، مثلا، منذ 2003 – 2008، حملة قتل جعلت النساء حبيسات البيوت رعبا. بلغ عدد ضحايا القتل، بأبشع صوره، ما يزيد على الثلاثمائة أمرأه، عثر على جثث، أغلبهن، في الشوارع بعد تعذيبهن. أيامها، عاشت نساء البصرة تحت سيف ميليشيات مسلحة أرادت اخضاعهن للمفهوم الميليشياوي للإسلام، واجبارهن على ارتداء الحجاب والامتناع عن وضع الماكياج أو الانتقام الشخصي او العشائري، وتم ذلك كله في ظل صمت حكومي مدو. من بين الميليشيات التي ساهمت في الحملة جيش المهدي وحركة ثار الله بالإضافة الى فيلق القدس من الحرس الثوري الإيراني. وكانت لمقولة مقتدى الصدر، قائد التيار الصدري، وجيش المهدي، التي تم بثها تلفزيونيا حول ارتداء الحجاب بأن كل شعرة ظاهرة من شعر المرأة ستكون نارا تلسع الحسين، اذنا شرعيا بجواز تهديد والاعتداء على كل من لا ترتدي الحجاب

الجدير بالذكر ان توجيه تهمة الدعارة لا يقتصر على المليشيات والتقاليد والتأثير الديني المتطرف، ولا تقتصر التهمة على العاملات في مجال عروض الأزياء أو خبيرات التجميل، بل طالما استخدمت، من قبل الأجهزة الأمنية، لعديد الحكومات، ضد الناشطات مجتمعيا أو المنخرطات بالنشاط السياسي، لمنعهن من مزاولة أي نشاط عام أو حتى العمل خارج البيت. فالمعروف، انه حالما يتم القاء القبض على المرأة حتى يبدأ رشها بالبذاءات واتهامها، مهما كانت خلفيتها الاجتماعية أو السياسية، بأنها عاهرة. وفي هذا يتساوى الجلاد الإسرائيلي الصهيوني مع أمثاله من الجلادين العراقيين والتونسيين، في التفنن بالبذاءة اللفظية والتعذيب الجسدي، كما حدثتني اسيرات فلسطينيات، محررات، وسجينات تونسيات، وعراقيات. انها أداة تشهير معروفة تستهدف اقصاء المرأة وتهميش دورها، بشكل عام، ولا تسلم منها أية امرأة مهما كان موقعها. ولن تتمكن المرأة، من التحرر من هذه الصبغة وغيرها من القيود، الا حين يتم إرساء دولة المواطنة وتطبيق القانون على الجميع بلا تمييز، وان يكون «الشرف» قيمة مجتمعية، يتميز بها ويحافظ عليها الجميع بلا تمييز أيضا.

 

من فلسطين الى تونس المرأة حارسة الذاكرة الشعبية

هيفاء زنكنة

 

كان معرض «قول يا طير»، حول الذاكرة والرواية الفلسطينية، الذي أقامته مؤسسة الرواة للدراسات والأبحاث، بأشراف د. فيحاء عبد الهادي، في العام الماضي، برام الله، متميزا بكل المقاييس. اكان نتاجا لعمل المؤسسة الهادفة الى توثيق الرواية الفلسطينية، وتقديمها بكافة أنواع الفنون والوسائط المرئية والسمعية والمكتوبة والتفاعلية، كوجه من أوجه مقاومة المحتل، لاضاءة الحقيقة

روى المعرض حكايات المهجرين الفلسطينيين عام 1948 وشهادات من عاشوا الترحيل القسري، بشكل فني، أريد منه، بالإضافة الى التوثيق، ان يكون ابداعيا في التواصل مع المشاهد، كما أطلقت المؤسسة كتابين هما: «ذاكرة حيّة»، و«مرآة الذاكرة»، باللغتين العربية والإنكليزية، أعدَّتهما وحرَّرتهما د. فيحاء.

حاليا، تقوم المرأة التونسية بتبني طريق مماثل للتعبير والتوثيق والتواصل، على الرغم من اختلاف الوضع الشاسع، بين فلسطين وتونس. الا انها تعمل، كما أختها الفلسطينية، على استعادة حقها في كتابة تاريخ، طمس لأنه لا يساير الصورة الجاهزة المتداولة رسميا اما بفعل الاستعمار الاستيطاني، في حالة فلسطين، او الدكتاتورية في حال تونس

من بين هذه المحاولات، قيام سبع نساء تونسيات، بدعم من جامعة برمنغهام البريطانية والمركز الدولي للعدالة الانتقالية، بتنظيم معرض أفتتح، منذ أيام، بعنوان «القفة»، وهي السلة المستخدمة لنقل الطعام الى السجين

لماذا المعرض؟ تشير المنظمات الى أهمية استخدام الفن كوسيلة، غير تقليدية، اولا « لإبراز انتهاكات حقوق الإنسان التي طالت النساء في تونس زمن الديكتاتورية، وما تعرضن له من قمع ومعاناة ارتبطت بالقفة»، وثانيا، «لحفظ الذاكرة من خلال جمع التفاصيل التاريخية الدقيقة، وتسليط الضوء، بطريقة فنية، على الآثار التي خلفتها هذه الانتهاكات، خاصة على النساء حاملات «القفة» اثناء زياراتهن للسجون». فضلا عن «الاستفادة من مراجعة الماضي لبناء مستقبل يسوده العدل والعيش المشترك».

يتبين من شهادات النساء المشاركات ان للقفة دلالات رمزية متعددة ترتبط بالذاكرة الجماعية للنساء اللواتي أما تعرضن أنفسهن للاعتقال أو اصابهن رشاش القمع بسبب اعتقال احد افراد عوائلهن، لأسباب سياسية، في حقبة زمنية معينة. تقول المهندسة الفلاحية خديجة صالح: «قبل ان تكون القفة اداة لحمل حاجيات السجناء، هي جسر يربطهم بالعالم الخارجي. فهي الشاهد الناطق على المعاناة داخل وخارج السجن». اما السجينة السياسية الأستاذة نجاة القابسي فتقول: « كانت القفة، بالنسبة الي شخصيا، ساعي بريد، يحمل إلي محبة واهتمام عائلتي، ورمز كرامتي داخل السجن، ولم أدرك، حينئذ، كم كانت عبئا على عائلتي». أما الناشطة الحقوقية هالة بوجناح فتبين ان للقفة استخداما لغويا مغايرا اذ «تستخدم عبارة «هزّان القفة» او «حمل القفّة»، مثلا، كرمز للتونسيين الموالين للنظام القديم والذين اتخذّوا مهنة الوشاية والابلاغ عن جيرانهم أو أصدقائهم أو أفراد أسرهم الى أجهزة الدكتاتورية الأمنية، لقاء الحصول على امتيازات وفوائد مادية او غير مادية». وبينما تعرف هناء عبدولي، مسؤولة جمعية نسائية، معنى القفة بأنها: «حنين للحرية، حنين لمغادرة الأسوار، هي حلم الخلاص من الأوجاع والقهر والإذلال»، تنتقل الى أهمية توثيق دلالة القفة «لأنها ارتبطت بحياة جيل» مما يجعل نقلها الى الاجيال التالية، ضرورية لتؤرخ لحقبة من الاستبداد وما رافقه من انتهاكات جسيمة لحرمة الإنسان الجسدية والنفسية، ولكي لا ننسى عذابات المقهورين، لتبقى الإنسانية متحدة، لمواجهة أي انحراف أو تهديد لحرية الإنسان، أي إنسان». وتشاركها طالبة علم النفس هنيدة جراد المشاعر نفسها: «لا يمكننا فهم اليوم دون اخذ العبرة من الماضي، هكذا يصبح الحوار بين الاجيال ركيزة تمكن من تضميد الجروح وبناء مستقبل مشترك». 

«من خلال تصورات فنّية وابداعية يمتزج فيها الأمل بالألم» ارادت المشاركات تقديم شهاداتهن، حسب ناشطة المجتمع المدني هبة بن الحاج خليفة. ويخطئ زوار المعرض إذا ما حدث وتوقعوا رؤية لوحات او صور، عن معاناة النساء، معلقة على الجدران. فالمعرض غير عادي من ناحية التنظيم او حتى التسمية. انه، كما صممه وأشرف على تنفيذه «مخبر المتحف»، أقرب ما يكون الى متحف حي، يجسد مفهوم ودلالة القفة حسب شهادات النساء. حيث يتجول الزائر بين ما يشبه الزنزانات ليشاهد فيلما ويصغي لأصوات السجناء واغاني الصمود ويشاهد كيفية اعداد وجبات الطعام لتوضع بالقفة ثم يدور حول الباحة التي يتمشى بها السجناء. خلال تواجده في المكان المغلق بأضوائه الخافتة، يتقمص الزائر شخصية السجين. أنه السجين والزائرة معا، وهو حاملة القفة ومستلمها. عبر هذه الثنائية تلغى الفروق ليكون الهم واحدا، مشتركا. انه العالم الخارجي وغياهب السجن في آن واحد. أن استخدام الصوت والصورة والقضبان والاسلاك الشائكة، لخلق حالة من التماهي الإنساني، الرمزي، بين زائر المعرض والسجين الافتراضي، هو محاولة تعبيرية ناجحة عن تجربة المساهمات. تقول خديجة صالح: «بالنسبة إلي يعتبر المعرض نقطة تحرر من قيود داخلية وتعبيرا عن الحرية التي اكتسبناها بعد الثورة. فما يقع داخل السجن وحتى خارجه كنا نهمس به همسا، لم نعد كذلك. تحررنا من خوفنا ومن القيود النفسية التي حكمتنا، لننقل تجربتنا الى الجميع». هو، اذن، تجربة أولية، تصلح، ان تكون، مستقبلا، نواة لمتحف تونسي وطني، ليس عن الإحساس بالمظلومية بل عن الشجاعة والجرأة، عن الذاكرة المؤثثة بالتاريخ، ومقاومة الأنظمة القمعية، من اجل حرية الرأي والمعتقد، وان يكون، شاملا لكل الحقب السياسية ولمعتقلي الرأي أيا كان انتمائهم. هذه المشاريع، قد تبدو بسيطة وهي ليست قادرة على احداث تغيير فوري، الا ان المثابرة على القيام بها، ومواصلة العمل، سيؤدي، على المدى البعيد، الى احداث تغيير عضوي أعمق مما هو ظاهر، حاليا. انه واحد من آليات كسر الصمت والوقوف شامخي الرأس باعتداد وكرامة، إذ «لا يستطيع أحدٌ ركوب ظهرك إلا إذا كنتَ منحنياً» كما يذكرنا القس والناشط الحقوقي الراحل مارتن لوثر كينغ.

 

 

صرخة النائبة العراقية وحكايتها

هيفاء زنكنة

 

في «العراق الجديد»، وفي ظل واحدة من أكثر الحكومات فسادا، محليا وعالميا، هل يلام المواطن اذا ما انتابه الشك في سلوك الساسة المعششين منذ أكثر من 15 عاما، وهم يلتهمون أكثر مما يبلعون، ويتوقفون بين اللقمة واللقمة ليتبادلوا الاتهامات بالفساد والسرقة؟ آخر المهازل التراجيدية حدثت منذ أيام

على حين غرة، ارتفع صوت سيدة صارخا، واستمر الصراخ لدقائق. تبين لمشاهدي البث التلفزيوني العراقي الحي وغير الحي، فيما بعد، ان الصارخة هي نائبة تدعى ماجدة التميمي، وان حالة الصراخ انتابتها اثناء جلسة انتخاب رئيس مجلس النواب. لم يتمكن المشاهدون من فهم ما قالته النائبة الا ان عددا من القنوات التلفزيونية أوضحت أنها كانت تصرخ ببقية النواب قائلة «كافي سرقة اصوات الشعب العراقي». وهي مسألة بحاجة الى توضيح لمن لم يحالفه الحظ بمشاهدة الجلسة او سماع الصراخ، الذي بات، مع الاسف الشديد، سمة من سمات النائبات العراقيات بينما يفضل النواب اللكمات والتراشق بقناني المياه الفارغة. فقد سبقتها النائبة آلاء طالباني (الاتحاد الوطني الكردستاني) وفيان دخيل (التحالف الكردستاني) التي جمعت ما بين الصراخ والاغماء. ولعل كثرة الضغط على النائبات، كونهن نساء، وعدم الاصغاء لما يتقدمن به من مقترحات او آراء، من بين الاسباب التي تدفعهن الى الصراخ كأسلوب لاجبار الآخرين على الاصغاء اليهن. وهو اسلوب لجأت اليه النائبة ماجدة التميمي يوم السبت الماضي، آملة ان يصغي لها النواب، أو إيصال صوتها الى ابناء الشعب، مستفيدة من معرفة ان جلسة البرلمان الخاصة هذه، التي تم التطبيل والتزمير لها عراقيا وعربيا ودوليا، على مدى شهور، ستبث تلفزيونيا. فهل حققت التميمي، كنموذج، ما ارادته من خلال ظهورها الاعلامي، لايصال رسالة محددة الى المواطنين فيما يخص المآسي اليومية التي يعيشونها، ودورها كنائب يفترض فيه تمثيل هموم وطموحات المواطنين، وتقديم برنامج مستقبلي؟ آخذين بنظر الاعتبار، انها ليست الوحيدة من بين النواب، ذكورا أو أناثا، ممن يعتاشون على الاضواء الاعلامية، مهما كان الثمن

لا أظن ذلك، مهما كانت رغبة الناس بتصديقها، في حقبة، يجد فيها المواطن، نفسه، مستعدا للتشبث بأية قشه، توفر له العيش الكريم، وتبعد كابوس الطائفية السياسية ومحاصصاتها ومأسستها للفساد. اسباب اخفاقها عدة، لعل اهمها فشلها الفاضح في اختيار التوقيت الملائم اولا، وتناقض ممارساتها النيابية مع تصريحاتها، ثانيا وانتمائها السياسي، ثالثا. بالنسبة الى توقيت اطلاق الصرخة في جلسة التصويت على اختيار رئيس للمجلس، جاء التوقيت مفضوحا بابتذاله، اذ انه تزامن مع الجولة الاخيرة من الصراعات على منصب، ومع اعلان انتصار خصوم حزبها بالضربة القاضية. فكان الفائز من كتلة منافسة (مدعومة ايرانيا) للتحالف الذي تنتمي اليه التميمي. يبدو ان النائبة لم تتحمل الخسارة، أو لعلها افترضت ان حزبها هو «النزيه النظيف»، فوقفت صارخة لتفضح، ما وصفته بسرقة الاصوات. وهي محقة طبعا فيما يخص عمليات التزوير المعروفة للجميع لكنها تعامت عن حقيقة كونها واحدة من المنخرطين بذات البرلمان ومناورات «الكتل». فقد كانت التميمي عضوا في مجلس النواب السابق ـ اللجنة المالية، عن التيار الصدري، بقيادة مقتدى الصدر، لمدة أربع سنوات، ولاتزال في ذات التيار الذي غير أسمه الى «سائرون» بعد تحالفه مع الحزب الشيوعي بقيادة ذات الصدر

وكانت قد تصدرت الاخبار منذ اسبوعين، في جلسة البرلمان الاستثنائية، يوم 8 أيلول/سبتمبر، للنظر بانتفاضة البصرة، حين قامت بتقديم مداخلة تفصيلية عن عقود الفساد، وهي الادرى بها، بطبيعة الحال، بحكم كونها عضوا في اللجنة المالية. وهي خطوة جيدة لولا انها واحدة من عديد (ان لم يكن كل) النواب الذين استباحوا عقول المواطنين بكثرة الحديث عن فساد «الآخرين» وتبييض وجوههم وايديهم الملوثة بالفساد. مدركين ان لا ضرر في ذلك، اطلاقا، في غياب المساءلة وانتشار الافلات من العقاب. بل ان مسؤوليتها أكبر من البقية لكونها مطلعة على تفاصيل كل ما يجري ولم تلجأ الى فضح الفاسدين الا في الاسابيع الاخيرة، في سيرورة الصراع السياسي الطائفي، الحاد، المعجون بالفساد، حول تشكيل ما يسمى بالكتلة الاكبر التي سيحق لها تشكيل الحكومة واختيار رئيس الوزراء. من بين «الحقائق» التي كشفت عنها في الجلسة «ان هناك أكثر من ستة آلاف مشروع وهمي ضمن موازنة 2014». السؤال الذي نكاد نسمع صرخته هو الآخر: لماذا لم تكشف هذه «الحقيقة» التي تعرفها منذ اربع سنوات؟ لماذا لم تعمل على تقديم ولو قضية فساد واحدة الى القضاء وهي العضوة المطلعة على التفاصيل في اللجنة المالية؟ ألسنا محقين اذا قلنا ان صمتها، على مدى سنوات عملها البرلماني، يثير من الشكوك حول اتهامها الآخرين، وان الصرخة تعالت للتغطية على الشكوك؟ 

بالاضافة الى الصرخة، قامت النائبة التميمي باجراء عدد من المقابلات لتوضيح موقفها، قائلة بانها رأت، بعينيها، كيفية تزوير التصويت وانها صورت الشخص المسؤول ويدعى أحمد الجبوري «ابو مازن» الذي قام باستلام توقيع النواب وتصوير اوراق التصويت ليتم الدفع لهم وفقها. وانها، تشعر بالخزي والعار لوجودها بين الفاسدين في هذا البرلمان. مما يدفعنا الى التساؤل: لماذا لا تستقيل؟ لماذا لا تتخلص من هذا الخزي والعار بخطوة بسيطة ستزيل عنها الاحساس بالعار وتربحها احترام الشعب، في الوقت نفسه، والاكثر من ذلك، انها ستكون قدوة في النزاهة واتخاذ الموقف المبدئي السليم لكل النواب نساء ورجالا، وعلى المدى البعيد، ستعيد للناس بعض الثقة بالنواب؟ ومن يدري، قد يقام لها، في المستقبل، نصبا، في احدى ساحات بغداد، تقديرا لنزاهتها وكونها أول نائبة تستقيل من البرلمان احتجاجا على الفساد؟

٭ كاتبة من العراق

 

 

البصرة: تدخل أمريكي أم صراع شيعي ـ شيعي؟

هيفاء زنكنة

 

انتفاضة البصرة هي الحدث الاول الذي يشغل بال العراقيين الآن. فهي المركز الذي تقع على هامشه بقية الاحداث، منذ اندلاعها في 11 تموز/ يوليو للمطالبة بتوفير الخدمات وأهمها الماء الصالح للشرب والكهرباء، وتمثلت الاستجابة الاولية باطلاق النار على المتظاهرين مما ادى الى مقتل 12 متظاهرا واصابة العشرات.

غطت الانتفاضة، مع ازدياد عدد شهدائها وجرحاها، ومع انتشار الاصابة بالتسمم جراء تلوث مياه الشرب، على العديد من الامور المهمة التي تمكن الساسة من تمريرها، في غفلة من الناس المنشغلين بالمطالبة بايجاد حل آني، سريع، لانقاذ حياتهم وحياة عوائلهم. وبينما كان المتظاهرون والمعتصمون يواصلون الاحتجاجات، ويشعلون فتيل الغضب العارم، بمدينة البصرة وضواحيها، تمكنت الاحزاب وميليشياتها من تمرير نتائج الانتخابات المزورة ومأسسة هيكلية غريبة لنمط الحكومة المقبلة. فالمعروف، عادة، ان الاحزاب تؤسس منظمات وميليشيات كأذرع وملحقات تابعة لها، مهمتها تنفيذ سياستها، بشكل غير مباشر. الا ان الوضع الحالي، بالعراق، يشهد تغييرا جوهريا في هيكلية الاحزاب والميليشيات، انقلبت فيه الآية فأصبح الحزب ذراعا للميليشيا، يأتمر بأمرها، ويسير وفق ولائها لمن يزودها بالمال والسلاح

ان التكهن بما ستقود اليه انتفاضة البصرة صعب، خاصة، ونحن نستعيد كيف تعاملت حكومة حزب الدعوة الإسلامي، برئاسة نوري المالكي، مع متظاهري الفلوجة والرمادي وعموم الانبار والموصل، حين تم قصفهم بالبراميل الحارقة. كما نستعيد التعامل الوحشي مع متظاهري ساحة التحرير، ببغداد حين تم اعتقال وتعذيب وقتل العديد منهم. وكانت النتيجة، أينما خرج المواطنون للمطالبة بحقوقهم، استغلال دماء الشهداء من قبل جهات في العملية السياسية تتبنى إعلاميا هذا الحراك الشعبي كالتيار الصدري وعشائر المحافظات الغربية، للمقايضة بمناصب ومحاصصة سياسية وعقود نفط وسلاح.

الا ان صعوبة التكهن بما سيحدث لا يمنع من رؤية ما حققته الانتفاضة حتى اليوم. وهي انجازات بالغة الاهمية. الانجاز الاول هو التخلص من «المقدس» والتبعية له، سواء كان رمزا دينيا طائفيا عراقيا او إيرانيا، حيث مزق المتظاهرون غشاء القدسية وحرقوا صور وهياكل التبعية الطائفية. الانجاز الثاني هو كسر حاجز الخوف من الاحزاب والميليشيات التي تتخذ من طائفية الدين عباءة ترتديها وعمامة تمنحها «العصمة» لارتكاب ما تشاء ضد بقية البشر. فأحرقت مقرات ميليشيات «منظمة بدر» و«حركة إرادة» و«عصائب أهل الحق»، و«حركة النجباء» و«انصار الله الأوفياء» و«كتائب حزب الله» و«سرايا الخرساني» بالاضافة الى مقرات «حزب الدعوة» و«حزب الفضيلة» و«المجلس الأعلى».

الانجاز الثالث هو اجبارها كافة قادة الميليشيات والأحزاب ورجال الأعمال على الهرولة الى استديوهاتهم (فلكل ميليشيا قناتها التلفزيونية ولكل رجل اعمال قناته) اولا لادانة الفساد، وان كانوا هم أنفسهم أجنة رحم الفساد وثانيا لتقديم أنفسهم كشخصيات نزيهة، غير طائفية، تبذل جهدها لخدمة المواطنين. هنا اكتسبت الانتفاضة خواص الكلور المعقم ولو الى حين. ولها يعود الفضل في تغيير الخطاب والمواقف. وهنا يأتي دور الانجاز الرابع للانتفاضة الذي أجبر المرجعية، التي كانت سعيدة بالقاء موعظة اسبوعية على الملأ عبر وكلائها، ان تسارع، بعد حرق صورها، الى ارسال وكيلها السيد الصافي، يوم الجمعة الماضي، مؤكداً أن «السيد السيستاني أمرنا بشراء مضخات المياه من أموال المرجعية الدينية العليا». مع العلم ان «اموال المرجعية الدينية» مستخلصة من ابناء الطائفة ومنهم المتظاهرون انفسهم، وكان من الواجب صرفها عليهم، بدون منية، وقبل ان يدفعوا حياة ابنائهم ثمنا لها

الانجاز الخامس هو إبلاغ الميليشيات واحزابها الفاسدة بان استخدامها السلاح الطائفي الذي طوق رقاب الشباب بنير الدولارات الشهرية المغموسة بقدسية الطائفة والترهيب من «الآخر» لم يعد بذات الفاعلية السابقة. مما جعلها تعمق اتهاماتها بالإرهاب والاندساس من قبل قوى خارجية، وتلويث صورة المتظاهرين اعلاميا. صارت النبرة الاعلى هي تخويف اهل البصرة من «المندسين» وما سيجلبونه على اهل البصرة «المعروفين بطيبتهم». محاولين بذلك عزل المتظاهرين عن بقية السكان وترسيخ صورتهم كغرباء. وهو اسلوب استعماري قديم، غالبا ما يستخدم لاشاعة التفرقة واضعاف الحركات الثورية والانتفاضات الشعبية. هكذا، فجأة، وبعد 15 عاما، من حكم الاحزاب الطائفية التي تدعي تمثيل أهل البصرة، ومع عدم تنفيذ أي انجاز يضع حدا للذل اليومي لاهل مدينة النفط، أصبح كل الساسة والميليشيات يتسارعون للتباهي بانتمائهم الى أهل البصرة ووجوب مساعدتهم

مقابل هذه الانجازات تصاعدت، حملة الساسة وقادة الميليشيات باضفاء طابع الوطنية على انفسهم، وربط المتظاهرين بأجندات خارجية غير وطنية. فكثر المحذرون من التدخل الأمريكي على الرغم من الوجود الأمريكي الدائم المتمثل بما يزيد على 7000 «استشاري ومدرب»، باستثناء المتعاقدين الأمنيين والمرتزقة، حسب اعلان البنتاغون في الأسبوع الماضي، بانهم سيبقون الى ان «يستقر الأمن»، ولا يحتاج قرار بقائهم موافقة البرلمان لأنه ينفذ وفق المعاهدة الاستراتيجية

هناك، أيضا، متبرعون بالتخويف من الاحتلال الإيراني، في الوقت الذي يعلم فيه الجميع ان العراق محتل إيرانيا وانه ورقة تستخدمها إيران لتسوية نزاعها مع أمريكا. وتنبري جهة ثالثة للتخويف من التدخل التركي واقامتها معسكرات تدريب بعثية لقلب النظام «الديمقراطي». في ذات الوقت الذي تقصف فيه تركيا شمال العراق وتتدخل، متى شاءت، بحجة حماية أمنها من « الإرهابيين» الاكراد.

وأصدرت قيادة مليشيا الحشد الشعبي بيانا باسم «حركة النجباء»، يوم 9 سبتمبر، وصفت فيه ما جرى بانه «ليلة فتنة سوداء هدفها حل الحشد» متهمة القنصلية الأمريكية، بالبصرة، بادارة الاحداث وسقوط القتلى والجرحى. وان المليشيا لديها «الادلة القطعية بان القنصلية تدير الاحداث منذ عام 2013» وان ما تريده «هو اظهار صراع شيعي شيعي»، وهددت المليشيا بانها ستعمل «بحزم لإيقاف أي تآمر». 

وبطبيعة الحال، ليس من المستبعد وجود تدخل أمريكي ضمن صراعها القائم مع إيران، لا في البصرة فقط بل في جميع ارجاء العراق، الا ان هلوسة الحشد تثير تساؤلات عديدة، اهمها لماذا لم يثر الحشد مسألة التدخل الأمريكي قبل الآن خاصة وانه يدعي قيامها بذلك منذ خمسة أعوام؟ هل سكت الحشد لأنه كان متعاونا مع أمريكا تحت مظلة «التحرير»؟ 

ان مظاهرات واعتصامات اهل البصرة ومن قبلهم الفلوجة وبغداد وكربلاء، وكل المدن العراقية، على مر سنوات الاحتلال، ودفعهم الثمن غاليا، هي وجه آخر من أوجه المقاومة والتغيير العضوي المنبثق من داخل البلد نفسه، في مسيرة تحقيق الاستقلال الوطني ـ الاقتصادي، الشامل لكل المواطنين، بعيدا عن التقسيم الديني والطائفي والعرقي. ومع ادراكنا انها، قد لا تؤدي الى تحقيق ذلك كله في المستقبل القريب، الا انها، بالتأكيد، سببت من التغيير ما يعيق عودة الاوضاع الى سابق عهدها.

 

العراق… انتفاضة لتنظيف الجحيم الارضي؟

هيفاء زنكنة

 

 

خلافا لما أشاعته الحكومة العراقية، لم يعد المتظاهرون والمعتصمون منذ شهر حزيران  ـ  يونيو، في مدينة البصرة، جنوب العراق، إلى بيوتهم بعد انحسار موجة الحر أو بعد ان تعبوا من النوم في اماكن الاعتصام. بل بقي المعتصمون، واستمر المتظاهرون، وبقيت مطالبهم الاساسية، التي تشكل قاعدة هرم حقوق الانسان واحتياجاته اليومية، ملحة ليس لأنها تشكل قيمة انسانية لا يفهمها الفاسدون من الحكام، بل لأنها، أيضا، حقوق مشروعة، في ملكية الثروة الوطنية العامة لواحد من بلدان النفط الغنية، بالعالم، الذي وصلت استهانة الحكومة به حد حرمان سكانه من المياه الصالحة للشرب. حرمان مستمر يؤدي، يوميا، إلى زيادة عدد المصابين بالتسمم وامراض المياه الملوثة، بأنواعها، حتى تجاوزت الآلاف، وان أصرت وزيرة الصحة، في ردها على المتظاهرين، بانهم يبالغون في رسم الصورة وان «هناك 1500 حالة تسمم واسهال، فقط، في المستشفيات»! ولم نسمع من الوزيرة بعد عن منع الكويت، استيراد وحظر المواد الغذائية من العراق، اضافة إلى منع المسافرين العراقيين من الدخول للكويت «كإجراء احتزازي بسبب انتشار مرض الكوليرا في العراق». وكانت مفوضية حقوق الانسان قد حذرت، في الاسبوع الماضي، من انتشار مرض الكوليرا في البصرة نتيجة زيادة الملوحة والتلوث المائي.

هذه التطورات دفعت المتظاهرين إلى اتخاذ خطوات جديدة، بعد ان ادركوا ان لا جدوى من الاعتصام امام مركز المحافظة الذي يضم اعضاء فاسدين، وأمام مكاتب الاحزاب، التي تضم اعضاء فاسدين. وبعد ان ادركوا عبثية الاصغاء إلى وعود الساسة وهم أساس الفساد، أو النواب وممثليهم، وهم جزء من تشكيلة الفساد المستشرية من قمة النظام إلى أصغر موظف فيه.

أدرك المتظاهرون، ان مطالبة الفاسدين بوضع حد للفساد، يعني، عمليا، مطالبة الفاسدين بالتخلص من أنفسهم، فكيف يحدث ذلك؟.لذلك، قرروا، بعد اسابيع من المظاهرات ومحاولة الاحزاب الهيمنة عليها، كما فعلت مع مظاهرات ساحة التحرير، ببغداد، بقطع الطرق الرئيسية، وآخرها قطع طريق رئيسي في منطقة كرمة علي ب‍البصرة، لمنع الشاحنات من عبور الحدود. والاعتصام، وهذا هو الاهم، امام المدخل الرئيسي لحقل نهر بن عمر النفطي، والتهديد باقتحام الحقل النفطي إذا لم ترد الحكومة على مطالبهم. يبين التهديد مدى اليأس من الوعود الحكومية خاصة فيما يتعلق بخريجي هندسة ومعاهد النفط العاطلين عن العمل في بلاد النفط. حيث يساهم قطاع النفط بـ 65٪ من إجمالي الناتج المحلي حالياً، إلاّ أن عدد العاملين به لا يتجاوز 1٪ من العدد الكلي للقوى العاملة في البلاد، حسب تقرير الامم المتحدة. وهذه طامة كبرى يحاول المسؤولون طمرها لئلا يمسوا مصالح الشركات الاجنبية.

إن الوضع الحالي الذي يعيشه المواطنون، في ارجاء العراق، وليس البصرة وحدها، مأساوي في تفاصيله التي تتطلب حلولا آنية سريعة بالاضافة إلى التخطيط الاستراتيجي. فنقص مياه الشرب بحاجة إلى علاج فوري لانقاذ حياة الناس، عموما، والاطفال والحوامل، بشكل خاص. وايجاد فرص عمل للشباب ليس مستحيلا، فيما لو توفرت النية الصادقة، وأكتفى الساسة بسرقة خمسين ٪ من الثروة النفطية، فقط، بدلا من بلعها كلها، وأبقوا النصف للاستثمار الاستراتيجي والتنمية، مما سيؤدي إلى توفير العمل للخريجين.

من الناحية البيئية، يشكل نقص الماء والكهرباء وبقية الخدمات الاساسية، اعراض موت بيئي بطيء يعيشه البلد، منذ عقود، جراء الحروب وسنوات الحصار والغزو الانكلو ـ  أمريكي وتخريب «الدولة الإسلامية»، وقصف «قوات التحالف»، المدن بحجة تحريرها، الامر الذي سبب تدمير البنية التحتية واختلاط مياه المجاري بمياه الانهار.

 وتشير تقارير الامم المتحدة حول البيئة إلى ان 30٪ من الأسر، فقط، موصولة مع شبكة الصرف الصحي العامة، فيما تلجأ بقية الأسر إما إلى استخدام خزانات الصرف الصحي (40٪) أو المجاري المغطاة للتخلص من الفضلات.

 ولاتزال مخلفات الحرب السامة، بلا تنظيف، بل وتشهد البيئة تدفق مستويات عالية من الإشعاع والمواد السامة الأخرى. وتبين تقارير علمية عديدة ان استخدام أسلحة اليورانيوم المنضب، وهو معدن ثقيل مشع وسام، من قبل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، خلال حربي 1991 و2003، وأطلاقه في أكثر من 1100 موقع، بما في ذلك في المناطق المكتظة بالسكان، لايزال واحدا من الاسباب الرئيسية في زيادة نسب الاصابة بامراض السرطان وولادة الاجنة المشوهة، على الرغم من الانكار الأمريكي والصمت الرسمي العراقي المتواطئ معه.

تذكر بعض التقارير ان تعرض بيئة العراق لضرر كبير ناجم عن السياسات الخاطئة للحكومة بشأن السكان وإدارة الموارد، بينما الاصح الذي تختار التقارير عدم ذكره هو ان الحكومات العراقية المتعاقبة منذ الغزو عام 2003 لم يكن همها، اطلاقا، الاهتمام او التخطيط او وضع سياسة حول البيئة، أو حتى الاهتمام بالشعب. همها الاول والاخير، كان ولايزال، هو نهب الاموال بأقصى سرعة ممكنة، وابقاء الشعب ضعيفا، بكل الطرق الممكنة، تستهلكه وتستنفد قواه الحاجات اليومية الملحة، لأنهم يعرفون جيدا، انه بمجرد ان يمتلك قواه الجسدية وقدرته على التفكير، سيثور عليهم ويقوم بتنظيف البيئة منهم.

تشير التقارير، أيضا، إلى إن سياسة الدول المجاورة في بناء سدود مخالفة للقوانين الدولية، كما فعلت تركيا، وسياسة إيران في تجفيف الانهار، مخالفة للقوانين الدولية، وشحة المياه هي احد اسباب مشكلة الملوحة والتصحر، الا ان ما لا تذكره هو الحاجة الماسة للتعامل السياسي الحكيم مع هذه السياسات، والتركيز عليها، لوحدها، يجب الا يعفي الحكومات العراقية من مسؤولية الفشل الهائل في الاهمال، وانعدام التخطيط، والانشغال بالفساد، والاكثر من ذلك كله التبعية السياسية لدول لا ترى في العراق غير ساحة لحل نزاعاتها. لذلك ليس عبثا ان تصف منظمة ادارة البيئة بالامم المتحدة العراق بأنه البلد الاكثر تلوثا بالعالم. ولأن الدول الخارجية المتنازعة لا تحتاج حلبات صراع، مكتظة بسكان، قد يسببون لها المشاكل، يبدو من المنطقي ابقاء العراق على حاله ملوثا، يموت سكانه ببطء وصمت وهم يعلمون «ان قضيتهم ستنسى»، حسب إيريك سولهايم، رئيس إدارة البيئة في الأمم المتحدة.

٭ كاتبة من العراق

 

 

هذا ما يفعلونه بالرجال فكيف النساء؟

هيفاء زنكنة

 

نقتبس، أحيانا، حين تصادفنا وقائع واحداثا، نجد ما يماثلها تاريخيا، مقولة كارل ماركس «التاريخ يعيد نفسه في المرة الأولى كمأساة وفي الثانية كمهزلة». لكن مراجعة عدد من الكتب والمذكرات والتقارير حول كيفية معاملة المعتقلين، بالعراق، منذ تأسيس الدولة، في عشرينيات القرن الماضي، وحتى اليوم، تشعرنا بأن مقولة العم ماركس بحاجة الى مراجعة. ولعل الاصح القول بأن التاريخ يعيد نفسه في المرة الثانية كمأساة أكبر. فخروقات حقوق الانسان، الموثقة، تكاد تصرخ بوجوهنا، تفاصيل مرعبة لممارسات لا انسانية، يرفض العقل تصديقها مما يدفع الانسان العادي، حماية له أو تهربا من المسؤولية واتخاذ موقف ما، الى التوقف عن قراءتها او حتى تكذيبها باعتبارها مبالغات لا تستحق الانتباه. وهي أفعال مورست طوال عقود، بلا استثناء، بدءا من حكومات الاحتلال البريطاني وحتى الحكومات الحالية، وليدة الغزو والاحتلال الانكلو ـ أمريكي وتشابكاته، الحالية، مع جمهورية إيران الاسلامية

المأساة تتكرر كمأساة بالنسبة الى المعتقلين، ويزيد في عمق جروحها، انها تنفذ بحزمة مسميات «التحرير وحقوق الانسان والعراق الجديد»، وتحت مظلة تدعى «الديمقراطية» التي تنفذ الينا من بين ثقوبها، أحيانا، تقارير مخيفة، عن التعذيب الوحشي الى حد القتل. آخرها تقريران أصدرتهما منظمة «هيومان رايتس ووتش»، الاول بعنوان «العراق: وكالة استخبارات تعترف باحتجاز المئات» الصادر في 22 تموز/ يوليو 2018، والثاني في 19 آب/ أغسطس 2018، والمعنون»العراق: شهادات مرعبة حول تعذيب معتقلين وموتهم». يستند التقرير الاول الى شهادة عالم الآثار فيصل جبر (47 عاما) الذي أعتقل في موقع أثري في شرق الموصل، وأقتيد إلى منزل من طابقين بالقرب من مكتب الأمن الوطني في الموصل. رأى جبر في الطابق الأرضي من المنزل 4 غرف تُستخدم كزنزانات لاحتجاز السجناء، فيها ما لا يقل عن 450 سجينا احتُجزوا معه، بحسب تعداد الأشخاص اليومي. احتُجز جبر48 ساعة، تحدث خلالها مع 6 رجال وصبي في الزنزانة معه، وأخبروه أن الجهاز احتجزهم لمدة تتراوح بين 4 أشهر وسنتين بتهمة الانضمام الى داعش. نفت وكالة الاستخبارات وجود المعتقلين عندما راسلتها المنظمة الا ان الوكالة اعترفت بعد ذلك في رد مكتوب بأن «الجهاز الامني يحتجز المعتقلين في مركز واحد في الموصل بموافقة «مجلس القضاء الأعلى» في نينوى، وأن جميع المعتقلين يُحتجزون بموجب أوامر توقيف قضائية، ويمثلون أمام قاضٍ خلال 24 ساعة من الاعتقال، ويُنقلون إلى سجون وزارة العدل عند الحكم عليهم». وهي عملية تفندها شهادات المعتقلين

أما التقرير الثاني فيضم شهادات معتقلين أتهموا بالانضمام الى «الدولة الاسلامية» وأطلق سراحهم بعد اشهر من التعذيب بدون توجيه تهمة. من بينهم محمود البالغ من العمر 35 عاما

سلم محمود نفسه إلى مسؤولي الاستخبارات في الموصل في كانون الثاني/ يناير، بعد أن أخبره صاحب العمل أن الاستخبارات قد أصدرت مذكرة توقيف بحقه. احتُجز 4 أشهر، لأنه اشتُبه في انتمائه إلى تنظيم «الدولة الإسلامية». أحتجز في زنزانة مساحتها حوالي مترين بثلاثة أمتار، مع 50 إلى 70 رجلا، احتُجز العديد منهم لعام كامل. تم تعليق محمود في وضعية «البزونة» (القطة) 6 مرات على الأقل أثناء احتجازه طوال ساعات. وخلال 4 مرات على الأقل، فقد وعيه قبل أن يتم إنزاله. في بعض الأحيان كان العناصر يدلقون الماء عليه قبل أن يعاودوا ضربه بكابلات معدنية. قال إنه عندما استعاد وعيه كان مستلقيا على الأرض، ورأى معتقلَين آخرَين، كليهما عاريين، راكعين في وضع «العقرب» وكانت أيديهما مربوطة خلف ظهريهما. مرة أخرى، أحضر الحراس 3 سجناء آخرين، وبدأ رجال الأمن بضرب اثنين منهم، ثم قاموا بتعليقهما من أيديهما، التي كانت مقيدة خلف رأسيهما، على خطافين بجوار نافذتين صغيرتين في الغرفة. كان واحدا بملابسه الداخلية، والآخر عاريا. بعد فترة من الوقت، أمر الضابط الأعلى رتبة في الغرفة رجال الأمن الآخرين بربط قنينة ماء بسعة لتر إلى خيط وتعليقها بقضيب كل منهما.

«بعد مرور 3 أشهر على احتجازي، ثبت أحد رجال الأمن كتفي، وأمسك آخر ساقي، والثالث الذي كان يرتدي قفازات أمسك مسطرة معدنية صغيرة تم تسخينها على موقد الشاي ووضعها على طول قضيبي. انتفضت من الألم، فحرقني رجل الأمن للمرة الثانية على خصيتي. أحرقوا المعتقل الآخر مرة واحدة على قضيبه أيضا. ذهبت إلى الطبيب بعد أن خرجت لأني ما زلت أعاني من ألم شديد، لا أستطيع ممارسة الجنس أو القيام بأي شيء، ولست متأكدا إذا كنت سأتحسن».

من يقرأ شهادة محمود، سيلاحظ صعوبة ان يحافظ الانسان على انسانيته في ظروف لا انسانية، وان كان لايزال قادرا على الاحساس بانحداره نحو هاوية قد تصنع منه جلاد المستقبل. يقول محمود: «أشعر بالخجل من الاعتراف بأنني بدأت أشعر بالحماسة كلما رأيت سجناء جدد يصلون، لأن ذلك كان يعني أن رجال الأمن سيكونون مشغولين معهم، ويتركوني وشأني». وحين مات احد المعتقلين بعد اعادته من جلسة تعذيب ورفض الحارس فتح الباب ونقل الجثة « عندما أدركنا أنه توفي، قمنا بشيء جعلنا نشعر بأننا لم نعد بشرا، حيث جردناه من ملابسه وأخذناها، لأننا كنا جميعا بحاجة ماسة إلى الملابس».

تسعة رجال ماتوا في زنزانة محمود نتيجة التعذيب. كان من بينهم رجل « ظل يقول لعناصر الأمن إن ليس لديه أي صلة بداعش، لكنه تزوج من امرأة ثانية، مما أغضب زوجته الأولى فبلغت عنه قائلة إنه ينتمي إلى التنظيم. بعد اربعة ايام من التعذيب أعاده حارس إلى الزنزانة، ولم يستيقظ في الصباح». 

كان هناك 3 زنزانات، إحداها زنزانة للنساء المحتجزات، وقد عرف محمود ذلك من أصواتهن. السؤال الذي يتبادر الى الذهن حال قراءة هذه الجملة هو: اذا كانوا يعاملون الرجال بهذه الطريقة… فما الذي تلقاه النساء؟ ولدى المنظمة، الآن، أسماء أربعة من المسؤولين عن التعذيب والجلادين وتم الابلاغ عنهم الى الحكومة. الا انها لم تتخذ أي اجراء ولو للتحقيق في تعذيب وقتل الابرياء. فهل سيكون من المجدي، لحث اعضاء البرلمان، باعتبارهم ممثلين للشعب، على المطالبة بالتحقيق ووضع حد لتعذيب المعتقلين، ولو من باب من يدري، قد يتم القاء القبض على أحدهم للتحقيق مستقبلا، وضع شاشة كبيرة خلف منصة جلوس رئيس البرلمان، بمواجهتهم تماما، لعرض شهادات المعتقلين وصور اجسادهم المشوهة، بشكل مستمر، على مدى تواجدهم بالبرلمان يوميا؟.

٭ كاتبة من العراق

 

 

العدالة الانتقالية في العراق

متى يكون الشهيد إرهابيا؟

هيفاء زنكنة

 

ما هو عمر العنف في العراق؟ لا اتحدث هنا عن عراق سومر وامبراطوريات بابل وآشور، وبني العباس، بل العراق الحديث، عراق تأسيس الدولة. كيف نعَرف العنف ونصنف ضحاياه اذا اردنا تأسيس هيئة للحقيقة ورد الاعتبار؟ هل هو عنف الدولة ضد المواطنين أم هو عنف الحكومات المباشر، أو غير المباشر، من خلال عدم مساءلة مرتكبي العنف من قوى غير حكومية، تنشط بغياب الدولة؟ كيف بامكاننا تحديد الحقبة التي يتوجب مراجعتها، وهناك اجماع على الاختلاف، الاختلاف حتى حول تعريف الاحداث الحاسمة في تاريخ البلد؟ فما يراه البعض ثورة يراه آخرون انقلابا، وما يراه البعض رد فعل حكومي رادع ضد من يستهدف أمن الدولة، يراه آخرون جريمة نكراء بحق الشعب، ناهيك عمن هو الإرهابي أو الشهيد

من أين نبدأ اذا ما أردنا توثيق الحقيقة ورد الاعتبار لضحايا العنف والانتهاكات؟ ما هي نقطة البدء التي تقود إلى التخلص من الاحساس بالظلم، وما يترتب عليه من مظلومية ورغبة بالانتقام، لتقودنا إلى المصالحة بمعناها الانساني ؟ هل نبدأ من العهد الملكي الهاشمي عام 1921 أم من العهد الجمهوري في ثورة ( يسميها البعض انقلابا) 14 تموز/ يوليو 1958؟ نبدأ من حكم حزب البعث الأول عام 1963 أو القومي 64 أو البعث الثاني 64 ـ 2003؟ أو نكتفي بالتوثيق والمطالبة بتعويض البلد وأهله منذ غزوه واحتلاله عم 2003 حتى يومنا هذا؟

كل حقبة زمنية مر بها العراق منذ تأسيسه كدولة، تركت ضحايا ظلم بجروح لم تندمل. والمصيبة الاكبر ان نزيفها لم يتوقف بعد رحيل حامليها بل ورثتها الاجيال التالية، بعد ان حفرت في النفوس وتعمقت وباتت محملة بصديد الانتقام. هل نبدأ من العهد الملكي؟ من ضحايا الانتفاضات والاضرابات ضد الاحتلال البريطاني، اعدام قادة الحزب الشيوعي والاعتقالات؟ 

من سحل مسؤولي العهد الملكي في 14 تموز/يوليو أو سحل واعدامات القوميين، من قبل شيوعيين، بعد ذلك بشهور في الموصل وكركوك خصوصا؟ من محاولة اغتيال رئيس الوزراء عام 59 من قبل البعثيين وما تلاه من تصفيات لهم، إلى انقلاب (يسميه البعض ثورة) 8 شباط / فبراير 63 الذي قاموا خلاله بتصفية كل من اشتبهوا بانه حاول تصفيتهم من الشيوعيين؟ هل نبدأ بالعهد البعثي الثاني وتصفياته التي بدأت داخل الحزب نفسه، وعائلة أمين عام الحزب، وانتهت بابعاد من اطلقت عليهم اسم «التبعية» لأيران، وتصاعد عمليات حزب الدعوة الإرهابية (يسميها البعض استشهادية)؟ أم نترك هذا كله، ونبدأ منذ عام 2003، عام الغزو والاحتلال الانكلو ـ أمريكي (يسميه الشيوعيون تغييرا والاحزاب الإسلامية الحاكمة تحريرا)، الذي تسبب بوفاة ما يزيد على المليون مواطن، وتهجير اربعة ملايين، وتخريب مدن بكاملها، وتوفير البيئة لإرهاب الدولة والقاعدة وداعش والميليشيات؟ 

هل حالة الهياج والهستيريا وسحل الجثث هي بداية العنف ام انه تأسيس المجموعات المسلحة خارج سلطة الدولة على غرار المقاومة الشعبية في 1958 (الشيوعية) ام الحرس القومي في 1963 (البعثي)، او ميليشيات، ما بعد الغزو، التي يزيد عددها على 40 ميليشيا، أو منظمات القاعدة والدولة الإسلامية (داعش)؟ ماذا عن إرهاب قوات الغزو والاحتلال وقوات التحالف الدولي والقوات الإيرانية ؟ 

ومن هم الضحايا الذين يستحقون رد الاعتبار والكرامة وجبر الضرر؟ الشيوعي ام البعثي ام القومي أو الإسلامي، أو المبعد بحجة التبعية أو الكردي، حسب تصنيفات ما قبل الغزو، أو السني والمسيحي والايزيدي والشيعي، حسب انشطارات ما بعد الغزو؟ 

على الحكومة العراقية، الوطنية، المستقلة، ذات السيادة، المؤمنة بتحقيق العدالة لكل مواطنيها، مواجهة شبكة التناقضات هذه، كلها، حين تتخذ قرارا بتأسيس هيئة أو لجنة أو مؤسسة من اجل الحقيقة والمصالحة. النقطة الايجابية انها ليست الاولى من نوعها، بالعالم، لذلك بامكانها البناء على نجاحات تجارب شعوب، أخرى، وتجنب اخفاقاتها. هناك تجربة جنوب أفريقيا في تأسيس «لجنة الحقيقة والمصالحة» لكتابة التاريخ اعتمادا على قصص الضحايا، غطت فترة تقارب خمسة عقود، تحت نظام الفصل العنصري (ابارتايد). حيث قدم أكثر من عشرين ألف شخص شهاداتهم، وطلب سبعة آلاف مسؤول العفو. وتم في الارجنتين تشكيل اللجنة الوطنية للتحقيق في شأن الأشخاص المفقودين التي نجحت في التحقيق بجرائم أرتكبت، منذ ثلاثين عاما، وتم تقديم المسؤولين إلى القضاء، ورصدت تعويضات للضحايا

عربيا، لدينا تجربة المغرب، حيث تم انشاء المجلس الاستشاري لحقوق الانسان عام 1990 للنظر بحالات الاعتقال والاضطهاد والتعذيب منذ استقلال البلاد عام 1956، ومن ثم وضع آلية لتعويض ضحايا الانتهاكات. وفي عام 2004، تم إنشاء «هيئة الإنصاف والمصالحة « التي تحملت مسؤولية الكشف عن الحقيقة حول الانتهاكات السابقة وتقديم التعويضات للضحايا وعائلاتهم وتقديم توصيات للحيلولة دون حصول انتهاكات لحقوق الانسان مجددا. وعقدت جلسات استماع علنية للاستماع إلى روايات الضحايا ولإثبات الحقيقة عن حالات عديدة من الاختفاء القسري. ولكن، لم يمنح الضحايا الحق في الإفصاح عن أسماء الجلادين الذين تغيبوا عن الجلسات، ولم تعقد أية محاكمة لهذا الغرض. وعاشت تونس تجربة تشكيل «هيئة الحقيقة والكرامة»، بمسار توثيق قضايا الضحايا، وجلسات الاستماع العلنية، والنجاح بتقديم عدد من القضايا إلى المحاكم

الملاحظ في هذه التجارب، انها توخت، بعد تبني اسلوبها الخاص في التطبيق، «تحديد المسؤوليات وإرساء العدالة وتحقيق المصالحة»، كما في تعريف الأمم المتحدة للعدالة الانتقالية، تغطية انتهاكات حقب زمنية طويلة وتحت انظمة متعددة، منذ الاستقلال، في حالتي المغرب وتونس. كما ركزت على مسؤولية الحكومة، الحالية، أيا كانت، في وضع حد للانتهاكات، واصلاح المؤسسات، وشملت بتعريف «الضحية» كل شخص تعرض للانتهاكات.

أما ما جرى، بالعراق، سواء تحت الاحتلال المباشر او غير المباشر، فكان ولادة مشوهة لمفهوم العدالة، بكل المستويات. حيث أقتصر تصنيف «الضحية» على من عانى تحت نظام البعث، فقط، وتم تبني تصنيف «الشهيد» لضحايا الحقبة، نفسها، مما حرم عوائل آلاف الشهداء ممن ضحوا بحياتهم في الحرب العراقية ـ الإيرانية من حقوقهم. واذا كان التعويض المادي واحدا من آليات تحقيق العدالة الا انه ليس العامل الاول والأخير، كما حدث، بالعراق، اذ تم القفز على كل الآليات، والاكتفاء بتنفيذ آلية التعويض المادي المشروط بالحصول على تزكية أحد احزاب السلطة. الأمر الذي سبب، ولايزال، الحاق المزيد من الضرر بالضحايا، واستمرارية روح الانتقام، بدلا من تحقيق العدالة وجبر الضرر.

٭ كاتبة من العراق

حماية الأرشيف التونسي ونهب الأرشيف العراقي

هيفاء زنكنة

 

أصدرت «هيئة الحقيقة والكرامة»، بتونس، بلاغا، في الاسبوع الماضي، موجها إلى أصحاب الملفات المودعة لديها من ضحايا انتهاكات حقوق الانسان والتي «لم يستوف فيها التحري نظرا لضعف المؤيدات». دعتهم في البلاغ إلى « تقديم مؤيداتهم أو شهاداتهم أو أي توضيحات إضافية كتابيا تؤيد تصريحاتهم وذلك لتجنب رفض الملفات التي تفتقر إلى مؤيدات كافية». 

يؤكد البلاغ عدة قضايا مهمة حول طبيعة عمل الهيئة التي تعتبر نموذجا يستحق المتابعة في بقية البلدان العربية ومنها العراق. أهم النقاط هي قيام الهيئة باجراء التحريات، بشكل دقيق، عن صحة تصريحات المتقدمين اليها كضحايا

ومن ثم توفير الفرصة لهم لتقديم ما يثبت قضاياهم قبل انتهاء عمل الهيئة. النقطة الثانية تتعلق بطبيعة عمل الهيئة والفترة الزمنية التي يغطيها عملها وكفاءة العاملين فيها. النقطة الثالثة تتعلق بما هو أشمل، أي أن الهيئة انجاز تونسي، وطني، بحت، تم بعد الثورة، بقانون خاص أقره ممثلو الشعب التونسي، لتوثيق ومعالجة انتهاكات حقوق الإنسان في عهدي الرئيس الحبيب بورقيبة (1957 ـ 1987) وخلفه زين العابدين بن علي (1987 ـ 2011)، وذلك «بكشف حقيقتها ومساءلة ومحاسبة المسؤولين عنها وجبر ضرر الضحايا ورد الاعتبار لهم بما يحقق المصالحة الوطنية». ويجري العمل، الآن، بعد انتهاء عمل الهيئة على تسليم أرشيف الهيئة، بكل الملفات، كاملا، وفي النسخة الاصلية إلى الارشيف الوطني وذلك «لأهمية الذاكرة وكيفية حفظها للأجيال المقبلة، لإنجاح مسار العدالة الانتقالية باعتبارها أداة للمصالحة الوطنية الحقيقية والمستدامة». 

ذكر هذه الحقائق مهم عند مقارنة تجربة الهيئة التونسية، التي واجهت عديد التحديات والمصاعب، بتجربة «مؤسسة الذاكرة العراقية»، التي يحمل هدفها المعلن، بعض التشابه مع هدف الهيئة التونسية، إلى ان توقف العمل فيها، بعد ثلاث سنوات من نقلها إلى بغداد. لماذا توقفت؟ هل لقلة الضحايا، وهم كثر، منذ عهد الاستقلال الوطني؟ 

عند اجراء المقارنة، يتضح زيف ادعاءات مؤسسيها وكيف نجحوا بالحاق الضرر بمفهوم الحقيقة والتوثيق والمصالحة الوطنية. فالمؤسسة، أولا، غير مستقلة من ناحية التمويل وبالتالي الإدارة. اذ اعتمدت، منذ تأسيسها بواشنطن، بالتزامن مع اصدار الادارة الأمريكية «قانون تحرير العراق»، على عقود نفذتها لصالح وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون). ثانيا، كيفية تجميعها للوثائق. تأسست، بداية، عام 1993، باسم» «مشروع البحوث والتوثيق العراقي»، بعد ان رافق باحث عراقي يدعى كنعان مكية منتج أفلام من الــ «بي بي سي»، لتصوير فيلم عن «حملة الانفال»، أثر اعلان أمريكا وبريطانيا شمال العراق منطقة آمنة. قام كنعان مكية، حينها، بشحن كل ما تمكن من الحصول عليه من الوثائق العراقية المهمة إلى أمريكا. كانت تلك خطوة « الباحث» الاولى في استمراره باخراج الوثائق والمخطوطات الاصلية والمذكرات والملفات، بانواعها، من العراق، بحجة كشف « الحقيقة» مما قد يساعد « على دمل جراح مجتمع عومل بقسوة سياسية على اعلى المستويات». وهي مهمة نبيلة، حقا، فيما لو كانت مستقلة فعلا، ومبنية على العمل لتحقيق العدالة لكل العراقيين، وكل حقب الانتهاكات وليس اقتصارها على فترة حكم واحدة، ولم تسخر لنهب ما هو ملك للشعب العراقي، ويشكل جزءا من ذاكرته الوطنية، وتسليمه كغنيمة إلى اجهزة مخابرات ذات الدولة التي قامت بغزو العراق وتخريب بنيته التحتية ،وسببت حرق ونهب المتاحف والمكتبة الوطنية والمعارض والجامعات. وكانت جمعيتا أمناء الارشفة الأمريكيين والكنديين قد أصدرتا بيانا، 22 نيسان/أبريل 2008، أدانت فيه عمل المؤسسة، بقوة، جاء فيه «ذهبت مؤسسة ذاكرة العراق، وهي منظمة غير حكومية مقرها الولايات المتحدة، إلى بغداد بعد فترة وجيزة من الغزو وبدأت في جمع أكبر عدد ممكن من الوثائق التي يمكن أن تجدها. بموجب قوانين الحرب، يمكن اعتبار ما قامت به من أعمال النهب، وهو أمر محظور بشكل خاص بموجب اتفاقية لاهاي لعام 1907».

فكيف تقوم مؤسسة كهذه بتضميد جراح سنوات حكم البعث ( 1968 ـ 2003)، ونزيف دم الضحايا، منذ غزو البلد واحتلاله (2003 ـ حتى اليوم) لم يتوقف يوما، خاصة وأن مؤسسها مكية، نفسه، كان من المحرضين على الغزو، وهو الذي تبرع بطمأنة الرئيس الأمريكي جورج بوش، عندما تساءل عن موقف العراقيين من احتلال بلادهم، فهدأ مكية من روعه قائلا: «سيستقبلونك بالازهار والحلوى». وكتب في يومياته عن قصف بغداد في « حملة الصدمة والترويع»، في 2003، « ان صوت القصف موسيقى لأذني». 

المفارقة الأخرى، ان يتم تعيين مصطفى الكاظمي، عضو حزب الدعوة الإسلامي الحاكم، ومدير مشروع التاريخ الشفهي في المؤسسة، رئيسا لجهاز المخابرات. فما هي مصداقية التاريخ الذي يوثقه شخص غير محايد، يسيره الاحساس بالمظلومية، كما تدل مقابلات أجريت معه؟ ما هي مؤهلاته الوظيفية في هذا المجال الحساس؟ كيف قام بالتحري عن اصحاب الشهادات الشفهية وتأييد ما سجله؟ أم ان عمله لا يزيد عن كونه وجها آخر من أوجه الاستهانة بآلام الضحايا وعذاباتهم، مما سيؤدي بالنتيجة إلى فقدان الثقة بأي عمل مستقل يتوخى توثيق والمحافظة على الذاكرة الوطنية مستقبلا؟ 

ان الذاكرة الوطنية هي ذاكرة الشعب كله كما تدون وتدقق، ثروة من محفوظات تعود ملكيتها إلى الشعب كله، ليستخلص منها الدروس التي تجنبه تكرار المآسي وتمده بالقوة من اجل بناء المستقبل. في مجال حقوق الانسان، للارشيف دور أساسي في تحقيق العدالة وحفظ الأدلة ومنع مقترفي الجرائم من الافلات من العقاب، ومنع التزوير، والأفعال الكيدية، لتفادي خلق ضحايا جدد، وإهدار المال العام بدون تمحيص. ومن مسؤولية الحكومات المحافظة على الوثائق، والأرشفة السليمة للمحفوظات هي مفتاح لبقاء الأدلة وسلامتها. وهذا لم يحدث بالعراق، منذ ان قامت القوات الأمريكية بتجميع الوثائق العراقية عند غزو العراق للكويت عام 1990 وحرقها بذريعة العفن، حتى اليوم، حيث لاتزال ملايين الصفحات من الوثائق موجودة في أمريكا، بعد تصنيفها كوثائق سرية او جعلها متاحة لباحثين قام عدد منهم بترجمة ونشر صفحات منها، تم اختيارها وتحليلها بشكل انتقائي. وهي طامة تضاف إلى جرائم النهب والتخريب المتعمد، اذ تتعزز النظرة الدونية الينا، حين يحلل ويكتب الآخرون تاريخنا، وفق منظورهم الخاص، وبلغتهم، وايديولوجيتهم، بينما لا تتاح لنا فرصة الاطلاع على وثائقنا، لصعوبة وتعقيدات الوصول اليها في أمريكا، بينما المفروض ان تكون موجودة في مكانها الطبيعي وهو الارشيف الوطني العراقي. والاهم من ذلك كله، حين الشروع بتأسيس هيئة للحقيقة تستفيد من التجربة التونسية، ان يتم توثيق شهادات جميع الضحايا، بضمنهم ضحايا الاحتلال، ومن قبل عراقيون يعرفون معنى الوطنية.

٭ كاتبة من العراق

 

 

بعد أكثر من ربع قرن:

لماذا يخفون وثائق غزو الكويت؟

هيفاء زنكنة

 

تمر هذه الايام ذكرى غزو العراق للكويت في آب/ أغسطس 1990. الذكرى التي تعيدنا إلى يوم فقأ فيه النظام العراقي عينه بأصبع وعين الشعب بأصبع آخر، ليقود العراق والكويت وفلسطين ووحدة الصف العربي، الذي كان يتشدق بها، إلى مقبرة كتب على شواهدها: النهب، والقتل، وبذر روح الانتقام، والاستجارة بالاجنبي إلى حد القبول بالاحتلال.

لا تزال الدول العربية، تعيش، حتى اليوم، آثار لحظة تاريخية كان ولايزال وجهها الاول رئيس العراق السابق صدام حسين. هذا لا يعني ان الوجه كان خاليا من البثور الفاضحة للتدخل الخارجي، ومن سرديات أضيفت من الموالين والمعارضين للغزو، سواء كانوا عراقيين او عربا، الا ان القرار الاول كان للرئيس العراقي. منذ ذلك اليوم، وقائمة الاضرار التي اصابت العراق وكل البلاد العربية، بالاضافة إلى الخراب الذي اصاب الكويت بلدا وشعبا، في تزايد. لم يكن الغزو خطأ انتهى بانسحاب القوات العراقية، بل كان تمهيدا مجانيا لشرعنة كل الجرائم التالية التي حلت بالشعب العراقي. فمن قصف الجنود الجياع المنسحبين بطريق البصرة (طريق الموت) ودفن اعدادهم الكبيرة بالبلدوزرات، ففي ستة أسابيع، أسقط التحالف المكون من 39 دولة، أكثر من ضعف عدد القنابل الموجهة بالليزر التي تم إطلاقها فوق فيتنام الشمالية في تسعة أشهر، إلى الحصار، على مدى 13 عاما، الذي جعل المواطن العراقي ظلا لما كان عليه قبل التجويع المنهجي، إلى القصف الدوري بحجة « احتواء» النظام، إلى حرق النساء والاطفال وهم أحياء في ملجأ العامرية. ماديا، لايزال المواطن العراقي يدفع الثمن مليارات الدولارات تعويضا للتخريب الذي لحق الكويت ومن ثم تحرير الكويت من قبل القوات الأمريكية. لايزال المواطن العراقي يدفع ثمن رأس الخس الذي أكله الجندي الأمريكي وتم تقدير ثمنه بـ35 دولارا. وهي مفارقة مضحكة مبكية حين نقارن ذلك بالغزو الأمريكي للعراق، عام 2003، حيث قامت ذات القوات بتهديم البنية التحتية للبلد، وبلغت الخسارة البشرية جراء الغزو مليونا ونصف المليون انسان، وستبقى الاجيال المقبلة حاملة لتشوهات التعرض للاسلحة المحرمة واليورانيوم المنضب، ولم يحدث وصدر أي قرار دولي بتعويض الضحايا والبلد

الى جانب الخسارة البشرية والمادية، جراء غزو 1990، ذاق البلدان خسارة من نوع آخر نتيجة فعل استهدف توثيق الغزو وكتابة التاريخ وفق مصادره الأولية والقدرة على تحليل ما جرى بشكل علمي، بعيدا عن التضخيم من جهة والتكذيب من جهة أخرى. وهو فعل نفذته القوات الأمريكية باسلوب لم تسلكه حتى عند انتصارها ضد الجيش النازي واحتلال برلين. اذ قامت، من خلال وكالة مخابرات الدفاع، حينها «بعمل يستحق الثناء لجمع وتنظيم الوثائق العسكرية التي تم الاستيلاء عليها وجعل هذه المواد متاحة للمؤرخين والعلماء والمدربين العسكريين المحترفين» حسب معهد دوبوي للتوثيق التاريخي، في 10 أكتوبر/تشرين الاول 2017، الا ان «هذا التفاني تعثر عندما كان الأمر يتعلق بالحفاظ على الوثائق المستردة من ساحة المعركة خلال حرب الخليج 1990 ـ 1991» حيث دمرت ملايين الصفحات من الوثائق العسكرية العراقية التي تم جمعها خلال عملية «عاصفة الصحراء» من قبل وكالة استخبارات الدفاع (DIA)، في عام 2002، بعد أن خزنت بشكل عرضها للتلوث بالعفن».

يمتد تاريخ الوثائق، المكونة من 12 مليون صفحة، من عام 1978 حتى عملية «عاصفة الصحراء» في 1991. جمعتها القوات الأمريكية من كل مكان بضمنها جيوب القتلى من الجنود العراقيين. وتتضمن المجموعة خططا وأوامر العمليات العسكرية ؛ الخرائط وقوائم الوحدات (بما في ذلك الصور الفوتوغرافية)؛ أدلة تبين التكتيكات والتمويه والمعدات والقواعد ؛ سجلات صيانة المعدات ؛ مخزونات الذخيرة، سجلات عقوبات الوحدة ؛ وحدة الأجور وسجلات الإجازات ؛ التعامل مع أسرى الحرب ؛ قوائم المعتقلين وقوائم المركبات المحتجزة؛ وغيرها من السجلات العسكرية. وتتضمن المجموعة، أيضا، بعض أدلة أنظمة الأسلحة الأجنبية بالاضافة إلى بعض سجلات مجلس قيادة الثورة ووثائق تعود إلى مجلس التعاون الخليجي.

وفقا لدوغلاس كوكس، المدعي العام وبروفسور قانون المكتبة في جامعة نيويورك، قسم القانون، بدأت وكالة استخبارات الدفاع بصنع نسخ رقمية من الوثائق.تم ذلك في الكويت والسعودية. ولكن، حين طلبت وزارة الخارجية نسخاً منها، قررت الوكالة، أنه يمكن قراءة 60٪ فقط من الأشرطة الرقمية المخزنة في النسخ الأصلي.

كان ذلك خلال محاولة لإعادة نسخ 40 ٪ من الوثائق فاكتشفوا أن المجموعة الورقية بأكملها قد تلوثت بالعفن مما اقتضى اتلافها كلها. وهي بادرة تخالف القانون من حيث قيامها باتلاف وثائق رسمية تعود ملكيتها للعراق.

قامت الوكالة بإنشاء مكتبة من المستندات المستنسخة ضوئيا والمخزنة في 43 قرصا مضغوطا وتصنيفها باعتبارها وثائق سرية لا يمكن لأحد الاطلاع عليها. ليس من الواضح، الآن، اذا كانت الاقراص لاتزال موجودة لدى الوكالة. كما لم يتم نقل أي منها إلى الأرشيف الوطني اعتبارا من عام 2012. تم توفير مجموعة من 725 ألف صفحة للباحثين بجامعة هارفرد بعد إلغاء تصنيفها كوثائق سرية عام 2000. ثم تم الغاء هذا الترتيب وإرسال المجموعة التي رفعت عنها السرية، فقط، إلى معهد هوفر في جامعة ستانفورد

يثير استيلاء القوات الأمريكية على الوثائق العراقية وكيفية تصرف وكالة الاستخبارات بها العديد من الاسئلة المهمة التي تستحق المتابعة، خاصة من قبل القانونيين والباحثين. اسئلة على غرار: لماذا لم تتم اعادة الوثائق إلى العراق، خاصة، وان الادارة الأمريكية تدعي «تحريره» وهناك مثال اعادة الوثائق الالمانية بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية لتصبح جزءا من الارشيف الوطني؟ لماذا لم تتم المحافظة على الوثائق من التلف والولايات المتحدة معروفة بتوثيقها السجلات اليابانية والالمانية وحتى وثائق الاتحاد السوفييتي من المناطق التي حررها الجيش الأمريكي اثناء الحرب العالمية الثانية؟ اما السؤال الأكثر أهمية الذي يهم الشعبين الكويتي والعراقي، لأنه سيساعد على كشف الحقائق، وفهم ما جرى، وبالتالي تنقية الاجواء بعيدا عن التضليل والتزييف، هو لماذا تصر وكالة استخبارات الدفاع الأمريكية على ابقاء الوثائق، غير التالفة، مصنفة كوثائق بالغة السرية؟ وهو ذات السؤال الذي يثيره بروفسور القانون دوغلاس كوكس حين يقول» أن الفشل في الحفاظ على الوثائق الورقية الأصلية سيء بما فيه الكفاية، كما ان احتمال فقدان جزء أو كل المجموعة الرقمية في وكالة المخابرات، سيشكل أمرا فظيعاً ومحيراً. وأنه، من غير المنطقي، ابقاء هذه المجموعة مصنفة باعتبارها وثائق سرية بعد ربع قرن من انتهاء حرب الخليج». فما الذي ستكشفه الوثائق وتخشى أمريكا كشفه؟

٭ كاتبة من العراق

نريد الوطن عن أي وطن يتحدثون؟

هيفاء زنكنة

 

المظاهرات مستمرة بالعراق. ثمن المشاركة باهظ يدفعه الشهداء بحياتهم والاحياء بمخاطرتهم بحياتهم. على هامشها، تستمر تصريحات الساسة ورجال الدين المصطفين سوية في ادانتهم العنف والفساد، كأنهم ليسوا غارقين فيهما حتى النخاع، وكأن الضحايا يتساقطون نتيجة عنف غزا العراق من المريخ. بعيدا عن رطانة الساسة والمرجعية وحرباوية مقتدى الصدر والميليشيات، انطلقت اصوات، ربما لأول مرة، مؤيدة للمتظاهرين، بعد ان مشى اصحابها في ظل الحائط فترة طويلة. لم يعد الظل كافيا للحماية من اشعة الشمس الحقيقية. هناك، ايضا، اصوات حافظت على موقفها المبدئي ومساندتها للشعب، بأساليب متعددة، من بينها البرامج التلفزيونية المتهكمة من الساسة بشكل يثير الضحك. ولعل أكثر البرامج نجاحا في هذا المجال هو برنامج « بشير شو» (على القناة الالمانية العربية) من اعداد وتقديم أحمد البشير الذي يتناول هموم الناس ومشاكلهم الناتجة عن الوضع السياسي، بشكل نقدي ساخر، لم يكن معروفا لدى العراقيين، سابقا

لم يتهاون البرنامج، يوما، في وقوفه مع مطالب الناس، وهنا مصدر قوته، محافظا، في الوقت نفسه، على مضمونه الساخر وروح النكتة التي ازدادت، مع ازدياد النكبات الهابطة على رؤوس المواطنين، الا ان احدى حلقات البرنامج المهداة إلى «مظاهرات العراق. إلى البصرة وكربلاء والنجف و بغداد والمثنى وذي قار والى كافة المحافظات» كانت خالية من شحنة الضحك المنتظرة. فهل نهب ساسة الفساد الضحكات بعد ان عجزوا عن اسكات البشير، وبعد ان ادركوا قوة السخرية وقدرتها على كسرها حاجز الخوف والاضطهاد والقمع عن طريق تحطيم سطوة الشخصيات المهيمنة ووضعها بحجم يصبح من السهل الضحك عليه

«يوم بلا ضحك هو يوم ضائع»، يقول تشارلي تشابلن، والضحك، على قساوة الواقع، هو الذي جعلنا البشير، نشاركه فيه، عبر برامجه. فما الذي دفعه إلى التخلي، ولو في حلقة واحدة، عن الضحك؟ 

انه ذلك الخندق العميق، الذي يفصل عموم الشعب العراقي عن الحكومة، والذي عجز الشعب عن عبوره للامساك بالحكومة، لأسماعها مطالبه. وهو بالضبط عكس ما يجب ان يكون. فالطبيعي ان تقوم الحكومة بتلبية مطالب الشعب، لأنه واجبها وليس منة على الشعب أو احسانا، وان تردم الهوة التي قد تقوم بينهما، في حالات الفساد والظلم وعدم تطبيق القوانين واحترام حق المواطنة. وهذا ما لم يحدث، بالعراق، في ظل حكومات ما بعد 2003. وان كان هذا لا يعني تبرئة نظام ما قبل 2003 من المسؤولية. فالمواطن خاسر بكل المستويات. اذ امتهنت، على مدى 15 عاما الاخيرة، كرامته ولم يتم توفير الخدمات الاساسية الموعودة له، ولم تراع حقوقه كإنسان، وتبخر حق التعبير عن الرأي أمام ناظريه، وكيفية التعامل مع المتظاهرين، سابقا وحاليا، أفضل دليل على ذلك

من الطبيعي، اذن، ان يلجأ البشير، كما غيره من الاعلاميين المتضامنين مع المحتجين، إلى التحليل السياسي ورصد يوميات المظاهرات، وخطب ومقابلات الساسة، وكتابات المدونين، لغربلة الاخضر من اليابس، في ظل تسفيه المظاهرات و«الفوضى الاعلامية والتعتيم الحكومي، والصراعات السياسية، واستغلال مطالب الناس»، حسب تعبيره. فالسخرية والنكتة، ابنتا الاحباط واليأس والخوف والفقر والجوع والظلم، الناميتان كأداتين للمحافظة على البقاء، تراجعتا، لفترة وجيزة، ازاء الغضب، المباشر، الذي لم يعد بالامكان كبته. الغضب العارم الذي جعل الاحتجاج فعلا جسديا يستدعي ازاحة العوامل المسببة له، ومن بينها، الساسة وميليشياتهم ومراجعهم، الذين أهانوا واحتقروا كل خلية بشرية تنبض بالكرامة. ولم يستطع البشير الا ان يتوقف ليراجع مع عموم الناس أفضل السبل للتعامل مع باعة القيم والاخلاق والوطن. الوطن؟ 

يصرخ المتظاهرون من كافة الاعمار «ما نريد ماء او كهرباء.. هذه مسألة وطن… مسألة وطن… نريد الوطن». الوطن؟ ماهو الوطن؟ في «عائد إلى حيفا» يتساءل الكاتب الفلسطيني الراحل غسان كنفاني، عن الوطن، قائلا: «يا صفية، هل تعرفين ما هو الوطن؟ الوطن هو ان لا يحدث هذا كله»، مشيرا إلى عودة بطل القصة إلى شقته المحتلة، في حيفا، فيلتقي بابنه الذي فقده في خضم الاحتلال، ليجده وقد صار جنديا في الجيش الصهيوني

الوطن، اذن، في حالة العراقيين، هو الا يحدث كل هذا الامتهان لكرامتهم وهم اهل احدى أغنى الدول بالمنطقة. هو الا يستخدمه الجشعون الفاسدون ذريعة لنيل المنح والهبات والقروض، بينما يستجدي هو الحد الادنى من ضروريات الحياة، من حقوقه، من سراق تغولوا إلى حد سرقة الضحكات. هو ان يحطم الاصفاد التي البسوه اياها، باسم الدين تارة، ومحاربة الإرهاب تارة اخرى، لاجباره على القبول بالأمر الواقع. هو الا يصغي لباعة الترويع والترهيب من المظاهرات لأنها قد تقود إلى خروق دستورية، وعنف غير مشروع، وشعارات تحريضية. ولنستعيد ما قاله نلسون مانديلا، رجل السلام والحقيقة والمصالحة، حين فشلت الطرق السلمية في تغيير الواقع المهين لإنسانية الانسان: «ان المقاتل من أجل الحرية يتعلم بالطريقة الصعبة أن الظالم هو الذي يحدد طبيعة الصراع، وغالبا ما لا يجد المستضعف بديلا سوى استخدام نفس أساليب الظالم».

الوطن، اذن، هو ان يخرج العراقي إلى الشارع لأنه ملكه، وان يضع اصابعه بعيون كل من ساعد على اغتصاب البلاد ونهبها وتخريبها. خراب تستر عليه إفساد الناس بالوظائف المؤقتة والوهمية، بفتات الأموال المنهوبة، المعطرة، بفتاوى دينية، حتى استنفدت أموال الدولة وبدأ التقشف وصراع اللصوص الكبار على الغنيمة المتضائلة، فلم يعد هناك الكثير للفتات. الأمل، الآن، في صمود الجماهير المتظاهرة، إذا ما انضم اليها بقية ابناء الشعب، من أجل الحرية والكرامة فالحرية «لا تقبل التجزئة..لأن القيود التي تكبل شخصاً واحداً في بلادي إنما هي قيود تكبل أبناء وطني أجمعين»، كما يذكرنا الراحل مانديلا والعالم يحتفل بمئوية ميلاده.

٭ كاتبة من العراق

 

 

 

ما الذي ستحمله الأيام المقبلة لمتظاهري العراق؟

هيفاء زنكنة

 

في الاسبوع الأخير، وصلت التظاهرات التي بدأت بشكل عفوي في مدينة البصرة، جنوب العراق، إلى بغداد، مرورا بكربلاء والنجف والديوانية والسماوة وبابل. وعلى الرغم من ان المظاهرات والاعتصامات، خاصة، بساحة التحرير، ليست غريبة على العاصمة التي تبنتها منذ عام 2011، بشكل دوري، تزامنا مع انتفاضات الدول العربية، الا ان انتقالها هذه المرة، بهذا الحجم، من انحاء اخرى من العراق إلى العاصمة يثير الانتباه. حيث شحنت مشاعرالغضب طاقة من كانوا مثابرين على الاحتجاج ضد الفساد، منذ سنوات، واصابتهم خيبة الامل من هيمنة الاحزاب على الحركة المدنية التي انطلقت، مستقلة، ثم تحولت إلى ورقة للمساومة على حساب الشباب الذين عرضوا حياتهم للتهديد والاعتداءات والخطف والقتل

تم تفريق المتظاهرين، يوم الجمعة، ببغداد، بخراطيم المياه والغاز المسيل للدموع، حين حاولوا الاقتراب من «المنطقة الخضراء»، المحصنة إلى حد التقديس، أكثر من الاماكن الدينية المقدسة، لأنها تضم أكبر سفارة أمريكية بالعالم، وفي ظلها يقبع مسؤولو الحكومة العراقية وأعضاء البرلمان. أوفياء لمن يمدهم بالحماية من غضب الشعب. ومن يصغي إلى اصوات المشاركين بالتظاهرات سيعرف مدى ما تحمله المواطنون جراء فساد وفشل الاحزاب السياسية الحاكمة في تقديم أي شيء للمواطن خلال الخمسة عشر عاما المنصرمة، وان الاحتجاج على انقطاع الكهرباء والماء، المتفاقم، في قيظ تموز/ يوليو، هو فعل تأخر طويلا. المفارقة، اليوم، هي اتهام المتظاهرين المطالبين بأبسط الحقوق بأنهم «اعداء العراق» من ذوي «النوايا الخبيثة بعد أن اغاظهم النصر الكبير الذي حققته قواتنا الامنية البطلة في حربها ضد الإرهاب وأذنابه» حسب بيان لمركز الاعلام الامني. أما اطلاق الرصاص وقتل المتظاهرين، فانه «معلومات كاذبة وملفقة تصر بعض وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي على نشرها»!

يتركز رد فعل الحكومة ورؤساء الاحزاب والميليشيات والمرجعية الدينية، على احتواء ما يسمونه «الأزمة» بأسلوبين. الاول هو الادعاء أنهم يحترمون حق الاحتجاج، الا أنهم ضد مشاركة « المندسين، الإرهابيين، التخريبيين، الداعشيين، البعثيين». وحين نتذكر ان قانون الإرهاب يشمل 44 تهمة، سندرك خطورة هذه الاتهامات وكونها تشرعن للحكومة والميليشيات ضرب واعتقال وقتل المتظاهرين، وتوفر للمرجعية ذريعة عدم اتخاذ موقف واضح من إرهاب الحكومة

الاسلوب الثاني هو اطلاق متحدثي الحكومة التصريح تلو التصريح حول «الاستجابة بشكل آني إلى قسم من المطالب» وتبرير ان القسم الآخر «يحتاج إلى وقت وتخصيصات مالية طائلة». ويأتي التأكيد الحكومي الرسمي بكليشيهات جاهزة مفادها: «وضع آليات عمل» و«امتلاكها برنامجا كاملا للنهوض بالواقع الخدمي للبلاد» و«تشكيل لجان حكومية لحل الاشكاليات» و« رسم مسار استراتيجي وتخصيصات مالية ستطلق لذلك». مما يجعلنا نتساءل: ترى لماذا لم تقم الحكومة بكل ذلك، خلال 13 عاما الاخيرة، قبل ان يدفع المواطنون حياتهم ثمنا؟ وهل يلام المواطن حين يصم أذنيه رافضا الاصغاء لوعود يعرف جيدا انها مجرد أكاذيب من حكومة فاشلة لا تزيد امكانية مسؤوليها، متمثلة برئيس الوزراء حيدر العبادي، القيادي بحزب الدعوة الاسلامي، على اطلاق فقاعات هوائية، باتت رائحتها تزكم الانوف؟ هل يلام المواطن اذا ما اراد التخلص من احزاب انحدرت به إلى جحيم الفاقة وامتهان الكرامة وتفتيت البلد إلى كانتونات طائفية تحكمها ميليشيات مستوردة ؟ كيف يتعامل المواطن مع حكومة يقول متحدثها الرسمي ان الحكومة تطالب المتظاهرين بالاحتجاج «وفق الأطر الدستورية بعيداً عن الخروقات»، بينما يرى وزراء الحكومة ومسؤولوها، كلهم بلا استثناء، وهم يسرقون، وينهبون، ويرتشون، ويأخذون العمولات، ويمولون الميليشيات، ويتنفسون الفساد بكافة انواعه، حسب مئات التقارير والاحصائيات المحلية والدولية، وحسب اعترافاتهم ضد بعضهم البعض؟ أم ان هذه الافعال تتم وفقا للدستور؟

لقد وصل عدد ضحايا الاحتجاجات، حتى يوم أمس، 13 قتيلا ومئات الجرحى. وأصدرت منظمة « العفو الدولية» بيانا أكدت فيه قيام القوات الحكومية باستخدام الذخيرة الحية في تفريق التظاهرات، وقتل متظاهرين سلميين بالإضافة إلى تنفيذها حملة اعتقالات تعسفية وممارسة عمليات تعذيب جسدي ضدهم. أثناء ذلك، عمدت الحكومة إلى قطع الانترنت لمنع انتشار اللقطات المصورة التي تظهر قمع السلطات للتظاهرات السلمية. وهو تعتيم متعمد منح القوات الحكومية تفويضا مطلقا لقمع المتظاهرين السلميين دون علم أحد.

دعت المنظمة السلطات العراقية «إلى وضع حد فوري لعمليات التعذيب، وإجراء تحقيق محايد لتقديم المسؤولين عن هذه الأفعال إلى المحاكمة». وهو ما لن تقوم به الحكومة اطلاقا، فالمعروف ايمان ساستها بضرورة التعذيب وان المعتقلين يستحقون ما يصيبهم، بضمنه القتل، لأنهم «إرهابيون». 

فما الذي ستحمله الايام المقبلة؟ تدل المؤشرات على ان الاحزاب الحاكمة وميليشياتها المسلحة المأجورة لن تتخلى بسهولة عن غنائم الفساد، وولائها الخارجي، وان اعلانها نية الاصلاح والقضاء على الفساد يعني، بالواقع، القضاء على نفسها. كما تذكرنا الاتهامات الموجهة ضد المتظاهرين بفترة الاعداد للقضاء على تظاهرات واعتصامات الفلوجة السلمية التي استمرت طوال عام 2013 وحتى اواخر 2014، فأمر نوري المالكي، رئيس الوزراء وأمين عام حزب «الدعوة الاسلامي»، بقصف الفلوجة بالبراميل المتفجرة وراجمات الصواريخ، وطائرات «سوخوي»، بحيث أجبر القصف العشوائي الأهالي على دفن قتلاهم في الحدائق والساحات القريبة منهم، ولم تستثن عمليات القصف المساجد والمستشفى الوحيد في الفلوجة الذي تم استهدافه 24 مرة. تجاوز، حينها، عدد الضحايا 700 قتيل وأكثر من 2350 جريحا، حسب الأرقام الرسمية، لمستشفى الفلوجة العام

المفارقة هي ان تهمة الإرهاب والداعشية التي وجهت إلى اهل الفلوجة والموصل وبقية المتظاهرين عام 2013، هي ذات التهمة الموجهة إلى متظاهري البصرة وكربلاء والنجف والسماوة والناصرية، اليوم. فهل سيكون مصير تظاهرات هذه المدن كالسابقات؟ الأرجح لا. فمساومات المحاصصة حول تشكيل الحكومة الجديدة، بعد مهزلة الانتخابات، وتدخل المرجعية الدينية وسفح الوعود بالأطنان، وحرباوية موقف مقتدى الصدر، رئيس التيار الصدري، بالإضافة إلى الترويع والاعتقالات والتعذيب، سيعيد المتظاهرين إلى بيوتهم، ويمد الفاسدين القدامى ـ الجدد بالحياة بضعة أشهر أخرى، لا غير.

 

 

المتظاهرون بالعراق ) مخربون إرهابيون إمعات(!

هيفاء زنكنة

 

«انهم يستحقروننا… لماذا الاحتقار؟»، يتساءل أحد المحامين الخمسين، الذين شاركوا في مظاهرات المدينة المعروفة بانها مركز المرجعية الدينية الشيعية. كل المشاركين هم من اهل النجف. حين لم يستجب أي مسؤول محلي لاحتجاجاتهم، توجهوا نحو المطار، كمحاولة لجلب انظار المسؤولين إلى مطالبهم التي لا تزيد عن التزود بالكهرباء والماء الصالح للشرب. كان جواب المسؤولين اتهامهم بالتخريب والإرهاب. وتم اطلاق النار عليهم. اثنان من المتظاهرين استشهدا وجرح 15 آخرين. قتيلان و40 جريحا في اشتباكات بين متظاهرين وقوات الأمن في كربلاء. «شهداء الحرية»، يقول المتظاهرون. «إرهابيون، مخربون» يقول المسؤولون. أنه رد الفعل المعتاد من الحكومات الفاشلة

مظاهرات النجف واحدة من عشرات المظاهرات التي عاشتها مدن اخرى، في الاسبوع الماضي. وهي تكرار لمظاهرات واعتصامات عاشها العراق على مدى 15 عاما، من الاحتلال. بدأت، هذه المرة، من محافظة البصرة، جنوب العراق، التي تحوي أضخم حقول وموانئ النفط، في بلد هو ثاني أكبر منتج للنفط في منظمة الدول المصدرة للنفط «أوبك»، بعد السعودية، بطاقة إنتاجية قدرها 4.8 مليون برميل يوميا. مع ذلك، يعيش سكانها فقرا مدقعا، واهمالا لا يليق حتى بحيوان. فالماء غير صالح للشرب والجفاف يهدد الاراضي الزراعية والتيار الكهربائي، لقلته، مصدر الهام للنكات والاغاني والشعر المرير. إيران وتركيا تتحكمان بكميات الماء، مصدر الحياة، كما تستفيد إيران من عقود تزويد الكهرباء مع تحكمها بالكمية. حيث يحصل المواطن على بضع ساعات من الكهرباء، يوميا، في صيف بلد هو الاول عالميا، من ناحية ارتفاع درجة الحرارة، اذ ترتفع في الظل إلى 55 درجة مئوية في شهري تموز وآب. واذا كان أهل مدينة الموصل، شمال العراق، مشغولين بجمع اشلاء القتلى الذين بلغ عددهم 5200 في الشهور الاخيرة، وبعد مرور عام على «تحريرها»، فأن مشكلة البصرة والنجف وبابل وكربلاء والناصرية والعمارة، هي البطالة، عموما، الخانقة لأي أمل قد يحمله الخريج

«في وضعنا هذا نحن لا نعيش بل نمرر الوقت فقط»، يقول احد الشباب في تعليق على الفيسبوك. مهندسو النفط الشباب، مثلا، لا يتم تعيينهم في البلد الذي يحوي اغنى حقول النفط، بل يتم استيراد المهندسين والعمال أما من الخارج أو تعيين غير المؤهلين نتيجة الفساد. حين تجمع المتظاهرون، على الطريق السريع بالقرب من محيط حقول النفط بجنوب غرب القرنة ـ 2، في الاسبوع الماضي، كان هدفهم الاحتجاج على عدم تعيينهم وهم المؤهلون، المهملون، المحتقرون في بلدهم، من قبل المسؤولين الفاسدين والشركات الاجنبية متمثلة بلوك أويل الروسية، وشركة اكسون موبيل. بدلا من الاصغاء لمطالبهم وتهدئة الامور، أتهموا بالإرهاب، وأطلق عليهم الرصاص

خشية امتداد الاحتجاجات، بدأت أصوات المسؤولين والمرجعية الدينية، بتقديم سردية بديلة للحقيقة، لتحريض عموم الشعب ضد المتظاهرين. تؤيد السردية التضليلية مطالب المتظاهرين، ظاهريا، بينما تدس، عمليا، اتهامات التخريب، وحرصها على «الممتلكات العامة»، ومن ثم حمايتها الوطن من «التدخل الاجنبي»، كأن العراق واحة للسيادة المتكاملة

ليست مظاهرات المدن، بضمنها النجف، هي الاولى من نوعها، كما ان سقوط الشهداء بيد السلطة التي تدعي تمثيل السكان، ليس الاول. ففي الاول من تموز/ يوليو، العام الماضي، اطلقت الشرطة النار على المتظاهرين، المحتجين على انقطاع التيار الكهربائي، مما أدى إلى وفاة شخصين وجرح آخرين. برر محافظ النجف، لؤي الياسري، اطلاق النار بأن التظاهرات كانت «تستهدف أمن الدولة والمرجعية العليا». الحقيقة هي وحسب شهود عيان ان «المتظاهرين تجمعوا عند مجمع سكني خاص بطلبة وأساتذة الحوزة الدينية وأحرقوا الإطارات وهتفوا بشعارات غاضبة قبل أن يُطلق عليهم النار». واذا كان التاريخ يعيد نفسه بشكل كوميدي فان المسؤولين وقادة الاحزاب الحاكمة، هبطوا به إلى حضيض المهزلة في اتهاماتهم الجاهزة. اننا نشهد نسخة من احتجاجات واعتصامات أعوام 2011 ـ 2013، في الفلوجة والحويجة والرمادي والموصل، التي تم وصفها بالإرهاب وتصفيتها بالمذابح مع صفقات لبعض رؤساء العشائر. واقترن ذلك بإغتيال الناشطين والقمع المصاحب بتلاعبات التيار الصدري، في مناطق عدة وفي بغداد خصوصا، وبمسار خاص في كردستان العراق

اليوم، يعود موال توجيه الاتهامات إلى المتظاهرين. حيث يصف عامر الخزاعي، القيادي بحزب الدعوة الإسلامي، مقتحمي مكتب حزب الدعوة الحاكم، بالبصرة، بانهم «مجرمون، آثمون، داعشيون، بعثيون… ويجب ان يعاقبوا». الحقيقة هي ان المحتجين هم من اهل البصرة الذين صبروا على الضيم والاهانة، طويلا، وربما اطول مما يجب، أملا بالاصلاح. فجاء احتلالهم للمكتب، تعبيرا عن نفاد الصبر على رمز للفساد، وتعبيرا عن تقززهم من أحزاب خسرت فرصتها التاريخية في تمثيل الشعب. وهو فعل يتوجب على الحزب الحاكم، فيما لو توفرت النية الصادقة، فهم أسبابه وايجاد الحلول، وبالتالي محاسبة المسؤولين عن حدوثه بدلا من اطلاق النار وتوجيه الاتهامات، المهينة، الجاهزة.

الملاحظ في هذه التظاهرات انها انتفاضة عفوية في المحافظات المحسوبة شيعية، بمشاركة رئيسية من الطبقة المتوسطة من محامين وجامعيين بالاضافة إلى الخريجين العاطلين. مما أجبر عددا من المسؤولين على الوقوف بجانبهم. خصومها هي الأحزاب الشيعية الحاكمة، في بلد بلا سلطة مركزية تقريبا. وأغلب الأحداث تقع في مواقع الفساد والتعسف مثل الحدود مع الكويت وإيران في البصرة والموانئ ومطار النجف ومراكز الأحزاب. لا تبدو للانتفاضة قيادة او شعارات خارج المطالب الخدمية، اي انها انفجار غاضب، فيه تيارات مختلفة، قد تتبناه جهات وقد تحول مساره تلاعبات متناقضة. التحالف الحاكم يتفتت ليس فقط على المستوى الوطني وإنما داخل كل محافظة وداخل كل مؤسسة. وقد لا يستطيع النظام السيطرة إذا ما اختارت قوات الشرطة والجيش الوقوف بجانب اهلهم من المتظاهرين، حينئذ قد تلجأ الاحزاب إلى الاستعانة بميليشياتها المسلحة، وقد يضطر النظام إلى تنفيذ اصلاحات سريعة لاستيعاب الرموز المهنية المحترمة من قبل الطبقة المتوسطة الشيعية

عموما، نحن على مشارف مرحلة جديدة، غير واضحة المعالم الآن. إلا ان الواضح، تماما، هو الغضب العارم الذي يشعر به المتظاهرون، مؤكدا على ان تغليف الفساد الاداري والمالي والاخلاقي، بمحاربة الإرهاب، واستناد الفاسدين على عكاز المظلومية، شارف على استنفاد صلاحيته. ولن يكون مصير الحكام الحاليين، المستهينين بكرامة المواطنين، افضل من المستعمر البريطاني، متمثلا بالحاكم العسكري كوكس، في عشرينيات القرن الماضي، الذي وصف العراقيين بأن « تسعة أعشارهم من الإمعات»، فكانت ثورة العشرين التي علمته وامبراطوريته درسا لا ينسى.

٭ كاتبة من العراق

 

خطة «المتطرفين»!

هيفاء زنكنة

 

«نحن في خضم هياج عنيف، ونحن نشعر بالقلق… ان المتطرفين اتخذوا خطة من الصعب مقاومتها: وهي الاتحاد بين الشيعة والسنة، أي وحدة الإسلام، وهم يستغلون ذلك إلى أقصى الحدود… تقام احتفالات رمضان في مساجد الشيعة، احيانا، وفي مساجد السنة، أحيانا أخرى، ويحضرها اناس من الطائفتين معا… انها زاخرة بالقاء القصائد والخطب التي تمزج بين الدين والسياسة، وكلها تدور حول فكرة العداء للكفار».

ليس هذا واحدا من تغريدات الرئيس الامريكي دونالد ترامب التي يطلقها، بشكل يومي، بل ما كتبته مس بيل، مستشارة المندوب السامي البريطاني، بالعراق، في رسالة إلى أبيها، مؤرخة في الاول من حزيران 1920، اي قبل ثورة العشرين بشهر واحد، واصفة المتظاهرين بأنهم «متطرفون» وملخصة موقفا نراه اليوم، متبديا بصراحة غير معتادة، في السياسة الامريكية الخارجية، وهو التخوف من «وحدة الإسلام». واذا كانت «سياسة فرق تسد»، المتبدية بنشر الطائفية، قد فشل الاستعمار البريطاني في تجذيرها الا انها الاداة التي لجأ اليها المحتل الامريكي، بعد عام 2003، كهدف استراتيجي، للهيمنة على العراق

يرتبط شهر الصيف باذهان العراقيين بالثورات والانقلابات، وما يصاحبها من اختلاف المواقف تجاهها. فما يعتبره البعض ثورة، يراه آخرون انقلابا، والعكس بالعكس. الا ان ما يتفق عليه الجميع، تسمية ومضمونا، هو ثورة العشرين التي وقعت في 30 حزيران/يونيو 1920، المسماة الثورة العراقية الكبرى ضد الاحتلال الانكليزي. ولأن وضع العراق الحالي، سياسا واقتصاديا، يحمل الكثير من التشابه مع تلك الحقبة المهمة، من تاريخ العراقي المعاصر، فان استعادة بعض المعلومات التي ارتقى بها الزمن إلى مصاف الحقائق، قد تساعد على اضاءة جوانب، يبذل المستعمر الجديد، منذ غزو البلد واحتلاله في 2003، اقصى جهده، بميزانية ضخمة، وبمساعدة محلية، ابقاءها مظلمة لتخدير العقول، والقبول بكل ما يفرضه كواقع، يدعي أما ان من المستحيل تغييره او ان اهل البلد المحتل اضعف وأكثر انقساما من ان يتمكنوا من التغيير

كتابان بالغا الاهمية حول ثورة العشرين، يساعدان على فهم دور المستعمر في تهيئة الارضية للاحتلال الفكري، بالاضافة إلى العسكري والاستغلال الاقتصادي. الاول هو الجزء الخامس من «لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث»، لعالم الاجتماع العراقي الراحل علي الوردي، والذي يعتبر واحدا من اهم المراجع لفهم الشخصية والمجتمع العراقي، وقد خصص هذا الجزء لدراسة ثورة العشرين. الكتاب الثاني هو «ثورة 1920.. الجذور السياسية والفكرية والاجتماعية للحركة القومية العربية الاستقلالية في العراق» لاستاذ العلوم السياسية الراحل وميض نظمي. كلا الكتابين يستندان إلى مصادر مهمة توضح الاستراتيجية الاستعمارية البريطانية بأقلام وتصريحات واضعيها، من الساسة والمسؤولين العسكريين البريطانيين أنفسهم. وهي مسألة مهمة إذا ما اردنا فهم امتداد السياسة الاستعمارية، حاليا، سواء كان الاحتلال مباشرا او غير مباشر

ذكر علي الوردي مقولة مس بيل في سرده لتاريخ الثورة وسبره موقف المستعمر البريطاني من مشاركة العراقيين، الجماعية، بثورة العشرين، من النواب ووجهاء المجتمع ورجال الدين إلى رؤساء العشائر والمثقفين. كان تخوف مس بيل، حينئذ، من توحيد الصف العراقي، حقيقيا، خاصة وهي تعيش النمو العضوي المتسارع للثورة التي كانت الجماهير قاعدتها الاساسية. الجماهير التي «كانت في حالة هياج وتأثر»، نجحت في تحجيم دور المتعاونين مع المستعمر. كما حجمت دور مثقفين تماهوا مع المستعمر في وقوفهم ضد الاحتفالات الدينية المشتركة « لكنهم كانوا مضطرين إلى حضورها والى التبرع لها خوفا من غضب الجماهير» ولئلا يتهمهم الناس بانهم كفار او خونة. ويقتبس الوردي، للتوضيح، رسالة تلقتها المس بيل من « مثقف»، يخاطبها قائلا: «أنتم لا يمكن ان تتركوا الامور تجري على هذا المنوال الذي تجري عليه الآن…. اني ارغب كل الرغبة في تجنب ذلك من اجل مصلحتنا ومصلحتكم معا. اني انظر إلى الاجتماعات في المساجد بمقت شديد واعتبر بشكل خاص هذا المزج بين الدين والسياسة خطرا… ويمكن ان اقول استطرادا ان هذا الاتحاد المتباهى به بين الشيعة والسنة هو من ابغض الامور إلى نفسي.».. 

تأخذنا هذه الرسالة إلى أخرى مشابهة، تقريبا، من ناحية العلاقة بين المحتل والمثقف. حيث يتطوع المثقف، بدونية استخذائية، للتعامل مع المحتل وشكره على «تحريره». كما فعل عدد من المثقفين العراقيين، حين كتبوا يشكرون بوش وبليرعلى «مبادرتهما الشجاعة» لتحرير شعبهم

بالاضافة إلى سياسة التفرقة الطائفية التي استخدمها الانكليز، في العشرينيات واحتلال 2003، تكشف مذكرة المندوب السامي سير برسي كوكس، المعنونة «مستقبل ما بين النهرين»، المذكورة في كتاب د نظمي، ان القوى التي يستند اليها المستعمر لترسيخ هيمنته هي الطائفة اليهودية والوجهاء والاشراف العرب (لأنهم عنصر مفلس ومتأخر بعض الشيء) والملاكون الأغنياء وشيوخ العشائر. نفهم من ذلك ان جوهر السياسة هو الاعتماد على الاقليات الدينية، وهي ذات السياسة التي تبنتها ادارة الاحتلال الانكلو أمريكي لزرع الفتنة الدينية. والاهتمام بالوجهاء العرب، على الرغم من كونهم محتقرين من قبل الاداة الاستعمارية، بالاضافة إلى رؤساء العشائر. والى الانكليز يعود الفضل الاكبر في «انعاش وتعزيز النظام العشائري المزعزع» وتقوية «مركز الشيخ ونظامه العشائري» لجعل السلطة بيد شخص واحد وهذا الشخص هو الشيخ وتقوم الحكومة باختياره في كل حالة.

يعيش العراقيون، حاليا، نتائج السياسة الاستعمارية، طويلة المدى، التي نكبت بها منطقتنا كلها. فمن الطائفية إلى التمييز الديني والعرقي إلى استخدام الاقليات إلى ادعاء المساعدة الإنسانية. تم استخدامها، كلها، بأشكال ودرجات مختلفة، لمواجهة ثورة العشرين، في الماضي، كما اعيد تدويرها، بعد تحسينها لتلائم العصر، لمواجهة المقاومة ضد الاحتلال الانكلو أمريكي. الا ان العراقيين، على الرغم من عقود الحصار والحروب، وحملات التضليل الاعلامية، يقاومون سياسة الفتنة الاستعمارية ـ بأياد محلية، ليرتفع من ثورة العشرين صوت الشاعر حبيب العبيدي الموصلي مذكرا «قد سئمنا سياسة التفريق/ واهتدينا إلى سواء الطريق، يا عدوا لنا بثوب صديق، لست الا مزورا أجنبيا، فلماذا تكون فينا وصيا؟».

٭ كاتبة من العراق

ممارسة التعذيب

نجاح التحالف البريطاني العربي

هيفاء زنكنة

 

لم يكشف تقرير لجنة الاستخبارات والأمن في مجلس العموم البريطاني، الصادر في 28 حزيران/يونيو 2018، أسرارا خفية عن « تساهل» الحكومة البريطانية مع «برامج تعذيب وترحيل معتقلين» عقب هجمات 11 سبتمبر. فكل المعلومات التي وردت في التقرير، تقريبا، بصدد مساهمة جهاز الاستخبار البريطاني، في ترحيل معتقلين والاطلاع على تعذيبهم، كان معروفا. شهادات العديد من المعتقلين، وتقارير منظمات حقوقية دولية ومحلية، بالاضافة إلى ما كشفته لجان مستقلة، قدمت ذات المعلومات الواردة في التقرير الحالي. عن دور الاستخبارات البريطانية، يقول المواطن البريطاني، معظم بيغ، الذي كان محتجزا في سجن غونتنامو مدة 3 أعوام، وأطلق سراحه عام 2005، بدون توجيه تهمة اليه: «كان عملاء الاستخبارات البريطانية يشاهدونني بأعينهم، وأنا معصوب العينين، ومقيد اليدين، وكانت بندقية تصوب إلى رأسي، وأهدد بإرسالي إلى سوريا أو مصر إذا لم أتعاون… كان هناك صوت امرأة تصرخ في الغرفة المجاورة، أخبروني إنها زوجتي وهي تتعرض هناك للتعذيب. عملاء الاستخبارات البريطانية يعرفون كل شيء عن هذا». وقد دأب الوزراء البريطانيون، العدل والخارجية خاصة، على نفي أن يكون لجهاز الاستخبارات البريطانية الخارجية (أم آي فايف) أو الداخلية (أم آي سيكس) أي دور في أعمال التعذيب، أو أن تكون قد تواطأت بها من قريب أو بعيد.

« تدين الحكومة البريطانية التعذيب في كافة الظروف، وإنني أدعو الحكومات في كافة أنحاء العالم للقضاء على هذه الممارسات الشنيعة. نحن نواصل جهودنا الكبيرة لمكافحة التعذيب، بما في ذلك دعم المنظمات الأهلية للعمل بشكل مستقل على رصد وتفقّد الأوضاع في مراكز الاعتقال. وإنني أهيب بكافة الدول التي لم توقع أو تصادق أو تطبق اتفاقية مناهضة التعذيب والبروتوكول الخياري أن تفعل ذلك. فباتخاذ هذه الخطوة تكون الدول قد أعربت بوضوح عن التزامها بإنهاء التعذيب وتحقيق العدالة لضحايا التعذيب وعائلاتهم»، قال وزير شؤون حقوق الإنسان بوزارة الخارجية، لورد أحمد، في حزيران/يونيو 2017، قبل عام بالضبط من صدور التقرير الحالي، ليقدم لنا نموذجا، عن زيف ادعاءات الحكومات «الديمقراطية» في مجال الالتزام بتطبيق حقوق الانسان في سياستها الخارجية

يستحق التقرير المتابعة لعدة أسباب. أنه يؤكد، رسميا، دور الاستخبارات البريطانية بمد جهاز الاستخبارات الأمريكي، خاصة، بالمعلومات، والمساعدة بتنفيذ الاعتقالات، ونقل المعتقلين إلى بلدان اخرى يتم فيها تعذيب المعتقلين، بالنيابة، عن الاستخبارات الأمريكية، بالاضافة إلى كونها شريكا في التحقيق مع محتجزين في معتقل غوانتنامو. تم كل ذلك تحت مظلة «الحرب ضد الارهاب»، بشكل يتنافى، غالبا، مع القوانين المحلية والدولية. واذا كان التقرير قد فند مزاعم وكالات الاستخبارات البريطانية، بأن الحالات التي وردت تفاصيلها كانت مجرد «حوادث منفردة»، فأنه لم يحدد مسؤولية جهاز الاستخبارات بشكل يقتضي المحاسبة، مكتفيا بديباجة تنص على أنه «لا توجد أدلة على سوء معاملة وكالة الاستخبارات البريطانية للمعتقلين مباشرة». وهذا نص كلاسيكي باحتوائه على مفردات «مباشر» و«لا توجد أدلة»، ويعيد إلى الاذهان الخط الاحمر الذي توقف عنده « تقرير تشيلكوت» حول مسؤولية شن الحرب العدوانية على العراق. حيث تم توزيع المسؤولية على عدة جهات، بطريقة سياسية محنكة، جعلت كل المسؤولين، من رئيس الوزراء السابق توني بلير، إلى الوزراء، والقادة العسكريين، غير خاضعين للمحاسبة القانونية جراء انتهاك القانون الدولي

النقطة الثانية التي تستدعي الانتباه، عند قراءة تقرير كهذا، هو تواطؤ الحكومة البريطانية مع حكومات قمعية، معروفة بانتهاكاتها حقوق الانسان، خاصة في العالم العربي. حيث عقدت الحكومة البريطانية مذكرات تفاهم واتفاقيات مع حكومات عربية تمارس الارهاب ضد شعوبها بحجة «الحرب على الارهاب»، محولة بذلك الانظمة العربية القمعية إلى انظمة ديمقراطية. ولا يخفى تواطؤ الإعلام البريطاني الذي يعتبر نفسه مميزا بمراقبته للقمع، ويبقى كشف التفاصيل ورصد التقارير مقتصرا على صحافيين وشخصيات مستقلة مثل السفير السابق كريغ مري

يوضح الموقف البريطاني من انتهاكات حقوق الانسان، بالعراق، وكيفية التعامل معه، مثالا على ازدواجية المواقف وزيف ادانة الحكومة البريطانية انتهاكات حقوق الانسان. يذكر تقرير لمكتب الكومنولث والسياسة الخارجية، عن حقوق الانسان، بالعراق (تم تحديثه عام 2017 )، «ظلت حالة حقوق الإنسان في العراق مصدر قلق بالغ». يعزو التقرير سبب ذلك إلى جرائم منظمة داعش و«الانتهاكات التي ارتكبتها قوات الأمن الحكومية، بما في ذلك قوات الأمن العراقية، وقوات الأمن الكردية، وقوات الحشد الشعبي والميليشيات». قد يدور بخلد المتابع ان الحكومة البريطانية، مادامت تعترف بهذه الانتهاكات وتشعر بالقلق، ستحاول، ايجاد علاج سريع، لهذا الوضع المأساوي. الا ان ما تقوم به هو عكس ذلك تماما، ولا يقتصر الامر على العراق فقط

حيث زادت بريطانيا، في العامين الاخيرين، نسبة بيع الأسلحة والمعدات الدفاعية، من بينها ما يستخدم ضد المتظاهرين، إلى أنظمة قمعية، بالاضافة إلى ارسال المدربين والمستشارين واستقبال الساسة الفاسدين ذوي السجل الحافل بانتهاكات حقوق الانسان، ويعتبر العراق واحدا من هذه الدول. وفقاً لمعهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام، ارتفعت صادرات الأسلحة إلى العراق بنسبة 83 بالمئة، بين الفترتين 2006 ـ 2010 و 2011 ـ 2015. اعتبارا من عام 2015، صار العراق سادس أكبر مستورد للأسلحة الثقيلة في العالم. ويخبرنا تقرير منظمة العفو الدولية الصادر في العام الماضي «تحصل الميليشيات الشيعية المرتبطة بالحكومة العراقية على السلاح من 16 دولة على الأقل، بما في ذلك المملكة المتحدة»، اذ زودت بريطانيا العراق، في السنوات الأخيرة، بأسلحة قالت وزارة الدفاع البريطانية إنها موجهة لقوات البيشمركة الكردية، بالإضافة إلى الحكومة العراقية، بدون « ضمانات موثوقة بانها لن ينتهي بها الأمر في أيدي الميليشيات المدعومة من الحكومة العراقية والتي لها سجل مشين في مجال انتهاكات حقوق الإنسان».

يتبين لنا عند مراجعة سجل ويوميات السياسة الخارجية البريطانية انها لم تتغير كثيرا في جوهرها الامبريالي. الاولوية، لا تزال كما كانت. الربح المادي، مهما كان مصدره وما يسببه، هو الاول، بغطاء دعائي، محبوك بخبرة مئات السنين، عن احترام القوانين الدولية، والقيم الاخلاقية. أنها سياسة التهديم والتفرقة صباحا ومد يد الاحسان والمصالحة مساء. وتبقى مسؤولية تغيير هذه المعادلة، بالدرجة الاولى، على الشعوب المستغلة داخليا من قبل حكامها وخارجيا من قبل الاستعمار، على اختلاف أسمائه. ولابد لكل جيل ان يكتشف رسالته وسط الظلام فأما ان يحققها وأما ان يخونها، كما يذكرنا فرانز فانون.

٭ كاتبة من العراق

 

)غوانتنامو)… ويسألون لماذا يكرهوننا؟

هيفاء زنكنة

 

إذا كان العالم مشغولا، هذه الايام بمطالبة إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، باطلاق سراح أطفال المهاجرين، ومعاملتهم بإنسانية، فان هناك حملة مطالبة أخرى، موجهة إلى ذات الادارة، وان لم تكن هي المسؤولة عنها. ففي هذا الشهر من عام 2002، تم افتتاح معتقل غوانتنامو. ولايزال بعد مرور 16 عاما وخمسة أشهر «رمزا للظلم وسوء المعاملة وتجاهل سيادة القانون»، حسب « اتحاد الحريات المدنية الأمريكي». وتعتبر الاوساط الحقوقية هذا المعتقل بداية انحراف مريع في سير العدالة والقانون، في أغلب بلدان العالم، كما على مستوى الشرعية الدولية. لذلك يرون التعامل معه رمزا، أيضا، لاسترجاع المسيرة الحضارية.

يطالب الاتحاد، ومعه العديد من المنظمات الحقوقية الدولية، باغلاق المعتقل الذي افتتح بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر/ ايلول. كان هدف اقامة المعتقل، في جزيرة غوانتنامو خارج الأراضي الأمريكية، أن يكون «خارج القانون»، بمعنى، احتجاز المشتبهين بالإرهاب، الذين تم بيع معظمهم إلى وكالة المخابرات المركزية، من قبل ميليشيات افغانية، مقابل «جوائز مالية»، ونقلهم للتحقيق، اولا، إلى سجون سرية تابعة للوكالة، في العديد من البلدان، من بينها تايلاند وأفغانستان وبولندا والمغرب، دون وجود ما يثبت مشاركتهم بعمليات إرهابية، واستجوابهم، واخضاعهم للتعذيب والمعاملة الوحشية، وابقاؤهم محتجزين بلا تحديد

منذ افتتاح المعتقل في عام 2002، أحتجز فيه 800 رجل وصبي، كلهم بلا استثناء من المسلمين، دون تهمة أو محاكمة، حيث قضى العديد منهم ما يقارب العشر سنوات في أقفاص وزنزانات، وتعرضوا، جميعا، للتعذيب الوحشي المهين، من بينه الاغتصاب، والايهام بالغرق الذي تبنته الادارة الأمريكية برئاسة جورج بوش، كأسلوب مقبول للتحقيق، في تحدٍ للقوانين والمعاهدات الدولية التي تنظم معاملة السجناء

وعلى الرغم من أن المحكمة العليا منحت المعتقلين حق السجناء، بمقتضى الدستور في حزيران/يونيو 2008، إلا أن هذه الحقوق تم إلغاؤها بقرارات من محكمة الاستئناف في الفترة بين عامي 2009 و 2011، مما جعل عملية الاحضار امام المحكمة بلا معنى، بل وزادت من معاناتهم، فالرحلة من وإلى قاعة المحكمة صعبة للغاية، ولا يستطيع الكثيرون الجلوس، لفترات طويلة، بسبب أشكال التعذيب الجنسي الحادة التي تعرضوا لها، حسب تقارير الاتحاد. فحين سمح باجراء عملية جراحية في المستقيم عام 2016 للمعتقل مصطفى الهوساوي، تبين أنه بسبب تعرضه للاغتصاب بشدة بعد اعتقاله في باكستان عام 2003، «كان عليه، عندما يكون لديه حركة أمعاء، للتغوط، أن يعيد إدخال أجزاء من المستقيم عبر فتحة الشرج مرة أخرى إلى تجويفه مما يسبب له نزيفا، وآلاما مبرحًة».

واذا كان تقرير اللجنة الخاصة بمجلس الشيوخ الأمريكي قد وثق بعض أساليب التعذيب التي تعرض لها المعتقلون، فانه لم يذكر التفاصيل كلها، كما تدل شهادة المعتقل الباكستاني ماجد خان التي جمعها محاموه، بعد ان وقع، بعد تعذيبه، على اعتراف بارتكابه خمس تهم، واستعداده للتعاون مع وكالة الاستخبارات. يقول خان ان الوكالة استخدمت أساليب من الاعتداءات الجنسية وأشكال تعذيب اخرى، حيث ابقى المحققون خان معلقا من يديه، عاريا ومغمورا في أحواض من الماء المثلج. «اعتُدي عليه جنسيا وهو معلق عارياً من السقف. هدد المحققون بضرب رأسه وهددوا بالاعتداء على أخته الصغيرة. عاش ماجد في ظلام دامس طوال معظم عام 2003، وفي الحبس الانفرادي من 2004 إلى 2006».

أما المعتقل الموريتاني محمد ولد صلاحي فقد تمكن من تدوين ما مر به، ونشره في كتاب «يوميات غوانتنامو»، موثقا بذلك عشر سنوات من احد أوجه «الحرب الأمريكية على الإرهاب». من بين ما تعرض له الحرمان المستمر من النوم، ومنعه من الصلاة، والانتهاكات الجنسية، والاغتصاب لتلقينه درسا في «الجنس الأمريكي». 

واحتجز الصحافي سامي الحاج مدة ستة اعوام ونصف، بالمعتقل، تعرض خلالها لأساليب مختلفة من العذاب «ضرب، أمور جنسية، إهانة ديننا، الحرمان من النوم… من كان يرفض تناول الطعام أو كان يرفض الإجابة على سؤال ما أثناء الاستجواب كان يعاقب. أحيانا يضعون المعتقلين في الماء، حتى يظنوا بأنهم سيموتون… أحيانا مع كلاب… أو مع مخدرات. بعض المعتقلين تم حقنهم بحقن تحرمهم من النوم وتجعلهم يهلوسون». وتزداد المعاملة قسوة إذا ما اضرب المعتقل عن الطعام. حيث يجبر، حينئذ، على التغذية القسرية عن طريق الشرج «لابقاء المعتقل على قيد الحياة»! 

اليوم، لا يزال في معتقل غوانتنامو الذي افتتحه وبارك اساليب التعذيب فيه، الرئيس الأسبق بوش عام 2002، 41 محتجزا، ورثهم الرئيس ترامب من سلفه الرئيس اوباما الذي كان واحدا من وعوده الانتخابية اغلاق المعتقل، الا انه لم ينفذ وعده. أطلق ترامب سراح معتقل واحد وهناك تسعة، صدر قرار الافراج عنهم، منذ سنوات، الا انه لم ينفذ حتى الآن. أما البقية، فانهم مصنفون كـ»سجناء إلى الابد». وهو تصنيف جديد خارج طريقة التعامل القانوني « لحرمان فرد من حريته: إما كمشتبه به جنائي، ليتم محاكمته في محكمة فدرالية ؛ أو أسير حرب، محتجز حتى نهاية الأعمال العدائية»، حسب اتحاد الحريات. ولايمكن اطلاق سراحهم الا حسب مزاج الرئيس، أو تغيير قانوني من قبل الكونغرس الأمريكي، أو قرار قضائي تاريخي. ولا يبدو ان أيا من هذه الاحتمالات متوقع تحت ادارة ترامب في الوقت الحاضر.

تركز الحملة الحالية على مطالبة ترامب على توجيه الاتهام أو إطلاق سراح أولئك الذين ما زالوا محتجزين، ومن ثم اغلاق المعتقل. اذ ان «كل يوم يظل غوانتنامو فيه مفتوحًا، هو علامة سوداء ضد فكرة أمريكا عن نفسها كدولة تقوم على سيادة القانون»، وان استمرار الحكومة الأمريكية في إدامة أسطورة «حرب بلا نهاية»، كمبرر مفترض لاحتجاز السجناء إلى أجل غير مسمى، من دون تهمة أو محاكمة « سياسة لا مبرر لها خاصة بعد ان اثبتت فشلها الكارثي على عدة جبهات». ويكفي ان ننظر إلى ما حدث في أبو غريب، وفي معتقلات التعذيب بالنيابة، المنتشرة كالبثور في الدول التابعة لسياسة الحرب الأمريكية على الإرهاب، حتى ندرك حجم العواقب على العالم وعلى أمريكا نفسها، جراء سياستها الخارجية، المتمثلة، بين أمثلة أخرى، بغوانتنامو وبدلات معتقليه البرتقالية.

٭ كاتبة من العراق

 

 

عاش/ يسقط الحزب الشيوعي العراقي

هيفاء زنكنة

 

في عالم الإنتاج اليومي للأخبار وحملات تسويقها إلى الجمهور، لم يعد كون الانتخابات مزورة، مهما، رغم اعتراف الجميع بذلك. كما لم تعد محاولات مسح آثار التزوير عن طريق حرق مركز وأجهزة الاقتراع، أمرا مهما. ما بات مهما هو: ترسيخ تحالفات ما بعد الانتخابات لتكون طبق الأصل لما كانت. المهم، أيضا، التغطية الإعلامية بأن هناك عملية ديمقراطية تدعى الانتخابات، صرفت عليها ملايين ( أو بالأحرى مليارات) الدولارات، لتتباهى بها الدول التي احتلت البلد بحجة حماية أمنها. ولاتزال: أمريكا بمعسكراتها و« مستشاريها» تحمي أمنها في العراق. إيران بميليشياتها المتغلغلة في شرايين الحكومة وساستها، تحمي أمنها في العراق. تركيا، تقضم كل ما تستطيع قضمه، من أراضي العراق، بحجة حماية أمنها. هل من آخرين؟ القائمة تطول، وحجة «الحرب على الإرهاب» توفر ذريعة جاهزة لمن يريد

وإذا كان الشعب العراقي هو الخاسر الأول في ملهاة، استنزفت أموالا، كان بالإمكان صرفها لتوفير بعض الخدمات الأساسية للمسحوقين من أبناء الشعب، فإن الخاسر الثاني، حسب ردود الأفعال الإعلامية والرسائل المتبادلة على مواقع التواصل الاجتماعي، ليس الأحزاب التي تدعي تمثيل «السنة»، مثلا، وهي المتنافسة الرئيسية، بل الحزب الشيوعي كخاسر أكبر، وهنا المفارقة. وتزداد المفارقة حدة حين ندرك بأنه حزب موجود ضمن القائمة الفائزة بالانتخابات. فما معنى الخسارة هنا؟ 

معظم التعليقات الموجودة على عديد المواقع، مشحونة بمشاعر، متناقضة، تجمع بين الألم وخيبة الأمل والغضب والتبرير وبعض التشفي. ربما لأنها مكتوبة أما من قبل أصدقاء قدامى للحزب أو أعضاء سابقين أو حاليين، يجدون أنفسهم في حيرة من موقفه الأخير. تعكس التعليقات مواقف ونقاشات، معظمها جاد، لم يحدث وشهدها الحزب، سابقا، بهذا الشكل العلني. فأعضاء الحزب الشيوعي لايختلفون عن غيرهم من أعضاء الأحزاب العراقية الأخرى في تفضيلهم السكوت على الأخطاء والعثرات، حتى بعد مرور عشرات السنين على تركهم الحزب، نتيجة الاختلاف، وذلك لئلا يتهمون بعدم الولاء أو قلة الوفاء أو الخيانة، أو بذريعة «إنه ليس الوقت الملائم». ولنا في حزب البعث، مثال آخر

تسترجع التعليقات عن الحزب الشيوعي الإخفاق السياسي المتكرر، لحزب ساهم، تاريخيا، في محاربة الاستعمار والاستغلال، ودفع ثمنا، غاليا، لتحرير العراق من قبضة الامبريالية العالمية، وبناء العراق الحديث، مشيرة إلى تسارع الانحدار في ظل الاحتلال الذي نحت له منظرو الحزب مصطلح « التغيير». على هذا الأساس، تم تبرير( ليست هناك إحصائية عن عدد الأعضاء الحاليين) أن يكون السكرتير العام للحزب عضوا في مجلس حكم الاحتلال، ضمن المحاصصة الطائفية لا السياسية، أي لكونه شيعيا وليس شيوعيا، ومن ثم مشاركة ممثل للحزب في حكومات الاحتلال المتعاقبة، بمنصب رمزي. وفي الوقت الذي كان بإمكان الحزب الاستفادة من اليأس الشعبي العام تجاه الأحزاب الدينية ـ الطائفية ـ الفاسدة، وجذب الجماهير إليه كحزب يمثل طموح الناس بـ «دولة مدنية عصرية»، وهو المطلب الذي رفعته» تنسيقية حراك الاحتجاج المدني»، كحراك احتجاجي سلمي في شباط/ فبراير 2011 إلا أن الحزب اختار مواصلة الحراك تحت مظلة « التيار الصدري» مراهنا، خلافا لموقف العديد من المساهمين بالتنسيقية، على شعبية التيار واتباع السياسة البراغماتية في إمكانية التغيير من الداخل

أدى الالتفاف حول الحركة الاحتجاجية، وتقديم الحزبيين أنفسهم كقوة تمثل المدنيين، قادرة على إحداث التغيير، عبر مقايضة التيار الصدري، الذي نزل أعضاؤه بدورهم إلى الساحة، لتفريغ الاحتجاجات من محتواها الحقيقي، إلى انسحاب أعضاء مؤسسين للتنسيقية، احتجاجا، والصعود الإعلامي لحزبيين، لا يتجاوز عددهم العشرات، يقدمون أنفسهم كناشطين مدنيين.

فجاءت خطوة التحالف مع « التيار الصدري»، لخوض الانتخابات، ضمن تحالف « سائرون»، متوقعة، إذ راهن الحزب على شعبوية قائده مقتدى الصدر، على الرغم من معرفة الجميع بتقلباته النفسية المرضية، وأنه بنوابه ووزرائه ومسؤوليه، جزءا لايتجزأ من الحكومة الطائفية الفاسدة، كخطوة تقربهم من مراكز السلطة، عبر مسايرة التيار. كانت الحجة المعلنة من خوضهم الانتخابات ضمن « سائرون» أنها ستجلب نوابا جددا، سيعملون على كسر قالب المحاصصة الطائفية، وتجفيف منابع الفساد. فجاء الفوز بالانتخابات وتحرك « سائرون»، كما كان متوقعا، نحو صيغة تحالفات ما قبل الانتخابات، بفسادها وميليشياتها ومسؤولي مجازرها، لتجعل طعم الفوز مرا، ومثيرا للأسى، من قبل من بنوا آمالا على تحالف الحزب، والتعليقات الساخرة والنكات الفجة من قبل معارضيه.

يلخص الشاعر حميد قاسم مشاعرالأسى على صفحته على الفيسبوك مخاطبا أحد منظري التحالف: « هذا ليس لوما… ما أريد قوله إن الأسباب كما تعلم تقود إلى النتائج وكل المعطيات تشير بواقعية، ساعة بساعة، إلى ما سيحدث، وقد حدث، لم نكن عباقرة أو متنبئين لكننا كنا في عمق الحدث غير بعيدين عن الأحداث القريبة وتقلباتها وعواصفها بعد 2003 على معرفة بطبيعة سلوك ونهج القوى السياسية على أرض الواقع… هذه القوى التي تغير مواقفها كما يغير المرء سراويله الداخلية… هذا ما حدث وَقادَ الجميع إلى هذه الفوضى المبكية المضحكة، التي شبهتها قبل أن تحدث بـ الخطيئة». 

إن النقاشات الجادة الدائرة على صفحات التواصل الاجتماعي مهمة وضرورية خاصة حين تتناول بالنقد البناء سيرورة ومسارات الأحزاب التقليدية المعروفة بنضالها في حقبة التحرر الوطني ولكن، في الوقت نفسه، هيكليتها وبيروقراطيتها وتبعيتها، أحيانا. أنه كسر لحواجز السكوت المبنية على التخويف والتهديد بعدم الوفاء والخيانة. فأصبحت الأحزاب تدار من قبل حلقة مغلقة، من أشخاص يغذون وجودهم بادعاءات تمثيلهم للجماهير، وتضخيم أرقام أعضائهم وأنصارهم وضحاياهم. فمن منا يعرف مثلا عدد أعضاء الحزب الشيوعي أو حزب البعث أو الدعوة اليوم؟ هل من إحصائيات عن عدد أعضاء أي حزب لندرك حجمه الحقيقي، ومدى تمثيله للجماهير، وبالتالي قدرته على إحداث التغيير، بعيدا عن الرطانة باستديوهات التلفزيون؟ وما هو الدور الذي تلعبه الأحزاب التقليدية في قتل المبادرات الجديدة التي تشعر بأنها تهدد وجودها المزمن؟ يقول حميد قاسم «أتمنى أن نمعن النظر جيدا في مأساتنا، أن لا نفرط جميعا بما حدث من تطور في وسائل الكفاح السلمي وأن نتعظ بما حدث ويحدث»، قد لايكون ما يتمناه جوابا على التساؤلات، بالتحديد، إلا انه خطوة جادة، نحو ذلك.

 

هل موقف الشباب العراقي من « إسرائيل ودي»؟

هيفاء زنكنة

 

يروج نظام الاحتلال الصهيوني، بالتعاون الخفي وشبه العلني، مع عدد من حكومات الاستبداد العربية، لفكرة « السلام»، الآن، بدون الفلسطينيين. ترجمة هذه الفكرة، عمليا، هي استمرارية سياسته لتفريغ فلسطين، المحتلة، من أهلها حصارا وتهجيرا وقتلا. وهي سياسة، أثبتت العقود، فشلها الذريع. وما حملة التصفية الإجرامية الأخيرة ضد متظاهري مسيرات العودة، المطالبين بواحد من أبسط حقوق الإنسان، ألا وهو حق العودة إلى ديارهم، وإلغاء الحدود المختلقة بين أبناء الشعب الواحد، غير إثبات آخر على فشلهم من جهة وعدالة المطلب المتجسد بدماء الشهداء وحملات التضامن العربية والدولية الشعبية من جهة أخرى.

في محاولة لفتح منفذ يمرون من خلاله إلى شباب البلدان العربية، لكسر حلقة التضامن الشعبي، خاصة مع تزايد الانضمام العربي إلى حملة مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها والمقاطعة الثقافية والأكاديمية ( أنظر: حملة استح لمقاطعة المنتجات الصهيونية في الأردن)، بادرت مؤسسات الأمن الصهيوني وأجهزته المختلفة، في السنوات الأخيرة، إلى استخدام صفحات التواصل الاجتماعي مثل «فيسبوك وتويتر» والمدونات، بالإضافة إلى أجهزة الإعلام، لخلق ثغرة يستميلون من خلالها الشباب بأساليب متنوعة تتماشى مع عمر الشباب المستهدف والبلد الذي ينتمون إليه

بالنسبة إلى الشباب العراقي، جرت محاولات عديدة، منذ الغزو الانجلو أمريكي للبلد عام 2003 ، لمخاطبتهم وخلق أوجه لـ «التبادل والحوار الثقافي والسياسي» معهم، من قبل الأجهزة الأمنية الإسرائيلية، خاصة وأن سياسة المحتل الانجلو- أمريكي ، كانت واضحة وصريحة. «إنسوا فلسطين» مقابل ترسيخ أبوة الكيان الاستيطاني. وهو ما كان متوقعا في ظل المحتل البريطاني، صاحب وعد بلفور، والأمريكي الراعي اليومي، بمليارات الدولارات، لوجود إسرائيل. وهو ما حدث، بشكل جزئي، رسميا، سواء كان السبب هو الانشغال بمقاومة المحتل، أو انتشار إرهاب المحتل والحكومة وميليشياتها، أو إرهاب منظمات بذرت ف أرض العراق بعد الاحتلال، أو سياسة تشويه صورة الفلسطيني باعتباره «صداميا إرهابيا»، أو شراء ساسة عراقيين عرضوا أنفسهم للبيع

شعبيا، اختلفت الصورة. ففلسطين ليست رمزا عربيا وإسلاميا فحسب بل «إن القضية الفلسطينية جزء من النضال الوطني والاجتماعي للشعوب المقهورة» كما يذكر الكاتب العراقي كاظم محمد تقي. ليس هناك اختلاف في التعامل مع القضية الفلسطينية ولكن هناك تعاطفا عاما في التعامل مع قضية اليهود العرب العراقيين الذين تم تهجيرهم إلى إسرائيل جراء مؤامرة صهيونية حققت ما أرادت من خلال ترحيلهم. وهي نقطة مفهومة، لم تعد بحاجة إلى التوضيح لدى شعوب العالم، للتمييز بين الدين كدين وتأسيس دولة احتلال عنصرية تتبنى الدين

يقول أحد المعلقين العراقيين على صفحة «فيسبوك» خلقتها وزارة الخارجية الإسرائيلية «نحن ليس بيننا وبين اليهود أي عداوة. نرحب بهم كما نرحب بالديانات الأخرى ولكن المشكله مع الكيان الصهيوني المتطرف». تستغل الأجهزة الأمنية الدعائية الصهيونية مشاعر العراقيين تجاه اليهود العرب العراقيين، لابتكار طرق وأساليب متجددة، بين الحين والآخر، للتمدد الدعائي في الوعي الشعبي العام. ففي العام الماضي، حسب صحيفة الشرق الاوسط، ظهرت صفحة عامة على «فيسبوك» باسم « العراق مع إسرائيل»، « لم يُعرف صاحبها الحقيقي. ونُشرت فيها بيانات ومنشورات لمتعاطفين مجهولين مع إسرائيل لم يظهروا وجوههم أو أسماءهم الصريحة بل مرة ( أبو زين) وأخرى المفوض (أبو ضرغام) ومنشور فيها بيان غريب ممن يقولون أو يقول إنه متعاطف مع إسرائيل ضد الإرهاب الفلسطيني!

في 22 مايو/ايار، العام الحالي، فتحت صفحة بعنوان «سفارة جمهورية العراق في إسرائيل» أو «السفارة العراقية الافتراضية في دولة إسرائيل» – استخدمه هنا كما هو بأخطائه الإملائية – بتوقيت يتوافق مع مرور شهرين على بدء مسيرات العودة، ومع ارتفاع حملات التضامن مع مقاومة الشعب الفلسطيني. طبلت الصحافة الإسرائيلية لهذه « المبادرة» ، وبدأت تعزف على أكذوبة « ما بين الشعبين من أواصر وعلاقات تاريخيه تعود إلى آلاف السنين»، لتوحي بأن علاقة الشعب العراقي، بكل أديانه، تاريخية ليس مع أبنائه من جميع الأديان بل مع النظام الصهيوني. خطاب هذه الصفحة وغيرها يمثل سياسة النظام في تقديم نفسه « ضحية» تدافع عن نفسها ضد الإرهاب الفلسطيني، مبررا جرائمه في الاحتلال والقتل والتطهير العرقي، أمام العالم كله، بأنه حق من حقوقه المشروعة بخطاب يجعل من الجلاد ضحية

لإضفاء صبغة أكاديمية على مشاريع الأجهزة الأمنية يمتد التضليل الإعلامي ليشمل الباحثين عن الصفحة. تقول باحثة تدعى رونين زيدل في مقال نشر لها منذ أيام «أقام متصفحو العراق مؤخرا صفحة على الفيسبوك بعنوان «سفارة العراق الافتراضية في إسرائيل». وهي أكذوبة مبتذلة لأن بيان الصفحة يقول « أنشأت وزارة الخارجية هذه الصفحة» لجذب الشباب العراقي « للتقارب و العمل بجد كبير لصنع التاريخ معا «. من بين الادعاءات الترويجية الأخرى للصفحة، حسب الباحثة» يظهر عدد متزايد من الشباب العراقيين اهتمامهم بإسرائيل وديمقراطيتها وثقافتها». وتقول وزارة خارجية الكيان الصهيوني «إن حوالي ثلث أتباع موقع الوزارة باللغة العربية (حوالي نصف مليون) وإن العراقيين، وموقفهم من إسرائيل إيجابي بشكل عام وودي».

بعض الأكاذيب المذكورة مثل انجذاب الشباب إلى « ديمقراطية إسرائيل وثقافتها» مهترئة لفرط تكرارها، كما أن ذكر عدد «اتباع الموقع»، لايستحق التوقف عنده، فآلة إنتاجه أساسها دعائي مفضوح يستهين بعقلية الناس. أما القول بأن موقف الشباب العراقي « من إسرائيل إيجابي بشكل عام وودي»، فإن قراءة التعليقات على الصفحة، ومحاولة فرز ما هو حقيقي وزائف، يدحض ذلك. نجد أثناء مراجعتها، أن هناك قلة من المعلقين كتبوا متمنين زيارة إسرائيل ولكن ليس إعجابا بـ «ديمقراطيتها وثقافتها» بل شماتة على فساد الحكومات المتعاقبة منذ الاحتلال. وهو أساس لمنطق يشي بالإحباط واليأس يماثل منطق الملتحقين بالمنظمات الإرهابية كبديل وحيد لتخليص العراق من نكبته. أما أغلبية المعلقين من الشباب، فإن قراءة تعليقاتهم توضح الصورة. يقول أحدهم « يبقون صهاينه أعداء وتبقى فلسطين البوصلة مهما حاولوا حرفها أما من يريدهم فليذهب لهم» ، ليضيف آخر: «انتوا اغتصبتوا أرضهم رجعوها لهم وهلا بيكم». بحسرة، يقول شاب: « لو كانت هناك سلطة قويه و تطبق القانون بحذافيره لما كان حالنا هكذا لكن مع الأسف …» ، ولأدراك زيف ادعاء مؤسسي الصفحة بأن موقف الشباب العراقي « من إسرائيل ودي»، يختار أحد الشباب توجيه الرسالة التالية « هذه إلى المتعاطفين مع الكيان الصهيوني. نص المادة (201) من قانون العقوبات العراقي المرقم (111) لسنة (1969) بموجب قانون التعديل الثالث المرقم (130) لسنة (1975). ( يعاقب بالإعدام كل من حبذ أو روج مبادئ صهيونية بما في ذلك الماسونية، أو انتسب إلى أي من مؤسساتها أو ساعدها ماديا أو أدبيا أو عمل بأي كيفية كانت لتحقيق أغراضها).

 

 

ما لم يحدث في العراق

هيفاء زنكنة

 

انها المحاكمة الأولى التي تتم في البلاد العربية في مسار تحقيق العدالة الانتقالية. تونس هو البلد السباق في هذا المجال، نادر الحدوث، بعد ان قامت «هيئة الحقيقة والكرامة» التي تأسست في حزيران/يونيو 2014، بالتحقيق في القضية واحالة الملف الى القضاء. الملف المعني واحد من 62 ألف و713 ملف مودع لدى الهيئة، تم تبنيها بعد اجراء 49 ألف و637 جلسة سرية مع ضحايا انتهاكات حقوق الانسان المرتكبة في الفترة بين تموز/ يوليو 1955 وكانون الأول/ ديسمبر 2013. وهي حقبة زمنية طويلة شملت حكومات مرحلة ما بعد التحرر الوطني، الذي يتزامن ويتشابه في الكثير من تفاصيله وانجازاته واخفاقاته وما أدى اليه من صعود أنظمة دكتاتورية، مع العديد من الدول العربية، من بينها مصر وسوريا والعراق والجزائر واليمن وليبيا والسودان وتونس نفسها. مما يجعل متابعة مسار تحقيق العدالة الانتقالية، بتونس، ضروريا للتعلم من النجاحات وتدارك الإخفاقات

«إنها لحظة تاريخية، تبدأ من خلالها تونس مرحلة جديدة في مكافحة الإفلات من العقاب»، وصف زيد رعد الحسين، المفوّض السامي للأمم المتحدة لحقوق الإنسان، اجراء المحاكمة الاولى. وهو حدث تاريخي يتجاوز حدود تونس ليصل بلدانا قلما تذوق مواطنوها معنى المواطنة، وتحقيق العدالة، وفق القوانين، بعيدا عن هيمنة الحكام القمعية، وسيطرة أجهزة الامن، المتمتعة بحصانة ممارسة القمع، بأشكاله، من الاعتقالات والتعذيب الى الاخفاء القسري والقتل. يتضمن ملف قضية كمال المطماطي، مساعد مهندس بفرع شركة الكهرباء والغاز في قابس، التي ينظر فيها القضاء التونسي، حاليا، كل هذه الانتهاكات مجتمعة. اذ تم القاء القبض عليه بتهمة النشاط النقابي والسياسي بحركة الاتجاه الاسلامي، عام 1991. تعرض للضرب منذ اللحظات الأولى لاعتقاله، وواصل رجال الامن ضربه في المركز حتى فارق الحياة. أوهموا الموقوفين معه بانه نقل الى وزارة الداخلية، بتونس، لاستكمال التحقيق معه، في حين انه كان جثة هامدة، وضعت في صندوق سيارة وتم تسليمها الى عنصرين أمنيين آخرين. تم طمس جثة كمال في اساس اسمنتي لقنطرة كانت قيد البناء في ذلك الوقت، طبقا لمعلومات من قيادات امنية. ولأن الجهات الأمنية أنكرت معرفتها بمصير كمال، واصلت والدته على مدى ثلاث سنوات، زيارة السجن بانتظام «أحمل القفّة (السلة) لابني، حريصة على أن يكون طبخ يديّ، هو طعامه. ثمّ اكتشفت الحقيقة! لم يكن يتناول شيئا من طعامي، لأنّه ببساطة، كان متوفّيا». اكتنف عمل الهيئة الكثير من الصعوبات كما صاحبتها منذ تأسيسها النقاشات والمناكفات السياسية والمجتمعية، الا انها حققت بعض النجاحات التي تستحق ان يحتذى بها. فقد تمكنت من كسر حاجز الصمت المحيط بانتهاكات وجرائم السلطة وأجهزتها الأمنية خلال عهدي الحبيب بورقيبة وبن علي. انتهاكات طالت أبناء الشعب على اختلاف انتماءاتهم العقائدية والسياسية. كما أوصلت اصوات الضحايا المهمشين الى الشعب التونسي، كله، والعالم أجمع، عبر جلسات الاستماع العلنية، المؤثرة بإنسانيتها، لتضع حدا لذريعة «لم اعلم». بات الكل يعلم. سمع وشاهد ورأى تفاصيل الاعتداءات، بضمنها الجنسية، على النساء والرجال. وقفت المرأة كضحية وشاهدة، باعتداد، رغم حزنها، لتساهم في ترسيخ نمط المقاومة في ظل الثورة: المطالبة بكشف الحقيقة وعدم السكوت على الظلم، ضد أيا كان. فربع القضايا الموثقة لدى الهيئة تقدمت بها نساء

في شهادتها، في سردها لتفاصيل، كتمتها لسنوات تمتد عقودا، تخلصت المرأة من محرمات الخوف والرهبة والخجل، ممن يجبرها على ان تكون بلا دور، وضعت اصبعها بعيون المعتدين لتقول بانها ليست المسؤولة عما أصابها، انها ليست المارقة، كما يحاولون ايهامها

هذا لم يحدث بالعراق. كانت هناك منذ التسعينيات، أي بداية الاعداد لغزو العراق، اوراقا ودراسات اكاديمية، لامست موضوع العدالة الانتقالية، فيما أطلق عليه اسم «عراق ما بعد صدام». ساهم في التقديم عراقيون، عاشوا في الغرب عقودا، وتعاون العديد منهم في مؤتمرات عقدتها ومولتها مؤسسات الإدارة الامريكية والبريطانية، تابعة لوزارتي الخارجية والدفاع، ومؤسسات «السلام» و»بناء الديمقراطية» المتفرعة عنها. بعد الغزو، تمت مكافأة المتعاونين بمناصب وزارية واستشارية وبرلمانية، تمكنوا خلالها من تأسيس «الهيئة الوطنية العليا للمساءلة والعدالة» التي انجبت «الهيئة الوطنية العليا لاجتثاث البعث» وفقا لقرار رقم واحد، الذي اصدره حاكم الاحتلال العسكري بول بريمر، بعنوان «تطهير المجتمع العراقي من حزب البعث». اذ «اعتمد المسؤولون الامريكيون، في العراق، سياسة طموحة وواسعة النطاق لاجتثاث البعث، دون فهم تفصيلي لحزب البعث او الجيش العراقي او المؤسسات العامة او الخدمة المدنية او الأوضاع الفعلية العراقية او لما يفضله العراقيون، ولم يستعرضوا على ما يبدو السياسات البديلة المتاحة امامهم»، حسب تقرير «إرث مر»، الصادر عن المركز الدولي للعدالة الانتقالية.

شرعن قرار بريمر والهيئات المنبثقة عنه، عمليات اغتيال واعتقال وفصل كل من انتسب أو يشك بانتسابه الى حزب البعث. هكذا تم تحويل مفهومي «العدالة الانتقالية» و»المصالحة الوطنية» ومسارهما الى عملية انتقام واسعة النطاق، لاتزال مستمرة، على الرغم من مرور 15 عاما، على تنصيب النظام الحالي. ان تحويل مفهوم العدالة الانتقالية الى «طريقة هزيلة ترمي الى احياء مؤسسات الدولة» حسب المركز الدولي للعدالة، سببه الرئيسي هو ان العراق لا يزال بلدا محتلا، وليس من مصلحة أية دولة احتلال، تقوية مجتمع الدولة المحتلة. اذ ان قوتها في ضعفه. كما انها والحكومات العراقية المتعاقبة، لم تتوقف، منذ عام 2003، عن ممارسة أبشع انتهاكات حقوق الانسان (أبو غريب وعشرات المعتقلات السرية مثالا) وجرائم الحرب ضد الشعب (تدمير الفلوجة واستخدام اليورانيوم المنضب مثالا)، مما يوجب اخضاعهما الى المساءلة وعدم الإفلات من العقاب. ان تطبيق مسار العدالة الانتقالية، كما في تونس، يتطلب استقلال العراق، واستقراره، واستلام السلطة من قبل عراقيين مؤمنين، فعلا، بتحقيق العدالة وليس الانتقام، وان تبنى العملية على مشاورة ومساهمة أبناء البلد، أنفسهم، في اتخاذ جميع الخطوات اللازمة لضمان حق الضحايا في معرفة الحقيقة، والعدالة، وجبر الضرر، وعدم التكرار، لضمان مصالحة ماضي العراق مع حاضره من أجل حماية مستقبله.

كاتبة من العراق

 

 

 

إلى الفائزين بالانتخابات‪: ماذا عن هولوكوست قصف الموصل؟

هيفاء زنكنة

 

لا يكاد يخلو يوم دون انتشال المزيد من الجثث من تحت الأنقاض، في المدينة القديمة، بالموصل، على الرغم من مرور عام، تقريبا، على اعلان حكومة حيدر العبادي الانتصار على منظمة الدولة الإسلامية (داعش). ومع انشغال المسؤولين والسياسيين بمماحكات تزييف الانتخابات، او عدم تزييفها، ظاهريا، والتنسيق فيما بينهم لإبقاء ذات الوجوه، بأقنعة مختلفة، في الحكم، عمليا، تم دفع الموصل، بعيدا، عن المسؤولية الحكومية والأخلاقية، ليعيش أهلها في ظلال موت من نوع مغاير، نتيجة الخراب والتلوث والاخطار الصحية، وحالة الإحباط، والوقوف على حافة الجنون يأسا

ليست هناك احصائيات دقيقة حول عدد الضحايا الذين لايزالون تحت الأنقاض. الا ان عمليات انتشال مئات الجثث من تحت الأنقاض في المدينة القديمة المستمرة، ورائحة تفسخ الموت القوية، تشير الى ان العملية أبعد ما تكون عن نهايتها. اذ ان وضع حد للمأساة ليس من أولويات الحكومة، وان كانت قد جعلت من إعادة اعمار الموصل شعارا للاستجداء في مؤتمر المانحين بالكويت

يقول متطوعون مدنيون أخذوا على عاتقهم مهمة انقاذ المدينة من الموت، انهم بحاجة ماسة الى المعدات التي تسهل عملية الانتشال وان حجم الكارثة أكبر بكثير من امكانياتهم المتواضعة، كما تبين اشرطة الفيديو المنتشرة على مواقع التواصل الاجتماعي، المؤكدة، في الوقت نفسه، ان عمليات الانتشال وان كانت ضرورية، كحل سريع إزاء تقاعس الحكومة عن القيام بواجبها، الا انها تتم بشكل لا يوثق، بشكل علمي صحيح، اعداد الضحايا وظروف قتلهم ناهيك عن هويتهم ودفنهم بشكل يليق بالكرامة الانسانية

عن عدد الضحايا، أخبر ضابط جهد الإنقاذ في غرب الموصل وكالة رويترز، في 12 أيار/ مايو، أن 763 جثة انتشلت خلال ثلاثة أيام فقط، وتحدث محافظ نينوى عن رفع 2838 جثة من تحت الأنقاض منذ تموز الماضي، تعود 600 منها إلى عناصر «داعش». وقاربت الأرقام في الأيام الأخيرة الخمسة آلاف، وقال الناطق باسم دائرة الدفاع المدني في الموصل (7 أيار/ مايو) ان «فرق الدفاع المدني في الموصل تمكنت من انتشال 22 جثة تعود لأطفال بأعمار متفاوتة». 

أدى انتشار أفلام عمليات انتشال، وتنامي التغطية الإعلامية الدولية، وازدياد نقمة الناس على بطء سيرورة العمل، الى مسارعة رئيس الوزراء، وهو الذي يعيش مرحلة المناورات للحفاظ على منصبه، بتشكيل لجنة « بأمره» تواصل عمليات الانتشال من تحت ركام المدينة. وهي خطوة كان من واجبه القيام بها فور اعلان الانتصار وليس بعد عام تقريبا

ان النقطة الاساسية التي ستحدد علاقة أهل الموصل وبقية المدن المنكوبة التي تعرضت لقصف طيران التحالف، بقيادة أمريكا، بأية حكومة مقبلة، هي الاعتراف بالمسؤولية عما جرى من خراب، وإصلاح الضرر، وعدم الاكتفاء برميها، كلية، على تنظيم « داعش». وكان واجب الحكومة العراقية ان تجد السبل الملائمة، مهما كانت صعوبة الامر، لحماية حياة المواطنين وتقليل فرص تعرضهم للخطر، لا المشاركة بقصفهم والطلب منهم عدم مغادرة المباني، كما فعل العبادي باعتباره قائدا للقوات المسلحة، فكانت النتيجة مجزرة دفن 300 شخص تحت ركام المباني، خلال يوم واحد، بذريعة وجود إرهابيين. وهي ذات الحجة التي استخدمتها قوات التحالف الأمريكي – البريطاني، في قصفها مدينة درسدن الألمانية، عام 1945، والحرب العالمية الثانية على وشك الانتهاء. سبب القصف الجوي خرابا هائلا وسقوط آلاف الضحايا، خلال ثلاثة أيام من رمي المدينة بثلاثة آلاف وتسعمائة طن من القنابل الحارقة، عالية التفجير، وتبين الوثائق التاريخية، باعتراف مسؤولين عسكريين ساهم بعضهم في تنفيذ العملية، بان الاهداف العسكرية الاستراتيجية، لم تبرر استخدام القوة المفرطة التي سببت تهديم المدينة وسقوط اعداد الضحايا، مما يجعلها جريمة حرب وليس تحريرا. مما دفع المؤرخين الى تسمية العملية» هولوكوست قصف درسدن». 

في الموصل، كرر التحالف الدولي، بقيادة أمريكا، ارتكاب الجريمة. ويوثق فريق موقع « ايروور»، البريطاني المختص، الحرب الجوية، بدقة، في العراق وسوريا، واصفا عدد ضحايا القصف الجوي الأمريكي، المدنيين، بالعراق « بأنه الأعلى منذ حرب فيتنام، ومع ذلك لا تبدي الحكومات الغربية والعراقية أي اهتمام بتوثيق اعداد الضحايا». استخدمت أمريكا لقصف الموصل، القاذفة الجوية بي 52، التي تعتبر رمز القوة العسكرية الامريكية، تستخدم فيما يعرف بـ «القصف البساطي»، وتم تحديثها لتُزود بالصواريخ والقنابل الموجهة بالليزر، وكان قصفها للموصل جزءا من تجربتها بعد التحديث. كما استخدمت طائرات أف 16 وأف-أي 18، وطائرات ريبر بدون طيار، بالإضافة الى مروحيات الأباتشي قاذفة القنابل. ليست هناك احصائيات عن كمية القنابل التي استخدمت وان ثبت استخدامها قنابل بوزن 500 رطل. واستخدامها كارثي في مدينة مكتظة كالموصل. الامر الذي دفع فريقا صحافيا هولنديا الى التقرير بان عدد الضحايا من المدنيين هو31 مرة أكثر من ارقام التحالف المعلنة. وإذا كان تنظيم داعش قد زرع الألغام، ولا يزال الكثير منها مدفونا تحت الركام، فان قوات التحالف رمت على المدينة» ذخائر أسقطت من الجو، قنابل تزن الواحدة 500 رطل، تخترق الأرض لمسافة 15 مترا أو أكثر»، حسب مدير برنامج الأمم المتحدة للإجراءات المتعلقة بالألغام، مؤكدا « أن مجرد إخراج واحدة منها يستغرق أياما وأحيانا أسابيع». 

سيكون لتبعية المسؤولين والساسة العراقيين قوات التحالف حربها المختلقة ضد « الإرهاب» و صمت « النخبة» العراقية عن جرائم متكررة في العديد من المدن العراقية، بذريعة محاربة الإرهاب، بدون تمحيص الأسباب واثارة التساؤلات، انعكاسات خطيرة، مستقبلا، حين يجر المجتمع أنفاسه، فيصبح قادرا على المطالبة بالحقيقة وتحقيق العدالة للضحايا واهاليهم. ولن يتم ذلك في أجواء التلفيق السياسي، وحملات التضليل، وانعدام التوثيق. وهو من اساسيات عمل الحكومة وواجبها، لو توفرت النية لتحقيق المصالحة ووضع حد لروح الانتقام. اذ من المضحك مطالبة التنظيمات الإرهابية، وهي « الإرهابية» بحكم توصيفها وممارستها، بحماية حياة المواطنين، بينما لا يطبق الامر، نفسه، على الحكومات والدول. وهذا هو بالضبط ما عجزت عن تحقيقه حكومات الاحتلال المتعاقبة.

٭ كاتبة من العراق

 

 

 

روايات الأيدز والطائفية من الصين إلى العراق

هيفاء زنكنة

 

الشيء الذي قادتني اليه الانتخابات العراقية ونتائجها هو الآتي: اثناء إطلاق تأسيس «بيت الرواية»، في مدينة الثقافة، بتونس، أخيرا، قدمت الكاتبة آمنة الرميلي ورقة عن كتابة الرواية اثناء الحروب والحروب الاهلية، وكيف أثرت، إيجابيا، وهنا المفارقة المؤلمة، على زيادة اصدارات وتحسن نوعية الرواية العربية، إلى مستوى جديد أهلها للترشح والفوز بجوائز عربية ودولية. قرأت، في ذات أسبوع إطلاق بيت الرواية، تقريرا عن ازدهار صناعة وتجارة التوابيت في كابول، عاصمة أفغانستان. وأفغانستان، كما هو معروف، البلد الذي نكبته حرب فرض الديمقراطية الأمريكية. سبب ازدهار صناعة التوابيت، في كابول، كما في البلاد العربية، العراق خاصة، هو ذاته الذي سبب ازدهار كتابة ونشر الرواية. انها الحرب. وإذا كان عدد الروايات المطبوعة بالعراق، منذ احتلاله عام 2003 وحتى اليوم، قد تضاعف عشر مرات، بالمقارنة مع ما كتب فيه منذ أوائل القرن العشرين، فان سبب الازدهار ليس راحة البال والرفاه والفرح بالحرية والديمقراطية وحقوق الانسان، بل للعيش مع المأساة، في كل لحظة، والحياة بظل الخوف والقلق والموت القريب إلى حد استنشاق رائحته كما يشم المرء رائحة جلده

بسبب الحرب، كما الرواية العراقية، تضاعف عدد صناع التوابيت بكابول، عشر مرات، خلال العقود الأربعة الأخيرة. الا انهم لا يشعرون بالسعادة لازدهار تجارتهم المربحة

صانع التوابيت في كابول، يعيش، هو الآخر، حياة بائسة. يعبر عنها بصناعة توابيت من نوع خاص. انها صناعة مفروضة عليه كالديمقراطية. فالمسلم لا يدفن، عادة بالتابوت بل يتم الاكتفاء بلف الميت بالكفن. الا ان حرب أفغانستان جلبت للناس، بشكل متزايد، التفجيرات والقصف والالغام، فلم يعد بالإمكان وضع الاشلاء الممزقة في كفن بل بات وضعها في تابوت خشبي ضروريا، لتجميعها، كمحاولة، دنيا، للمحافظة على كرامة الفقيد. انها محاولة اهل الفقيد للإحساس بأنهم يدفنون احباءهم بشكل عادي يليق بهم.

في رواية « حلم قرية دنغ «، تتبدى العلاقة بوضوح كبير بين الرواية وصناعة التوابيت. حيث يكرس الروائي الصيني يان لي آنك، صفحات وصفحات، من روايته للكتابة، بالتفصيل، عن تجارة التوابيت، في أزمنة انتشار الموت، ولكن لسبب آخر، غير الحرب. نشرت الرواية في الصين عام 2006. وترجمت ورشحت لجائزة أفضل رواية مترجمة عام 2012. كتب آنك الرواية بصوت طفل في الثانية عشرة من عمره، تم تسميمه، انتقاما من والده، تاجر الدم المتنفذ، بقرية دنغ الواقعة، بمقاطعة هينان. وهي تجارة انتشرت في الصين في 1991 ـ 1995، لتزويد شركات الادوية بالبلازما واجراء التجارب. تم ذلك بعلم الحكومة وتشجيع المسؤولين، حيث شنت حملة لاقناع الفلاحين والفقراء، المتخوفين من بيع دمائهم، بانها عملية غير ضارة، لأن ما سيستخلص هو البلازما، فقط، بينما تتم إعادة بقية مكونات الدم إليهم. أدت سرعة إقامة نقاط سحب الدم في القرى، للتسويق التجاري، وافتقار الشروط الصحية، حيث كانت الإبر وأكياس الدم وغيرها من المعدات الملامسة للدم يعاد تدويرها واستخدامها، إلى انتشار فيروس الأيدز. وتشير التقديرات إلى أنه بحلول عام 2003، أصيب أكثر من 1.2 مليون شخص بالإيدز في مقاطعة هينان وحدها

تكمن أهمية الرواية في اختيار آنك الكتابة عن أعراض المرض الجسدية المخيفة بالتفصيل بالإضافة إلى تأثيره على الحياة اليومية لأهل القرية، علاقاتهم فيما بينهم، محاولتهم العيش يوما بيوم، تفتت النسيج العائلي والاجتماعي، وطغيان حالة الرعب عند إصابة أحد الافراد بالفيروس وخشية بقية افراد العائلة من انتقال العدوى إليهم، وانحدار القيم الأخلاقية والتقليدية. اذ كيف يمكن محاسبة الشخص المارق إذا لم يتبق له من العمر غير أشهر او بضعة أيام؟ 

اللافت للنظر تفاقم الصراعات بين المصابين أنفسهم، حتى وهم يعيشون عزلة ايامهم الأخيرة، ومعرفتهم بحتمية وفاتهم. وتتصاعد المنافسة ويزداد الصراع، بين أهل القرية، كلهم، المصاب منهم وغير المصاب، حين تحاول الحكومة، دفن فضيحة المرض بتوزيع توابيت مجانية. وتوكيل تاجر الدم، الذي بنى ثروته وسلطته على نشر الموت، بإدارة شؤون التوزيع. سرعان ما يجد التاجر الفاسد طريقة للتحايل والبدء بمنع توزيع التوابيت على المستحقين وبيعها إلى قرى أخرى بأسعار أعلى. تقود الحاجة والفقر اهل القرية إلى إيجاد حل سريع لدفن موتاهم. فشرعوا بقطع الأشجار، شجرة بعد أخرى، مهما كان عمرها، لصناعة توابيتهم بأنفسهم، حتى باتت القرية، أرضا جرداء بعد ان كانت مشهورة بأشجارها النادرة وازهارها الربيعية الزاهية. توقف الأطفال عن الذهاب إلى المدرسة بعد ان نهب أثاث المدرسة كله. صار التنافس هو اللغة السائدة سواء كان على وظيفة حارس المدرسة الخربة، او القوميسار الحزبي للقرية، أو مسؤول توزيع التوابيت الحكومية. ولم تتدخل الحكومة لوضع حد للفساد او الصراع، وبقي الحل الوحيد بيد جد الطفل الراوي ووالد تاجر الدم. فاختار الجد، حامل التقاليد والموروث الثقافي الأخلاقي، قتل ابنه المتاجر الفاسد بيده، ليضع حدا لما بدا موتا بلا نهاية.

تستند رواية « حلم قرية دنغ» على احداث حقيقية وقعت في سنوات أطلق عليها اسم «صناعة البلازما». وتستدعي، في الكثير من تفاصيلها، احداثا مشابهة، نلاحظها في عراق ما بعد الغزو. اذ انتشرت صناعة التوابيت، كما في كابول، لتجميع أشلاء ضحايا التفجيرات والقصف وتقطيع الاوصال، وكما في قرية دنغ، ازدهرت صناعة التوابيت، لكثرة الموتى. ضحايا الفساد. فالفساد المستشري، بالعراق، لا يقل ضررا عن فايروس مرض نقص المناعة وهو يغزو المؤسسات ويلتهم الخدمات ويسبب الموت. ولا تقل الطائفية ضررا عن المرض الوبائي، في تجفيفها ينابيع الحياة، فقد اثبت مرور 15 عاما على الاحتلال والحكم الطائفي، سريان المرض في البنية الاجتماعية، وتفكيكه الاواصر العائلية، وقدرته على تفتيت الوطن. «لو إنك اصغيت لي منذ البداية، جثوت على ركبتيك من اهل القرية لما الحقته بهم من دمار، لما كنا نعيش هذه الكارثة الآن»، خاطب الجد ابنه تاجر الموت الفاسد المتعجرف، أملا في ان يجنب القرية ما هو أسوأ. الا ان الابن أدار ظهره لوالده، وقد بدت على وجهه علامات الاحتقار، متوعدا أهل القرية بأنه لا يحتاجهم اطلاقا، وانه سيجلب من سيعاونه من خارج القرية. يأخذنا، هذا الحوار، بين الابن الفاسد ووالده المتمسك بالقيم الأخلاقية، إلى تماثل آخر مع الوضع العراقي. حيث يحتقر الابن اهل قريته مستنجدا بالآخرين، ويتمسك الجد بموروثه وأهله، ليكون الحل قطيعة دموية بين الاثنين. وهو حل، نأمل، ان يتجاوزه أهل العراق، بإيجاد طرق بديلة، لا يبدو أحدها حكم «المنتصرين» بالانتخابات الحالية.

٭ كاتبة من العراق

 

مقاطعة الانتخابات العراقية أو تحمل الإثم المقبل

هيفاء زنكنة

يشير الوقوف عند بوابة الانتخابات العراقية، في 12 أيار/مايو المقبل، الى ان الدخول من خلالها سيبقي معظم ابناء الشعب، مهما حاولنا ضخ شحنة التفاؤل بالتغيير، في ذات الباحة الخربة التي يعيشون فيها الآن. الاسباب متعددة، من بينها: معظم المرشحين هم ذاتهم من النخبة الفاسدة التي غرزت اقدامها في الطائفية والعرقية والفساد منذ غزو البلد واحتلاله عام 2003. بعد مرور 15 عاما من صراعاتهم الدموية بين انفسهم وضد الآخرين من العراقيين مع محاباة المحتل الامريكي والايراني، بالامكان تلخيص « انجازاتهم» بانهم جعلوا من ارض العراق ساحة حرب بين امريكا وايران تسقيها دماء العراقيين. في ظلهم، لم يعد العراقي معروفا بعراقيته بل أصبحت هويته مسبوقة بصفات كان يشمئز منها في حياته السابقة. كان يعتقد انها صفات لا تليق به ولا يمكن استخدامها لأنها «عيب». صار العراقي المعتز بهويته الوطنية والدينية أما شيعيا أو سنيا. في ظلهم، نبع الارهاب. الناتج الطبيعي لمتلازمة الاحتلال والظلم. صارت المرأة الفخورة ببيتها وحديقتها الزاهية بالنخيل والورد الجوري، المرحبة دائما بالضيوف، وبتعليم ابنائها وتفوقهم، تحمل لقب «نازحة» تستجدي المساعدات «الانسانية». حولوا ملايين العراقيين الى نازحين يعيشون في العشوائيات والخيام. «يسكن في العشوائيات 3 ملايين و200 ألف شخص اي ما يمثل 10 بالمئة من سكان العراق»، قال وزير العمل والشؤون الاجتماعية، محمد شياع السوداني (23 نيسان 2018)، مبينا أن «هذه الأرقام مأخوذة عن احصائية دقيقة لاستراتيجية التخفيف من الفقر». يشير تقرير البنك الدولي للشهر الماضي الى «ارتفاع معدل الفقر بشكل حاد.. وتأثر النساء بشكل خاص نتيجة غياب الأمن الذي فرض عليهن قيودا في الحركة للوصل الى اماكن العمل والتعليم والصحة». حولوا العراق الغني بنفطه وثروته الزراعية وميزانيته البالغة 120 مليار دولار، سنويا، الى خرابة بينما يتم تهريب 800 مليون دولار، اسبوعيا، أما الى حساباتهم الخاصة في الخارج أو غسيل الاموال في المدن الاوروبية، عبر شراء العقارات، كما في لندن.

يتبين من رصد الحملات الانتخابية ان كل المرشحين، تقريبا، هم ذاتهم، ممن شاركوا في تحقيق «الانجازات» التي قادت الشعب ولا تزال الى الحضيض، وانهم، جميعا، بلا استثناء يتحدثون عن النزاهة والقضاء على الفساد. وان المرشحين «المستقلين»، على قلتهم، ينشطون ضمن قائمات انتخابية يترأسها فاسدون، لديهم خبرة 15 عاما، بالفساد السياسي والاداري. مما يجعل المستقل، رغم حسن الظن بنظافته، مجرد بيدق في لعبة، الفائز فيها معروف مسبقا. فلا عجب ان تتصاعد الدعوة الى مقاطعة الانتخابات، بدلا من المشاركة، كاسلوب افضل للتغيير، اذا ما كان التغيير هو ما يريده الشعب حقا.

واذا كانت هيئة علماء المسلمين ( 9 تشرين الثاني/نوفمبر)، هي التي دعت الى مقاطعة الانتخابات عام 2004، المتزامنة مع اقتحام قوات الغزو مدينة الفلوجة وتدميرها، اذ لا يمكن ان تقام انتخابات» على اشلاء القتلى ودماء الجرحى»، فان أصوات المقاطعة امتدت هذه المرة لتشمل شبابا ومنظمات مدنية متعددة، بالاضافة الى الشيخ جواد الخالصي، من المدرسة الخالصية، ببغداد، واحد مؤسسي المؤتمر التأسيسي الوطني الذي تم تشكيله اثر الاحتلال.

يرى الخالصي ان العملية السياسية التي شيدها الاحتلال « مشروع معلب قادم من الخارج»، وهي اساس البلاء الذي اصاب البلد من انقسام طائفي وعرقي، سماده الفساد. محذرا، في 16 نيسان/أبريل، من «الانشغال بالألاعيب السياسية التي تجري هذه الايام… وإنما الانشغال بإثبات استقلال البلد، وتحقيق الثوابت الكبرى وهي: الوحدة والهوية والاستقلال». داعيا الشعب العراقي (20 نيسان/أبريل)، لتخليص البلد من فتنة العملية السياسية التي رسمها الاحتلال، وان ما تحتاجه الأمة، في الحقيقة، اصبح ضحية مخططات الاحتلال والعملية السياسية والانتخابات الفاسدة. وذهب الخالصي، أبعد من ذلك، في 27 نيسان/ أبريل مؤكدا بأن «من يشارك في الانتخابات، ومن شارك، سابقاً، فإنه يتحمل الاثم الذي جرى على العراقيين طوال تلك الفترة، وسيتحمل اثم الفترة القادمة». وان «هناك هيئة تعمل بأمر الامريكان مشرفة على المشروع الانتخابي في العراق والأمر محسوم مسبقاً». يثير موقف الخالصي، وبقية المقاطعين، تساؤلا مهما حول كيفية تخليص الناس من المأساة الحالية، اذا لم تكن الانتخابات هي الطريقة الافضل؟ يقول الشاعر والمدون ابراهيم البهرزي ان «التغيير الوحيد الممكن هو باطلاق التصويت للافراد، حصرا، دون أحزاب وكتل، واعتبار العراق دائرة انتخابية واحدة، على أمل أن يجد بعض الأحرار في هذه البلاد فسحة لتقديم وجوه جديدة غير ملوثة».

ويجيب مكتب الخالصي، مبينا ان ازاحة السياسيين الحاليين «من خلال صناديق الاقتراع، خدعة لا دليل على صحتها اصلاً، والأولى ضمان لنا سلامة الانتخابات ومن ثم نناقش المشاركة فيها». التساؤل الآخر، على من يراهن دعاة المقاطعة؟ يقول الخالصي، في 24 نيسان/ أبريل: «أراهن، لحد هذه اللحظة، على بعض أبناء الشعب العراقي الذين لم يتغيروا، وأراهن على امكانية تغيير البقية نحو الاحسن، من خلال الثبات والاستمرار والحفاظ على هذه النخب الطيبة التي ما زالت تؤمن بالرسالة». وختم قائلاً: «الشيء الاهم ان هناك اناسا كانوا يقولون ان يوم 9 نيسان هو يوم تحرير للعراق، والجيش الامريكي جاء محرراً، أما الآن لا يجرؤون على القول به، علناً، بعد ان قالوه في الماضي، وهذه هي مكاسب سببها ان بعض العراقيين رفضوا الانجرار خلفها وكشفوها وفضحوها». واذا كان التعاون مع المحتل، بكل المقاييس، جريمة لا تغتفر، فأن المساهمة، بأي شكل من الاشكال، في تخريب البلد والمجتمع، لا تقل عنه اجراما. ويكفينا ان نعلم ان هناك ثلاثة ملايين طفل، انقطع عن التعليم، في جميع أنحاء العراق. وان بعضهم لم يجلس يوما في صف مدرسي، وان أكثر من ربع الأطفال يعيشون في فقر مدقع، خاصة في المناطق الجنوبية والريفية الأكثر تضرراً (حسب اليونيسيف 2018)، في بلد بالغ الثراء، لندرك حجم الخراب الذي الحقه ساسة الاحتلال والعملية السياسية بمستقبل العراق، وكيف ان انتخابهم مشاركة في الجريمة.

كاتبة من العراق

هيفاء زنكنة

 

 

شهر للتضامن مع العراق… لماذا؟

هيفاء زنكنة

 

هناك مبادرة غريبة بعض الشيء بالنسبة إلى عالمنا العربي، يتم الإعلان عنها، بالحاح، على صفحات التواصل الاجتماعي منذ أشهر. عنوان المبادرة « شهر التضامن مع العراق». سيتم إطلاق المبادرة مساء الخميس المقبل، في جامعة لندن. تستحق المبادرة الاهتمام لأنها تثير العديد من الأسئلة المرتبطة بماضي العراق، العقود الأخيرة منه، خاصة مرحلة التهيئة للغزو، وحاضره في سيرورة عملية الاحتلال السياسية وما تمخض عنها، ومستقبله في ظل مأسسة الطائفية، والفساد، والصراع الاثني، وانعكاساتها على بنية المجتمع المنهك جراء الحروب والاحتلال. فلماذا مبادرة شهر التضامن مع العراق، وكيف؟ 

تستهل الدعوة إلى إطلاق المبادرة تصريحا لدزمند توتو، كبير الأساقفة الجنوب افريقي، المعروف بنضاله ضد نظام الفصل العنصري، والذي وقف بقوة ضد الحرب على العراق، إلى حد رفضه حضور مؤتمر يشارك فيه رئيس الوزراء البريطاني توني بلير، واصفا إياه بأنه مجرم حرب. يقول توتو: «إن قرار الولايات المتحدة وبريطانيا، اللا أخلاقي، بغزو العراق عام 2003، استنادا إلى كذبة امتلاكه أسلحة للدمار الشامل هز العالم بأسره، وأحدث استقطابا لم يحدثه أي صراع آخر في التاريخ». تذكرنا الدعوة بأن قرار شن الحرب الانجلو ـ أمريكي لم يكن شعبيا، بل تظاهر الملايين في كل بلدان العالم عام 2003 معلنين رفضهم. حيث شهدت بريطانيا واحدة من أكبر المظاهرات بتاريخها ضد قرار رئيس الوزراء، حينئذ، في الوقوف بجانب قرار الإدارة الإمريكية برئاسة جورج بوش والمحافظين ـ الصهاينة الجدد

اليوم «بعد مرور 15 عاما على الغزو والاحتلال لاتزال آثار الحرب العدوانية بقيادة الولايات المتحدة على الشعب العراقي مستمرة، مسببة معاناة لا نهاية لها، بينما أصبحت حربا منسية في دائرة الدمار والعنف الذي ابتلت به بلدان المنطقة». وجوابا على لماذا شهر التضامن «ليبقى العراق في ذاكرتنا قضية في غاية الأهمية لملايين الضحايا الذين يستحقون العدالة، وضروري أيضا لاستعادة المبادئ الأساسية للسلام والاحترام المتبادل بين الأمم باعتبارها أساس القيم الإنسانية المشتركة لضمان مستقبل خال من كوارث الحرب. إنه للتذكير بجرائم الاحتلال في تهديم دولة وتفكيك مجتمع واستهداف ثقافة شعب، كي لا تتكرر الجريمة أبدا. « تؤكد الدعوة على أن الشهر ليس للتذكير بجريمة استهداف شعب ودولة فقط بل أيضا «للاحتفاء بتاريخ العراق، ومقاومة الشعب العراقي المتعددة المستويات، وطموح العراقيين في تحقيق السلام المبني على المساواة والعدالة». هذه هي أهداف إطلاق مبادرة «شهر التضامن مع العراق». وهي أهداف، أثبتت سنوات الاحتلال، مدى الحاجة إليها بعيدا عن المنفعة السياسية الآنية الظاهرة والمبطنة

ولدت فكرة « شهر التضامن» مع اقتراب ذكرى مرور 15 عاما على الغزو وأحساس عدد من الناشطين المناهضين للاحتلال، بأن العراق لا يعيش ذكرى حدث انتهى، بل إنه مستمر عبر ما أسس له من تخريب شامل يؤدي إلى أحداث يومية مأساوية، والأكثر من ذلك أن العراق، بات منسيا، عربيا ودوليا، حتى في ذكرى احتلاله. مثل مناسبة انطفأ وهجها، كادت جريمة « الصدمة والترويع» والشروع الممنهج بتدمير البلد وشعبه، أن تمر هذا العام، مثلا، كما السنوات السابقة، بصمت، باستثناء نشر بضع مقالات هنا وهناك، وإجراء مقابلات قليلة مع أصوات تبذل أقصى جهدها لإدانة ومراجعة جرائم، بقيت بلا محاسبة، لأن العالم، خلافا لما يشاع حول انشغاله بمآس أخرى، وحول جرائم تنظيم «الدولة الإسلامية»، لا يريد رؤية جرائمه في العراق، أو تذكرها، ناهيك عن الاعتراف بها. إذ ليس هناك في الإدارة الأمريكية أو الحكومة البريطانية ممن ساهم في تسويق الحرب، بحجة أسلحة الدمار الشامل، من لا يريد غسل يديه من جريمة، سببت قتل ما يزيد على المليون عراقي (هناك إحصائية جديدة تشير إلى 3 ملايين) وتشريد الملايين وبذر نبتة الإرهاب

الملاحظ، في الأعوام الأخيرة غياب أصوات ناشطين مخضرمين ضد الحصار والحرب من العراقيين وغير العراقيين، غيبها الموت أو الإرهاق أو خيبة الأمل أو إصابتهم بالطائفية. غابت، أيضا، أصوات مهللين للغزو باعتباره تحريرا، مصرحين بأنهم أصيبوا بخيبة أمل. لماذا؟ لأن من قاموا بتزكيتهم لم يثبتوا صلاحيتهم للوظيفة الموكلة إليهم، عبرالاحتلال، متعامين عن فشلهم الذريع في رؤية العراقيين كعراقيين وليس وفق التقسيم الطائفي ـ العرقي، مما ساهم في تهيئة الأرضية لتفتيت البلد.

في هذه الأجواء، ما الذي ستقدمه المبادرة التي ستقوم بإطلاقها مجموعة « تضامن المرأة العراقية» في لندن؟ تؤكد المجموعة، أولا، أنها جزء من المبادرة فقط، وكل ما تقوم به، حاليا، هو تنظيم إطلاقها، وأنها مبادرة بسيطة، ذخيرتها، استمرارية الموقف المناهض للحصار والحرب والاحتلال، وتمحيص نتائجها، داعية إلى تحقيق العدالة للشعب العراقي. وهو الموقف الذي وحد نشاطات منظمات التضامن مع الشعب العراقي، على مدى عقود. لذلك سيساهم في إطلاق المبادرة ممثلون عن «أوقفوا الحرب»، «عدالة للشعب العراقي»، «المحكمة الدولية»، «محكمة بروكسل» و«تضامن المرأة». سيلقي كلمة الافتتاح، دنيس هاليداي رئيس برنامج الأمم المتحدة الإنساني في العراق عام 1998. الذي استقال من منصبه: «استقالتي كانت ضرورية بسبب رفضي قبول أوامر مجلس الأمن التي فرضت عقوبات إبادة جماعية على الأبرياء في العراق. إن استمراري في منصبي كان يعني تواطؤي في هذه الكارثة الإنسانية. كيف يبرر هذا العقاب الجماعي الذي هو العقوبات التي فرضتها الأمم المتحدة؟ لا يوجد بند في ميثاق الأمم المتحدة أو القانون الدولي يشرعن النتائج القاتلة لعقوبات حصار الأمم المتحدة الذي استمر 12 سنة طويلة على شعب العراق».

ومثل كل النشاطات النابعة من صميم الشعوب، سيعتمد تطوير هذه المبادرة على مدى التزام الأفراد والتجمعات والمنظمات المستقلة، المدركة لطبيعة الظلم الذي سببته حكوماتها للشعب العراقي، بالعمل التضامني لتحقيق العدالة على قدم المساواة.

٭ كاتبة من العراق

 

 

 

شيزوفرينيا حكام العراق وسوريا حول «التدخل الخارجي»

هيفاء زنكنة

 

هناك شيء مضحك إلى حد البكاء في موقف النظام العراقي مما يجري بسوريا، من قصف وقتل للشعب وتدمير للبلد. موقفه من حزب البعث السوري، وأنشوطة التواجد الإيراني ـ الروسي من جهة والأمريكي ـ البريطاني ـ الفرنسي من جهة ثانية، فضلا عن الدول الفاعلة على الارض، من خلال ميليشيات وقوات قتالية و «جهادية» بأحجام تتناسب، طرديا، مع مدى الدعم العسكري و «الإنساني» الذي تتلقاه من عديد الدول، من بينها دول عربية «شقيقة»، تمتد من لبنان إلى السعودية ودول الخليج

تمتد تفاصيل مهزلة الموقف السياسي، المعبر عنه بتصريحات رئيس الوزراء حيدر العبادي ووزير الخارجية ابراهيم الجعفري إلى ما هو أعمق من التصريحات بصدد أحداث آنية. تبين التفاصيل موقف حزب الدعوة باعتباره ممثلا للطائفة الشيعية من جهة ومعاديا لحزب البعث الذي حكم العراق لعقود، وإستجارته بالقوى الخارجية لمساعدته على التخلص من النظام. وفر الاحتلال الأمريكي للعراق وقوانين الحاكم العسكري بول بريمر فرصة لا تعوض لحزب الدعوة، مع آخرين، للتخلص الجسدي من حزب البعث عن طريق التطبيق لقانون اجتثاث البعث، ولاتزال حملته في الاجتثاث مستمرة، حيث أصدر، أخيرا، قرارا بمصادرة املاك كل من يشك بانه كان بعثيا، وضمت القائمة اسماء شخصيات غادرتنا إلى العالم الآخر قبل وصول البعث إلى الحكم

استعادة هذه النقطة مهمة لفهم موقف حزب الدعوة الحاكم، بالعراق، متمثلا بتصريحات اثنين من قيادييه هما العبادي والجعفريّ، الداعم بقوة لنظام حزب البعث السوري سياسيا وعسكريا. لماذا؟ كيف يبرر حزب الدعوة موقفه من نظام البعث السوري وهو الذي لم يدخر سبيلا في الـتآمر، والتفجيرات، ومحاولات الاغتيال، والقتال في صفوف القوات الإيرانية ضد العراقية، للقضاء على حزب البعث العراقي؟ ترى، يتساءل السذج منا، هل هناك بعث أخضر وآخر أسود، للتمييز بين الموقفين، هل هي المهارة السياسية أم انه الولاء الطائفي المتجذر أبعد من الموقف السياسي؟

جوابا، يقول ابراهيم الجعفري في تصريح صحافي بعد اجتماع وزراء الخارجيَّة العرب في السعوديَّة «يجب أن نتكلـَّم بحجم شعبنا، فهذه ليست قضيَّة رئيس، أو وزير، أو رئيس وزراء، أو رئيس جمهوريّة، نحن نُدافِع عن الطفولة، والنساء، والشُيُوخ، والشباب». مما يجعلنا، ونحن نعيش ذكرى مرور 15 عاما على غزو واحتلال العراق، وصدور احصائيات جديدة تدل على سقوط 3 ملايين عراقي نتيجة الاحتلال والإرهاب الناتج عن الاحتلال، إلى التساؤل عن السبب الذي منعه عن الدفاع عن «الطفولة، والنساء، والشُيُوخ، والشباب» العراقيين، ضد غارات «الصدمة والترويع» الأمريكية، عام 2003، مادامت القضية ليست قضية رئيس؟ وتبلغ أقوال ابراهيم الجعفري، مرحلة تضع حدا لأي تساؤل منطقي، حين يقول محذرا أمريكا « هذا النوع من الأسلحة، وهذا النوع من السياسات الخرقاء لا يُمكِن منع تداعياتها، وتأثيرها». مُضيفا قبل ساعات من قصف سوريا «لا نسمح أن تتكرَّر هذه الحماقات». 

كيف؟ ما الذي سيقوم به النظام العراقي ليضع حدا لتكرار الحماقات الأمريكية، حسب الجعفري، على الرغم من تعاون حزب الدعوة مع أمريكا، سابقا، عبر سكوته على ضرب العراق بأسلحة سيبقى تأثيرها المميت، على مدى اجيال مقبلة، مثل اليورانيوم المنضب، أو حاليا عبر استمرارية وجود القواعد العسكرية والقصف الأمريكي تحت مسمى «التحالف الدولي»؟ وكيف ستكون العلاقة بين النظامين في ظل التحالفات، والنزاعات الدولية، والاقليمية والعربية، ومع ازدياد شيزوفرينيا الطائفية الدينية والعرقية والقبائلية، والاستعداد للتعاون مع الاجنبي على حساب القطيعة مع ابناء البلد الواحد، المصنفين بالإرهاب، فور اختلافهم مع اي نظام حاكم؟ 

في 5 كانون الاول/ ديسمبر 2017، قال العبادي، أن الحكومة تمتلك مشروعا كاملا لتأمين الحدود العراقية السورية، وأن القدرة العسكرية الكبيرة التي يمتلكها العراق، في الوقت الحالي، تنافس قدرات دول المنطقة. الا ان هذ التصريح يتناقض مع تواجد فصائل من ميليشيا الحشد الشعبي، التابعة لإيران، داخل سوريا لحماية النظام. ويتناقض مع صرف الحكومة العراقية رواتب المقاتلين البالغة ضعف رواتب مقاتلي الحشد داخل العراق.

ويتناقض مع استقبال الرئيس السوري بشار الأسد، مبعوث رئيس الوزراء مستشار الأمن الوطني العراقي، فالح الفياض، في 14 آذار/مارس 2018، واستلامه رسالة شفهية من حيدر العبادي، أكد فيها على «أهمية تعزيز التعاون والتنسيق بين البلدين الشقيقين في جميع المجالات ولا سيما في الجانبين السياسي والأمني». تدل هذه التصريحات المتناقضة مع الواقع، الذي تتحكم به إيران وأمريكا، كل حسب مصلحته، على ازدواجية المواقف ونجاح الساسة في تبني لغة موحدة، هدفها النهائي تضليل الشعوب أو الاستهانة بها. تضم هذه اللغة مفردات لها وهجها الشعبي، الذي يعود إلى مرحلة التحرر الوطني، مثل «السيادة» و«عدم التدخل الاجنبي». ومن يراجع خطب حيدر العبادي وابراهيم الجعفري سيجد صعوبة في العثور على خطبة بدون هذه المفردات التسويقية.

والحال مماثل لدى معظم ساسة الحكومات العربية، خاصة تلك التي توجد فيها قواعد عسكرية وقوات (عنوانها: مستشارون ومدربون) أمريكية وشركات أمنية خاصة. ومن اتيحت له فرصة الاستماع إلى كلمة مندوب سوريا الدائم لدى مجلس الأمن الدولي بشار الجعفري، يوم السبت الماضي، لأستوقفه تأكيده «أن بلاده لن تسمح لأي تدخل خارجي برسم مستقبل سوريا»، وهو ما يجب ان يكون بطبيعة الحال، لولا انه حاول بذلك، أما استغباء الناس أو تمرير تعريف جديد للتدخل الخارجي، يستثني فيه التواجد الإيراني ومقاتلي حزب الله والقواعد العسكرية الروسية، مما يعيد إلى الاذهان خطاب دونالد رامسفيلد، وزير الدفاع الأمريكي السابق، يدين فيه التدخل الاجنبي بالعراق متصرفا وكأن العراق ملكا للدولة الغازية أمريكا. هنا، في العراق وفلسطين، علينا التوقف لفهم معنى المساعدة الغربية «الإنسانية» بقيادة أمريكا مع أي شعب عربي، ولنراجع معا قوائم خسارتنا البشرية والمادية كلما أنجز «التدخل الخارجي» واحدا من مهامه «الإنسانية». نتيجة الجرد معروفة: نحن الذين ندفع تكلفة قتلنا.

٭ كاتبة من العراق

 

 

الانتاج الفكري العراقي وطائفية حزب البعث

هيفاء زنكنة

 

نعيش، حاليا، كعراقيين، مرحلة مظلمة، تختلط فيها الحقائق بالاكاذيب، وتجري فيها محاولات اعادة كتابة التاريخ، باستمرار، لاسباب متعددة، يلعب فيها تغير الاجندات السياسية وحاجة السياسيين إلى مأسسة وعي جماعي مستحدث، وهوية حسب الطلب، دورا كبيرا. يساهم في انجاح العملية، انحسار البحث الاكاديمي، العلمي الرصين، في اجواء خيبات الامل المتتالية، وحالة الاحباط العام، وانتشار الزيف الاعلامي، وعدم التدقيق في صحة ما ينشر على صفحات التواصل الاجتماعي.

تعزز هذه الاسباب، مجتمعة، تغيير السردية التاريخية، وفق الاهواء السياسية، وتصاعد العواطف، وشعبوية الشعارات، مما يشكل مواقف الناس من الاحداث التاريخية، القريبة والبعيدة. فتكون الحصيلة متطرفة في تصورالماضي والحكم عليه. فهو الفردوس المفقود بالنسبة إلى البعض وعذاب الجحيم بالنسبة إلى آخرين. وبينما تنشط شريحة من الناس بتنقية وتنظيف الماضي من مساوئه، متحسرة عليه، تماشيا مع مصلحتها، تقوم شريحة أخرى باختلاق الاكاذيب وتضخيم مساوئ الماضي عن ذات الفترة. مما يجعل صورة الماضي ملتبسة إلى حد كبير، في غياب النظرة الموضوعية ومصداقية المصدر ومراوغة الذاكرة. الأمر الذي يمنح عمليتي التدوين والتوثيق أهمية قصوى، إذا ما أراد الشعب المحافظة على تاريخه وفهم حاضره وبالتالي بناء مستقبله.

تزايدت الحاجة إلى التوثيق والتدوين كرد فعل على تصاعد فبركة الاكاذيب، في فترة التهيئة للغزو الاجنبي للعراق، التي انطلقت في تسعينيات القرن الماضي، ومع شروع المعارضة بحملاتها لتوفير الشرعية الاخلاقية للغزو والاحتلال، من خلال اختلاق المظالم، احيانا، وتضخيمها في احيان أخرى. هدفها الاساسي، الاستجارة بالاجنبي، للتخلص من نظام قدمته إلى العالم باعتباره نظاما يعتاش على التمييز الطائفي والعرقي، بل وذهب البعض ابعد من ذلك في التسويق الطائفي، خاصة، مدعين تجذر الطائفية لدى الشعب وان لا خلاص منها غير التحرير والديمقراطية. وهي اكذوبة تماثل اكذوبة أمتلاك العراق اسلحة الدمار الشامل وتهديده العالم خلال دقائق. الحقيقة هي ان النظام العراقي لم يكن طائفيا بل كان نظام حزب واحد بقائد واحد (باستثناء سنوات الجبهة الوطنية والقومية التقدمية) سلط قمعه السياسي، اعتقالا وتعذيبا، بـ«عدالة» منقطعة النظير، على كل من حاول مس نظام الحزب والقائد «الضرورة». الا انه، خلافا لحبكة المظلومية، لم يكن طائفيا كما بتنا نعرف الطائفية في «العراق الجديد». 

من الكتب الجديرة بالاطلاع، والصالحة لاثبات لا طائفية ولا عرقية العراق، فكريا ومجتمعيا، في عراق ما قبل الغزو، كتاب «النتاج الفكري العراقي لعام 1975»، من اعداد المكتبة الوطنية، واشراف وتقديم فؤاد يوسف قزانجي

تشير المقدمة إلى ان الانتاج الفكري لعام 1975، من خلال التجميع الببلوغرافي الدقيق، قد بلغ 1178 كتابا وهو «أقل من كتب عام 74 وذلك لأن عام 75 هو عام مجانية الكتب المدرسية وانشغال المطابع بطباعتها لكافة المراحل الدراسية». حيث طبعت دار الحرية الحكومية، لوحدها، مليون ونصف المليون نسخة من الكتب الثقافية والمدرسية. الملاحظ من الجرد السريع لقوائم الكتب المصنفة حسب الموضوع واللغة، انها كتب جادة، عموما، معنية بشتى صنوف المعرفة، احتل حقل العلوم الاجتماعية، مثلا، حيزا كبيرا، بلغ 457 عنوانا. وقد شهد عام 75، بسبب اعلان الجبهة بين حزب البعث والحزب الشيوعي والحزب الثوري الكردستاني، ازدهارا في طباعة كتب لمؤلفين من مختلف الانتماءات السياسية أو معنية بنتاجات شخصيات أو موضوعات عابرة للانتماء الحزبي الواحد. فمن بين كتب وزارة الاعلام البالغ عددها 93 : الشبيبي شاعرا لقصي سالم، وتاريخ الحركة الديمقراطية في العراق لعبد الغني الملاح، ومجموعة اعمال ومراجع الفارابي التي بلغت 13 كتابا، صدرت بمناسبة الاحتفال بذكراه في العراق والاتحاد السوفييتي. ومن بين الكتب العلمية والتطبيقية «القوى العاملة في القطاع الزراعي» لغانم حمدون. كما تم نشر 88 كتابا باللغة الكردية وستة بالتركمانية. وتفند المطبوعات الكثيرة في مجالي الدين تهمة الطائفية والتمييز الديني، من بين الكتب المنشورة لمؤلفين يستحقون التوقف عند موضوعاتهم واسمائهم: بحث موضوعي في الجبر والاختيار لمحمد كاظم مصطفوي، ونظرية البداء عند صدر الدين الشيرازي لعبد الزهرة البندر، ومسلم بن عقيل في الكوفة لكامل سلمان الجبوري، وبحوث حول علوم القرآن لمحمد السعدي النجفي، ومعجم رجال الحديث لابو القاسم الخوئي، الحياة بعد الموت لصلاح الدين عبد المجيد، عقد الفضولي في الفقه الإسلامي لعبد الهادي الحكيم، عرفانيات ميرزا غلام رضا، الإسلام سبيل السعادة لمحمد الخالصي، كتاب الطهارة لحسين الحسيني الشاهرودي، الاحكام الشرعية المطابقة لفتاوى فقيه الطائفة ومرجعها الاعلى لمحمد التقي الحسيني الجلالي، موجز احكام الحج لمحمد باقر الصدر والصلاة معراج المؤمن لعبد الرضا الشهرستاني. بالاضافة إلى كتب عن التصوف، والدين المسيحي من بينها: تاريخ دير مار متي للبطريرك اغناطيوس يعقوب الثالث

واذا كان النتاج الادبي هو احد المؤشرات على طبيعة المجتمع، فان فترة الانفتاح السياسي المؤقتة، في منتصف السبعينيات، بالاضافة إلى لا طائفية النظام، وفرت فسحة لنشر مطبوعات على غرار معالم جديدة في ادبنا المعاصر لفاضل ثامر. كنز الآخرة في مراثي العترة الطاهرة لفاطمة الوصيبعي. تحفة الباكين لمعصومة بنت الملا رضى، ابطال الشهادة على رمال كربلاء المقدسة لفاضل خضير الصفار، ايام صعبة ذكريات شيوعي من العراق لبهاء الدين نوري، تاريخ الجالية العراقية في المهجر لشمعون دابش، شذرات من مذكرات العلامة الفقيد الشيخ محمد رضا الشبيبي تقديم اسعد الشبيبي، ثورة النجف على الانكليز لحسن الاسدي، والاقلية اليهودية بالعراق خلدون ناجي معروف، بالاضافة إلى المطبوعات باللغة الكردية، واصدارات مركز الدراسات الفلسطينية

واذا كان هناك تنوع كبير وحرية في تصنيف الموضوعات، الا انها سرعان ما تنتفي عند تناول المطبوعات المصنفة تحت المطبوعات السياسية. حيث يقتصر الموجود على كتاب و3 كراسات تضم خطبا لاحمد حسن البكر (الرئيس) وكتابين وكراسين لصدام حسين (نائب الرئيس) وكتابين لميشيل عفلق، وثلاثة كتب للحزب الثوري الكردستاني، واربع مطبوعات للقيادة القومية والقطرية لحزب البعث

يعكس النتاج الفكري لعام 1975، طبيعة المجتمع العراقي بكل تنوعاته الدينية والمذهبية والعرقية وغناه الذي يبدو منسيا هذه الايام لفرط سموم التمييز والفساد المغروزة في عروقه، كما يبين القدرة والطاقة الخلاقة التي يتمتع بها، وامكانية استعادتها، فيما لو توفرت له، ولو فسحة صغيرة من الحرية السياسية والفكرية.

٭ كاتبة من العراق

 

فن العمالة أو عمالة الفن في العراق

 

هيفاء زنكنة

 

نشر موقع جمعية التشكيليين العراقيين، خبرا عن زيارة وفد من الجمعية لرئيس الجمهورية فؤاد معصوم، يوم 28 آذار / مارس. ضم الوفد نائب رئيس الجمعية حسن ابراهيم وأمين السر قاسم حمزة فرهود وسعد الربيعي و محمد شوقي

كان من الممكن ان يمر الخبر، كما غيره، دون ان يلاحظه أحد، لولا نشره على صفحات التواصل الاجتماعي، واثارته تعليقات تراوح ما بين الاتهام بالنفاق والعمالة للمحتل والانحطاط الفني. فما الذي فعله الوفد بالضبط ليثير هذه الضجة؟ يشير بيان الزيارة إلى ان أعضاء الوفد، استعرضوا، خلال اللقاء، مشاريع الجمعية والمشاكل والمعاناة التي تواجه الفنانين ومتطلبات تسهيل مشاركة الفنانين المغتربين في معارض الجمعية. فعبر رئيس الجمهورية « عن الاستعداد لدعم الفنانين… ومفاتحة الجهات الرسمية ذات الصلة». ثم قدم الوفد لوحة تشكيلية هدية له « تعبيراً عن تقدير الفنانين لمواقفه الداعمة للثقافة ومبدعيها». 

هناك، طبعا، هلامية سياسية تحيط بتصريح رئيس الجمهورية حول دعمه للفنانين كما تحيط برد الوفد المثير للاستغراب حول طبيعة ونوعية « مواقفه الداعمة للثقافة ومبدعيها»، وتخويل اعضاء الوفد، انفسهم، النطق باسم المثقفين

الا ان معظم التعليقات على الفيسبوك، لا تتطرق إلى مصداقية التصريحات أو جوفائيتها بل إلى سبب آخر، وهو التساؤل عن دافع توجه وفد يمثل الفنانين العراقيين لزيارة سياسي، هو وجه من الوجوه المعروفة بتعاونها التاريخي مع المحتل، وتقديم هدية له، بتوقيت يستحق الادانة لا التكريم، أي بمناسبة مرور 15 عاما على الاحتلال، والشعب يعيش ما سببه الاحتلال، من خراب عمراني وبشري، باعتراف شعوب دول الاحتلال نفسها ؟ لا يجد قارئ التهم المتبادلة، بين فنانين اعضاء بالجمعية، أجوبة مقنعة مما يقوده إلى تساؤلات اضافية، على غرار: لم التعليقات الجارحة، وشخصنة المواقف، وتوجيه الاتهامات المعاكسة بالداعشية، ودعم الإرهاب باسم المقاومة… هل هذه هي المرة الاولى التي يزور فيها الفنانون مسؤولين حكوميين، أو يساهمون بمعارض تقام في سفارات دول، لعبت دورا باحتلال العراق وتدميره؟ ماذا عن المعرض الذي إقامته السفارة البريطانية، ببغداد، يوم 4 ـ 3 ـ 2018 « لنخبة من التشكيليات العراقيات وبالتعاون مع جمعية التشكيليين العراقيين وقد حضر المعرض مجموعة من الشخصيات وفِي مقدمتهم السفير البريطاني في بغداد والسيد فلاح العاني مدير العلاقات الثقافية ـ في وزارة الثقافة، والسيد محمد التميمي مدير عام دائرة المنظمات غير الحكومية والفنان قاسم السبتي رئيس جمعية الفنانين التشكيليين العراقيين»؟ أليس هناك ما يثير المرارة في اقامة المعرض بمناسبة الاحتفال بيوم المرأة، وكأن المرأة العراقية تعيش الفردوس الارضي منذ « تحريرها» من قبل القوات البريطانية؟ 

ولكن، ما الذي يتوجب على الفنان، والمثقف عموما عمله، وهو يعيش تحت الاحتلال أو حكوماته بالنيابة؟ هل يبين رأيه صراحة فيعرض حياته وعائلته للخطر، أو يصمت، أو يماشي القوى الموجودة لحين انقضاء المحنة؟ هذه الاسئلة لا تقتصر على الفنان العراقي بل واجهها، عام 1940، جيل كامل من الفنانين والمثقفين الفرنسيين، الذين كانوا حتى ذلك الحين، يفتخرون بقيادة عاصمة العالم الثقافية، حين وجدوا انفسهم، بعد توقيع اتفاقية « سلام» مهينة، يعيشون تحت الاحتلال النازي وحكومة فرنسية متعاونة مع الاحتلال

كان الوضع معقدا. اختار الفنانون السورياليون مغادرة فرنسا هربا من التصفية الجسدية فاتهمهم المتعاونون مع الاحتلال بما هو أكثر من الجبن. اتهموهم بان فنونهم وكتاباتهم « المنحلة» مهدت الارضية لاحتلال فرنسا! كان هذا تبريرهم « الاخلاقي» لخيانة بلدهم أو التعاون، بدرجات مختلفة، مع المحتل، لتقويض الثقافة الفرنسية من الداخل، خاصة وان النازيين، كان يهدفون إلى محاربة الثقافة بنفس القوة المستخدمة لتحقيق الانتصار العسكري

يميز فريدريك سبوتس في كتابه « السلام المخجل: كيف نجح الفنانون والمثقفون الفرنسيون في البقاء تحت الاحتلال النازي»، بين العمالة السلبية والعمالة النشطة. فتحت « العمالة السلبية» يدرج سلسلة التنازلات التي يبديها «المجتمع الفني» للمحتل ووكلائه، المتراوحة بين الاستمرار في النشر، وأقامة المعارض، أو المشاركة في المسرحيات إلى القبول بالمنح والدعم المادي. أما « العمالة النشطة» فمعناها ان يتصرف المثقف كوكيل للدعاية الألمانية.

وحسب سبوتس « لم يكن هناك نقص في المتطوعين على جميع مستويات المجتمع الباريسي». من بينهم من كان يحلم بحل الماني للوضع السياسي المتدهور بفرنسا ما قبل الاحتلال. من بين أولئك الذين تم تعظيمهم في تلك الحقبة، كتابا وفنانين، قبلوا بشكل متكرر، دعوات كارل هاينز بريمر، نائب القنصل ومدير المعهد الالماني بباريس، إلى حفلات الاستقبال الفخمة في المعهد الألماني. وكان من أهم الأسماء النحات شارل ديسبياو، والشاعر والروائي أبيل بونار، وعازف البيانو ألفريد كورتوت، والكاهن جان مايول دي لوبيه

ان وضع الفنان والمثقف العراقي، على تعقيداته، ليس فريدا من نوعه، وان التاريخ، رغم التطورات العلمية المذهلة، وتغير هيكلة الجيوش وتحديث اساليب الحرب والهيمنة، لا يزال يكرر نفسه من ناحية تفاعلات السلوك الانساني. حيث تقودنا قراءة تفاصيل عن حياة الشعوب تحت الاحتلال إلى اكتشاف التماثلات إلى حد التطابق، احيانا. فموقف المثقف الفرنسي الحالم بالحل الالماني عبر الاحتلال مماثل لوهم مثقفين عراقيين بـ « التغيير» أو « التحرير « الامريكي.

واذا كان الكاهن الفرنسي لوبيه معروفا بتراتيله الدينية للغزاة وهم يؤدون التحية النازية « هايل هتلر»، فان أكبر وليمة حضرها قائد الاحتلال بول بريمر اقامها له رجل دين عراقي. وبينما كان دخان حرق المكتبات والمسارح والجامعات لايزال يغطي بغداد، وصدى قاذفات « الصدمة والترويع» يرعب الاطفال، وفي لحظة تماثل موسيقى الامبراطور نيرون وهو يراقب حرق روما 68 عاما قبل الميلاد، توجه اعضاء الفرقة السمفونية العراقية، منتصف كانون الأول/ديسمبر2003، إلى واشنطن، برعاية وزارة خارجية دولة الاحتلال، لاقامة حفل حضره وصفق له مجرم الحرب جورج بوش وزوجته، ووزير الخارجية كولن باول، وعددا آخر من المسؤولين الامريكيين، بحضور عضو مجلس الحكم عدنان الباججي، الذي يهوى الموسيقى الكلاسيكية ويعتبرها ضرورية لحياته، ولا يستطيع الاستغناء عنها، كما يذكر بمذكراته « في عين الاعصار». ما اود التأكيد عليه هنا، ان الامثلة المذكورة اعلاه، مثيرة للأسى، أكثر من غيرها، لأنها تمت بشكل تطوعي، ولم يخضع القائمون بها لأي ضغط كان، الا انها تبقى افعالا استثنائية، لا تشمل كل الفنانين أو المثقفين، فهناك من يخاطر بحياته لقول الحقيقة ومواصلة العمل بلا مساومة أو استخذاء، لأنه يؤمن بأنه يمتلك ثروة من الكلمات والالوان لا يستطيع الغزاة والطغاة، مهما حاولوا، الاستحواذ عليها.

٭ كاتبة من العراق

 

 

لماذا لا تصدر المرجعية الشيعية فتوى لتحريم الفساد؟

هيفاء زنكنة

 

شعار واحد يجمع كل المرشحين للانتخابات العراقية المقبلة، في 12 أيار/مايو، وهو « القضاء على الفساد». وهو شعار اكتشف المرشحون، من الساسة المخضرمين، صلاحيته وشعبويته، في هذه المرحلة، فتخلوا عن الشعار الأمريكي «القضاء على الإرهاب». أقول المخضرمين لأن معظم المرشحين هم ذاتهم المنخرطون بالعملية السياسية ـ الطائفية، الفاسدة حتى النخاع، التي أسسها المحتل. وكلنا يعلم كم هي صعبة عمليات زرع نخاع بديل. اما بقية المرشحين فهم ممن تم استنساخهم، بقدرة الفساد المالي، ومناورات التكتلات الحرباوية، لخداع الشعب باسم الشعب، وتقديمهم في واجهات الاحزاب كما البضائع المعروضة للبيع او الاستئجار. لهذه الاسباب، انطلقت اصوات داعية إلى مقاطعة الانتخابات لعل ابرزها هو الشيخ جواد الخالصي، من المدرسة الخالصية بالكاظمية، الذي وصف «من يذهب إلى الانتخابات يؤكد أنه أحمق وجاهل، ويخون البلد خيانةً عملية… الآن لم يعد هناك مجال إلا لخداع الحمقى». مبينا ان الحل الوحيد، حالياً، هو «فضح هذه الانتخابات، وعدم خروج الناس من منازلهم خلال الانتخابات».

وبما ان للمرجعية الشيعية متمثلة بالمرجع الأعظم علي السيستاني، دورها الاستفتائي وابداء الرأي البارز في كل جوانب الحياة اليومية، بالعراق، من حكم أكل الجبن المصنوع في استراليا إلى مراجعة كتاب حاكم الاحتلال السابق بول بريمر، فإن عدم صدور فتوى صريحة لادانة الساسة الفاسدين وحظر التعامل معهم او انتخابهم، يثير التساؤل، خاصة وان المرجعية ناطقة عبر مكتبها وممثليها في كربلاء. ومن يطلع على موقع السيد السيستاني او كتاب «النصوص الصادرة عن سماحة السيد السيستاني في المسألة العراقية» لوجد ان له رأيا في كل ما يجري. ومن المفهوم الا يتفق معه الجميع الا ان السيد أحمد القبانجي، وهو بحكم لقبه من سلالة آل البيت وقد تتلمذ في الحوزة الدينية ودرس الفقه والأصول بالنجف، بات صوتا لتساؤلات آخرين، حول كيفية انفاق المرجعية «الخمس» وحصولها عليه، مما يجعلها تتغاضى عن اتخاذ موقف حاسم يضع حدا للفساد، كما فعلت، مثلا، عند اصدار فتوى الجهاد الكفائي لمحاربة تنظيم «الدولة الاسلامية»، فسارع مئات الآلاف من الشباب، غير المدربين، إلى التطوع للقتال

تتردد هذه التساؤلات، الآن، عبر شبكات التواصل الاجتماعي، بعد ان كان من المستحيل مس المرجعية، لأنها وريثة الامام في عصر الغيبة وتتسم بقدسيته. الا ان وصول حال العراقيين، خاصة الفقراء والمهمشين، حتى في كربلاء والنجف، إلى حضيض الحياة، شجع على كسر حاجز الصمت حول استخلاص «الخمس» وأوجه صرفه، والاكثر اهمية من ذلك، عما اذا كان السكوت على الساسة الفاسدين سببه منحهم خمس ما ينهبونه من المال الحرام (نقدا وعقودا وسمسرة تصل الملايين) إلى المرجعية، بناء على الحكم الذي يتبعه ابناء الطائفة الامامية في ان «الخمس حق» و«لا يجوز التأخير في إخراج الخمس فإنه غصب حرام» حسب موقع السيد السيستاني

نقرأ في الموقع نفسه تحت (مستحقّ الخمس ): «يقسم الخمس نصفين نصف للإمام (عليه السلام) خاصة، ويسمّى (سهم الإمام) ونصف للأيتام الفقراء من الهاشميين والمساكين، وأبناء السبيل منهم ويسمّى (سهم السادة) ونعني بالهاشمي من ينتسب إلى هاشم جدّ النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) من جهة الأب، وينبغي تقديم الفاطميين على غيرهم. وردا على كيفية التحقق من انتساب الشخص إلى هاشم، يقول السيستاني في (مسألة 619 ): يثبت الانتساب إلى هاشم بالعلم، والاطمئنان الشخصي، وبالبينة العادلة، وباشتهار المدعي له بذلك في بلده الأصلي، أو ما بحكمه».

قد يوضح منح « سهم السادة» كثرة انتشار لقب «السيد» بعد الغزو وانفتاح المرجعية على لعب دور سياسي، حيث أصبح بالامكان نيل لقب «السيد» بحضور شاهدين، ليكون اللقب مفتاحا لنيل الدعم وتمشية الامور. مما يقود إلى اسهام المرجعية، اقتصاديا، في إدامة أجيال من شريحة «مختارة» تتمتع بتمييزها، عن بقية العراقيين، على أسس لا علاقة لها بالكفاءة أو حقوق المواطنة. يبين موقع آية الله السيستاني ان نصف الخمس، أي سهم الامام، يصرف على تأسيس مدارس دينية ومجمعات سكنية للطلاب، حيث أولت مرجعية السيستاني «جل اهتمامها بالحوزات العلمية والمدارس الدينية، لما تضطلع به من دور كبير ومسؤولية خطيرة في حفظ ونشر مفاهيم وقيم مدرسة آل بيت العصمة والطهارة (عليهم السلام)».

عدد من هذه المدارس والمجمعات موجود في النجف، الا ان المرجعية، كما يبدو «تنفق سنوياً على رواتب الحوزات العلمية مبالغ كثيرة في داخل ايران وخارجها. فيجري تأمين الرواتب الشهرية لأكثر من 300 حوزة علمية كبيرة وصغيرة في شتى أنحاء ايران، لاسيما في مدينة قم المقدسة التي يقطنها أكثر من 35000 طالب علوم دينية، ومشهد التي يسكنها أكثر من 10000 طالب واصفهان التي تضم أكثر من 4000 طالب بالاضافة إلى سائر الحوزات العلمية والمدارس والمراكز الدينية المنتشرة في شتى مناطق ايران». كما انشأت المرجعية مستشفى للعيون ومركزا للمعوقين، ليس بالعراق، بل في ايران. واضح هنا أن صراعات المرجعيات العراقية والايرانية يعتمد ضمان أو ترسيخ قواعد اجتماعية سياسية ـ دينية لهما في العالم، كما تفعل الدول دعما لسياستها الخارجية، بالاضافة إلى ان الارتقاء إلى مرتبة «المرجع» يتطلب ازدياد عدد الاتباع، فضلا عن درجة العلم.

واذا ما أخذنا بنظر الاعتبار ان اتباع المرجعية منتشرون في جميع انحاء العالم، وان دفع الخمس واحد من اركان الاسلام لديهم، وان الشخص الذي لا يخمس حتى لو «اعطى الفقراء سنويا من امواله بشكل عشوائي وحجته ان الاموال التي تدفع في الخمس لا توزع على المحتاجين في بلاده»، لا تبرأ ذمته بذلك، وعليه محاسبة ما في امواله من الخمس، ثم الرجوع إلى المرجع او وكيله، لاستئذانه في الصرف، حسب جواب السيد السيستاني، لتبين ان كل الساسة الفاسدين، سراق ثروة البلد، يدفعون الخمس إلى المرجع

وبما ان حجم السرقات، بالعراق، وصل مليارات الدولارات، لابد وأن يصبح مردود الخمس ثروة لا يستهان بها، ولا يمكن الاستغناء عنها، مما يوفر الارضية الخصبة للتساؤلات المختلطة، احيانا، بالشكوك.

ويبقى السؤال الذي يطرحه فقراء واحد من دول المنطقة الغنية بحاجة إلى جواب، وهو: لماذا لا تصدر المرجعية فتوى لتحريم الفساد والتعامل مع الفاسدين، خاصة، بعد ان جرب الشعب حكم الفاسدين على مدى 15 عاما، وأيقن الجميع ان الفساد هو اساس الإرهاب، وان ما يعمل على تفتيت العراق مجتمعا وكيانا هو فساد ساسته؟

٭ كاتبة من العراق

 

 

العراق: بعد 15 عاما من الاحتلال… ما العمل؟

هيفاء زنكنة

 

ان الرغبة كبيرة بنسيان غزو واحتلال العراق، من قبل العديد من الدول. تتحكم بها عوامل عدة، لعل أهمها هو اشتراك الدول المعنية بالغزو العسكري عام 2003، وما سبقه من تهيئة الرأي العام، في بلدان الغزو، بشكل منهجي، منظم، لقبول فكرة احتلال العراق كمشروع «انساني نبيل». باتت هذه الرغبة، بمرور الوقت، واقعا تضخم ليمتد إلى نسيان الشعب، مهما كانت معاناته كارثية واضحة، بل اصبح دفعه إلى زاوية مظلمة في الذاكرة الجماعية، ضرورة تتزايد بشكل طردي مع الظهور التدريجي للحقيقة حول دوافع الغزو، ولا شرعيته، وانفضاح الاكاذيب الذي رافقته، من حيازة العراق اسلحة الدمار الشامل، وتهديد بريطانيا بالفناء خلال 45 دقيقة، حسب رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير، إلى تعاون النظام العراقي مع تنظيم « القاعدة»، حسب كولن باول، وزير الخارجية الأمريكي، في عرضه الكوميدي ـ التراجيدي أمام مجلس الامن الدولي، في 7 شباط/فبراير 2003، إلى أكذوبة فرم النظام العراقي معارضيه بآلات يحشرون فيها من أرجلهم أولا، حسب النائبة العمالية آن كلويد، المتباكية على حقوق الانسان، عشية تصويت البرلمان البريطاني على قرار غزو العراق

قدمت اجهزة الاعلام الغربية في الفترة السابقة للغزو، في حملة مكثفة لتبريره ولاستقطاب الرضا الشعبي، جرعات يومية من المعلومات الكاذبة، تراوحت في نوعية صياغتها ما بين التضليلي الشعبوي، بألسنة الساسة الغربيين، والتضليلي الداعي إلى التدخل «الانساني» بألسنة العراقيين الموالين للغزو، والتضليلي المبتذل، بألسنة « اصدقائهم» الموعودين بصفقات النفط و«الاعمار»، مثل النائبة ايما نيكلسون التي كرمها رئيس الوزراء السابق نوري المالكي في 24/ 1/ 2008 بتعيينها مستشارة فخرية له للشؤون الصحية، وكرمها رئيس الوزراء البريطاني بتعيينها مبعوثة تجارية لدى العراق للاستفادة من علاقاتها ونشاطاتها التجارية المكثفة، بعد الغزو

بدا من الواضح، خلال 15 عاما الأخيرة، ان أسباب تنامي الرغبة بنسيان العراق بلدا وشعبا، لا تعود، كما يشاع، إلى انشغال العالم بمآس متعددة اضافية في سوريا واليمن وليبيا، بل هي محاولة الانظمة الامبريالية طمر فشلها في اخضاع الشعب وجعله منصة انطلاق لغزو بلدان أخرى، وان دفع الشعب ثمنا باهظا جراء سياسة «فرق تسد» وتحويل البلد إلى ساحة للصراع المستدام، بتعقيداته الاقليمية من جهة والمحلية الطائفية الميليشياوية من جهة أخرى

تستدعي هذه الصورة المعقدة، المغموسة بالفساد، المهدد للوطنية، وفي هذه المرحلة الشائكة التي يراها البعض، من اكثر المراحل التي عشناها خطورة على بلدنا وشعبنا، ومع تسرب روح الاحباط والانهاك بعد سنوات طويلة من الصمود والمقاومة، منذ التسعينيات، التوقف للتساؤل عما يتوجب علينا عمله، نحن الذين لم نغادر الوطن، رغم كوننا مقيمين خارجه، الذين وقفنا مع شعبنا في سنوات الحصار الجائر، اعتقادا منا بان الحصار يضعف الشعب وليس الحاكم بالضرورة، وناهضنا شن الحرب وغزو وطننا، منبهين إلى مخاطر الاستجارة بالاجنبي وفتح بوابة العراق للغزاة مع ادراكنا بمسؤولية الانظمة الاستبدادية في قمع المواطن والحط من كرامته؟

من هذه المحطة، ستنطلق، في الشهر المقبل، مبادرة «شهر التضامن مع العراق». وهي مختلفة عن العديد من المبادرات السياسية التي تم اطلاقها في السنوات الاخيرة، لكونها مظلة تمتد بظلها النشاطات التضامنية لعدد من المنظمات والشخصيات الاوروبية والعربية التي بدأت عملها التضامني مع الشعب العراقي على مدى عقود. من بينها منظمة التضامن السويدية، ومحكمة الضمير ببروكسل لتوثيق جرائم الحرب ضد العراق، و التحالف الدولي ضد الحرب، وشخصيات مثل دنيس هاليداي وهانز فون سبونيك، كلاهما استقالا من الأمم المتحدة احتجاجا على سياسة المنظمة تجاه العراق.

وقد شرعت منظمة «تضامن المرأة العراقية» التي تأسست عام 2004، بالخطوة الاولى في تبنيها اطلاق المبادرة يوم 26 نيسان/أبريل، بلندن، ملخصة في بيان لها الاسباب الداعية إلى هذا التأسيس المهم، مقتبسة كلمات كبير الأساقفة الجنوب أفريقي دزموند توتو، ضد الحرب على العراق: « إن قرار الولايات المتحدة وبريطانيا، اللاأخلاقي، بغزو العراق عام 2003، استنادا إلى كذبة امتلاكه أسلحة للدمار الشامل، هز العالم بأسره، وأحدث استقطابا لم يحدثه اي صراع آخر في التاريخ».

هذه الكلمات، لاتزال تجد صداها، اليوم، كما كان الحال حين تظاهر الملايين، في كل بلدان العالم، عام 2003، في أروع حركة مناهضة للحرب في التاريخ، كما سجلها السينمائي الوثائقي المعروف امير اميراني في فلمه الوثائقي الشهير « نحن الأكثرية». اليوم، بعد مرور 15 عاما على الغزو والاحتلال، لاتزال آثار الحرب العدوانية بقيادة الولايات المتحدة على الشعب العراقي، مستمرة، مسببة معاناة لا نهاية لها، وضحايا تزداد اعدادهم بمرور الايام. ففي دراسة حديثة قام بها نيكولاس ديفيز، مؤلف كتاب «دماء على أيدينا: الغزو الأمريكي وتدمير العراق» بالاشتراك مع ميديا ​​بنيامين، مؤسسة منظمة « كود بينك» النسوية، المعروفة بمطاردتها قادة الحرب على العراق، توصل الباحثان ومن خلال حساباتهما « المستندة إلى أفضل المعلومات المتاحة، إلى ان عدد الضحايا ليس بعشرات الآلاف، كما قد يتبادر إلى الاذهان، بل 2.4 مليون عراقي قتلوا منذ غزو عام 2003». فلنتذكر ان لكل ضحية عائلة وان لكل انسان قيمته التي لا تعوض لاهله واحبائه. وتوثيق عدد الضحايا واحدا من المسؤوليات التي يتوجب علينا، نحن المقيمين بالخارج الذين لا يتعرضون للمخاطر اليومية كما مواطنينا بالداخل، القيام بها، لئلا يتحول مفهوم العدالة إلى مزحة سمجة يتبادلها القتلة. وفي تلخيصها لأهداف اطلاق مبادرة «شهر التضامن مع العراق»، تحث منظمة « تضامن المرأة العراقية» المجتمعات الغربية على ابقاء « قضية العراق في ذاكرة العالم، لأنها قضية في غاية الاهمية، لملايين الضحايا الذين يستحقون العدالة، وهو فعل ضروري، أيضا، لاستعادة المبادئ الأساسية للسلام والاحترام المتبادل بين الامم، باعتبارها أساس القيم الإنسانية المشتركة، لضمان مستقبل خال من كوارث الحرب

انه للتذكير بجرائم الاحتلال في تهديم دولة، وتفكيك مجتمع، واستهداف ثقافة شعب، كي لا تتكرر الجريمة أبدا. انه، أيضا، للاحتفاء بتاريخ العراق، ومقاومة الشعب العراقي المتعددة المستويات، وطموح العراقيين في تحقيق السلام المبني على المساواة والعدالة».

٭ كاتبة من العراق

هل يوم المرأة العالمي عالمي حقا؟

هيفاء زنكنة

 

بما ان التقويم الغربي مقسم إلى أيام مكرسة للاحتفالات التاريخية او المصنعة لأغراض الاستهلاك التجاري، وبما اننا في عصر البث التلفزيوني الفضائي والتواصل الاجتماعي وعولمة الاستهلاك، انتقلت الينا من الغرب احتفالات مستحدثة مثل الهالاوين (نهوض الموتى)، ويوم فالانتاين (الحب)، وعيد الام، ليلحقه عيد الأب بالاضافة إلى الاحتفالات الأقدم نسبيا مثل رأس السنة وعيد العمال وعيد المرأة، مع اضافة مفردة « العالمي» إلى العيدين الاخيرين. وقد شهد الاسبوع الماضي، احتفالات عديدة، في ارجاء العالم، بمناسبة عيد المرأة. من بين المحتفلين، نساء ومنظمات وساسة من البلدان العربية، تحدثوا باسهاب حول أهمية دور المرأة في المجتمع، وضرورة زيادة تمثيلها السياسي بينما أشار عدد من اجهزة الاعلام الغربية، خاصة في بريطانيا، على ما اعتبر تطورا في وضع المرأة العربية والمسلمة، والدليل هو السماح للمرأة السعودية بقيادة السيارة

يذكرني هذا التغزل الكاذب من الجانبين، ليوم واحد، سنويا، بقصة تكريم أو منح امرأة ما جائزة دولية مع التركيز على كونها عربية أو مسلمة. وهي مسألة رائعة، ان يتم تكريم أي انجاز، مبني على الكفاءة والخدمة العامة، بغض النظر عن دين او قومية او جنس المحتفى به. لكن الامور لا تسير بهذا الشكل حين يتعلق الامر بترشيح واختيار امرأة من البلاد العربية/الإسلامية

اذ غالبا ما تكون الجائزة انتقائية بامتياز، تقديرا لنشاطها في منظمة مجتمع مدني تناهض «العنف ضد المرأة»، مثلا، وتنحصر في زاوية أضيق حين يكون للعنف الأسري الأولوية في الترشح والفوز

يصاحب احتفالية منح جوائز، من هذا النوع، مثل يوم المرأة «العالمي»، ضجة اعلامية تجمع بين الشعور برضا المحسنين و فرحة المحتاجين. منبع شعور الرضا لدى مانحي الجائزة، انهم يقومون بعمل فريد من نوعه، حيث يتم منح الجائزة إلى إمرأة من « ذلك العالم» لتشجيعها على الخروج من ظلمة الاستغلال المجتمعي والأسري وبالتالي «تمكينها» من ولوج الحياة العامة، حسب رطانة مانحي الجوائز.

وتنبع فرحة الفائزة من توهمها بالتخلص، عبر تذكرة الجائزة، من عقدة الدونية المصاحبة، لابناء الشعوب المستعمَرة، بالاضافة إلى انه كلما ازداد الحديث عن العنف الأسري ازدادت فرصة الفوز وبالتالي تمكن الفائزة ومنظمتها من ضمان استمرارية الدعم المادي والدعوات إلى المؤتمرات الدولية

هنا، علينا التنبيه، إلى ان العنف ضد المرأة، بمستوياته المتعددة، لا يقتصر على بلداننا، بل انه «شكل من أشكال الإساءة التي تحدث على جميع مستويات المجتمع وفي جميع دول الإتحاد الأوروبي وفي المنطقة المجاورة» حسب البرلمان الاوروبي، حيث «تتعرض إمرأة من كل ثلاث نساء للعنف الجنسي و/أو البدني، كما تشهد واحدة من كل ثلاثة نساء سلوكا مسيئاً نفسياً من قبل شريك حميم. بينما واحدة من كل إثنتين تتعرض للتحرش الجنسي». ويشير تقرير البرلمان إلى ان «العنف ضد المرأة يسبب ضرراً شديداً للنساء والأسر والمجتمعات المحلية، في دول الاتحاد، ويتجسد حجم المشكلة في تكاليف اقتصادية تقدر بمبلغ مذهل سنويا».

ما الذي يجعلنا، في هذه الحالة، نتوقف بحذر عند احتفالات يوم المرأة ومنح الجوائز لناشطات يناهضن العنف الاسري، إذا كان ما يقمن به ضمن معالجة عالمية لمشكلة انسانية مزمنة؟

هناك اشكالية يثيرها الاحتفال بيوم المرأة ووصفه بالعالمية، المفترضة للمساواة، على الرغم من الاختلافات السياسية والاقتصادية الكبيرة بين الدول الامبريالية وغيرها. تتمثل الاشكالية باستغلال اليوم لاطلاق تصريحات وشعارات، جاهزة، هدفها تفكيك مأساة العنف العام التي يعيشها المواطن، وانتقائية التعامل مع جانب واحد، أي طمس الحقائق عبر التجاهل، أو التضخيم، أو تسليط الضوء على نقطة محددة، دون غيرها، مما يؤدي إلى حجب الحقيقة تحت ستار المساواة والدفاع عن حقوق المرأة، خاصة في البلدان المحتلة، ومناطق الحروب.

ويشكل الاستخدام الانكلو أمريكي لقضية «تحرير» المرأة العراقية، تبريرا للغزو والاحتلال، وسياسة المستعمر الاستيطاني الصهيوني تجاه الفلسطينيين، والقصف المستمر للشعبين السوري واليمني، وحرمان المرأة من ابسط حقوق الانسان، أي حق الحياة، نموذجا، يستحق التدريس لتعلم كيفية قراءة وتفكيك تبني الدول الكبرى، لحقوق المرأة في البلدان العربية والإسلامية، ومدى اقتراب الاحتفالات « العالمية» من مآسيها، بصورة حقيقية

في رسالتها من المعتقل، دعت الاسيرة النائب في المجلس التشريعي الفلسطيني خالدة جرار، بمناسبة يوم المرأة العالمي، والمحكومة بالسجن الاداري القابل للتجديد حسب مزاج المحتل، النساء والرجال سوية « للنضال ضد العنف سواء عنف الاحتلال او العنف الاجتماعي بحق نسائنا». 

في ذات اليوم، وقفت شابة من مجموعة «تضامن المرأة العراقية»، في تظاهرة بمدينة « ريدنغ» البريطانية، لتفند الاطروحة الجاهزة حول حقوق المرأة وتمكينها، قائلة : « كيف يمكنك النهوض بحقوق المرأة عن طريق قصف المدارس والمستشفيات والكهرباء وإمدادات المياه؟ كيف يمكن للمرأة أن تناضل من أجل حقوقها في بيئة من الدمار وانهيار سيادة القانون كما يحدث في العراق؟ كيف يمكنك تمكين النساء عن طريق قصف المدن وخلق المزيد من الأرامل والأيتام؟ كيف يمكن للمرأة أن تقدم قضيتها عندما يتم تفكيك المؤسسات التي كانت تطبق القانون؟».

وفي تفصيل مدعم بالارقام، رسمت للمستمعين حال المرأة العراقية: « تشير الإحصاءات الصادرة عام 2009 إلى أن عدد الأرامل يبلغ مليونين، وعدد الأيتام 5 ملايين. ليس هناك تحديث لهذه الأرقام.

بالطريقة نفسها، يتم تجاهل عدد الوفيات بين المدنيين. لكن تقديرات أصدرتها شركة (ORB) (شركة الإحصاء التي ترى وزارة الدفاع البريطانية أنها مناسبة لاستخدامها)، في أيلول/سبتمبر 2007، قدرت عدد المدنيين الذين قتلوا منذ عام 2003 بنحو مليون شخص.

تحولت مساحات شاسعة من البلد إلى مخيمات دائمة للاجئين. ووفقاً للمفوضية العليا لشؤون اللاجئين، فإن هناك 2.5 مليون عراقي مهجر حالياً، ويحتاج 11 مليون شخص إلى مساعدات إنسانية. إن النساء والأطفال يشكلون الجزء الأكبر من المواطنين الأكثر ضعفاً في المجتمع، فهل يمكنكم تصور ازدهار حقوق المرأة في مثل هذه الظروف؟»

واذا كان يوم المرأة عالميا حقا، فكم من الاحتفالات حول العالم، ساندت ودعمت نضال المرأة في بلداننا؟

٭ كاتبة من العراق

 

 

النازحون العراقيون ورقة لعب طائفية

هيفاء زنكنة

 

ما ان قرعت طبول الانتخابات، بالعراق، وبدأ الساسة يتنازعون حول من يتحالف مع من، وأي «المكونات» صالحة للاستخدام كشعار في الحملات الانتخابية، حتى طفت على السطح، مأساة النازحين التي ارادوها مطمورة تحت ركام المباني المهدمة. صار إيجاد حل لمأساة النازحين مطلبا انتخابيا، فكانت النتيجة تحويل النازحين ضحية انتخابية. تبدلت مأساة النازحين من العيش في المخيمات إلى مأساة بشكل آخر. حيث سارعت الحكومة، متمثلة بالقوات الأمنية وميليشيا الحشد الشعبي، بتطبيق سياسة العودة الاجبارية

صاغت الحكومة شكل المأساة الجديد، لعدة اسباب، الاول: تماشيا مع سياستها الهادفة إلى التخلص من مواطنين لم يجلبوا لها غير المتاعب، حسب خطابها الجيوسياسي في الغربلة الطائفية، التي اصبحت واقعا، فعليا، بعد مرور 15 عاما على تأسيس حكومات الاحتلال. السبب الثاني، هو الظهور، أعلاميا، بمظهر الحكومة الحريصة على حل مشكلة باتت، لفرط حجمها، سببا لجلب انظار المنظمات الدولية الانسانية وعدد من دول «التدخل الانساني»، خاصة، بعد ان احتفل الجميع بالانتصار على تنظيم ما يسمى «الدولة الإسلامية». ثالثا: السياسة الدولية الضاغطة حول ربط منح المساعدات والقروض بعودة النازحين. اذ تمت مناقشة الحاجة الماسة لإعادة الإعمار السريع، للعراق، مع المساعدة في إعادة النازحين إلى مناطقهم الأصلية، في مؤتمر الكويت الدولي لإعادة اعمار العراق الذي عقد أخيرا

من بين الشروط التي أكدت عليها منظمة الامم المتحدة في العراق، كجزء من الحل المطروح لمعالجة قضية اعادة النازحين، وبالتالي جمع الموارد لتحقيقها، ان تكون «العودة طوعية وآمنة ومستدامة»، اذا ما أريد تحقيق الاستقرار والسلام على المدى الطويل. فعودة النازحين لا تعني «مجرد العودة إلى المنازل وإنما العودة إلى المجتمع» وان كانت «الآثار التي تركتها السنوات الماضية لا تزال موجودة في جميع أنحاء البلاد: مدن متضررة بشدة، ومجتمعات مشتتة، وجيل من الأطفال معرض لخطر الضياع ووجود نحو.62 مليون نازح».

تمثلت استجابة الحكومة لنداءات النازحين، وتفاصيل حياتهم المأساوية، المطبوعة والمصورة، باطلاق التعهدات. تعهد رئيس الوزراء حيدر العبادي، وهو واقف على منصته الاسبوعية، بإعادة النازحين إلى منازلهم. وتحدث رئيس البرلمان سليم الجبوري، وهو جالس على منصته في البرلمان، عن ضمان مشاركة النازحين في الانتخابات البرلمانية في أيار/مايو المقبل. وسارع رؤساء «الكتل» باطلاق الوعود، من منابرهم الصحافية، حول ضرورة إغلاق جميع المخيمات قبيل إجراء الانتخابات.تنافس الجميع في سباق الفوز بكأس «مأساة النازحين» شعارا. ونشرت اجهزة الاعلام أخبارا تؤكد إن وزارة الهجرة العراقية وضعت آليات لضمان عودة النازحين إلى مناطقهم بعد تأهيل اماكن سكنهم.

خلال ضجة التصريحات والتعهدات والتوظيف السياسي للعديد من المآسي، تصاعدت اصوات نازحين محتجين بطريقة مختلفة عن السنوات الماضية. ففي السابق، كانت السياسة الشائعة هي منع عودة النازحين إلى مناطقهم، بعد انتهاء الاقتتال بسنوات، كجزء من سياسة التغيير الديموغرافي لتلك المناطق، بينما تقوم السلطات الحكومية، الآن، باجبار النازحين على مغادرة الخيام عن طريق قطع الدعم بشكل كامل عنهم اي حرمانهم من المواد الغذائية والوقود، لاعادتهم إلى مدن مهدمة تحتاج سنوات لتنظيفها من الالغام ومدها بالبنية التحتية، والى منازل، تشكل خطرا على حياتهم، أكبر بكثير، مما لو بقوا في الخيام. لذلك، وبسبب انعدام الأمن والخدمات، في غرب الموصل، مثلا، عادت حوالي 600 أسرة إلى مخيم الحاج علي، محافظة نينوى، خلال كانون الثاني/ يناير

وفي الوقت الذي انكرت فيه الحكومة اجبار النازحين على العودة، وبرر العبادي قائلا «ربما حدثت بعض حالات العودة القسرية الا أنها حالات فردية «، ذكر تقرير أصدرته ثلاث منظمات اغاثة تعمل بالعراق، هي لجنة الإنقاذ الدولية والمجلس الدنماركي والمجلس السويدي للاجئين بالعراق، في 28 شباط / فبراير، أن السلطات العراقية تجبر آلاف النازحين على العودة إلى ديارهم على الرغم من إمكانية تعرضهم لخطر الموت جراء الأعمال الانتقامية. وان «الكثير من حالات العودة تتم قبل الأوان، ولا تفي بمعايير السلامة الدولية والكرامة والعودة الطوعية». وأن «ما لا يقل عن 8700 نازح من محافظة الأنبار أجبروا على ترك المخيمات والعودة إلى مناطقهم في الأسابيع الستة الأخيرة من عام 2017». يشير التقرير، ايضا، إلى ان أكثر من نصف العراقيين النازحين موجودون في 61 مخيماً ولا يريدون العودة إلى ديارهم

وفي حال لم يفهم ساسة الحكومة العراقية معنى العودة الآمنة ولم يجب الامتناع عن سياسة الاعادة القسرية، يوضح لهم الأمين العام للمجلس الدنماركي للاجئين كريستيان فريز باخ: «العودة الآمنة والمستدامة تعني أنك تستطيع العودة إلى منزلك، وأن تكون آمناً وتحصل على المياه والتعليم والمساعدة الطبية. مع غياب حل امني وسياسي مستقر، وضمانات وإعادة إعمار، لا يسعنا وينبغي علينا ألا نرغم الناس على العودة». ما الذي تعنيه حقيقة ان نصف النازحين لا يريدون العودة إلى منازلهم، ونحن هنا نتحدث عن العراقي المعروف بصعوبة اقناعه حتى بالسفر لأنه سيشعر بالغربة؟ هذا يعني نجاح حكومات الاحتلال المتعاقبة في ترويع وإرهاب المواطنين، وزرع الفتنة بالاضافة الى، وهنا الطامة الكبرى، نجاحها في نقل فايروس روح الانتقام الذي شكل صلب وجودها منذ عودة ساستها مع المحتل. هذه العوامل المهددة لحياة النازح وحياة عائلته هي التي تمنعه من العودة إلى مكانه الذي يتحرق شوقا للعودة اليه.

هكذا، سيصبح التغيير الديموغرافي الذي سعت اليه حكومات الاحتلال، بكل السبل، واقعا، بامكان الحكومة الادعاء بانها ليست مسؤولة عنه بل انها تعمل على اعادة النازحين بكل الطرق الممكنة. وهو اسلوب يماثل ما تقوم به الحكومات عندما ترغب بخصخصة شركة عمومية مثل خطوط الطيران فتعمل تدريجيا على تدهور عملها إلى ان يصبح مطلب الناس بالنتيجة هو الخصخصة بدلا من المطالبة باجراء التحسينات

ان استخدام حياة النازحين كورقة لعب يتسلى بها ساسة الاحتلال، سيجر البلاد وما حولها إلى ما هو أعمق من الهوة الحالية، و« لن يكون هناك أمل في السلام في العراق ما لم تضمن السلطات عودة الناس بأمان إلى ديارهم»، كما حذر مدير المجلس النرويجي للاجئين في العراق، «من المأساوي أن نرى الناس يشعرون بأنهم في أمانٍ في المخيمات أكثر مما هم في منازلهم في الوقت الذي يفترض أن يكون النزاع قد انتهى».

٭ كاتبة من العراق

 

 

في عصر عولمة الظلم وتواطؤ الصامتين

هيفاء زنكنة

 

هل هناك طعم واحد للظلم؟ هل لممارسة الانتهاكات والجرائم، بلا رادع قانوني أو أخلاقي، كتيبات توزع على الغزاة والمحتلين ومن يحكم بالنيابة، فتضمحل الفروق عند تفحص لا إنسانية النتائج؟ 

ثلاثة أحداث مرت في الأسابيع القليلة الماضية تقودنا إلى التساؤل حول تشابه طبيعة الظلم وتمحوره من شكل إلى آخر مهما اختلفت البلدان. تم الحدث الأول، فجر يوم الخميس 15 شباط/ فبراير، في فلسطين المحتلة، حيث أعتقل جنود الاحتلال الإسرائيلي الشاب الفلسطيني ياسين عمر السراديح، البالغ من العمر 33 عاما، فور محاولته الوصول إلى منزل خاله الذي تم اقتحامه من قبل الاحتلال. اعتدت عليه بالضرب المبرح، وتحديدا على معدته وظهره، أمام الجميع، وتم سحله وتقييده وأخذوه وهو لا يعاني من أي مرض، قال شقيق الشهيد سليمان. مساء، أبلغت سلطات الاحتلال عائلة الأسير ياسين، باستشهاده. في اليوم ذاته، في مدينة البصرة، جنوب العراق، تم الحدث الثاني. حيث اعتقلت القوات الأمنية المشتركة الشاب حازم مهلهل حسين، البالغ من العمر 35 عاما. تم، بعد ساعات من اعتقاله، إبلاغ عائلته بوفاته. لم يكن الشاب يعاني من مرض « وتوفي حازم بعد ساعات من اعتقاله في ظروف غير واضحة»، حسب مكتب المفوضية العليا لحقوق الإنسان في محافظة البصرة، داعيا اللجنة الأمنية في مجلس المحافظة إلى « فتح تحقيق بحادثة الوفاة، ومراعاة حقوق الإنسان، خلال حملات بسط الأمن من قبل الأجهزة الأمنية». قام مجلس المحافظة بتشكيل لجنة تحقيقية لتقصي وقائع الحادث. وإذا ما حدث وانتاب القارئ بعض الأمل، في إظهار الحقيقة، عبر لجنة التحقيق، فلابد أنه لا يعرف أن تشكيل لجنة تحقيق حول أي قضية كانت، يعني طمر القضية تحت كومة من اللجان. إنها ملح يُصب على الجروح.

يقودنا الحدثان، بواقعهما اللاإنساني، واختلاف الجهات المسؤولة، وكون الجهة الأولى قوة احتلال والثانية قوة أمن «وطنية»، إلى النظر أعمق في طبيعة الظلم، وتشابهه، وشموليته التي تدفع الكثيرين إلى القبول بمنظور، انطلق من أمريكا اللاتينية حول وجود استعمار خارجي، أوضح أشكاله الامبريالية والرأسمالية المتوحشة، واستعمار داخلي يتمثل بالأنظمة « الوطنية» القمعية في مرحلة ما بعد الاستعمار أو التحرر الوطني. تتحكم بالعلاقة غير المتكافئة بين الاثنين الحاجة إلى السوق ومصادر الطاقة من قبل الأول والحاجة إلى الحماية وديمومة البقاء في السلطة من قبل الثاني. كلاهما يمارس القمع بدرجات، وإذا ما اختلفت درجة القمع، فحسب الحاجة وتواطؤ الصامتين». من الصمت إلى التواطؤ ليس هناك سوى خطوة واحدة»، يقول جان بول سارتر

يتعلق الحدث الثالث لا بارتكاب جريمة القتل المتعمد، كما في حالة الشابين الفلسطيني والعراقي، بل بسلب حق الحياة، في المعتقلات. ففي فلسطين يسلب المحتل حياة المئات من الأسرى على مدى عقود. نائل البرغوثي، أقدم الأسرى في العالم، كان في التاسعة عشرة حين اعتقل وقد تجاوز، الآن، الستين

في العراق هناك معتقلون منذ عام الغزو، استنادا أما إلى وشايات « مخبر سري»، أو بتهمة الإرهاب. اعترف النظام بأن شهادات أكثر من 300 مخبر كاذبة، مما يعني أن الآلاف من ضحاياهم أما لايزالون في السجن أو أعدموا، ومع ذلك، لم تتم مراجعة الأحكام الصادرة بحق ضحاياهم. كيف ستتحقق العدالة؟ 

أما في أمريكا، فمعتقل غوانتانامو وصمة عار لا تمحى ببلد يمنح نفسه غزو بلدان أخرى لأنها لا تحترم حقوق الإنسان. في أمريكا، في ظل « العدالة الأمريكية»، حُكم على د. رافل ظافر، وهو طبيب عراقي أمريكي، متخصص في علاج الأورام السرطانية، في 28 أكتوبر/تشرين الأول 2005، بالسجن مدة 22 عاما. اتّهم د. رافل بجمع تبرعات، وإيصال شحنات أغذية وأدوية إلى العراق، في سنوات الحصار التي أودت بحياة آلاف الأطفال. وهي جريمة بررتها وزيرة الخارجية مادلين اولبرايت، عند سؤالها عما إذا كان هذا ثمنا يستحق الدفع لأسقاط النظام العراقي؟ فقالت نعم إنه يستحق». وهي الفترة التي استقال أثناءها اثنان من ممثلي الأمم المتحدة في العراق وهما دنيس هاليداي وهانز فون سبونك. عن سبب الاستقالة، صرح دنيس هاليداي قائلا: إن ما يحدث هو جريمة إبادة. استخدم مفردة إبادة لأنها سياسة متعمدة لتحطيم الشعب العراقي». لم ينكر د. رافل « تهمة» إرسال المساعدات، الموجهة ضده. وبينما قضى سنوات حكمه الأولى في سجن، على مقربة من مدينته، إلا أن تصاعد حملة الكراهية ضد المسلمين وسياسة « الحرب على الإرهاب»، أديا إلى وضعه في سجن مشدد الحراسة، مع محكومين مسلمين، ويطلق عليه أسم « غوانتانامو الصغير».

وعلى الرغم من تدهور صحته وإصابته بالعديد من الأمراض وتوفر فرصة تقديم طلب إلى الرئيس أوباما التماسا للرأفة والعفو، لكنه رفض القيام بذلك، قائلا: «كيف يمكن لشخص بريء مثلي أن يطلب تخفيف الحكم عن تهمة مزعومة، من مجرم، بغض النظر عمن يكون؟» 

هل مفهوم الظلم واحد؟ بالنسبة إلى الدول العربية، حاول تقرير الأمم المتحدة اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (الاسكوا) المعنون «الظلم في العالم العربي والطريق إلى العدل» تقديم تحليل لظاهرة الظلم المستشرية في البلاد العربية، أسبابها وإيجاد السبل لمعالجتها. وجاء وأد التقرير المهم على يد الأمانة العامة للأمم المتحدة التي قامت بحجبه بعد يوم واحد من نشره في كانون الأول/ ديسمبر 2016. كان التقرير صريحا في تشخيصه طبيعة التوافق بين الاستبداد المحلي (أو الاستعمار الداخلي كما بات شائعا) والاستعمار الخارجي، وتحميلهما مسؤولية ما يدور في العالم العربي، من قتل المتظاهرين، والمعتصمين العزل، واضطهاد الناس على أساس الدين أو العرق، والانقسام الطائفي وانتهاك حقوق الإنسان، ونشر ثقافة مشوهة سواء ادعت انتماءها للحداثة أو للتراث تكرس الخضوع للاستبداد والبطش. بالمقابل، يؤبن الاقتصادي الأمريكي جوزيف ستيغليتز، الحائز على جائزة نوبل لعلوم الاقتصاد، العدالة « فبدلا من العدالة للجميع، نحن نتطور إلى نظام عدالة لأولئك الذين يستطيعون شراءها». فهل بإمكان الباحثين عن العدالة استعادة مسارها قبل ان تكون سلعة معروضة للبيع؟

 

لن يحل العراقيون مشاكلهم بأنفسهم!

 

هيفاء زنكنة

 

وافق وزراء دفاع حلف شمال الأطلسي (الناتو)، يوم الخميس الماضي، على توسيع مهمته بالعراق. لماذا؟ لا يأتينا الجواب، كما هو مفترض، من الحكومة العراقية، باعتبارها حكومة البلد المعني المنتخبة ديمقراطيا، بل ان كل التوضيحات، المتوفرة، حتى الآن، صادرة عن قيادة الحلف والقيادة العسكرية الامريكية. «حتى يتم بناء الجيش كاملا» حسب ينس ستولتنبرغ، الأمين العام للحلف، وان «من مصلحة الناتو المساهمة في تعزيز الاستقرار وبناء القدرات العراقية». وسيكون اتجاه الناتو «نحو مهمة ثابتة في العراق من أجل بناء القدرات» و«حماية الشعب من صعود تنظيمات إرهابية جديدة أو ما شابه».

يتخلل هذه الصورة الوردية التي رسمها الأمين العام للناتو، نقاطا سوداء عديدة. تبدأ بالجهة المتقدمة بالطلب وتنتهي بالادعاء بحماية الشعب العراقي

من هي الجهة صاحبة فكرة التمديد؟ في الوقت الذي يؤكد فيه الأمين العام ان الحكومة العراقية هي التي تقدمت بطلب تمديد وتوسيع مهمات الناتو، صرح وزير الدفاع الأمريكي جيمس ماتيس بأن هذه الموافقة تمت بناء على طلب رسمي وجهته الولايات المتحدة، لحلفائها في الناتو، الشهر الماضي، للمساعدة في تحقيق الاستقرار، بالعراق، بعد ثلاثة أعوام من الحرب على تنظيم «داعش».

لا يبدو ذلك مستغربا، فقيادة الناتو، عمليا، أمريكية. ووجود الناتو، بالعراق، يعود إلى آب/أغسطس 2004، تحت مسمى «بعثة التدريب»، مهمتها المعلنة «التدريب لمساعدة قوات الأمن العراقية بالتعاون مع القوات المتعددة الجنسيات التي تقودها الولايات المتحدة». أي ان دخول الناتو إلى العراق تزامن مع احتلاله، وان تم الإعلان، كما هو الحال الآن، أن انشاء «البعثة»، التابعة كليا لسياسة الناتو، جاء بناء على طلب الحكومة العراقية المؤقتة، برئاسة أياد علاوي، وبقيت البعثة حتى نهاية عام 2011 مع الإعلان الرسمي لانسحاب القوات الامريكية، مع ربط البلد بالاتفاقية الأمنية ومعاهدة الإطار الاستراتيجي.

تتركنا تصريحات الأمين العام للناتو ووزير الدفاع الأمريكي، امام سؤال يتجاوز ما اذا كانت الحكومة العراقية قد طلبت توسيع المهمة أم لا، ليختزل الى: هل تم ابلاغ الحكومة بتوسيع مهمة الناتو؟ فرئيس الحكومة حيدر العبادي مثابر على التصريح بانه لا وجود لأية قوات أجنبية على ارض العراق، كما يواظب المتحدث باسم رئيس الحكومة على التأكيد بأنّه جرى تخفيض عديد المستشارين والمقاتلين والمدربين في التحالف الدولي بالعراق بشكل تدريجي. فإذا كانت الحكومة تعمل على تخفيض أعداد المدربين والمستشارين الاجانب، فعلا، فلم طلب ارسال المزيد من قوات الناتو، والحصول على موافقة الناتو لارسال بعثة مستشارين ومدربين، مهمتها « تطوير الأنشطة التدريبية الحالية، بتمويل أفضل وتواجد أكبر» كما صرح ستولتنبرغ؟ 

وكيف ستنفذ البعثة مهامها «الإنسانية»، المتعددة، المعلنة؟

يبدو ان قرب موعد الانتخابات يجعل الساسة العراقيين لا يرغبون بالتعليق على قرار الناتو، علنيا، بالتبني او التنصل، ولا يرغبون باستفزاز اية جهة كانت، سواء كانت الولايات المتحدة التي دمرت البلد استنادا على أكاذيب أو أيران التي جعلت من العراق، عبر ميليشياتها، ارضية صالحة لمفاوضاتها مع أمريكا

اذن، السكوت من ذهب، هو شعار الساسة الأول، ولتستقر قوات الناتو، أينما تشاء وكيفما تشاء. لا تقتصر الدعوة على قوات الناتو بل انها «مفتوحة لمساهمات الدول الشريكة من غير أعضاء الناتو»، أيضا، حسب السيد ستولتنبرغ، الذي تحدث بلغة المدافع عن أمن دول الناتو، قائلا إن «من الخطر ترك العراق مبكرا، فلو فعلنا ذلك الآن قد نضطر إلى العودة مستقبلا والانخراط في معارك، وهذا ما لا نرغب فيه»، محاولا ستر الفشل الذريع الذي منيت به «بعثة الناتو التدريبية»، داخل العراق، من عام 2004 إلى عام 2011، حيث قامت حسب ادعائها بتدريب 15 ألف ضابط عراقي، وأدارت 2000 ورشة تدريب عسكرية، وقيامها في أيلول / سبتمبر 2012، بالتوقيع على برنامج شراكة وتعاون مع الأجهزة الأمنية والعسكرية، وكانت النتيجة تسليم القوات العراقية مدينة الموصل إلى مقاتلي «داعش» بطريقة صارت تُدَرَس كنموذج مذهل لنتائج ذلك التدريب

ويأتي فشل النظام العراقي في الحصول على المنح، بقيمة 88 مليار دولار، التي تقدم بطلبها من مؤتمر المانحين، بالكويت، وتحويل المنح الضئيلة التي أعلنت إلى قروض تضاف إلى 128 مليار دولار مديونية حالية، ستقيد المواطن العراقي، على مدى أجيال مقبلة، نتيجة الفساد، ليضيف إلى قائمة الأسباب الموجبة للصمت، مهما كانت القوى التي تود تقاسم البلد والهيمنة على ثروته، ما دامت ستشبع نهم الفاسدين.

يعيدنا الصمت العراقي، الحالي، حول وضع العراق تحت هيمنة سياسة حلف الناتو إلى الماضي القريب، إلى ما حدث قبل 70 عاما في 15 يناير/ كانون الثاني 1948 حين وقعت الحكومة العراقية «معاهدة بورتسموث» في ميناء بورتسموث البريطاني. وكم يبدو الامس قريبا، حين نقرأ ان المعاهدة كانت تنص على السماح للجيوش البريطانية، بدخول العراق، كلما اشتبكت في حرب مع الشرق الأوسط، وحتمت المعاهدة ان يمد العراق هذه الجيوش بكل التسهيلات والمساعدات في أراضيه ومياهه وأجوائه. فثارت ثورة الشعب من شمال البلد إلى جنوبه، واستعيدت أجواء ثورة العشرين، احتجاجا وتظاهرا واعتقالا وسقوط شهداء، حتى تم اجبار الحكومة على الاستقالة وإلغاء المعاهدة كم يبدو الماضي بعيدا، إزاء الصمت الحالي لتسليم العراق لكل من هب ودب

لقد عمل المستعمر الجديد، بالتعاون مع طبقة الساسة الفاسدين، على تمزيق البلد طائفيا وعرقيا، حتى بات، بتمزقه ونفطه واستمرارية استخدامه، كبعبع للتخويف من «الإرهاب» بمسمياته المتعددة، ورقة مقايضة، للعديد من الدول الإقليمية والدولية. بات وجود «القوى الخارجية» ضرورة يتسابق الساسة على نيل رضاها والترويج لاستمرارية ابقائها. صار الشعار الاستعماري القديم عن عجز الأمم:» لن يحل العراقيون مشاكلهم بأنفسهم» بديلا للمقاومة. بل أصبح، وهنا يكمن نجاح الاخصاء، موضوعا للنقاش، حتى داخل بعض الأوساط الوطنية، اليائسة، من استرجاع اللحمة الاجتماعية بجهود وطنية. هذا الشعار هو الترجمة الحرفية لتصريح الأمين العام للناتو بان سبب نشوء «داعش»، بالعراق، هو انسحاب القوات الامريكية و« يجب أن نبقى لفترة طويلة»، متعاميا عن حقيقة ان ما جلب كل الخراب، بأنواعه، إلى العراق هو الاحتلال وان ترسيخ وجود القوات الامريكية بالإضافة إلى قوات الناتو، بشكل رسمي، مع وجود الساسة الفاسدين وميليشياتهم متعددة الولاء، سيجلب دمارا لا يعرف أحد مداه.

٭ كاتبة من العراق

 

 

مراحل محو الذاكرة بالعراق

هيفاء زنكنة

 

تراجع الاهتمام الإعلامي العربي والدولي، بالعراق، بلدا وشعبا، في السنوات الأخيرة، إلى حد لم يعد يذكر الا في الصفحات الداخلية كخبر ثانوي قلما يسترعي الاهتمام. تزداد سطوره أو مساحته الإعلامية، فقط، حين يصاحبه تفجير يتجاوز عدد ضحاياه حدا معينا. للإحصائيات، في هذه الحالة، جاذبيتها الخاصة. كأن هناك كتيب إرشادات تم توزيعه على أجهزة الاعلام يتضمن كيفية طمر احتلال بلد وتدميره بأسلوب تدريجي، ناعم، لا يخدش ضمير المواطن

أمريكيا، هناك حرص عام على تطمين المواطن بأن ما تقوم به حكومته أخلاقي يهدف إلى نشر السلام ولو عن طريق الحروب. يحتل الاعلام دورا أساسيا في هذه العملية. يبين مقال نشره موقع « تروث آوت» ان أفضل وأسرع طريقة اتبعت لمحو جريمة غزو العراق واحتلاله من ذاكرة الشعب الأمريكي، هي عبر تقليص الاهتمام الإعلامي تدريجيا. كانت تغطية صحيفة «النيويورك تايمز»، الامريكية، لأحداث العراق، مثلا، قبل انسحاب القوات قد بلغت 1848 مقالة عام 2006. ونشرت 1350 مقالة عام 2007 ثم انخفض العدد إلى 359 في 2011

تقليص الاهتمام لم يتم عبر تقليل المقالات، فحسب، ولكن من خلال التحكم بنوعيتها ومصادرها. فاقتصار التغطية الصحافية على تداول الاخبار والتحليلات الجاهزة (بعد ترجمتها فيما يخص العالم العربي)، من وكالات انباء يعمل معظمها، في ظل سياسة «محاربة الإرهاب»، جعل المصادر الأولية المعتمدة للأخبار، هي القيادات العسكرية والرسمية وليست الصحافة، المستقلة. مما أدى إلى ضمور الصحافة الاستقصائية

وبينما دفع تحول العراق إلى ساحة حرب، مستديمة، إلى ابتعاد الصحافيين حفاظا على حياتهم، وحقق تهديد الصحافيين المستقلين، واستهدافهم، منذ أيام الاحتلال الاولى، نجاحا يحسب للمحتل الامريكي أولا ولميليشيات الأحزاب الحاكمة ومافيا الفساد، ثانيا

عربيا، حتى في البلدان التي تظاهرت شعوبها، بحماس، في الفترة السابقة للحرب، وساهمت بأكبر مظاهرة شارك فيها الملايين من جميع ارجاء العالم، ولأول مرة قبل الحرب، يلاحظ خفوت الأصوات او اختفاؤها. وتظهر الصورة بأكثر الوانها قتامة، عند مرور الذكرى السنوية لشن الغزو والاحتلال، حيث يفترض استعادة الذاكرة الشخصية والجماعية للجريمة الكبرى، فتمر الذكرى، كما في السنوات الأخيرة، بدون ان تلاحظ.

حيث مرت ذكرى الغزو، في العام الماضي، كأنه سر يجب ان يبقى طي الكتمان

الجانب الآخر الذي يتستر عليه الاعلام الغربي والعربي، بتعاون سياسي محلي، هو خروقات حقوق الانسان التي يعيشها المواطن بشكل يومي. بدءا من الاعتقال والتعذيب والاعدام وانتهاء بفرض العقوبات الجماعية. هناك سيرورة منهجية لمحو المسؤولية عن جهات إجرامية معروفة، هي جزء لا يتجزأ من الحكومة العراقية والأحزاب المشاركة فيها، بذرائع تتغير وفق الحاجة مع إبقاء صخرة «الحرب على الإرهاب» جاثمة على الصدور. يحاول عدد من المنظمات الحقوقية الدولية اختراق حاجز التضليل عبر تقاريرها الموثقة للانتهاكات والجرائم الا انها تبقى، على أهميتها، هامشية بالمقارنة مع أجهزة الاعلام التي تحتل مركزا، عاليا، في سلم أولويات الميزانيات العسكرية والحكومية

لهذا تكاثرت أجهزة الاعلام بسرعة نمو نبات الفطر وبالتحديد القنوات الفضائية. اذ يكفي ان تتجول بين القنوات الفضائية حتى تجد ان القنوات العراقية تحتل حيزا كبيرا بالمقارنة مع بقية البلدان. وهي، كما أجهزة الاعلام العربية، تعتمد على وجبة الاخبار الجاهزة من وكالات الانباء العالمية، كما بقية الدول العربية، وان كانت، والحق يقال، تتجاوزها بإضافة وصفة المحاصصة الطائفية والعرقية والميليشياوية

في الأسابيع الأخيرة، مثلا، تحدث العديد من المسؤولين العسكريين الأمريكيين عن ضرورة إبقاء القوات الامريكية في العراق إلى ان «يتم القضاء على داعش نهائيا»، أي لأجل غير مسمى، مما يذكرنا بالمعاهدة الاستراتيجية التي تم توقيعها مع الإدارة الامريكية عام 2011، وتمنح الإدارة الامريكية حقوقا تنزع كل مفاهيم السيادة عن العراق لأجل غير مسمى. سارع مكتب رئيس الوزراء، إلى اصدار بيان يكذب التصريحات، وان القوات الامريكية ستشرع بالانسحاب، فقامت أجهزة الاعلام العراقية والعربية بنشر البيان، كما هو بدون ان تقوم بتدقيق صحة الادعاء او اضاءة جوانب لم يتطرق اليها البيان، أو تقديم معلومات تساعد المواطن على معرفة، ما يجري فعلا، أو تشجيعه على تمحيص ما يقدم له. بعد يوم من اصدار بيان مكتب رئيس الوزراء، قامت الإدارة الامريكية بتكذيب التكذيب، مؤكدة بقاءها في العراق. وكان موقع «غلوبال ريسيرج» الأمريكي، قد أكد، في 23 كانون الثاني، وجود ستة قواعد عسكرية للولايات المتحدة في العراق وليست هناك نية لأغلاقها. ودخل قائد مليشيا «عصائب الحق» على الخط ليصدر إنذارا إلى القوات الامريكية بتحويل حياتهم إلى جحيم في حال بقائها إلى ما بعد الانتخابات

يساهم النقل الإعلامي الحرفي لهذه البيانات والتصريحات، من التباس الصورة لدى المواطنين، ويزداد الامر سوءا حين يتم بثها بلا تحليل موضوعي يوفر للمشاهد أرضية التفكير واثارة التساؤل. هنا يصبح الصمت، بمعنى عدم التحليل وابداء الرأي، تواطؤا في مسار التجهيل المتعمد ومحو الذاكرة الذي أسست له الصحافة الغربية، بامتياز منهجي، منذ تسعينيات القرن الماضي، استعدادا لغزو العراق، حسب مشروع القرن الأمريكي الجديد.

«ان الحرب على العراق من أكثر الجرائم خطورة، بلا شك، ضد القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة منذ الحرب العالمية الثانية»، يقول الدبلوماسي السويدي المخضرم سفيركر آستروم. جريمة أدركت الشعوب ضررها، مسبقا، فخرج عشرت الملايين للاحتجاج عليها في كل بلدان العالم قبل ارتكابها وبعده، مما أسهم، بشكل غير مباشر، في دعم المقاومة العراقية التي أفشلت مشروع القرن الأمريكي، واضطرته لترحيل اكثر من 185 الف جندي أمريكي من العراق.

استدعى طمس هذه الجريمة من دول العدوان تحويل الأنظار، بمراحل، تصنيع أكاذيب كبرى. كانت المرحلة الأولى اكذوبة أسلحة الدمار الشامل والخطر الماثل على أوروبا، وحقوق الإنسان والنساء، والثانية أكاذيب محاربة القاعدة و«فلول النظام السابق» التي اتهمت بها المقاومة العراقية الشعبية. ثم جاءت مرحلة فرق الموت التي اشعلها السفير الأمريكي جون نيغروبونتي وقائدا الفرق الخاصة اللذان عملا معه في السلفادور، كاستل وجون ستيل لتصور الصراع طائفيا واثنيا في العراق. بعد فترة، أنقذت الولايات المتحدة جلدها عبر انشاء عملية سياسية طائفية بالتجاذب مع إيران. مع انتفاضة الربيع العربي، عادت أمريكا فجرت العراق في ساحة الصراعات الإقليمية والدولية الأكبر تحت لافتات طائفية من جهة ولافتات محاربة إرهاب تنظيم «الدولة الإسلامية» من جهة اخرى.

الآن، في مسار محو الذاكرة، يقوم الاعلام المؤدلج، بالترويج اليومي، لأكذوبة ان كل الدمار الذي شهده العراق منذ التسعينيات وسنوات الحصار، وغزو 2003، والتعامل الوحشي مع المدن في مجرى التعامل مع المقاومة العراقية، هو نتيجة الحرب على تنظيم « الدولة الإسلامية» بما يضمنه ذلك من التغاضي عن المسؤولية القانونية الدولية والأخلاقية.

من هنا حاجتنا إلى استمرار تذكير أنفسنا والعالم بحقائق التاريخ القريب، لا رغبة بالانتقام ولكن لنعيد للعدالة مفهومها الحقيقي ولئلا تتكرر الجرائم.

إلى الدول المانحة للعراق:

لا تتورطوا في موتنا البطيء

هيفاء زنكنة

 

يقول النظام العراقي انه بحاجة إلى 100 مليار دولار لأعاده اعمار المدن المدمرة جراء قتال تنظيم «الدولة الإسلامية»، وان على العالم توفير المال للنظام باعتبار انه «خاض حربا شرسة نيابة عن العالم».! 

ستكون هذه معزوفة النظام الرئيسية في مؤتمر الدول المانحة، الذي سيعقد في الكويت، منتصف الشهر الحالي، وتشارك فيه حوالي 70 دولة ومئات شركات الاستثمار التي أعلن عن توفير مغريات لها لجذبها إلى داخل العراق. وهو موقف يبدو في غاية النبل والوطنية من الحكومة، ويستدعي التشجيع والمساندة، من قبل الجميع. فمن ذا الذي لا يرغب بأعمار بلده، وإعادة النازحين إلى بيوتهم وتوفير الخدمات الأساسية للمواطنين؟ 

إذا كان الحال بهذا الشكل، لم يقوم عدد من الناشطين الشباب، من داخل العراق، بكتابة رسالة موجهة إلى الدول المانحة بعنوان «لا تقتلونا أكثر من مرة، ولا تتورطوا في موتنا البطيء»؟ 

لا يختلف الشباب في رسالتهم حول ان العراقيين جميعا يتطلعون إلى يوم يجدون فيه الإعمار قد حل في بلادهم مكان الخراب، ويحسون بالحياة كما يحس بها الآخرون، لكنهم يتوقفون متسائلين عن جدوى المؤتمر. لاسيما وانه ليس المؤتمر الأول الذي يتلقى فيه العراق، منذ عام 2003، مئات المليارات للإعمار، ولم ير الشعب أي اعمار.

تتضمن الرسالة تفاصيل مؤتمرات المانحين، سابقا، والمبالغ التي تم تقديمها إلى الحكومة العراقية لأغراض الأعمار الذي لم يتحقق وبقي سرابا لا يمكن الإمساك به

يأخذنا الشباب إلى مؤتمر مدريد للمانحين، في تشرين الأول/أكتوبر 2003، عام احتلال العراق قبل 15 عاما، بمشاركة 73 دولة و20 منظمة دولية، حيث تعهد المشاركون بتقديم 33 مليار دولار لإعمار العراق. تلاه، في العام نفسه، مؤتمر طوكيو للدول والجهات المانحة للعراق، الذي تم التعهد فيه بنحو 14 مليار دولار لإعادة الاعمار. ولا تقتصر حكاية «إعادة الاعمار» كذريعة للحصول على المُنح، قبل ولادة «داعش المنتظر» بسنوات، بل هناك، أيضا، مليارات الدولارات التي خصصها الكونغرس الامريكي ومساعدات صندوق النقد الدولي وقروض البنك الدولي، التي ستكبل العراقيين، بالفائدة المركبة، على مدى عقود مقبلة

آخر الأرقام التي أعلن عنها لإعادة إعمار العراق، موافقة البنك الدولي في تشرين الثاني/نوفمبر 2017، عن موافقته على منح مساعدات مالية بقيمة 400 مليون دولار «لمساندة جهود التعافي وإعادة الإعمار والتأهيل لمرافق البنية التحتية ذات الأولوية من أجل استعادة تقديم الخدمات العامة في المناطق العراقية المحررة حديثا من قبضة تنظيم داعش».

إذا ما قمنا بعملية جمع بسيطة للأموال التي هطلت على العراق منذ الاحتلال، وبضمنها الأموال العراقية التي كانت محجوزة في صندوق الأمم المتحدة، من سنوات الحصار، لوجدناها تنافس ميزانيات دول العديد من الدول المجاورة، لكن العراق لم يعمر، حتى الآن، بل لم يتم صيانة ما بقي من منشآت بعد قصف الصدمة والترويع واستمر في الخدمة لحين، فأين ذهبت تلك الاموال؟

يؤكد العديد من تقارير منظمات النزاهة والشفافية الدولية بالإضافة إلى المحلية، والى تصريحات الساسة العراقيين، أنفسهم، خاصة حين يتبادلون الاتهامات، بأن الفساد هو الغول الذي يواصل التهام المنح والمخصصات والقروض وعائدات النفط. وهو يمتد ويتوسع، بمرور الوقت، حتى بات من الأعراف الاجتماعية فضلا عن السياسية والاقتصادية، بفضل نشوء طبقة جديدة من المقاولين تدعى «سماسرة الاعمار». مهمتهم مضاعفة قيمة المنشآت أو المشاريع التي يشرفون على إقامتها عدة أضعاف دون أن يكون هناك رقيب، وتُمرر الأرقام في ظل انتشار الفساد في المؤسسات الحكومية.

ويتم، أحيانا، تنفيذ مشاريع البنى التحتية، بحد أدنى من المواصفات، عبر مقاولات يتم بيعها من المقاول الرئيسي إلى مقاول آخر يقبض ثمنها من مقاول آخر، فيكون المبلغ الذي يصرف على المشروع متواضعا جدا مقارنة بالمبلغ الذي يضيع بين سلسلة وسطاء. وقد بلغ تقاسم أموال الاعمار بين السماسرة العراقيين والجهات الامريكية حدا جعل المفتش العام الأمريكي المختص بإعادة إعمار العراق، إلى التصريح في تقرير خاص، أن الحكومة الامريكية لم تتمكن حتى الآن من تحديد وجهة إنفاق 96 ٪ من تلك الأموال. ويعزو عصام الجلبي، وزير النفط السابق، عدم بناء مصاف جديدة للنفط إلى الفساد والسرقات السائدة في مقاولات ‏استيراد المشتقات النفطية مما أدى إلى إنفاق 30 مليار دولار بينما كان في الإمكان استخدام هذه المبالغ لانشاء ما لا يقل عن 6 مصافي عملاقة في ‏العراق.

ما يثير الانتباه، في رسالة «لا تتورطوا.. «، بالإضافة إلى رصدها كمية وكيفية تلاشي الأموال في فضاء الفساد، هو رصدها لنوعية المشاريع المطروحة من قبل النظام العراقي لإعادة الاعمار. فهي، حسب عديد التقارير المحلية والدولية أصلاً «لا يحتاجها العراقيون أو أنهم لا يريدونها». حيث «لم يتم التشاور حولها، بصورة كافية ومناسبة مع العراقيين، فضلاً عن أن الكثير منها كان يتوقف في منتصف الطريق، أو لا يتمكن العراقيون من الحفاظ عليه بعد اكتماله».

يخلص كاتبو الرسالة، بعد رسم صورة العراق الغارق في الصراعات السياسية، الدموية، بين الأحزاب المهيمنة وميليشياتها، وخراب البنية التحتية والخدمات الأساسية، وانتهاكات حقوق الانسان الجسيمة، إلى إن انعقاد مثل هذه المؤتمرات بات مصدر ضرر كبير للعراق وشعبه، لأنه يغطي على الواقع المرير، من خلال تطمين العالم بان هناك جهودا للإعمار، بينما تؤول الأموال إلى جيوب الفاسدين، لاسيما المسؤولين العراقيين الذين أحرزوا رقما قياسيا في سرقة المال العام والفساد. وللإجابة على سؤال ما هو الحل، تقدم الرسالة ثلاثة مقترحات. لعل أبرزها تأجيل دفع الأموال المستحصلة من هذه المؤتمرات لحين استقرار البلد، وان يتسلم زمام الأمور فيه من ليس فاسدا، أو تشكيل صندوق للإعمار بإشراف عالمي

قد لا تكون الحلول التي يقدمها كاتبو الرسالة مثالية، الا ان تشخيصهم لآفة الفساد وآثارها، ومناشدتهم مؤتمر المانحين، الا يشرعن الفساد، تستحق النظر، وان لم يتم التطرق إلى مسؤولية هذه الدول، على رأسها أمريكا وبريطانيا، في مأسسة الفساد والخراب إثر الاحتلال، مما يجعل حتى تسمية «مؤتمر المانحين» تضليلا متعمدا من قبل الدول المسؤولة عن الخراب، بعلم ومساهمة النظام العراقي.

٭ كاتبة من العراق

 

أمريكا في العراق: استقروا فيه آمنين!

هيفاء زنكنة

 

تؤكد التصريحات الأخيرة لوزارة الدفاع الأمريكية(البنتاغون) نية الإدارة الأمريكية الإبقاء على القواعد العسكرية وتفعيل « الاتفاقية الأمنية والاستراتيجية» مع الحكومة الجديدة بعد اجراء الانتخابات. تتطابق هذه التصريحات مع واقع العمليات التي تخوضها أمريكا، داخل العراق.

فعلى الرغم من سيل خطب وتصريحات الانتصار والقضاء على «الدولة الإسلامية»، وتقديم الانتصار باعتباره قد تحقق «بأياد عراقية خالصة وببطولات وتضحيات العراقيين»، حسب رئيس الوزراء حيدر العبادي، فان طائرات التحالف لا تزال تقصف أماكن مختلفة من العراق، «لمطاردة فلول داعش الإرهابي». ولا تزال الولايات المتحدة الأمريكية تُعلن عن انطلاق عملياتها المستمرة في سوريا والعراق، مما يثير التساؤل حول عديد البيانات الصادرة من الجانبين العراقي والأمريكي المتعلقة بالعمليات الموصوفة بانها مبنية على معلومات استخبارية دقيقة. وذلك لاستمراريتها، وكثرتها، واعداد الضحايا من المدنيين في الفترة التي أعقبت إعلانات الانتصار والاحتفال به. فما الذي حدث للوعود الكبيرة بالاستقرار والأمان والاعمار، في الفترة التي اُطلق عليها أسم «ما بعد داعش»؟ وما هو دور الصراعات بين الأحزاب والميليشيات المتنفذة في هذه الفترة، وهل هناك دور أمريكي بالإضافة إلى الإيراني؟ وما مدى صحة كون العمليات العسكرية والقصف يستهدفان، فعلا، بقايا تنظيم « الدولة الإسلامية»؟

بالنسبة إلى وعود الاستقرار، تكفينا عودة سريعة إلى ساحة الطيران، ببغداد، لندرك حجم أكذوبة الأمان الموعود الذي بات سرابا، ما ان يقترب منه المواطن حتى يتحول إلى مشروع موت فردي أو جماعي.

أدى تفجير ساحة الطيران الإرهابي إلى قتل وجرح 80 مواطنا، معظمهم من العمال الفقراء. في مرثية كتبها شوقي كريم حسن، يحدثنا بقلب يختزن وجعا لا حد له، عن بائع الشاي بشار الذي» جاء بغداد من مدينة الشطرة، جنوب العراق، ليسد رمق خمسة اطفال يحلمون بحياة تحفظ كرامتهم.

ظل بشار يمنح الحياة لروح المغني داخل حسن ممزوجا بأحزان الشطرة التي فارقها مكرها. كلما طلبت منه الشاي، ابتسم قائلا: قل لي علة حب أهل الشطرة للشاي والغناء. ونهيم معا في ذكريات قحط وفرار. اليوم، كان بشار بغاية الفرح لأنه قرر زيارة الاطفال والزوجة التي تنتظر، بعد ان وفر لهم ما وفر. وفجأة، تناثرت بسطية بشار. أغمض بشار عينيه محاولا استرجاع وجوه أولاده، لكنه فشل. فشل بعد ان وجد نفسه دون أطراف، دون ملامح. مات بشار. قتلته زمر الفساد التي تتقاتل من اجل نهب البلاد». 

إثر التفجير، أصدر الساسة العراقيون بيانات الاستنكار والادانة والاتهامات الجاهزة. شاركهم النحيب المفتعل سفراء وحكام دول عربية، ولم يقصر المسؤولون الإيرانيون والأمريكيون في ذرف كلمات الأسى. في ذات الوقت الذي تواصل فيه الميليشيات ترويع الناس والأمريكيون سياسة القصف واستهداف المدنيين، الذين لا يعلن عن قتلهم أو احصائهم أو الإشارة إليهم، ما دام مشجب «داعش» لايزال حيا يُغذى بالبيانات، والتصريحات المنمقة، والتطبيل الاعلامي

وعند تمحيص مدى استخدام مشجب داعش لتبرير القصف، يتبين من بيان للتحالف، في 12 كانون الثاني/يناير « ان قوات التحالف العسكرية في الفترة من 5 – 11 كانون الثاني/يناير 2018، نفذت 96 غارة تألفت من160 اشتباك ضد إرهابيي داعش في سوریا والعراق». ذلك ان قوة المھام المشتركة في عملية العزم الصلب «ملتزمة من أجل تحقيق الهزيمة الحتمية لداعش والحد من قدرتها على تأسيس شبكات جديدة أو إعادة الظهور في العراق وسوريا»، ويتوسع خطاب الترويع الإعلامي الأمريكي ليتضمن بالإضافة إلى تهديد داعش للعراق وسوريا، تهديدها «المجتمع الدولي ككل». مما يعيد إلى الاذهان حملة التضليل الإعلامي الأمريكي – البريطاني التي مهدت لغزو العراق، باعتباره يمتلك أسلحة الدمار الشامل القادرة على تهديد أوروبا خلال 45 دقيقة!

ان استخدام ذريعة حماية العالم يترجم على ارض الواقع، بأن لقوة المهام المشتركة أو الولايات المتحدة وحلفائها، المبرر الشرعي للبقاء على ارض العراق وسوريا مدة تفرضها هي، ووفق مصالحها الاقتصادية والسياسية والعسكرية. إبقاء حضور داعش، اذن، حيا أو ترهيب الدول والناس، بحضوره، ضرورة يتوجب المحافظة عليها لكل الجهات الراغبة بإبقاء العراق ضعيفا، ممزقا، تسهل الهيمنة عليه. سواء كانت الجهات محلية متحالفة مع الدول الإقليمية، أو الولايات المتحدة، أو كليهما معا

وفي الوقت الذي ينفي فيه النظام العراقي وجود قواعد عسكرية أمريكية، مؤكدا «أنه لا وجود لقوات مقاتلة من أي دولة على الأراضي العراقية» حسب حيدر العبادي، والاكتفاء بالإشارة البسيطة، أحيانا، إلى ما يسمى «الدعم الجوي»، تؤكد التصريحات الرسمية الأمريكية، من وزارة الدفاع (البنتاغون) بشكل خاص، بأن استمرار وجود القوات العسكرية ضروري، إلى ان يتم «القضاء كليا على داعش». 

وقد ذكر موقع «غلوبال ريسيرج» الأمريكي، في 23 كانون الثاني/يناير، ان هناك ست قواعد عسكرية للولايات المتحدة في العراق. وهناك ما يشير إلى انشاء قواعد أخرى. لن تكون هذه القواعد بالحجم السابق الذي كانت عليه قبل انسحاب قوات الاحتلال عام 2011، الا انها ستكون قادرة على تحقيق الأهداف المطلوبة ومنها السيطرة الجوية والاستخباراتية والاغتيالات بواسطة الطائرات بلا طيار. أهم القواعد العسكرية، حسب موقع «ميل اونلاين» البريطاني، هي: مطار صدام الدولي السابق خارج بغداد، وقاعدة تليل الجوية بالقرب من الناصرية، في الجنوب، والقاعدة الجوية المعروفة باسم اتش -1، في الصحراء الغربية، ومطار باشور في شمال العراق. ولموقع أتش 1 الاستراتيجي أهمية خاصة، حيث توجد فرق القوات الخاصة حاليا، لكونه على مسار خط أنابيب النفط إلى الأردن.

فهل هذه طريقة النظام العراقي المبتكرة في انهاء الاحتلال الأمريكي، الذي تحدث عنه محمد باقر الحكيم رئيس المجلس الإسلامي الاعلى قائلا بأنه سيتم التخلص منه خلال ستة أشهر، وان التعاون معه مجرد تقاطع مصالح مؤقت، كما كرر قادة الأحزاب «الإسلامية» من بعده؟ ماذا عن «كلا… كلا لأمريكا»، شعار السيد القائد مقتدى الصدر دام ظله؟ وكيف ستتفاعل سياسة الحزب الشيوعي «العلماني» باعتبار الاحتلال «تغييرا» مع «كلا لأمريكا» في مرحلة التحالف «المدني» بين التيار الصدري والحزب؟ ماذا عن عموم الشعب العراقي؟ يبدو من متابعة اخبار انتشار القواعد العسكرية، بشكل علني، ان الاحتجاج ضدها آت من اجنحة في الإدارة الأمريكية وعدد من المنظمات الأمريكية والاوربية. أما صوت الشعب العراقي، كقوة رافضة، تساهم في تغيير القرار، ليس مسموعا بعد.

٭ كاتبة من العراق

كيف أصبحت بلداننا بهذه الوساخة؟

هيفاء زنكنة

 

بدأت تظهر، منذ الآن، والانتخابات العراقية على مبعدة شهور، استخدامات لمفردة «الزبالة»، في الكتابات المتعلقة بالوضع السياسي، وتنافس القوائم الانتخابية، للدلالة على درجة التلوث بالفساد، التي تتميز بها القوائم والتحالفات، حتى يكاد المرء يشم رائحة الزبالة ولو عن مبعدة. مفردة الزبالة في العراق، اليوم، هي صنو الفساد السياسي، المتغلغل في جسد الحكومة والنظام ككل. للدلالة على تزاوج المعنيين، واليأس الشعبي العام من الإصلاح، استباقا للحملات الانتخابية، شاع استخدام «لو الذباب يترك الزبالة… حرامية العراق يتركون البوك (السرقة)».

مما يعيد إلى الأذهان، مظاهرات واحتجاجات الزبالة التي عاشتها العاصمة الجميلة بيروت، عام 2015، نتيجة عجز الجهات المسؤولة عن جمع القمامة، فتراكمت إلى حد اغراق العاصمة بها، ومعها انتشرت حالة الاحتجاج العامة، كما عودتنا بيروت، بأشكال إبداعية متعددة، من الفيسبوك والتويتر إلى الشعر والاغاني، مرورا باختيار ملكة جمال الزبالة، والتقاط السلفي مع الزبالة بعد ارتداء الكمامات الواقية من الرائحة الكريهة. كانت عناوين الصحف، يومها، متنوعة تجمع ما بين الغضب والإحباط والنقمة السياسية على الفساد، بأشكاله. قرأنا: بيروت تغرق في جبال من الزبالة، أكبر تجمع في تاريخ لبنان يتظاهر ضد الزبالة والطائفية، أزمة القمامة في لبنان، ورائحة لبنان زبالة. وكان لعائلة الرحباني مساهمتها بكلمات زياد الرحباني الجامعة بين رائحة الزبالة وفساد الساسة. وهو التشبيه الأقرب إلى ما يحدث بالعراق. حيث يقودنا جرد مقالات تجمع بين هَم السياسة والزبالة، إلى عناوين مثل: الزبالة والبرلماني بالعراق، العراق من اغنى دولة بالعالم إلى شعب يأكل من القمامة، تدوير العملية السياسية، وحكومة الزبالة وزبالة الحكومة «التي أوصلت زبالات الكوكب إلى رقاب أبناء العراق، ومكنت زبالات البلدان من احتلال أرض العراق في هجمة بربرية راح ضحيتها خيرة شباب الوطن» كما كتب أحمد حسن العطية.

برزت، أيضا، على مدى سنوات الاحتلال، قصائد، استخدمت فيها مفردة الزبالة للدلالة على بؤس الأوضاع المعيشية، مثل «قصيدة بحق الزبالة»، للشاعر سعد محمد الحسن البهادلي، يصف فيها قرية، على مقربة من مرقد الامام علي، تُرمى فيها قمامة مدينة النجف الأشرف، كما يصف حال الناس الذين يعتاشون على هذه القمامة

في مصر، بسبب أزمة زيادة القمامة والتلوث البيئي، حيث تتجمع في شوارع مصر، حوالي 75 مليون طن من القمامة كل سنة، اقام عدد من الشباب «مهرجان الزبالة»، كمحاولة تعليمية لغربلتها وإعادة تدوير ما هو صالح منها، وبالتالي جني المال في ذات الوقت الذي تتم فيه المحافظة على البيئة

وبينما ينظر المواطن العراقي بأسى إلى ماضي عاصمته النظيفة في السبعينيات، إلى حد ان عمال التنظيف كانوا يطرقون أبواب البيوت لجمع القمامة، فان أساه يبلغ ذروته، في بغداد ما بعد الغزو، كما كتب الكاتب والمترجم عبد الوهاب حميد رشيد «لا اتذكر يوماً في بغداد دون أن أشاهد أكواماً ضخمة من النفايات والأنقاض وهي تغلق الطرق الرئيسية في مناطق من العاصمة، خاصة ضواحيها. في بعض الأحيان تصل أكوام الزبالة ارتفاعات عالية بحيث تغلق المرور في المنطقة، في حين تُعاني الضواحي من الروائح الفاسدة، وأصبح انتشار الحشرات والأمراض اعتيادياً». 

ليست جميع البلدان العربية في مستوى واحد من ناحية النظافة بمعناها الواقعي والرمزي وبدرجة الفساد او مدى شعور الناس بالانتماء إلى المكان. ففي أزقة تونس القديمة، مثلا، لاتزال تقاليد تنظيف عتبات الدور وما حولها، كما في خمسينيات بغداد، مستمرة

كما يلجأ الأهالي، بتونس العاصمة، لمعالجة مشكلة الزبالة المتراكمة، إلى الغرافيتي، كشكل ابداعي شعبي، أثبت جدواه، أحيانا، لمعالجة ظاهرة تراكم الزبالة. يلجأ المواطن التونسي إلى الجدران، مهما كان نوعها، ومهما كانت سبل الوصول اليها، ليُسطر عليها رسالته المُلحة إلى الآخرين، محولا الجدار إلى موقع للمناشدة والعتاب والدعوة. انها محاولته لامتلاك حيز من الشارع، لاثارة الانتباه إلى مشكلة اجتماعية بلا تكلفة مادية. ولأن الغرافيتي لا يحمل توقيع صاحبه، تبقى هوية الناشط مجهولة مما يوفر له الحماية

يشعر المتجول في شوارع واحياء العاصمة التونسية، مدى رغبة بعض المواطنين بالمحافظة على نظافة المدينة. فيلاحظ رسائل الغرافيتي، خطتها على الجدران أيدي مواطنين، مناشدة أهاليهم التعاون لإيجاد حل لمشكلة/ ظاهرة تمس حياتهم جميعا. وقد نجحت الفنانة التونسية سولافة مبروك بتصوير العديد من المواقع، التي تعاني من مشكلة أكوام الزبالة المتراكمة، في الشوارع والاحياء السكنية مما يمنح العاصمة رائحة لا تليق بها. وتضمن الصور معرض أطلقت عليه أسم «غرافيتي… يرحم والديك».

لجأ الأهالي الذين أعيتهم السبل للمحافظة على نظافة مدينتهم، خاصة في الاحياء المحيطة بالمدينة العتيقة، إلى الغرافيتي، كأداة للتوعية والمناشدة والترجي والدعاء، مرة باللغة العربية الفصحى وأخرى بالعامية. ونرى ان عددا منها، ساهم، فعلا، في تخفيف المشكلة، في فترة أهملت فيها البلديات مسؤولياتها تجاه المواطن

للتوعية كتبوا «البول للكلاب يا ناس»، وهي مماثلة للغرافيتي العراقي الشائع «البول للحمير يا ناس». للمناشدة المؤدبة والترجي «الرجاء عدم وضع الفضلات هنا… وشكرا». ويتنوع الدعاء، في شدته وقسوته، حسب إحساس كاتب الغرافيتي بجدوى عمله أو لا جدواه، متنقلا من «لا ترحم والديه إلي يحط الزبلة هنا» و»لا ترحم والديه اللي يلوح الزبلة هنا» و»نعلبوه» إلى «الله لا يكَسبوا المال وهَنية البال إلي يرمي الزبلة هنا» و»لا ترحم عظم» كحد أقصى من العقاب. وإذا كان الوالدان، نظرا لقيمتهما المجتمعية، هما المستهدفان، غالبا، بالحرمان من الرحمة، فأن جدران العاصمة لا تخلو من منوعات بأخطاء املائية على غرار «ممنوع رمي الفظلات نهارا» أو الكتابة على سور يواصل سكانه رمي الزبالة عبره إلى الشارع «لا ترمي الزبلة من السور».

ولا يقتصر استخدام رسائل الغرافيتي على تونس. فلبيروت رسائلها الغرافيتية المشوقة، أيضا. من بينها ما عثر عليه، أخيرا، في منطقة الاشرفية، ويحمل رسالة واضحة بمغزاها الجامع بين الشتيمة والتوعية: «أكيد بهيم وبلا أخلاق كل من يرمي الاوساخ. يا صاحب الذوق، حافظ على نظافة مدينتك وبيئتك وصحتك». 

يعزو الكاتب البريطاني روبرت فيسك، وهو الذي اقام في البلاد العربية عقودا، وكتب عن الثورات والتدخل الأجنبي والأنظمة المستبدة، سبب مشكلة الزبالة إلى ان المواطن العربي لا يشعر بانه يملك شوارعه. يمس فيسك، بتحليله النابع من ربط مواقف الناس السياسية بالمسؤولية المجتمعية، جرحا عميقا بحاجة إلى النظر وإيجاد الحلول باعتبار النظافة قيمة حضارية في أي مجتمع. ونحن بحاجة إلى دراسات ميدانية تساعد المجتمع على فهم نفسه وما حوله، والا بقي حاله حال الفنانة المصرية شيرين رضا التي وجدت أن شوارع القاهرة، قد امتلأت بالقمامة، فتساءلت: «هي إزاي البلد بقت وسخة كدة؟».

٭ كاتبة من العراق

 

 

انتخابات العراق: هل اعتذر حيدر العبادي؟

هيفاء زنكنة

 

نقل النائب العمالي البريطاني بول فلين رسالة السيدة روز جنتل، والدة جوردون جنتل، أحد الجنود الذين قتلوا في « حرب العراق»، إلى البرلمان البريطاني. خاطب النائب البرلمان، الأسبوع الماضي، قائلا بأن السيدة « أعربت عن أسفها لبيان الحكومة الذي يبدو أنه يعفي البرلمان من استنتاجات تقرير تشيلكوت. ونحتاج، كما دعت إلى ذلك، إلى اعتذار من هذا المجلس وهذا البرلمان. لم يكن رجلا واحدا. كانت المعارضة وثلاث لجان مختارة. كانوا من المشجعين لهذا الخطأ الفادح الذي ارتكبناه هذا القرن. أليس هناك اعتذار مناسب، يجب أن يتبعه قراءة أسماء 179 جنديا أرسلناهم إلى وفاتهم؟». 

لرسالة روز جنتل وخطاب النائب علاقة وثيقة بواقع العراق، الحالي، الذي لخصه هانز فون سبونيك، نائب الأمين العام للأمم المتحدة سابقا، قائلا « حيث لا يوجد بند من بنود حقوق الانسان لم يُنتهك». عبرت الرسالة عن استياء اسر الجنود البريطانيين الذين قتلوا في العراق لعدم تمكنهم من تأمين محاكمة رئيس الوزراء البريطاني الاسبق توني بلير بتهمة تضليل البرلمان بشأن قضية غزو العراق.

المعروف ان عوائل الجنود تشجعوا بإمكانية محاكمة توني بلير، بعد صدور تقرير تشيلكوت، الذي استغرق العمل فيه مدة سبع سنوات وتوصل إلى مساءلة موقف رئيس الوزراء السابق من قرار خوض الحرب ضد العراق، وان أكد ان الغرض منه لم يكن إدانة بلير لأن رئيس الوزراء يتمتع بالحصانة القانونية. ويشكل موقف الحكومة البريطانية خيبة أمل، كبيرة، لعوائل الجنود، الذين كانوا قد كلفوا محامين، للقيام بالإجراءات القضائية اللازمة، وجمع الأدلة لأثبات تضليل توني بلير للبرلمان في الفترة السابقة للغزو عام 2003.

وإذا كانت عوائل 179 جنديا قد قررت عدم السكوت على ما تعتبره جريمة بحق أبنائها، وهم جنود في جيش يستوجب الموت، وقامت بحملة لجمع مبلغ تدفعه للمحامين، فان النظام العراقي، بكل امكانياته المادية الهائلة، تلقى «تقرير تشيلكوت»، الموثق لحرب عدوانية، استندت على التضليل، بالصمت الكلي. كأن العراق لم يكن البلد المعني بالغزو والاحتلال، وما جلباه من خراب مستمر. كأن حياة ما يقارب المليون، من الضحايا المدنيين، أثرا من آثار ماض، لا يستحق التفكير أو المراجعة، أو، وهو الاصح، ثمنا يستحق الدفع للحصول على المناصب.

ما شجع العوائل على البحث في إمكانية تقديم توني بلير إلى القضاء، أيضا، هو صعود نائب عمالي نزيه، هو جيرمي كوربين، إلى رئاسة حزب العمال. أي ذات الحزب الذي قاد الحكومة البريطانية، في غزوها العراق، تحت قيادة الولايات المتحدة الامريكية. وكان واحدا من مواقفه الشجاعة، المتماشية مع ايمانه، بعدوانية الحرب، هو دعوته إلى مؤتمر صحافي، حضره عدد محدد من الناشطين وممثلي المنظمات المناهضة للحرب (كنت من بينهم)، بالإضافة إلى عوائل شهداء عراقيين، وعدد من أُسر الجنود البريطانيين القتلى، وعدد من الجنود الذين تركوا الجيش احتجاجا على احتلال العراق. وقف كوربين في المؤتمر الصحافي ليتحدث لبضع دقائق كعادته، معتذرا من الشعب العراقي لما أصابه نتيجة الحرب، ومن عوائل الجنود البريطانيين الذين قتلوا في حرب غير شرعية، مع الإشارة بانه سيواصل عمله في تحميل توني بلير مسؤولية اتخاذ القرار الكارثي. لم تضع كلمات كوربين نهاية لعذابات العراقيين، لكنها ستساعد يوما في التئام الجروح بين الشعبين العراقي والبريطاني، وربما ستفتح أبواب التعويضات، دوليا.

قارنوا ذلك بخطب حيدر العبادي» رئيس الوزراء ورئيس مجلس الوزراء والقائد العام للقوات المسلحة والقيادي بحزب الدعوة الشيعي» التي يرميها بوجوه أبناء الشعب، في خطاب اسبوعي متلفز، طويل كالعادة، بالإضافة إلى تصريحاته ومواعظه اليومية، المتلفزة، أيضا، في اجتماعات مع وزراء وقادة احزاب وميليشيات، ملتفين حوله « كالدمى الخرساء لا تعرف معنى الكلمات» كما يصف الشاعر التونسي الراحل منور صمادح. هل اعتذر العبادي من الشعب عن دور حزبه في غزو واحتلال البلد؟ هل اعتذر عن دور أمين حزبه نوري المالكي في غرز الطائفية البشعة، والفساد، واستباحة حياة كل من عارضه، التي جعلت منه مجرم حرب بامتياز حسب العديد من التقارير الحقوقية المحلية والدولية؟

ان إخبار عوائل الجنود البريطانيين القتلى بعدم إمكانية رفع دعوى ضد توني بلير، لأنه محصن قانونيا من المساءلة، قضية تهمنا كعراقيين، لانعكاساتها على امكانية محاسبة المسؤولين، قانونيا، عن غزو العراق، بضمنهم الساسة العراقيون الذين فتحوا الأبواب للغزاة، خاصة، من تسنم الحكم بالوكالة، والقصف بالبراميل المتفجرة بالوكالة، والاعتقال والتعذيب والاغتصاب بالوكالة، على رأسهم قادة حزب الدعوة، الطائفي، الفاسد

مما يجعلنا نتساءل عن البدائل وعما يتوجب علينا عمله إزاء الهراء الحكومي ـ الإعلامي المحلي، المُغلِف للفساد، وأنواع الجرائم الناتجة عن مأسسة الفساد من جهة، وتعدد أنواع « الحصانة» التي يتمتع بها البغاة، محليا ودوليا، والتي تراوح ما بين الحصانة القانونية (توني بلير وبوش مثلا) إلى الدينية ـ الإلهية (عصمة آيات الله وقادة الأحزاب الاسلامية، أدعياء ظل الله على الأرض)؟ التساؤل الثاني هو: كيف نُبعدُ شبح الإحباط واليأس من تحقيق العدالة قانونيا عن الناس، الذين يناضلون من اجل استمرار الحياة بأبسط متطلباتها؟ 

كتبت مرة: الخطوة الأولى هي عدم نسيان جريمة الغزو، والاستمرار بتذكير العالم بما يحدث للعراقيين جراءها. هنا تكمن مسؤولية المثقف والإعلامي والناشط المدني، وهي مسؤولية أخلاقية، تجعل من الصمت تسترا ومشاركة في جريمة ابادة لم تعد تحتمل الصمت، أو الحيادية، أو خلق التبريرات الآنية والتاريخية. فالاحتلال ليس وجهة نظر والكولونيالية، بأشكالها الجديدة، كما شخَص المفكر فرانز فانون، ليست نموذجا للعلاقات الفردية بل هي احتلال لأراضي قوم واضطهاد شعب. انه ليس تصرفا انسانيا. ثانيا: ان سلوك ساسة النظام العراقي، الحالي، ليس إنسانيا ولا أخلاقيا، تتجاوز انتهاكاته وجرائمه حدود ما يمكن تصوره.

حاليا، يقف صُناع النظام العراقي من الإدارة الامريكية والحكومة البريطانية إلى الجمهورية الاسلامية، على مبعدة مسافة، بانتظار ما ستتمخض عنه الشهور، القليلة، المقبلة، من تغيير للأقنعة. وهذا ما يجب رصده، وتوثيقه، وفضحه، والتحريض على تغييره. فلكل نظام تم تصنيعه اجنبيا، مدة صلاحية محددة، تنتهي بوجوب رميه لئلا ينتقل تعفنه إلى الجميع.

٭ كاتبة من العراق

 

 

 

 
الرئيسية || من نحن || الاذاعة الكندية || الصحافة الكندية || اتصل بنا