الرئيسية || من نحن || الاذاعة الكندية || الصحافة الكندية || اتصل بنا

 

جواد بولس كاتب فلسطيني محامي  ناشط في مجال حقوق الانسان  (من كتاب البلاد)

 

مقالات سابقة

القائمة المشتركة:

سيل نزّاز خير من نبع مقطوع

جواد بولس

 

تتوقع معظم استطلاعات الرأي محافظة القائمة المشتركة على قوتها الحالية في البرلمان الإسرائيلي. ويعتبر البعض ذلك إنجازاً، خاصة في ضوء استمرار حملات التهجم عليها من جهة الأحزاب الصهيونية ومؤسسات دعايتها المضادة والموكلة بالتشكيك في شرعية القائمة، وفي مصداقية قادتها، وفي نجاعة مواقفهم لمصلحة ناخبيهم وقضايا المواطنين العرب في إسرائيل.
سيبقى نجاح حملات تلك القوى الصهيونية ضد القائمة المشتركة محدودا وقابلا للدحض وللتفنيد؛ بيد أن استعداءها من قبل مراكز قوى عربية محلية والتهجم عليها، تارة من قبل وكلاء سياسات الدولة الداخليين، وتارة أخرى من قبل جهات لا تؤمن بحاجتنا، كمواطنين في الدولة، للاشتراك في انتخابات البرلمان الصهيوني – سيبقى هو العامل الأكثر خطرا على قوة القائمة وعلى إمكانية بقائها في ميدان العمل البرلماني الإسرائيلي.
لقد جاء تشكيل القائمة المشتركة منذ البداية كمخرج وحيد من مخطط قادة أحزاب اليمين الصهيوني بالقضاء على جميع الأحزاب العربية الناشطة بين المواطنين العرب، عن طريق رفع نسبة الحسم إلى مستوى لا يستطيع أي حزب عربي تجاوزه لوحده، ورغم سوء نية الحكومة الإسرائيلية فقد تبيّن، من باب لا تكرهوا شيئا عساه خيرا لكم، إن قرارها المذكور أتاح عمليا فرصة نادرة لتغيير نمط العمل السياسي القائم، منذ عقود، بين المواطنين العرب والمعتمد على البنى الحزبية التقليدية؛ إذ بات بمقدور قادة الأحزاب ومؤسساتها، الانتقال إلى العمل المشترك من خلال بناء جبهة سياسية عريضة تضم جميع القوى السياسية التي يستطيع قادتها التوافق على برنامج سياسي واضح يستهدف، أولا وأخيرا، التصدي لسياسات الحكومات الإسرائيلية تجاه مواطنيها العرب والوقوف مع شعبنا الفلسطيني الرازح تحت الاحتلال.

عدم الاعتراف بشرعية البرلمان الصهيوني ومقاطعته، من دون استعراض بديل نضالي وطني، لن يضير حكام إسرائيل وسياساتهم؛ بل على العكس تماما

لم تستطع الأحزاب والحركات السياسية بناء القائمة على أسس الشراكة الجبهوية التنظيمية الضرورية؛ فاكتفى قادة مركباتها الأربعة – الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة، حزب التجمع الديمقراطي، الحركة العربية للتغيير والقائمة الإسلامية الموحدة – بالاتفاق على خوض معركة الانتخابات بقائمة واحدة، لا بسبب خوفهم من عتبة الحسم القانونية وحسب، بل استجابة «لإرادة الجماهير» التي كانت في شوق إلى العمل الوحدوي ولمّ الشمل في واقع سياسي خطير ومرير، حسبما صرّح به قادة القائمة قبل تشكيلها، وتباهوا فيه بعد أن حصدت القائمة خمسة عشر مقعدا في انتخابات عام 2015. لم تخفَ عيوب المولود الجديد عن الكثيرين من المتابعين والمراقبين والناشطين السياسيين، فاتّهم بعضهم قادة الأحزاب بالتصرف الانتهازي الذي من شأنه أن يؤدي إلى شلّ العمل الحزبي نهائيا، وإغراق المواطنين في حالة العزوف السياسي المنتشرة بشكل مقلق وواضح بين المواطنين؛ بينما تمنى الآخرون على قادة تلك الأحزاب أن يتصرّفوا بنضوج وبمسؤولية أكبر، من أجل بناء إطار تنظيمي جامع ومتين، يكون في هذه المرحلة، الأداة السياسية العصرية القادرة على تصميم وهندسة مفاهيم نضالية جديدة تتلاءم مع جميع المتغيّرات التي طرأت على مجتمعي الدولة الأساسيين، اليهودي والعربي. لم يحصل هذا، واعتقد أنه لن يحصل رغم انسلاخ القائمة الموحدة الاسلامية عنها؛ فالقائمة المشتركة ولدت وبقيت في غرفة الإنعاش؛ ولا يعكس تردد أزماتها الداخلية، حقيقة كونها وعاء سياسيا غير ناضج لمواجهة واقعنا المستجد، ولا وسيلة غير كافية تنظيميا لمواجهة سياسات الدولة وأمراضنا الاجتماعية الذاتية فحسب، بل هو مؤشر، جديد قديم، ودليل صارخ على بؤس وعقم الحالة السياسية التي يعيشها المواطنون العرب في إسرائيل.
قد يدّعي البعض أن تكرار المعارك الانتخابية في السنوات الاخيرة، بوتائر غير مسبوقة في إسرائيل، شكّل عائقا أمام قادة القائمة المشتركة ومؤسسات أحزابهم، ومنعهم من دراسة تجربتهم وتقييمها بشكل معمق، ومن التوصل إلى خلاصات ومخرجات تمكنهم من تطويرها نحو ما أمّل منها. قد يكون ذلك صحيحا، ولكن واقع تلك الأحزاب البائس وأمراضها المزمنة، تبقى شواهد على عجزها عن تطوير هياكلها وتحديث برامجها السياسية، وهذا يشمل جميع تلك الاحزاب – خاصة ما يدور في دهاليز الجبهة الديمقرطية، وهي أكبر وأعرق هذه الأحزاب – التي لم يشعر قادتها، للأسف، بما سببه ويسببه قصورهم، من نشر أجواء عدمية الانتماء السياسي، وما خلّفته هذه الحالة من محفزات خطيرة ومحبطة، ساعدت على تفكيك اللحمة الاجتماعية داخل مجتمعاتنا، وعلى تنامي مظاهر العنف والتطاول والتحدي، التي بتنا نراها وهي تعبث في أمن مواقعنا وسلامة «قلاعنا» وتفسد ما كنا نعتبره محرما سياسيا ومرفوضا اجتماعيا.
أتمنى أن ينجح قادة الأحزاب الثلاثة في التوصل إلى بناء قائمة مشتركة قوية، فأزمة القائمة المشتركة كما عاشها المواطنون في السنوات الأخيرة، أكّدت بوضوح وعرّت أحد أعراض الأمراض الخبيثة التي تتغلغل في جسد مجتمعاتنا، وهو غياب «مؤسسة القيادة» الوازنة، الراجحة الرأي، صاحبة التجربة والأثر، والمستوثقة من قبل الناس، والمتفانية في تقديم المصلحة العامة على المصالح الشخصية والفئوية. إنها أخطر ما يؤثر في حياتنا؛ وهي الحالة التي أدت، في نهاية المطاف، إلى تقزيم مكانة «لجنة المتابعة العليا» وإلى تشويه وتحييد دور «اللجنة القطرية لرؤساء البلديات والمجالس العربية» وغيرها من التنظيمات التي كانت من المفروض أن تشكل كيان المجتمع المدني القوي والمتين. لن يختلف اثنان على أن السياسات العنصرية الإسرائيلية حاربت، منذ البدايات، جميع محاولات إنشاء المؤسسات القيادية العربية الوطنية، وسعى أصحاب تلك السياسات، بالتالي، لإفشال تلك المؤسسات الرائدة، أو لنزع الشرعية عنها، أو لخلخلتها من الداخل؛ ورغم ما استثمروه عبر التاريخ من مجهود ومغريات، فقد فشلوا ونجح القادة الآباء، في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، بإنشاء «لجنة المتابعة العليا و»اللجنة القطرية لرؤساء البلديات والمجالس العربية»، اللتين تحولتا، إلى جانب سائر المؤسسات المدنية التقدمية والأحزاب والحركات الوطنية، إلى بوصلات هادية وسقوف يحتكم الجميع تحت راياتها ويلتزمون بحدودها، لقد خلقت تلك القيادات فضاءات وطنية صحية ومطعّمة بمضادات قوية كانت تصد كل جسم غريب وتوقفه عند حده. واليوم، كما نرى، خسرنا هذه الفضاءات وأضعنا اليواطر حتى بتنا نتمنى أن ينجح الساسة ببناء «قائمة مشتركة» حتى لو كانت عرجاء ومنقوصة. فعقالنا آمنوا بالحكمة الشعبية «نزازة نازلة ولا نهر مقطوع». ولا يمكننا طبعا أن ننهي الحديث عن المشهد السياسي الحالي من دون أن نتطرق لنداءات مقاطعة الانتخابات؛ سيان إن جاءت النداءات على خلفيات عقائدية، قومية أو إسلامية، أو لأسباب سياسية لم أسبر كنهها ونجاعتها في معظم الحالات.
من الواضح أن الكثيرين ينادون بالمقاطعة عن إيمان بمواقفهم، ويبررونها أمام أنفسهم والغير، برضا وبقناعة كاملين، ولا ينادون بها بسبب معارضتهم لمبدأ الاندماج، كما يسمونه، وحسب، ولا من أجل إقصاء المواطنين العرب عن مؤسسات الدولة إقصاء يحلم به عتاة اليمينيين العنصرين؛ ولكن ستبقى ذرائعهم محض مغامرة سياسية أو وهمية أو مجرد اختيار للأسهل، إلّا اذا زوّدونا بتفاصيل خياراتهم السياسية العملية المعلنة والواضحة، التي من شأنها أن تكون بديلا للنضال البرلماني، مهما كانت نتائجه ومنجزاته محدودة، فالمقاطعة لوحدها واعتماد تكتيكات ردود الفعل الموسمية لن تشكل برامج كفاحات كفيلة بالتصدي لسياسات الحكومة الفاشية المقبلة بنجاعة أكبر مما نحن عليه اليوم.
على من يتخلى عن خيار النضال البرلماني المتاح له طوعيا، أن يواجه جماهيره ببدائله العملية؛ فتحويل جميع الناس إلى مؤمنين مسيسين في حركة دينية سياسية، قد يعدّ إنجازا لقادتها، لكنه لن يفضي إلى القضاء على سياسات إسرائيل القومية العنصرية أو عليها ككيان متسيّد في المنطقة. أولم يعلمنا السلف فوائد بعض القطران وضرورته؟ كذلك فإنّ عدم الاعتراف بشرعية البرلمان الصهيوني ومقاطعته، من دون استعراض بديل نضالي وطني، لن يضير حكام إسرائيل وسياساتهم؛ بل على العكس تماما. لقد قلنا ونكرر إن الشعوب المقهورة عرفت خلال مسيراتها النضالية خيار مقاطعة مؤسسات الدولة الاستعمارية أو العنصرية، وسلكت طرقا نضالية أخرى منها العنيفة ومنها السلمية، مثل أساليب العصيانات المدنية. فهل ينادي قادة التيارات الدينية والقومية إلى جانب مقاطعة الانتخابات بمثل هذه الأساليب؟
لنسمع ونفهم ونناقش..
كاتب فلسطيني

 

 

 

حمّى البحر المتوسط

جواد بولس

 

«هزمتك يا موت الفنون جميعها..» هكذا قال محمود درويش
لم تعد أخبار إلغاء النشاطات الفنية على أنواعها في مدننا وقرانا العربية حدثا يسترعي أي التفات مجتمعي، لا ولا بحدّه الأدنى. وتمرّ هذه الأخبار، على الأغلب، من دون أن تحدث ضجّة أكبر من ضجة سقوط شجرة عالية في غابة بعيدة، لا يسكنها بشر.
من المؤسف أننا كمجتمع ناضل وما زال يناضل من أجل نيل حرّياته الأساسية، ومن ضمنها، تاريخيا، حرية الإبداع والكتابة والإنتاج الفني، قد استسلمنا لظاهرة القمع الخطيرة؛ فما زال أبناء جيلي يتذكرون كيف لاحقت المؤسسة الإسرائيلية الأمنية جمهرة المبدعين المحليين في محاولات لم تنجح، رغم قسوتها، بإخراس أصوات «شعراء الحب والمقاومة»، أو قمع المسرحيين الأوائل، أو إسكات المغنيين الشعبيين، سواء كانوا حداة استنفرت حناجرهم أكف الشباب وحميّتهم دفاعا عن الكرامة والعزة وضد الطغيان، أو كانوا مطربي أفراح يستحضرون الفرح العربي الشقيق ويرقّصون الليل على أغان كتبت أصلا في مديح الأرض والثورة وحب الوطن. كنا مجتمعا يحب الحياة ولا يقدّس الموت وثقافته.
قد يحسب البعض أن التطرق لهذا الموضوع ونحن على أعتاب خوض معركة الانتخابات للكنيست الإسرائيلية هو اجتهاد غير موفق من ناحية التوقيت، وإن كان يُجزي صاحبه أجرا واحدا؛ وقد يفتي غيرهم بأن التعاطي مع الفنون وقمعها ليس بالأمر الملحّ وأمامنا مهام جسام، في طليعتها مواجهة مأساة استشراء العنف في شوارعنا، وتفشي عمليات القتل على خلفياتها المعهودة: فإمّا ثأر موروث، أو عرض مدّعى، أو إجرام مستحدث ومستجلب إلى حواضرنا المنكوبة. لا يستطيع عاقل وحريص أن يقبل بمثل هذين الادعاءين أو ما يشبهما، وأن يترك، بسبب ذلك، قضية قمع الحريات الاجتماعية واضمحلال مساحات الحيّزات العامة ومكانة «ساحات البلد» في تراثنا المجيد؛ فمن يؤمن ويطالب بحريّاته يجب أن يعرف أنها لا تتجزأ؛ ومن يقاوم سياسات قمع الدولة من أجل نيل حرّيته، فالأولى به أن يصونها داخل بيته وفي حاراته وداخل مجتمعاته، وأن يقف في وجه من يحاول سلبها عنوة واكراها، مهما كانت المسمّيات والذرائع. لا يمكن أن نجزّئ حالة الفوضى التي تسود مجتمعاتنا، فهي كلٌّ عضويّ متماسك بمتانة، يغذي طرفُه الواحد طرفَه الآخر؛ كذلك لا يكفي بأن نتمسك بإلقاء كامل المسؤولية على إسرائيل ومؤسساتها. فالدولة مسؤولة من بابي البداهة وواجبها تجاه مواطنيها؛ بيد أنها، كما نعرف وكما نتّهمها بحق، غير معنية بضمان سلامة مجتمعاتنا وغير قادرة على تأمين تلك السلامة. ورغم أهمية ذلك، سأكتب اليوم عن الفرح وعن الرجاء، وسأترك «التنغيص» لمقالات مقبلة؛ فتناول تبادلية العلاقات بين إسرائيل العنصرية وتقصيرها الممنهج بحق مواطنيها العرب، وواجبات مجتمعنا تجاه نفسه، سيبقى موضوعا حيّا، في الوقت الحاضر وفي المستقبل، وعلينا معالجته بجرأة وبمسؤولية تستوجبان تفكيك نقاط اشتباك تلك العلاقة مع عادات وأعراف مجتمعاتنا الاجتماعية المحافظة الموروثة طوعا وابتهالا. لن ننجح بتناول هذه الإشكالية بجدية مؤثرة، من دون أن نخوض بموضوعية في مكانة أنظمة الثأر القبلي والعائلي، التي ما زالت نافذة بيننا منذ تبنتها القبائل العربية قبل «قانون يثرب» وبعده؛ ولا أقلّ منها وجعا جرائم قتل النساء باسم «شرف العائلة والقبيلة» المنتشرة في مواقعنا العربية؛ والسؤال ما علاقة الدولة وتأثيرها في هاتين؟
لن أكتب اليوم عن هذه المواجع، بل سأكتب عن الفن ومبدعيه الذين يحاولون بأدواتهم تحطيم تلك «الشواهد» وحث الناس على الغضب وعلى ألا يستسلموا لليأس، ودعوتهم للثورة على واقعهم البائس. دعاني مطلع شهر نيسان/إبريل المنصرم الكاتب والفنان عفيف شليوط مؤسس ومدير «مسرح الأفق» لحضور مسرحية بعنوان « أنتيغوني تنتفض من جديد»، التي كتبها وأخرجها بنفسه، وعرضت على خشبة مسرح حيفا. تحاكي فكرة هذه المسرحية الأساسية، حكاية أنتيغوني، بطلة مسرحية سوفكليس الخالدة، التي رفضت الانصياع لقرار ملك «كريون» وتحدّته مصرّة على التصدي لشرور الطغاة والمجرمين، من خلال تسليط الضوء على مكانة القانون والحدّ بين حق الحاكم إزاء حق الشعب.

من يؤمن ويطالب بحريّاته يجب أن يعرف أنها لا تتجزأ؛ ومن يقاوم سياسات قمع الدولة من أجل نيل حرّيته، يجب أن يقف في وجه من يحاول سلبها عنوة واكراها

يعتبر لجوء المؤلف عفيف شليوط، لايحاءات المسرحية الإغريقية و»موتيفاتها» مغامرة جريئة لما تتطلبه من إلمام وإحاطة بذلك الموروث المهم؛ فالعودة إلى أدب الإغريق العريق وحبكات مسرحيات كباره، كسوفوكليس، فيها من المخاطرة قسط ومجهود كبيران لاستعراض ممكن لامتزاج الثقافات، لاسيما فيما تركته القديمة من تجارب إنسانية وقيم خالدة.
تطرقت المسرحية إلى أكثر من محور، لامست هموم حياة مجتمعنا، وفي طليعتها قتل «انتيغوني الجليلية»، التي مثلت دورها الممثلة روضة سليمان، بيد شقيقها «دفاعا» منه عمّا يسمّى «بشرف العائلة». تنتفض انتيغوني حيفا على عادات المجتمع البالية، وتسعى من أجل نيل حقوقها، وهي تعرف ما قد يكون الثمن. إنه قتل ككل القتل، فلا شرف فيه، بل انصياع أعمى لربة الظلام الدامس والعالم السفلي؛ هي «كاوس» عند الإغريق القدامى. أما في الثلاثين من شهر تموز/يوليو الفائت، فقد دعتني المخرجة مها الحاج ابنة مدينة الناصرة، لحضور العرض الأول، في البلاد، لفيلمها الجديد «حمّى البحر المتوسط» الذي عرض مؤخرا في مهرجان «كان» السينمائي، ونالت عليه، ضمن مسابقة «نظرة ما»، جائزة أفضل سيناريو. لقد تعرّف العالم على مها الحاج بشكل واسع بعد صدور فيلمها الطويل السابق «أمور شخصية» عام 2016، حيث لفتت من خلاله نظر النقاد والمتابعين، ونالت عنه جائزة «آرشي» في مهرجان فيلادلفيا السينمائي، وجوائز أخرى. لن أفي، في هذه العجالة، حق مها الحاج وإبداعها المتميز، ولا عملها الحالي الفذ، ويكفي، تعبيرا عن تجربتنا، ما شعرنا به حين خرجنا مع نهاية الفيلم، قرابة خمسمئة مشاهد. انسللنا إلى خارج القاعة بخشوع، وكأننا نترك معبدا، معبّئين بمزيج من مشاعر الغبطة والغضب والحزن. لم نحمل داخلنا يأسا ولا مشاعر بالضياع، رغم مأساوية مواضيع الفيلم. كانت علاقة وليد الكاتب المصاب بالاكتئاب الشديد، الممثل عامر حليحل، بجاره جلال، الرجل العابث بالحياة ظاهريا، والمتورط في الخفاء في عالم الإجرام، الممثل أشرف فرح، معقدة وغريبة؛ وقد مرّت بمحطات عديدة وقفنا معهما في جميعها لنتعرف إلى دواخل نفسية الفلسطيني حين يصاب بالاكتئاب وأسبابه، ويبقى محبا لعائلته ولوطنه؛ وانكشفنا، كذلك، على شخصية وقعت ضحية لعالم إجرامي قاس لا يعرف حدودا، كما تعيشه مجتمعاتنا المحلية. حاول جلال أن يغرق وليد في شباك متاهاته، والتحايل، من جهة أخرى، على عبثية واقعه الحقيقي بتتفيهه وامتصاصه، دون أن يعرف، أو ربما عرف، أنه الفريسة، لكنه كان يؤمن «بأن الموت لا يخيف بل هي الحياة التي تخيف». أدّى الممثلون أدوارهم بإقناع وقد تميّز بشكل لافت الممثلان عامر حليحل وأشرف فرح. لقد تعرضت مها الحاج – كاتبة سيناريو الفيلم أيضا – إلى قضايا مهمة يعيشها ويعاني منها المجتمع في حياته اليومية. ولولا حذاقتها المهنية بحبك العسير وبالاخراج، لكنا شاهدنا مقاطع متقطعة مصورة من يوميات مجتمع صغير يمضي أفراده أيامهم بهامشية بائسة عادية، قد تتكرر في مواقع أخرى؛ لكنها، بمهارة المبدع الخلّاق، أجادت جدل ضفائر مرايانا بأسلوب «السهل الممتنع»، فتناولت رزمة من عناوين اجتماعية كبيرة وصهرتها ببوتقة أنيقة حتى تلقيناها، نحن المشاهدين بفرح عظيم. لم تتركنا نتيه عند مفترق ملتبس، ولا نغفل للحظة؛ فعندما سافرت داخل التراب الوطني «سيّلته» في نفوس أبطالها بطبيعية غير مقتحمة وغير مبتذلة، ثم رتقت عليه، ببراعة رسام ملهم، قصصا حقيقية، كعلاقة الرجل بالمرأة ومكانة الدين في حياة الناس ودور المدارس في تنشئة أطفالنا وجمالية جغرافيا بلادنا وغيرها من المشاهد التي جمّعتها بانسيابية ورقّة مرهفة، فظهرت أمامنا كرسم بديع، أجمل من تلك «الجرة اليونانية». لن استطرد في رواية أحداث الفيلم كيلا أفسد على القراء متعة مشاهدته عندما سيتاح للجمهور الواسع؛ لكنني سأقفل مقالتي بما كتبته لمها الحاج مباشرة بعد خروجي من صالة العرض في حيفا، واستميحها عذرا لأنني أفعل. قلت «أيّتها المها. شكرا على دعوتنا لحضور العرض. ما زلت أحاول استيعاب روعة ما شاهدناه قبل أن أقول لك ما أرغب أن أقول لك. خرجت من الصالة مع شعور باعتزاز شخصي ومزهوّا كأنني صاحب هذا الإنجاز المشرّف، فلك الشكر. حاولت أن أضبط مشاعري أمام الحضور ففضحني قلبي، ووشت عيناي بما حبسته في صدري، فلك الشكر. فرحنا رغم الغصة، تماما كما يجدر بالإبداع أن يعمل بالنفس البشرية، فلك الشكر. فدومي للعطاء هبة وسيري على دروب الشمس والنجوم، وعانقي المدى هناك عند حفاف الورد والندى.. نحبك».
كدت انهي مقالتي عندما وقعت عيناي على خبرين مزعجين متزامنين، الأول يفيد بأن لجنة الطاعة في جامعة بن غوريون في بئر السبع ستنظر في شكوى ضد الطالبة العربية «وطن ماضي» بسبب قراءتها قصيدة لمحمود درويش خلال يوم ذكرى النكبة الفلسطينية الأخيرة؛ والثاني يفيد بأن بلدية مدينة عربية قررت منع إقامة حفل للفنان تامر نفار، ابن مدينة اللد، بسبب مضامين أغانيه التي لا تتوافق وذائقة المجتمعات المحافظة، حسبما جاء في الخبر.
قرأت؛ حزنت وعدت لاحضان «أنتيغوني «و»حمّى البحر المتوسط» وأملي…
كاتب فلسطيني

 

وقفة عابرة

على عتبة الكنيست

جواد بولس

 

لقد حسمت، على ما يبدو، القائمة الإسلامية الموحّدة قرارها بخوض الانتخابات المقبلة للكنيست الإسرائيلية، لوحدها، من دون أن تحاول فحص إمكانية وجود أية فرصة للانضمام إلى تركيبة القائمة المشتركة؛ وهما القائمتان العربيتان الوحيدتان اللتان ستخوضان الانتخابات، مع حظوظ واقعية لعبور عتبة الحسم والفوز بأربعة أعضاء كنيست، في حالة القائمة الموحدة، وبأكثر من ذلك في حالة القائمة المشتركة. لقد كان هذا القرار متوقعا ومتوافقا مع ما كان يصرح به رئيس هذه القائمة الدكتور منصور عبّاس، وهو مدعوم من قبل مجلس شورى الحركة الإسلامية الحاضنة الشرعية للقائمة وراعيتها.
بالمقابل ما زال أقطاب القائمة المشتركة، وهم الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة، وحزب التجمع، والحركة العربية للتغيير، يتباحثون حول مصير قائمتهم وشكلها، في أجواء تتجاذبها نزعات المناورة حينا، والتطمينات حينا آخر، وتأكيدهم على أنهم لا يتعاطون مع قضية محاصصة المقاعد في هذه المرحلة، بل إنهم يحاولون التوصل إلى أفضل التفاهمات حول أمور أكثر جوهرية، من شأنها أن ترضي جمهور الناخبين وتقنعهم بضرورة المشاركة في عملية الانتخابات ودعم قائمتهم.

سيبقى التحدي الكبير في وجه القائمتين، الاسلامية الموحدة والقائمة المشتركة، هو إقناع المقاطعين بضرورة اشتراكهم في الانتخابات

على الرغم من أن الصورة التي تتحرك أمامنا على مسرح السياسة الإسرائيلية تبدو مشابهة لتلك التي كانت موجودة قبل عام، وفي جميع الجولات الانتخابية التي تكررت منذ ثلاثة أعوام؛ إلا أنني اعتقد أننا نقف أمام مشهد مغاير، وفي مرحلة مصيرية بكل ما يتعلق بطبيعة الأحزاب اليهودية وهوياتها وبرامجها السياسية، التي سيعملون، من داخل الكنيست، على تطبيقها في المستقبل القريب؛ ويكفي، كي نفهم خطورة ما نحن مقدمون عليه، أن نقرأ عن قوة حزب سيجمع بين النائبين اليمينيين المتطرفين بن جبير وسموطريتش، وتوقع استطلاعات الرأي بأن يحصلا على ثلاثة عشر مقعداً. أمّا على ساحات المجتمع العربي فستكون هذه الانتخابات حاسمة كذلك بالنسبة للقائمتين المشاركتين ولحزب الممتنعين العازفين عن المشاركة في العملية الانتخابية. فالحركة الإسلامية ستخوض أهم امتحاناتها وتحدياتها السياسية حين ستطلب مجدداً من المواطنين منح نهجها الذي اختارته في الكنيست السابقة، الثقة والدعم وتمكينها من عبور نسبة الحسم؛ وهذا سيعني، كما صرّح قادتها، مضيّها في ترسيخ مفهومها الخلافي لمعنى المواطنة الإسرائيلية، وانضمامها مرة أخرى للائتلاف الحكومي، إلا إذا لن يقبلها المؤتلفون في الحكومة الجديدة. وهذا احتمال وارد في حالة انتصار الأحزاب اليمينية الفاشية، وتوليها مهمة تركيب الحكومة المقبلة، وهي تعتبر الدكتور منصور عباس عدواً متساوياً مع سائر زملائه النواب وجميع المواطنين العرب في إسرائيل. ومن جهة أخرى قد تكون هذه الجولة الانتخابية هي آخر فرص القائمة المشتركة لتطوير مغازي تجربتها، والتعاطي بمسؤولية مع الثقة التي منحها لها الناخبون، وتحويل وحدة مركباتها من مجرد وسيلة تكتيكية تضمن نجاح الثلاثة أطراف في الانتخابات، إلى صيغة عمل سياسي أكثر عمقاً قادر على تأطير المجتمعات في قرانا ومدننا العربية، وراء حالة «جبهوية» جامعة وقادرة على النمو، وعلى استنفار رغبات المواطنين السياسية واستعادتها للانخراط الفاعل بشكل إيجابي وصحيح ومؤثر. وعلى الرغم مما تواجهه القائمة المشتركة من انتقادات، تكون صحيحة أحياناً، ومن تهجمات مغرضة على الأغلب، نستطيع تسجيل عدة ملاحظات إيجابية حول نشاط وأداء أعضائها داخل الكنيست وخارجها؛ فمشاهد تصديهم لنواب اليمين العنصريين بثبات وبإصرار، ومواجهتهم للتشريعات العنصرية بكرامة وبعنفوان أثبت أن ساحة الكنيست تشكل أحد ميادين الصراع المهمة وحلبة نضالية يجب استغلالها والبقاء فيها. لا يختلف عاقلان على أن العمل السياسي الوطني في الظروف السياسية الهمجية التي تسود شوارع وفضاءات إسرائيل وفي الكنيست تحديداً، أصبح معقداً وخطيرا وسيزيفياً إلى حد بعيد؛ ومع ذلك رأينا كيف دافع نواب المشتركة عن معتقداتهم السياسية، من دون مهادنة أو تفريط، وحاولوا الوجود في معظم نقاط التماس، ومع معظم ضحايا القرارات الرسمية والقضائية الجائرة. لست ناطقا باسم القائمة المشتركة ولا باسم أعضائها، لكنني أحاول، ونحن على أعتاب معركة طاحنة، أن أنصف ما فعله نوابها في ظروف مستحيلة وحرصوا على تمثيل ناخبيهم بأمانة وبإخلاص.
سيبقى التحدي الكبير في وجه القائمتين، الاسلامية الموحدة والقائمة المشتركة، هو إقناع المقاطعين بضرورة اشتراكهم في الانتخابات؛ مع أنني اعتقد أن المنافسة بينهما قد تكون عاملا في زيادة نسبة المصوتين، خاصة إذا استطاعت القائمتان عرض الفوارق المفاهيمية العميقة بينهما، ومعنى حسم المواطنين بين النهجين، وتأثير ذلك في وجودنا في الدولة مستقبلاً. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن اللجوء إلى لغة التشهير الشخصي والتخوينات المباشرة، بين قادة ومصوتي القائمتين، لا يسعف الحالة، ولا يساعد على تحقيق هدف القائمتين بإقناع الناس للذهاب إلى الصناديق، بخلاف المحاججة المطلوبة وانتقاد المواقف الشرعية والواجب. يجب على مركبات القائمة المشتركة إنهاء مباحثاتهم الداخلية بسرعة قصوى وعرض قائمتهم وبرنامجها السياسي على الناخبين؛ فضرورة إشاعة أجواء الوحدة والوضوح السياسي ستشكل عاملا في إقناع مجموعات كبيرة من الناخبين المترددين أو المستائين، وإن كان هذا هو مطلب الساعة، فالتوصل إلى حالات رأب الصدع ولم الشمل داخل مؤسسات الأحزاب نفسها لا يقل أهمية عن ذلك.
نحن أمام خيارات صعبة؛ وقد تكون هذه آخر تشكيلة لكنيست إسرائيل، حيث يستطيع فيها النائب أحمد الطيبي مثلًا، أو أحد زملائه في القائمة المشتركة، بصفته رئيس جلسة، أن يأمر حرس الكنيست بطرد وزير عنصري يهودي من منصة الخطابة وإخراجه بالقوة من القاعة؛ أو أن يصرخ النائب أيمن عودة أو سامي أبو شحادة في وجه النواب الفاشيين بكل صرامة وحزم وعزة وكرامة. قد تكون هذه المرة الأخيرة التي سيتسنى فيها للمواطنين العرب انتخاب ممثلي هذه الأحزاب والحركات السياسية والدينية بشكل حر ومباشر، وللتحقق مما أقوله أرجو أن يسمع ويدقق الجميع بما يصرح به قادة تلك المجموعات الفاشية، وما تتوعد أن تفعله، مع أعداء الدولة، من داخل الكنيست وخارجها. نحن مليونا مواطن عربي في إسرائيل، ونملك خيارات نضالية قليلة، معظمها صعب ومكلف، خاصة في الظروف التي تواجهنا وتعيشها مجتمعاتنا المحلية، نتيجة للواقع السياسي الخطير داخل إسرائيل، والذي يحيطنا داخل الدول الشقيقة أو تلك البعيدة عن أحلامنا وهواجسنا. إنها فرصتنا الحاضرة، فخيار النضال السياسي البرلماني هو أحد هذه الخيارات وأكثرها إتاحة فيجب ألا نتنازل عنه وألا نهمله.
كاتب فلسطيني

 

 

ملاحظتان عن زيارة بايدن

 

جواد بولس

 

سوف ترى هذه المقالة النور أثناء وجود الرئيس الأمريكي على أرض فلسطينية محتلة وقبل أن ينتقل لمحطة جولته الأخيرة في المملكة العربية السعودية. لن يتوقف سيل التحليلات والتعقيبات التي يحاول أصحابها فهم دوافع الإدارة الأمريكية من وراء هذه الزيارة، ولا ماهية أهدافها المحددة؛ بيد أن معظم الذين تطرّقوا إليها أشاروا إلى أنها تأتي على خلفية تدهور الحالة الاقتصادية الأمريكية وانعكاساتها على حياة المواطنين الأمريكيين في مجالات الطاقة والبطالة وتخفيض قيمة الدولار؛ وأن الهدف الرئيسي، أو ربما الوحيد منها، سيعقد حول خصور صهاريج نفط حكام المملكة السعودية، وفي مدى استعدادهم لمساعدة إدارة بايدن، التي بمفهوم معين، تأتيهم صاغرة، اذا ما تذكرنا مواقف هذه الادارة تجاه ولي العهد السعودي في أعقاب مقتل الصحافي جمال خاشقجي. في مثل هذه الحالة تكون تعريجة الرئيس بايدن على إسرائيل وفلسطين مجرد غطاء دبلوماسي تكتيكي، من شأنه أن يبرر تراجعه عن موقفه الأخلاقي المعلن بعد اغتيال خاشقجي، والمتمسك به أمام حزبه وشعبه والعالم طيلة المدة المنصرمة منذئذ.
أمّا على الساحة الإسرائيلية فسيرصد مردود الزيارة السياسي الفوري لصالح معسكر رئيس الحكومة الحالي يائير لبيد، ومن يُسَمّون، في قاموس السياسة الحزبية الحالي، قوى «المركز واليسار الصهيوني»، علاوة على ما قد تفضي إليه من اتفاقيات تعاون تجارية وصناعية، ستعزز الوشائج المتينة القائمة بين النخب الحاكمة والمستفيدة في الدولتين، خاصة في مجالات الصناعات الحربية والهايتك والسايبر.

التجاذب بين ما مضى وما سوف يكون لن يحسم إلا وفق إرادات الفلسطينيين وإيمانهم بأن البقاء لصناع الحياة وأن صاحب الحق أدوم والمقاوم من أجله أقوى

لم أكن أنوي التطرق لتفاصيل هذه الزيارة، حيث ما زالت تداعياتها في أوجها؛ إلا أنني ارتأيت تسجيل ملاحظتين عابرتين لهما علاقة مباشرة بالقضية الفلسطينية، وبنا، نحن المواطنين العرب في إسرائيل. فعلى الرغم من إجماع معظم من كتبوا على أن بايدن وإدارته لم يولوا القضية الفلسطينية أية رعاية جدية، قبل وخلال هذه الزيارة، وأن كل ما فعلوه وصرّحوا به لا يتعدى كونه ضريبة كلامية وحسب، وحتى لو كان هذا الكلام صحيحا إلى حد بعيد، فإنني سأختلف، في هذه العجالة، مع هؤلاء، وسألجأ إلى حكمة المتشائل الفلسطيني، وقناعته بأن التجاذب بين ما مضى وما سوف يكون لن يحسم إلا وفق إرادات الفلسطينيين وإيمانهم بأن البقاء لصناع الحياة وأن صاحب الحق أدوم والمقاوم من أجله أقوى. أعرف أن الظلمة حولنا خانقة، لكنني أعرف أيضا أن الناس في بلادنا بحاجة إلى جرعة أمل، وإلى حزمة نور تفج عتمة أرواحهم؛ فدعوني، من باب التمني، أرى أن زيارة بايدن لمستشفى المطلع في القدس الشرقية (وبعدها الانتقال لمقابلة الرئيس محمود عباس في مدينة بيت لحم) قد تعني، في مآلات مستقبلية، تأكيد الموقف الدولي القاضي بكون القدس الشرقية أرضا محتلة، خاصة إذا أسقطنا معاني هذه «القفزة» شرقا، على إعلان بايدن حول موقف دولته بشأن «حل الدولتين»، الذي يبقى حسب قوله «الطريق الأفضل لتحقيق السلام والحرية والازدهار والديمقراطية للإسرائيليين والفلسطينيين»؛ مع إنني لن أنسى، بالطبع، ما أضافه في هذا السياق، لافتا انتباهنا كيلا ننسى، ومؤكدا على أنه يعرف «ان ذلك لن يحصل في المدى القريب»! كم نحن بحاجة لروح ذلك المتشائل كي لا نهزم.
لقد تعمّد معظم المتحدثين الاسرائيليين الرسميين في خطاباتهم الترحيبية القصيرة، في يوم الزيارة الأول، العودة إلى «التوراة» بما تؤكده، حسب جميعهم، من متانة العلاقة بين شعب إسرائيل وأرضه والتزام الأمريكيين وإداراتهم بأمن وسلامة وقوة إسرائيل وشعبها. وعلى الرغم من وضوح جميع ما قيل وصحته في الوقت الحاضر، نجد أن بعض المعلّقين والمحللين الإسرائيليين آثروا، في خضم مشاعر النشوة الإسرائيلية، تذكير متابعيهم وقرّائهم بتشخيص مغاير يشي بوجود بدايات مأزق في ديمومة هذه «الزيجة الكاثوليكية» وببروز أصوات معارضة لها، سواء داخل حزب بايدن نفسه، أو في محافل أمريكية كثيرة أخرى، ومنها رؤساء عدة كنائس أمريكية (كان آخرها الكنيسة المشيخية المهمة) بدأت تتنصل من «قدسية» تلك العلاقة التاريخية، وطفقت تتحدث باسم الحق الفلسطيني الإنساني، وضد الاضطهاد الإسرائيلي للفلسطينيين. إنها قضية طويلة ومعقّدة تستحق العناية الخاصة والفائقة. وقد أشرت في الماضي إلى ضرورة إقامة جسم فلسطيني مكوّن من خبراء متخصصين في دراسة ومتابعة علاقات الكنائس بالقضية الفلسطينية، بدءا من الفاتيكان ومرورا بأمريكا وغيرها من الدول التي سمعنا من كنائس كثيرة فيها مواقف داعمة ومؤثرة لصالح القضية الفلسطينية وحقوق الفلسطينيين المسلوبة. أمّا عن علاقتنا، نحن عرب الداخل، بهذه الزيارة فقد لفت انتباهي خبر أفاد بأنه من المتوقع أن تحرز زيارة بايدن للسعودية اتفاقا يسمح بموجبه للحجاج المسلمين الإسرائيليين بالسفر إلى السعودية من مطار بن غوريون إلى جدة مباشرة. وهي خطوة ستؤكد عمليا سلامة مراسيم التطبيع واكتماله بين المملكة السعودية وإسرائيل، التي تكون قد اهتمت بتمثيل مصالح ما يقارب المليونين من مواطنيها العرب. لن نخوض في هذه المسألة قبل حدوثها؛ مع أن البعض كانوا قد أثاروا في الماضي حساسية قضية اشتباك تحريم «التطبيع» مع تأدية فريضة الحج، في حالة المواطن الإسرائيلي المسلم؛ خاصة عندما قورب بين هذه الحالة ومنع الأقباط المصريين، أو غيرهم من مسيحيي الدول العربية، من تأدية مناسك الحجيج إلى كنائسهم المقدسة: المهد والقيامة والبشارة وغيرها.
قد نكون في عروة قضية جانبية وهامشية؛ ولكن، إن كان التفات مهندسي السياسة الإسرائيلية إلى جزئية تسهيل مراسم الحج، يدل على أنهم يخططون عمدا، في حالتنا، كي يصبح المواطنون المسلمون في إسرائيل جزءا من الرزمة السياسية الشرق أوسطية العامة، ومشاركين في عملية التطبيع التي يسعون إلى ترسيخها مع النظام في المملكة العربية السعودية، فلماذا لا نستغل هذه «المكيدة» لإحراج حكام إسرائيل وحلفائها، السعودية وأمريكا وجميع الأنظمة المشاركة معهم، ونتوجه إلى جميعهم، كأقلية قومية تطالب بحقوقها، ونحاول توريط الإدارة الأمريكية مع الحكومة الاسرائيلية، في عرض مطالبنا المواطنية التي تتعدى حق المواطنين المسلمين بقضاء فريضة الحج، هذا على افتراض أن هذا الحق يعلو على فرض تحريم التطبيع، كما كان الوضع عليه منذ عام 1948 حتى عام 1978.
أعرف أن موقف بعض الأحزاب السياسية والحركات الدينية تحرّم التواصل مع الإدارات الأمريكية الكافرة، بالنسبة لبعضها، والمعادية لحقوق الشعوب ومصالحها؛ وقد تكون التجارب التي شاهدناها وعشناها في العقود الماضية أفضل برهان على صحة هذا الموقف؛ علما بأنه تاريخيا كانت لتلك الشعوب، أو الأقليات المضطهدة، وبضمنها الشعب الفلسطيني ومنظمة تحريره، ملاذات آمنة يلجأون إليها كي يضمنوا قسطًا من توازن القوى ويتجنبوا الهزائم. لن أستعرض محطات سقوط الأنظمة والمجتمعات منذ نهاية ثمانينيات القرن المنصرم لغاية أيامنا، والتي تخطت فيها أنظمة كثيرة في العالم، الموحّد وغير الموحّد، محاذير الحديث عن التطبيع مع إسرائيل، وشرعنوا بدله بناء التحالفات معها من النخاع للنخاع. في مثل هذا الواقع، الذي تضمحل فيه خياراتنا النضالية وتزداد أوضاعنا سوءا يوما بعد يوم، أنا أسأل: لماذا تعجز قياداتنا عن التفكير في وسائل مبتكرة جديدة وخارجة عن المألوف وعن بعض التابوهات الصدئة؟ ماذا لو أعدّت هذه القيادات ورقة «عرضحال» وقدمتها لبايدن خلال زيارته وهي شاملة لحقوقنا المسلوبة ولممارسات حكومات إسرائيل المتعاقبة ولسياسات القمع والاضطهاد العنصري الذي مورس ويمارس ضدنا، خاصة أننا نتوقع تفاقم هذه الأوضاع بعد الانتخابات المقبلة، رغم زيارة بايدن وإمكانية تجييرها لصالح معسكر «المركز واليسار الصهيوني». ماذا لو جرّبنا وحاولنا التأثير في أنظمة أثبتت انزياحها لصالح إسرائيل، خاصة في وضع صارت فيه معظم أنظمة العالم قريبة من إسرائيل ومن أمريكا.
إنها مجرد أفكار حضرتني من وحي واقع عبثي ومأزوم. كنت قادرا على لعن الظلام، لكنني حاولت أن أشعل شمعة في زمن كله ليل وصحراء ورصاص وموت.
كاتب فلسطيني

 

 

 

هواجس أوّلية

قبل معركة ساخنة

جواد بولس

 

يتأهب المجتمع العربي داخل إسرائيل لخوض معركة الانتخابات العامة المقبلة، وهو يعيش حالة من الفوضى السياسية المحبطة، ويعاني من عدة مشاكل اجتماعية مستفحلة، في طليعتها، طبعا، استشراس مظاهر العنف والقتل في معظم قرانا ومدننا العربية؛ وليس أقل منها خطورةً تلك التصدعات البارزة في الهوية الجمعية، وتناثر مشاعر انتماء المواطنين العرب بين مرجعيات متنافرة وولاءات متعددة ومختلفة.
لا أعتقد أن التصويت على حل الكنيست فاجأ المنخرطين في اللعبة السياسية البرلمانية، أو مَن توقعوا، منذ اليوم الأول لإقامة حكومة الرأسين، نفتالي بينيت ويائير لبيد، حتمية فشلها، واستحالة صمودها في الواقع الإسرائيلي المتأزّم.
ورغم ما بدا جليّاً منذ أكثر من عام، لم تسْعَ الأحزاب والحركات والمؤسسات الناشطة داخل المجتمعات العربية، إلى استشراف ما يتوجب فعله مباشرة بعد سقوط الحكومة، وكيف سيواجهون المرحلة المقبلة.
قد يبرر البعض أسباب هذا الشلل الفكري والتنظيمي، بعدم حصول أي متغيّرات على الحالة الإسرائيلية العامة، فما سيكون هو ما كان؛ وليس مطلوب منا ، نحن العرب، إلا أن نعيد «هندمة» صفوفنا التي كانت، ثم نمضي بها نحو مستقبلنا المجهول. فعلى أقطاب «القائمة المشتركة» أن يجدوا، مرّة أخرى، معادلة أرخميدس الساحرة، التي ستسعفهم في تخطي مأزق المحاصصة المزمن، ويزفّوا ، بعد ذلك، بشراهم لأبناء الشعب، ويهيبون بهم، باسم الوحدة والمثابرة، للخروج إلى صناديق الاقتراع والتصويت لقائمتهم. أمّا مجلس شورى الحركة الإسلامية فسيلتئم، مرات ومرات، وسيعصف أعضاؤه بأفكارهم، حتى ينجحوا بتذليل جميع العقبات الفقهية ويفكّكوا معظم التساؤلات الشرعية، ويشهروا فتواهم القاضية بضرورة خوض المعركة المقبلة والدخول، من أجل مصلحة الأمة، إلى الكنيست ومنها إلى حكومة إسرائيل، داعين السماء ألا يكون الحاخام دروكمان من عرّابي الحكومة المقبلة، فهو فيما قرأنا، لا يثق بالعرب، سواء كانوا من « أيمن» أو من «عبّاس»، حتى لو أغرقه العباس بالعسل ووعده «بالقصب». من المستحيل طبعاً أن يوافق عاقل على مثل هذا التشخيص والتسويغ؛ فحالة الشلل الفكري والتكلس التنظيمي مستأصلة منذ سنوات، داخل هياكل الأحزاب والحركات والمؤسسات السياسية الفاعلة بيننا في إسرائيل؛ بينما هي حالة من الجمود العقائدي الملازم لبعض الحركات الإسلامية السياسية الناشطة في شرقنا. فشق الحركة الإسلامية الشمالية سيتمسك أكثر وأكثر بموقفه الداعي لمقاطعة الانتخابات، وسيعزز هذه المرة، حججه التاريخية المعروفة، بما يصفونه انحرافاً خطيراً مارسته، باسم الانتماء الإسلامي، الحركة الإسلامية الجنوبية حين كانت ترتمي في حضن أعداء الأمة؛ وبالمقابل ستواجه الحركة الإسلامية الجنوبية هذه الانتقادات والهجوم بسيولة فكرية إسلاموية معهودة، شاهدنا مثلها في تاريخ الصراعات الحديثة والقديمة، وسيتسلّح قادة هذا الشق، في سبيل تسويق مفاهيمهم الذرائعية، وتحليل ححجهم النفعية، بإسنادات فقهية من إنتاج شيوخ هذه الحركة، كما فعلوا في السنة المنصرمة. ما زال من المبكر تناول خريطة الأحزاب العربية واليهودية التي ستخوض الجولة الانتخابية المقبلة؛ لكنني رغم ذلك، أستطيع أن أتوقع صعودا في قوة تيّارين يكملان بعضهما بعضاً، من حيث التأثير على نسبة التصويت للأحزاب العربية:

سنواجه معركة انتخابات قد تمحق نتائجها كثيرا من الروابط والمفاهيم القديمة التي كانت تعرّف وتحدد طبيعة علاقاتنا مع الدولة، وستفرض علينا، تحدّيات لم نشهدها من قبل

الأول هو تيار الداعين إلى مقاطعة الانتخابات. لقد قلنا في الماضي عن هذا التيار، ونكرر اليوم إنه لا يوجد مسح علمي ودقيق لدوافع الجهات الداعية إلى مقاطعة الانتخابات؛ لكننا نستطيع، من باب التكهن الحذر والتفرس في التجارب السابقة، أن نفترض أن الفئة الأولى والأكبر هي تلك التي تلتزم بموقف عقائدي، شخصي أو حركي، على اختلاف مظلاته، مثل أتباع «الحركة الإسلامية الشمالية»، أو أتباع حركات قومية لا تؤمن بشرعية نضال المواطنين العرب في البرلمان الصهيوني – وقد برز من بينهم تاريخياً أتباع «حركة أبناء البلد» على تفرعاتها – أو الناشطون في «الحراكات الشعبية» التي بدأنا مؤخراً نلمس تأثيرها المحدود في بعض المواقع بين أوساط شبابية، ثم إلى جانبهم سنجد مجموعات من المقاطعين الآخذة أعدادهم بالتنامي، بعد أن أصابهم السأم من الحالة السياسية العربية، فقرروا العزوف والابتعاد عن «ساحة البلد»، خاصة أنّ تكرار جولات الانتخابات لم يفض لأي مخرج حاسم في المشهد السياسي العام، ولا لأي تغيير جوهري في البنى السياسية والمؤسساتية العربية. وقد لا يضير إن أضفنا إلى جميع هؤلاء مجموعات صغيرة، لكن مؤثرة، من الحزبيين «الزعلانين» والمحتجين على تنظيماتهم، أو غيرهم من المدمنين على الرفض العبثيين والمزايدين.
أما التيار الثاني الذي تتنامى قواه ومكانته في قرانا ومدننا العربية، فهو ذلك الذي نجحت «قياداته» المحلية وأوصياؤهم في إشاعة أجواء العدمية القومية، وتتفيه الحاجة لحرص المجتمعات على صيانة هويتهم الجمعية، ونجحوا كذلك بالتحريض على شرعية القيادات والمؤسسات التاريخية، وعلى دورها في رسم معادلة التوازن السليم بين المواطنة والوطنية وتصويب بوصلة المواجهة الرئيسية ضد سياسات الاضطهاد والقمع التي مارستها، وما زالت تمارسها الحكومات الإسرائيلية؛ وقد يكون في طليعة هذا التيار، رؤساء بعض البلديات والمجالس المحلية، وبعض كبار رؤوس الأموال، وبعض الشرائح الاجتماعية المنتعشة بفضل سياسة حكومة إسرائيل المقصودة، وغيرهم كثيرون.
لن تكفي هذه العجالة كي نعالج دوري هذين التيارين وما قد يحرزانه في المستقبل القريب، وكيف تتفاعل المؤسسة الإسرائيلية إزاءهما؛ لكن من الغباء ألا نرى كيف يتغذيان ويستقويان داخل مجتمعاتنا، بسبب ضعف حالة الأحزاب والحركات السياسية التقليدية، التي، كما قلنا، لم تجر هيئاتها أي مراجعة جدية ومسؤولة، ولم تتخذ أي خلاصات أو عبر، على الرغم من وضوح الانزلاق داخل مجتمعاتنا، ورغم سقوط القلاع وخسارة معظم الكوابح السياسية والهوياتية والقيمية. ليست الأحزاب والأطر السياسية وحدها المسؤولة عما وصلنا إليه من حضيض؛ فمؤسسات المجتمع المدني وجمعياته والنخب التي تسيّدت على فضاءاته، كان لها دور مركزي في «تعويم» الحالة النضالية وزجها في «غرف انعاش» وهمية وفي «عوالم افتراضية» لم يستفد من معظمها مجتمعنا، بل بقيت عوائدها عليه محدودة، في حين استفادت منها كوادر تلك المؤسسات. سنواجه معركة انتخابات شرسة قد تمحق نتائجها كثيراٍ من الروابط والمفاهيم القديمة التي كانت تعرّف وتحدد طبيعة علاقاتنا مع الدولة، وستفرض علينا، إن تحققت، تحدّيات لم نشهدها من قبل. لا أعرف كيف سنخرج من هذا المرجل سالمين، خاصة إذا بقينا عالقين بين فكوك ثلاث معضلات رئيسية ذات علاقات متبادلة، تؤثر جميعها في مستقبلنا وفي ظروف حياتنا؛ فالعنف والإجرام المنظم المستشريان داخل مجتمعاتنا، والخوف الذي يسببانه بين المواطنين من جهة، وضعف الأحزاب السياسية والمؤسسات المدنية وغياب دورها في تأطير وحماية المجتمع من جهة ثانية، وأهمية المشاركة في العملية الانتخابية بكونها ممارسة لحقنا الأساسي في المواطنة المتساوية، خاصة بعدم وجود بديل كفاحي أكثر شمولية وواقعية لها، هي قضايا مرتبطة عضوياً ببعضها بعضا، وعلى من يهمه مصير وسلامة مجتمعاتنا أن يواجهها بمسؤولية وحزم، ومن دون رياء ولا وجل.
سأتطرق إلى هذه الموضوعات في مقالات مقبلة؛ لكنني أود، من باب الحرص، أن أؤكد، أن للمواطن حقاً في مقاطعة الانتخابات، مع أنني أرى أن واجب الفرد المواطني الأساسي ووظيفته الاجتماعية والسياسية الاحتجاجية يلزمانه بالمشاركة في الانتخابات؛ أقول ذلك وأعرف أن إسرائيل ما زالت، منذ يومها الأول ولغاية الآن، تحاول إقصاءنا مرّة، وابتلاعنا حيناً، وتفتيتنا أحياناً، وأعرف أيضا أننا لن ننتصر على هذه السياسة والممارسات «بنضالنا» في ساحة البرلمان لوحده؛ لكنني، رغم ذلك، أجزم بأن أوضاعنا ستسوء أضعافًا مضاعفة إذا ما حملنا بأنفسنا «صحيفة المتلمس» – وفيها حتفنا – ونزحنا عن هذه الساحة، التي هي ساحتنا.
كاتب فلسطيني

 

 

غافلون على رصيف

معركة إسرائيلية جديدة

جواد بولس

 

رغم جميع محاولات المحافظة على استمرار عمل حكومة الرأسين، نفتالي بينت ويئير لبيد، لم ينجح أقطابها بمنع سقوطها، تماما كما توقع لها الكثيرون منذ اليوم الأول لولادتها.
لن تكون مهمة البحث عن أسباب فشلها صعبة؛ ويكفي، من أجل ذلك، إلقاء نظرة خاطفة على التنافرات السياسية الجوهرية والعقائدية القائمة بين جميع مركباتها الحزبية، مع التأكيد على ضرورة استثناء وجود القائمة الإسلامية الموحّدة ضمن تلك التناقضات، لأنها، وفق تصريحات قادتها منذ انضمامهم للحكومة وحتى يومنا هذا، باقية في الإئتلاف الحكومي، رغم كل التعقيدات والعقبات، ومستعدة لدخول أي إئتلاف حكومي مقبل.
من الصعب أن نتكهن ماذا سيتمخض عن هذه الأزمة المستمرة منذ سنوات وكيف ستكون الخريطة الحزبية السياسية الإسرائيلية بعد جولة الانتخابات المقبلة؛ بيد أننا نستطيع أن نجزم بأن جنوح المجتمع اليهودي نحو اليمينية الأصولية الدينية الصهيونية، سوف يتعزز بشكل واضح، مقابل تقهقر مكانة ما كان يسمى تاريخيا بأحزاب المركز، واختفاء أحزاب اليسار الصهيوني التقليدية. ستحاول الأحزاب حاليا استنفاد جميع المناورات من أجل المحافظة على هذه الحكومة، أو تشكيل واحدة جديدة من دون الذهاب إلى صناديق الاقتراع؛ لكنني اعتقد بأننا سنواجه المعركة الانتخابية قريبا، وسنسمع خلالها الأصوات نفسها الداعية إلى مقاطعتها، من جهة وفي مقابلها سينشط دعاة الانخراط في الأحزاب الصهيونية بحجة ما تؤمّنه هذه الخطوة من عوائد مادية على «مجتمعاتنا الفقيرة» بعكس الشعارات «الفارغة» التي تسوّقها الأحزاب العربية وقياداتها. ومن المؤكد أن تخوض القائمة الموحدة الاسلامية الانتخابات المقبلة بناء على رؤيتها وتبنيها للنهج الذرائعي الراسخ والنفعي المعلن، وقد تُعزّز صفوفها باستجلاب شخصية جديدة بدل النائب مازن غنايم، ابن الحركة القومية سابقا، الذي لن يترشح معها، كما أعلن في الأخبار. لا أعرف إذا كانت القائمة المشتركة ستخوض المعركة المقبلة بتشكيلتها الحالية نفسها، أو أنها سوف تجري تعديلات عليها؛ علما بأن ضعف قواعد مركباتها الثلاثة معروفة للجميع، مع الإقرار بأن الجبهة الديمقراطية للسلام تبقى أقواها من دون منازع.

رغم أننا نشكل خمس عدد سكان الدولة، ستكون المعركة الانتخابية المقبلة يهودية – يهودية؛ وستحسِم نتائجها شكل الدولة العتيدة وطبيعة نظام الحكم فيها

على الرغم من أننا نشكل خمس عدد سكان الدولة، ستكون المعركة الانتخابية المقبلة معركة يهودية – يهودية، وستدور رحاها، بشكل أساسي، داخل المجتمع الإسرائيلي؛ وستحسِم نتائجها شكل الدولة العتيدة وطبيعة نظام الحكم فيها. أقول هذا متأسفا على غياب دور المواطنين العرب في التأثير في شكل نظام الحكم بسبب فقداننا لعناصر قوتنا الطبيعية والتاريخية، يوم كانت الأغلبية تتصرف كمجتمع توحّده هوية راسخة، وهموم وجدانية متفق عليها؛ رغم اختلاف الرؤى السياسية والحزبية بين من تصدروا المواجهات مع سياسات الاضطهاد الحكومية وضد التمييز العنصري، وكافحوا بوسائل أجمعوا على معظمها، ومن خلال بنى تنظيمية أثبتت حيويتها ونجاعتها بإثارة جاهزية الجماهير وقيادتهم في معارك الصمود والتحدي. هنالك من يتنكرون بإمعان مستفز للتغيّرات الجذرية التي عصفت في هياكل مجتمعاتنا؛ ولعل أهمها هو انحسار، حتى اندثار، مكانة الأحزاب والحركات السياسية التاريخية، التي لعبت دورا أساسيا في تنمية الوعي العام السليم، وتوجيه بوصلة الصراع دائما نحو العدو الأول لمصالح المواطنين، وهي سياسات القمع والاضطهاد العنصري. ويجب ألا ننسى أن من أعظم مآثر قيادات ذلك الزمن الذهبي، وفي طليعتهم قادة الحزب الشيوعي وعدد من القيادات الوطنية، كان تصميمهم على بناء المؤسسات والأطر المدنية والنقابية والسياسية، التي كانت ضالعة في بناء الكيانية الجمعية للأقلية الفلسطينية الباقية في وطنها، وتطوير مجساتها الوطنية المنيعة. لقد كانت اللجنة القطرية لرؤساء البلديات والمجالس المحلية، من أهم تلك المنجزات؛ وهي الإطار الذي كان موكلا، حسبما خطط له، بتوحيد صوت المجالس والبلديات والارتقاء بمكانتها التمثيلية كي تعمل كحكومات محلية منتخبة من قبل المواطنين، ولتدافع عن «قلاعها» في وجه السياسات الحكومية العنصرية. وإن كانت «اللجنة القطرية» ذراع المواطنين المدنية وحصن حقوقهم المواطنية؛ فإلى جانبها تأسست «لجنة المتابعة العليا لشؤون المواطنين العرب» التي أقيمت كي تكون الخيمة الكبرى التي تجتمع تحت سقفها كل الأطر والمؤسسات والأحزاب والحركات الناشطة بين الجماهير، في سبيل رص صفوفها وتوحيد كلمتها والدفاع عن حقوقها السياسية والقومية. وطبعا لا يمكن أن نغفل دور «لجنة الدفاع عن الأراضي» وباقي الأطر النسوية والطلابية والنقابية التي لعبت دورا سياسيا نوعيا موحدا بارزا في تلك السنوات.
لم يكتف قادة ذلك الزمن الأكفاء ببناء تلك التنظيمات والمؤسسات، بل رأوا بضرورة جمعها تحت «راية عليا» مهمة كبرى، فدعوا إلى عقد «مؤتمر الجماهير العربية» الذي كان يفترض أن يتمخض عنه الإطار الأعلى لقيادة المواطنين العرب، وهو ما يشبه «حكومتهم الأم»، على ما كانت ستفضي إليه هذه الخاتمة من تبعات على مستوى العلاقة مع الدولة ومكانة الأقلية العربية فيها. لقد أحس قادة إسرائيل «بالخطر الداهم»، فقرروا حظر انعقاد المؤتمر وأعلنوه نشاطا خارجا على القانون، ثم وضعوا مخططاتهم لضرب منجزات القيادة، فشرعوا بضعضعة مكانة اللجنة القطرية وإفراغها من مضامينها الأساسية، حتى إنهم نجحوا بذلك إلى حد بعيد؛ ثم حاصروا «لجنة المتابعة العليا» محاولين نزع شرعيتها تارة، وخلخلتها من الداخل تارة أخرى إلى أن وصلت لحالة ضعفها الحالية. لا أريد أن أسترسل في سرد محطّات تاريخ هذه الانهيارات، لكنها وصلت اليوم إلى ذروتها، حيث نرى هياكل أحزاب متكلسة وأجساد حركات ممزقة ومؤسسات ضعيفة لم تعد قادرة على القيام بما عقد عليها من آمال ومهام.
في مثل هذه الأوضاع سوف نذهب إلى المعركة الانتخابية المقبلة وسنكون أضعف مما كنا عليه في المعركة السابقة، وسنستمع إلى البيانات الممجوجة نفسها من جميع الأطراف. حركتان إسلاميتان تحاول كل واحدة منهما إقناع المصوتين المسلمين بأنها صاحبة الصراط المستقيم والهداية الحسنى؛ فالحركة الجنوبية ستستغيث بالمصوتين مدّعية سعيها ووقوفها إلى جانب فقراء الأمة وحقوق بسطائها، حتى لو اختار قادتها الوقوف على عتبات السلاطين كبينيت أو نتنياهو أو بن- جبير. والحركة الإسلامية الشمالية ستتوعد وتنذر المنحرفين وتدعو إلى مقاطعة الناخبين وتبشر بالفرج القريب للعالمين. أمّا معظم الشيوعيّين المتنفذين في رسم سياسات الحزب فسيهتفون بنشوة على الرصيف المقابل، وكأنهم ما زالوا واقفين على «نون» نجمتهم الحمراء وينكرون أنهم أسقطوا، منذ ضاعت موسكو، مطارقهم، والمناجل صارت في أيدي بعضهم حصادات تقص أخضر الدولارات وتقطع «رؤوسا قد أينعت»، ويلاحق مطوّعوهم «الخوارج» والمعارضين لمواقفهم، وسنسمع القوميّ من على منابر القصب يدعو إلى «أندلس وقد حوصرت حلب» ويبيع نفطنا في «حارات أسياده السقايين العرب». سوداوي أنا، وأكتب من حبر واقعنا؛ لكنّها معركة كتبت علينا ويجب أن نخوضها. لماذا وكيف، وما الفوائد والبدائل؟ سنعود إلى ذلك قريبا.
كاتب فلسطيني

 

 

سيصير خليل

عواودة يوما ما يريد

 

جواد بولس

 

وصلت إلى مكتب المدعي العسكري في تمام الساعة الحادية عشرة من صباح يوم الاثنين الفائت. كنت على ميعاد معه لمناقشة ملف الأسير الإداري خليل عواودة، المحتجز في عيادة سجن الرملة بحالة صحية خطيرة للغاية.
لم أنتظر طويلا عند مدخل المحكمة العسكرية في معسكر عوفر؛ فما أن وقفت أمام الباب الخارجي، وقبل أن أصرخ على الحارس، سمعت طنين القفل الكهربائي المتواصل، الذي يشبه موسيقى المونيتور المزعجة، حين يتوقف قلب المريض الموصول به، فدفعته وتقدمت نحو الحارس الذي كان ينتظرني وهو يشق بجسده الكبير الباب الحديدي ويرحب بي بحفاوة وباحترام. تساءل، مبديا قلقا، حول غيبتي الطويلة عن المحكمة؛ فطمأنته بعجالة، وشرحت له، ببضع جمل مقتضبة، أنني مررت بأزمة صحية أجبرتني على الابتعاد قليلا، وأخبرته أنني أحاول أن أجد مرفأ جديدا يكون أكثر هدوءا ووفاء، ويقبلني، وأنا بكامل بياضي، لألقي على أرصفته معاطفي القديمة، وفي مياهه مرساتي الثقيلة. كان ينظر وفي عينيه بريق خافت، فقلت له: «ببساطة أريد الانصراف عن عالمكم الرصاصي الكثيف، حيث يختبئ الموت تحت ألف قناع وعين، والقهر يمارس عهره بجنون يومي وعادي». لم أشعر بأن الحارس فهم كل كلامي؛ لكنه بدا مرتاحا وراضيا، فأدخلني وتمنى لي يوما جميلا وناجحا؛ شكرته على كل حال، فهو لا يعلم طبعا أن دعوته، إن أصابت، ستعني عمليا نجاحي بإبطال أمر الاعتقال الإداري ضد الأسير خليل عواودة المضرب عن الطعام منذ خمسة وتسعين يوما.
مشيت ببطء وبتثاقل ممتثلا لأوامر رئتي؛ فالشمس، هنا فوق فلسطين المحتلة، هي أيضا في خدمة الاحتلال، وأشعتها مسلطة على رؤوسنا كمسلات من نار محفورة عليها رسائل غضب السماء وصور لأشباح هزيلة. كنت أقطع باحات المحكمة مطرقا في ترابها، وكأنني لا أريد أن أتذكر كيف ريقت على أديمها دموع الأمهات الباكيات مصائر أكبادها، ولا كيف ديست أرواح الإنسانية بسهولة فجة ومستفزة. كنت ألهث كفجر خريفي يحاول أن يهرب من ليل فاحم، وأتهيأ لمواجهة يومي. كان الطريق أطول بكثير مما ألفته خلال سني عملي في هذه المحكمة، لكن رائحته بقيت كما كانت، حامضة كالقيء. كان النائب العام شابا نحيفا طويل القامة صارم القسمات، كما يليق بجندي يمثل احتلالا عاتيا. وقف باسطا يده لتحيّتي، فسلمت عليه. كان يبتسم بمودة متأنية ومدروسة. عرض عليّ مشاركته بشرب فنجان قهوة مردفا، أنه تعرّف عليّ أول مرة قبل أكثر من خمسة وعشرين عاما، حين كان جنديا إداريا يعمل في مكتب المدعي العسكري العام في وزارة الجيش في تل- أبيب، وكنت أتردد على المكتب لمناقشة بعض الملفات التي كنت موكلا فيها وأتابعها. كانت مقدمته فاتحة مشجعة وإيجابية. ثم انتقلنا بعدها للأهم، فسألني ماذا أريد؟ أجبته من دون تردد وبسرعة: «الإفراج عن خليل عواودة»؛ وأضفت: «إنني على قناعة بعدم وجود سبب حقيقي لاعتقاله إداريا، خاصة أن قوات الأمن سجنته في البداية وحققت معه حول منشور، كان ألصقه على صفحته في الفيسبوك حيّى فيه انطلاقة الجبهة الشعبية، رغم أنه لا ينتمي إليها؛ بعد التحقيق معه أنزلت بحقه لائحة اتهام عزت له تهمة التحريض، ومعها طلب لتوقيفه. رفض القاضي العسكري توقيفه حسب طلب النيابة وأمر بإطلاق سراحه.. لم تطلقوا سراحه، بل قمتم، كما في كثير من هذه الحالات العبثية، بإصدار أمر اعتقال إداري بحقه لمدة ستة شهور، بذريعة أنه ناشط في حركة الجهاد الإسلامي، من المفروض أن تنتهي مدة هذا الأمر في السادس والعشرين من الشهر الجاري». سمعني بإصغاء وأجاب باقتضاب: «أنت تعرف، من تجربتك الغنية والطويلة، أننا، نحن في النيابة العسكرية، لسنا العنوان الحقيقي لهذه الملفات؛ فأوامر الاعتقالات الإدارية يوقع عليها قائد الجيش ويصدرها وفق توصيات جهاز المخابرات العامة، ثم نتولى نحن مهمة الدفاع عنها أمام قضاة المحاكم العسكرية فقط، لكننا لسنا المخولين بإلغائها أو بتغييرها». لم تفاجئني إجابته، لكنني اعترضت على طريقة إدلائه بها بصورة روبوتية خالية من أي منطق ومن أي قدر لاحترام الذات. تركت مكتبه بهدوء خاسرٍ يعرف كيف يحتضن كبرياءه ويداري ربيعها، ولم أتلُ عليه، كما كنت أفعل مع من سبقوه في ماضي السنين، دروس الضحايا وماذا بعد عنجهية الطغاة؛ فهو ومثله جميع من ولدوا في حضن الخوذات ودفيئات البطش، يحسبون أن التاريخ ينحني للأقوياء، سادة الزمن ووكلاء عدل السماء.

جميع من ولدوا في حضن الخوذات ودفيئات البطش، يحسبون أن التاريخ ينحني للأقوياء، سادة الزمن ووكلاء عدل السماء

على حاجز صغير قبل مدخل سجن الرملة أوقفني سجّان أسمر بدا عليه النعاس والملل، سألني، بلغة تشبه العبرية، عن مقصدي وقبل أن يسمع إجابتي رفع ذراع الحاجز وأشار بيده موجّها إياي إلى موقف السيارات. أدخلوني إلى ردهة السجن بسرعة نسبية، فاستقبلني، من وراء الزجاج، سجّان تصرّف معي بلطافة لافتة لأنه يسكن في بلدة جليلية لي فيها أصدقاء كثر. انتظرت بضع دقائق حتى مرّت سجّانة، فوافقت أن تصطحبني إلى عيادة السجن. أنهيت الفحص الأمني من دون عثرات، ومشينا فسبقتني برشاقة مقصودة. حاولت أن أتبعها من دون فائدة. كانت تنظر وراءها، من حين إلى حين، لتطمئن أنني هناك، وليبتسم شبابها، تبسمت مثلها، فالتبس عليها الأمر وعَبَست. دخلتُ مبنى العيادة الذي يشبه باقي أقسام السجن. أعطيت تفاصيل بطاقتي الشخصية واسم موكلي للسجان، فطلب مني أن أدخل إلى غرفة الزيارة لافتا انتباهي إلى أن حالة خليل الصحيّة متضعضة، فعليّ ألا أرهقه بالكلام. أحضر خليل وهو جالس على كرسي متحرك.. تركه السجان وراء الزجاج وغادر الغرفة. رفع رأسه وفتح عينين متعبتين وجفنين منهكين. كان ضعيفا جدا وشعره خفيفا. كانت ملابسه تفضح خسارته ثلاثين كيلوغراما من وزنه، وصفرة وجهه تنذر بخطورة المرحلة التي وصل إليها. وضعت كفي على لوح الزجاج الذي كان يفصل بيننا ففعل مثلي وانفرجت شفتاه عن أسنان بيض كالصباح، ثم قال ضاحكا: «لقد كبرت الجاكيت عليّ..» وحاول أن يمنع سقوطها عن جسمه. نقلت له سلام الأهل والأحبة فرأيت نورا يشع من جبينه، ومضينا في رحلة، تمنيت ألّا تنتهي إلّا وهو معي بالسيارة. لماذا أنت مضرب يا خليل؟ ساأته وأضفت: لقد وصلتَ إلى مرحلة خطيرة تواجه فيها احتمال الموت المفاجئ في كل لحظة! أخذ نفسا عميقا، كمن يحاول الإفلات من موجة عالية واستجمع بقايا روح وقوة وقال: «أريد حريتي؛ فهذا الاعتقال عبثي بامتياز. لقد اعتقلوني إداريا في الماضي لمدة ستة وعشرين شهرا وأفرجوا عنّي عام 2016. التحقت بعدها بالجامعة لدراسة الاقتصاد وأقمت عائلة ومضيت نحو المستقبل كأي إنسان حر يريد أن يعيش بكرامة وبسعادة في كنف عائلته وبلده وأهله. لقد اعتقلوني وحققوا معي حول منشور عادي نشرته على صفحتي فقرر قاض عسكري أن يفرج عني، لكنهم قاموا باعتقالي إداريا بصورة كيدية وانتقامية، فقررت أن أخوض هذه المعركة انتصارا لكرامتي وللحرية وبالنيابة عن كل احرار العالم». كان صوته يأتيني عبر الهاتف متقطعا وضعيفا، وكان يتوقف عن الكلام أحيانا ليتقيأ، فهو لا يشرب إلّا الماء منذ زهاء تسعين يوما، ويشعر بأوجاع شديدة في عضلاته وفي منطقة الصدر، ويشكو من عدم انتظام في نبضه ومن رؤية ضبابية. تحدثنا كصديقين عتيقين حول مفهوم وصحة النضال من خلال الإضرابات الفردية عن الطعام، رغم ما تسببه أحيانا من إرباكات، أو إحراجات للبعض وللحالة الوطنية العامة. وتحدثنا عن خلّة الوفاء الذي يؤمن بضرورة وجوده كعماد لصيانة الهوية النضالية الفلسطينية، وتطرّقنا إلى منابت الفرح الذي يحاول هو أن يزرعه كل ليلة في أحلامه وكيف يجرحه ظلم الإنسان للإنسان.
كان خليل أمامي حرا كالأمل، وكان يحدثني عن هواجسه وأحلامه ورؤاه بكل صراحة وحب؛ وكنت أمامه حرا حتى حدود الدمع. فهمت أنه كان يقرأ ويحب ما أكتب، خاصة ما نشرت في شؤون الأسرى والإضرابات الفردية عن الطعام. وإنه يؤمن بأن هذه المعركة التي يخوضها، وهو على حافة الدنيا، بحاجة إلى فوارس يجيدون الركوب على حصانين ويمضون بهما في وجه الريح ونحو نهاية المدى؛ فحصان يعدو في ميادين قضاء الاحتلال العبثي، لكنه غير آبه للخسارة، وحصان يصهل في وجه العدم وأمام جميع الأمم. كان كلانا يعرف أن النصر قد يتأخر أو حتى لن يجيء، لكننا نعرف أيضا أن هزيمة الإرادة هي أقسى الهزائم وأشدها بؤسا.
كان صوته خافتا كالصلاة وكلامه بطيئا وواثقا؛ وكانت بسمته مطبوعة في الهواء. وحولنا نسمع ترددات صدى وصوت ينشد «سأصير يوما ما أريد/ سأصير يوما طائرا، وأسلّ من عدمي وجودي.. أنا حوار الحالمين، عزفت عن جسدي وعن نفسي، لأكمل رحلتي الأولى إلى المعنى»… جلست وراء مقود سيّارتي وهممت بالرجوع إلى القدس، أحسست أنني كطائر حبيس. على المقعد بجانبي ما زال الكتاب الذي كنت أقرأ فيه مفتوحا على صفحة تنتهي بجملة كتبها بطل الرواية لأصدقائه تقول: «هناك دائما وقت للرحيل حتى لو لم يكن ثمّة مكان تذهب إليه». وبدأت رحلتي من جديد.
كاتب فلسطيني

 

القدس بعد

)عهد الفيصلية(

جواد بولس

 

كما في كل عام، منذ واحد وعشرين عاما، يحل شهر أيّار/مايو على القدس ومعه تذكارات من رائحة الملح المخبأ في شقوق الزمن، وأصوات نايات حزينة تنساب همسات خافتة في عروق حجارة أسوارها. القدس، مأوى الملائكة ومساكن الغضب، لا تعرف طعما للحزن ولا كيف يكون الندم؛ إنّها ابنة ذاك الأزل، تغفو على زنوده السماوية المقدّسة وتصحو كغزالة الأساطير المذعورة بعد صخب حفلة صيد وحشية.
هي القدس، أعود إليها في أواخر كل ربيع متعبا من غدر الفصول ووداع الأحبة؛ وأيار ينسلّ، بقهقهاته مختالا، إلى حيث محارق الأمل، تاركا على أسوارها تناهيد فجرها المذبوح، وتمتمات الأرامل، وعذاباتها. كان أيارنا، عندما كنا نزوّج المطارق للمناجل، بئرا لعرق الفقراء والبسطاء والكادحين، وشريانا لدمائهم الطاهرة، فصار، مذ «أكل أهل الشرق أثداءهم» شهر القهر والردى، يأتي ليذكرنا بجهالتنا وبالحكمة الغائبة، ولينكأ جرح القدس المفتوح، منذ سافر فيصل الحسيني حامي أحلامها وناطور قلاعها، في رحلته الأخيرة نحو تلك الصحارى الغادرة.
سيبقى لذكرى رحيل فيصل الحسيني وهو في قمة نشاطه وعطائه، طعم من المرارة المتجدد؛ وذلك ليس لأننا توقعنا، في حينه، أن خسارته الفادحة لن تعوّض وحسب، بل لأننا شعرنا بأن تغييبه، في الظروف المعقدة التي كانت تواجهها مدينة القدس تحديدا، فرض تساؤلا منطقيا حول الذين كانوا المستفيدين من واقعة رحيله والتخلّص من دوره المفصلي في التصدي الناجح لمعظم المكائد التي حيكت ضد القدس وضد مكانتها كعاصمة فلسطينية فرضها فيصل والمقدسيّون معه على وجدان العالم وفي الحياة اليومية. لم يكن ذلك الأمر ممكنا لولا ما تحلّى به فيصل من خصال مميزة ورؤية ثاقبة ومصممة على ضرورة بناء الهوية المقدسية الفلسطينية الوطنية الجامعة، وإسباغها على جميع سكان المدينة، الذين تسربلوها، برضا وبعزة، وتصرفوا بحمايتها ودافعوا عنها في وجه الاحتلال الإسرائيلي، وأمام جميع أعدائها من الخارج والمدسوسين. فلماذا فيصل؟ من السهل أن نجيب على ذلك، كما فعل الكثيرون مرارا؛ لأنه كان إنسانا نقيا بامتياز، ومحاورا سياسيا دمثا وحذقا وحكيما، ومناضلا شرسا وعنيدا من أجل كرامة المقدسيين وحرّياتهم. لقد شهدَت لفيصل شوارع القدس كلها وساحاتها؛ وعرفته جميع المنابر الدولية التي كان يستقبل فيها ببالغ الاحترام وبحفاوة ظاهرة، تماما كما يجب أن يستقبل القائد الذي يعرف كيف يسخّر جميع جوارحه ومجساته في سبيل الفوز في المعركة، أو في تفادي الهزيمة المتوقعة. لقد تحلّى فيصل بجميع تلك الصفات، لكنّه تعمّد تخصيبها بمزايا «فيصلية» إضافية هي التي أدخلته إلى قلوب الفلسطينيين، وجميع المقدسيين طبعا، ومكّنته حتى أصبح فارس القدس المحبوب وحامي مظلتها الأمين وضابط مسطرتها الوطنية، التي «بشفرتها» رسمت الحدود بين الخيانة وعكسها. ومن تلك المزايا كانت قناعته بأن الاختلافات في وجهات نظر الفلسطينيين هي ظاهرة طبيعية ومقبولة، شريطة ألا تتحول هذه الاختلافات إلى خلافات تعبث بالجسد الفلسطيني الواحد وتهدم أسس نضاله الذي يجب أن يبقى موجها وموحدا ضد الاحتلال الاسرائيلي. لقد سعى فيصل بحنكته وباستقامته وبنزاهته إلى تجسيد تلك القناعة في القدس، ونجح بتجميع جميع الفصائل والقوى السياسية، الوطنية والإسلامية، تحت مظلة واحدة تجلّت أهميتها في رحاب «بيت الشرق» الذي قضّت مكانته، بين الأمم والفلسطينيين، مضاجع حكّام إسرائيل. لقد مارس فيصل قيادته بهدي ما يسمى في عالم السياسة العصرية «كيانية الدولة العليا»، أو الممارسة الفوق فئوية أو حزبية؛ أو ما يعرف اصطلاحيّا بحالة (
statehood) ، وهي من المصطلحات غير المألوفة في حياة الشعوب والأنظمة العربية، وذلك لأسباب مفهومة طبعا. ولأنه كان يؤمن بحيوية العمل وفق هذا المبدأ وتقديمه على جميع المحفزات التقليدية، تعمّد، خلال مسيرته السياسية، ألّا يستغل تأثير نسبه العائلي المرموق، وأن يظهر دوما بشخصه المستقل كفيصل الحسيني، علما بأنه كان فخورا بأبيه المناضل القائد المعروف عبدالقادر وبتاريخ عائلة الحسيني، المشهود لها عبر العقود. وحتى «فتحاويته» كانت عبارة عن هوية سياسية كفاحية مجرّدة من أي مراهقة فصائلية متشاوفة. لقد اختار فيصل أن يكون ابن كل فلسطين وخادم قدسها والمسكون بها أبدا، وقائدا شعبيا متصدرا واجهات الميادين، كالترس وكالرمح معا؛ لأنه كان يؤمن، ببساطة، بأن من يخاف ويتذيل الصفوف مستجيرا بصدور شباب فلسطين وهي تتحدى عارية غطرسة الاحتلال، غير جدير بأن يكون قائدا لهم.

فيصل ونظرية الردع ورفع العلم الفلسطيني

لا أعرف كم من أولئك الذين تطرقوا إلى ظاهرة التوحّش الإسرائيلي، البوليسي والعصاباتي الشعبي، ضد من يرفع العلم الفلسطيني في القدس وداخل إسرائيل، يعرف تاريخ هذه الظاهرة ومحطاتها الفارقة، لكنني سوف أستذكر، في هذه العجالة، إحدى تلك المحطات الجميلة، لاسيما ونحن نكتب عن ميزات عهد «الفيصلية».

كانت قناعة الحسيني أن الاختلافات في وجهات نظر الفلسطينيين ظاهرة طبيعية ومقبولة، شريطة ألا تتحول إلى خلافات تهدم أسس نضالهم الموجه ضد الاحتلال الإسرائيلي

لقد واجه فيصل سياسة إسرائيل في القدس الشرقية على عدة جبهات وبعدة وسائل؛ واعتمد ميدانيا على اتباع ما كان يسميه بمنهج «الردع الإيجابي»، الذي أدّى إلى إجهاض العديد من مخططات إسرائيل العدائية. قد تكون المعركة ضد أمر إغلاق «بيت الشرق» في عام 1999 أبرز تلك الحالات التي أثبتت فيها القدس أهمية جاهزيتها الحقيقية لمقاومة الاحتلال ومعنى التفاف أهلها حول فيصل الحسيني ورفاقه في القيادة. لن أتطرق، في هذه العجالة، إلى تلك الحادثة وسأكتفي بالإشارة إلى أن الردع المقصود يتطلب أحيانا أن تكون مبادرا في التحرش الموزون بعدوك وألّا تكتفي بردات الفعل وحسب. وهذا يعتمد أيضا على مبدأين أساسيين، كان فيصل يرددهما أمام الإسرائيليين: الأول يقول: «لا تخطئوا الحساب! فمن يستطيع فرض الهدوء والأمن والأمان في شوارع القدس الشرقية يستطيع إشعال النيران وإيقاظ المارد من قمقمه»، وكان يقصد بالطبع أن بيت الشرق وقيادته هي التي تتحكم في نبض الشارع المقدسي. والثاني يقول: «إن كان عدوّك يجيد المصارعة أو الملاكمة فلا تنازله بما يجيد، بل حاول أن تستدرجه إلى رقعة أنت فيها أبرع وأكثر مهارة، فإن أجدت لعبة الشطرنج مثلا، فاستدرجه إلى رقعتها، فحظوظك فيها ستكون أوفر». وهو ما حاول أن يفعله مرارا. لقد فشلت حكومة نتنياهو أمام صمود المقدسيين وتراجعت عن قرارها بإغلاق «بيت الشرق» بعد أن فهمت معنى استعداد فيصل والمقدسيين للدفاع عن قدسهم، أو إشعال ضفتي المدينة.
وكان أن أعلن الفاتيكان، بعد أشهر من تلك المعركة، عن قرار البابا يوحنا بولس الثاني زيارة الأردن وإسرائيل وفلسطين وبضمنها القدس. قام ممثلو الفاتيكان بتنسيق تفاصيل الزيارة مع كل دولة على حدة؛ أما في ما يخص زيارة البابا للقدس فكان عنوانهم «بيت الشرق» ورئيسه فيصل الحسيني. لقد عقدت في بيت القاصد الرسولي في حي «الصوانة» عدة اجتماعات لتنسيق كل كبيرة وصغيرة تتعلق بترتيبات الزيارة، حسب طلب الفاتيكان، ورغم اعتراض إسرائيل واحتجاجاتها. رفض البابا المبيت في فنادق القدس الغربية وأصرّ على أن يبقى في بيت القاصد الرسولي، وأن تبدأ زيارته للقدس من هناك، ثم مباشرة إلى باحات المسجد الأقصى. أعلنت المؤسسات التعليمية الفلسطينية المقدسية عن إيفاد طلاب المدارس ليقفوا محيّين البابا على جنبات الطرق من الصوانة وحتى باحات الأقصى. واعترضت إسرائيل على القرار، لكن فيصل والقدس أصروا على تنفيذه؛ فعبّر البابا عن ارتياحه من ذلك. قمتُ بالتواصل مع قائد الشرطة الإسرائيلية ونقلت له على لسان فيصل: «إما أن يصطف المرحبون، وإما لا أمن ولا أمان لأحد». فهمت الشرطة مغزى الرسالة، وكان قادتها يدركون أن فيصلا قادر على تنفيذ تهديده؛ فوافقوا شريطة أن يحمل الطلاب المرحبون الورود فقط وألا يرفعوا أعلام فلسطين. رفض فيصل قبول شرطهم وأصر على أن يرفع كل شبل وردة وترفع كل طفلة علم فلسطين. غضب الجانب الإسرائيلي وارتاح الفاتيكان، مرّة أخرى، فقمت بنقل رسالة ثانية من فيصل إلى قائد الشرطة ومفادها: «سنحمل العلم لا محالة، وعليكم أن تختاروا، فإما العلم وإما الحجر». رضخ الإسرائيليون، تفاديا لفضيحة إلقاء الحجارة على موكب البابا الذي سار، وفق الاتفاق، على طرقات فلسطينية يحميها أطفال فلسطين المزينة أياديهم بالورود وبأعلام فلسطين. وكانت زيارة بنكهة فيصيلية وقدسية.
بعد الزيارة بعام سافر فيصل إلى الكويت ولم يعُد، وبقية الحكاية يكتبها شباب القدس، أبناء فيصل، وترويها صفرة العشب المهمل في ساحات «بيت الشرق» المغلق بأمر شرطة إسرائيل، صدر بعد أفول حقبة قد يسميها المؤرخون، ذات يوم، زمن القدس الذهبي، أو «عهد الفيصلية».
كاتب فلسطيني

 

 

متلازمة علم فلسطين

وضرورة إسقاط النعش

جواد بولس

 

 

شنّت جهات يمينية عديدة هجوما كاسحا على إدارة جامعة «بن غوريون» في مدينة بئر السبع، لأنها سمحت، يوم الاثنين الفائت، لكتلة «الجبهة الطلابية» برفع الاعلام الفلسطينية داخل حرم الجامعة، أثناء الاحتفال بإحياء الذكرى الرابعة والسبعين لنكبة الشعب الفلسطيني.
وكان رئيس بلدية بئر السبع روبيك دنيلوفيتش، أوّل من وجه رسالة شديدة اللهجة إلى رئيس الجامعة البروفيسور دانيئيل حايموفيتش، قال فيها «إن اعلام فلسطين ترفع بفخر. يوجد لدولة إسرائيل علم واحد فقط. لقد تخطوا اليوم خطا أحمر إضافيا. يجب علينا إظهار قيادتنا الواضحة من دون تأتأة. عليّ أن أقول لك: أنا خجلان».
لم يكن تصريح رئيس البلدية مفاجئا لأحد، فقد برز مؤخرا كأحد الشخصيات العامة اليمينية الناشطة في تأليب الرأي العام اليهودي وشحنه بجرعات عنصرية تحريضية خطيرة، حتى إنه أعلن دعمه الكامل لإقامة ميليشيات مدنية مسلحة من أجل إنقاذ النقب من «إرهاب» مواطنيه العرب!
لم يكن رئيس بلدية بئر السبع وحيدا في حملة التحريض على إدارة الجامعة وعلى الطلاب العرب في جامعات البلاد؛ إذ فعل ذلك الكثيرون، وقد برز من بينهم، بسبب مكانته السياسية وحدّة لغته، وزير المالية الليكودي الأسبق يسرائيل كاتس. لا أعرف إذا كانت أجيال هذه الأيام تتذكر تاريخ هذه الشخصية يوم كان، في منتصف سبعينيات القرن الماضي، قائدا يمينيا شرسا في الحركة الطلابية الجامعية؛ وهي الحقبة التي أشار إليها في خطاب الترهيب الأخير الذي توجه من خلاله، من على منصة الكنيست ليل الاثنين الفائت، إلى طلاب اليوم ليذكرّهم قائلا: «لقد حدث ذلك أيضا في نهاية السبعينيات في الجامعة العبرية وفي حيفا وتل أبيب، عندما توهّم العرب في إسرائيل، في أعقاب حرب أكتوبر، أن اليهود أصبحوا ضعفاء، فأقام الطلاب العرب مظاهرات دعم للعدو وضد دولة إسرائيل» ونصحهم أن يسألوا أباءهم وأجدادهم عن ذلك. لا جديد في عالمَي كاتس، الشخصي والسياسي، ولا في حساسيته المفرطة لرفرفة العلم الفلسطيني، ولا في أحلامه بترويض المواطنين العرب أو بتهجيجهم خارج الدولة؛ ورغم ذلك سيبقى لأقواله في هذه الأيام وقع مرّ خاص، لأنها وإن كانت مكرورة من جانبه، تعكس في واقعنا الراهن تعبيرا واضحا ليس عن رأي مجموعات يمينية هامشية وحسب، كما كان يُدّعى في سنوات السبعين، بل عن موقف إسرائيلي، رسمي وشعبي، شبه مجمع عليه. من المؤسف أن تاريخ الحركة الطلابية العربية في جامعات إسرائيل لم ينل حقه من قبل الدارسين، ولم يوثَّق بشكل مهني وكاف؛ على الرغم مما شكّلته تلك الحركة من مشهدية صاخبة ولافتة، ومن حالة نضالية استثنائية عكست نضوج الذين أسسوا لمسيرة تلك التجربة وقادوها بمسؤولية عالية وبتضحيات كبيرة.

لطالما أجّجت الرموز الحرب بين إسرائيل والفلسطينيين، وتاريخ هذا الصراع حافل بالأمثلة؛ ولكن سيبقى العلم، هو «ولي الدم» الحاضر وسيّد الفوران

يسرائيل كاتس وليل السلاسل

لقد شكّل جيل يسرائيل كاتس ورفاقه في قيادة النشاط الطلابي الجامعي ومنهم، على وجه الخصوص، الوزير السابق تساحي هنجبي، والوزير الحالي أفيغدور ليبرمان، نموذجا مؤسسا للتعامل صداميا مع أعدائهم، الطلاب العرب، حيث تعمّدوا تنفيذ اعتداءاتهم على طريقة الميليشيات الفاشية، بعنف حتى إراقة الدماء أحيانا، وبطريقة مكشوفة للملأ، ثم ساعدوا، في ما بعد، من خلال مواقعهم الحزبية على تطوير ذلك النهج ونقله إلى خارج حدود الجامعات، ليصبح في السنوات الأخيرة سلوكا شائعا ومألوفا تدعمه منظومات الحكم وتنفذه عناصرها الرسمية أو وكلاؤها. ولعل في تجاعيد الماضي فائدة وعبرة ترتجى؛ فأنا وأبناء جيلي كنّا الشهود على بدايات تلك المرحلة. وقصتنا مع ما فعله «أمراء الظلام» طويلة وشائقة، حتى إن استحضار تفاصيلها، الشاخصة أمامنا، يبعث في نفوسنا، رغم مرور السنين، نبض حنين أرجواني لا يبهت، وعبق مغامرات تذكرنا، بحسرة، كيف كنا نقف على ذوائب الريح مصممين أن نُفهم الكاتس وأمثاله، أن الحر لا تأسره السلاسل، وأن هسيس الجن لا يفت من عزم مسافر نحو الشمس، ولا الترهيب يشفي عاشقا من الدنف.
بدأت دراستي في كلية الحقوق في الجامعة العبرية في خريف عام 1974، وكانت، حينها، أعداد الطلاب العرب في الجامعة محدودة. ورغم قلة أعدادهم في الجامعة، استوعب الطلاب العرب، منذ البدايات، بحدس وطني وفطري، معنى بناء وحدتهم وانتظامهم في جسم يمثل مصالحهم ويحمي هوياتهم، فبادروا إلى تشكيل «لجنة الطلاب العرب» في جامعة القدس، ثم تلتها لجان مشابهة في سائر الجامعات. لقد بدأت تلك اللجان الطلابية تلعب، في أواسط السبعينيات، دورا سياسيا محوريا بين الطلاب وعلى المستوى القطري العام؛ وشكلت أنشطتها ومعاركها، إلى جانب «الاتحاد القطري للطلاب العرب»علامة فارقة على خريطة التنظيمات السياسية الفاعلة بين الجماهير العربية داخل إسرائيل، وعاملا رياديا في مقارعة الجماعات اليمينية التي عملت داخل الجامعات الإسرائيلية وكانت معززة بعقائد وبوسائل متّشحة بأردية فاشية واضحة، فكرا وممارسة.  لقد وجدت بين الطلاب العرب في الجامعات حركتان سياسيتان هما «جبهة الطلاب العرب» وكانت بمثابة التنظيم الابن «للجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة» حديثة الولادة، وحركة «أبناء البلد» الناشطة كتنظيم قومي يتماثل مع نظرائه من الحركات القومية العربية التي كانت تتمتع بوجود وازن على ساحة السياسة الكبرى. أما بين الطلاب اليهود فقد أقامت المجموعات اليمينية تنظيما طلابيا باسم «كاستل» قاده في ذلك الوقت كل من يسرائيل كاتس وتساحي هنغبي، ومعهما بعض من منفذي الأوامر الطيّعين، ومن بينهم كان أفيغدور ليبرمان. وبالمقابل أسست مجموعة من الطلاب اليهود اليساريين، الصهيونيين وغير الصهيونيين، حركة «كامبوس» التي انضم إليها لاحقا عدد من قادة الطلاب العرب الجبهويين والناشطين، وهذه التجرية بالذات جديرة بمقالة مستقلة في المستقبل.
لن أثقل عليكم بسرد تفاصيل أحداث تلك السنوات المهمة، التي ملأت أصداؤها جنبات البلاد والمنطقة قاطبة؛ ولكن لا بد من العودة إلى تداعيات ما أصبح يعرف في تاريخ النضال الطلابي ضد قطعان الفاشيين «بليل السلاسل» التي كلّما تذكرت تفاصيلها، أو كتبت عنها أشعر بالغثيان وأغضب، لأننا لم نعِ وقتها، نحن المواطنين العرب في إسرائيل، حقيقة النذر التي صاحبت أحداثها، ولم نفهم كفاية أنها كانت في الواقع مؤشرات على بدايات «تهجيرنا» الثاني نحو الشمال، في طريق كان كلّه ليلا وجهلا وتنافسا وخسائر.
تظاهرنا، نحن مجموعة من الطلاب العرب، في مساء يوم مقدسي بارد من شهر كانون الثاني/يناير عام 1979. وقفنا في إحدى زوايا الحرم الجامعي على جبل سكوبوس «جبل المشارف» وهتفنا ضد الفاشيين، جازمين بأن «الفاشية لن تمر» كما كنا نهتف دوما في تلك الأيام. وفجأة هاجمنا عشرات من الطلاب اليهود، بقيادة كاتس وهنغبي وليبرمان، المعززين بزمر من البلطجيين المستورَدين والزعران الوافدين من أحياء القدس الغربية، لينهالوا علينا بالهراوات وبالسلاسل الحديدية، فأصابوا من أصابوا وجرحوا منا العديدين. كان عدوانهم مطابقا لجميع ما تعلمناه في الكتب عن تاريخ الحركات الفاشية؛ لكنه، رغم قساوته، لم يثننا عن الاستمرار في الوقوف ضدّهم، مؤمنين أن «الفاشية لن تمر». لقد اهتزت أركان الجامعة بعد ذلك الهجوم؛ واضطرت رئاستها إلى إقامة لجنة تحقيق أفضت إلى تقديم عدد من الطلاب لمحكمة تأديبية؛ ولكن، هكذا تبيّن في ما بعد، كانت تلك عبارة عن فقاعة أكاديمية تناثرت عراها في جوف الزمن ليبقى شعار «الموت للعرب» هو اللازمة المؤثرة وخريطة إسرائيل الوحيدة الملزمة، لا من على مدرجات ملاعب الكرة وحسب، بل في دفاتر الحكومة وقوانين الكنيست وقرارات القضاء وفي رصاص الجيش؛ فهل حقا الفاشية لن تمر؟

متلازمة علم فلسطين

لطالما أجّجت الرموز الحرب بين إسرائيل والفلسطينيين، وتاريخ هذا الصراع حافل بالامثلة؛ ولكن سيبقى العلم، خاصة في هذه الأيام، هو «ولي الدم» الحاضر وسيّد الفوران. لقد ذكّرنا كاتس بعام النكبة وفعل ذلك قبله بأسابيع الجنرال عوزي ديان؛ فلا جديد في قاموس «القداسة» على هذه الأرض سوى أن من يدعونها لأنفسهم وحدهم بدأوا يهدّدون أعداءهم جهارا ويطلقون عليهم النار من أجلها بلا تردد ولا خوف من العواقب؛ فإسرائيل الغائبة في الأسفار، هي أم تلك السلاسل والهراوات، وانبياؤها اليوم كأنبيائها في الأمس، لا يؤمنون بالليل وسترته. إنهم يقفون أمامنا ويهتفون بلا وجل: إن واجهت عدوّك يا «إسرائيل» اضربه بلا رحمة وبلا خجل وحتى إذا مات فاضرب نعشه حتى يسقط، ليرى العالم وليعتبر أو ليحبس أنفاسه على عتبات الجحيم.. وينخرس.
كاتب فلسطيني

 

 

شيرين…

هبة فلسطين للسماء

جواد بولس

 

ما زالت مشاهد قتل شيرين أبو عاقلة وتداعيات جنازتها التي استمرت على مدى ثلاثة أيام كاملة، تسكن فينا وتستثير الدهشة والدمع، الذي تغلب على “حياء جرير”، فبكى الرجال أيضا، في فلسطين وأبعد، موتا استثنائيا نزل عليهم في زمن استوطن فيه القهر حلوقهم وجفف الذل منابع آمالهم.
لن تنتهي محاولات الباحثين والمحللين لسبر حقيقة هذا الحزن المتدافع نحو أقاصي المدى، بتحدّ وحب خرافيين، وكأن شرايين السماء تقطعت فجأة، وأمطرت على “بلاد شيرين” غضبا مغموسا بتباشير بعث بطولي، كنا نعتقد أنه هجر مواقعنا وعاد إلى مأواه في الأساطير.
لم تكفِ تباريح المجازات كلها في وصف هذا الموت؛ ولم تسعف أحابيل البلاغة في رسم تقاسيم روح أيقونته الباقية. سيذهب الزبد وسيبقى، في بعض الفداء، صوت دم الحقيقة النازفة، وتردّد صدى القرابين المذبوحة الراحلة مسموعين. هي كذلك “أرضنا المقدسة”، تنام على حد سيف يوشع وزعيق أبواق أنبيائه الذين صلوا باسم ربّهم من أجل “أرضهم الموعودة”، وتصحو على حشرجات الفجر فوق التلال الفلسطينية المحتلة المغتصبة. ليس من الصعب أن نتصور كم سريعا سوف ينسى حكام العالم مقتل “ابنة الورد” الفلسطينية الندية؛ فعندهم يحصل كل شيء في عالم افتراضي ومتغيّر، بينما يبقى عهرهم ثابتا، ولهاثهم، وراء صنّاع الفجور والظلم، دينا ودنيا. قد تتباعد، بالمقابل، الذكرى عن موطنها وتتسرب أنفاسها الحزينة في أخاديد الزمن الفلسطيني والعربي؛ ولكن ذاكرات هذه الأجيال، التي تخصّبت من روعة الحدث، لن تنسى كيف بكى السحاب أنوارا، وشهقت طيور الجنة حائمة فوق نعش المقدسية، وكيف تمنت كل الحرائر أن يقفن اشبينات لشيرين في أبهى عرس ذكّر الناس بدموع المجدلية.

شيرين المسيحية، فلسطينية الوشم

إنني على قناعة أن شيرين تنظر إلينا من فوق وهي حزينة مرتين: مرّة لأن بعض رؤساء الكنائس، وفي طليعتهم قداسة البابا، تنصلوا من معرفة الحق، فلم يتحرروا، كما جاء في الآيات، بل غابوا عن المشهد وتلعثموا في تأثيم الجريمة والمجرمين وفي الدفاع عن الضحية؛ ومرّة عندما حرّم من حرّم، بفتوى مقحمة، الترحم على من افتدت عزة الضعفاء والمقهورين بروحها الطاهرة، لأن الترحم، بحسب هؤلاء المفتنين، على غير المسلم، حرام. من الواضح أن معظم الناس اكتشفوا ديانة شيرين بعد عملية قتلها، حيث كان لكشف هذه الجزئية تأثير صاخب إيجابي أدّى إلى مضاعفة التعاطف والحزن عليها. لقد مارست شيرين مهنتها لمدة ربع قرن بتفان مطلق وبتماه كامل مع رسالتها الإنسانية في الذود عن الحقيقة التي بحثت عنها في كل خبر نقلته، وفي كل تقرير أعدته بمهنية وبصدق؛ وكانت في سبيل الدفاع عن قضيتها الأولى والأخيرة، عن فلسطين المكلومة الحرة، تتنقل من موقع إلى آخر، وهي تصرخ من خلال حنجرتها الدافئة وعدسات كاميراتها المتوجّعة، وتعلن أنّها “فلسطينية العينين والوشم، فلسطينية الاسم/ فلسطينية الأحلام والهمّ، فلسطينية الكلمات والصمت /فلسطينية الميلاد والموت”. لا أعرف إذا كانت شيرين تخبئ مسيحها بين أضلاعها وتنتخيه ساعة الخطر، لكنني عرفت، كما عرف العالم بأسره، أنها عاشت وهي فلسطينية الهواجس والكلمات والصمت، وماتت وهي فلسطينية الروح والميلاد والاسم. وأعرف أنها كانت مثال المرأة الصالحة المؤمنة التي قاومت من خلال عملها، بإصرار وبمثابرة، الظلم والظالمين وساندت شعبها في مواجهة المغتصبين.

عرف العالم بأسره، أن شيرين عاشت وهي فلسطينية الهواجس والكلمات والصمت، وماتت وهي فلسطينية الروح والميلاد والاسم

من المؤسف ألا نسمع موقف قداسة البابا إزاء هذه الجريمة، وهو الذي ذاع صيته بالدفاع عن المقهورين والفقراء والضعفاء؛ فبدلا عنه سمعنا ممثل الفاتيكان في إسرائيل يكتفي بشجب ممارسات قوات الشرطة الإسرائيلية داخل باحات المستشفى الفرنسي في القدس ومهاجمتهم للمشيعين ولنعش الراحلة فقال: “إن تصرفات الشرطة كانت غير مبررة ولم تأت بسابق استفزاز”، وأضاف أن إسرائيل انتهكت حق العبادة بشكل “صارخ ووحشي”!

إن صمتي في وجه هذه المواقف الهلامية أبلغ

وهل يعقل أن يكتفي مثلا بطريرك القدس للاتين، وعلى أثر عملية القتل، بنشر بيان كنيسته الموجه فقط إلى آل أبو عاقلة، معلنا أنه “ببالغ الأسى تلقيت نبأ الوفاة القاسية لابنتكم وابنتنا الحبيبة شيرين، بينما كانت تنجز بأمانة وبشجاعتها المعتادة واجبها كصحافية لتغطية المعاناة اليومية لأهل هذه الأرض، وإعطاء منظور آخر للنزاع المعقد وأشكال الظلم كافة، الذي يمزق شعوب هذه الأرض”. أحقا لا يشعر غبطته بأن هذه النصوص اللولبية تمس إنسانيتنا وتحتقر عقولنا؟ موقف معظم رؤساء الكنائس في القدس إزاء معاناة الفلسطينيين من قمع قوات الاحتلال والمستوطنين جدير بالمتابعة والنقاش؛ وقد برز تقصيرهم بشكل واضح خلال الجنازة؛ وما إصدارهم تلك البيانات التي تعتمد لغة فضفاضة وتعابير دبلوماسية، إلا برهان على ابتعادهم المتعمد والتاريخي عن هموم المسيحيين العرب، أبناء هذه الأرض وأصحاب الرسالة الأصيلة، التي كانت من دون شك شيرين أبو عاقلة حاملتها هنا على الأرض وستكون حاميتها هناك في دنيا الأماني والوعود.. ألم تكن بالنسبة لكنائسكم شيرين مسيحية صالحة؟

شيرين المسلمة، أخت الفوارس

لقد تصدت فلسطين بمعظم مؤسساتها ومنصاتها ودحضت موقف من أفتى بعدم جواز الترحم على غير المسلمين. وكانت صور تشييعها، بداية في مخيم جنين وبعده في نابلس ورام الله وقلنديا والقدس، شهادات فخر لفلسطين ولشعبها. وستبقى، في الوقت ذاته، مشاهد أوباش الشرطة، أبناء الشر، وهم يهاجمون النعش وحامليه، براهين على لا إنسانيتهم وشهادات على بطولة أبناء القدس الذين تحمّلوا ضرب الهراوات وصمدوا وحالوا دون سقوط النعش، وكأنهم يحملون روح فلسطين ويحموها من كل أذى.  انها وقفات فلسطينية لن يمحوها التاريخ؛ ومع ذلك هنالك ضرورة لتعقب بدايات تلك الفتوى والتحقق من حقيقة انتشارها في حياتنا اليومية العادية؛ فبعضنا يعلم أن فتوى تحريم الترحم على من ليسوا مسلمين والمشاركة في جنازاتهم منتشرة في عدة مدن وقرى فلسطينية، هنا في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وبيننا، داخل المجتمع العربي في إسرائيل. لقد أتاحت لنا جنازة شيرين فرصة معالجة هذه الحالة والتصدي لآثارها المهلكة.

 شيرين “الجزيرة”

لقد قتلت شيرين رغم أنها كانت تلبس سترة الصحافة المميزة الواقية وخوذة بارزة. وفجع عالم الصحافة في أرجاء واسعة من العالم بسبب مقتلها، ولكن فاجعة زملائها في فضائية “الجزيرة” كانت هي الأكبر، خاصة بين من عرفها منهم شخصيا وعمل معها بشكل يومي وواجه مثلها المخاطر والتحديات نفسها. لقد كان لافتا حجم الجهد الذي بذلته “الجزيرة” في تأمين تغطية الجنازة من كل زاوية ممكنة، وعلى جميع المستويات، الميدانية والوجاهية مع عشرات، إن لم يكن مئات المعقبين والمعلقين والمحللين من عدة دولة في العالم. وكما فهمت من شهادات بعض الخبراء لم يكن ذلك ممكنا لولا أن استحضرت “الجزيرة” كما هائلا من المعدّات المتطورة والطواقم المؤهلة التي عملت بوفاء، على مدار الساعة لمدة ثلاثة ايام وتابعت تفاصيل مأساة مقتل واحدة من أبرز مراسيلها التاريخيين. كانت شيرين مراسلة مخلصة لفضائية الجزيرة ولم تغادرها حتى بعد أن تراجعت شعبية المحطة داخل فلسطين وغيرها من الدول العربية بشكل ملحوظ وواسع، وكما شاهدنا، فلقد أوفت “الجزيرة” أمانتها لابنتها الفقيدة، فردّت شيرين وهي في رحلتها نحو أجمل الفراديس، على الوفاء بوفاء، وكان أن استعادت “الجزيرة” شعبيتها بين الناس الذين واصلوا البكاء وانتظار تحقيق وعد الجزيرة بألا يذهب دم نجمتهم هباء.

 شيرين البلاغة

سيكون صعبا على أجناس البلاغة رسم صورة للأمل وهو يقتل على حافة العدم؛ فلنلجأ إلى “طباق” محمودنا، سيد البلاغة، الذي قال “قناصة بارعون يصيبون أهدافهم بامتياز. دما دما ودما، هذه الأرض أصغر من دم أبنائها الواقفين على عتبات القيامة مثل القرابين. هل هذه الأرض حقا مباركة، أم معمّدة بدم ودم ودم لا تجففه الصلوات، ولا الرمل. لا عدل في صفحات الكتاب المقدس يكفي لكي يفرح الشهداء بحرية المشي فوق الغمام. دم في النهار. دم في الظلام. دم في النهار. دم في الكلام”.
فوداعا يا “عروسا لا عريس لها”، يا من وقفت على عتبات القيامة، ويا من أشعلت بموتك بوارق الأمل في أرض اليباب.

*كاتب فلسطيني

 

 

فلسطين تنجب أيقوناتها

جواد بولس

 

قُتلت شيرين أبو عاقلة، صباح يوم الأربعاء الفائت، على أرض مدينة جنين الفلسطينية؛ وكانت قد وصلتها كي تغطي، لصالح فضائية «الجزيرة» عملية اجتياح أحد أحياء المدينة من قبل قوة تابعة لجيش الاحتلال الإسرائيلي. لقد سقطت بعد أن اخترقت خوذتَها رصاصةٌ أطلقها قناص إسرائيلي، تعمّد وفقاً لجميع البراهين والقرائن والأدلة، قتلها. ومنذ انتشار نبأ الفاجعة تحاول إسرائيل التهرب من مسؤوليتها عن عملية اغتيالها، بيد أن شهادات العديدين من شهود العيان الذين كانوا على مقربة منها وفي مكان الجريمة، تؤكد أن عناصر جيش الاحتلال هم من أطلقوا النيران باتجاهها وتسببوا بقتلها.
من الواضح أن إسرائيل ستحاول، بشتى الوسائل والادعاءات، التملص من تبعات هذه الجريمة؛ لاسيما بعد أن شاهد زعماؤها ردات الفعل الجماهيرية الغاضبة التي اجتاحت، لا ساحات فلسطين وحسب، بل الكثير من مدن وعواصم العالم؛ وسمعت سيل شجوبات المسؤولين السياسيين في العديد من الدول العربية والغربية، على حد سواء، واستنكارات رؤساء معظم المؤسسات الحقوقية والمدنية في المجتمع الدولي.
من السابق لأوانه أن نتكهن كيف ستتداعى فصول هذه المأساة، بعد أن تجف الدموع في المآقي، وعند وقوع الفاجعة المقبلة؛ ولكننا، رغم رجوح التوقعات بأن «ضمير العالم» الغائب عن فلسطين المحتلة منذ عقود لن يصحو بسبب ولادة أيقونة فلسطينية جديدة، سوف تبقى مشاهد آلاف المواطنين، وهم يجتاحون شوارع وميادين المدن الفلسطينية، مدعاة للدهشة، ووقودا يتخزّن في مراجل شعب انتفض باكيا على ما كانت شيرين أبو عاقلة تعنيه في حياتها بالنسبة لهم.
لم يكن سهلا عليّ أن أستوعب حجم ردّات فعل الناس وحزنهم المتهاوي بعفوية صادقة منذ شيوع نبأ الوفاة؛ خاصة أن فلسطين متمرسة بتوديع شهدائها، ومنهم من سقطوا وهم يؤدون واجبهم الإعلامي. في البداية عزوت حالة الكآبة الشديدة التي أصابتني وأقعدتني، طيلة ذلك النهار، في البيت، إلى كوني أعرف شيرين شخصيا، منذ بداية عملها الصحافي، وقيامها بتغطية العشرات من القضايا التي تابعتها في مسيرتي، وإلى تراجيدية موتها؛ لكنني سرعان ما تنبهت إلى أن القصة ليست أنا ولا هم، بل هي شيرين: تلك الفتاة المقدسية الوادعة التي كبرت على طريق الآلام، وكيف أسكنها الناس في عيونهم، وكيف عاشت بهدوء في قلوبهم. لم تكن مشاهد العزاء ووداع الجثمان في جنين ونابلس ورام الله والقدس وغيرها من المواقع، هنا وفي الخارج، متوقعة ولا مسبوقة أو مفهومة ضمنيا، خاصة إذا تذكّرنا أن الضحية هي صحافية وأنثى ومسيحية. قد يحسب، في عرف العادة، جميع الشهداء سواسية في الرحيل وفي القصيدة والدعاء، ولكن ليس في فلسطين، فحين ينهمل الدمع من عيون الأمهات الماجدات الصابرات في أزقة مخيم جنين على فراق «حفيدة المريمات» تمّحى كل المسافات وتصبح شيرين الفلسطينية خنجرا من نور مغروس في خاصرة القهر. وكذلك عندما يسير الرجال وراء رايات وصور «أخت انطون» هاتفين لروحها الطاهرة، ترقص النجوم في سماء الشرق وينخرس الجهل؛ وعندما يحكي الشيخ الثقة كيف بكت اخته رحيل شيرين الأيقونة، تخاف الشياطين ويصحو في فلسطين شعب الجبارين.

حين ينهمل الدمع من عيون الأمهات الماجدات الصابرات على فراق «حفيدة المريمات» تمّحى كل المسافات وتصبح شيرين الفلسطينية خنجرا من نور مغروس في خاصرة القهر

إنّهم، في إسرائيل، يخافون هذا العرس؛ بينما يحسب حلفاء إسرائيل، من عرب ومسلمين وغرب، حساباتهم، ويخشون أن تنفجر الحناجر وتصير مناجل، والأكف أبسطة من ريح. تتحدث الأخبار عن أن جهات دولية عديدة توجهت إلى حكومة إسرائيل وطالبتها بضرورة إجراء تحقيق في حادث مقتل شيرين أبو عاقلة ونشر نتائجه علنا. وقد ذكرت المواقع موقف الخارجية الأمريكية التي قال متحدثها الرسمي في تغريدة له: «نشعر بالحزن الشديد، وندين بشدة مقتل الصحافية الأمريكية شيرين ابو عاقلة، في الضفة الغربية. يجب أن يكون التحقيق فوريا وشاملا ويجب محاسبة المسؤولين». لا أثق بجميع هذه البيانات التي تمليها قواعد البروتوكولات الدبلوماسية وحاجة بعض الزعماء لتخدير شعوبها، لاسيما أولئك الذين يتشدقون بدفاعهم عن الحريات الأساسية، وبضمنها حرية الصحافة وسلامة الصحافيين. وكي لا نطيل الحديث في هذه الجزئية، يكفينا أن نستحضر موقف الإدارة الأمريكية إزاء مقتل المسن المواطن الفلسطيني عمر أسعد، قبل أربعة شهور بالتحديد، ومطالبتها إسرائيل بالتحقيق في الحادث ومحاسبة المسؤولين عنه. فحينها، وعلى أثر افتضاح وقوع تلك الجريمة، أعلن الناطق باسم وزارة الخارجية الأمريكية، أن «الوزارة على دراية بموت الفلسطيني الأمريكي عمر أسعد، الذي يبلغ من العمر ثمانين عاما، بعد اعتقاله وتكبيل يديه، على أيدي سلطات الاحتلال الاسرائيلي.. لقد وجهت استفسارا إلى الحكومة الإسرائيلية بشأن ملابسات وفاة عمر أسعد ونحن بانتظار الرد».
هل تتذكرون تفاصيل تلك المأساة؟ لقد مرّت أربعة أشهر عليها ولم تتخذ أمريكا أية خطوة باسم الحقيقة، أو دفاعا عن حقوق مواطنيها، فهل هناك من يعتقد أن هذه الأمريكا سوف تغيّر جلدها وتتحرك بسبب اغتيال أيقونة فلسطينية اسمها شيرين، فقط لأنها تحمل الجنسية الأمريكية أيضا؟ لو سئلت لنصحت أصحاب المصلحة والشأن بأن يرفضوا كل محاولات إقامة أية لجنة تحقيق، ولنصحت في الوقت نفسه بإعداد ملف فلسطيني يوثّق لعملية الاغتيال بصورة مهنية ومتكاملة، والذهاب فيه إلى المحاكم الدولية والأمريكية؛ فمجرد القبول بفكرة إقامة أية لجنة تحقيق سيثير الشك في هوية القاتل، وهم عناصر جيش الاحتلال، ويضعضع صحة الرواية الفلسطينية، وهي واضحة وضوح الدم الذي سال من رأس شيرين.
أصغيت لعشرات المواطنين والمواطنات الذين شرقوا بدموعهم وهم يحاولون أن يصفوا مزايا شيرين التي عرفوها؛ وسمعت شعراء حوّلوا حزنهم عليها شعرا يبكي «العكاز والحجرا» حتى جاءت ابنة مخيم جنين السيّدة أم أحمد فريحات، ولخصت لنا أهم فصول هذه الحكاية؛ فشيرين، كما حكت دموع الناس، كانت واحدة من أهل هذه الأرض، إلى جانبهم ساعة يخوضون معاركهم، وتنبش، مثلهم، بأظافرها، الأنقاض لتخرج ضحاياهم من تحتها. وكانت تعطش مثل أفقر وأصلب البسطاء ولا تجد نقطة ماء لتشربها، وتلتحف ترابهم برضا وتحتضن أوجاعهم وتنام، جنبا إلى جنب، على شوكهم. كنت أسمع أم أحمد بصمت باك، وبجانبي تجلس ابنتي وصديقاتها، وقد «تولى الدمع عنهن الجوابا» فلما هتفت أم أحمد «من جنين الأبية طلعت شمعة مضوية/ يا شباب الله الله، هاي شيرين مش حيا لله» نظرت نحوهن وسألت ابنتي، لماذا هي بالذات؟ ماذا كانت تعني لكنَّ؟ حبست أنفاسها برهة؛ ثم انطلقت وكأنها تستعيد ماضيا يسكنها بين الجفون، فقالت: «إنها أيقونة جيلنا؛ لقد وعينا على طلّاتها كفرس أصيلة تتنقل من موقع إلى آخر وهي محملة بهم فلسطيني صادق. كانت صحافية مهنية من دون ابتذال، وكان الحزن في عينيها رسائل وفاء تنقلها باسم كل حر ومقاوم لظلم الاحتلال. فلسطينية من دون نواقص ولا زوائد، حتى أننا لم نكن، قبل استشهادها، نعرف أنها قد ولدت في عائلة مسيحية». قالت هذه الجملة بصوت خافت وكدليل على أصالة شيرين، وصمتت ثم أكملت: «كما أنها كامرأة كانت لنا قدوة في الشجاعة وفي كبريائها الواثقة.. لقد كنا مرارا نقف أمام مرايانا ونقلدها ممسكين ميكروفونا وهميا ومرددين: «معكم شيرين أبو عاقلة، الجزيرة، من القدس المحتلة»؛ ثم أنهت وقالت: «كنا، أنا وأبناء جيلي، إناثا وذكورا، نحلم أن نصير مثلها». وتمنت، بصوت مخنوق، ألا يذهب موتها سدى وتمتمت من قصيدة الشاعر درويش: «تُنسى كأنك لم تكن/ تُنسى كمصرع طائر/ ككنيسة مهجورة تُنسى/ كحُب عابر، وكوردة في الليل… تُنسى». وبكت.
للحقيقة، أنا أيضا أخاف من الآتي، وأشك في ما إذا سيؤدّي موت شيرين إلى تغيير في سياسات الدول تجاه الاحتلال الإسرائيلي وموبقاته، أو إلى هزة في وسائل الإعلام العربية والعالمية، أو حتى إلى الكشف عن القاتل؛ لكنني على ثقة أن ما شاهدناه، بعد موتها في فلسطين وغيرها، سيبقى نذورا مدفونة في الصدور وفي الأرض ولسوف يصير ذات فجر وعودا وعواصف مهما طال ظلم وظلام الاحتلال وطفَح بطشه.
كاتب فلسطيني

 

 

لغزة من

قلوبنا سلام ورجاء

جواد بولس

 

استحوذ خطاب القيادي يحيى السنوار رئيس حركة حماس في غزة، الذي ألقاه يوم السبت الفائت، أمام جمهرة من الشخصيات الإسلامية والوطنية وممثلي المؤسسات والأطر السياسية والاجتماعية، على انتباه معظم سياسيي الدول، الذين يتابعون تداعيات الأوضاع الراهنة في فلسطين والمنطقة. لا يكثر القيادي السنوار في طلّاته الإعلامية، ولا في إلقاء خطاباته أمام الحشود؛ وعندما يختار أن يفعل ذلك تكون الرسالة الأولى في توقيت خطبته والإشارة إلى استشعاره بأن خطبا جللا قد يقع في كل لحظة؛ ويبقى المخفي، كما تعرف القدس، أوجع وأعظم.
لقد تعمّد السنوار توجيه رسائله وتحذيراته، إما بشكل مباشر أو مضمر، إلى عدة عناوين محلية، وقطرية وعالمية، وبرز في مقدّمتها، بطبيعة الحال، قادة إسرائيل، من سياسيين وعسكريين، وقادة الدول العربية والإسلامية، وفي طليعتهم دولة مصر، كما خصّ جميع الفلسطينيين، بمن فيهم نحن، المواطنين العرب في إسرائيل.
لن أتطرق، في هذه العجالة، إلى جميع محاور خطابه، رغم أهميتها، وسأكتفي بمعالجة أقربها الينا؛ فرسالة السنوار إلى المواطنين العرب، خاصة تلك التي وجّهها إلى أعضاء القائمة الإسلامية الموحّدة، وتحديدا إلى رئيسها منصور عباس، تعدّ أكثر من عتاب معقول بين المؤمنين الأخوة؛ وتقترب إلى كونها انذارا ساخنا وتدخلا لافتا يستدعي المناقشة بهدوء وبمسؤولية؛ فهو حين يصرّح بأن «شبكة الأمان التي تمنحها القائمة الموحّدة للحكومة الإسرائيلية، تشكّل جريمة لا تغفر، وبأن عضوية القائمة الموحّدة في الائتلاف الحكومي تعدّ تنكّرا لدين أعضائها ولعروبتهم» يعلن بوضوح عن طبيعة فهم حركة حماس لاشتباك علاقتها مع العرب المسلمين في إسرائيل، ويفترض ضرورة أن تتوافق هذه العلاقة بشكل جوهري مع العقيدة الدينية، كما تترجمها وتؤمن بها حركة حماس وقادتها، وأن تتكامل معها على مستوى النهج وفي جميع وسائل تمكينها النضالية. وإذا ما أضفنا لهذه الجزئية العامة نعته للدكتور منصور عباس «بابي رِغال» (وهو اسم الشخصية التي صارت رمزا عربيا موروثا ينعت به مَن يخون قضية قومه من أجل مصالحه الضيّقة والشخصية، كما تعاون هذا الرجل مع أبرهة الأشرم، ملك الحبشة، في حملته على الكعبة بغرض تدميرها في السنة التي ولد فيها الرسول محمد وعرفت تاريخيا «بعام الفيل») نتحقق من ضعضعة مكانة ما كان معروفا بيننا مجازا بعهدة «الستاتوس كوو»؛ وهي مجموعة قواعد سلوكية سياسية وقيم وطنية واجتماعية، درجت فئات شعبنا الفلسطيني، بينها وبين بعضها، على احترامها ومناقشتها محليا، لاسيّما إذا تعلّق الأمر بقضايا وجودية تخص علاقتنا كمواطنين فلسطينيين مع الدولة. وللنزاهة أقول: لم تكن حركة حماس متفرّدة في نقض تلك العهدة، أو ربما ليست هي أول من اخترقها جهارة وبشكل عملي وتنظيمي متعمّد؛ فقد سبقتها فصائل فلسطينية أخرى وقيادات دول عربية مختلفة عملت جميعها، منذ سنوات طويلة، على استمالة معظم قيادات مجتمعنا العربي، السياسية والاجتماعية والدينية والمدنية، ونجحت باحتضان بعضها من خلال عمليات تدجين أفضت إلى خلق حالات من «الانتماءات الرخوة» وجزر بشرية مرتبطة بمن يسمّنها ويحافظ عليها ويشتري ولاءاتها بآهاتها وفق أنظمة «دكننة» متستر عليها. لقد برّر البعض، في حينه، الشروع ببناء تلك العلاقات بالتماهي الأيديولوجي، أو لاحقا، تحت ذريعة «التواصل الإنساني» وهي قضية محقّة وحارقة؛ لكنّ تجنيدها، كما حصل في تلك الأعوام، بحجة اختراق جدارات شام الأسد، كان، كما تبيّن فيما بعد، مجرّد بدعة أدّت إلى زعزعة قلاع حصانتنا، ثم إلى تصدّعها بعد اعتماد تقليعات جديدة من التواصل، التي سرعان ما صارت تصرف على شكل مكرمات سلطانية أو أميرية أو ملكية، والتهافت عليها، مرّة باسم دعم طلّابنا، ومرة إنقاذا لمرافقنا الحيوية، ومرة لتنمية مؤسساتنا المدنية، أو باسم التصدي لزحف اليمين الإسرائيلي الفاشي؛ وهكذا حتى وصلنا عمليا إلى ترسيخ وتمتين ظاهرة تشابك مصالح الحركات الإسلامية، على اختلاف رؤاها ومشاريعها التفصيلية، مع أخواتها العربية والإسلامية ومع الأنظمة العربية والإسلامية والغربية الراضية عنها، التي شكّلت لتلك الحركات مظلات ودفيئات في بلاط آل سعود، أو تحت أجنحة السلطان أردوغان، أو داخل قصور أمراء الخليج، أو كما سمعنا في خطاب القيادي السنوار، في حضن الجمهورية الإسلامية الايرانية.

نعيش في زمن لم تعد فيه «الخيانة» للأسف، حالة معرّفة ومفضوحة ومعرّاة ولا حتى مجرد وجهة نظر، بل صارت خيارا ورأيا وصرعة واجتهادا

هنالك حاجة لدراسة هذه المسألة ولاستخلاص النتائج والعبر منها؛ فاليوم لسنا في معرض وضع الإصبع متى وكيف حصل الاختراق الأول في منظومة الكوابح التي حمتنا من هذا التشرذم أو الاحتضان، وحافظت على هويتنا الواحدة الجامعة؛ لكن قد يكون الاعتراف بالواقع أولى الخطى نحو الخلاص، ومراجعة ما فعلته كل حركة أو مؤسسة وما رضي به كل حزب في هذه القضية، ستكون الشرط الذي قد يعيد لهذه الهيئات والأحزاب رشدها وشرعية حقها في مناقشة مواقف بعض الحركات الإسلامية كما عبّر عنها القيادي السنوار، بكل حزم ووضوح ومباشرة، وجميعنا يعرف أن هناك من يصغي إليه ويؤيده بيننا.
من يراجع موقف حركة حماس من «القائمة الإسلامية الموحدة» سيجد في الخطاب الأخير لهجة تصعيد بارزة، تجاه قيادات الحركة الإسلامية الجنوبية خاصة تجاه الدكتور منصور عباس. لا أعرف باليقين ما هي مسببات هذا التغيير، وما جعل حماس تختار خطاب التخوين المباشر بدل المناقشة السياسية أو المحاورة الدعوية؛ خاصة إذا انتبهنا إلى أن «الخيانة» في كثير من تجلّياتها، لم تعُد موضع إجماع بين أفراد الأمة أو بين مللها ونحلها. لكنني أشعر بأن حركة حماس، ونظيراتها في الحركات الاسلامية السياسية المتآخية، بدأت تشعر بخطورة نهج الحركة الاسلامية الجنوبية عليها؛ لاسيما في الظروف الخاصة التي يعيشها مجتمعنا العربي في الداخل، الذي من أجل رغده، كما تدّعي القائمة الموحدة، تصرّ على المضي مع حكومة بينيت – لبيد، وهي معززة بفتاوى مشايخها وبتبريرها الذرائعي بأنها تفعل ذلك لمصلحة المؤمنين والفقراء وأبناء الشعب. لقد ووجهت الحركة الإسلامية الجنوبية بانتقادات لاذعة أطلقها شيوخ وقادة في الحركة الإسلامية الشمالية المحظورة من قبل حكومة إسرائيل، وعلى الرغم من صراحة ما قيل وقساوته، نجحت قائمتها في الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة، وهناك من يدّعي بأن شعبيتها تزداد رغم الهجوم عليها وتخوين طريقها بسبب مواقفها النفعية. قد تخشى حركة حماس أن يصيب داء الالتباس «معادلة الهدنة» بينها وبين الاحتلال الإسرائيلي، التي يتم الحديث عنها في الأخبار من حين لآخر؛ وتخشى أن يُستغل ذلك الالتباس، بشكل مقصود، في تسويغ علاقات بعض المفاعيل والجهات السياسية العربية والفلسطينية مع إسرائيل، خاصة بعد أن نجحت الحركة الإسلامية الجنوبية، من خلال اعتمادها على نصوص ملتبسة، بتحوير وتشويه مفهوم المواطنة، و»تحريره» من ضرورة تحقيق حقوقنا الوطنية، كرديف لتحقيق حقوقنا المواطنية. لقد وضع هذا الالتباس المواطن المسلم العادي في إسرائيل وفي غيرها من المواقع، أمام معضلة جديدة لا يبدو أن الحسم فيها سيكون قريبا أو سهلا، حتى إذا اتهمت حماس ومن يؤيدها منصور عباس بكونه «أبو رغال» هذه المرحلة؛ فللحركة الإسلامية الجنوبية مكانة ولها امتداد شعبي محسوس وتدعمها زعامات وقيادات محلية بضمنها رؤساء مجالس وبلديات معروفين.
لغزة بحرها وسنوارها وحلمها، ولنا، نحن العرب في إسرائيل، ما لنا وما علينا؛ وكم ناقشت وناقش غيري مواقف «القائمة الموحدة الإسلامية» واعتبرناها مضرة بمصالح مجتمعنا؛ لأنها علاوة على ترسيخها لسابقة سياسية خطيرة، ستفضي مع نهاية التجربة، إلى تقوية القوى اليمينية الفاشية. وعلى الرغم من انتقادنا الشديد لمواقفها لم ألجأ إلى تخوين أعضائها وقياداتها، لأننا ببساطة، كما قلت سابقا، نعيش في زمن لم تعد فيه «الخيانة» للأسف، حالة معرّفة ومفضوحة ومعرّاة ولا حتى مجرد وجهة نظر، بل صارت خيارا ورأيا وصرعة واجتهادا. للخيانة مقاسات ومساطر، وجميع هذه كانت، يوم كنا نصحو على صوت الندى، واضحة وضوح الجرح في جبين الفجر؛ واليوم صار كل شيء زائغا، حتى الربيع في شرقنا صار يخشى ضوء القمر. لقد بدأت مأساتنا حين اختلّت معاني التحرّر ومزّق الوطن، قبل وقوع منصور عباس عن حردبة الأمل. وكبر جرحنا حين رضينا بأن يبقى من سقطوا عن صهوات العزة والكرامة قادة أحزاب وطنية وأصحاب رأي وقلم، وحين صار لكل معبد دين وجيش وفقهاء ودولة وعلم. للخيانات رائحة الملح والعرق وصوت يشبه هسيس الجن لن تخطئه حين تسمعه حتى لو كنت ساكنا في بلاد العسل. والخيانات تتكاثر بيننا كالنمش على صدور السحاب، وتختبئ كحبات الرمل تحت الأظافر، وفي عرى معاطف «الخواجات» وعميقا في جيوب الطغاة وتحت وسائد السهر. سيحمل منصور عباس وحركته وزر ما فعلوا، وسيحاسبهم مجتمعهم إن كانوا مخطئين أو جناة بحقه؛ وإلى أن يتم ذلك، أو عكسه، دعونا من إغواء الاستعارات ووقعها المؤذي. أولم نكن وحدنا، نحن أبناء الشمس، حين رفونا للتاريخ ملاءات من ورد حكاياتنا وسقينا الينابيع دموع الأمل؟
كاتب فلسطيني

 

 

جمعة القدس الحزينة

جواد بولس

 

لن يسمع العالم، بأغلب الظن، بتفاصيل القضية التي رفعَتها يوم الثلاثاء الفائت مجموعة صغيرة من المواطنين العرب المسيحيين المقدسيين، بالنيابة عن بعض المؤسسات الأرثوذكسية المقدسية، وبالأصالة عن أنفسهم، ضد قرار شرطة إسرائيل القاضي بتحديد أعداد المشاركين في احتفالات عيد الفصح التي ستجري في رحاب وداخل كنيسة القيامة، وأهمها صلاة «الجمعة العظيمة» وصلاة سبت «فيض النور» وقداس «أحد القيامة».
أكتب مقالتي قبل صدور قرار المحكمة العليا، التي لجأ إليها الملتمسون باسم الدفاع عن حرية العبادة والحركة في مدينة محتلةٌ كل أركانها؛ لأنني أفترض أن هذه المحكمة ستبقى، كما كانت، بعيدة عن إحقاق العدل مع الفلسطينيين، ولأنني على قناعة بأن مشكلة المواطنين الفلسطينيين المسيحيين تبدأ مع ما يضمره لهم رؤساء هذه الكنيسة اليونانيون – الذين يتسيّدون على كنيسة القيامة وعلى أهم الكنائس المسيحية الأخرى في «الأرض المقدسة» ويبسطون على جميعها سلطتهم المطلقة – وتنتهي في مواجهة قمع الشرطة الإسرائيلية التي تنفّذ سياسات الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، بذريعة المحافظة على سلامة الناس وأمنهم.
لن أستعيد، في عجالة، تاريخ هذه العلاقة المأساوية بين أهل البلاد العرب المسيحيين ومن استعمروا الكنائس وأوقافها بمؤازرة السياسيين وتعاون رجال إكليروس عاجزين، وتواطؤ حفنة من أبناء هذه الكنيسة المنتفعين؛ لكنني أؤكد مشاعر الاغتراب القاسية، والمهينة أحيانا، التي تنتاب كل مسيحي حر حين يدخل هذه الكنائس التي يتحكّم فيها كاهن أو كهنة يونانيون، خاصة في كنيستَي القيامة (أم الكنائس) والمهد. وهذا هو بيت القصيد في هذه الحكاية. فالقضية، إذن، أكبر من كونها معركة على ضمان حرية العبادة والحركة لسكان حارة النصارى أو للوافدين إلى البلدة القديمة في هذه الأيام، ورغم أهمية هذه المعركة القضائية التي يخوضها بعض الغيورين على القدس، يجب أن نتذكّر أن الفصح، عند مسيحيي الشرق يُعدّ من أهم الأعياد، لا بل هو العيد الكبير، عيد الأعياد وموسم التهاليل والفرح العظيم؛ وهو، في البداية وفي النهاية، عيد مدينة القدس التي كان ترابها مأوى رقاد السيد المسيح، وعنوان قبره الذي يعتبر القبلة المشتهاة عند جميع المؤمنين من مسيحيي العالم. لقد دافع الكثيرون من عرب فلسطين المسيحيّين، منذ أكثر من قرن، عن كرامتهم الإنسانية وعن هويّتهم العربية وعن إيمانهم بمسيحية مشرقية، وحاولوا، رغم جميع العراقيل التي واجهوها، تحرير كنائسهم وحماية عقاراتها وأوقافها؛ لكنهم فشلوا لأسباب عديدة، فبقيت معظم تلك الكنائس وممتلكاتها، الروحية والمادية، تحت حكم أغراب مستعمرين جاؤوها في حقب تاريخية رمادية، وفي ظل أزمات عانت منها مجتمعاتنا المحلية، فأسروا صليبها واستحوذوا على مسيحها؛ على مهده وعلى قبره، وتنمّروا على رعاياها العرب من أهل البلد.

دافع الكثير من عرب فلسطين المسيحيّين، منذ أكثر من قرن، عن كرامتهم الإنسانية وهويّتهم العربية وعن إيمانهم بمسيحية مشرقية، وعن كنائسهم وعقاراتها وأوقافها؛ لكنهم فشلوا

ليالي شرقنا طويلة «فكليني لهمٍّ يا أميمةَ ناصب»؛ هكذا كتبت قبل أكثر من عقد وكان ليلنا حينها كليل النابغة الذبياني، وأمانينا كالنجمات معلقة على أهداب السحاب. لم نحب النابغة أكثر من أترابه من فحول ذلك الزمن، لكنني ما زلت أذكر كيف علّمونا أنه «أشعر الناس إذا رهب» وأنه «لا يرمي إلا صائباً» وهو الذي أجاد ووصف «ليلنا البطيء الكواكب». لقد كنا في الأمس صغاراً وكانت صباحاتنا كصباحات صغار اليوم، كلّها نزوات؛ وكبرنا فصارت ليالينا، كليالي كبار الأمس، كلّها شهوات، وبقيت جُمعاتنا كجمعة الذبياني حزينة وعظيمة وأمانينا معلقة على حدبة العمر. لا حاجة لتغيير ما كتبت حينها، قبل أكثر من عقد؛ فالخلاصات في أرضنا السليبة تبقى مثل «بنات الجبال»؛ و»جمعة القدس» تأتينا منذ ألفي عام بفرحها الحزين وبآمالها الكسيرة، وكأننا نعيش في زمن توقف منذ دُقّت المسامير في راحتي «ابن الإنسان» بعد أن علّقه الرومان، أباطرة ذلك العصر، على خشبة، صاغرين أمام جبروت من تسلّحوا بغضب ربهم وصالوا بمالهم وأمروا فنالوا. لقد كانت أيام خَلِّ وما زالت؛ ففتشوا عن الحكمة في هذه الرواية، ستجدوا أبناء فلسطين يتجرعون اليوم خلّ الطغاة كما تجرّعه ابنها بعد أن اتهموه بالكفر وبالتمرد وسجنوه وعذبوه وحاكموه، فمات مصلوباً لتروي دماؤه قحل الزمن، ولتبقى كلماته نوراً في الأرض وغرساً في قلوب الأنقياء والضعفاء الفقراء. لقد وقف أسير فلسطين، ابن ناصرة الجليل، ولم يعترف بشرعية محكمته وقد اتهموه بجناية «التجديف» فاضطروا إلى نقله لبلاط الوالي الروماني كي يقاضيه هذا بتهمة التمرد على سلطة قيصر؛ بعد أن تبين للكهنة اليهود أعضاء «السنهدرين» أن روما لن تقبل اتهامه بجناية التجديف، لكونها تهمة مبنية على المفاهيم الشرعية لتلك الطائفة اليهودية.
لم يعترف يسوع التلحمي بالتهمة ولا بشرعية الوالي الروماني، ورفض، رغم تعذيبه، التعاطي مع «المحكمة». لن أسترسل بتفاصيل أسبوع الآلام ونهايته بعيد الفصح المجيد؛ فالمسيح خرج عن طاعة الكهنة اليهود وكان يعرف أن الإجراءات بحقه هي مجرد مؤامرة مدبرة من مجموعة كهنة خافوا على سلطتهم ومواقعهم، فلفقوا القضية ضده. لم تكن أحلام صاحب الفصح من شوك ولا تعاليمه سفسطة، وقد أوجزها بموعظة صارت تعرف «بموعظة الجبل» التي وصل صيتها حتى أورشليم، فجاء أهلها «رقاق النعال» يستقبلونه بالريحان على مشارفها وبالأهازيج وبالسباسب، وهي سعف النخيل في لغة النابغة الذبياني وأهل عصره. لقد سموه عيد الفصح؛ عيد العبور، عيد التجاوز والانعتاق، عيد «القيامة» فمن يسر على درب الخير وعمل الصالحات ينجو ويعش اسمه إلى الأبد. هكذا آمنا صغاراً، من باب الخوف وغريزته الأقوى حين تواجه المجهول والمطلق. فأخذنا من السالفين ما ورثوا ورددوا فصار «هذا هو اليوم الذي صنعه الرب، فلنفرح ولنتهلل به». ثم كبرنا ولم يبقَ في صدورنا غير القلق الأكيد والفرح الإنساني البسيط، فأسكنا «القيامة» في بيضة وأعطيناها للأطفال كي يلهوا ويتفاقسوا بها؛ أمّا إكليل الشوك فحوّلناه كعكاً من قمح هذه الأرض فطحناه وعجناه وحشونا بالتمور وبالجوز والسكر. وإسفنجة الخل استقوينا عليها بخيال الحالمين فخبزناها بأجواء كلها إلفة عائلية معمولا ليؤكل ويمحو طعمه، ولو ليوم واحد، طعم الخل والعلقم. إنها تحايلات البشر على هشاشة الرمز وعبثية المعنى، وموروثهم المنقول كوسائل إيضاح بدائية لعقول، مهما سمت وتسامت، سيبقى مفهوم القيامة عليها عسيراً أو عصياً.
عيدنا اليوم كعيد الذبياني، ولا يختلف عنه عيد «أبي الطيب»: فرح حامض وبهجة عابرة؛ همٌّ ينام ولا يترك وسادة لنوم حامله. إنه عيد الحياة والفداء والتضحية؛ عيد الحب والصفح؛ تماماً كما أوصى وهو على ذاك الجبل: «أحبوا أعداءكم وباركوا لاعنيكم وأحسنوا لمبغضيكم». لقد قالها ومشى إلى أورشليم، والنهاية كانت كما جاء في الكتب. واليوم، في هذه الجمعة الحزينة، تبكي عذارى أورشليم على دروب الآلام كما بكت قبل ألفي عام، وكما بكت معهن مريم الممتلئة نعمة ونقاء؛ والمحتفلون بالعيد يتلون دستور الإيمان عن ظهر غيب، ويلجأون إلى سحر المجاز الذي في البيض والكعك والمعمول، ويحتفلون بقيامة سيّدهم. لقد ذهبت روما وبقي «قوس بيلاطس البنطي» في القدس البهية شاهداً على محاكم الظلم وعلى معاني الفداء، وبقيت فلسطين، في الفصح، كما كانت: بحة المدى وصاحبة فجره الدامي، وقطرة الندى؛ وإن غفا على جفونها الوعد حتماً ستصحو ذات نيسان ليحتضن أبناؤها «قاف» القمر وليندلق من خواصر مريماتها نور الأزل.
فكل عيد وجميعكم فوق الأرض.
كاتب فلسطيني

 

 

والقول كما قال أيمن

في باب العامود… ولكن !

 

جواد بولس

نشر النائب أيمن عودة يوم الأحد الماضي شريط فيديو قصيرا، بطول دقيقتين ونصف الدقيقة فقط، كان صوّره وهو يقف أمام أشهر وأكبر المداخل إلى مدينة القدس القديمة المحتلة، المعروف باسم «باب العامود».
ولم تتوقف حملة التحريض الإسرائيلية ضد النائب عودة رئيس القائمة المشتركة، منذ لحظة نشر الفيديو حتى يومنا هذا، ولم يشارك فيها أبواق اليمين الصهيوني المنفلت ووسائل إعلامهم وحسب، بل انضم إليهم أيضا قادة الأحزاب الصهيونية وإلى جانبهم معظم وسائل الإعلام العبرية ومن يعملون فيها تحت صفة صحافيين؛ وهم من هذه المهنة براء.
لقد نشر النائب عودة شريطه المصوّر بعد أن التقى مع عدد من المواطنين الفلسطينيين المقدسيين، الذين اشتكوا أمامه من اعتداءت بعض المواطنين العرب من حملة الجنسية الإسرائيلية المجنّدين في قوات أمن الاحتلال، على المصلّين المقدسيين وعلى غيرهم، وعلى المواطنين الذين يسكنون داخل البلدة القديمة. كان بمقدور النائب عودة ألا يعير الشكوى أي اهتمام، وأن يقتدي «بحكمة» القادة الوسطيين، أو بما يفعله باعة التنظير أو الوعّاظ الذرائعيون حين تكون نجاتهم الشخصية دوما بترداد النصائح «الفارهة» أو الشعارات المجوّفة، وأهمها في هذا الزمن: شعار «حايد عن ظهري بسيطة»؛ لكنه، وهو الذي تربى في أحضان حزب وجبهة رفع قادتها، منذ بداية التكوين، شعار: لا للاحتلال وموبقاته ولا للخدمة في قوّاته، قرر أن يخاطب جميع هؤلاء الشباب وعائلاتهم، على قلة أعدادهم، ويقول لهم: «من العار أن يقبل أي شاب، أو أهل أي شاب، أن ينخرط ضمن ما تسمى قوات الأمن.. قوات الاحتلال التي تسيء لشعبنا وأهالينا ولمن يذهب للصلاة في المسجد الأقصى» ثم أضاف مؤكدا، أن «موقفنا التاريخي هو أن نكون مع شعبنا المظلوم من أجل إنهاء هذا الاحتلال المجرم، ومن أجل أن تقوم دولة فلسطين وتعلق أعلامها هنا على أسوار القدس وليحل السلام في أرض السلام»؛ ثم توجه لمن يحمل سلاح الاحتلال من هؤلاء الشباب وأهاب بهم قائلا: «ارموا السلاح في وجوههم، وقولوا لهم: مكاننا ألا نكون جزءا من الجريمة والإساءة لشعبنا.. مكاننا الطبيعي أن نكون مع الحق والعدل، وجزءا أصيلا من الشعب العربي الفلسطيني..». لم يختلق النائب أيمن عودة مسألة معارضة الجبهة الديمقراطية للسلام، وقبلها الحزب الشيوعي، للاحتلال الإسرائيلي، ولا موقفهم التاريخي من قضية التجنيد لما يسمى قوات الأمن الإسرائيلية، على جميع مصنفاتها؛ وعلى الرغم من كونها مواقف مدرجة تحت ما تصح تسميته «أمهات المواقف» المجمع عليها وطنيا، نجد أن بعض الجهات العربية المحلّية، مؤسسات وشخصيات، تجرأت على استهجان مواقفه، أو حتى على اتهامه باللجوء إليها من باب المزايدة السياسية والتهوّر غير المحسوب الذي سوف يغيظ ساسة إسرائيل ويؤلبهم علينا، نحن المواطنين العرب، لاسيما في هذه الأوقات المحمومة. معظم العرب الذين انتقدوا أو هاجموا النائب عودة كانوا مدفوعين بنوايا سيئة ومن أجل مآرب سياسية مفضوحة؛ ولكن قلة غيرهم فعلوا ذلك بسبب خلافاتهم السياسية معه واعتراضهم على طريقه في العمل السياسي وإصراره على إيجاد الشركاء اليهود والصهاينة من أجل الوقوف معهم ضد الاحتلال وضد الفاشية على حد سواء. وقد أصاب النائب أيمن عودة في عدم رده على جميع هؤلاء، فالمرحلة بحاجة إلى رص الصفوف لا إلى تفريقها. ولكن بعيدا عن تلك المشاهد، علينا أن نعترف بأن تنامي هذه الظاهرة وتعدد الأصوات التي بدأت تدافع عن «حق» البعض بالتجند للجيش، أو بالانخراط في أذرع الأمن على تنوّعها، تشكّل برهانا على مقادير التآكل القيمي الذي أصاب مجتمعاتنا وشواهد على انهيارات واضحة في منظومة الكوابح الوطنية والمحاذير الاجتماعية السياسية، التي كانت قائمة منذ البدايات، والتي أدّى انهيارها إلى زعزعة «محرّمات» كثيرة، لم يجرؤ أحد في الماضي على أن «يغمز جنباتها» أو أن يتحدّاها كإرادة لمجتمع كامل. ولكم في القصص الصغيرة عبرة.

ما زالت مجتمعاتنا تعيش حالة من «الانتماءات السائلة» وتعاني من تشوّهات قيمية خطيرة وخلل جوهري في معالم الهوية

كنت من أبناء الجيل الأول الذين ولدوا بعد النكبة في قرية كفرياسيف الجليلية؛ وما زلت أذكر كيف كان الالتحاق بقوات الأمن الإسرائيلية، على جميع فروعها، سواء كان ذلك انصياعا لفرض التجنيد الإجباري، أو الانضمام الطوعي لقوات الأمن، أو كمصدر رزق وعمل، محظورا كحالة بديهية يحترمها أهل القرية جميعهم، كما في سائر القرى الشبيهة بقريتي. وعندما أقول جميع أهل القرية، أتذكر أن أحد أبنائها كان قد انخرط ليعمل سجّانا في ما يسمى مصلحة السجون الإسرائيلية؛ وكان انضمامه في وقتها استثناء خارجا عن المألوف. ولأن ذلك المواطن كان يعرف تلك الحقيقة، حرص ألا يعود، بعد انتهاء ورديات عمله، إلى القرية بزيّه الرسمي، فكان ينزل من الباص قبل وصوله إلى تخومها ليقوم بتغيير ملابس «العمل» ويدخلها بلباسه المدني كيلا يستفزّ مشاعر أبناء قريته عامة. هكذا كانت «الدنيا» عندما كانت هوّياتنا مثل جيناتنا أصيلة، طبعا وتطبّعا، وكانت المحاظير والمحاذير هواء تتنفسه الأجيال وتحيا بهديه. لقد حصر النائب أيمن عودة كلامه في «قوات الأمن» بتعميم مقصود؛ وأشار لدور تلك القوات في تكريس الاحتلال وقمع الفلسطينيين في الأراضي المحتلة، لاسيّما في القدس الشرقية، التي تواجه فائضا من وجبات القمع والاضطهاد اليومي. ومن تابع تصريحات النائب عودة شعر بأنه كان واعيا لتشعّبات مسألة الخدمة في قوات الأمن، داخل المجتمع العربي، وللتصدّعات التي ألمّت بها في العقود الأخيرة، خصوصا، إذا تحققنا من أعداد المواطنين العرب الذين انضموا خلال السنوات الأخيرة إلى الأجهزة الأمنية على فروعها: الجيش، الشرطة بكل أقسامها، حرس الحدود، مصلحة السجون، النيابات العامة وغيرها من المواقع التي كانت بمثابة «مناطق محرّمة» يمنع الاقتراب منها والعمل فيها، مثل وزارة الخارجية وسلكها الدبلوماسي، وأجهزة القضاء على درجاتها. فهل نحن إزاء انهيارات جدّيّة، أم أننا نشهد حالة مستمرة من الانصهار الطبيعي الذي يجب أن يحصل بين أي دولة ومواطنيها؟ لم يتطرق النائب أيمن عودة إلى هذه القضية، فمن سيجيب على هذه الأسئلة؟
كنت في الماضي قد انتبهت ونبّهت مما تضمره سياسة الدولة التي بدأت تعتمد أنماطا جديدة من مظاهر الاحتواء السياسي؛ وأشرت، حينها، إلى ما تولّده بيننا تلك السياسات من «المعاضل السياسية» التي ما لم نواجهها فسيكون تأثيرها في مستقبل علاقتنا مع الدولة وفي شروط حياتنا في قرانا ومدننا كارثيا. وذكّر إن تنفع الذكرى؛ فقد تناولت هذه المسألة بعد أن اشتكت قيادات المجتمع العربي السياسية والمدنية، قبل سنوات عديدة، من ظلم إسرائيل وعدم استيعابها لمواطنيها العرب في الوظائف والشواغر التي تتحكم فيها مؤسسات الدولة، وطالبتها بضرورة تحقيق المساواة الفورية والتامة. حينها قلت إنه لا يختلف اثنان حول عنصرية إسرائيل تجاه مواطنيها العرب؛ لكنني لم أفهم كنه المطالبة كما أعلنتها القيادات وقتها. فهل فعلا نحن نريد مساواة كاملة في جميع ميادين العمل المتاحة في الدولة؟ أنريد، حقا، مساواة وظيفية بكل وزارة ودائرة ومؤسسة عامة وحكومية؟ وأضفت: هل نريد، مثلا، خمس ما تتيحه «الكنيست» من وظائف في جميع مواقعها؟ وهل يشمل ذلك حصّة كاملة في حرس الكنيست؟ أو هل يعتبر عمل المواطن العربي في وزارة الشرطة أمرا مسموحا؟ وهل يجب أن نطالب بأن يكون قائد الشرطة العام أو نائبه مواطنا عربيا؟ أم علينا أن نكتفي، مثلا، بالمطالبة بتعيين قائد شرطة عربي للمنطقة الشمالية أو في النقب؟ أو قائد شرطة عربي لمكافحة العنف والمخدرات؟ هل تملك قياداتنا موقفا إزاء هذه التساؤلات؟ أم سيعتبر كل من يخدم في الشرطة خارجا عن إجماع مجتمعه أو منحرفا أو ربما خائنا؟ وماذا عن آلاف المواطنين الذين يخدمون كسجانين وضباط كبار في مصلحة سجون الدولة؟ وتساءلت أيضا، هل يسمح للمحامين العرب أن يوظّفوا لدى نيابات الدولة وأن يتدرجوا فيها حتى أعلى المناصب؟ وهل من حقنا أن نطالب، كمواطنين مصرّين على نيل حقوقنا المدنية كاملة، بأن يكون النائب العام للواء الشمال أو غيره عربيا؟ وهل نريد حصصنا في جميع المرافق والشركات الحكومية مثل البنوك والموانئ والجمارك وسلطات الضرائب وغيرها وغيرها؟
لن أستعيد كل ما كتبت في الماضي، فجميع تلك التساؤلات لم تنل أية عناية من أية جهة أو مؤسسة مدنية أو حزب أو حركة أو قيادة أو مثقف. ومضت السنون وما زالت مجتمعاتنا تعيش حالة من «الانتماءات السائلة» وتعاني من تشوّهات قيمية خطيرة وخلل جوهري في معالم الهوية التي أصبح يمثلها في حياتنا اليومية المواطن العربي «الشاطر» الجديد، الذي لم يعد يعنيه أن ينزل من الباص قبل دخوله القرية متحاشيا خدش مشاعر أهلها، بل يتعمد أن يدخلها متبجحا «كرامبو القبضاي» وبارودته ملقاة على كتفه.
كاتب فلسطيني

 

 

(حروب اليهود) في

الكنيست – المعركة الأخيرة

جواد بولس

 

نحن على أبواب إسرائيل أخرى؛ مملكة يهودا والسامرة، التي سيحكمها ما يشبه «السنهادرين» وكهنته، وقادة عسكريون يؤمنون بأنّ هذه الأرض مخصصة لليهود، كعرق نبيل، وقد اختارهم الرب ليبنوا له الهيكل العظيم في أقدس بقع المعمورة، وليقدّموا له ذبائحهم. لن يكون في هذه المملكة مكان للآخرين ولا لأحزابهم التي أنهكتها الأيام وحوّلت برامجها إلى مراثٍ لم تعد تنفع في هذا الزمن الرصاصي، لأنّ «توراة الملك» صارت هي أول الكلام وآخره.
فمنذ اليوم الأول لولادة حكومة بينيت – لبيد كان واضحا أنها ستعيش في حقل مزروع بالألغام السياسية، وأنها إذا نجت مرّة أو أكثر، فإنها حتما ستصطدم بلغم «قاتل» سيوقف انفجارُه مسيرتَها وسيؤدّي إلى نهاية «عمرها» من دون أن يصل يئير لبيد إلى كرسي رئاسة الحكومة؛ وهذا، على ما يبدو، ما سيفضي إليه قرار عضو الكنيست عيديت سيلمان، التي انسحبت من الإئتلاف وتركت زميليها في حزب «يميناه» نفتالي بينيت وأييلت شاكيد، داخل حكومة لا تحظى بأغلبية برلمانية.
وعلى الرغم من أن العمل السياسي يتطلب أحيانا، في سبيل تشكيل الحكومات في الدول البرلمانية وبينها إسرائيل «السير على الماء» وإجادة فن البهلوانيات الحزبية، حتى الغريبة منها وغير المتوقعة، إلا أن ما حصل بعد الانتخابات العامة الأخيرة فاق كل التوقعات، وتخطّى حدود الخيال السياسي. إنه مشهد مخاتل؛ فالتوافق بين حزب «يميناه» المعروف بعنصريته المتطرفة، مع أحزاب الوسط الصهيونية واليمين الصهيوني العلماني المدعوم من حركة إسلامية، وابتعاده عن حلفائه «الطبيعيين» من الأحزاب الصهيونية القومية المتدينة العنصرية المتطرفة، كان عبارة عن مغامرة سياسية انتهازية خاضها بينيت وحزبه ضد «الطبيعة» وبعكس جميع المعطيات الاجتماعية والسياسية الحقيقية التي أنجبتهم وأوصلت معهم إلى الكنيست جيشا كبيرا من غلاة المتطرفين العنصريين اليمينيين، الذي يناهز عددهم الثمانين نائبا «ونائبة».
ليس من الحكمة أن نتكهن ماذا سيحصل خلال الشهر المقبل، وكيف سيتصرف البرلمان الإسرائيلي حال عودته من الإجازة التي ستنتهي في الثامن من مايو المقبل؟ فهناك ثلاثة احتمالات واردة: فإمّا التصويت على حل البرلمان والذهاب إلى معركة انتخابية جديدة؛ وإمّا التصويت على حجب الثقة عن الحكومة الحالية، وإقامة حكومة بديلة لها، شريطة أن يشمل مقترح حجب الثقة اسم رئيس الحكومة الجديد المقترح؛ وإمّا التصويت على إبقاء الحكومة الحالية بدعم أكثرية صغيرة أو عارضة، غير ملتزمة بشروط الإئتلاف الحكومي، ما سيبقيها في حالة ضعف مستديم وخاضعة لاشتراطات من يدعمها أو لابتزازاتهم، خاصة في جميع المسائل التي يتطلب حسمها تصويتا عدديا، مثل تشريع القوانين والميزانيات وغيرها. تضع جميع هذه الاحتمالات المواطنين العرب وقياداتهم السياسية أمام معاضل كأداء وتقرّبهم نحو فوّهات العبث والهاوية.

كان واضحا أن حكومة بينيت – لبيد ستعيش في حقل مزروع بالألغام السياسية، وأنها إذا نجت مرّة أو أكثر، فإنها حتما ستصطدم بلغم «قاتل» سيؤدّي إلى نهاية عمرها

من الجدير أن ننتبه إلى أن انسحاب العضو عيديت سيلمان من الإئتلاف كان على خلفية موقف وزير الصحة، رئيس حزب ميريتس نيتسان هوروفيتس، في مسألة دينية، بعد سماحه بإدخال الأطعمة الخامرة إلى مستشفيات إسرائيل خلال أيام عيد الفصح اليهودي؛ وهو ما تمنعه «الهلاخاه» اليهودية، التي استماتت عيديت سيلمان بالدفاع عنها، وقطعت، من أجلها، حبل الود مع حزبها وزعيمه. من الواضح أن هذه القضية كانت الذريعة لتنفيذ خطوة الانسحاب، التي جاءت لتذكّرنا بهويتها وهوية زملائها في حزب «يميناه» وشعورهم حيال هذه الحكومة التي يعتبرونها «غير طاهرة» لأسباب عديدة، من بينها أنها مدعومة من قبل «الحركة الإسلامية» التي تعدّ عندهم، رغم مهادنتها المنبطحة لسياسات حكومتهم ولقراراتها، خنجرا مغمدا في خاصرة الدولة اليهودية. أقول هذا مفترضا أن القائمة الموحّدة الاسلامية ستبقى داعمة لحكومة بينيت-لبيد، أو لأي حكومة غيرها، إذا قبِل بها، طبعا، قادة الأحزاب التي ستشّكل تلك الحكومة في الأسابيع المقبلة؛ وهذا ما أشكّ في حصوله. بالمقابل، فإننا لا نعرف كيف سيتصرف نوّاب القائمة المشتركة وأطرهم الحزبية إزاء هذه الأزمة؛ فعلى الرغم من أننا نلاحظ بداية وجود تمايزات وفوارق في تصريحاتهم ومواقفهم، نراهم يقرّون بخطورة المرحلة وبتداعياتها الممكنة علينا، كمواطنين عرب. أخشى أن تخذلهم الحكمة وأن يختلفوا قبل يوم الامتحان؛ لاسيما مع وجود احتمال بأننا نقف أمام آخر معركة في «حروب اليهود» التي ستحدد نتائجها، بطريقة مأساوية، من هي الطغمة التي ستتحكم في الدولة وفي رقابنا؟ وما شكل النظام السياسي الذي سيتسيّد على المنطقة في العقود المقبلة؟
ربما لم يقرأ بنيامين نتنياهو نبوءات من تكهنوا بزوال إسرائيل حتى نهاية هذا العام؛ أو ربما قرأ وضحك من ذلك في غيّه، وراح يعبّر عن غبطته لانسحاب عيديت سيلمان من الإئتلاف، محيّيا باسم الآلاف من شعب إسرائيل، عودتها إلى «المعسكر القومي» ومؤكدا أن ما أرشدها كان «القلق على الهوية اليهودية لدولة إسرائيل والخوف على أرض إسرائيل».  وإذا كانت أقوال نتنياهو غير كافية كدليل للآتيات العاتيات، فلنقرأ ما صرّح به رئيس حزب «الصهيونية المتدينة» بتصلئيل سموطريتش، وهو لسان حال المرحلة السياسية المقبلة، واصفا الخطوة «بفجر يوم جديد في دولة إسرائيل» مضيفا: «إنها نهاية حكومة غير صهيونية، حكومة بينيت والحركة الإسلامية، وهي اللحظة التي يمكن فيها تغييرها بحكومة يهودية، صهيونية وقومية» ثم انتقل ليحيّي عضو الكنيست عيديت سيلمان «على خطوتها التي وضعت من خلالها خطا أحمر أمام المسّ بهوية دولة إسرائيل اليهودية وبقيم الصهيونية الأساسية». ما أوضح هذا الكلام وما أخطره وهو يقال وأصداء عمليات إرهاب «الدواعش» ما زالت تملأ الفضاء وتحشو صدور المجتمعات اليهودية بالكراهية للعرب وتجيّشهم لساعة الانتقام. لقد كان واضحا للكثيرين أننا نعيش مرحلة انتقالية خطيرة، ضعُف فيها أداء الأحزاب العربية، بينما برز دور «القائمة الموحدة الاسلامية» التي قرر قادتها، لأول مرة في تاريخ العمل السياسي بيننا، دعم حكومة إسرائيل في موقف ساعد على اختمار الظروف للانتقال إلى شكل حكم مستبدّ جديد في الدولة «اليهودية الصهيونية القومية». لا يجوز أن نفصل ما يجري في أروقة الكنيست عن الأحداث والظواهر الحاصلة داخل مجتمعاتنا المحلية، وعن تطوّراتها؛ وقد تكون هبة مايو المنصرم الجماهيرية أبرزها حجما وأخطرها بما خلّفته من غضب في النفوس وجسور محروقة بين الدولة ومواطنيها العرب، لكننا يجب ألا ننسى أنها اندلعت ومجتمعنا العربي يعيش في مناخ عام حاضن للعنف وعاجز أمام عالم الجريمة التي تنفذها نفوس متطرفة ومأجورة وجاهزة للقيام بجرائم قتل ضد الأبرياء، تارة باسم الدين أو الدفاع عن أمّته، وتارة من أجل الشرف؛ ودائما باسم البلطجة وسطوتها.
وعلى الرغم من تقصير الدولة وإهمال حكوماتها في مواجهة مظاهر العنف والجريمة المستفحلة بيننا، نرى أن معظم قادة الأحزاب الصهيونية اليمينية يرفعون شعار «علينا إعادة الأمن والأمان إلى شوارع مدننا وبلداتنا» ويستغلون اللحظة السياسية الحاضرة وتداعيات مشاهد عمليات قتل المواطنين في بئر السبع والخضيرة وبني براك، ويتناسون أن جميع القيادات السياسية والإسلامية والمؤسسات الفاعلة بين المواطنين العرب، شجبت تلك العمليات وأكدت رفضها لهذه الوسائل بشكل قاطع. قد يكون من المناسب اليوم ونحن على أعتاب حقبة سياسية جديدة داخل إسرائيل أن أذكّر بما أشرت إليه مرارا؛ فالاكتفاء بالشجب وهو مقرون بدور الاحتلال الإسرائيلي وممارساته كمولّد لتلك الظواهر ومحفز لمن يمارسونها، وإن كان صحيحا وضروريا من الناحية السياسية، لا يكفي. من الطبيعي أن يمتلئ كل إنسان يتعرض لمشاهد قمع المحتلين وعناصرهم غضبا على المحتل وقمعه، لكنه لن يصل إلى تلك المرحلة النفسية والاستعداد الفعلي لقتل نفسه والآخرين، من دون أن تضاف إلى دور الاحتلال وممارسات جنوده، عوامل مجتمعية داخلية هي التي تدفعه في النهاية إلى تنفيذ تلك العمليات المدانة. لم تتوقف قيادات مجتمعنا عند هذه الظاهرة بجدّية، ولم تحاول سبر مكنوناتها بجرأة وتفكيك بناها بمسؤولية؛ ولو فعلوا ذلك لتوصّلوا إلى مجسات التأثير السلبية على تلك النفوس، واكتشفوا معامل وعوامل التخمير الفعالة، خاصة بعد أن وضع بعضهم أطراف أصابعهم على جزء من تلك المؤثرات، حين أشاروا إلى الفقر والبطالة والجهل وما يجري من على بعض منابر التجييش الدينية، التي تحترف نشر خطابات متزمّتة عنصرية مكرورة، همّها الدعوة للاقتصاص من الكفرة والتصدّي «للآخرين» والثأر للدين ورموزه المقدسة وفي طليعتها المسجد الأقصى على سبيل المثال.
نحن اليوم أقرب إلى نقطة اللاعودة ويجب أن نسقط الذرائع الدموية من أيادي كتائب الموت، ومن لا يقر بذلك فليقرأ كتاب «توراة الملك» وليتعرف على فقهه الذي سنكون نحن أول ضحاياه.
كاتب فلسطيني

 

 

إسرائيل – من دولة عنصرية لها

مؤسسات وجيش إلى كيان مارق

وكتائب فاشية

جواد بولس

 

لا ضير من تذكيري مرّة أخرى بقائمة المؤشرات التي يمكن، بالعودة إليها، تشخيص ما إذا كانت الفاشية قد تملكت من عروق نظام الحكم في دولة ما، أو إذا كان ذلك النظام يجنح نحوها؛ فعلماء الاجتماع السياسي عدّدوا ما يلي:
سيادة الجيش وهيمنة «العسكرة» التعامل شبه المرضي في ما يسمى أمن الدولة، العلاقة الوثيقة بين المؤسسة الحاكمة والمؤسسة الدينية، دفاع الدولة عن الشركات الكبرى والعلاقة الوطيدة بين السلطة ورأس المال، إضعاف نقابات العمال، غطرسة المشاعر القومية المتطرفة، الاستهتار بحقوق الإنسان والاعتداء على الحريات الأساسية، الإجماع على استعداء هدف وإيجاد «أكباش فداء» على شاكلة أقليات قومية أو فئات اجتماعية مستضعفة، وسائل إعلام مجندة وغير موضوعية وفاقدة للمهنية الإعلامية الحيادية، فساد متفشّ في جميع منظومات الإدارة والحكم، محاربة «الحرية الأكاديمية» والاستخفاف بمكانة الأكاديمي والمثقف.
لقد تمّمت إسرائيل في سنواتها السبعين جميع هذه الخطى ووصلت حدّ الهاوية؛ ونحن نعيش في وطننا وسط النار، ونحاول أن نختار حكمتنا الفاصلة بين بقائين: فإمّا الموت على حدود سيوف حقنا والبقاء في ترابه، أو العيش في أنفاس الزهر والموج والبقاء فوق أرضه.
«لن يصبح وضعنا، نحن العرب في إسرائيل، بعد عملية الطعن التي نفذها المواطن محمد أبو القيعان، من سكّان بلدة حورا في النقب، في مركز مدينة بئر السبع يوم الاربعاء المنصرم، أحسن ولا أأمن؛ فبعض المعلقين يتكهنون بأن البلاد ستواجه موجة جديدة من هذه العمليات الفردية، وتصعيدا أمنيا خطيرا، لا سيّما خلال شهر رمضان المقبل. كم كنت أتمنى أن يخيب ظن جميع أولئك «المنجّمين» وألّا تَصْدق توقّعاتهم». هكذا كتبت في مقالتي السابقة، بعد عملية «عاصفة الصحراء النقباوية» التي نفّذها مواطن عربي إسرائيلي قيل إنّه ينتمي إلى تنظيم «داعش»؛ فالمسألة لم تكن بحاجة، على ما يبدو، لاجتهادات «منجّمين» لأننا كما توقعت نقف «داخل إسرائيل على حفاف العدم، حيث يطعم الدم النار» وما سوف يأتينا سيكون حتما أعظم.
لقد كانت مدينة الخضيرة الإسرائيلية، الواقعة في مركز البلاد، ساحة الغزوة التالية التي نفّذها أيضا مواطنان عربيان من مدينة أم الفحم، قيل إنّهما ينتميان إلى تنظيم «داعش» الإسلامي، من دون أن يدّعي أحد وجود أي علاقة أو تواصل بين محمد أبو القيعان، منفذ عملية بئر السبع، وأولاد العم، أيمن وإبراهيم إغبارية، منفذيّ العملية في الخضيرة. لم ينتظر معظم المحللين الإسرائيليين حتى انتهاء عمليات تقصّي الحقائق، أو حتى سماع تقييمات المسؤولين ذوي الاختصاص في هذه المسائل، مثل جهاز المخابرات العامة؛ بل راحوا بعنصرية مفضوحة ومن دون أي مهنية أو حذر، يطلقون سهام خيالاتهم المغموسة بسموم التحريض على جميع المواطنين العرب، ويصرّون على تأثيم الإسلام كديانة تربّي أتباعها على معاداة اليهود، وعلى السعي بعزم إيماني أعمى في سبيل تقويض أسس الدولة اليهودية والقضاء عليها. لقد جنّد هؤلاء «المحللون» والمعلقون المستعربون، حقيقة كون منفذي العمليتين الثلاثة عربا من مواطني إسرائيل، وبنوا عليها جبالا من الافتراءات والتحاليل المغرضة، التي ساهمت في تأزيم الحالة السياسية بين الدولة ومواطنيها العرب، وهي المأزومة أصلا، وفي تكثيف مقادير الكراهية العرقية الفاشية المتفشية داخل المجتمعات اليهودية. ثم جاءت عملية «بني- براك» المدينة القريبة من تل-أبيب، التي نفّذها الشاب ضياء حمارشة، وهو مواطن فلسطيني يسكن مع عائلته في قرية يعبد في محافظة جنين، فشوٌشت هذه الحقيقة خلاصات أولئك المحلّلين، لاسيما حيال ادعائهم التحريضي حول استئثار المواطنين العرب في إسرائيل بمهمة تنفيذ العمليات الانتحارية، في حين ابتعد عنها أهل مناطق الضفة الغربية الفلسطينية المحتلة، الذين تم»تدجينهم» وتحييدهم تحت بنادق الاحتلال.

علينا أن نصحو وأن نجد ما يسعفنا لنخرج أحياء من المستنقع ونبقى فوق أرضنا وليس أمواتا داخل أغماد حقنا

يجب أن نقرأ ما يكتبه هؤلاء المحرّضون، حتى لو كنا على يقين بعدم صحته، أو بما يرمون من ورائه ؛ فدور الإعلام العبري العنصري في تجنيد الرأي العام الإسرائيلي حاسم من دون أدنى شك، وعلاقته مع صنّاع القرار السياسيين والأمنيين متبادلة، فهم يستغلونه من أجل ترويج عقائدهم وزيادة شعبيتهم، كما شاهدنا في قضية نتنياهو وأصحاب موقع «واللا»؛ وهو، أي الإعلام، يتحوّل إلى قوة تأثير هائلة على جنوح هؤلاء القادة نحو فضاءات الرعاع، وتغذية مواقفهم ونشاطاتهم الوحشية؛ وهو كما أشرنا سابقا من أهم مؤشرات تعاظم الفاشية. لقد كان الاعلان عن إقامة « كتيبة بارئيل» قبل مدة قصيرة – وهي عبارة عن مبادرة لتشكيل ميليشيا مختلطة من العناصر الشرطية والأمنية، على أنواعها، ومن سوائب العنصريين اليمينيين المتطرفين – مؤشرا على اختمار المجتمعات اليهودية، وانتقالها من مرحلة «التخصيب العقائدي الذهني» «والشحن الغوغائي العاطفي» الفاشيَّين، إلى مرحلة الانطلاق الفعلي نحو تحقيق الأهداف. لا يمكن اعتبار هذه المبادرة مجرد نزوة؛ فكما أسلفنا تعتبر عملية عسكرة المجتمع وإدماجه، بمنهجية فوقية، في البنى الأمنية والعسكرية الرسمية، من أهم الدلائل على تحوّل الدولة، وفي حالتنا إسرائيل، من دولة لديها جيش، كان الأقرب إلى التقديس، ومؤسسات وقوانين، كانت عنصرية، نحو دولة يتحكم فيها نظام فاشي متكامل ومجتمع متماهٍ مع ذلك النظام، يتغذّى منه ويغذّيه.
فرئيس الحكومة نفتالي بينيت دعا قبل يومين كل من يحمل قطعة سلاح مرخصة بالتسلح بها، وأوضح على أن «هذه هي الساعة لفعل ذلك» معلنا أن الحكومة استدعت المزيد من كتائب «حرس الحدود» وأنها شرعت بتشكيل لواء جديد من قوات هذا الحرس، فيما وصفه «بإجراء استراتيجي يتجاوز موجة الإرهاب الحالية» وأضاف أنه سيتم نشر (15) كتيبة إضافية من قوات الجيش في الضفة الغربية، وعلى «خطوط التماس» وأنهم بصدد إصدار تعليمات جديدة سيسمح بموجبها للجنود النظاميين ولقوات الاحتياط مغادرة قواعدهم العسكرية، وهم يحملون أسلحتهم. لا أوضح من هذا الكلام؛ فأهداف الحكومة هي «إجراءات تتجاوز موجة الارهاب الحالية» ومع ذلك فإذا كان هذا كله لا يكفي كبرهان على ما ستفضي إليه عملية العسكرة الجارية، فلنسمع بينيت يدعو المواطنين اليهود إلى «الحفاظ على اليقظة والتحلّي بالمسؤولية» ولنسمع أيضا ما صرّح به وزير الدفاع غانتس، أو لنتمعن في رزمة الخطوات التي أعلن عنها وزير الأمن الداخلي عومر بار ليف، التي تضمنت تجنيدا فوريّا لثلاثمئة عنصر جديد في قوات «حرس الحدود» مع دعوته «المواطنين المعنيين والراغبين في المشاركة في هذا الجهد إلى القدوم والتطوع» ثم إعلانه عن فتح أبواب قوات «الحرس المدني» في جميع أنحاء الدولة، وإهابته بسكان كل مدينة وبلدة وكيبوتس للانضمام إليها؛ وتأكيده على إلحاق مئات الجنود في وحدات الشرطة وتعزيز قدراتها ووسائل العمل في جميعها بشكل فوري وعاجل.
ولا يمكن ألا نأخذ على محمل الجد تهديد الجنرال احتياط عوزي ديان نائب رئيس الأركان ورئيس مجلس الأمن القومي الأسبق، لجميع المواطنين العرب في إسرائيل، وليس فقط لمنفذي العمليات «بنكبة جديدة»؛ وذلك حين صرّح قبل يومين، بعنجهية واضحة ومستفزة، وقال في لقاء متلفز: «في حالة وصولنا إلى حرب أهلية، فهذه ستنتهي بحدوث نكبة أخرى.. علينا أن نتصرف كما وأننا في حالة طوارئ، ما يشبه حرب الاستقلال، حرب التحرير، ويجب أن ننهيها في الداخل أيضا». لقد بدأ الناس في إسرائيل يذوّتون معنى «العسكرة» ويتصرفون وفق فهمهم الغريزي لها، كما رأينا في الاعتداءت الكثيرة على المواطنين العرب في مواقع مختلفة في البلاد، أو داخل الجامعات مثلما حصل في الأسبوع الماضي داخل حرم الجامعة العبرية في القدس، عندما اعتَقل طالبان يهوديان، تبين انهما يعملان في سلك الشرطة خارج ساعات الدراسة في الجامعة، طالبين عربيين بحجة أنهما كانا يغنيان أغنية تحريضية.. ويبقى هذا غيض من فيض.
لديّ ما أقوله حول «داعشية» منفذي عمليتي بئر السبع والخضيره وكيف ولدت هذه الهوية وشبيهاتها بيننا، ومن يعمل ماذا، مباشرة أو بغير مباشرة، ضدها أو معها؟ لكنني لا أكتب حول هذه القضية، فهمّي الأكبر اليوم هو أن أنبّه مجدّدا، مثلما فعل كثيرون قبلي وأجمعوا على اننا قريبون من «يوم الدين»؛ فالفاشية تستحكم بيننا والعسكرة تتفشى ويستقوي بلطجيّوها؛ ونحن نجترّ عجزنا ويكتفي بعضنا بشجب هذه العمليات وآخرون بكتم سعادتهم من نتائجها داخل صدورهم. ويسألونني ما العمل؟ فأجيب: على نُخبنا الحرّة وقياداتنا الديمقراطية والمسؤولة الإقرار أولا بوجود هذا الخطر الوجودي، ومن ثم الشروع بالتفتيش عن وسائل عمل كفاحية مبتكرة ضده؛ وكنت اقترحت في الماضي إقامة «جبهة العمل ضد الفاشية» و»منتدى الحقوقيين الديمقراطيين» وذلك بهدف رصد النشاطات الفاشية وملاحقة المتورطين فيها بمنهجية مهنية ناجعة.
إنها مجرد مقترحات ويوجد غيرها بطبيعة الحال؛ فالقصد أن نصحو وأن نجد ما يسعفنا لنخرج أحياء من المستنقع ونبقى فوق أرضنا وليس أمواتا داخل أغماد حقنا.
كاتب فلسطيني

 

 

من برلين إلى بئر السبع…

موعظة ودماء

جواد بولس

 

من كتاب “الفاشية.. مقدمة قصيرة جدا” للكاتب كيفن باسمور.. عظة لجميعنا  ولأعضاء القائمة الإسلامية الموحدة في الكنيست أيضا.
“عقدت الجلسة الافتتاحية للبرلمان الألماني السابق، الرايخستاغ، في دار أوبرا “كرول” وسط برلين يوم 23/3/1933. بعد أن دمر حريق مبنى الرايخستاغ قبل بضعة أسابيع. وداخل القاعة تدلى علم ضخم يحمل رمز الصليب المعقوف. وكي يتمكن النواب من الدخول إلى القاعة، كان عليهم أن يتحملوا الإهانة أثناء مرورهم وسط جمع مريع من شباب وقحين يحتشدون في الساحة المواجهة، ويرتدون شارة الصليب المعقوف، وينادون النواب بأوصاف مثل “خنازير الوسط” أو “خنزيرات الماركسية”. كان النواب الشيوعيون قد اعتقلوا إثر مزاعم بتورط حزبهم في إحراق مبنى الرايخستاغ، واحتجز أيضا عدد قليل من الاشتراكيين.
كان هناك موضوع واحد مطروح على البرلمان وهو تمرير “قانون التمكين”، الذي  يمنح المستشار الألماني سلطة إصدار قوانين دون موافقة البرلمان، حتى إذا كانت قوانين تخالف الدستور. ولما كان القانون يستلزم تعديلا دستوريا، كان يتطلب موافقة أغلبية ثلثي النواب، لذلك كان النازيون بحاجة إلى دعم النواب المحافظين. حوى خطاب هتلر الذي ألقاه لطرح القانون تطمينات للمحافظين، ما جعلهم يصوتون لصالح القانون. قرأ هتلر إعلانه في تجهم حاد، ورباطة جأش استثنائية، ولم يتجل انفعاله المعروف إلا عند دعوته لإعدام مدبر الحريق على رؤوس الأشهاد، ووعيده الشرس للنواب الاشتراكيين؛ فهدر صوت النواب النازيين بشعارهم المعروف “ألمانيا فوق الجميع”. وقد احتج نائب اشتراكي ردا على هتلر، لكن صوته بالكاد سمع؛ فرد عليه هتلر في عصبية محمومة وهسيس أفراد “كتيبة العاصفة” كان يتردد من ورائهم صارخين: “سوف تعدمون اليوم شنقا”. وافق البرلمان على “قانون التمكين”، الأمر الذي أطاح بسيادة القانون وأرسى الأساس لنوع جديد من السلطة القائمة على إرادة الفوهرر. منح هذا القانون النازيين عمليا حق العمل، وفق ما يرونه مناسبا – ما يحقق “المصالح العليا للشعب الألماني”، والقضاء على رأي أي شخص يعتبرونه عدوا للرايخ؛ وكان الاشتراكيون أول الضحايا”.
ومن برلين إلى بئر السبع لن يصبح وضعنا، نحن العرب في إسرائيل، بعد عملية الطعن التي نفذها المواطن محمد أبو القيعان، من سكان بلدة حورا في النقب، وأدت إلى مقتل أربعة مواطنين يهود في مركز مدينة بئر السبع يوم الأربعاء المنصرم، أحسن ولا أأمن. فبعض المعلقين يتكهنون بأن البلاد ستواجه موجة جديدة من هذه العمليات الفردية، وتصعيدا أمنيا خطيرا، لاسيما خلال شهر رمضان المقبل. كم كنت أتمنى أن يخيب ظن جميع أولئك “المنجمين”، وألا تَصْدق توقعاتهم؛ لكنني أعرف أننا نقف، في داخل إسرائيل، على حفاف العدم، حيث يطعم الدم النار، ونحن، عرب هذه البلاد، سنكون لها العيدان والحطب. لم يحدث أي انفراج في علاقاتنا مع مؤسسات الدولة، رغم سقوط حكم بنيامين نتنياهو، ولن يحدث هذا في المستقبل المنظور؛ فلا الدولة اليهودية بقياداتها الراهنة معنية بحدوث هذا الانفراج، وليس بيننا من هو قادر على فك الاشتباك أو المعني بالتفتيش عن جسور جديدة حقيقية معها، والمؤهل لحمل هذه المسؤولية. ويكفي أن نراجع عددا من المشاهد التي حصلت في الأيام القليلة الأخيرة، قبل حدوث عملية بئر السبع، كي نخشى ما قد يحصل لنا في الأسابيع القريبة. فما زالت الكنيست تخضع لهيمنة اليمين، وتصوت على قوانينه العنصرية، سواء دعمتها القائمة الإسلامية الموحدة أم لا. وعلى الرغم من وجود حزبي العمل وميرتس في الحكومة، تتصرف معظم وزاراتها كمنظومات يمينية تقليدية. فعلى خزينتها يسيطر حزب “إسرائيل بيتنا” المعروف بمواقفه العدائية تجاه العرب؛ وفي أمنها الداخلي تتحكم شرطة كبر قادتها على موروث يقضي بمعاملة المواطنين العرب بقليل من الاحترام وبكثير من الريبة والتحسس وبالتخوين دائما؛ بينما ما زال العنف يشكل جزءا من واقع بلداتنا والجريمة مشهدا مستفحلا في معظم مواقعنا.

لم يحدث أي انفراج في علاقاتنا مع مؤسسات الدولة، رغم سقوط حكم بنيامين نتنياهو، ولن يحدث هذا في المستقبل المنظور

وإن كان ذلك لا يكفي، فحظنا من سياسات وزيرة الداخلية، أيليت شاكيد، لا يتوقف عند تبعات قانون منع لم الشمل، ونتائجه الكارثية على آلاف العائلات الفلسطينية، ولا عند معوقات وزارتها أمام تطوير قرانا ومدننا وخنقها بعنصرية فاضحة؛ بل يتعداها نحو سيطرة جشعة على جهاز القضاء وحشوه بقضاة موالين، لاسيما بعد أن أعلنت عن خطتها في الاستيلاء على هيئة المحكمة العليا من خلال تعيين قضاة “محافظين”، مؤدلجين يمينيين ومستوطنين. ولتأكيد مخاطر سياستها القضائية يكفينا مراجعة مواقف هؤلاء القضاة في عشرات القضايا، التي رسخوا فيها أحكاما جائرة بحق العرب، وكتبوها بهدي عقائدهم المتساوقة مع سياسة حزب شاكيد – بينيت اليمينية العنصرية. لقد كان آخر هذه الأحكام رفض المحكمة العليا، في الأسبوع الماضي، لالتماس قدّمه عدد من المواطنين في مدينة طيبة المثلث، ضد قرار ما يسمى “حارس أملاك الغائبين”. لقد قررت هذه المؤسسة العنصرية، التي استحدثتها الحركة الصهيونية من أجل سرقة أملاك الفلسطينيين بعد النكبة، الإعلان، في عام 2017 على أرض تبلغ مساحتها ثلاثين دونما من أراضي مدينة الطيبة، كأملاك للغائبين ومصادرتها من أصحابها أبناء المدينة، بحجة أن هذه الأراضي وقعت، قبل سبعين عاما، بمقتضى خط هدنة مؤقت رسم لضرورات ميدانية في عام 1948، خارج حدود إسرائيل؛ لم يسعف السكان أن ذلك الخط أزيل بعد شهور معدودة من رسمه، ومن ثم عادت الأراضي لأصحابها الأصليين الذين تصرفوا بها كملاك لغاية يومنا هذا. لن أرهق القراء في تفاصيل هذه المهزلة العنصرية العبثية، ولكن يجب أن نعلم بأن هيئة المحكمة العليا التي أصدرت قرارها الظالم والعنصري ضد المواطنين العرب، تشكلت من قاضيين مستوطنين وقاض ثالث استقدمته الوزيرة شاكيد، عندما كانت وزيرة للقضاء في حكومة نتنياهو، بسبب آرائه اليمينية المعروفة، من أمريكا، إليها كان قد هاجر من إسرائيل قبل سنوات طويلة.
أعرف أن قطعان اليمين لم تكن بحاجة إلى “غزوة هذا المجاهد” في بئر السبع كي تتأهب سراياها للانطلاق في رحلة صيدها المقيت؛ لكنها، مثلها مثل شبيهاتها في تاريخ الأمم الأسود، تستوحش عند مشاهدة طرطشات الدم اليهودي وهو ينفر على الشوارع، وتتحول إلى شياطين جائعة ترقص حول نعوش ضحايا الموت الرخيص المستفز وتصرخ باسم الثأر والانتقام. يريدنا البعض ألا نخاف وألا نتحسب من تبعات هذه العملية/الجريمة ولإمكانيات توظيفها ضدنا، كما يحصل، من قبل الجماعات اليمينية الفاشية وقيادييها من الساسة والحاخامين. فعلى الرغم مما بدأنا نسمعه ونشاهده، ما زال بعض “المفكرين” والمحللين يمعنون في محاولات تحليل العملية بروية عقائدية، وبعضهم يحاول أن يتفهم دوافع القاتل بلغة الفرح الصاخب المرفوض، وكأن هؤلاء لا يسمعون عواءات الذئاب الجائعة وهي تتدافع على عتبات ديارهم. وعلى الرغم من قيام معظم قيادات مجتمعاتنا العربية المحلية والبدوية على وجه الخصوص، من شجب العملية، رأينا كيف انبرت بعض فرق السحيجة إلى التصفيق من وراء الحدود “لأبطالنا”، الذين يفتكون باليهود، وكيف أخذت منابرهم تخاطبنا بحميمية خانقة، وكأننا قد خلقنا جنودا في سبيل عزهم، ويجب أن نموت كظلال لأحلامهم العقيمة، أو أن نعيش كوكلاء لهمهم، ساعة راحوا هم يهادنون “السلاطين” أو يغازلون “قيصر”.
كنت أقرأ ما نشره ناشطو بعض الفرق اليمينية الفاشية على أثر عملية بئر السبع، خاصة تصريحات قادة ومؤسسي “سرية بارئيل” الحديثة التكوين، وأفكر بأولئك “البعيدين” الذين يقامرون على وجعنا وعلى نهاية إسرائيل القريبة. فقرأت عن مئات من المتطوعين الذين انضموا إلى صفوف هذه الوحدة/ الميليشيا التي سيعمل أفرادها من أجل “خلاص النقب” وإعادة الأمن الشخصي لسكانه. إنها سرايا الموت التي سأعود للحديث عنها قريبا؛ “فسرية بارئيل” وكتيبة “نيتسح يهودا” وحركة “لاهافا” وغيرها وغيرها، هي الحقيقة الثابتة التي سنواجهها في مواقعنا لا محالة. وهي، للعلم، عبارة عن”كائنات” قاتلة كانت قد فقست في دفيئات الحكومات السابقة والحالية، وكبرت في ظل بيئة سياسية مساندة، واشتدت أعوادها في حضن مجتمعات يهودية ستفيق قريبا وتتمرغ في فراشها أو تحت نعالها. إنهم ورثة يوشع وسائر أنبياء اسرائيل ومثلهم يتحدثون بلغة السيف والنار، فبالنسبة لهم يعد جميع أعضاء الكنيست العرب “مخربين”، ويوصف مقتل المواطن سند الهربد، ابن مدينة رهط، بنار المستعربين بالحدث “الروعة”، لكنه غير كاف، فهم يعتقدون أن هنالك “بضعة عشرات الآلاف، الذين يجب أن يكون مصيرهم مشابها لمصيره”. وأما هدفهم الحقيقي فهو اشعال المنطقة وتنظيفها من جميع المخربين.
أعرف شخصيا بعض من يستهزئ بما نواجهه من مخاطر كارثية وأتمنى أن يصحو هؤلاء قبل فوات الأوان؛ ولا أعرف شخصيا كثيرين من أصحاب الأصوات المتهافتة علينا من وراء النهر ومن بلاد السراب، لكنني أقول لهم: حطوا عن رحالكم واتركونا بحالنا، فنحن أبناء هذه الأرض وأدرى بشعاب أنقابنا وبالدفاع عنها، نحن الأجدر؛ ومن دعا منكم باسم “داعش” وأخواتها وكبر، ليرحل؛ فنحن، النجاة من النكبة، لنا رب وأنبياء وأباء علمونا أن نحب الحياة ومن أجلها نصلي ونتعبد، مهما تعاظم الظلم في ربوعنا وتجبر.

*كاتب فلسطيني

 

 

الثابت والمتحول هنا

في فلسطين وهناك في أوكرانيا

جواد بولس

 

محمود درويش الثابت بيننا في كل العصور
نحن في فلسطين نحب آذار كثيرا، ففيه يزهر كل عام شجر اللوز احتفاء بولادة الشاعر محمود درويش، ويرقص زهره مع عصافير الجليل «شفيفا كضحكة مائية نبتت على الأغصان من خفر الندى».
تحلّ ذكرى ميلاده في هذا العام، وفينا من الحنين وجع يتكسّر على أطراف أحلامنا وفي حلوقنا المسامير من حروف ضائعة ولغة مغتصبة؛ فهناك على أرض أوروبا يقطّع السيّافون شرايين الورد، ويموت الجنود وهم يغنون لبلاد من تراب ونار، وينتشي أمراء العبث وينامون على رماد من وهم وغار. وهنا، في فلسطين، يكبر الاحتلال ومعه يتعاظم تيه الأبناء ويطول سفرهم بين السجون والنجوم. ويبقى صوت «درويشنا» يغني كما في كل آذار لسيّدته الأرض ولحارسها الأمين الذي «إن فتشوا صدره فلم يجدوا غير قلبه، وقد فتشوا قلبه فلم يجدوا غير شعبه، وقد فتشوا صوته فلم يجدوا غير حزنه، وقد فتشوا حزنه فلم يجدوا غير سجنه، وقد فتشوا سجنه فلم يجدوا غيرهم في القيود. وراء التلال ينام المغني وحيدا، وفي شهر آذار تصعد منه الظلال». إنه محمودنا الثابت في صدورنا وفي لغتنا، والذي من أجله نحب كل فصول السنة ونحب آذار لأن منه «تصعد الظلال» نحو ذلك الجبل البعيد وتمطر علينا تناهيد وفرح.

الثابت: الأسير الفلسطيني، المتحوّل: الحرب في أوكرانيا

سوف تنتهي الحرب الروسية الأوكرانية قريبا، وستنضم قوافل ضحاياها البشرية إلى قوائم العبث الذي يزخر بها تاريخ الإنسانية الدموي. ولعلنا نجد، بعيدا عن مجريات هذه الحرب وتداعياتها اليومية المؤسفة، في إرفاق اسم فلسطين، وتذكير العالم بها وبكونها أرضا محتلة من قبل إسرائيل منذ سبعين عاما، ما يثير نوعا من الرضا المتواضع، ويبعث في النفوس بعض التفاؤل والإيمان باستمرار وجود تلك الفسحة من الأمل. أقول هذا بحذر شديد، ومن دون تعويل على صحوة ضمائر أنظمة تلك الدول، التي تدعم أوكرانيا من جهة أو روسيا من الجهة الأخرى، وعلى إمكانية تخلّيها فورا عن اعتمادها للمعايير المزدوجة ولسياسات الكيل بمكيالين، وتحرّكها لدعم حق الشعب الفلسطيني بنيل حريته والاستقلال. ورغم ذلك، وكمن يواكب المشهد الفلسطيني من أرض الواقع، أشعر كم كان وقع تلك الأصوات المناصرة للقضية الفلسطينية إيجابيا في فضاءات فلسطين، خاصة حين قارب هؤلاء الخطباء والمتحدثون، سواء في برلمانات بعض الدول، أو من على شاشات الفضائيات، ردود فعل دول العالم إزاء ما يجري في أوكرانيا، وقارنوها منتقدين مواقف دول هذا العالم نفسها، إزاء ما جرى ويجري منذ عقود على أرض فلسطين المحتلة. لقد ضخّت مشاهد أعلام فلسطين وهي ترفرف في بعض ساحات الدول الأوروبية جرعات قوية من الأمل في عروق الفلسطينيين، في وقت غطّت فيه أخبار الحرب الروسية على ما تقوم به سوائب المستوطنين من اعتداءات في القدس الشرقية، وفي سائر الأراضي الفلسطينية المحتلة، وعلى قمع قوات جيش الاحتلال وملاحقته للشباب واعتقال العشرات يوميا وهدم بيوت بعضهم.

بوقوف الأسرى أمام سجانهم بصرامة، استطاعوا أن يستعيدوا كثيرا من وهج حركتهم الضائع، وأن يُكسبوها، مجددا، مكانتها الطبيعية أمام العالم

واليوم سأحاول أن أعيد القراء إلى ساحات الوجع الفلسطيني، لاسيما إلى ما يواجهه الأسرى الفلسطينيون في سجون الاحتلال الإسرائيلي، حيث يقبع أربعة آلاف وخمسمئة أسير أمني فلسطينيي، منهم حوالي الخمسمئة أسير إداري، ومئة وثمانين قاصرا، لم يبلغوا سن الثامنة عشرة، وثلاث وثلاثين أسيرة. لقد أعلن الأسرى الإداريون، منذ مطلع العام الجاري، عن مقاطعتهم للمحاكم الإسرائيلية العسكرية، على جميع درجاتها، والمحكمة العليا أيضا؛ احتجاجا منهم على دور المنظومة القضائية في ترسيخ سياسة الاعتقال الإداري الجائرة، ولكونها تعمل من خلال محاكم غير نزيهة على الإطلاق. لم يأت إعلان الأسرى الإداريين من فراغ؛ فأوضاع الحركة الأسيرة داخل جميع سجون الاحتلال كانت تمر في ظروف قاسية، في أعقاب حملة قمع شديدة أطلقتها «إدارة مصلحة السجون» إثر نجاح عملية الهرب من سجن «جلبوع» في السادس من أيلول/ سبتمبر المنصرم. لقد أصدرت إدارات السجون بعد عملية «نفق الحرية» رزمة من القرارات التي استهدفت منجزات الحركة الأسيرة عبر السنين. لم ترضخ قيادات جميع فصائل الأسرى لتلك الأوامر الجديدة، فرفضوها وحاولوا، من خلال لغة الحوار الواعي ووحدتهم التنظيمية، درء تبعاتها. وعلى ما يبدو لم ينجحوا في التوصل إلى حلول مقبولة ومرضية لغاية الآن؛ لكنهم، بوقوفهم أمام سجانهم بصرامة، استطاعوا أن يستعيدوا كثيرا من وهج حركتهم الضائع، وأن يُكسبوها، مجددا، مكانتها الطبيعية أمام العالم، كشوكة سرمدية لا تنكسر ولا تكسر، وكبوتقة تصهر الجميع وتؤدي دورها كضابط أمين لنبض الشوارع الفلسطينية النضالي، ولهتافات الميادين ضد سياسات الاحتلال وممارساته. تشهد هذه الأيام احتداما جدّيا بين الأسرى وسجّانيهم، ما دفع قيادات الحركة الأسيرة للإعلان عن قرارهم بالشروع بإضراب مفتوح عن الطعام سيبدأونه في الخامس والعشرين من الشهر الجاري. فالحركة الأسيرة تستوعب أن المخطط المرسوم لها يستهدف وجودها نفسه ومنجزاتها التاريخية ورمزيتها الوطنية، ككيان يعيش حالة صدام مستديمة مع السجان، بصفته أوضح رموز الاحتلال والدليل الحي على قمعه. لا نعرف كيف ستنتهي هذه المواجهة، فالأسرى عازمون على ألا يستسلموا لسجّانهم، لكنّهم سوف يستمرون في محاولاتهم للتوصل معه إلى حلول مرضية ومقبولة، كما أعلنوا في رسالة وجهوها إلى قيادات وأبناء شعبهم، من داخل سجونهم، قالوا فيها إن إدارة السجون «تقوم منذ 6/9/2021 بإجراءات قمعية وعقابية، كانتقام لما حدث في سجن جلبوع، وقد فرضت الكثير من القيود التي حوّلت حياة الأسرى في السجون إلى جحيم لا يطاق.. وقد حاولنا وبكل الوسائل وقف هذه الهجمة وتغيير هذه الإجراءات، من خلال الحوار والخطوات التكتيكية، التي ما زالت مستمرة لهذا الحين، لكن للأسف تستغل سلطات الاحتلال ما يحدث في الخارج، للضغط والتنكيل ولعدم الاستجابة إلى مطالبنا، وبناء على ذلك تمكّنا من تشكيل لجنة طوارئ عليا من الفصائل كافة وفي السجون كافة.. وبعد التشاور قررنا الشروع بخطوة استراتيجية وخوض إضراب مفتوح عن الطعام، بتاريخ 25/3/2022 ، دفاعا عن كرامتنا وإحقاق حقوقنا». أتمنى، كما يتمنى الأسرى أنفسهم، أن تحل هذه الأزمة عن طريق الحوار المدعوم بوحدة جميع الفصائل وبالحكمة وبالعزيمة الصادقة، فالشروع بإضراب مفتوح عن الطعام، كما علّمتنا التجارب السابقة، ليس بالشأن السهل، خاصة في مثل الظروف السياسية والاقتصادية الحالية الصعبة، التي تعيشها المجتمعات الفلسطينية، وفي ظل تداعيات الحرب في أوكرانيا، وانشغال دول العالم بها.
لقد استفز الرياء العالمي، كما مورس على الساحة الأوكرانية، أقلام الكثيرين من المعقبين السياسيين والناشطين الاجتماعيين في مجتمعاتنا المحلية، وكأن جميع هؤلاء كانوا بحاجة إلى اندلاع هذه الحرب كي يتحققوا من عهر تلك الأنظمة، الغربية والشرقية وما بينهما، وتجاهلها غير الأخلاقي لمعاناة الشعب الفلسطيني طيلة سنيّ رزوحه تحت نير الاحتلال الإسرائيلي؛ واليوم، بعد أن عبّر الجميع عن مواقفهم إزاء تلك الحرب، وبعد أن تكشّفت جميع الأنظمة الحاكمة بقبحها وبتملقها، أتوقع أن يعود جميع « الأبناء» الصالحين إلى مواقعهم الطبيعية على خريطة الهمّ الفلسطيني، وتحديدا إلى قضية الأسرى، واحتضانها بدفء، لاسيما في هذه الأيام الحاسمة كما قرأنا. ليس أحوج من أسرى الحرية الفلسطينية إلى دعم كل أصحاب الضمائر الحية، هنا وفي جميع أرجاء العالم؛ فحين ناضل هؤلاء الأسرى ضد الاحتلال الإسرائيلي وضحّوا من أجل نيل حقوق شعبهم المسلوبة، كانوا يفعلون ذلك أيضا باسم كل إنسان حر وحقه بالعيش بكرامة في دولته المستقلة، وعلى أرض وطنه. فالثابت، إذن، في ما يجري من أحداث أمامنا، منذ أكثر من خمسة عقود، هو الحق الفلسطيني الضائع وتنكر المجتمع الدولي له وصمت الدول على ما يرتكب بحق أبناء شعب فلسطين من جرائم وقمع واضطهاد؛ وأما المتحول فهو حروب قياصرة هذه الزمن، وبينهم قيصر روسيا الجديد، ومخططاتهم لاقتسام خيرات دول العالم وتوزيعها كغنائم ونهبها، بعد تمزيق أواصر البلاد وسحق شعوبها كما شهدنا في السنوات الماضية ونشهد في أيامنا هذه.
كاتب فلسطيني

 

لأوكرانيا

ولا لحرب بوتين عليها

جواد بولس

 

حاولت ألا أكتب حول قضية الحرب الدائرة بين روسيا وأكرانيا؛ تجنبا منّي للخوض في ما تستدعيه هذه المسألة من أسئلة صعبة، ومن تناقضات لم يعد الحسم فيها واضحا أو شبه تلقائيّ كما كان بالنسبة لي ولكثيرين مثلي، في زمن كان العالم فيه مقسوما إلى معسكرين: واحد يمثل الخير بمفهومه المبسّط والفطري، والثاني يجسّد الشر بمفهومه المطلق. فالاتحاد السوفييتي وحلفاؤه في العالم، كانوا بالنسبة لنا، نحن الشباب اليساريين «شمس الشعوب» ومظلته الواقية؛ بينما اعتبرنا الغرب، بقيادة الولايات المتحدة وحلفائها من دول وأنظمة مستبدة، عدو تلك الشعوب وناهب خيراتها ومفسد أوطانها. لكن كيف لكاتب مقال أسبوعي أن يغفل حالة حرب تؤرق تداعياتها حيوات مئات ملايين البشر، في جميع أرجاء المعمورة؟
ما زلت أذكر حرقة الدمع على خدّي في تلك اللحظة، قبل أربعة عشر عاما، حين وقفت الحافلة التي كانت تقلّنا وسط الساحة الحمراء، قلب موسكو الساهرة، وعروس أحلامنا الخالدة. بكيت كرجل يحقق أمنية طفولته السحيقة. أحسست بأنني غيمة من ندى أرجواني تطير نحو ذاك البعيد، حيث لا ينام من سقوا الفولاذ وعلّموا المشانق كيف تجدل ضفائر العزة والكرامة. كانت الساحة أوسع من حلم، والمباني تحيطها كنجوم سابحة في فضاء مسحور؛ كل شيء حولي كان مدعاة لشهقة، والقباب، بألوانها الزاهية، ترتفع كالرماح حتى حلق السماء.
عشت لحظات على وقع الصدى ودردبات الطبول في ساحات بلداتنا في مسيرات الأول من أيار/مايو. تذكّرت، وبسمة موجعة تسيح من أطراف وجهي، كيف كنّا في فورة شبابنا، ننتشي ونحن نشاهد استعراضات طوابير دبابات وصواريخ الجيش الأحمر، وهي تهز أركان العبث في احتفالات ثورة أكتوبر/تشرين الأول وتمجيدا للانتصار على النازية في المكان نفسه الذي كنا نقف فيه. ضحكت في سرّي عندما تذكّرت كيف كنّا نتغزّل كالسكارى «بجبروت» حاجبي «الرفيق بريجينيف» الغليظة، وبحذاء نيكيتا خروتشوف وهو يضرب به وجه العالم القميء؛ وكيف كان ينتصب بقية قادة الحزب الشيوعي السوفييتي كأعمدة من رخام أوليمبي، ويتصدرون المنصات الحمراء العالية كآلهة يونانيين؛ ونحن على قناعة بأنهم قادرون على تحقيق كل معجزة وسحق كل عدو وتذليل كل خطر. مرّت اللحظات وأنا سارح في نفق ذلك الزمن الرمادي. لم أصغ لما قال مرشدنا السياحي بخصوص برنامج زياراتنا في اليوم التالي؛ لكنني فهمت، من أحد أصدقائي في المجموعة، أنه لم يأت على ذكر زيارة ضريح لينين، علما بأنه أحد أهم المعالم البارزة الموجودة في الساحة الحمراء. في الباص سألته لماذا لن نزور الضريح؟ فأجاب بأنه مجرد «قبر» وهنالك مواقع أجمل منه وأهم في روسيا الحديثة. كان مرشدنا، كما أفهمنا المسؤولون في المكتب السياحي، الذين رتبوا لنا إجراءات الرحلة، محاضرا سابقا ومتخصصا في تاريخ روسيا تحديدا، ويعدّ من أبرز المرشدين السياحيين وأنجحهم، لأنه يعرف المدينتين، موسكو وبطرسبورغ، حق المعرفة. لم أقبل بإجابته وطلبت أن يضيف زيارة الضريح إلى برنامجنا، ففعل ذلك بعد أن صوتت المجموعة كلّها على المقترح.
اصطففنا، في الصباح التالي، وراء عشرات المواطنين الذين حضروا لزيارة الضريح قبلنا. كانوا يقفون في الساحة الحمراء بخشوع ويتقدمون على وقع حفيف أغصان شجرات عاليات تحيط بإحدى جهات المكان. في الداخل تسكن الرهبة وقليل من الضوء. كانت الغرفة باردة، وفي وسطها مسجى جثمان فلاديمير الييتش لينين، وحوله يقف، على الجانبين، حرّاس يهيبون بالزائرين أن يتقدموا من دون تلكؤ، وهكذا فعلنا. كانت لحظات مؤثرة حتى أنني ما زلت أتذكر قسمات وجهه المائلة إلى الصفرة، وأنه كان قصير القامة. أنهينا الزيارة بصمت، وأذكر أننا لم نتحدث عنها إلا بعد وقت، فالمكان لم يكن، بالنسبة لبعضنا، مجرد قبر، كما قال مرشدنا السياحي.
خرجت حزينا، فلينين ذلك المارد الأحمر، الذي جئنا لزيارته، لم يكن موجودا هناك، وأعني في روسيا الحديثة التي صارت غالبية شعبها تؤمن «بفلاديمير» الآخر، أو قل «بأبي علي» وتعتقد أن فيها أماكن ومواقع ورموزا أهم من المعلم لينين وأجدر منه.

روسيا عازمة على التصدّي لجميع ما يحصل، حتى تسترد مكانتها كقوة عالمية، في بنى النظام العالمي الذي لن يرسم إلا معها وبمشاركتها التامة

كانت محطتنا المقبلة زيارة أحد الأسواق العصرية التي تحتضنها روسيا الأوليغارخية ورأس المال الفاحش. وصلنا المركز التجاري الذي يقع على أطراف الساحة الحمراء، وهو عبارة عن مجموعة من المباني الفخمة المبنية على طراز معماري عصري هجين على روح المكان، تملأ ساحاتها مئات السيارات الفارهة التي يسوقها، أو يخرج منها، الروسيّون الجدد، أبناء حلفاء بوتين وشركائه في إدارة الدولة ونهب نعمها وخيراتها؛ إنهم حرّاس حلم روسيا الجديد، ينامون على نفط وحرير، ولا يعرفون كيف تمسك المناجل ولمن تدق المطارق.
عدت من روسيا التي لم أحلم بها. لم أكره ما شاهدت، فكثير من عظمة تاريخها ما زال شاخصا في الشوارع والساحات؛ والحنين الذي كنا نبحث عنه ما زال ينادي من يفتش عن أنفاسه الضائعة هناك؛ لكنني عدت من دون أن أحبّها كما هيأت قلبي لملاقاتها وطلبت منه أن يستعد لها. عدت منها متيقنا أن روسيا اليوم هي دولة مثل باقي الدول المتجبرة، وإن بقيت «شرقية» بالميراث، إلا أنها أصبحت «غربية» حتى النخاع، بأطماعها وبجشع قادتها، وبإتقانهم للعبة المصالح، ولهاثهم وراء استلام حصصهم من خيرات سائر الدول الضعيفة والمستضعفة. روسيا فلاديمير بوتين، لم تعد «شمس الشعوب» التي رقصنا تحت وبحماية دفئها، ولا حليفتهم، إلا إذا اقتضت مصالحها أن تلعب هذا الدور، كما لعبته في العراق وليبيا وسوريا وفلسطين، وتؤديه اليوم في أوكرانيا، سواء كانت مكرهة على ذلك، كما يعتقد مؤيدو بوتين، أو حفاظا على مصالحها كدولة عظمى، كما يعتقد المعارضون لبوتين. أقول ذلك وأعرف أنني أفتح على نفسي جبهة من المعارضين، الذين لا يوافقونني اليوم ولم يوافقوني وقتها على هذه القسمة؛ وجبهات من المعارضين الذين لن يقبلوا ما سأقوله بناء على زوال أسس هذه القاعدة، ساعة انهار الاتحاد السوفييتي العظيم، واختفى معه حلف وارسو، الذراع العسكرية الرادعة في مواجهة الغرب وذراعه العسكرية، حلف الناتو، الذي ساهمت قوته في اخضاع دول العالم، إلى هيمنة «القطب الواحد» وإلى معاملة روسيا كقوة ثانوية، أو في أحسن الأحوال كقوة إقليمية عجزت، لسنوات، على مواجهة عدة أحداث عالمية بندّية متوازنة. لن نجد أوضح مما يقوله بوتين بنفسه عن دوافع بلاده من حربه الحالية ضد أوكرانيا؛ فهو، بعد أن يسرد ماذا حصل من لحظة انهيار الاتحاد السوفييتي وتعاظم دور أمريكا وحلفائها الأوروبيين واعتداءاتهم على كثير من الدول المستقلة وتدميرها والفوز بمقدراتها، واستمرار مساعيهم في محاصرة روسيا، والشروع باتخاذ خطوات فعلية تهدد أمنها ووحدة أراضيها، مثل ما حدث من جانب أوكرانيا خلال السنوات الماضية، يعلن أن روسيا عازمة على التصدّي لجميع ما يحصل، حتى تسترد مكانتها كقوة عالمية، لها ما لها وعليها ما عليها، في بنى النظام العالمي الذي لن يرسم إلا معها وبمشاركتها التامة.
فهل، والحال كما يصرّح بوتين بنفسه، يتوجب على كل إنسان أن يتخذ موقفا معه أو ضده؟ وهل يكفي من أجل تفضيله في المنازلة الحالية بينه وبين أوكرانيا الدمية، حليفة أمريكا الإمبريالية، ما نسمعه من مؤيديه بيننا بأن الفارق يكمن بكون أمريكا دولة إمبريالية مارقة، بينما لم تزل روسيا بوتين، حتى يومنا هذا، مجرد دولة رأسمالية كبرى، تأوي عتاة الرأسماليين الذين سطوا على خيرات الاتحاد السوفييتي، وروسيا تحديدا، ويتحكمون في رقاب دولة كانت ذات يوم امبراطورية عظمى؟
أنا ضد سياسة أوكرانيا واعتداءاتها على الأراضي الروسية وتحرّشاتها الوقحة بالسيادة الروسية؛ وضد سياسات أمريكا التوسعية وتدميرها للدول ونهب خيراتها وسحق شعوبها ومحاولاتها للتحكم المنفرد في النظام العالمي؛ لكنني لا أستطيع تأييد حرب بوتين الحالية على أوكرانيا، حتى لو بررتها مصالح روسيا، كما ساقها بوتين علنا، فالذي سيدفع فواتير هذه الحرب هما شعبا أوكرانيا وروسيا، ويكفي بذلك دافعا ألا أقف معها. أسمع من سيهزأون بإنسانية هذا الموقف وتقريعه، لاسيما أولئك الذين يعيشون على حد مسطرة واحدة اسمها أمريكا، فاين تكون أمريكا يكونون ضدّها. هذا حقهم وليؤمنوا به؛ لكنهم لا يستطيعون أن يدّعوا امتلاك ناصية الحق وحدهم، فهم ينامون في حضن «دب» كان قد عض «أثداء أمه» تلك التي كنا نسميها «شمس الشعوب». ستنتهي هذه الحرب وستبقى الحقيقة غائبة بين فلاديمير لينين وفلاديمير بوتين.
كاتب فلسطيني

 

 

الطريق إلى شانغهاي:

مشاهد على متاهات

العرب في إسرائيل

جواد بولس

ستصبح مشاهد هبة شهر أيار / مايو المنصرم مجرد فواصل صغيرة في حياة شعب عرف الأمل مطويا، منذ أكثر من مئة عام، في صفحة وعد بريطاني مشؤوم؛ وتجرع حليب فجر ذبحوه في عام النكبة. وستمضي الشهور ولن يبقى في الذاكرة غير الغصات وفي الصدور غير الوجع. أعود إلى تلك الهبة وتبعاتها بعد أن قرأت، يوم الاربعاء الماضي، في جريدة هآرتس العبرية، ما قاله ممثل النيابة العامة الإسرائيلية لقضاة المحكمة العليا الإسرائيلية أثناء مرافعته في الاستئناف على قرار الحكم الذي أصدرته المحكمة المركزية في حيفا ضد الشاب، ابن مدينة عكا، محمد أسود.
ففي أعقاب تلك الهبة الشعبية اعتقلت الشرطة الإسرائيلية عشرات الشبان العرب، وقدمت ضدهم لوائح اتهام، تضمنت تهم المشاركة بأعمال الشغب والتسبب بأضرار لممتلكات يهودية وغيرها من هذه التهم الشبيهة، وطالبت بإدانتهم وبإنزال عقوبات قاسية بحقهم. وفي نهاية الشهر الماضي حكم قاضي المحكمة المركزية في حيفا على الشاب محمد أسود بالسجن الفعلي لمدة سنة بعد أن أدانه بمثل تلك التهم.
وفي الاستئناف على القرار طالب ممثل النيابة من قضاة المحكمة العليا تشديد العقوبة على المتهم بشكل استثنائي وغير مسبوق لكي يصبح الحكم في هذا الملف سابقة تحتذى في سائر القضايا المرفوعة ضد معتقلي الهبة الذين وصفهم بمثيري الشغب؛ وبسبب الخطورة الصارخة المنبعثة من الأحداث التي جرت في مواقع مختلفة من البلاد «ولأننا لا نتحدث عن عدو خارجي وإنما عن مواطني الدولة وعن جزء من النسيج المدني المشترك فيها» كما جاء في أقواله أمام القضاة. وأضاف جازما بأن هؤلاء المواطنين قد «تحولوا إلى عدو من الداخل، فالاحتجاجات قد استهدفت المناعة القومية للدولة، والأمل بحياة مشتركة» وهذا كله ينطوي على خطورة بالغة قد تؤدي إلى انشقاق بين المواطنين، حسب رأيه.
سننتظر كيف ستتعاطى المحكمة العليا مع هذه المسألة الخطيرة؛ وسنعرف عما قريب، فيما إذا سيقبل قضاتها موقف النيابة العامة ويعتبرون بدورهم كل المواطنين العرب الذين شاركوا في الهبة الشعبية «أعداء من الداخل» على كل ما سيستوجبه هذا التعريف القانوني من تبعات، ويعنيه بالنسبة لمكانة المواطنين العرب وحقهم في الاحتجاج ومواجهة سياسات القمع والاضطهاد العنصري الممارس ضدهم من قبل مؤسسات الدولة.
إننا نقف أمام مشهد مفصلي في مصير علاقة الدولة بمواطنيها العرب؛ وقد أراهن اليوم على أن المحكمة العليا الإسرائيلية ستنضم بشكل سافر وواضح، عاجلا أم آجلا، لموقف النيابة العامة الذي يمثل، في الواقع، موقف الحكومة الرسمي وسياساتها، في الحاضر والمستقبل، تجاه مواطنيها العرب.

لن يجدينا التهرب من مواجهة إشكالية ثنائية الانتماء، المواطني والقومي، الذي كنا وما زلنا نعيشه برتابة هشة

ومن المفارقات المدهشة أن ما شاهدناه خلال أحداث هبة أيار/مايو وكيف تعاملت وستتعامل مؤسسات الدولة مع مواطنيها العرب، يجري بالتوازي مع تنفيذها لبعض السياسات المغايرة تجاههم ولاتخاذها بعض القرارات الرسمية التي قد تبدو نقيضة لممارساتها العنصرية العملية؛ لكننا، إذا ما تمعنا فيها بجدية، سنجد أنها ليست أكثر من تكتيكات مكملة ومدروسة وتنفذ كجزء من سياسة الحكومات الإسرائيلية المرسومة بدقة تجاه من تعتبرهم «أعداءها من الداخل». فلقد قرر وزير الخارجية الإسرائيلي، يئير لبيد، تعيين النائبة عن حزب ميرتس، غيداء ريناوي زعبي، قنصلا إسرائيليا عاما في مدينة شنغهاي الصينية. وسوف تكون السيدة غيداء أول مواطنة عربية مسلمة تتبوأ منصبا هاما كهذا؛ لكنها ليست أول مواطن عربي يخدم في السلك الدبلوماسي الإسرائيلي، اذ سبقها إلى ذلك المنصب مواطنون عرب آخرون، دروز ومسلمون ومسيحيون.
لم يلق هذا القرار ما يستحقه من اهتمام بين المواطنين العرب، لا من باب المعارضة ولا على سبيل الدعم، كما تحاول أن تدعي بعض المواقع الإخبارية العبرية؛ فباستثناء بعض التعقيبات عليه من جهة بعض من يتعاطون الإعلام السياسي، سنجد أن الخبر قد مر بهدوء نسبي، من دون أن يؤدي قرار التعيين نفسه إلى أي احتدام أو مواجهات بين معسكر من المؤيدين ومعسكر المعارضين. وهذا ليس صدفة بل دليلا على حالة السبات التي تعيشها مجتمعاتنا العربية.
لا أعرف متى ستتراجع حكومة إسرائيل عن موقفها الحالي وتطلب عودة قنصلها العربي من شنغهاي، لكنني على قناعة أن ذلك سيحصل قريبا؛ خاصة وأن البعض قد غمز وأشار إلى أن قرار الوزير لبيد مشكوك في نزاهته، ويستهدف، في الواقع، أولا، إبعاد النائبة غيداء عن ساحة الكنيست لتضمن حكومة بينيت – لبيد عدم تكرار «مشاغبتها» في المستقبل، كما حصل عندما صوتت ضد قانون تجنيد الشبان المتدينين اليهود (الحريديم)؛ وثانيا، لمعاقبتها بسبب بعض تصريحاتها ومواقفها التي استفزت ديوك الحكومة وصقورها.
لقد تزامن قرار تعيين مواطنة عربية كقنصل يمثل إسرائيل في أحد المواقع الجغرافية المؤثرة في العالم، مع قرار تعيين قاضي المحكمة المركزية في تل أبيب، خالد كبوب، في المحكمة العليا الإسرائيلية، خلفا للقاضي العربي الحالي جورج قرا، الذي سيخرج قريبا إلى التقاعد. قد يفهم من قرار تعيين القاضي كبوب أن صناع القرار في الدولة سيحافظون، لأسبابهم الدعائية الخاصة، على وجود قاض عربي واحد في المحكمة العليا، وقد يتم ذلك بالتناوب بين أبناء الطوائف جميعها، فخالد المسلم يخلف جورج المسيحي، وهذا قد يخلفه في المستقبل قاض من بني معروف.
لم يكن غريبا اذن أن تقوم المصادر العبرية بتأكيد هوية القاضي كبوب الدينية، كمسلم يخلف مسيحيا؛ لكنني لم أستوعب حين لجأت وسائل إعلام عربية الى إبراز هذه الجزئية، أو حين سخرتها بعض الشخصيات العربية التي باركت الخطوة وهنأت القاضي، مثلما فعلت النائبة غيداء ريناوي زعبي عندما كتبت على صفحتها: «خطوة تاريخية، تعيين قاض عربي مسلم في المحكمة العليا. ألف مبروك اختيار القاضي خالد كبوب خلفا لجورج قرا بالعليا، وبهذا يحقق خطوة تاريخية كعربي مسلم يشغل منصب قاض في المحكمة العليا». كلام يقال من قبل شخصية قيادية عربية، بروتينية عادية، ويعكس في الواقع ما تعانيه هويتنا الفردية والجمعية من أزمات. كلام يكشف، مرة أخرى، عن تعقيدات حياتنا، خاصة فيما يتعلق بفهمنا لمكنونات هويتنا، وبعلاقتنا مع الدولة، وكيف يكون تحقيق مطالبنا في المساواة الكاملة وما هي مساحات اندماجنا المتاحة في الدولة اليهودية والمرغوبة من قبلنا.
لقد كتبت في الماضي منوها الى أن من يراهن على أن إسرائيل ستترك مواطنيها العرب يبنون أعشاش أحلامهم في عرى مواطنة هادئة، يخطئ ذلك لأننا بالرغم من مواجهتنا لتداعيات أزمة خطيرة وساحقة، لم ننجح كمجتمع في وضع رؤى كفاحية حقيقية وواقعية توازي وتواكب ما طرأ على المجتمع الاسرائيلي وعلى مجتمعنا العربي من تطورات، ولم نحاول إيجاد السبل الصحيحة للتوافق المتزن مع الدولة أو للاشتباك الرابح معها.
إنها حالة تستدعي الدراسة والتمحيص بمسؤولية عالية وبعيدا عن خطابات التهريج والتقريع والهجاء. ففي النهاية لن يجدينا التهرب من مواجهة إشكالية ثنائية الانتماء، المواطني والقومي، الذي كنا وما زلنا نعيشه برتابة هشة. لا تحتاج هذه المواجهة الى الجرأة السياسية فحسب، كما يطالب البعض، بل تحتاج إلى التعامل معها كضرورة وجودية ملحة، والاعتراف بها كمعضلة يجب تفكيكها بمفاهيم صحيحة وحكيمة، وإلا سيبقى التسيب القائم اجتهادا متاحا بعشوائية لكل المواطنين ولأحزابهم وتأطيراتهم وحسب أهوائهم وانتهازياتهم، وليس محصورا في هذه الحركة أو ذاك الحزب.
وبعودة إلى مشاهد التيه من هذا الأسبوع، فهل حقا نريد تعييين مزيد من القضاة في جهاز القضاء الاسرائيلي بشكل عام وخاصة في المحكمة العليا؟ وإذا كان منصب القاضي يعتبر إنجازا مرموقا واستحقاقا لمن اختاروا كلية الحقوق عنوانا لطموحهم في شبابهم، فلماذا نعيب على من قبل أن يكون قنصلا في شنغهاي مثلا، وهو منصب مرموق أيضا بدون شك؟ وإذا كان الجواب على هذا مطبوعا في فقه البداهة التي عشنا في أكنافها، والحظر في أن نقبل أن نكون أبواقا تدافع عن سياسات دولة تعتبرنا أعداءها الداخليين فماذا سنقول لمئات الأكاديميين العرب الذين استوعبتهم مرافق الدولة حتى أصبح بعضهم يتبوأون أعلى المناصب في الجامعات والمستشفيات والشركات والوزارات، ويقفون على منصات البلاد وخارجها، كعرب وإسرائيليين، ويستعرضون منجزاتهم ومنجزات مؤسساتهم الإسرائيلية التي يمثلونها؟
لا أقول هذا دفاعا عن قبول النائبة غيداء وموافقتها لإشغال منصب القنصل في شنغهاي، ولا تقليلا من مكانة القضاة، ولا ذما لجميع من كافحوا وتميزوا في ميادين العلم أو في الادارة أو في الرياضة واستحقوا عن جدارة مناصبهم وتمثيل ما أنجزوه حتى لو كان باسم الدولة وتحت علمها، أقول ذلك، لأذكر بسوء حالنا وبتيهنا وبأننا ماضون نحو مستقبل قاتم لا نعرف فيه كيف يكون الحسم بين المرغوب والمشتهى وبين المحظور، فهذا سيبقى قرارها وستتحمل هي وحدها عواقبه.
كاتب فلسطيني

 

بين «بيغاسوس» والأسرى

الفلسطينيين الإداريين تسكن الحقيقة

جواد بولس

 

أثارت أخبار فضيحة استعمال برنامج التجسس «بيغاسوس» من قبل عدة مؤسسات وجهات عالمية، وبضمنها، كما جاء في الأخبار، بعض حكام أنظمة الدول وكبار المسؤولين فيها، موجة من الغضب والانتقادات؛ لاسيّما بعد أن نُشرت، في كبرى الصحف العالمية، قائمة من خمسين ألف شخصية، كانت أرقام هواتفهم مدرجة كأهداف للتنصت عليها، وتعقبها من قبل جهات معنية، نجحت بشراء ذلك البرنامج وباستعماله.
ومع أنني لست خبيرا في علوم البرمجة والحاسوب، ولا مطلا محترفا على آخر ما وصلت إليه تقنيات «السايبر الهجومي» إليها ينتمي هذا البرنامج المتطور، إلا أنني أعرف أننا نتحدث عن سلاح خبيث ومعقد؛ فهو عبارة عن برنامج يمكن تثبيته على جميع أجهزة الهواتف الذكية، وتشغيله من قبل مصنّعيه أو مقتنيه بسهولة نسبية، بهدف التجسس على صاحب الهاتف، ونقل جميع ملفاته وتحويله إلى هدف يخضع للمراقبة الدائمة وللسيطرة وما يتبعهما.
صاحبة هذا الاختراع هي شركة إسرائيلية، تسمى «أن أس أو» (
NSO) ، يقع مركزها في مدينة هرتسليا، ويعمل فيها العديد من خريجي الوحدات العسكرية الإسرائيلية المختارة، وفي طليعتها وحدة المخابرات المعروفة برمزها ( (8200.
وقد ثارت ثائرة بعضهم في خضم توارد الأنباء والتفاصيل عن حجم الفضيحة، بعد أن وردت أسماؤهم في تلك القائمة. وقد يكون أبرز المستَفزين هو الرئيس الفرنسي ماكرون، الذي طلب شخصيا من نفتالي بينيت رئيس حكومة إسرائيل، التحقيق في خبر إخضاع هاتفه الشخصي لعملية التجسس، والتحقق من جميع أنشطة الشركة، صاحبة البرنامج. وهاجم ماكرون وغيره الشركة الإسرائيلية، واتهموها بتخطي جميع الخطوط الحمر، والأعراف المتبعة دوليا، حين وافقت على بيع منتجها الخطير لعدة جهات في جميع أنحاء العالم، على الرغم من أنه كان واضحا أن تلك الجهات ستستغل البرنامج لأهداف غير نظيفة، كما اتضح فعليا. لا أعرف كم من متابعي هذه القصة سوف يصدّقون حرقة الرئيس الفرنسي ماكرون وأمثاله من أصحاب النفوذ والأطماع السياسية في دول أخرى؛ إذ لولا وقوعه شخصيا، ومن مثله من المسؤولين السياسيين، فرائس لهذا السلاح، كما نشرت الصحافة، لما أعاروا، لا هو ولا هم، هذه الفضيحة اهتماما حقيقيا، ولما عبّر، بأسلوب قاطع، عن غضبه واعتراضه على تسويق ذلك البرنامج في السوق العالمية، وبيعه بملايين الشواقل لكل من يرغب ومن يدفع. ولأنني لا أصدقه وأعرف أن كثيرا مما قيل، من قبله وقبل آخرين، في حق شركة
NSO قد قيل وهو مغمّس بالرياء وبالتملق، أعترف بأنني تابعت فصول هذه الفضيحة وأفعال أبطالها بغضب دفين؛ وكنت، في الوقت نفسه، أتابع ما يرد من أخبار عما يحصل مع الأسرى الفلسطينيين الإداريين ومقاطعتهم لمحاكم الاحتلال التي أعلنوا عنها منذ مطلع العام الجاري.

بيغاسوس أسقطت الستائر التي تغطي تفاصيل جريمة صناعة الأسلحة الخبيثة، التي لا تخضع لأية معايير إنسانية أو قانونية، وبيوعات لا تحكمها ضوابط أخلاقية

يقبع في السجون الإسرائيلية، هذه الأيام، قرابة خمسمئة سجين إداري؛ وهم، مثلهم مثل آلاف الأسرى الإداريين الذين سبقوهم، اعتقلوا من دون أن توجه لهم تهمة عينية، ومن دون أن يحظوا بحقهم بالدفاع عن أنفسهم في محاكم نزيهة، وبناء على ما يدعى «ملف البيّنات السري». كنت في الماضي أسخر من هذه الملفات وتسميتها المغرضة، وكنت أتحدّى القضاة العسكريين، بأن يعطوني ساعة لأكتب لهم فيها بضعة شبيهات من تلك الصفحات «الاستخباراتية» وسأسميها أنا أيضا، ملف معلوماتي السرية. كنت أصف، متهكما، تلك الأوراق/التقارير، التي كانت محفوظة داخل مغلفات بنية، وموضوعة في صناديق حديدية تحملها عناصر المخابرات، بأوراق لف «أرغفة الفلافل» فهي تشبهها من بعيد. ومرّت السنون.. حتى شاركت ذات يوم في ندوة كنت قد دعيت إليها من قبل فرع نقابة المحامين الإسرائيلية في القدس. كان عنوان الندوة «الاعتقالات الإدارية – ضروراتها مقابل قانونيتها». وقد شاركتني على منصة المتحدثين مجموعة من المسؤولين القانونيين العسكريين الكبار، ومستشار قضائي متقاعد، كان يرأس، لسنوات طويلة، وحدة قضائية في جهاز المخابرات العامة (الشاباك). سادت في الندوة – كما لكم أن تتخيلوا – أجواء ساخنة؛ خاصة بعد أن تلقيت دعما من قبل بعض الزملاء اليهود الحاضرين، الذين وافقوني ولم يخفوا اعتراضهم على ممارسات الاحتلال بحق الفلسطينيين. ما زلت أذكر كيف حاول، حينها، المستشار القضائي لجهاز المخابرات أن «يطمئنني» كاشفا أن جهازهم قد توقف، منذ سنوات، عن الاعتماد على ما ينقله لهم المخبرون والعملاء فقط، وعن استعمال «أوراق الفلافل» قالها مداعبا مقلّدا تسميتي؛ فالعالم، هكذا أعلن بثقة مخابراتية جازمة، تغيّر، والتقنيات التي أصبحت في متناول أيادي المخابرات تطوّرت، وجهازهم أصبح قادرا حتى على التقاط «أنفاس ناموسة» تائهة فوق سرير من يخضع للملاحقة والتنصت، وهو داخل غرفة نومه. لم أسمعه ينطق باسم «بيغاسوس» عندها، ولكن روح ذلك «الحصان المجنّح» – وهو «بيغاسوس» في الميثولوجيا الإغريقية – كانت تهيم في القاعة.
لم تنحصر بيانات الاندهاش والشجب، من افتضاح حجم سوق مبيعات الشركة الاسرائيلية ونوعية زبائنها، بأصوات تهافتت من أنحاء العالم؛ بل انضمت إليها أصوات العديد من الشخصيات الإسرائيلية، خاصة بعد أن شاعت أخبار عن تسخير جهاز الشرطة الإسرائيلية لهذا البرنامج، واستعماله في ملاحقة عدة أشخاص ومن بينهم ناشطون اجتماعيون وصحافيون وشخصيات، كانت لهم علاقة في ملفات الفساد المفتوحة ضد بنيامين نتنياهو. كان المشهد الإسرائيلي الذي رافق هذه الفضيحة عبثيا ورخيصا؛ فالقضية أخطر وأكبر مما حفّز الرئيس ماكرون على التعبير عن رأيه، ولا تنحصر فقط بمحتويات هاتفه ولا على أعتاب شركة (
NSO) ولا بسبب تصنيعها لبرنامج التجسس «بيغاسوس» وضحاياه الحقيقيين والمزعومين. فعن هذه المخاطر، تحديدا، نشرت عشرات التقارير، وبعضها ذكّر بتاريخ هذه الظواهر وبصمت «العالم الحر» عنها. إنها أكبر لأنها تسقط الستائر التي تغطي تفاصيل جريمة صناعة الأسلحة الخبيثة على أنواعها، وكيف تجنى المليارات في أسواق «خنازيرية» تمتد من مشارق الأرض إلى مغاربها، ومن خلال صفقات، تنضح جشعا، ولا تخضع لأية معايير إنسانية أو قانونية صارمة، وبيوعات لا تحكمها أية ضوابط أخلاقية. وقد تكون إسرائيل من أنشط الدول في هذه الأسواق المعتمة؛ وقد تكون شركة (NSO) خرقت جميع المحاذير والمحظورات، لكنها ليست الشركة الوحيدة التي تقوم بذلك، لا في إسرائيل ولا في كثير من دول العالم «المتحضر». ولا أقول ذلك من باب ايجاد الأعذار للشركه ولأفعالها، بل للتأكيد على شيوع هذه الجرائم وتورط الكثيرين في ممارستها.
لن نستطيع في مقالة واحدة استعراض تاريخ تلك العلاقات التي سادت بين شركات تصنيع الأسلحة التقليدية والإلكترونية الحديثة والخبيثة، وجهات مشبوهة، أو حكام أنظمة ظلامية لجأوا، في الماضي واليوم، إلى استخدام «بيغاسوس» وأشباهه؛ فبعض المآسي، التي تسببتها تلك الأسلحة، موثقة في سجلات الأمم، ومكتوبة بدماء الضحايا الذين لوحقوا وأخضعوا للمراقبة قبل بيغاسوس وبعده، واعتقلوا وقضوا في غياهب الزنازين أو في الأحراش النائية. لقد دار معظم النقاش داخل إسرائيل حول تمادي الشرطة باستعمال هذا البرنامج في تعقب هواتف العديد من الاشخاص، من دون أن تحصل على أوامر قضائية لفعل ذلك؛ ورغم أهمية هذه الجزئية إلا أن النقاش لم ولن يتدحرج نحو صلب الظاهرة نفسها وخطورتها. فأنا مقتنع بأن المجتمع الاسرائيلي غير مستعد للكشف عن الحقيقة، سواء عن حقيقة علاقات هذه الشركة ومثيلاتها في العالم، أو عن حقيقة الظروف التي استعملت فيها الشرطة ذلك البرنامج.
وبعودة إلى أحداث تلك الندوة؛ لم نتفق حول معظم المواضيع التي تطرقنا إليها؛ فجميع المتحدثين العسكريين دافعوا عن حق إسرائيل في اعتقال الفلسطينيين إداريا، بينما عارضتهم وفندت ذرائعهم واحدة تلو الأخرى. وقد حمّلت قضاة المحاكم العسكرية والمدنية المسؤولية عن الإفراط في ممارسة الاعتقالات الإدارية، وعن الانزلاقات التي نشهدها داخل المجتمع الإسرائيلي، وعن التآكل الأخلاقي والقيمي والقانوني الحاصل في داخله؛ لأنهم، أي القضاة، تمنعوا عمدا عن ممارسة دورهم في تحجيم شهية المؤسستين الأمنية والسياسية، وأطلقوا لها الأعنة. وقد فاجأنا مستشار الشاباك حينها عندما صرّح أنه يشاركني رأيي حول مسؤولية ودور القضاة عمّا حصل ويحصل في الدولة. استحضرت اليوم، وأنا أتابع أخبار فضيحة التجسس، موقفه وتيقنت أن هؤلاء القضاة كانوا عمليا «بيغاسوسات» ذلك الزمن؛ ولكنني، بالمقابل، عندما قرأت أخبار إصرار مقاطعة الأسرى لمحاكم الاحتلال، تيقنت أن الحقيقة لا تعيش في الأساطير، بل تتدفق كالبرق من عتمة الزنازين.
كاتب فلسطيني

 

 

مرايا العرب

في إسرائيل مهشّمة

 

جواد بولس

 

بعد أن نجحت الوزيرة أييلت شاكيد، شريكة رئيس الحكومة نفتالي بينيت في حزب يمينا، بتمرير قانون المواطنة، الذي بموجبه ستخسر آلاف العائلات الفلسطينية فرصة لمّ شملها والعيش في حالة استقرار إنساني، صرّحت، بنشوة المنتصرين: “لقد انتصرت الصهيونية والعقل السليم”. وأضافت موضّحة، في مقابلة صحافية نشرتها على صفحتها، أنها لا تريد أن تتطرق إلى مسألة التصنيفات، أو في ما إذا كانت تعتبر أعضاء حزب ميرتس صهاينة أم لا، فالقانون في أساسه، “يدافع عن الأمن وعن الطابع اليهودي لدولة إسرائيل، ويجب ألا نمارس أي “غسيل للكلام”، فللقانون توجد كذلك موجبات ديموغرافية، كي نمنع تجسيد حق العودة بشكل زاحف”. إنها تتحدث بوضوح وبإصرار، كممثلة شرسة لليمينية الدينية الصهيونية، التي يسعى دهاقنتها إلى إحكام سيطرتهم على مقاليد الحكم والتسيّد في الدولة.
تعدّ شاكيد، في قاموس السياسة الدارج والواقع الإسرائيلي الحالي، حليفة للدكتور منصور عباس وإخوانه في القائمة الموحدة، الذراع السياسية للحركة الإسلامية. ورغم تطرّف شاكيد السياسي لا نراها تقسو عليهم؛ بل إنها تبدي، حتى وهي تشيد بانتصارها الصهيوني الظافر ، تفهّمها لموقفهم الصعب، لأن القانون من ناحيتهم “ليس سهلا”، كما قالت في تلك المقابلة.
على الرغم من ذلك، كان تصرّف قائمة الدكتور منصور إزاء مبادرة الوزيرة شاكيد متوقعا؛ بل نراه، هذه المرّة أيضا، مدافعا عن بقائهم في الحكومة، على الرغم من تبعات القانون الكارثية على إخوانه العرب والمسلمين، ومشيدا بإنجازات قائمته، ومتحدّيا خصومه الحركيين الإسلاميين والحزبيين السياسيين؛ كما كتب قبل أيام على صفحته، حينما أجاب مَن ساءلوه: “لماذا يا منصور ما بتفرجينا عضلاتك وبتسقط الحكومة ؟” قائلا: إن “أسلوب العضلات لا يجدي نفعا. الحلول تأتي بالتأنّي والحوار والإقناع بأسلوب واقعي وعقلاني. فبعد أن ننتهي من هذه المرحلة سنعرض على أبناء مجتمعنا ما أنجزناه بالحقائق والأرقام.. وندعو الآخرين أيضا أن يعرضوا ما أنجزوه بسياساتهم وأساليبهم خلال هذه المرحلة، ليكون أبناء مجتمعنا كافة حكَما بيننا”. إنّه يتحدث بلغة القائد الجديد الواثق من أن ما يفعله وإخوانه في الحركة يلقى قبولا بين عامة الناس، وأنّ مستقبل حركته السياسية سيكون زاهرا، لأن المواطنين العرب، هكذا يصر، قد عافوا الخطابات السياسية التقليدية وشعاراتها الفارهة، ويريدون حصصهم من موائد رحمة الدولة ومؤسّساتها؛ وهو من أجل تحقيق ذلك يعمل وسيبقى يعمل من داخل الحكومة.
يعتقد البعض أن ما يقوم به قادة القائمة الإسلامية الموحّدة، لا يستحق المتابعة ولا النقاش؛ فهذه حقبة سوف تمسي قريبا مشهدا من تاريخ عابر، وستنتهي فصولها كنثار هش منسيّ، وستطوى وكأنها لم تكن. ومع أنني أتوقع مثلهم، كما قلت في السابق، بأن فترة “زواج المنفعة” القائم حاليا بين القائمة الإسلامية الموحدة وباقي مركبات الحكومة الإسرائيلية، سوف تنفد ضرورياته قريبا؛ إلا أن التجربة، كما زوّدونا بها، ستترك وراءها آثارا لن تمّحي تلقائيا؛ فالائتلاف بين قوة سياسية حركية إسلامية، تحظى بتأييد واضح بين المواطنين العرب في إسرائيل، وعناصر من اليمين الصهيوني المتدين المتطرف، شكّل سابقة غير معهودة في العمل السياسي الإسرائيلي، بشكل عام، وداخل المجتمع العربي على وجه الخصوص؛ وعزّز، كما نلمس بوضوح، نشوء مفاهيم “مواطنية” شعبوية، مضللة وملتبسة، ساعدت على تشكيل معالم شخصية الفرد/ المواطن العربي المسلم الراضي بمعيشته في ظل دولة إسرائيل، والقانع بدوره “المؤثر” في أحضان “مجتمع محافظ”، تماما كما نادى شعار الحركة الإسلامية قبل الانتخابات، ودعا الناس للتصويت لهم لأن صوتهم “واقعي، مؤثر ومحافظ”.

بينيت وشاكيد وزملاءهما لن يقبلوا بأن تكون “عصمة” حكومتهم بيد منصور عباس وحركته الإسلامية، وسيبقى الطلاق خيارا من طرفهم فقط

لن تتوقف القضية، إذن، على مصير القائمة الموحّدة السياسي، ولا على مستقبل حركة الدكتور منصور عباس الإسلامية؛ فتزايد قوّتها الاجتماعية والسياسية من أصله، كان نتيجة لتراجع قوة سائر الأحزاب والحركات السياسية التقليدية؛ كما أدّى ذلك إلى تشجعّهم على الترويج لبناء شخصية المواطن العازف عن ممارسة واجبه السياسي الوطني الفعّال، في مواجهة سياسات القمع والعنصرية الإسرائيلية الرسمية، والقانع بدوره “المؤثر والمحافظ” في مجتمع يسعى لنيل حقوقه المعيشية “بالتأني والحوار والإقناع بأسلوب واقعي وعقلاني”، حتى لو كان الثمن، كما نرى، فك الارتباط الكامل بين ضفتي الهوية التاريخية لمجتمعنا بمركبيها التقليديين: المواطني والوطني. لم يُخفِ الدكتور منصور عباس، ذات يوم، رؤية حركته السياسية والاجتماعية؛ بل على العكس تماما، كان ولم يزل يجاهر بها، ويعمل من أجل تحقيقها مهما كلّفه ذلك من توافقات ذرائعية خطيرة، توصّل إليها مع أعتى القوى الصهيونية اليمينية؛ فاجتماعيا هو لن يُسقط الحكومة، لأنه يريد أن يحقق تغيير أحوال المواطنين ليضمن “مجتمعا محافظا”، كما أعلن عنه منذ البداية؛ وسياسيا، لن يسقطها لأنه يعرف أن “الحكومة المقبلة، في حالة سقوط هذه الحكومة، ستكون أسوأ بالتأكيد”، وهذه بالتأكيد لن ترضى به حليفا. لا أعرف إذا كان الدكتور عباس مؤمنا بقوته أو بحرّيته على إسقاط الحكومة، لكنني متأكد بأن بينيت وشاكيد وزملاءهم لن يقبلوا بأن تكون “عصمة” حكومتهم بيد منصور عباس وحركته الإسلامية، وسيبقى الطلاق خيارا من طرفهم فقط؛ وهذا سيحصل حتما حين تختمر الظروف السياسية ويُعرف مستقبل نتنياهو السياسي، وتصبح إمكانية إقامة حكومة يمينية خالصة جديدة مواتية وممكنة. لقد خلقت تجربة دخول القائمة الاسلامية الموحّدة إلى شراكة مع النظام الصهيوني الحاكم في الدولة اليهودية، بمبرراتها المعلنة من قبل شيوخها وقادتها السياسيين، سابقة لافتة وتحدّيا جدّيا لمواقف الحركات الإسلامية، التي لا تؤمن بشرعية النضال البرلماني، أو الشراكات مع المؤسسات الصهيونية؛ حيث نفت، بدخولها إلى الإئتلاف الحكومي، استحالة ذلك التزاوج بسبب إسلامية المواطن أو هوية التنظيم الاسلامية وحسب، وأثبتت، في الوقت ذاته، أن هذا الخيار ممكن من الناحية العملية، وجائز من الناحية الشرعية، ومرغوب لأسباب نفعية؛ وقد يكون لهذه التجربة مآلاتها في المستقبل.
وكما قلنا، فإنّ آثار مغامرة القائمة الإسلامية الموحدة ستبقى حتى بعد انفضاض عقد هذه الحكومة، خاصة في ما يتعلق بترسيخها لمصطلح “المجتمع المحافظ” الفضفاض، الذي خلق هامشا قيميا ملتبسا تمّ تسخيره من قبل بعض القيادات المحلية والقطرية لتبرير بعض قراراتهم الخلافية، كما حصل، مثلا، قبل أسبوع عندما حظر رئيس مجلس محلي قرية جت المثلث عرض مسرحية “أصوات”، معللا قراره بأن “محتوى المسرحية يمسّ بتعاليم الدين الإسلامي وتقاليد مجتمعنا المحافظ”. مع العلم أن المسرحية عرضت في عدة قرى عربية من دون أي اعتراض من قبل رؤساء تلك القرى المسلمين. ففي صالح مَن خلق هذا الالتباس؟ نقف على أعتاب مرحلة تاريخية جديدة ستسيطر فيها القوى اليمينية الدينية على منظومات الحكم، وستبطش بأيديولوجياتها العنصرية على كل الجبهات، حتى تنهار آخر مواقع دولة إسرائيل الأولى؛ وهذا يحدث بالشراكة وبالتواطؤ مع قوى متعدّدة من داخل مجتمعاتنا، التي تمر بحالة فوضى وضياع رهيبتين. إننا نعيش في ما يشبه الحلقة المفرغة، فالمؤسّسة الحاكمة تعمل على تشجيع نموّ مراكز قوى محلية حديثة النعمة والولاء، وعلى تفريخ عوامل إضعافنا الذاتية وتآكلنا من الداخل، وعلى دعم مظاهر العنف والجريمة والفساد وعدم محاربتها، ومن الناحية الثانية، فإن هذه التشكيلات الجديدة تعزز تأثير المؤسسة الحاكمة بيننا وتمكنّها من تفتيت عرى مجتمعاتنا والقضاء على بواطن حصانتها. وكل ذلك يجري من دون أن تنجح نخب مجتمعنا الواعية المأمولة في خلق حالة مواجهة ملائمة، واستعادة الرشد الكافي لوقف النزيف والبدء في عملية بناء متينة تستشرف المستقبل ومخاطره. لقد أشرنا إلى مخاطر ظاهرة القيادات الجديدة البديلة، ولم نر أي محاولات جدّية لمواجهتها؛ بل اكتفى البعض بالوقوف أمام مراياهم القديمة وممارسة صمتهم، أو إطلاق عبارات التهجم على تلك القيادات وتقريع بعض رموزها، ونسوا أن ذلك لوحده لن يغيّر واقعا ولن يحسم مصيرا. علينا، إذا ما أردنا الحياة الكريمة، أن نحطم مرايانا المهشمة ونمضي إلى ليلنا بعزيمة أصحاب الفجر والتراب.

*كاتب فلسطيني

 

 

تقرير أمنستي وإحياء

فقه النكبة الفلسطينية

 

جواد بولس

 

لم يكن توقيت نشر نتائج التحقيق العسكري الذي أجراه جيش الاحتلال مع نفسه حول حادثة مقتل المسن الفلسطيني حامل الجنسية الأمريكية عمر محمد عبد المجيد أسعد، ابن الثمانين عاما، محض صدفة؛ فقادة إسرائيل كانوا يعلمون عن عزم منظمة «أمنستي» العالمية، على عقد مؤتمر صحافي خاص يوم الثلاثاء، الأوّل من شباط/فبراير الجاري، حيث ستعلن المنظمة من خلاله بمقتضى المعايير الدولية، عن إسرائيل دولة فصل عنصري.
لقد تورطت إسرائيل بعد انتشار الأنباء عن مقتل ابن قرية جلجيلية الفلسطينية، الواقعة شمالي مدينة رام الله، بسبب كونه مواطنا أمريكيا، لا بسبب فضح الظروف الوحشية التي مورست على مسن فلسطيني من قبل عناصر الجيش؛ ولو لم يكن كذلك لما اكترثت ولا تحرّكت الإدارة الأمريكية.
كان رد فعل الإدارة الأمريكية على نتائج التحقيق العسكري متوقعا، فالناطق باسم الخارجية نيد بيرس، صرّح في أعقاب نشر التقرير قائلا: «إن أمريكا تنتظر إجراء تحقيق جنائي كامل، وتحمّل مسؤوليته كاملة». وعندما سئل في ما إذا كانت إدارته راضية من التوضيحات التي زوّدتها بها إسرائيل، قال: «نحن ما زلنا قلقين من ظروف موت أسعد، الذي هو مواطن أمريكي. لقد سجّلنا أمامنا رد الجيش وتفاصيل التحقيق والخلاصات، التي أظهرت وقوع فشل في الدفاع عن حياة إنسان».

مسألة فلسطين وشعبها لم تعد مجرّد قضية إنسانية تنتظر رحمة العالم ومِننه؛ وحسب المفاهيم الجديدة، تعتبر قضية سياسية وحقوقية وعرقية

على الأغلب فإن الإدارة الأمريكية سوف تعبّر في النهاية عن رضاها عن الإجراءات الإسرائيلية، وسوف تغلق هذا الملف، كما أغلقت جميع الملفات التي سبقته، وستعود العلاقات الحميمة بين الدولتين إلى طبيعتها. لقد جاء في البيان الصادر عن الجيش الإسرائيلي أن الحادث يكشف عن وجود «فشل قيمي في صفوف القوة العسكرية المتورطة، وعن خطأ في تقدير الموقف، وانتهاك جسيم لقيمة كرامة الانسان»؛ وأوصى التقرير بضرورة استخلاص نتائج التحقيق والعبر واستيعابها ونشرها بين جميع الوحدات، لمنع تكرار مثل هذه الحالات. كما قرر قائد الأركان كوخافي توبيخ قائد كتيبة «نيتسح يهودا» وإبعاد قائد السرية وقائد الفصيل، المتورّطَين في الجريمة، ومنعهما من إشغال مناصب قيادية لمدة عامين. لم تستحوذ تداعيات هذه الحادثة، رغم تفاصيلها المرعبة، على انتباه المجتمع الإسرائيلي؛ وحتى بعد نشر نتائج التحقيق العسكري وثبوت الوقائع، التي أدت إلى مقتل المواطن الفلسطيني، لم تتحرك ضمائر من يدّعون الموضوعية القيمية، ولم يُستفز إلا ندرة من المهتمين وأصحاب الأقلام في الصحافة العبرية. وبالمقابل، وكما كان منتظرا، فقد عرضت الأمينة العامة لمنظمة العفو الدولية إنياس كالمار، خلال المؤتمر الصحافي الذي عقد، كما كان مقررا يوم الثلاثاء الفائت، خلاصة ما جاء في تقرير المنظمة، الذي امتدت فصوله على أكثر من مائتي صفحة؛ وجاء تحت عنوان «نظام الفصل العنصري (أبرتهايد) الإسرائيلي ضد الفلسطينيين، نظام قاس يقوم على الهيمنة وجريمة ضد الانسانية».
لن نخوض اليوم في التفاصيل كما أتى عليها التقرير، ولا بمسوّغات خلاصاته الدامغة بحق إسرائيل ووصفها كدولة فصل عنصري، تدير نظام اضطهاد عرقي وهيمنة على الشعب الفلسطيني في كل المناطق التي تسيطر عليها وتتحكم فيها؛ وهذا يشمل جميع الفلسطينيين المقيمين في الأراضي المحتلة، وأولئك المواطنين في إسرائيل نفسها، علاوة على اللاجئين النازحين في البلدان الأخرى. وعلى الرغم من ردة فعل قادة إسرائيل وتهجّمهم العنيف على مضامين التقرير، واتهامهم التلقائي لمنظمة العفو الدولية كجهة منحازة وخاضعة «للمنظمات الإرهابية» المعادية، أشعر بأن هنالك، داخل منظومات الحكم الإسرائيلية وخارجها، من يستوعب بأن هذا التقرير قد يشكّل انعطافا مهما في علاقة المؤسسات الحقوقية الدولية حيال حقوق الفلسطينيين، والممارسات الإسرائيلية ضدهم. وهذا ليس بسبب خطابهم الصارم الجديد، وكيفية تناولهم لمجموعة المسائل التي تحرّاها بمهنية دقيقة معدّو التقرير وحسب، بل كذلك بسبب منهجيتهم المفاهيمية اللافتة والمغايرة عمّا كان مألوفا وسائدا، في اجتهاد تلك المؤسسات الدولية، وحرصها على اتّباع سياسة التوازن المصنّع، الهادف إلى اعتبار اسرائيل ضحية الماضي والحاضر، التي يسمح لها، لأنها الضحية، أن تكون فوق قواعد قوانين الأمم ومواثيقه العقدية والإنسانية.
إنّ مسألة فلسطين وشعبها لم تعد مجرّد قضية إنسانية تنتظر رحمة العالم ومِننه؛ وهي، حسب المفاهيم الجديدة، تعتبر قضية سياسية وحقوقية وعرقية، تعود جذورها إلى عقود من القمع الممنهج والهيمنة التي بدأت بعام النكبة. لقد تنبأ بعض المفكرين والسياسيين اليهود مباشرة بعد انتهاء حرب يونيو/حزيران1967 بما سيسبّبه الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية، وكيف ستصبح إسرائيل دولة أبرتهايد لا محالة. ورغم أن نبوءاتهم كانت تتحقق، عاما بعد عام، استمر قادة الشعب اليهودي بإحكام سيطرتهم على الفلسطينيين، والإيغال في وسائل قمعهم واضطهادهم. لم تكن نتائج الاحتلال مقصورة على الفلسطينيين كضحايا مباشرين لقمع المحتل واضطهاده، بل تسربت عواقبه إلى داخل المجتمع اليهودي، الذي بدأ يتعرّى كمجتمع أسياد مستعمرين، كان كل همه، ولم يزل، الاستئثار بكل الأرض وبكل خيراتها وإقصاء أهلها والتخلص منهم ومحو تاريخهم، بعد تدمير جغرافية الأمكنة وذاكرتها.
أقول هذا عائدا إلى جريمة قتل المسن الفلسطيني عمر أسعد، التي لم يكتب عنها فقهاء القانون وغيرهم ممن سيهاجمون، باسم النزاهة والعدل والحق، تقرير أمنستي وخلاصاته؛ وحتى بعض من كتبوا لم يفعلوا ذلك، إلا من باب وخزة ضمير صهيوني ناعس، أفاق كي يدافع عن طهارة الجيش المستحيلة. وقد يكون ما كتبه الصحافي عاموس هارئيل في جريدة «هآرتس» العبرية يوم الثلاثاء المنصرم احدى تلك المقالات البارزة، لا لأنه تطرق إلى تفاصيل الجريمة وحسب، بل لأنه ألقى بعض الضوء على ممارسات هذه الكتيبة المسماة «نيتسح يهودا» وألقى الضوء على الأسباب السياسية التي ستردع قادة الجيش الإسرائيلي من استنفاد العقوبات ضد أفرادها وقادتها المتورطين في حادثة القتل. لقد تبيّن أن تلك الثلة من الجنود قامت باحتجاز عمر أسعد وآخرين من أبناء قريته في فجر ذلك اليوم، من دون أي سبب أو ذريعة؛ ثم اعتدوا عليهم وألقوه، مع الآخرين، وهو مكبّل اليدين ومعصوب العينين، في ساحة بيت مهجور على أطراف قريتهم، وتركوهم تحت رحمة الليل والبرد القارس لمدة ساعات. وبعد أن أشبع الجنود نهمهم، أمروا الفلسطينيين المحجوزين بمغادرة المكان، بينما كان المسنّ عمر ملقى على الأرض دون حراك؛ بعدها غادر الجنود الموقع تاركين «صيدهم» وراءهم. لاحقا، وبعد مغادرة الجنود، أحضر المواطنون طبيبا من القرية فوجدوا عمرَ جثة وقد فارق الحياة.
«هذا تسلسل مرعب للأحداث» هكذا كتب عاموس هارئيل في مقالته المذكورة وأضاف «إن الجنود لم يروا بعمر أسعد إنسانا.. فتصرفوا معه بفظاظة قصوى ثم تركوه ليموت». لقد انتقد عاموس هارئيل قرار قائد الأركان وتمنى لو أنه استغل هذه الحادثة ليتخذ إجراءات أقسى بحق المتورطين والكتيبة برمتها، لكنه يعرف، مثل الجميع، أنها أمنية مستحيلة، فهؤلاء الجنود هم عبارة عن أشخاص تركوا أطر تعليمهم الدينية/الحريدية والتحقوا، مع مجموعات يمينية سائبة تسمّى «شباب الهضاب» بكتيبة «نيتسح يهودا» التي تتصرف بدوافع أيديولوجية متطرفة، امتثالا لتعاليم الحاخامات المرافقين للكتيبة، ورغم علم الجميع بهذه الحقيقة، لم تقم أي جهة مسؤولة بأي إجراء رادع بحقهم، فمضى أفرادها ينفّذون موبقاتهم بحرية تامة ضد الفلسطينيين، وهم يعرفون أنهم مدعومون من قبل شرائح مؤثرة في المجتمع وسياسيين ووزراء وصمت العاجزين والخائفين.
لقد تحققت نبوءة اولئك الأشخاص اليهود، الذين توقعوا كيف سيحوّل الاحتلال إسرائيل إلى دولة مارقة، وإلى نظام فصل عنصري واضطهاد عرقي؛ وهذا عمليا ما وصفته منظمة «أمنستي» في تقريرها الأخير، ومثلها فعلت منظمة «بتسيلم» الإسرائيلية وجهات محلية ودولية كثيرة. لكن، ومع أن تقرير «أمنستي» قد يشكّل، كما قلنا، منعطفا في كيفية تعاطي بعض المؤسّسات القانونية والمحافل الدولية مع إسرائيل وسياساتها تجاه الفلسطينيين، لكنه وضع، في الوقت نفسه، تحدّيا جدّيا ليس أمام إسرائيل وحسب، إنما أمام مواطنيها العرب وقياداتهم أيضا. فإعادة القضية إلى أصولها، أي إلى ما قبل النكبة وخلالها وبعدها، والتطرق إلى ما حصل من تداعيات كوحدة واحدة سواء على مستوى الأرض/الجغرافيا، أو على مستوى الشعب، التاريخ والمستقبل، سوف يستدعي التوقف عند مضامين التقرير، وربما إلى إغواء البعض لإعادة النظر في فرضيات العمل السياسي ومآلاته المستقبليه وتأثيرها في واقع المواطنين العرب في إسرائيل. أعرف أن بعض الفلسطينيين وحلفاءهم سينظرون بعين الرضا إلى لغة أمنستي، وإلى خطابها الصارم، فموقفها بتناول القضية الفلسطينية، كرزمة واحدة، فيه الشيء الكثير؛ مع أن البعض قد يعتبره موطن ضعف كبير، لأنه يخلط بين الحلبات والجبهات والاستحقاقات الواجبة في كل ظرف وكل موقع.
كاتب فلسطيني

 

 

أوميكرون

وراءكم واللينش أمامكم

جواد بولس

 

 تستمر التداعيات السياسية داخل أروقة الكنيست الإسرائيلية، وعلى مستوى جميع الأحزاب السياسية بالتفاعل اليقظ، بالتوازي مع انتشار أخبار تفشي أوميكرون، المتحور الأخير لفيروس كوفيد 19، وما يدور حوله من نقاشات بين عامة الشعب وداخل أجهزة الحكم نفسها.
لا أحد يستطيع أن يتكهن كيف ومتى سينتهي هذا الفاصل الوبائي من حياة البشرية، لكن تفاصيله سترافقنا في المستقبل، كمادة مهمة للباحثين الجديين في دراسة نشوء الجوائح، وللعلماء المهتمين بمستقبل الإنسان على كرتنا الأرضية؛ وستبقى تداعياته الحالية نثارا إنسانيا متطايرا يتلقطه بعض المتسكعين على أرصفة عصر التفاهة، وزادا في أفواه بعض الحمقى والمدّعين، يلوكونه إشباعا لجهلهم ولنرجسيّاتهم المخاتلة.
لقد زوّدتنا السنتان الفائتتان بكم هائل من المواد الخام الجاهزة، لتكريرها على شكل روايات، من جميع “جانرات” الرواية المعروفة والمبتكرة، أو قصائد أو مجموعات قصص قصيرة، أو أشكال إبداعية قادرة على إحياء أجناس أدبية اندثرت، مثل المعلقات والملاحم والمقامات والرباعيات. ولا أخفيكم أنني فكّرت، لوهلة، وأنا محجور في بيتي، بعد إصابتي بالفيروس، أن أطرق أحد تلك الأبواب، وأسجّل مشاعري الخاصة، إزاء ما قرأته وشاهدته في هذه الأسابيع القليلة، إلّا أنني وجدت أن ما سأكتب عنه اليوم أولى وأجدر برعايتي، لأنه هو الهاجس الحقيقي الذي ما انفك يتنامى في ظلال أخبار تحوّرات الفيروس؛ وهو، لا الفيروس، يشكّل الخطر الذي سيحسم مصيرنا، نحن المواطنين العرب، في إسرائيل. من منّا لا يتذكر المشاهد التي رافقت مواجهات هبة أيار/مايو المنصرم، خاصة تلك التي شاهدناها في شوارع وساحات المدن المختلطة مثل، عكا وحيفا ويافا واللد والرملة؟ وكيف يمكن أن ننسى محاولة قتل المواطن العربي، الذي مرّ صدفة بمركبته، يوم 12/5/2021، في أحد شوارع مدينة بات – يام، المتاخمة لمدينة يافا، حيث انقضت عليه قطعان الفاشيين وسحلوه محاولين القضاء عليه أمام أعين الكاميرات، وعلى مسمع ومرأى من العالم بأسره. لقد ملأت صور ذاك “اللينش” شاشات الفضائيات وتصدّرت تفاصيله عناوين معظم الصحف في إسرائيل وخارجها؛ ومع انتهاء موجة المواجهات بُشّرنا بأن قوات الأمن الإسرائيلية قامت باعتقال أربعة شبان يهود من المتورطين في محاولة القتل الجماعية، وانها أعدّت بحقهم لوائح اتهام جنائية. وكما علمنا مؤخرا فإن التقاضي بخصوص ثلاثة ملفات، ما زال جاريا أمام المحاكم، بينما صدر، في مطلع شهر كانون الثاني/يناير الجاري، حكم بالسجن الفعلي لمدة عام واحد على أحد المتهمين واسمه لاهاف أوحانانيا. لقد سمعنا عن القرار المستفز، بعد أن قررت نيابة الدولة تقديم استئناف عليه لدى المحكمة العليا الإسرائيلية مطالبة بإنزال حكم أقسى على المجرم، لكي يتناسب مع خطورة ما فعل، ومع تداعيات الجريمة التي شاهدها العالم برمته.

دور بعض قضاة المحكمة العليا وكثيرين من قضاة جهاز القضاء الإسرائيلي، كان حاسما في تقوية عصابات الفاشيين بعدم إنزال عقوبات رادعة بحقهم

لن أسهب في تفاصيل الوقائع كما سجّلها قاضي المحكمة المركزية بيني سجي، واعترف بها المتهم أمامه؛ لكننا نعرف أن المتهم وصل إلى المنطقة استجابة لنداء نشره بعض الناشطين في فرق الموت، من خلال وسائل التواصل، وفيه يهيبون بجنودهم الحضور لإطلاق حملة صيد ضد المواطنين العرب، وبهدف التعرض لمصالحهم التجارية الموجودة هناك. لقد تجمع عشرات المحمومين العنصريين أمام مطعم للشاورما يمتلكه مواطن عربي؛ فرفع أمامه هذا المجرم علم إسرائيل وبدأ يصرخ بالحاضرين المسعورين مرددا ومحرضا إياهم “الموت للعرب”؛ ثم اقتحم المطعم وسرق منه علب المشروبات ووزعها على المشاركين، بهدف إلقائها على زجاج المطعم وتكسيره. وقد أدين بناء على اعترافه بلائحة اتهام تضمّنت عدة تهم من بينها: “التحريض على العنف” و”التحريض على العنصرية” و”المشاركة في أعمال شغب أدت إلى أحداث ضرر على خلفية عنصرية” و”التسبب عمدا بأضرار لمركبة بدافع عنصري”، بعد أن قام بتكسير زجاج مركبة المواطن العربي وسرقة محتوياتها، والبصق عليه عندما كان ملقى وينزف على قارعة الطريق. ثم قام بإجراء مقابلة حية من الموقع مع إحدى قنوات التلفزيون، فدافع عمّا يحدث وأضاف، على الملأ، مؤكدا أنهم خرجوا “اليوم إلى الشوارع كي نقاتل هؤلاء العرب.. وإن كانت هنالك ضرورة سوف نقتلهم أيضا، سوف نقتلهم”. لن أحاول فهم ذرائع هذا القاضي، حين أصدر حكمه الهدية على هذا المجرم المأفون؛ فقد يئست من التعويل على مواقف القضاة في مثل هذه الحالات، ولا أعرف إذا كان قضاة المحكمة العليا سيهتزون من استهجان نيابة الدولة، أو من موقفها إزاء حكم القاضي، الذي لا يناسب خطورة الأفعال التي اقترفها المجرم، ودوره البارز في عملية التحريض، التي كادت أن تحصد حياة إنسان، ذنبه الوحيد أنه عربي قاده قدره في تلك اللحظة إلى أنياب تلك القطعان السائبة، كما كتبت النائبة العامة في استئنافها. لا أقول ذلك جزافا فدور بعض قضاة المحكمة العليا كدور كثيرين من قضاة جهاز القضاء الإسرائيلي، كان حاسما عبر العقود الماضية في تقوية عصابات الفاشيين بعدم إنزال عقوبات رادعة بحقهم. ولم تكن سياسة أولئك القضاة مهادنة عن طريق الصدفة أو الخطأ، بل كانت تجسيدا لمفهوم هذا الجهاز كما شكّل في بداياته، ودوره في كيفية التعامل مع من اعتبرتهم المؤسسة الرسمية طوابير خامسة تعيش داخل الدولة. ورغم جميع التغيّرات التي حصلت داخل الدولة وبين المواطنين العرب، فقد بقي ذلك المفهوم المؤسس مرشدا أعلى لنظرة غالبية القضاة، ودافعهم البارز في مثل هذه القضايا، خاصة في السنوات الأخيرة، لأداء دورهم المكمّل في تنفيذ السياسات القامعة والعنصرية بحق مواطني الدولة العرب، وسببا للتساهل مع قطاعات واسعة من الرعاع الصاخب، بصفتهم وكلاء لتحجيم مكانة المواطن العربي وطموحاته وتقليم أغصان آماله وأحلامه.

لننتظر ولنر

لم تكن حادثة “اللينش” المذكورة في بات – يام وحيدة، ولن تكون؛ فقد قرأنا قبل يومين عن حادثة لا تقل بشاعة وخطورة قد جرت وقائعها في المنطقة نفسها وعلى الخلفية نفسها؛ فالضحايا، كما قرأنا، كانوا عربا وكان المعتدون مجموعة من تلك القطعان السائبة. ففي الرابع عشر من تشرين الثاني/ نوفمبر المنصرم وفي ساعات الليل جلس على أحد مقاعد حديقة “أشكول” في مدينة “بات – يام” شابان عربيان وإلى جانبهما جلست شابتان يهوديتان. وبينما هم جالسون بهدوء مرّ بهم ثلاثة شبان يهود. وقفوا بجانبهم هنيهة، وبدأوا يتحرشون بهم خاصة بأحد الشبان العرب، الذي كان مقعدا على كرسي متحرك بسبب مرضه. وبعد تبادل بعض الكلام “اكتشف” الشبان اليهود أن الشابين عربيان؛ فابتعدوا عن المجموعة لدقائق ثم عادوا نحوهم وبدأوا، من دون سابق إنذار، بضربهم بعنف وهم يصرخون ويرددون بجنون عصبي “اقتلوه فهو عربي”. وقد أوسعوهما ضربا، ثم رفع أحد المعتدين مسدسا من صنع بيتي فضرب به أحد الشابين بقوة حتى أوقعه أرضا واستمر، وصحبه، بركله بشدة. ثم وجه أحد المعتدين المسدس إلى صدر الشاب العربي، إلا ان شريكه بالعدوان قام بحركة سريعة وأزاح المسدس عن صدر الشاب العربي، فانطلقت الرصاصة وأصابت ساق إحدى الشابتين اليهوديتين. وقد نقل الشاب العربي إلى المستشفى لتلقي العلاج بعد إصابته برأسه وبوجهه وبسائر أنحاء جسده، كما نقلت الشابة اليهودية إلى المستشفى بعد أن اخترقت الرصاصة ساقها؛ أما الشاب المقعد فأصيب أيضا في عدة أنحاء من جسده وما زال يعاني من جراء الاعتداء عليه. طالبت النيابة تمديد توقيف المعتدين حتى نهاية الإجراءات القضائية بحقهم وكتبت في متن طلبها لاعتقال المتهمين الثلاثة بأنهم “اعتدوا بصورة عنيفة وبشعة وبدم بارد وبشكل متعمّد وبمساعدة السلاح على ضحاياهم، الذين كانت خطيئة اثنين منهما الوحيدة أنهما مواطنان عربيان رغبا بتمضية سهرة برفقة صديقتين، فتاتين يهوديتين، في متنزه عام..”، ثم أضافت في وصف أفعال المتهمين وأكّدت: “إن أفعال المتهمين تعد إرهابا خطيرا، لاسيّما وقد تخللها إطلاق نار حي في وسط المدينة، وعنف جسدي قاس وكلام مدفوع بكراهية وبعنصرية وبأيديولوجية قومية متطرفة، وبعدائية تستهدف التعرض للعرب، فقط لأنهم عرب، وتستهدف أيضا إشاعة الخوف والذهول والهلع بين المواطنين العرب في إسرائيل.. إن أعمالهم تجسّد خطورة خاصة وبشاعة بارزة لأنهم هاجموا إنسانا مقعدا، ولأنهم استمروا بالاعتداء العنيف على ضحيّتهم، حتى بعد أن سقط من جراء ضرباتهم على الأرض”. ولا أوضح مما كتبَت. لا أجد حاجة لإضافة أية كلمة على هذا الوصف المخيف وعلى تشخيص حالتنا بالعموم؛ لكنني أخشى أن قطار العدل، الذي تلهث وراءه هذه المدعية العامة، كان قد سقط عن المحطة منذ سنوات؛ وأشعر بأننا، نحن المواطنين العرب، فالحون في الغط تحت أجفان الزمن وماضون إلى مجهولنا، ونحن نفتش عن أصحاب المؤامرة الكبرى، وكلٌّ يحمل طعمه تحت إبطه؛ أرى أننا ننتظر على أرصفة التيه والأوهام والعجز، ولا يعرف الواحد منّا متى سيحين موعد اصطياده، أو في أي “لينش” سيكون هو البطل؟

*كاتب فلسطيني

 

 

غزوة حكومة إسرائيل

على قرية (سعوة الأطرش)

جواد بولس

 

من المتوقّع أن تستمر الاحتجاجات في عدة بؤر في مناطق النقب لبضعة أيام مقبلة؛ وقد نشهد تصعيدا في وتيرة المواجهات بين المواطنين العرب وقوات الشرطة الإسرائيلية، خاصة بعد أن بدأنا نلمح مشاركة نضالية تقودها بعض الفئات الشبابية الصغيرة المشحونة بدوافع غير نمطية، وغير منقادة بملازم الصراعات السابقة، التي عمّت النقب في العقد الأخير؛ مثلما حصل، مثلا، قبل ثمانية أعوام، في الاحتجاجات ضد «قانون برفرمان» أو في أم الحيران والعراقيب وبير هداج وغيرها.
ومن المرجّح أن يكون معظم الناس قد نسوا تفاصيل تلك الأحداث وماذا أطلق على بعضها من الأوصاف؛ «فأيام الغضب» كان عنوانا سائدا توّجت به بعض الاحتجاجات الشعبية، التي اندلعت في مواقع عديدة ضد أهداف «قانون برفرمان» كما أننا لم نعدم نداءات المرابطة والنفير والتحشيد وما شابهها من حالات الاستشاطة العاطفية التي كانت تعبّر، في الواقع، عمّا فينا من أماني؛ لكنها كانت تخطئ وصف حالتنا، ولا تعكس حقيقة ضعف الجاهزية النضالية القائمة في صفوف الجماهير العربية.
كانت ردود أفعالنا وما زالت تخضع لتأثيرات تيارات قيادية متناطحة وغير متوافقة على إجماع أساسي، أو على رؤية لمستقبل هذه الجماهير داخل الدولة، ولا تملك مشروعا نضاليا وحدويا واضحا، من شأنه أن يجذب الجموع ويجنّدها عن قناعة راسخة بصحّته وبضرورة السير على هديه ومن أجل تحقيقه.
ومع أنني لست خبيرا ولا ضليعا في جغرافية النقب، ولا في دهاليز تركيبته السكانية وخرائط عشائره الكريمة؛ لكنني، مثل كثيرين من المتابعين لما يحدث على أرضه، أستطيع أن أتكهّن أن مصير هذه الجولة من المواجهات، التي أثارها، هذه المرة، تحرش المؤسسة الإسرائيلية، السياسية والاستيطانية، بأراضي عشيرة الأطرش، سيكون مثل مصائر ما سبقها من مواجهات؛ وسيؤول إلى تهدئة ستمكّن كل طرف من أطراف النزاع أن يدّعي الانتصار لصالحه وليّ ذراع غريمه. هناك عناصر تشابه كثيرة بين ملامح الجولة الحالية، التي ما زالت أحداثها تتداعى أمامنا، وسابقاتها؛ إلا أننا لا نستطيع أن نغضّ النظر عن أنها استعرت، هذه المرة، في زمن حكومة ليست مسنودة بأصوات بعض النواب العرب الأعضاء في أحزاب صهيونية تقليدية، كما كان يحصل أحيانا في السنوات الماضية وحسب، بل بدعم أربعة نوّاب القائمة الموّحدة، الذراع السياسية للحركة الإسلامية. إنها مفارقة مستفزة بلا شك، لكنها تبقى، في الوقت ذاته، وقفة لافتة لحركة سياسية ما فتئت تكشف بممارساتها عن أحد ملامح الحالة السياسية المأزومة داخل المجتمع العربي، التي ستتطور حتما إلى ما هو أعمق وأعقد، كما نستطيع أن نستدل على ذلك من التصريحات التي أطلقها منصور عباس ورفاقه في الحركة الإسلامية على خلفية المواجهات الأخيرة. لم يتوقع أحد ألا يغرقنا نواب القائمة الموحدة، أو القياديون في الحركة الإسلامية، ببياناتهم المستنكرة وبرفضهم لعمليات التحرش في النقب وبتأكيد وقوفهم إلى جانب أهله، وتأييد حقهم في استعمال أرضهم؛ لكن قد أخطأ كل من راهن على أنهم سوف ينسحبون من الإئتلاف الحكومي بسبب هذه الأزمة، مفترضا أن انضمامهم إلى هذه الحكومة كان من أجل الدفاع عن أراضي النقب، أو أي غرض من هذا القبيل، وليس كتعبير عن رؤيتهم السياسية الذرائعية الأشمل، المسندة بالحجج الشرعية الواضحة.

كانت ردود أفعالنا وما زالت تخضع لتأثيرات تيارات قيادية متناطحة وغير متوافقة على إجماع أساسي، أو على رؤية لمستقبل الجماهير داخل الدولة

وقد يكون ما أعلنه النائب وليد طه قبل أيام على صفحته خير برهان على موقفهم الثابت، الآن وفي المستقبل؛ فقد صرّح بأن «أسهل طريقة للتعاطي مع هذا التحدي هو إعلان فوري للانسحاب من الإئتلاف، وهذه أداة في متناول اليد، ويمكن تنفيذها في كل وقت، لكن المطلوب منا هو استنفاد كل الأساليب والأدوات المتاحة لضمان وقف التجريف الحالي، وعدم تكرار هذه السياسات المجنونة للسنوات المقبلة». لقد قال ذلك وهو يعرف أن هذا الأمر لن يحدث على الإطلاق.
برزت بين بعض المراهقين السياسيين تعابير التشفي بأهل النقب، الذين دعم بعضهم الأحزاب الصهيونية والقائمة الاسلامية الموحدة، وقد فات هؤلاء أن ظاهرة دعم تلك الأحزاب تفشت في كثير من المواقع العربية داخل إسرائيل، وهي في الواقع عارض بارز يكشف وقوع مجتمعاتنا ضحايا لحالة غياب المرجعية السياسية الموثوقة والمؤتمنة، ولضعف مكانة المؤسسات القيادية التي نشأت، في ظل تلك القيادات، كتعبير عن قوة المجتمع العربي ولحمته السياسية الاجتماعية ووعيه بضرورة الوقوف وراءها في وجه سياسات الحكومات الإسرائيلية وصد ممارساتها القمعية، فالنقب يعاني ربما، بسبب بعض خصوصياته وتركيبته القبائلية، أكثر مما تعانيه سائر المناطق العربية داخل إسرائيل؛ لكنه مثلها يعاني من تعدد المرجعيات المحلية والقطرية المتخاصمة، وغير القادرة على فصل المقال والحسم وعلى لملمة الفرقاء تحت « الخباء الواحد المعمّد»؛ ويعاني كذلك من غياب الرؤية نحو المستقبل الواعد والآمن، ونحو طبيعة العلاقات مع الدولة ومع مؤسساتها. وهنا، في هذه البقعة بالذات، يجب أن نتعرّف على حقيقة الوشائج التي ربطت مصير عشرات آلاف المصوتين وقيادييهم المحليين، بالقائمة الإسلامية الموّحدة، ونسبر دوافعهم التي لن تتوقف فقط عند عتبات الدعوة الإسلامية وسحر العقيدة، بل سوف تتخطاها نحو فكرة «المواطنة المبتورة» عن بعدها القومي، كما تبنتها الحركة الإسلامية، وكما يروّج لها الدكتور عباس ورفاقه. فهذه القطاعات من أهالي النقب التي دعمت الدكتور عباس وإخوانه لن تتخلّى، هكذا أتوقع، بعد هدوء عاصفة قرية «سعوة» المتحرَّش بأراضيها، عن استمرار دعمها للقائمة الاسلامية الموحدة، من منطلق إيمانها بمواطنة تشبه مواطنة النائب وليد طه وبكونها «الطريق الأصعب لانتزاع حقوق أهلنا» ومثله لن يكتفوا «بتسجيل المواقف وترديد الشعارات الجوفاء» فالقائمة الإسلامية الموحدة لن تستطيع إنهاء ظلم سياسات رسمية، استمرت لعشرات السنين في عدة شهور، لكن نوّابها «مصرّون على العمل لرفع الظلم عن أهلهم في النقب، وعدم الاكتفاء فقط بتسجيل المواقف والزيارات الموسمية، والتقاط الصور من دون رصيد عملي آخر على مدار العام». إنها خطبة المواطنة الإسلامية الإسرائيلية الجديدة، التي لا يكتفي أصحابها بدعم حكومة انتقالية خبيثة ساعية في التمهيد للانتقال إلى حكم ديكتاتوري خطير، بل تتحدى، بسفور، سائر التيارات السياسية والحركات الدينية الفاعلة بين المواطنين العرب في إسرائيل، التي «يكتفي قادتها بترديد الشعارات وبالزيارات الموسمية وبالتقاط الصور» وجميع هؤلاء، هكذا يفترض النائب طه ورفاقه، عاجزون عن اجتراح البديل السياسي القادر على مواجهة حركتهم والرد عليها، والحد من تعاظم قوتها، في النقب وفي غيره من المواقع.
لقد استغلت حكومة إسرائيل تنامي مظاهر الجريمة داخل المجتمعات العربية، وادّعى بعض وزرائها أن النقب، تحديدا، يتمرد على سيادة الدولة ويتحدّى مقوّمات الحكم والسلطة على أراضيه، فجنّد هذه الفرية ذريعة لهجمته الحالية على أرض النقب وعلى أهله. لقد كانت هذه الصورة المعلنة، لكن الواقع كان أمرّ، فهذه الحكومة باشرت بغزوتها وهي تعرف أنها مدعومة من «قائمة إسلامية» على ما يسبغه هذا الدعم عليها من «بركات «، وما يخلقه من التباس بين الناس.
لقد أوصلت حكومة إسرائيل رسائلها إلى أهل النقب وإلى غيرهم، وبدأت باتخاذ تدابير «المصالحة» لتمكّن الدكتور عباس ورفاقه من البقاء في مواقعهم؛ وهي حتما ستعود إلى هناك بغزوة جديدة؛ لكنّها، إلى ذلك الحين، قد تتيح للقائمة الاسلامية الموحدة تسجيل بضعة إنجازات مواطنية جديدة، مثل اعتراف الحكومة ببعض القرى البدوية غير المعترف بها، أو تخصيص ميزانيات هزيلة للنقب، وما إلى ذلك من «مكرمات سلطانية» ستبقي تهديد النائب مازن غنايم للحكومة مجرد قفزة وهمية في الهواء. فهو حين أعلن على صفحته قبل أيام أنه سيقف «ضد هذه الحكومة حتى تتراجع عن كل أعمال التجريف بالنقب» كان يعرف أن ذلك أقرب لتهديد «فزّاعة» لكنه حينما أضاف بلسانه قائلا: «لا يعقل أن نعطيهم حكومة وهم يستكثرون علينا العيش بكرامة على أرضنا» كان يشهد على عمق مأساته وكبر الورطة؛ فأنت، أيّها السخنينيّ، قد أعطيتهم حكومة، أما الكرامة على أرضك، ومن مثلك يا ابن يوم الأرض يعرف، أنها لا تستجدى، بل تنتزع وتؤخذ.
كاتب فلسطيني

 

 

هشام أبو هواش انتصار

صغير في زمن الهزائم الكبرى

جواد بولس

كنت في بيتي والوقت مساء.. كانت الحركة في شوارع القدس خفيفة وفي الجو برودة لاذعة؛ وكان الهدوء حولي يشعرني بحاجتي إلى النوم، وهو، لمن ينتظر مثلي ظهر الغيب، مستحيل. لم تكن أخبار المستشفى مطمئنة «فحبيبات الرمل قريبة من النفاد» هكذا كتب لي طبيب مسؤول في «أساف هروفيه» وكان يحثني أن أجد مخرجا لقضية «مريضه» هشام، قبل فوات الأوان. يتناوب أبناء العائلة، كسرب من الدوريات، بالنقر على شرفتي ويسألوني عن كل جديد وبشرى؟ ومن رام الله يطلبون مني التريّث فهم يرون الانفراج قريبا؛ أمّا غزة فكانت تعدني بأن خير النيل وأهراماته مقبل.
كنت قريبا من لحظة الانفجار وأحسّ في صدري لغماّ يتحرك على وقع نبض مرتجف، وعقلي يضجّ يسائلني: ماذا لو في هذه الساعات يستسلم قلب هشام بصمت؟ ولماذا لم ينجح العالم في إنقاذه، وهو الذي بدأ إضرابه من أجل أن ينال حريته كأي إنسان يستحق الحياة بكرامة، أو كي يحاكم في محكمة نزيهة وعادلة، بحيث يستطيع أن يواجه أمامها لائحة اتهام واضحة، وأن يدافع عن نفسه بجدارة وبحق.
قبيل الثامنة مساء تلقيت هتافا من رام الله يخبرني بأن الاسرائيليين تراجعوا عن موقفهم السابق، وأنهم جاهزون لقبول موقفنا الذي تفاوضنا عليه طيلة اليومين الأخيرين، فرِحت، لكنني تماسكت، فالأمور محكومة بخواتيمها والشيطان يسكن دوما بين التفاصيل، وأنا أعرف هشاما المقاوم، فهو يريد تأمين الضمانات كي يكون نصره كما تمنى مكللا بالحرية وبالكرامة. تأكدت من الطرف الإسرائيلي بأنهم وافقوا فعلا على سحب مقترحهم الأخير، الذي كان يقضي بتمديد توقيف هشام لمدة شهرين إضافيين، بحيث سيفرج عنه في السادس والعشرين من نيسان/ إبريل المقبل، ووافقوا على أن يفرج عنه مع نفاد مدة أمر الاعتقال الإداري الحالي، أي في السادس والعشرين من شباط/ فبراير المقبل، مقابل أن يعلن عن وقف اضرابه الليلة.

الأسير يُضرِب ليس حبا منه في الاستشهاد، بل تقديسا منه للحياة على أن تكون هذه حرة وكريمة، في الوقت ذاته، لا يستبعد ولا يخاف أن يرتقي شهيدا

سارعت لإخبار أهله وزوجته، أم هادي، التي بقيت بجانبه في المستشفى كل الفترة الماضية، فأبدت رضاها؛ لكنها طلبت مني الحضور مباشرة، فهشام يثق بما سأقوله ويريد أن يسمع مني التفاصيل شخصيا. انتشر الخبر كما يليق بدفق الولادة، وصرت هدفا لمطر غزير من الاتصالات الهاتفية والاستفسارات. كنت أطلب من جميع المتصلين التروّي حتى أصل عند هشام وأسمع رأيه في الاتفاق؛ حاولت ولم أنجح؛ فسماء فلسطين اشتعلت بالأضواء وبالأهازيج، وفي مفارقها، من غزة حتى جنين، بدأوا ينصبون منصات النصر التي بدأت تعجّ بالخطباء والمحللين «والهشاميين». أردت، في تلك اللحظات، أن أصرخ وأطلب أن يتركوا لصانع هذا الفرح رقعة من ضوء على صفحة الليل، فصاحب هذا النصر هو رجل واحد وحيد، مقاوم محب صلب مؤمن، اسمه هشام. كنت ومرافقتي المحامية دانة وحدنا في الطريق، فلم أصرخ؛ وقد تعلمت، خلال أربعين سنة من عملي في فلسطين، سنن الآدميين الأوليين، التي وُضعت من قبل سفر التكوين، فللنصر دوما آباء كثر ومعهم تقف، دائما، كمشة من المدّعين والأفاكين والانتهازيين. كان الليل صاخبا وحالة من التأهب بين حرّاس المستشفى. دخلنا غرفة هشام بعد مماحكة قصيرة مع حارس حاول أن يعترض طريقنا. لأول مرّة انتبهت أن لون عيني هشام عسلي، وأن جبينه أعرض مما كنت أظن. وقفت بجانب سريره في قسم العناية الطارئة في مستشفى «’أساف هروفيه» فرفع ساعده الأيسر بصعوبة ظاهرة، وطوى ثلاثة أصابع على بطن كفه وأبقى سبابته ووسطاه واقفتين لترسما شارة النصر على شكل شاعوب برأسين؛ ولم يبتسم. أمسكت بيده وضغطت على كفه ثم أدنيت رأسي من وجهه فلم أسمع إلا صوت أنفاس الحرير وشعرت بدفء روح شامخة، لا أعرف لماذا تتطيّر بعض المجتمعات من أيام الثلاثاء، فأنا في ذلك المساء تمنيت لو كل أيام الأسبوع كانت ثلاثاء.
رويت له بتأنّ تفاصيل الأحداث الأخيرة، وجميع التداعيات التي تراكمت بعد زيارتي له قبل يوم، وشرحت بإسهاب كيف وصلنا إلى لحظة النصر الحاضرة بيننا. أصغى واستوضح بصوته الخفيض عن بعض التفاصيل، فأجبته عنها بكل صدق وشفافية كما يستحق الفارس الذي من نور وغمام. شعّت عيناه بكلام كثير، فبدا كأنه يولد من جديد، ثم نظر نحو أم هادي وسألها بالإشارة عن رأيها، فحنت عليه برأسها وغمرته بالدعاء وبورق الغار، ففهم وطلب أن يشرب أول ملعقة شاي محلّى من يدها.
لقد سألني هشام لماذا الآن فقط وافق الإسرائيليون على التوصل إلى هذا الاتفاق، وجعلوا، في الواقع، معالم انتصار الأسير أوضح وأعمق، وتأثيره بين الفلسطينيين أقوى؟ لم يكن هذا سؤال هشام وحسب، فقد واجهته من قبل معظم الإعلاميين والمحللين.
وقبل الخوض في الإجابة على هذا التساؤل المشروع، يجب أن نقرّ، بداية، أن إرادة هشام قد انتصرت على إرادة السجان، وأن نستكشف لماذا وكيف حصل ذلك؛ فإذا اتفقنا على العوامل التي أفضت إلى انتصار الأسير على سجّانه، لن يبقى التساؤل الثاني ضروريا. إن العامل الثابت والشرط الأساسي في نجاح مغامرة الأسير، وفي حالتنا تجربة هشام، الذي يلجأ لوسيلة الإضراب عن الطعام، هو قناعته بصحة خياره وتمسكه به بإيمان «قدسي» حتى النهاية. وعندما أقول «النهاية» لا أعني حتى استشهاده بالفعل؛ بل يكفي الأسير أن يخلق «حالة نضالية» صاخبة وقوية، تؤدي فعليا إلى إقناع السجّان بأنه ماض في إضرابه، حتى لو أدّى به الأمر إلى الموت.
يعتمد هذا التكتيك النضالي على وجود فرضية أساسية تقوم على عمادين؛ الأول هو أن الأسير يُضرِب ليس حبا منه في الاستشهاد، بل تقديسا منه للحياة على أن تكون هذه حرة وكريمة بكل معنى الكلمة؛ لكنه، في الوقت ذاته، لا يستبعد ولا يخاف أن يرتقي شهيدا، مع أنه لم يتعمّد ذلك منذ البداية. أما العماد الثاني، فيفترض أن إسرائيل عندما تواجه الأسير الفلسطيني الإداري المضرب عن الطعام، ستتصرف بكل صلافة وعنجهية وعناد، تماما كما يتوقع من كل دولة تحتل شعبا آخر؛ فهيبة الاحتلال لن تتحصّل من دون إفراطه في إظهار العنجهية ووسائل الردع. لكن إلى جانب ذلك تنص الفرضية على أن إسرائيل، رغم حاجتها إلى قوانين الردع، لا تريد أن يموت في سجونها أسير إداري مضرب عن الطعام، وذلك لعدة أسباب قد نعود إليها في المستقبل. لقد اعتمدتُ في جميع الحالات التي مثّلت فيها الأسرى المضربين على هذه الفرضية، فمن دونها ستصبح عملية الدفاع عنهم بدون جدوى وبلا معنى؛ فإذا تعمّد الأسير منذ البداية وصوله إلى الشهادة، من جهة، وإذا لا تكترث إسرائيل، منهجيا، بموت أسير مضرب لديها، فأي جدوى ستبقى من وراء الإضراب؟ وأي معنى للدفاع عن ذلك الأسير؟
إذن شرط نجاح المغامرة الأول هو موقف الأسير وقدرته على الصمود والاحتمال؛ ثم يتبعه وقفة الحركة الأسيرة نفسها، ومعها وجود حركة إسناد شعبية متنامية، يصبح التغاضي عنها تهمة أو إهمالا أو تقصيرا؛ تماما كما حصل بعد ثبات هشام أبو هواش وإصراره على موقفه، فتنامت الحركة الشعبية المناصرة في ربوع فلسطين، وشملت جميع القوى والفصائل السياسية؛ ثم تلتها تحركات المؤسسات القانونية المحلية فالدولية، ثم جاء دور السياسيين في فلسطين وفي أرجاء عديدة من العالم. جميع هذه العوامل تحرّكت بشكل متواز ومتكامل، وحين وصلت إلى ذروتها مع تزايد احتمالات استشهاد هشام، وفقا للتقارير الطبية الإسرائيلية، بدأت إسرائيل بإعادة حساباتها، خاصة حينما استشعرت عودة فقه «الاحتلال والمقاومة» إلى صدارة نشرات الأخبار محليا وفي العالم، واحتمال تفجر الأوضاع داخل فلسطين، بموجة قد تنسف حالة الهدوء النسبي القائم على الجبهتين الضفاوية والغزية على حد سواء. ومع تعالي أصوات الاحتجاجات الدولية، إزاء موقف إسرائيل من قضية أبو هواش، سارعت إلى التراجع، في محاولة لدرء عاصفة الانتقادات الدولية التي بدأت تتناول تجاوزاتها للقوانين الدولية، خاصة في مسألة الاعتقالات الإدارية، وليس في قضية أبو هواش وحسب.
مع ثبوت عدم نجاعة الجهاز القضائي الإسرائيلي مجددا، وكونه جهة متواطئة مع سياسات الاحتلال، وعند اختمار جميع العوامل أعلاه، صار التدخل السياسي ضروريا ووازنا، فقامت السلطة الفلسطينية، رئاسة ومؤسسة أمنية، بدور فعّال وحاسم، كان مسنودا بدعم مصري، أتاح للطرف الإسرائيلي، استغلاله كمخرج تم التراجع من خلاله، فتمكنّا من التوصل إلى الاتفاق المذكور. لقد كانت تجربة شاقة خاضها الأسير أبو هواش، ورغم ما لمسناه من تغيير جدّي في طريقة إدارة هذه المواجهة من قبل المؤسسة الإسرائيلية، القضائية والأمنية، إلا أن إرادته انتصرت في النهاية على إرادة السجان؛ فهل سيبقى هذا الحال عندما سيعلن الأسير القادم إضرابه عن الطعام؟ أم إننا سنرى من جانب إسرائيل تغييرا لقواعد هذه اللعبة التي ألفناها منذ سنين؟
كاتب فلسطيني

 

 

رسالة مفتوحة لقاضي

المحكمة العليا يتسحاك عميت

جواد بولس

 

درجت، منذ سنوات عديدة، على كتابة مقالتي الأخيرة في السنة، على شكل رسالة مفتوحة تُعنى بقضية عامة بارزة، أو موجهة لشخصية معينة؛ وقد خاطَبتْ رسالتي المفتوحة التي كتبتها قبل إحدى عشرة سنة، مَن كانت رئيسة المحكمة العليا، دوريت بينيش؛ ثم خاطبتُ، بعدها بستة أعوام، مَن خلفتها على كرسي الرئاسة، القاضية مريام نائور.
لقد مثلت أمامك مؤخرا في عدة ملفات، كان أبرزها ملف الأسير الإداري هشام أبو هواش، الذي ما زال يرقد بين الحياة والموت في مستشفى «أساف هروفيه». وددت أن أسألك إذا تسنى لك أن تقرأ الرسالتين المذكورتين؛ لكنني أفترض أنك قرأت رسالتي الثالثة، التي وجهتها، قبل عامين، إلى جميع قضاة المحكمة العليا، فهي رغم كتابتها بالأصل باللغة العربية، فقد ترجمت إلى العبرية ونشرت في الصحافة المحلية.
لم أخترك عنوانا لرسالتي الرابعة بالصدفة؛ فحين انتَخَبتك، في عام 2009، لجنة تعيين القضاة، لهيئة المحكمة العليا الإسرائيلية، سمعنا من زملائنا، الذين عرفوك قاضيا في محكمتيّ الصلح والمركزية في المحافظات الشمالية، بعض تعابير الفرح والتطمين، لأن قصر العدل، حسب رأيهم، قد فاز بقاض رزين يؤمن بقيم العدالة والمساواة وسلطة القانون، وبإيفاء الإنسان، كل إنسان، حقه بالعيش بحرية وكرامة وبلا عنصرية واضطهاد وخوف. لقد استبشرنا، نحن معشر المحامين المتعاطين كثيرا مع المحكمة العليا، خيرا من قدومك كعنصر معزز لمعسكر مفقود من أصحاب النقاوة والعقل والاتزان، وذلك في فترة بدأت فيها المحكمة العليا تنخ تحت وطأة هجمات القوى اليمينية الشعبوية والحكومية الرسمية، وحيث شرع قضاتها بالتراجع نحو الهاوية وإحناء ظهورهم أمام فتوحات الظلاميين الكواسر.

جهاز قضائي لا يميز بين الضحية الحقيقية وجلادها، أو يخاف أن يميز بينهما، لن يحمي جلده حتى إذا تراجع أعضاؤه خوفا أو انحنوا إذعانا للكهنة والفاشيين

لم يمض وقت طويل حتى تكشفت أمامي معالم الصدمة وحدود خيبتنا؛ ففي جميع محطات وقوفي أمامك في قاعة المحكمة، لم أشعرك مختلفا عن باقي زملائك، بل كنت، في كثير من الأحيان، قائد الرهط وخطيبهم المفوه. فأنا ما زلت أذكر حوارنا في قضية مواطن فلسطيني جاءكم يطلب عدلا؛ فحينها بادرتكم بأنني لا أتوقع منكم إنصاف هذا الفلسطيني، بل أعرف أنكم سوف ترفضونه، كما رفضتم آلاف التماسات الفلسطينيين قبله. ناقشنا القضية باستفاضة، وعندما سكت أنا كنت أنت الذي توجه إليّ بلغة وبثقة صاحب القوة والسلطان، وقلت بنبرة الساخر المتشفي: «لقد ربحتَ الرهان، سيد بولس، فقد خسرتَ القضية». وقتها حاولت ألا أنظر في وجهك، كي لا أفرحك، لأنني شعرت بطرف بسمة عدوة هادئة تستوطن في زوايا شفتيك.
إذن، لقد اخترتك عنوان رسالتي المفتوحة لهذا العام، التي أتوقع أن تكون الرسالة الأخيرة لكم، بعد أن تمنيت، في ذلك اليوم، لو أستطيع أن أقابلك وجها لوجه لأفهم كيف من إيجاع إنسان/محام يستطيع إنسان/قاض أن يقطف العسل؟ وكي أؤكد لك، أيضا، ما قلته أمامكم مرارا أن الفلسطينيين هم المخطئون إذ يصرون على قرع أبوابكم، رغم أنكم أثبتم، أنت وزملاؤك، أنكم لستم إلا جنودا في خدمة العلم.
ولقد اخترتك عندما قرأت كيف هاجم، يوم الأربعاء الفائت من على منصة الكنيست، عضو الكنيست الليكودي دودي إمسلم، محكمتكم بعد أن رد زميلك القاضي دافيد مينتس، طلبه بالتدخل لإلزام وزير الدفاع والمستشار القضائي للحكومة بتعيين شخص معين كمدير عام «للصناعات الجوية» مستندا بقراره على ذريعة عدم امتلاك عضو الكنيست إمسلم للحق القانوني، الذي يخوله بأن يكون ملتمسا في مثل هذا الموضوع. لا تعنينا هنا تفاصيل القضية، لكن ما كان لافتا، حتى الدهشة، هو أن الهجوم على المحكمة وعلى قاضيها كان سافرا وغير مسبوق من حيث قساوة لغته المستعملة؛ فبعد صدور القرار صرح النائب إمسلم وقال على الملأ: «جاءني قاض مهلوس.. فهو يشبه القاضي. وإذا لم يكن قد شرب زجاجة ويسكي، قبل مجيئه، فلا تسموني دودي. إنه لا يخجل». وبعد أن أنهى كلامه وبدأ ينزل عن المنصة عاد إليها ليقول بسخرية بالغة: «هو لم يشرب الويسكي، فقد شرب عرق الغزالين». لم يكتف بكل هذا الكلام، بل أخذ يهاجم الكنيست والمحكمة فقال فيهما: «هل هذه هي المحكمة العليا؟ استمروا بمديحهم وبتسبيحهم وبتأليههم، وحولوهم أربابا. هؤلاء (يعني القضاة) هم أناس مسيسون، وسطيون وأدنى من ذلك» ثم أنهى كلامه بنصيحة قدمها للقاضي مينتس بأن عليه أن «يستقيل فورا» فهو، أي القاضي «لن يُقبل كطالب في السنة الأولى في كلية الحقوق، ولذلك عليه أن يخجل من نفسه». هكذا بكل مباشرة ووضوح. كان من الممكن استيعاب ذلك المشهد كأحد تداعيات الحالة السياسية الراهنة، إلا أنك تعرف، مثلنا، أن القاضي مينتس هو مستوطن يقيم وعائلته على أراضي فلسطينية محتلة؛ وتعرف أيضا أن هذه الحقيقة، التي تكفي لكشف هوية القاضي السياسية، لم تردع النائب دودي إمسلم، ولم تثنه عن مهاجمة القاضي. إنها إشارة مهمة وخطيرة تذكرنا بما قلناه لكم دائما، وتثبت أن ما يحرك النائب إمسلم وأمثاله من عتاة اليمينين، هي قاعدة سياسية بسيطة واحدة مفادها: كن معنا وإلا فأنت عدونا؛ تماما كما تعلمنا، نحن ضحايا هذا الزمن، من التاريخ، ونسيتموه أنتم.
فنحن، المواطنين العرب في إسرائيل، نرى أن المعركة الجارية على عتبات محكمتكم العليا هي آخر المعارك، التي تخوضها قطعان الهضاب من المستوطنين وزعمائهم وغلاة المتطرفين المتدينين، ضد مؤسسات «الدولة البنغورينية» القديمة. وهذا ما حاولتُ طيلة سني عملي أمام محكمتكم، لا سيما في العقدين الأخيرين، أن أنبهكم منه ومن خطورة ما يجري داخل الدولة، ومن كونكم أحد الأحصنة التي تجر عرباتها نحو الهاوية، لكنكم أعرضتم وكنتم منشغلين بتأكيد انتصاراتكم على أعدائكم الواضحين، الفلسطينيين الذين هناك، وإخوانهم الذين هنا، فهذه المهمة هي الأسهل عليكم ونتائجها تكون دائما مضمونة.
لقد نظرتم إليّ وإلى زملائي بتشاوف السيد، كما إلى ثلة من المشاغبين. ولم تقتنعوا بأننا ضحايا الحاضر الراهن، وقد يكون منكم بعض اللاحقين؛ ولم تصدقوا بأنني أخاف على مصير محكمتكم، لأنني أريدكم، أنتم القضاة، رغم تمييزكم العنصري ضدنا نحن العرب، أقوياء كي تبقوا سدنة لقانون يحمي الضعيف من سلطان الحاكم المستبد، وكمواطن يطمع أن يحتمي بقوتكم عندما يسلب الحاكم حقه جورا.. وكابن لأقلية قومية، يناضل كي تكونوا ترسه الذي يصد عنه مخالب العنصريين المسلولة.
أتمنى أن تكون قد قرأت ما كتبته في رسائلي السابقة إليكم؛ فقصتنا، نحن العرب، مع جهازكم القضائي طويلة وجديرة بأن تُستقصى من بداياتها التي كانت قبل ولادتي كعربي بسنين قليلة، وقبل ولادتك كيهودي بالطبع. فأنت ومجايلوك من القضاة ورثتم مساطر عدل مشوهة، ومفاهيم منمطة حول نظريات «الأمن» «والولاء» وتصنيف الضحايا والحلفاء، لكنكم تساوقتم معها وتسربلتموها كجنود في ساحات المعارك حين يطوعون كل القيم الإنسانية في سبيل النصر حتى لو كان على مواطنين في الدولة، لأنهم صاروا في أعين الأجهزة القضائية، كما كانوا في أعين المؤسستين الأمنية والسياسية، لا أكثر من أجسام مشبوهة، أو ألغام مزروعة على طريق الدولة اليهودية. فهل ستقرون يوما بأن قضاة يحتمون بحراس يرافقونهم حتى أبواب غرف نومهم، لن يقووا على مواجهة القتلة والعصاة، وبأن جهازا قضائيا لا يميز بين الضحية الحقيقية وجلادها، أو يخاف أن يميز بينهما، لن يحمي جلده حتى غذا تراجع أعضاؤه خوفا أو انحنوا وطأطأوا رؤوسهم إذعانا للكهنة والفاشيين؟
لقد ناديناكم ولم تسعفنا النداءات ولا نبوءات الغضب.. فكيف النجاة، لمن سيبقى خارج غبار القطيع، ما دام صوت المسدسات يصرخ في ساحاتنا وساحاتكم ودردبات طبول الفاشيين تملأ الفضاء عبثا ويأسا؟
وأخيرا، لقد رويت عليكم مرارا قصة «الثور الأبيض» وهي، كما حاولت أن أفهمكم، حكمة دماء الضحية الناجزة وهي تروى لضحية تنتظر على خطوط التماس؛ واليوم، ونحن على آخر عتبات عام رمادي يطوى، أتمنى عليك أن تقرأ خطبة النائب دودي إمسلم في التعرض لقاض احتل كرسيه في المحكمة العليا مستوطنا، فعساك تتعظ ما دام في قناديل التاريخ زيت. لأن أقواله ليست مجرد هرطقات على باب هيكل مشتهى، بل هي آخر إشارات العاصفة التي تسبق الطوفان.
كاتب فلسطيني

 

 

من يستطيع أن يسلب

فلسطين مسيحها ؟

جواد بولس

 

استقبلت عدة قرى ومدن عربية في البلاد بشائر حلول عيد الميلاد، بتزيين ساحاتها العامة وشوارعها؛ وأقامت مهرجانات احتفالية تحت اسم «كريسماس ماركت» ومسمّيات أخرى مشابهة، استقطب بعضها آلاف الوافدين، الذين جاؤوا ليشاركوا في الحدث وليتحوّلوا، بشكل تلقائي، إلى صنّاعه لا مستهلكيه وحسب.
قد يكون برنامج الأيام الثلاثة لمهرجان الميلاد، الذي بادر إليه المجلس المحلي في قرية كفرياسيف الجليلية أبرز هذه الاحتفالات وأكثرها جذبا لأعداد غفيرة من الناس، وللتأثير الايجابي في نفوسهم، وفي إشاعة أجواء الفرح الإنساني، وطرد روائح البارود من الصدور، كي يمتلأ الهواء في ربوع الجليل، بالزنابق وبالوعود.
فعلى مدار ليال ثلاث كانت شوارع القرية، التي يبلغ عدد سكانها حوالي عشرة آلاف نسمة، ينتمون إلى ثلاث طوائف، المسيحيين والمسلمين والدروز، تزدحم بالمركبات وبآلاف الزوّار الذين كانوا يهرولون، بخفة، صوب ساحات المهرجان، والبهجة تفرّ من عيونهم، رغم حملات التحريض على المناسبة، وعلى شرعية المشاركة فيها!
لا أعتقد أن تلك الجماهير الغفيرة كانت على دراية بتفاصيل معركة لافتة دارت رحاها بين أعضاء جسم يسمّى «رؤساء الكنائس المسيحية في القدس» وحكومة إسرائيل. وما زالت أصداء هذه المواجهة تتداعى، خاصة بعد أن أصدرت حكومة إسرائيل، يوم الاثنين الفائت، بيانا نفت فيه مواقف رؤساء الكنائس وادّعت أنهم «يشوّهون حقيقة المجتمع المسيحي في إسرائيل» وحذرت، في الوقت نفسه، من أن «الزعماء الدينييّن لهم دور حاسم في التربية من أجل التسامح والتعايش، وينبغي أن نتوقع من قادة الكنيسة أن يفهموا مسؤوليتهم وعواقب ما نشروه، ما قد يؤدي إلى العنف وإلحاق الأذى بالأبرياء». سوف تنتهي هذه المواجهة بشكل أو بآخر؛ لكنها سوف تترك، من دون أدنى شك، أثرا كبيرا في طبيعة علاقة بعض تلك الكنائس، الغربية الهويّات بمعظمها، مع حكومات إسرائيل التي ما زالت تتمسك بمواقفها المهادنة، إزاء تعدّيات سوائب الجماعات المتطرفة على المواطنين المسيحيين، وعلى أماكنهم المقدسة وعلى كهنتهم ورهبانهم، فقد أصبح المسيحيون، حسبما جاء في بيان البطاركة ورؤساء الكنائس «مهددين بالطرد من جانب الجماعات الإسرائيلية المتطرفة، وتحديدا المستوطنين المعتدين، إذ أنهم يهدفون إلى تقليص الوجود المسيحي». كما اتّهم البيان تلك الجماعات الأيديولوجية المتطرفة، بتدنيس المواقع الدينية وبتخريبها، وبالاعتداء على الكنائس وارتكاب الجرائم بحق الكهنة والمصلّين.

حكومات إسرائيل ما زالت تتمسك بمواقفها المهادنة، إزاء تعدّيات سوائب الجماعات المتطرفة على المواطنين المسيحيين، وأماكنهم المقدسة وكهنتهم ورهبانهم

لقد حظي بيان رؤساء الكنائس باهتمام عالمي وإعلامي واسعين، خاصة في الصحافة البريطانية، التي انفردت فيها صحيفة «ديلي تلغراف» علاوة على نشر البيان المذكور، بنشر مقالة كتبها حارس الأراضي المقدسة الأب فرانشيسكو باتون، يوم 19/12/2021، جاء فيها: «إن وجودنا محفوف بالمخاطر ومستقبلنا في خطر» ثم أردف مؤكدا على أن حياة العديد من المسيحيين أصبحت لا تطاق، بسبب اعتداءات المجموعات الإسرائيلية المتطرفة، التي على ما يبدو تستهدف «تخليص البلدة القديمة في القدس من الوجود المسيحي». وبالتزامن مع مقالة حارس الأراضي المقدسة نشر رئيس أساقفة كانتربري البريطاني جاستن ويلبي، مقالة كتبها بالشراكة مع رئيس أساقفة القدس الأنجليكاني الشفاعمري حسام نعوم، في صحيفة «صنداي تايمز» قالا فيها إن هنالك «محاولة منسقة لترويع المسيحيين وطردهم»؛ ثم أوضحا أن الزيادة في مجتمعات المستوطنين، إلى جانب القيود المفروضة على الحركة بسبب جدار الفصل العنصري الذي أقامته إسرائيل، عمّقت من عزلة القرى المسيحية التي بات بقاؤها مهددًا. نشاهد هنا لغة غير مسبوقة بحدّتها وبعدد الكنائس التي أيّدتها؛ وكم كنت أتمنى أن تلتفت قيادات مجتمعنا المحلّية، نحن المواطنين العرب في إسرائيل، إلى هذه التطوّرات، وأن تتواصل مباشرة مع أصحاب تلك البيانات، خاصة بعد أن دعا رؤساء الكنائس في بيانهم المذكور إلى «حوار عاجل مع السلطات الإسرائيلية والأردنية والفلسطينية، التي سبق وأعلنت التزامها حماية الحرية الدينية من أجل الحفاظ على الوجود والبقاء»؛ فكما هو معروف سنبقى نحن خارج إطار تلك الدعوة وخارج الحوار؛ هذا في حالة انعقاده. سنبقى خارجه رغم أن وجود العرب المسيحيين في إسرائيل، مثل وجودهم في سائر الأراضي الفلسطينية، هو الآخر، مهدّد، لا بسبب ملاحقتهم من قبل الجماعات اليهودية المتطرفة وحسب؛ بل لعدة أسباب أخرى، قد يكون في طليعتها استحكام الجهل العميق في ذهنيات المجتمعات العربية، حيال ضرورة الحفاظ على الوجود العربي المسيحي الأصيل في فلسطين التاريخية، وبسبب سهولة التخلّي عمّن تبقى منهم في أرض أجدادهم المسيحيّين، على الرغم من الحاجة الوطنية للإبقاء على تمازج النسيجين، الحضاري والثقافي، الضروريّين للحفاظ على مركّبات الهوية الفلسطينية التاريخية الجامعة والثابتة.
لقد أشرت في الماضي إلى الخطورة في استمرار تناقص أعداد العرب المسيحيين وإلى تفتت كياناتهم المحلية وغيابهم كمجموعة شريكة في بنى المجتمع الفلسطيني وهويته العربية الحضارية، وقد أكدّت حينها، وأكرر مجددا، أن ما يحرّكني في هذه المسألة هو ليس الهاجس الديني العقائدي، ولا الكنسي المؤسّساتي؛ فهذان البُعدان لا يؤرّقاني شخصيا، لكنني أستشعر، مثل الكثيرين، دنوّ نهاية وجود مجموعة سكانية أصيلة بشكل حزين. وليس تقلّص أعدادهم، بتسارع ملحوظ، هو شاهدي الوحيد على ذلك – فهذه هي النتيجة – بل هو التغيّرات المفاهيمية السلبية، التي رسخت في أذهان أبناء مجتمعاتنا الجديدة، وهي كثيرة، ومن ضمنها محاولات تحويل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي إلى صراع ديني، يهودي إسلامي، حول أحقية مَن في الأرض وفي المعابد، ما أسهم في عملية رفع الغطاء الجمعي عن مصالح المواطنين العرب المسيحيين، وعن أهمية حماية وجودهم، وبالتالي دفع الكثيرين نحو الشعور بخسارتهم «لحواضن الأمومة» المجتمعية الطبيعية الواقية. هذه الحواضن تكون، كما عاشتها الأقليات في المجتمعات البشرية المدنية المتقدمة، مكوّنة بالعادة من سلطة مركزية حامية بشكل فعّال وحقيقي؛ ومن أكثرية سكانية متقبلة للغير ومؤازرة له، عن قناعة وليس من باب المداهنة أو الاستقواء؛ ومن مؤسسات مدنية قوية ومتكافلة؛ ومن وحدة بين مركبات الأقلية السكانية ذاتها، وثقتها بأهمية تلك القوة في تحصين أمانها الجمعي وأمن أفرادها وصمودها في وطنها.
ونحن إذا راجعنا كيف تدهورت أحوال مجتمعاتنا، في العقود الأخيره، سوف نرى كيف اختفت معظم تلك الحواضن، أو أن بعضها قد انقلب على أبنائه بشكل واضح؛ فلا الحكومات، خاصة حكومة إسرائيل، معنية بحماية المواطنين العرب المسيحيين، ولا الأكثريتين السكانيتين، اليهودية والمسلمة، بقيتا على مفاهيمها الأصلية المتسامحة تجاه العرب المسيحيين وحرّياتهم بممارسة طقوسهم وعاداتهم؛ ولا مؤسسات المجتمع المدني نجحت ببناء كيان قادر على استعادة التوازنات الحافظة التي خسرناها مع حدوث الانهيارات السياسية داخلنا، ومع نشوء القوى الاجتماعية والدينية والاقتصادية والسياسية الجديدة.
أعرف أنّ ما تقدم سيستفزّ البعض، ومنهم من سيدّعي أن الواقع معاكس، وأن الحقيقة مغايرة؛ وقد تحرّض، بالمقابل، قلّة باسم التعفّف الفكري والتحسّس الزائف من ولوجي إلى «المناطق الحمراء» الخطيرة؛ لكنني سأقول لجميعهم: إن التعامي عن الواقع لن يخفيه، وإنّ الشعارات لا تكفي والبيانات لا تشفع، وإنّ النوايا، مهما حسنت، ستكذّبها مخاوف المواطنين وأفعال المغرضين، وهم موجودون طبعا في جميع الطوائف. وأعرف، كذلك، أن بعض رؤساء تلك الكنائس، أو أسلافهم، ومعاونيهم العرب المحليين، كانوا شركاء في اضطهاد العرب المسيحيين، وفي سلبهم صليب هذه الأرض وروحها؛ فالمسيح، الذي يحتفي العالم بذكرى ميلاده، هو ابن هذه الأرض السمراء، والكنائس التي شيّدت عليها هي شواهد على حضارة فلسطين العربية المسيحية، كما تغنّى بها فحول شعراء العرب المسيحيين في قصائدهم الخالدة، وكما زرعتها معاول الفلّاحين الأوائل مآثر في صدور التاريخ، وحفظتها الأجيال كالأماني في التراتيل وفي الشعائر. لكن، لقد كتبت في الماضي أن مصير العرب المسيحيين في فلسطين قد حسم، وقد صاروا في حالة تشبه ما يصطلح عليه في علوم الأحياء والأنثروبولوحيا «نوع في حالة انقراض» فجهات كثيرة، غريبة وقريبة، معنيّة بتبخّرهم؛ لكنني، وأنا أقرأ عن معركة حكومة إسرائيل مع «رؤساء الكنائس» (وإن كان بعضهم من الشرق براء) أتنشق جرعة من أنفاس ميلادنا. وعندما أقف في ساحات كفرياسيف الفرح والحياة والمستقبل، وأمامي يقف وينتشي عشرات الآلاف من المحتفين المصرّين على استحضار غدهم الأرجواني الجديد، أقبض على ناصية العاصفة وأفكّر من يستطيع أن يخطف مريم، الطاهرة والمصطفاة على نساء العالمين، من أهلها؟ ومن يستطيع أن يسلب فلسطين مسيحها؟
كاتب فلسطيني

 

 

(القائمة الإسلامية) موحدة

في خدمة حكومة إسرائيل

جواد بولس

 

في ساعات فجر يوم الثلاثاء المنصرم وبأصوات أعضاء القائمة الموحّدة، الذراع السياسي «للحركة الإسلامية الجنوبية» مرّرت الكنيست ثلاثة قوانين خطيرة جدا تمسّ مباشرة بمصالح المواطنين العرب في إسرائيل، وبحقوق الأسرى الفلسطينيين الأمنيين المحتجزين في سجون الاحتلال الإسرائيلي.
لقد أثار موقف الدكتور منصور عباس وزملائه حفيظة الكثيرين وحرّك ضدّهم موجة جديدة من الانتقادات الشديدة، لأن موقفهم الأخير يُعدّ سابقة في الحياة السياسية الإسرائيلية؛ إذ لم يقم في الماضي حزب إسلامي أو عربي بدعم مثل هذه القوانين ذات الأبعاد الأمنية، التي ستفضي حتما إلى التضييق على حرّيات المواطنين، وتنتقص من حقوقهم، وستؤدي، كذلك، إلى زيادة فرص قمع الأسرى الفلسطينيين الذين يعانون من ممارسات السجّانين واضطهادهم اليومي.
وفقا لأحد هذه التشريعات، قانون الخدمة الأمنية، (أمر مؤقت) وضع خريجي قوى الجيش في خدمة مصلحة السجون (لعام 2005) سيسمح بتعزيز مصلحة السجون الإسرائيلية بجنود من جيش الاحتلال، شريطة أن يستخدم هؤلاء الجنود في السجون، أو في الأقسام، التي يحتجز فيها الأسرى الأمنيين الفلسطينيين، وحسب.
ويكفي في هذا الاشتراط أنه دليل على عدم وجود حاجة لهؤلاء الجنود من أجل تعزيز طواقم إدارة السجون أو لمعالجة نقص أو أزمة في الموارد البشرية، وأنه برهان على أنها خطوة تستهدف استقدام «قوة» عسكرية ستتكفل، عمليا، بفرض مزيد من الترهيب بحق الأسرى. وإذا كان الوضع على هذه الحالة فيجب ألّا يغيب عن بال أحد ماذا سيحصل مع الأسرى الفلسطينيين، في أول مواجهة مع تلك القوة العسكرية المستوردة؛ فعناصر الجيش التي سوف توكل «بحراسة» الأسرى الفلسطينيين سينفذون مهامهم وهم على درجة كبيرة من الاحتقان الدفين، ومدفوعين بمشاعر الانتقام، تحديدا من أولئك الأسرى الذين يقبعون وراء القضبان، بعد أن أدينوا في المحاكم العسكرية كمقاومين واجهوا الاحتلال وجنوده هؤلاء وأقرانهم.
أمّا القانون الثاني الذي دعمته «القائمة الإسلامية» فقد أتاح للجيش إرسال وحدات خاصة لتعزيز قوّات الشرطة والأمن في عملها، من أجل تحقيق أهداف «أمنية قومية» مثل مواجهة المظاهرات والاحتجاجات التي شاهدناه في شهر أيار/مايو المنصرم، أو التي قد تندلع في شوارع وساحات بلداتنا قريبا. لا تنحصر خطورة هذا التشريع في إسقاطاتها المتوقعة على نشاطات المواطنين العرب، وفي إمكانية تسخيرها كأداة مشروعة في عسكرة تعامل الدولة مع مواطنيها العرب، لاسيما في ساعات الشدة والصدام؛ بل يجب النظر إليها كنتاج لتدهور مكانة الدولة وعلاقتها مع جميع مواطنيها، وكخطوة كبيرة في اتجاه إلغاء نظام حكم السلطات الثلاث، وكضربة حاسمة ضد دور القانون وسيادته.

منذ أكثر من عقدين صارت إسرائيل «معسكرا» كبيرا ومعظم مواطنيها اليهود جنودا وحياتهم معركة، لا قانون فيها، بل حكم البندقية وصوت البارود

قد يقول قائل إن إسرائيل لم تكن في يوم من الأيام إلا جيشا يمتلك دولة؛ وفي ذلك ضرب من الصحة، لكن ليس كلّها؛ فهواجس الأمن المزمنة، ومكانة الجيش والنزعة إلى تنزيهه حدّ القداسة، كانت جميعها من المفاهيم المؤسسة والسائدة داخل المجتمع الإسرائيلي وبين نخبه؛ لكن، بالمقابل، لا يستطيع أحد أن يتنكر إلى كيف تطور هذا الكيان على ضفاف التاريخ، المدنية، الاجتماعية والاقتصادية، بالتوازي مع كونه كيانا ذا نزعة عسكرية قوية ناشزة؛ فإسرائيل كانت تعيش بطبيعتين متكاملتين ومتصالحتين: الدولة «الإسبارطية» المتعسكرة المحتلة القامعة، ودولة المؤسسات والقانون تجاه مواطنيها اليهود، والعنصرية تجاه مواطنيها العرب. قلت كانت، لأنها لم تعد كذلك؛ فمنذ أكثر من عقدين فقدت إسرائيل «ميزان مائها» وصارت عبارة عن «معسكر» كبير ومعظم مواطنيها اليهود جنودا وحياتهم معركة، لا قانون فيها، بل حكم البندقية وصوت البارود. القضية اذن، يا من بأصواتكم سهّلتم على أخيار «مملكة يهودا» مهامهم، ليست مجرد تعديل هامشي يبغون من ورائه قمع مظاهرات الشباب العرب، في أول مواجهة تنتظرهم وراء المنحنى؛ بل القضية هي دوركم السيئ في تمكين ماكنة النار من جلودنا، وفي ذرائعكم غير المقبولة التي لا تختلف عن ذرائع أمثالكم في التاريخ، حين ادّعوا أنهم ليسوا إلا براغي صغيرة وأنهم يحاولون، من مواقعهم، التأثير وإفادة إخوانهم ببعض من الفتات وكثير من السراب.
أما القانون الثالث، الذي صوتت عليه الإسلامية في ذلك الفجر الأخضر، فقد أتاح لقوات الشرطة والأمن اقتحام بيوت المواطنين وتفتيشها من دون أن يكون بحوزتهم أوامر من المحكمة. لن أثقل على القراء في سرد تفاصيل الحالة القانونية السائدة قبل هذا التشريع، التي رغم ما أتاحته من هوامش تصرف كبيرة لقوات الشرطة، ومن تضييق على حريّات الأفراد وبيوتهم، لكنها لم تصل إلى خطورة ما أجازه التعديل الأخير. فبتصويتكم أيّها النوّاب العرب ألغيتم آخر الكوابح التي حافظت على بعض من حرمات بيوت المواطنين وعلى كرامات أجسادهم. إنهم الأغبياء والمتغابون فقط من لن يستطيعوا التكهن، أو التخيل كيف ستستباح بيوت المواطنين العرب لأهون الأسباب وبأبسط الذرائع.
لا أقول هذا جزافا بل كتقييم واقعيّ يكمل المشهد الذي وقفتُ على خطورته، جرّاء إقحام قوات الجيش من أجل تأمين الأهداف «القومية الأمنية» للدولة، ويكفي أن نقرأ ما أعلنته الحكومة في تسويغات عرضها لمشروع هذا القانون، كي نفهم ما كان وراءه، ومن هم ضحاياه المؤكدون، كما جاء، فإنّه «على ضوء ظاهرة الإجرام الخطيرة داخل المجتمع العربي، وعلى ضوء الصعوبات الخاصة بنفاذ القانون في هذا المجال، قررت الحكومة أن تشرّع، بشكل طارئ، قضية تفتيش الأماكن من دون أمر محكمة». ألم يقرأ النوّاب العرب، وليس فقط أعضاء القائمة الموحدة الإسلاميين، هذا الهراء والاستهبال؟ وهل فعلا هذا ما كان ينقص الدولة كي تنجح بمحاربتها لظاهرة الاجرام الخطيرة داخل المجتمع العربي؟ لقد صوّت مع هذه القوانين تسعة أعضاء عرب، لكن سيبقى تصويت أعضاء القائمة الموحدة/الإسلامية أبرزهم وأكثرهم غرابة واستفزازا؛ فأولئك الأعضاء الخمسة (من أحزاب: ميرتس، والعمل، وكاحول لافان، ويسرائيل بيتينو) يمثلون أحزابا صهيونية، لها أجنداتها وتاريخها ومفاهيمها الخاصة لطبيعة علاقاتها مع مجتمعها اليهودي، ومع مصوّتيها العرب؛ وهم في البداية والنهاية ملتزمون بقرارات أحزابهم، بينما تبقى «القائمة الموحدة» الإسلامية الهويّة والعربية المنشأ، ابنة مجتمعها الذي سيتأذى بسبب قراراتها ومواقفها.
لا أعرف مَن ما زال يتذكر كيف هوجم أعضاء القائمة الاسلامية الموحدة جراء تصويتهم ضد قانون لم شمل العائلات الفلسطينية، في شهر تموز/ يوليو المنصرم. كما لا أعرف من ما زال يتذكر كيف كان رد فعل الدكتور عباس وصحبه على تلك الانتقادات الصارخة؟ لكنني أذكر كيف استمر هو ورفاقه بنشاطهم البرلماني، كحليف متين في حكومة شاكيد – بينت، ونشاطهم الميداني حين كثّفوا من زياراتهم للمجالس العربية، المحلية والبلدية، التي استقبلتهم بأجمل الترحاب وبكامل التأهيل.
لم تمض أكثر من خمسة شهور على تلك الواقعة، ولم تتراجع القائمة الإسلامية الموحّدة عن نهجها، بل ما زالت توغل فيه يوما بعد يوم، وتتواصل، في الوقت نفسه، مع مراكز القوى المحلية وتوطّد علاقاتها مع نخبها البلدية المنتخبة. ويكفي إلقاء نظرة خاطفة على صفحة الدكتور عباس لنعرف اين كانوا أمس وأين راحوا قبله، ومن استقبلهم بحفاوة الحلفاء من «الجلبواع» في الشمال، حتى أقاصي النقب في الجنوب؛ رغم جميع الأصوات التي تندد، وبحق، بمواقفهم الداعمة لحكومة بينت -شاكيد. وللحقيقة فقد توقعت، وكثيرون مثلي، ذلك.
ما زلت على قناعة أن خطابَي الحركتين الإسلاميتين، الجنوبية والشمالية، رغم الفوارق بينهما واختلاف المناهج، يشكلان تحديات كبيرة لسائر الأحزاب والحركات السياسية غير الدينية، كما أنهما يضعان أمام مؤسسات المجتمع المدني مهام ثقيلة وصعبة. وما دمنا نتحدث عن الحركة الإسلامية الجنوبية، فالتزامها أمام أتباعها بالعمل السياسي، في واقعنا المشوه، وفق منهج «النفعية المطلق» من جهة واحدة، وتمسكها بالعمل من أجل بناء «مجتمع محافظ» من جهة ثانية، سيفضي حتما إلى استمرارها بالسير على طريقها الحالي، الذي قد يؤدي إلى زيادة في قوتها الشعبية. وستبقى حليفة للحكومة حتى تختمر ظروف الطلاق منها، ولن تكون «العصمة» بيدها.
هذا ليس قدرنا، نحن المواطنين العرب في إسرائيل، لكنه سيكون مصيرنا إذا بقينا في هذه الحالة من السبات والعجز…
كاتب فلسطيني

 

 

ماذا لو كان هشام أبو هواش

حاضرًا في "معهد العالم العربي"

 

جواد بولس

 

    لقد حدّثتكم في مقالتي السابقة عن قضية الأسير الإداري هشام أبو هواش، المضرب عن الطعام في سجون الاحتلال الإسرائيلي منذ حوالي المائة يوم؛ وأخبرتكم لماذا طلبتُ تأجيل سماع جلسته، رغم أن قاضي محكمة الاستئناف العسكرية استقبلني، وقتها، بذراعين مفتوحتين وببسمة لا يتقنها إلا الجنود الذين ينامون في بطن الخوذة ويصحون على تصفيق أسراب السنونو المذعورة الهاربة من شرفات فلسطين نحو مجهولها البعيد.

انتظرت أسبوعًا كاملًا حتى التأمت المحكمة مجدّدًا يوم الأربعاء المنصرم. 

كان الجو ماطرًا، بغزارة فاجأتني، عندما ركضت نحو قاعة المحكمة. لم يكن في الساحات أحد؛ فعائلات الأسرى لم تصل، والجنود كانوا، فيما يبدو، مختبئين في غرفهم. حاولت أن أغطي رأسي بعباءتي السوداء، وأسرعت نحو ديوان رئيس المحكمة، علّني أفهم منه أين اختفى الجميع، ولماذا ما زالت قاعات المحكمة مقفلة؟ فتحت الباب دون استئذان، فوجدت أمامي مجندة يافعة ما زال في وجهها بقايا طفولة لم يمحها المكان بعد. تبسّمَت بلطافة حذرة، ودفعت تجاهي برزمة ورق كي أنشف وجهي، وأماءت، بيدها الأخرى، نحو رأسي فأبعدت العباءة المبلّلة عنه. أخبرتني أن رئيس المحكمة مجاز ، وأن قاضيًا من قوة الاحتياط سيتولى أمر قضيتي، لكنه ما زال في طريقه إلينا. ثم أكّدت لي أن الأسير سيحضر جلسة اليوم من خلال شاشة الفيديو وهو على كرسيه المتحرّك في عيادة سجن الرملة.  

انتظرت القاضي في القاعة لأكثر من ساعة قضيتها في قراءة أخبار منشور أصدرته "حملة المقاطعة الفلسطينية" دعت فيه إلى مقاطعة نشاطات مهرجان دعا إليه "معهد العالم العربي" في باريس. دخل المترجم وأشعل شاشة الفيديو، ثم دخل القاضي فوجدني واقفًا أمام الشاشة أشرح عن الجلسة وعن مآلاتها. كان بجانب هشام سجّان يتحدث العربية، فأفهمني أن هشاماً لا يستطيع الكلام ولا تحريك أطرافه بشكل عادي. شرحت بإسهاب فسمعني هشام وردّ بما يشبه صوت شخص عالق تحت ركام بناية مهدومة.

افتتح القاضي الجلسة فطلب، وفقًا للعادة، من المترجم أن يعرّف المستأنف عن نفسه. فقلت: "موكلي لا يستطيع أن يتكلّم" . فنظر القاضي نحوي بنوع من الاشمئزاز، أو ربما الدهشة؛ فأفهمته أنني لا أمزح، ولا موكلي بأخرس ، بل هو أسير مضرب عن الطعام احتجاجًا على اعتقاله الإداري التعسفي منذ أكثر من ستة أشهر، وقد ساءت حالته الصحية، كما تراها على الشاشة أمامك، بسبب إضرابه المتواصل، حتى أصبح شبه مشلول ويواجه امكانية الموت المفاجيء كما يقول الأطباء. لم يبدِ القاضي حرجًا ولا استغرابًا ممّا سمعه؛ فهو من أبناء الجيش المجرّبين والواثقين بأنفسهم؛ ويعرف كيف يتعامل مع "هذه الحالات" من دون عواطف وأحاسيس، ويعرف كيف يبقى "روبوطًا" حازمًا وقادرًا على شم شرور الفلسطينيين حتى وهم مدفونون تحت الركام !  

بدأت مرافعتي منوّهًا إلى أن مصلحة السجون لم تنفذ قرار القاضي العسكري الذي أرجأ الجلسة، في الأسبوع الفائت، بسبب عدم إحضار موكلي إليها ولعدم وجود تقرير طبي محدّث من شأنه أن يوضّح حالة الأسير الصحية. وأضفت أن زميله قد أمر أطباء مصلحة السجون بإعداد تقرير طبي شامل في فترة أقصاها خمسة أيام، إلّا أنّهم لم ينفّذوا ما أمر به القاضي. فسألني: "ماذا تريد مني ، هل تطلب تأجيل الجلسة ؟". بدون تردد، أجبته :" لا، بالطبع لا أطلب ذلك" وأضفت: "بل أطلب أن تأمر بإبطال أمر الاعتقال الإداري الصادر بحق موكلي والإفراج عنه فورًا، أو، بالتبادل، أن تأمر بتعليق الأمر الإداري ضده وبنقله إلى مستشفى مدني كي يكون تحت رقابة وعناية أطباء مؤهلين؛ فوجوده في عيادة السجن هو مبعث للخطر وللقلق على حياته" ثم أردفت فحمّلت المحكمة ومصلحة السجون والنيابة العسكرية  كامل المسؤولية عن حياة موكلي وسلامته.

حاول القاضي، أكثر من مرّة، أن يسكتني وعبّر عن اعتراضه على مضامين مرافعتي القاسية، كما قال، لكنه سمعني لأكثر من ساعة، ثم أصغى إلى أقوال ممثلة النيابة العسكرية التي أعادت ببغاوية مألوفة ادعاءاتها، وطلبت، ببضعة جمل، رد استئنافي وإبقاء هشام في السجن، وذلك رغم سوء حالته الصحية.

ودّعت هشامًا بعد أن فهمت، من هزة رأسه، أنه سيستمر في إضرابه عن الطعام رغم المخاوف التي نبّهته منها. 

كنت في بيتي مساءً عندما استلمت رسالة من سكرتارية المحكمة وفيها نسخة عن قرار القاضي، الذي استهله بإجمال لمحاور مرافعتي، ثم ألحقها بأقوال ممثلة النيابة، ثم أنهاه بخلاصة قصيرة كتبها ببرودة الرصاص قال فيها: " لقد أمر  قاضي محكمة الاستئناف (ن، س) يوم 24/11/2021 مصلحة السجون بإعداد تقرير محدّث حول وضع الأسير الصحي. اليوم، أثناء الجلسة، تبيّن أنهم لم يعدّوا ذلك التقرير، ولم يوضحوا لماذا لم يعدّوه. لقد ادّعى أمامي المحامي اليوم أن الأسير ما زال مضربًا عن الطعام ويواجه خطر الموت؛ وطلب، بسبب ذلك، تعليق أمر الاعتقال الإداري. من الواضح أنني لا أستطيع النظر في ادعاءات المحامي بشكل مناسب من دون تقرير طبي محدّث، وهو ما كان قد أمر بإعداده القاضي السابق، ولذلك لا مفرّ من تأجيل البحث في الملف إلى موعد آخر ستعيّنه سكرتارية المحكمة بعد استلامها للتقرير الطبي". قرأت الكلام فشعرت بالغثيان. أخبرت أفراد عائلة هشام بمضمونه، فسألوني "ماذا يعني هذا؟". لم أجب، فسمعتهم يستدعون السماء ويرجونها أن تحفظ لهم هشامًا. كنت ساعتها "أعض على نواجذي" وأخاطب نفسي متسائلًا، مرّة أخرى، متى سيقاطع الأسرى الإداريون هذه المحاكم/ المهازل؟  

مقاطعة مهرجان في باريس 

كانت أخبار دعوة "الحملة الفلسطينية للمقاطعة الأكاديمية والثقافية لإسرائيل" لمقاطعة "مهرجان Arabofolies التطبيعي"، الذي ينظمه في باريس "معهد العالم العربي" خلال الأيام المقبلة، تتهافت عبر وسائل "التشابك الاجتماعي"؛فالبيان كان قد دعا المنظمين إلى إلغاء مشاركة مغنية إسرائيلية فيه وإلى "مقاطعة المهرجان، في حال رفض المنظمون ذلك" .            

لاحقت تداعيات هذا المشهد فتبيّن لي أن الإسرائيلية المدعوة للمشاركة في منصة المهرجان الفنّية هي فنانة محلية، لم اسمع عنها من قبل، تحمل اسم " نيطع الكيّام". وبعد التفتيش عنها تعلّمت إنها فتاة يهودية ولدت في بلدة إسرائيلية اسمها "نتيفوت"، في العام 1980، من أبوين مغربيين؛ وانها احترفت الغناء باللهجة المغربية وتعد صاحبة مشروع شخصي لإحياء تراث أجدادها المغاربة كما تربوا عليه كيهود في المغرب. وقرأت على لسانها تصريحًا لافتًا أطلقته تعقيبًا على الدعوة إلى مقاطعتها. على جميع الأحوال فهذه الفتاة لا تعنينا اليوم، إلّا لأن دعوتها للمشاركة في المهرجان دفعت حملة المقاطعة الفلسطينية لإصدار بيانها المذكور، الذي نجح باستدراج بعض المدعوّين إلى الانسحاب من محاور المهرجان.  وقد عرفنا منهم أسماء بعض الفلسطينيين، وكذلك اسم الروائي الكبير الياس خوري الذي كتب على صفحته: "أعلن انسحابي من المشاركة في محور " أيام التاريخ" في معهد العالم العربي بباريس، وهذا ناجم عن الالتباسات التي أحاطت به وبالمناخ التطبيعي الذي رافقها".

 سأعود إلى مناقشة هذه المسألة في مقال آخر، فما يصحب عادة هذه الدعوات من صخب وبلبلة وأحيانًا أضرار، يستوجب التوقف عنده، والتدقيق في تبعاته وفق موازين الربح والخسارة السياسية.  

فمن يدقق، مثلًا، في نص الياس خوري سيلتفت، رغم قصر الإعلان، إلى أنه أرجع  سبب انسحابه لما أسماه، بحذر واضح: "الالتباسات التي أحاطت به وبالمناخ التطبيعي الذي رافقها"، وهذا النص يشكّل، برأيي، دعوة لتمحيص ما دعت إليه حملة المقاطعة ومناقشة صحته، خاصة وأنها تطرقت هناك إلى ما أسمته "معايير المقاطعة الثقافية لإسرائيل ومناهضة التطبيع" وذلك عندما برّرت دعوتها إلى مقاطعة المنصة الفنية، بينما أجازت في ذات البيان "نشاط المهرجان الآخر الذي ينظمه ذات المعهد تحت عنوان" Fete de la langue Arabe"،  فهذا المهرجان، هكذا كتبت الحملة "وبعد الفحص والتدقيق ، غير خاضع للمقاطعة الثقافية ولا يعد تطبيعًا .. وذلك بالرغم من وجود دعم مقدّم لأحد معارض المهرجان من المؤسسة الأمريكية- الصهيونية المدعوّة American Sephardi Foundation"، ورغم أن هذه المنظمة الأمريكية هي منظمة صهيونية، إلا أنها لا تعدّ منظمة ضغط(لوبي) لصالح إسرائيل". انه موقف يستدعي التفكير ؛ فهل ما قالته الحملة صحيح؟ وهل فعلًا لا تعمل هذه المؤسسة الصهيونية الناشطة في أرجاء العالم لصالح إسرائيل؟ وحتى لو افترضنا ان الحملة دققت فعلا وفحصت هويات المشاركين والداعمين، ألا تخلق هذه التعريفات مناخات من الالتباسات والبلبلة؟ فمتى يجوز، مثلًا،  التعامل مع مؤسسة صهيونية، ومتى لا يجوز ؟ ومن يملك تلك المساطر السحرية التي بواسطتها يتم الحسم من دون أن نضر بقضية فلسطين ؟ 

لقد كنت في قاعة المحكمة وحيدًا انتظر قاضيًا صهيونيًا سفارديًا لا يعرف إلا أن يكون جنديًا في خدمة الاحتلال وأفكر في حملة تدعو الفلسطينيين لمقاطعته. وكنت أقرأ كم سهلًا أن يقاطع المثقف العربي/الفلسطيني مهرجانًا بحجة عدم التطبيع إسرائيل؟ وكنت حزينًا لأن في شرقنا يخاف المثقفون بسرعة الطلقة؛ وفيه، لا أهون من صناعة الالتباسات، وتجييش الشعارات والعواطف،  والمرور على جثث المفارقات العبثية.

يتبع..

رسالتان إلى

الصحافي جدعون ليفي

جواد بولس

 

من لا يعرف من قرّاء الصحافة العبرية، بلغتها الأصلية أو المترجمة، مقالات الصحافي جدعون ليفي، التي دأب على نشرها أسبوعيا، في صحيفة «هآرتس»؛ تناول فيها، ولمّا يزل، ممارسات وقمع جنود الاحتلال الإسرائيلي واعتداءات قطعان المستوطنين على أبناء الشعب الفلسطيني وضد ممتلكاتهم؟
لقد عدّ الفلسطينيون والإسرائيليون، على حد سواء، جدعون ليفي، جراء ثباته على الكتابة من ضفة المعتدى عليهم، نصيرا مستوثَقا لضحايا الاحتلال، وشاهد حق على ما يعانون؛ وسكن، بسبب ذلك، قلوب معظمهم كواحد «معنا» وليس مع «أعدائنا». لقد دخل القلوب إذ كانت مطمئنة له، من أبواب الوجع، فهل سيبقى فيها بعد المودة التي أبداها تجاه بنيامين نتنياهو وعائلته، كما قرأنا وكما نشر وأفاد؟
لقد لبّى الصحافي جدعون ليفي دعوة زميله في صحيفة «هآرتس» العبرية، بيني تسيبر، وشارك في احتفال أقامه صاحبه بمناسبة عيد ميلاد سارة نتنياهو عقيلة رئيس الحكومة السابق بنيامين نتنياهو. لم يكتف ليفي بحضور الاحتفال الخاص في بيت زميله، الذي يعمل، منذ سنوات طوال، محررا للملحق الثقافي في الجريدة، بل خصّ تلك الليلة بمقال نشره في «هآرتس» يوم 11/11/2021 تحت عنوان «مع عائلة نتنياهو لدى عائلة تسيبر في الصالون». لقد صدمت مشاركة جدعون ليفي الاحتفالَ معظم قرّائه، واستثار مضمون مقالته دهشة متابعيه؛ حيث اعتبره معظم «معجبيه» من العرب واليساريين خيانة لما عهدوه في مواقفه الإنسانية من صدق أخلاقي، وتراجع عن دعمه السياسي للحق ولأصحابه؛ بينما اتهمته، في المقابل، أوساط اليمين على أطيافها بالتلوّن وبالمداهنة، مدّعية أنّه سيبقى، رغم مغازلته لنتنياهو ولزوجته، عدوّ اسرائيل وصديقا للفلسطينيين. ليس من الصعب أن نتفهم غضب جميع من هاجم أو لوّم أو انتقد أو خوّن أو خطّأ خطوة جدعون ليفي، خاصة أنه لم يكتف بالمجاهرة بها، بل أضاف على «إبّالته أضغاثا» من الاستفزاز حين افتتح مقالته واصفا، بتودد واضح، عائلة نتنياهو بلغة حليفة ودافئة، فقال: «لقد جلس اليوم الشخص الذي يحظى بكراهية كبيرة وبإعجاب كبير مع زوجته وأولاده على أريكة قديمة في صالون صغير.. وربّت على يد زوجته وسحر كلّ محدّثيه». لقد كان جدعون ليفي نفسه، هكذا يفهم من النص، واحدا من بين أولئك المسحورين بحضور عائلة نتنياهو، التي كانت، كما وصفها «العكس المطلق تقريبا لما يقولونه عنهما وعكس ما يعتقدونه عنهما، ولم يظهر، في ذاك المساء، أي شيء مما قيل عنهما من قبل المنتقدين لهما المليئين بالاشمئزاز». هكذا كتب واستفز، وهيّج أرواحا كانت تؤمن به أكثر من إيمانها بهيئة الأمم المتحدة وبالجامعة العربية، وبكثيرين من أبناء شعبها. لن أسرد جميع ما جاء في هذه المقالة المستهجنة؛ فما أفصح عنه فيها من رفق وود تجاه نتنياهو وأسرته، سيبقى من حقه كصحافي، ومحسوبا له وعليه؛ لكنني، ومن باب إنصاف ماضيه الصحافي ومواقفه الحاسمة ضد الاحتلال وموبقاته، وفضح سياسات حكومات اسرائيل خاصة بقيادة نتنياهو، ومن أجل الحقيقة، أود أن استذكر مقالا بعنوان «استعراض نتنياهو» كان جدعون ليفي نفسه قد كتبه ونشره يوم 17/8/2016 بعد مشاركته وأعضاء هيئة تحرير جريدة «هآرتس» اجتماعا مغلقا دعاهم إليه نتنياهو، فكتب حينها هكذا: «استضاف أمس نتنياهو أعضاء تحرير هآرتس للقاء مغلق دام أربع ساعات تحدث فيها بدون توقف.. نتنياهو شخص غاضب، هائج، صاخب، صلب، حاد، مغرور، ومقتنع بصدق دربه، ويؤمن بالقوة فقط، وعنده ميول نرجسية، وحب للعظمة، متعال، ثرثار، ويعاني من شعور بأنه ملاحق». ثم وصف جدعون ليفي أيديولوجية نتنياهو على أنها متشددة ومتطرفة؛ فهو، أي نتنياهو، شخص لا يؤمن «بأي سلام مع الفلسطينيين، ولا يعنيه قدرهم قيد أنملة. وهو سيلحق الكارثة بإسرائيل، لأنه صبي لم ينضج وخياله ما زال عالقا في عالم الكتيبة». هكذا إذن، رأى جدعون ليفي نتنياهو قبل خمسة أعوام، فكيف لن يغضب من يقرؤه اليوم وهو يصفه «بالشخص الذي يملأ الفضاء بحضوره؛ فحتى، وهو في خريف حياته السياسية، يبقى مثيرا للفضول أكثر من أي سياسي إسرائيلي. وستبقى إمكانية أن نفهم دوافع الإعجاب به أسهل من أن نفهم مصادر الكراهية العميقة التي يثيرها تجاهه». لم يكتف ليفي بهذا القدر من الشهادة والمديح، بل مضى فبقّ حصوة «الراسي» الكبيرة، وأعلن أن دور نتنياهو «في صناعة دولة الأبرتهايد لم يكن أسوأ من أسلافه، ولا كان تأثيره على انهيار الديمقراطية مميزا، لأن ساحات إسرائيل الخلفية مسيطر عليها من قبل ديكتاتورية عسكرية». أقوال، وإن كانت تحتوي على بعض من الواقع السياسي والحقيقة، إلا أنها، حين تقال من شخص في مكانة جدعون ليفي سيكون وقعها موجعا، وتأثيرها في المجتمع ككل، خاصة على رعاع اليمينيين، أخطر.
لقد تابعت ردة فعل جدعون ليفي على منتقديه اليهود، لاسيما على أولئك الذين يعرّفون أنفسهم يساريين؛ فلم يسكت أمامهم، بل دافع عن حضوره الحفلة، وكذلك عمّا كتبه في أعقابها؛ وقد فعل ذلك متذرعا بادّعائين أساسيين، جنّدهما على طريقة من يقول كلام حق يراد به باطل؛ فادعاؤه بأن جميع القادة السياسيين اليهود، خاصة من وصفهم باليساريين، سواسية، فيه من الإجحاف للواقع قسط، ومن التمويه والمغالطة والتضليل أقساط؛ ثم أن محاولته تبرير شرور نتنياهو بكون الآخرين أشرارا أيضا هي اجتهاد بائس وخطير، ولا يمكن تسويغه سياسيا ولا قبوله أخلاقيا.

محاولة جدعون ليفي تبرير شرور نتنياهو بكون الآخرين أشرارا أيضا هي اجتهاد بائس وخطير، ولا يمكن تسويغه سياسيا ولا قبوله أخلاقيا

لقد قبل جدعون ليفي الدعوة لحضور حفل عيد ميلاد سارة نتنياهو، وهو يعلم، بالطبع، تعاطف زميله في الجريدة المعلن مع سارة ودفاعه عنها وعن عائلتها وعمق صداقته معهم منذ سنوات طوال؛ ويعرف أيضا مواقف زميله من الاستيطان والمستوطنين، ومواقفه المستهترة من اليسار الإسرائيلي؛ وهو، لجميع ذلك، وبسبب تجربته الطويلة، ولحساسية الأوضاع السياسية التي يمر بها المجتمع الإسرائيلي ونية نتنياهو المعلنة بالعودة إلى رئاسة الحكومة، كان قادرا أن يقيّم مدى تأثير مشاركته وما كتبه بعدها في المشهد الإسرائيلي العام وفي مشاعر أصدقائه الفلسطينيين وفي الاحرار في العالم تحديدا.
على الرغم مما ذكرته وعلى الرغم من فحش ما قام به لن تكون مهمة الدفاع عن جدعون ليفي مستحيلة؛ فإذا ما راجعنا تاريخ ما كتبه عن الاحتلال الإسرائيلي، وعن ضحاياه الفلسطينيين، وإذا ما تذكرنا مواقفه الصارمة ضد الحروب التي شنتها إسرائيل على قطاع غزة وعملياتها في الضفة المحتلة، فقد نشفع له، ونأمل بثقة من يفتشون عن حلفاء، أن يعود في الغد ويقف على حافة الجرح الفلسطيني ويتوجع ويكتب كي يعرف الإسرائيليون والعالم من هو القاتل ومن هي الضحية.
لو كنت قاضيا لطالبت جدعون ليفي بأن يراجع نفسه ويتراجع عما قاله في وصف تلك الليلة التي قضاها في صالون عائلة تسيبر، ولذكّرته، أيضا، بأن حياة الفلسطينيين، كما وثّقها بحدقات أقلامه الدامعة طيلة سنوات طويلة، لا تقايض بحفلة ميلاد ولا بجلسة سمر مع «ساحر» كان يصغي بهدوء، ويربت على يد زوجته التي لم تحتس الكحول في تلك الليلة. لكنني لست قاضيا، بل أنا محام سيصفح، على طريقة المتشائلين، لجدعون ليفي خطيئته لأنه، هكذا أشعر، كما كان هو باق هناك ولم يتغيّر.
وقبل أن ترجموني أنا بحجارتكم أتمنى أن نستوعب معا أن جدعون ليفي يكتب كما يكتب ليس لأنه فلسطيني، ولا لكونه مجرد إنسان بلا هوية، بل يكتب من موقعه «كوطني إسرائيلي» أو كما صرّح هو بنفسه ذات يوم فقال: «أنا أكتب في جريدة إسرائيلية، للإسرائيليين، وليس للفلسطينيين. أنا اكتب للإسرائيليين الذين يريدون أن يقرأوا ما يجري مع الشعب الفلسطيني الذي يقبع تحت الاحتلال الإسرائيلي. اكتب من وجهة نظر إسرائيلية، أو ربما من وجهة نظر وطنيّ حسبما أراها. أكتب بالأساس عما نفعل بهم، وليس كي نساعدهم، ولا كي نساعد اي أحد آخر؛ بل من أجل أن نعرف». فلنقبله بحجم صديق، هكذا كما هو، ولنترك رصيده الأخلاقي مفتوحا على جهات الريح.

والرسالة الثانية: كن، يا جدعون، كما تريد، وابق حرا، وتذكر أوجاع قلبك، ولا تخذل أنفاس الحقيقة التي باسمها كتبت وشمخت؛ وتذكر، كذلك، أطفالا ينامون خائفين أمام فوهات البنادق ويحلمون بأمثالك، رجالا، يكتبون من أجل أن يمتلأ فجرهم بالزنابق .
كاتب فلسطيني

 

 

من يعيد الفرح

والأمان لفضاءاتنا العامة؟

جواد بولس

 

أقامت في الخامس من الشهر الجاري، جمعية «أنغام للموسيقى» و»الفرقة الماسية النصراوية» حفلا تكريمياً للموسيقار الخالد بليغ حمدي، على مسرح مدرسة «راهبات مار يوسف» في مدينة الناصرة. كان مشهد السيارات التي ملأت ساحات المدرسة مبشّرا بعدد الحضور الكبير، الذي تجاوز عدده الستمئة شخص، كما علمت لاحقا.
دخلنا القاعة الرحبة مباشرة عندما شرعت الفرقة تعزف. لوهلة قد تتخيل أنك في أحد المسارح «الأجنبية» الراقية؛ فالصمت في القاعة جارح وطغيانه يشي بشغف الحاضرين باجتراع الموسيقى الأصيلة. جلس العازفون، وكلّهم أبناء البلد، على المسرح، وتحتهم قليل من ريح. كانوا يحتضنون آلاتهم برفق العشاق، وأمامهم كان ينتصب، مثل سهم، المايسترو كميل شجراوي، الذي ما أن رفع قوس كمانه وحطّه، بما يشبه الغضب، على خاصرة الوتر، بدأت رحلة الفرقة على طريق النحل، وأخذتنا والسعادة، مع باقة من أغاني الكبار، أم كلثوم، وردة، صباح، ميادة الحناوي، عبد الحليم، نحو المدى البعيد، فأمضينا بضع ليلة مع تناهيد ماض جميل وبقايا من نور كنا قد افتقدناه. كان تكريم واحد من أعمدة الموسيقى العربية لائقا ومشرفا، فألحانه عزفت بحرفية لافتة وقد زادها صوت ابنة قرية الرامة الرائعة رنا حنا – جبران، شجنا وطربا، ثم «عَشّقها» صوت الشاب الوسيم ابن قرية ترشيحا شادي دكور، بقطع من عذوبة وورد. لقد توالت فقرات الحفل كسكب رقيق من عسل، فطارت ساعة ونصف الساعة من زمن ليس كالزمن، حتى انتهينا على وجع وما زال فينا «الغليل لظى، والوجد محتدما، والشوق ظمآنا».
لست ناقدا موسيقيا، ولا أكتب من هذا الباب؛ لكنني اعترف، بأنني كلّما أشارك في مثل هذه المناسبات أصاب بنوبة من فرح وزهو؛ لا لما نسمع من طرب أصيل ونشاهد من إبداع محلي مبهر وحسب؛ بل لأنني وكثيرين مثلي، نعتبر هذه النشاطات الفنية ومثيلاتها جزءاً من معارك مجتمعنا على فضاءاته العامة وتعزيزاً لانتشار الثقافة الحرّة فيه ولدور الإبداع في بناء الحصانة الجماهيرية وإشاعة التعددية الفكرية والثقافية بين ظهرانيه. كم كنت أتمنى أن يتعرّف العالم على ما ينتجه المواطنون العرب في إسرائيل من أعمال ثقافية وفنية إبداعية مختلفة؛ ومن الواضح أن هذا المقال لن يتسع لذكر قوائم المغنين البارزين والفنانين والمبدعين، وأسماء الفرق الغنائية والمسرحية الجادة، وما يقدمونه من إنتاج فني سنوي مرموق؛ وهم يفعلون ذلك على الرغم من ضيق الهوامش المتاحة لمعظمهم، وعلى الرغم من انحسار عدد المنصات والمواقع العامة التي يستطيعون عرض إنتاجاتهم عليها، ومحاربتهم ومنع عروض بعضهم في كثير من البلدات، كما حصل في الماضي وكما قرأنا مؤخراً.
تتداعى الأحداث في مدننا وقرانا بسرعة جنونية، وبتواتر متصاعد من يوم إلى يوم؛ ويكاد المواطن العادي لا يعيرها اهتمامه إلا لحظات عابرة، رغم أنها تؤدي، من خلال تراكمها الضاغط والعفوي، إلى تزايد مشاعر الاغتراب الاجتماعي، والخوف بين الناس، وإلى ابتعادهم عن الحيز العام ولجوئهم إلى ملاذات ضيّقة، قد يكون أهمها «البيت» أو ما ينوب عنه من بدائل وهمية يحسبها المواطن «حصوناً» تؤمن للمهدّدين منهم وللخائفين حماية، في واقع خسرت فيه المجتمعات المحلّية معظم مظلاتها الواقية وفقدت كوابحها القيمية والسلطوية والقيادية.

لن ننجح في مواجهة واقعنا المقلق والخطير، من دون تشخيص مسببات الآفات بجرأة وبوازع غير مرتهن لأي مصلحة فئوية أو دينية أو مادية

وليس من الصعب على الباحثين الجدّيين في علوم الاجتماع والسياسة الرجوع إلى بدايات التحوّلات/الانهيارات الكبيرة التي أصابت مجتمعاتنا المحلّية، والكشف عن العوامل الحقيقية التي أدت إلى تدهورها ووصولها، كما هو الحال في أيامنا، إلى حافة الهاوية؛ لكننا، كمجتمع مأزوم ومفجوع، يجب أن نقرّ بأننا لن ننجح في مواجهة واقعنا المقلق والخطير، من دون تشخيص مسببات تلك الآفات بموضوعية وبجرأة وبوازع غير مرتهن لأي مصلحة فئوية أو دينية أو مادية. فهل توجد بيننا تلك الفئة القادرة على إنجاز هذه المهمة؟ وإن وجدت هذه الفئة بيننا، فهل ستكون لديها الدوافع والنوازع والاستعدادات، لتتصدّر المواجهة التي ستتفجر، حتماً، على جبهتين كبيرتين وخطيرتين؛ الأولى، هي جبهة الدولة ونهج مؤسساتها العنصري والفاشي في بعض تجلّياته؛ والثانية، وقد تكون الأخطر، هي المواجهة مع جميع القوى البلدية المحلية، التي تنتج مؤسساتها ثقافات العنف على أشكاله، وتسوّغ مفاهيمُها ومصالحها وقدراتها المادية والمعنوية، جميعَ أشكال الصدام مع «الآخرين» وتبرر غاياتُها كلَّ وسائل الاستقواء والبلطجة وترخيص القتل على أشكاله. إنها باختصار المعركة على أمن البشر وضمانة حرّياتهم وصون كراماتهم وهي كذلك معركة من أجل حماية رئات الوطن وتسييج ساحات البلدان. لقد خرجنا من قاعة مدرسة «راهبات مار يوسف» منتشين، لكن بنا بعض من الحسرة والحزن. فبعضنا استذكر كيف أعلن قبل ايام معدودات مجلس محلي في إحدى قرى الجليل عن إلغاء حفل موسيقي كان من المفروض أن تحييه الفنانة نادين خطيب «استجابة لتوجه رجال الدين لرئيس مجلس القرية»؛ بينما تذكّر آخرون مشاهد إطلاق الرصاص على أحد المشاركين في حفل زواج خاص فأرداه قتيلاً.
تحلّقنا طاولة في بيت أحد الأصدقاء؛ وبلهفة المنتصرين تغنينا بالموسيقى وتسابقنا بالحديث عن نهفات بليغ الحر حتى آخر أنفاس الزبد، وعن شقاواته وحبه للحياة مثل حب زوربا اليوناني. كانت أخبار النهارات، بمرّها، تتناثر بيننا كلما جنّ الليل وزاد عتمة، حتى وصلنا، رغما عنا، إلى آخر أخبار الرصاص، فتناقشنا حول قضية إشراك جهاز المخابرات العامة في مكافحة الجريمة والعنف بين المواطنين العرب. لم نتفق على موقف واحد إزاء هذه القضية، فعدنا إلى قصص الغناء والشعر والنحت والتمثيل والفرح. كان واضحا لجميعنا أن نجاح مثل هذه الليالي يؤخر موعد إعلان هزيمتنا الثقافية الكبرى، ويضخ في مطارحنا جرعات مهمة من مصل الأمل؛ لكن ذلك لن يثمر ولن يتم إلا إذا حظي جميع المبدعين والفنانين برعاية مؤسساتية ومجتمعية أكبر، وبدعم قطاعات نخبوية واسعة وبمساندة حاسمة من قبل من يصلّون بهدوء وبصمت وبدون أن يراهم الناس تماما، كما كان يصلي زوربا، لأنهم مثله يؤمنون بألا «تستطيع قطرة البحر إلّا أن تكون في أعماق الموج».
لم نعرف كيف اقتحمت صلاة زوربا اليوناني ليلنا، وهو الذي أجاب حين سألوه كيف تصلي فقال: «بالحب.. أقف وكأن الله يسألني: ماذا فعلت منذ آخر صلاة صليتها لتصنع من لحمك روحا؟ فأقدم تقريري له وأقول: يا رب أحببت فلانا، ومسحت على رأس ضعيف، وحميت امرأة في أحضاني من الوحدة، وابتسمت لعصفور وقف يغني لي على شرفتي، وتنفست بعمق أمام سحابة جميلة تستحم في ضوء الشمس». لم ننتبه كيف حضر معنا زوربا ليلة لتكريم موسيقار مصري عاش يرتشف الحب ويوزعه ألحانا بجنون عبقري، لكننا مثله، أنهينا جلستنا بكثير من الصلاة وتراتيل الحب والشوق لمثل هذا الفرح. لقد تمنينا في تلك الليلة كثيرا، وافترقنا وكلنا نعرف أنها مجرد أمنيات سوف تمحوها سكرة أول فجر دامٍ كان جدّ قريبا؛ ففي الواقع لقد خسرنا المعركة على «حيّزنا العام» وقبلها، كنا قد أضعنا «ساحة البلد».
كاتب فلسطيني

 

 

غصات الأسرى: مرضى

ومضربون عن الطعام

جواد بولس

خضع الأسير ناصر أبو حميد في التاسع عشر من الشهر الفائت، لعملية جراحية معقدة في مستشفى «برزيلاي» الإسرائيلي، حيث استأصل الأطباء خلالها ورما من رئتيه، كانوا قد اكتشفوا وجوده بعد فحوصات طبية أجروها له في شهر آب/ أغسطس الماضي.
ولمن لا يعرف قصة هذه العائلة، إليكم عصارتها المرّة؛ فالأسير ناصر أبو حميد هو من سكان مخيم الأمعري، الذي يتوسط، كنغزة في خاصرة التاريخ، مدينتي البيرة ورام الله، واحد من بين خمسة أشقاء يقضون في سجون الاحتلال أحكاماً مؤبدة، أي لمدى الحياة، وذلك بعد إدانة كل من نصر وناصر وشريف ومحمد في عام 2002 بتهم أمنية، ثم إدانة شقيقهم إسلام، في عام 2018، مثلهم بالحكم المؤبد. كما يذكر أن لهم شقيقاً سادساً، هو عبدالمنعم أبو حميد الذي استشهد قبل سنوات. لم يسلم سائر أفراد العائلة من الاعتقالات ومن تنكيل الاحتلال الإسرائيلي، كما تجلّى ذلك في حرمان والدتهم الفاضلة أم يوسف، من زيارتهم في السجون لسنوات طويلة، علما بأنهم كانوا قد فقدوا والدهم الذي توفي وهم في الأسر.
لقد عقّبت أم ناصر أبو حميد عند سماعها نبأ مرض ابنها «إن معنويات ناصر قوية وعالية رغم إصابته بالسرطان، وهو سيقهر المرض كما قهر الاحتلال». وأضافت، في إحدى مقابلاتها الصحافية وعلى لسانه: «حرّ أنا رغم القيود بمعصمي، أحيا عزيزا لا أذلّ لمجرم». هكذا، إذن، اختصرت من سميتها مرّة «وردة من الأمعري» حكاية مئات الأسرى الفلسطينيين المرضى؛ وهي إذا قالت، فالقول كما قالت الأمعرية.
لكل أسيرة وأسير فلسطيني حكايةٌ ترددُها أنفاسُ الليل، أصداء للوجع الدائم، وأثرٌ لا بدّ أن يرى وأن يدوم. وتبقى حالات الأسرى المرضى أصعبها عليّ وأكثرها استفزازاً؛ فبعض هذه الحالات تشعرني كيف يفقد السجّان، ابن آدم، إنسانيته ويتحول إلى مجرد مسخ كلّه من شر، ويبقى الأسير، مقابله، يتقلّى، بشموخ الحرّ، ككتلة من صفيح ساخن. من حق جميع أولئك الأسرى علينا أن نروي حكاياتهم للعالم، وأن نوثّق كيف عانوا، وأيّ إهمال طبي مورس بحقهم، حتى سلّم بعضهم أرواحهم داخل السجون الإسرائيلية، بعد أن كانوا قد ضحّوا بحرياتهم من أجل وطن مشتهى وكرامة شعب مهيضة. عرفت أن نهاري سيكون صعباً؛ فبداية سأزور الأسير ناصر أبو حميد في سجن عسقلان، وبعده سأتوجه إلى عيادة سجن الرملة، حيث سألتقي بعض الأسرى الإداريين المضربين عن الطعام منذ أيام طويلة. انصعت لتوجيهات تطبيق «ويز» الذي أدخلني طرقًا التفافية تعرفت فيها على الأحياء الشمالية الجديدة لمدينة عسقلان. بدت العمارات عن بعد جميلة مع لمسات هندسة عصرية، لكنها لم تكن، في الواقع، هكذا تحققت عندما اقتربت منها، إلا كتلا من أبنية «كتشية» رخيصة، كانت قد بنتها حكومات إسرائيل اليمينية لتسدّ نهم الطبقات الشعبية والوسطى الغوغائية الصاعدة على عتبات قصور اليمين الفاشي. كان البحر يتهادى على يميني، وهو أجمل ما يمكن أن تراه هناك، والرمل الذي في كل مكان، كان يشوّش الذاكرة ويعيد إليها صور القوافل الراحلة وحداءات التيه والضياع.

عاد صوت «أم ناصر» إليّ، فسمعتها وهي تقول لي: «المهم يا أستاذ، ألا تُظهر ضعفك، وألّا تدع عينيك تدمع أمامهم؛ فنحن سنبقى أقوياء

لم يتغير سجن عسقلان منذ زرته آخر مرّة؛ فالسجون، في إسرائيل، مهما حاول القائمون عليها تحديثها وترميمها، تبقى شواهد فاهية على محاولات وأد الأرواح، ومعاقل جرداء لتفريخ الحقد ولتخصيب الكراهية. أنهيت إجراءات التفتيش وانتظرت سجّانا سيصطحبني إلى غرفة المحامين. لم تكن الغرفة كما قد تتخيلون؛ فهي مكان قد يذكرك برسومات بيكاسو التكعيبية؛ فهي ليست مستطيلة ولا مربعة، ولا شكلها كشكل شبه المنحرف؛ بل كانت، أو هكذا أحسست، مثل مبنى مهجور كالذي كنا نشاهده، أحياناً، في أفلام رعاة البقر الأمريكية. كان الغبار منثورا في جنباتها، وعلى يساري، حيث كنت أجلس على دكّة من باطون أجرد، لاحظت ما يشبه الباب. كان عبارة عن لوح خشبي غير مدهون، يعاني سطحه من عدة كسور، وخلفه لاحظت ما كان من المفروض أن يكون حماماً، إلا أنه تحوّل مع الزمن وبسبب الإهمال، إلى مكرهة صحية، لا ماء فيها ولا هواء. حاولت أن أقتل وقت الانتظار، فاستدعيت ما قالته لي «أم يوسف» ذات يوم عندما اتصلت لأسأل عن حالها، كان صوتها الذي استحضرته في مخيلتي، كصوت الورد الناتئ في شقوق صخر المخيمات، ينبض بقوة هادئة ويشحنني بالثقة وبالحزم. قطعت خرخشة الأصفاد القريبة مني حبل تفكيري، ففتح السجان بابا حديديا ثقيلا وأدخل منه ناصر أبو حميد، الذي جلس، بعد أن فكّت أصفاده، خلف الزجاج الذي لم يحافظوا على لونه الأبيض الشفاف الأصلي. حيّيته من خلال سماعة التلفون فرد التحية بصوت متعب تخللته نوبات من السعال الخفيف. حاولت ألا أبدي قلقي مما رأيت؛ فوجهه كان شاحبا بصفرة مصحوبة بخضرة خفيفة كورق الغار، وعيناه غائرتان، في ذبول واضح، تحت جبين تفضح ثناياه ما حاول ناصر أن يخفيه عني. نقلت له تحية العائلة والأصدقاء وسألته عن حاله. أعلمني أنه نقل إلى مستشفى برزيلاي بتاريخ 29/9، أي قبل حوالي العشرين يومًا من زيارتي له، حيث أجريت له فحوصات طبية شاملة، تبين منها أنه يعاني من وجود ورم في رئتيه. وأخبرني أن الأطباء حرروا له تقريرا مفصلا عن حالته وطلبوا في نهايته أن يعاد إلى مستشفى برزيلاي بعد عدة أيام من أجل إجراء عملية جراحية ضرورية.
كان التقرير الطبي في حوزته، فعرضه، على الزجاج أمامي، وقرأناه معا. كان واضحا أنه بحاجة لإجراء العملية فورا؛ ومماطلة مصلحة السجون كانت سببا في تفاقم وضعه الصحي، لأنهم، هكذا أكد أمامي، لو قاموا بواجبهم مباشرة عندما أحسّ منذ البداية، وعندما بدت عليه علامات المرض، لما تقهقر وضعه ولما وصلت حالته إلى ما هي عليه في هذه الأيام. وقد أخبرني أن إدارة السجن وعدت بنقله في مطلع الأسبوع القريب إلى مستشفى برزيلاي كي يجري العملية هناك؛ ثم أردف: وإذا لم يفوا بوعدهم، فسيتخذ جميع أسرى السجن خطوات تصعيدية غير مسبوقة، إضافة إلى ضرورة تحريك المسار القانوني، على الرغم من انعدام ثقتنا فيه.
وعدته بأنني سأتابع هذا الموضوع مع إدارة السجن، وإنني سأعود إلى زيارته، كان ودودا، باسما وهادئا، فحمّلني سلامًا لأحبته ووزنة من عزيمته الواضحة. وقف محتضناً همّا وأملا كبيرين، وكانت كفه ملقاة على الزجاج تعانق كفي؛ وقال قبل أن يغادر: لا يمكن السكوت بعد عن سياسة الإهمال الطبي بحق الأسرى الفلسطينيين؛ فبعضهم قد رحلوا بصمت وبحسرة والباقون هم مشاريع شهادة.. جاء سجان وأخرجه من الباب الحديدي واختفيا. أما أنا فبقيت انتظر من يخرجني من هذا القفر ومن قلقي.
تأخروا، فوقفت بالباب منتظرا أن يمرّ أحدهم فأذكره بحالي. عاد صوت «أم ناصر» اليّ، فسمعتها وهي تقول لي: «المهم يا أستاذ، ألا تُظهر ضعفك، وألّا تدع عينيك تدمع أمامهم؛ فنحن سنبقى أقوياء إذا تبسمنا في وجوههم حتى وهم يهدمون بيوتنا ويقتلون أبناءنا؛ نحن سننتصر على جبروتهم بصمودنا وبتضحياتنا لأنهم الضعفاء، فأصحاب الحق أقوى من الطغاة، وأولادي وكل ما أملك فداء للكرامة ولفلسطين». وقفت هناك متبسما فمرّت، بعد دقائق، من أمامي سجانة لونها كلون القهوة، فسألتني من أنا ولماذا أقف هناك؟ أجبتها وأنا متبسم. ضحكت بغنج مهاجرة افريقية خجولة ووافقت على توصيلي حتى مدخل السجن، الذي كان يبعد عنا بضعة أمتار فقط.
تركت السجن واصطحبت تطبيق «ويز» مجددا، فأوصلني إلى سجن الرملة.
وقفت أمام بوابة السجن الكبيرة وقدمت للسجان بطاقتي.. دخلت غرفة الانتظار؛ حاولت أن أبتسم فكان وجه ناصر المتعب أمامي والبسمة عاجزة. كنت أعرف ما ينتظرني: ثلاثة من حرّاس القدر يقاومون بجوعهم سطوة السجان، وينتظرونني كي نجد معا دربا للخلاص ومخرجا نحو الحرية والكرامة.
يتبع..
كاتب فلسطيني

 

 

كفرقاسم: من لم يتعلم من

«قرش شدمي» لن تنقذه المليارات

جواد بولس

 

لو كنت مكان الوزير عيساوي فريج، لاعتذرت على الملأ، أمام النائبين أيمن عودة وعايدة توما – سليمان، وأمام زملائهما، النواب في القائمة المشتركة، وأمام عشرات آلاف المصوتين للقائمة وداعميها.
ليس من حق الوزير فريج ممثل حزب ميرتس الصهيوني في حكومة بينيت – لبيد، أن يزايد على نوّاب القائمة المشتركة، لأنّهم أصروا على تقديم اقتراح قانون يطالب دولة إسرائيل بالاعتراف بمجزرة كفر قاسم، وبتحمل المسؤولية عن وقوعها؛ فأسلوبه الغاضب لم يزده احتراما، ولا تعابيره الفظّة والمستفزة التي هاجمهم بها، رفعت من مكانته.
في مثل هذا الأسبوع قبل 65 عاما، وتحديدا في التاسع والعشرين من أكتوبر عام 1956، قتلت، بدم بارد، كتيبة ما يسمى «حرس الحدود الإسرائيلي» سبعة وأربعين مواطنا عربيا من سكان قرية كفر قاسم؛ وكان من بين ضحايا تلك المجزرة أطفال وشيوخ ونساء، لم يقترفوا أي ذنب سوى أنهم وصلوا عند تخوم قريتهم وقت حظر التجوّل، الذي لم يعرفوا به قبل مغادرة بيوتهم في ساعات الصباح.
أذكر أننا طلاب كلية الحقوق في الجامعة العبرية في القدس، تعلّمنا، قبل أربعين عاما، عمّا حصل في ذلك اليوم في كفر قاسم؛ بيد أن المحاضر لم يسمّها مجزرة، ولم يبدِ أي تحفظ أو انتقاد «لجهاز العدالة» الإسرائيلي، الذي برّأ قضاتُه قائدَ المنطقة، المدعو يشكا شدمي، من تهمة القتل العمد وأدانوه بتهمة «تجاوز الصلاحيات»، وحكموا عليه بالتوبيخ وبغرامة مقدارها قرش واحد؛ أصبح يعرف «بقرش شدمي» الذي اتخذه المواطنون العرب رمزا للتعبير عن سخطهم على جهاز القضاء الإسرائيلي، وعن مشاعرهم بفقدان الثقة بعدل الدولة تجاه مواطنيها العرب. لقد علّمونا في حينه أن الضابط الذي نفّذ أوامر قتل الأبرياء تجاوز صلاحياته، لأن «راية سوداء» كانت ترفرف عليها وكانت، لسوادها، توجب رفضها وعدم الالتزام بها. لم أصطدم في الماضي مع الوزير عيساوي فريج، الذي أكن له احتراما، ولا مع حزب ميرتس الذي ينتمي إليه منذ سنوات طويلة؛ وعلى الرغم من وجود اختلافات وخلافات سياسية واضحة بيننا، دأبتُ على التمييز بينهم وبين حزب العمل، وبينهم وبين سائر الأحزاب الصهيونية، لاسيما اليمينية منها والفاشية. أقول ذلك مقتنعا بأن الحالة الهستيرية التي وقع الوزير فريج تحت تأثيرها وأدت إلى هجومه غير المسبوق على نواب القائمة المشتركة، هي نتيجة للوضع غير الطبيعي الذي أفضى إلى استوزاره طوعا في حكومة يقف على رأسها زعيم متدين ويميني وتدعمها أحزاب يمينية عرف زعماؤها بمواقفهم العنصرية تجاه المواطنين العرب والعدائية الاستيطانية تجاه الفلسطينيين وأراضيهم. ما شاهدناه من على منصة الكنيست يوم الأربعاء الفائت، كان في الواقع انعكاسا لتلك الحالة السياسية الشاذة، التي أتوقع أنها ستتكرر في المستقبل؛ وهي الحالة نفسها التي دفعت، عمليا نواب الحركة الإسلامية، بعد قرارهم بدعم هذه الحكومة، للتصرف بعكس ما كان يتوقع منهم، أو بالتنكر التام لممارسات الحكومة ولخططها التوسعية في القدس، وفي الأراضي الفلسطينية، وتشجيعها لاقتحامات المستوطنين لباحات المسجد الأقصى، وفي استمرار تنفيذ سياساتها العامة في معظم الميادين، وفق المفاهيم السلطوية الصهيونية القديمة، التي يمكن أن نعبر عنها، مجازا، بالاستعانة  «بقرش شدمي «وبرايته السوداء التي خرقتها العواصف والرياح، ولم يبق منها الا غبار الرصاص والأسى.

من المؤسف حقا أن يسقط قانون مجزرة كفر قاسم في زمن حكومة مدعومة من نواب إسلاميين وأحزاب «يسارية»

لقد صرّح الوزير فريج بأن عرض القانون من قبل النائبة عايدة توما للتصويت في قاعة الكنيست قد تم بغرض إحراجه، وهذا الادعاء هو نفسه الذي لجأ إليه نواب الحركة الإسلامية، عندما عارضوا مشاريع قوانين قدّمها نواب القائمة المشتركة وأسقطوها بحجة الإحراج أمام حلفائهم من أحزاب اليمين. فهل علينا إذن أن نقبل، باسم ذلك الحرج، تهافت نواب الحركة الإسلامية ودعمهم المطلق لحكومة إسرائيل؟ أو أن نبرر للوزير فريج وغيره مثل تلك الانزلاقات، واستعمال اللغة واتهامات اليمينيين نفسها بحق القادة العرب، لدرجة أنه حاز تصفيق العنصري ايتمار بن جبير؟
نعيش، نحن المواطنين العرب، في خضم أزمة حقيقية؛ وما نراه يتداعى أمامنا، منذ انتهاء عملية الانتخابات الأخيرة، وإقامة حكومة بينيت – لبيد، بدعم من الحركة الإسلامية وحزب ميرتس، ما هي إلا أعراض لتلك الازمة الخطيرة ولنتائجها.
واذا عدنا لقضية المجزرة في كفر قاسم، فسنجد أنها حظيت عبر السنين بإدانات شعبية ومؤسساتية إسرائيلية واسعة، بخلاف ما يدور من نقاشات داخل المجتمع الإسرائيلي حول مجازر أخرى نفذتها المنظمات الصهيونية، على اختلافها، بحق المواطنين الفلسطينيين، في قرى ومدن عديدة خلال عامي 1947 و1948. ويكفينا أن نتذكر هنا خطوة رئيس الدولة السابق رؤوبين ريفلين، الذي قرر في عام 2014، مشاركة أهالي كفر قاسم في الذكرى الثامنة والخمسين للمجزرة، رغم تحذيرات مستشاريه، ووقف أمام النصب التذكاري وأعلن: «جئت اليكم اليوم، كفرد من أبناء الشعب اليهودي، وكرئيس لدولة إسرائيل، كي أقف أمامكم، عائلات الضحايا والجرحى، لأتألم معكم في هذه الذكرى».  لقد كان ريفلين الرئيس الإسرائيلي الأول الذي بادر بنفسه لزيارة كفر قاسم في ذكرى وجعها، محاولا تضميد بعض من جرحها، الذي ما زال مفتوحا؛ فلماذا تغيب هذه الحقيقة عن نواب الإسلامية وعن وزراء ميرتس؟ ولماذا لم يحاولوا إقناع حكومتهم بدعم القانون وإغلاق واحدة من دوائر الدم الكثيرة في تاريخ السيرة والنسيرة الفلسطينية؟
انني أسأل وأعرف الجواب؛ فنهج نواب الإسلامية الذرائعي، وتحييد دور النائب مازن غنايم الوافد من أحضان القومية التجمعية، ومهادنة حزب «ميرتس» لسياسة بينيت- لبيد، أو مقايضتهم مصلحة بمصلحة، سيتسببوا بتقويض شروط تعاقدنا التاريخية مع الدولة، وإلى تغييب أحد أركان تلك الشروط، وهو دور هويتنا الجامعة وما ترتب ويترتب عليها من حقوق وواجبات، في ترسيم حدود علاقتنا مع النظام السياسي المركزي. من المؤسف حقا أن يسقط قانون مجزرة كفر قاسم في زمن حكومة مدعومة من نواب إسلاميين وأحزاب «يسارية» وذلك ساعة اختارت فيه جريدة «هآرتس» أن تخصص افتتاحية عددها الصادر يوم الأربعاء الماضي تحت عنوان «اعتراف واعتذار وتعلم» وتختتمها بأمنية قالت فيها: «الآن، مع التحالف الحالي في الكنيست، هناك فرصة لتصحيح الظلم التاريخي والاعتراف رسميا بمسؤولية الدولة عن هذه الجريمة، والاعتذار الكامل والصادق لعائلات الضحايا ودمج قصة المجزرة في المناهج الدراسية». ولكن بينيت وأمثاله، من أهل اليمين والعنصريين، يعرفون معنى اعتراف دولة إسرائيل بمجزرة واحدة، ويستشعرون ما قد يترتب على تحمّلهم الرسمي لمسؤوليتها، ولذلك، لأنهم يعرفون، أنهم سوف يستمرون بمحاولاتهم لإجهاض كل مبادرة من شأنها أن تغلق هذه الدائرة، وكيلا تفتح أخرى.
لم يتردد الرئيس ريفلين في عام 2014 ولم يحرج مثل حرجكم اليوم، حين أعلن أمام العالم وقال: «ما حصل في كفر قاسم هو جريمة نكراء يتوجب علينا أن ننظر إليها مباشرة، ولزاما علينا أن نعلّم الأجيال القادمة عن هذا الفصل العصيب وعن خلاصاته».. هكذا قالها بدون تأتأة وبلا مناورات. أما عندنا فمن لم يتعلم من «قرش شدمي» لن تنقذه الخطط الخماسية ولا المليارات.
كاتب فلسطيني

 

فلسطين على موعد مع

الوجع في موسم الجوع الكبير

جواد بولس

 

اكتب مقالتي في وقت يعاني فيه سبعة أسرى فلسطينيين إدارييين مواجع إضراباتهم عن الطعام، الذي بدأه بعضهم قبل أكثر من خمسين يوما؛ بينما قطع فيه الأسيران، كايد الفسفوس ومقداد القواسمة، حاجز الثمانين يوما، وباتا يواجهان، وفق جميع التقارير الطبية، إمكانية الموت الفجائي، أو إصابتهما بأضرار جسدية لا يمكن معالجتها في المستقبل.
لا أعرف كيف سينهي الأسرى إضراباتهم؛ فشرط كل واحد للتوقف عن إضرابه هو أن ينال حريته، أو في أسوأ الخيارات، أن تتعهد قوات الأمن الاسرائيلية بتاريخ محدد للإفراج عنه، على أن يكون قريبا من ميعاد انتهاء مدة أمر الاعتقال القائم.
كنت قد أشرت في الماضي إلى أن الاعتقالات الإدارية بحق الفلسطينيين تعتبر إحدى ممارسات الاحتلال الخبيثة والقاهرة، لا لأنها لا تحترم حقوق الإنسان الأساسية ولا تتيح للأسير فرصة نزيهة للدفاع عن نفسه وحسب، بل لأنها تترك الأسير في حالة من الغموض والقلق المنهك، إذ إنه لا يعرف موعد الإفراج عنه؛ فالقانون العسكري يسمح، عمليا، لقائد جيش الاحتلال تمديد أوامر الاعتقال بحق أي أسير أداري لمدد غير محدودة، على ألا تتجاوز مدة الأمر الواحد فترة الستة شهور. وقد اعتقل عشرات المواطنين الفلسطينيين إدارياً لعدة سنوات، بدون أن تقدم بحقهم لوائح اتهام وبدون مواجهتهم ببيّنات مكشوفة وواضحة؛ وقد صادق قضاة المحاكم العسكرية والمحكمة العليا، بشكل روتيني، على أوامر الاعتقال طيلة سنوات الاحتلال.
قمت بزيارة الأسير مقداد القواسمة الذي يرقد في مستشفى «كابلان» في رحوبوت مؤخرا؛ بعد أن قضت «المحكمة العليا الإسرائيلية» بتعليق أمر اعتقاله الإداري، نظرا لخطورة حالته الصحية، التي بسببها يبطل اعتباره «خطرا» على أمن «المنطقة» وسلامة الناس. نقلت إليه آخر تطورات قضيته، وشرحا عن آفاق تحرّكي القانوني المنتظر؛ علما بأنه، وفق التطور الأخير، لم يعد أسيرا بالمعنى التقليدي للكلمة، ولم يصبح مريضا بالمعنى المألوف للبشر؛ فقرار قضاة المحكمة العليا حوّله إلى «أسيض» (نحت من كلمتي أسير ومريض) وهي حالة استحدثتها قواميس الاحتلال الاسرائيلي، حيث يمكن تطبيقها على الفلسطينيين، إذا ما قرروا أن يواجهوا، بمعدهم الخالية، إرادة السلطان، وأن ينشدوا حريتهم، وهم على حد «الظبات».
كان ضعيف الجسد بشكل مقلق.. سمعني، بعينين سوداويتين مفتوحتين، لكنه لم يقو على الكلام، أدنيت منه وجهي كي أسمع ما يحاول أن يقوله، فوجدت بين الأنفاس إصرارا، وعند كل وقفة أملا ووصية بألا أنحني. قلت له: لكنك تنشد الحياة؛ فنقل كفه ببطء وألقاها على كفي، فشعرت بحرارة وبرعشة وطلبت منه أن ينزل الكمامة عن وجهه، فأنا أومن بالابتسامات، لغة الروح للروح، ففعل، فساحت أمامي بقايا صبح خليلي متعب. حاولت أن أطمئن والديه بما أسعفني الحال؛ لكنّهما يعرفان أن حالته الصحية حرجة، حدثاني عن شعورهما بعدائية الناس وبعض أفراد طاقم المستشفى، خاصة بعد أن ذاع خبر اتصال الشيخ إسماعيل هنية بهما للاطمئنان عن صحة المقداد، وبعد نشر صور ممرضين عربيين وهما يحتضنانه برفق وبمحبة، كنا خارج الغرفة وكنت أتأهب للسفر لزيارة عيادة سجن الرملة، حيث يرقد فيها كل من هشام أبو هواش، وعلاء الأعرج، وشادي أبوعكر، ثلاثة فرسان رفعوا جوعهم سيوفا في وجه الظلم، ومضوا يذيبون أجسادهم مشاعل على طريق قوافل الحرية والفخار. فاتحتني أم مقداد وقالت: «أوجاعه تزداد وأنا يزداد قلقي وتزداد حسرتي عليه. فأنا لا أريد أن يسجل أنه خاض أعلى إضراب عن الطعام ، بل أريد أن أنقذ ابني كي يرجع إلى بيتنا ويأكل من يدي» سمعت كلامها فحزنت وتذكرت أمي، وكم أكره منصات الرياء واجترار الشعارات عند الخطباء والمتاجرة بجوع وبمعاناة العظماء. قد تشتبك تداعيات عملية السادس من سبتمبر المنصرم وهروب الستة أسرى من سجن «الجلبوع» مع قضية الإضرابات الشخصية التي يخوضها في هذه الأيام، كما ذكرت، سبعة من الأسرى التي تنتمي أكثريتهم لحركة الجهاد الإسلامي، ويشارك معهم عناصر من حركة فتح وحركة حماس. فقد قرأنا يوم الأربعاء الفائت بيانا صادرا عن أسرى حركة الجهاد في سجون الاحتلال، أعلنوا فيه عن شروع مجاهدي الحركة بالإضراب المفتوح عن الطعام في كل السجون من الشمال إلى الجنوب. سيكون عنوان الإضراب، كما أعلنوه: «معركة الدفاع عن إرث الحركة الأسيرة وبنيتها التنظيمية» وهو عنوان لافت لخطوة جريئة تستدعي المتابعة والتحقق من مآلاتها ومدى نجاح المبادرين في تطبيق ما أعلنوه من خطوات تصعيدية، وردت في البيان.

تقول أم مقداد: «أوجاعه تزداد، لا أريد أن يسجل أنه خاض أعلى إضراب عن الطعام ، بل أريد أن أنقذ ابني كي يرجع إلى بيتنا ويأكل من يدي»

لن أتطرق، في مقالتي اليوم، إلى مضمون البيان وتبعاته الممكنة المستقبلية؛ فعلينا الانتظار لما ستفضي اليه الأيام المقبلة، وبعدها سأعود لأتناول أبعاد هذه الخطوة وتأثيراتها الممكنة في الحالة السياسية الفلسطينية العامة، وعلى واقع الحركة الأسيرة، التي تعاني من خلل جسيم لم يعد السكوت عنه، كما يبدو، ممكنا. وإلى أن نعود إلى أصداء البيان، سألفت النظر إلى ما جاء في البند الخامس منه، حيث نودي فيه إلى ضرورة «إنهاء الاعتقال الإداري للأخوة المضربين إداريا». إنه مطلب طبيعي لم يكن بمقدور أحد القفز عليه، بيد أنني اعتقد أن المبادرين لهذه الخطوة كانوا قد تنبهوا، وقد أخذوا بالحسبان أن تضمينهم لمطلب كهذا، في هذه المرحلة الحرجة التي يمر بها المضربون السبعة، ليس بالضرورة سيكون في صالح المضربين، بل قد يعقد قضيتهم ويؤخر حلها، خاصة إذا أصرت «لجنة الإضراب» على تحقيق جميع مطالبها الستة الواردة في البيان كشرط للعودة عن خطوتهم. وصلت ساحة سجن الرملة في تمام الساعة الواحدة. دخلت، فاستقبلني سجان، مهاجر روسي يجيد لغة الروبوتات الآدمية، فطلب مني أن أتوجه إلى شبّاك الاستقبال لأسلم بطاقتي وهاتفي ومفاتيح سيارتي. خلف الشباك جلس سجان عربي كان يعرفني، من زياراتي السابقة، فحيّاني بترحاب لم يستحسنه المهاجر، كما فهمت من حركات عظام رقبته. وضعت كل ما عليّ في حاوية صغيرة وأدخلتها ماكينة الفحص وتوجهت نحو بوابة، تشبه مسخا لقوس نصر بلاستيكي، مزنرة بمصابيح حمراء كانت كلّها مطفية، فما أن «دعست على طرفها» حتى بدأت تصفر بأصوات مجنونة. تراجعت إلى الوراء، فقفز السجان المسؤول عن ترويض الآلة وسألني بغضب: هل تلبس حزاما؟ لم ينتظر الإجابة، فأمرني بإزالته وأن أخلع حذائي وإدخالهم في بطن ماكينة الفحص.
انتهت عملية التفتيش بسلام؛ فمضيت بصحبة المهاجر نحو العيادة. كان ودودا بهدوئه وكمامته السوداء التي تغطي أكبر مساحة من وجهه الأبيض. كان صدره منفوخا كصدر رياضي محترف وشعره قصيرا كملاكم. فجأة، سمعته يقول لي بصوت خافت: «قد لا نستطيع دخول العيادة الآن، فلقد علمت أن أحد المساجين قد توفي أو سقط هناك قبل لحظات وهم يحاولون إنعاشه» قالها ببرودة لطيفة واستمر بمشيه. كتمت أنفاسي مستعدا للصراخ، فنظر إليّ فشعرت بأنه لا يكذب عليّ.
وقفت أمام باب العيادة سيارة إسعاف صفراء وحولها عدد من ضباط مصلحة السجون.. توقفنا أمامهم فتعرّف عليّ أحدهم، وهو ضابط صرح أمام زملائه، بنوع من الغبطة، أنه يعرفني منذ ثلاثين عاما. رحّب هذا الضابط بحضوري، لكنه اعتذر مباشرة لأنني لا استطيع الدخول.. فهناك ملقاة جثة أسير كان قد توفي قبل دقائق معدودة؛ ثم أردف، بنبرة مطمئنة: إنه جنائي، وليس من أصحابك!
أرجعوني إلى قاعة الدخول، فانتظرت فيها ساعة. جاء بعدها، كما وعدوني، مرافقي، فأدخلني إلى غرفة المحامين. لاحظت أن سيارة الإسعاف الصفراء ما زالت واقفة على مقربة من مدخل العيادة. سألت مرافقي عنها، فأدار ذراعيه بحركة فهمتها: الأجدر بك ألا تسأل. طلبت إحضار الأسير علاء الأعرج، فأفادني الضابط المسؤول أنهم نقلوه في اليوم نفسه إلى أحد المستشفيات المدنية لإجراء فحوصات طبية. فطلبت الأسيرين هشام أبو هواش وشادي أبوعكر. جاءاني يجرّهما سجّان على كرسيين متحركين، فهما، بعد خمسين يوما من الإضراب عن الطعام، لا يستطيعان المشي كل تلك المسافة. زرت كل واحد منهما على حدة من خلف زجاج بارد وسميك. كان صوتهما عبر الهاتف منخفضا وبطيئا. لقد اشتكيا من أوجاع في الرأس والمفاصل ومن ضعف في الذاكرة، وفي القدرة على التركيز. كانا يتقيآن باستمرار لأنهما لا يشربان إلا قليلًا من الماء. طمأنتهما على العائلة، وأوجزت لهما آخر التطورات مع النيابة العسكرية، ووعدتهما بأن أتابع مع جميع الجهات عساني أنجح بالتوصل إلى حل يرضيان عنه؛ فهما مثل باقي زملائهما يصران على نيل حريتهما والعودة إلى عائلاتهم بكرامة. لم آت معهما على ذكر فكرة الإضراب الكبير، فهذه قصة تحتمل التأجيل.
تركت العيادة وسيارة الإسعاف ما زالت واقفة في مكانها؛ وتذكرت أنهم كانوا ينتظرون حضور وحدة التشخيص الجنائي لتنهي فحوصاتها الميدانية قبل نقل الجثمان. ثم فهمت، وأنا في الطريق إلى خارج السجن، من أحد السجانين، أنهم ما زالوا ينتظرون وصول تلك الوحدة. أدرت ذراعيّ، مقلّدا حركة مرافقي المهاجر، ولم تصبني القشعريرة.
كاتب فلسطيني

 

 

محكمة تجميد العدل العليا

جواد بولس

 

يوم الأربعاء الفائت، وصلت ساحة المحكمة العليا، على غير عادتي، مبكرا بعض الشيء. كانت أخريات الصباح ترحل مثقلة بتناهيد الشرق، وشمس أيلول تتهيأ لتتوسط سماء القدس. كنت مترددا كيف عليّ أن أواجه القضاة، وبينهم سيجلس قاضٍ مستوطن لا يخفي نوازعه السياسية، بل يعبّر عنها، متخفيا بمهنية زائفة، في عدة قرارات شارك في صياغتها، مخالفا رأي الأكثرية فيها تارة، أو مضيفا على رأيهم، من جعبته سهاما واخزة، تارة أخرى.
سرت في الساحة التي كانت، على غير العادة، خالية من الناس. كانت جدران البناية الرخامية ترتفع شاحبة وكأنها أسوار سجن عتيق. لوهلة حسبت المكان مهجورا، لولا حركة حارسين، من وحدة أمن المحاكم، جفلا حين دفعت زجاج باب المدخل الثقيل. ببرود واضح عرضت بطاقتي وتلوت على الحارس تفاصيل القضيتين المسجلتين باسمي، ثم قمت بشكل عفوي بعرض شارتي الخضراء التي تفيد بسلامتي من كورونا، من على شاشة هاتفي؛ فسرّ الشاب من جاهزيّتي ومن كوني مواطنا ملتزما. ثم سألني، متمما واجباته الأمنية، إن كنت أحمل سلاحا ؟ فمددت سبابتي باتجاه فمي فتابعها، بدهشة، ثم تبسم.
جلست على أحد المقاعد الخشبية وأمامي ينحني بهو المحكمة بقوس صخرية ضخمة، مستوحاة من شكل حائط الهيكل الكبير، كانت مضاءة من أشعة الشمس التي تسرّبت من نوافذ عالية، وتدلت كأثداء من السماء، ثم ارتمت على رخام الأرض، فصار أبيض كلون الدهشة. حدّقت في الفراغ الفاهي وتذكّرت أن البناية أقيمت على هضبة لتكون أعلى من بنايتيّ الحكومة والكنيست المجاورتين، برمزية معمارية لسيادة القانون والعدل، كما عبّر عنها الذين بادروا لإنشاء المبنى؛ فالدهاليز فيها مستقيمة كما يتوجب على الحق والقانون أن يكونا، أو كما جاء في سفر المزامير «بارّ أنت يا رب وأحكامك المستقيمة» وكذلك الدوائر استوحيت كرموز توراتية لعلاقتها بمفهوم العدالة وحتميتها في الموروث الديني اليهودي. كنت أقرأ عن حملة التحريض المستفزة ضد ترشيح قاضي المحكمة المركزية في تل أبيب، ابن مدينة يافا خالد كبوب، أمام لجنة تعيين القضاة ليصبح قاضيا في المحكمة العليا. لقد بدأ التحريض ضد ترشيح القاضي كبوب من قبل جمعية يمينية، قامت بإعادة نشر خبر قديم حول مشاركته، قبل عام تقريبا، في حفل أقيم في مدينة يافا وفيه كرّمت جمعيتان فلسطينيتان من القدس، اسم والد القاضي الذي كان يشغل منصبا رسميا، رئيس لجنة الأوقاف في المدينة حتى وفاته عام 2006. لن أسهب في تفاصيل هذه المسألة، رغم أهميتها، فهي جديرة، لما تثيره من أسئلة وتداعيات على عدة مستويات، بمقالة خاصة. قرأت آراء المحرضين وقرأت أيضا مواقف المدافعين؛ فانتابني غضب شديد، لأن العالم يلهث وراء الخبر الرخيص والتحريض، ويترك ما يجب أن يقضّ مضاجعهم بحق؛ فإذا كانت هنالك حاجة لمحاسبة أي جهة على خطابها، فهي بدون شك هذه «المحكمة العليا» التي يجب أن تحاسَب على قبولها بضم قضاة يستوطنون أراضي فلسطينية محتلة، ويخرقون القوانين، ويشاركون بارتكاب ما يجمع قانون الأمم على تعريفه كجريمة حرب واضحة.

قرار «التجميد» يشكل «اختراعا» خبيثا يفضي عمليا إلى ترحيل المسؤولية عن حياة الأسير بحجة أنه مجرد مريض يعالج في المستشفى

قررت أن أكون صداميا مع القضاة؛ رغم شعوري بالإحباط والتعب؛ فهم، هكذا تذكّرتهم، لم يكونوا سعاة حق ولا دعاة إنصاف؛ وأنا لم أذق منهم ولا مرّة، خلال أربعين عاما، هي عمر وجعي أمامهم، طعم العدل، بل كانت الخسارة دوما من نصيبي، وكان القهر والحسرة حصة مَن جئت لأدافع عنهم. دخلت القاعة قبل موعدي.. كانت مندوبة نيابة الدولة تدافع عن قرار شرطة إسرائيل بإغلاق ملف شكوى قدمها مجلس قروي فلسطيني في محافظة نابلس، ضد جمعية دينية يهودية دعت من خلال إعلانات منشورة، إلى حملة تجنيد أموال من أجل البدء في بناء مستوطنة على أراض فلسطينية خاصة. لم يستوعب القضاة، هكذا فهمت من خلاصات ما سمعته بعجالة، موقف الشرطة الذي لم يكن مدعوما بأي مبرر أو مسوّغ قانوني، بعكس موقف جمعية «يش دين» (يوجد قانون) وهي الجهة الملتمسة باسم مجلس القرية الفلسطينية، التي دعّمت موقفها بجدارة قانونية، وبما تملكه من مصداقية مهنية أثبتتها تقاريرها في كشف موبقات الاحتلال ووكلائه من جمعيات استيطانية أو محاكم عسكرية وغيرها. كانت القاعة خالية إلا من مندوبتين عن جمعية «يش دين» وبعض أعضاء الجمعية الاستيطانية ومندوبة عن الشرطة. كان القضاة الثلاثة غاطسين في مقاعدهم وتلف وجوههم كمامات زرقاء، مثل كمامات سائر الحاضرين؛ فبدوا، من بعيد، كثلاثة كائنات خرافية في قصة من عالم الخيال. ملأ النعاس القاعة، وكادت رتابة صوت مندوبة الدولة، أن تنيم الحاضرين، لولا احتجاجات القاضيين على كلامها، التي كانت تسمع، من حين لآخر، كهمهمات رجال إطفاء متعبين. لم يتدخل القاضي المستوطن بمجريات القضية، بل حافظ على نعاسه ملقيا خده الأيسر على كف يده، برسالة منه لجميع الحاضرين تفيد بأنه خارج «لعبة» زميليه القاضيين. تلوا قرارهم بسرعة « الحانقين» وأعلنوا عن استراحة لمدة نصف ساعة.
كلّفتُ بالدفاع عن الأسيرين مقداد القواسمة، من مدينة الخليل، وعلاء الأعرج، من مدينة عنبتا، المعتقلين إداريا في سجون الاحتلال، على أنهما ناشطان في صفوف «حركة حماس» ويشكلان خطراً على أمن وسلامة الجمهور. كلاهما مضرب عن الطعام احتجاجا على اعتقاله تعسفيا ومن دون تهم عينية، ويطالبان بنيل حريتهما بشكل فوري. بعد انتهاء الإجراءات بحقهما في المحكمة العسكرية، تقدمت بالتماسين للمحكمة العليا، وطلبت فيهما الإفراج عنهما. قدّمت النيابة العامة الإسرائيلية ردها على الالتماسين مطالبة بردهما وإبقاء الأسيرين رهن الاعتقال، على الرغم من تسلّمها لتقريرين طبيين يصفان خطورة وضعيهما، بما في ذلك تأكيد على أنهما يواجهان احتمال الوفاة، أو إصابتهما بضرر جسدي غير قابل للعلاج.
عاد القضاة إلى القاعة، فسألني رئيس الجلسة إذا استلمت التقرير الطبي الخاص بالأسير علاء الأعرج؛ فبناء على ما جاء فيه، فإنهم يتجهون نحو تعليق/تجميد أمر الاعتقال الإداري بحقه. ثم تحول القاضي إلى النائب العام وسأله حول موقفه في هذه المسألة، رغم أنها مسألة محسومة بناء على السوابق التي حصلت في الماضي بحالات مشابهة. دهش القاضي عندما سمع رفض مندوب النائب العام لموقف المحكمة، فطلب منه القاضي أن يستفهم من مسؤوليه في وزارة القضاء عن موقفهم النهائي. أظهر القاضيان غضبهما من موقف النيابة المتحدي للمحكمة، فاضطروا لإصدار أمر احترازي طالبوا فيه النيابة تقديم مسوّغاتها لرفض مقترحهم، على أن تتم مناقشة القضية في اليوم التالي. لم يكن في القاعة سوانا نحن، المحامين ومندوبي المخابرات العامة، فالأسيران لم يحضرا بسبب سوء حالتيهما الصحية، والعائلات الفلسطينية ممنوعة، على الغالب، من دخول إسرائيل. انتقل القضاة لسماع ملف الأسير مقداد القواسمة، الذي يرقد في حالة خطر قصوى في مستشفى «كابلان» الإسرائيلي. توجه القاضي لمندوب النيابة سائلا عن موقفهم إزاء إمكانية تعليق أمر الاعتقال بحق الأسير مقداد، فلم يعطه النائب ردا إيجابيا في البداية، إلا أنه تراجع في اللحظات الأخيرة ووافق على مقترح المحكمة فصدر قرارها بتعليق أمر الاعتقال.
خرج القضاة مسرعين كالصدى. وقفت، أمام الحجارة الصماء، محاولا أن ألملم بقايا روح وأمضي. شعرت بوحدة قاهرة وتمنيت، لحظتها، أن احتضن أحفادي وبينهم أبكي. تنبّهت إلى هرمي. أردت أن أصرخ، لكنني خفت أن يخونني دمعي. أبكيت؟ لا أذكر فأنا لم أهزم إلا مجازا. أضحكت؟ لا أذكر، فأنا لم أنتصر إلا مجازا. هكذا حاربتهم كل دهري: في صدري لغم والسراب حلمي.
كانت أم مقداد تنتظر اتصالي فسارعت وأخبرتها أن مقداد انتصر، فأمثاله يصنعون أقدارهم وغصاتنا. ثم قلت لصحافي كان برفقتي أن يكتب: إن تعليق/تجميد الاعتقال الإداري لا يعني إلغاءه، لكنه بالحقيقة إخلاء مسؤولية إدارة سجون الاحتلال والمخابرات عن مصير وحياة الأسير القواسمة وتحويله إلى «أسير» غير رسمي في المستشفى، حيث سيبقى تحت حراسة «أمن» المستشفى بدلا من حراسة السجّانين، وسيبقى فعليا أسيرا لا تستطيع عائلته نقله إلى أي مكان، علما بأن أفراد عائلته والأقارب يستطيعون زيارته كأي مريض، وفقا لقوانين المستشفى. إن قرار «التجميد» يشكل «اختراعا» خطيرا لجأت إليه نيابة الاحتلال، ودعمته المحكمة العليا كحل قضائي خبيث يفضي عمليا إلى ترحيل المسؤولية عن حياة الأسير بحجة أنه من اليوم فصاعدا مجرد مريض يعالج في المستشفى.
فليكن قلت في سرّي.. لكنه حيّ ويقاوم.
يتبع..
كاتب فلسطيني

 

 

بين غزة وكفرقاسم…

مواطنة ودموع وهوية

 

جواد بولس

 

أثارت تصريحات القيادي عضو الكنيست عن «الحركة الإسلامية الجنوبية» وليد طه، بخصوص موقف حركته إزاء حكومة إسرائيل، في حالة اتخاذها قرارا يقضي باجتياح قطاع غزة، غضبَ عدة جهات عربية وإسلامية، محلية وخارجية؛ وقد يكون أبرز وأحدّ تلك الردود، ما جاء على لسان الناطق باسم حركة «حماس» الذي وصف، من غزة، تلك التصريحات بأنها تمثّل «سقوطا وطنيا وقيميا، وانسلاخا عن الهوية الفلسطينية، ولا تخدم إلا أهداف الاحتلال الإسرائيلي، الذي يعمل على تمزيق وحدة شعبنا ومكوٌناته الوطنية والنيل من صموده». لست بصدد الغوص بما قصده النائب وليد طه في هذه المسألة، ولا مقارعته حول مواقفه إزاء معضلات وحالات، نظرية ومفترضة، أخرى، فأنا لا أومن بأهمية محاولات إحراجه وزملائه، بأسئلة حول إمكانيات تراجعهم المستقبلي عن دعم حكومة «بينيت – لابيد»، وفي أي شروط وأي حالات؟
إنّ اللجوء إلى التضييق عليهم بمثل هذه المسائل الافتراضية قد يحرجهم، قليلا ولمدة قصيرة، لكنه يزودهم، في الواقع، بمسارب للتهرب وبهوامش للتأويل وبفرص للمضي قدما على طريقهم؛ لذلك يبقى الأهم، في حالتنا السياسية التعيسة، نحن المواطنين العرب في إسرائيل، هو مواجهة برنامجهم السياسي المعلن، وخيارهم في دعم هذه الحكومة، والتصدي لنهجهم كما يمارسونه على أرض الواقع. ويكفي أن نرصد يوميا نشاطات قادة الحركة ومؤسساتها التنظيمية في مدننا وقرانا، وأن نتابعهم وهم يتصرفون كجزء عضوي من السلطة الحاكمة في إسرائيل، وكممثلين لحكومتها، والقيّمين على تسويقها داخل المجتمع العربي وهيئاته القيادية، وفي طليعتها المجالس البلدية والمحلية، التي قام رؤساؤها، في بلدات الجنوب البعيد حتى أعالي الجليل، باستقبال نواب الحركة ووفودها، وتباحثوا معهم، كما جاء على صفحة الدكتور منصور عباس، حول سبل تقديم المساعدات المالية لهذه البلدات وطرق التواصل المستقبلي بينهم.
لقد جوبهت بعض تصريحات ممثلي الحركة الإسلامية في الكنيست بالمعارضة وبالانتقادات الشديدة، ووصفت من قبل قادة الأحزاب والحركات والمؤسسات العربية والناشطين داخل مجتمعنا العربي بتعابير قاسية أحيانا؛ ورغم تلك الحملات لم تتراجع الحركة عن طريقها، بل على العكس تماما، كان مجلس شورتها يعلن، في كل مرّة ترتفع فيها أصوات المنتقدين وتشتد لغتهم، عن دعمه السياسي الكامل لقائدها، الدكتور منصور عباس، وعن موافقتهم على ما يقوم به ممثلوها في الكنيست.

قادة الماضي، سواء في منظمة التحرير الفلسطينية أو في الداخل، فرضوا حالة من الوضوح السياسي وناضلوا في سبيل الوطن، ومواطنة كاملة كريمة ومتساوية

لم تفاجئنا الحركة الإسلامية بممارساتها الحالية؛ فهي تتصرف وفق الصورة التي توقّعها المحللون والمراقبون بعيد انتهاء المعركة الانتخابية الأخيرة وشروع الدكتور منصور بتفكيك معاني الشعارات التي رفعتها الحركة كرايات عقائدية، وبدئه بتطبيقها على طريقته الذرائعية، وباسم وسطية سوّغت له الانضمام إلى الحكومة، رغم ما جاء في برنامجها السياسي الذي وضع بهدي «قانون القومية»، ومخططاتها للإبقاء على الاحتلال والاستيطان ومحاصرة غزة.
ما أحاول قوله، في هذه العجالة، إنني وغيري، كنا قد توقعنا، في المشهد الإسرائيلي المستجد، وفي حالة التيه السياسي والهوياتي الذي تعيشه مجتمعاتنا، كيف ستتصرف الحركة الإسلامية، وأشرنا إلى مبرراتها العقائدية الجاهزة، وإلى دوافعها السياسية والاجتماعية المعلنة؛ وأشرنا في الوقت نفسه، إلى ضرورة إعداد خطط سياسية لمواجهة هذه الحالة غير البسيطة والمتنامية بين فئات شعبية واسعة. لم يكن هذا التوقع صعبا ولا مستحيلا، لاسيما بعد أن كان واضحا أن الحركة الإسلامية ستحصل، بالتوافق مع مخططات مستشاري الحكومة المتخصصين بأوضاع «الوسط العربي»، على كمشة من المحفزات المادية، التي من شأنها أن تثير شهية شرائح سكّانية محتاجة، وتدفع ببعض القطاعات المدنية التكنوقراطية نحو التعاون مع الحكومة، ومع ممثليها، على أمل موهوم بتحسين ظروف الناس الحياتية، خاصة بعد انتشار مقولة «لقد انهكتنا السياسة العقيمة ومواقف من تاجروا فيها»، أو غيرها من المقولات والشائعات المغرضة بحق شرعية المطالبة بحقوق المواطنين، ودور مؤسساتهم القيادية التاريخية التقليدية ومن يقف على رؤوسها. حاول النواب عن القائمة المشتركة التصدي لسياسة الحكومة تجاه الفلسطينيين وسياستها تجاهنا، نحن المواطنين العرب، وأكّدوا أن إسناد نواب الحركة الإسلامية للحكومة، بدون أي مقايضة جدّية أو اشتراطات سياسية تذكر، سيفضي حتما إلى ترسيخ تبعات «قانون القومية» وإلى إحكام سياسة الأبرتهايد ضدنا، حيث سنمضي معها، كما مضى «طرفة بن العبد»، وهو يحمل «صحيفة المتلمس».
كم قلنا إن ما يقوم به نواب المشتركة، أو على الأصح ما لا يقومون به، لا ولن يكفي في مواجهة الحالة التي أفرزت تنظيما محكما كالحركة الإسلامية، وزوّدته بشعبية وازنة، وبقوة تأثير لافتة؛ فمن غير استحداث بنى حزبية منظمة ومهيئة لاجتراح سياسات جديدة وصحيحة وواضحة وقادرة على اختراق حالة العزوف الشعبي المهيمنة، ستبقى المقولات التضليلية سيدة الفضاءات «المحافظة» وملاجئ سهلة للنفوس العاجزة. ومن المفيد أن نتذكر أن الحركة الإسلامية استغلت الالتباس الذي خلّفه الغموض في مكنونات وحدود فكرة الدمج بين استحقاقات الوطن، وضرورات المواطنة؛ فحين وقعت هذه الفكرة فريسة بين من نادى بها بخجل وبتأتأة من جهة، ومن هاجموها بصرامة من جهة ثانية، لم يدافع عنها، بجرأة سياسية وبحسم موضوعي، المؤمنون بصحتها، بل عاملوها بتردد وبضبابية، خلقت كثيرا من البلبلة والتخبط، وسمحت للكثيرين، ومنهم للحركة الاسلامية، تطويع مسألة المواطنة وتطبيقها بشكل منقوص ومشوّه، إلى حد الارتماء أمام عتبات السلطان وتوسل الصدقات من بابه! لم تكن مسألة المواطنة هي الوحيدة التي أهملت القائمة المشتركة مواجهتها وتشخيصها بحكمة وبجرأة وبمسؤولية؛ ويكفي أن نعود إلى رزمة التساؤلات التي انكشفت في أعقاب هروب الأسرى الفلسطينيين من سجن «جلبوع» وما أثارته من نقاشات حول طبيعة علاقتنا كمواطنين مع إسرائيل ومع ابناء «الحركة الأسيرة الفلسطينية»، وكيف يجب أن نقيم التوازن السليم والمقبول بين شقي المعادلة التي نحيا في ظلها، كفلسطينيين في وطننا ومواطنين في دولتنا. لم تكن هذه الإشكالات في الماضي القريب جائزة وشائعة، كما هي عليه اليوم؛ فقادة الماضي، سواء في منظمة التحرير الفلسطينية أو في الداخل، فرضوا حالة من الوضوح السياسي والتوافق حول كيفية ضمان التكامل النضالي بين جميع فئات الشعب وحسب أماكن تواجده، فأمنوا، بسبب ذلك، الوقوع في الحفر السياسية وناضلوا، كل من موقعه، في سبيل الوطن، ومن أجل مواطنة كاملة كريمة ومتساوية. ولكن عندما ترهّلت الأطر القيادية وضعف قادتها، اختلفت الموازين وسادت فوضى الشعارات وتخلخل معنى الالتزام، حتى وصلنا إلى حالة نقرأ فيها بيانا لحركة «حماس» وهي تحيي فيه «جماهير شعبنا الفلسطيني في مدن الداخل المحتل، الذين انتصروا للقدس والأسرى، ولا يزالون متمسكين بأرضهم وهويتهم الوطنية ويرفضون سياسة الاحتلال العنصرية وهمجيته بحق شعبنا ومقدساته» ثم ينهونه بدعوة مباشرة وصريحة «إلى جماهير شعبنا في الداخل وقواه الحية وأحزابه المختلفة إلى إدانة هذا الموقف اللاوطني، الذي لا يمثل إلا وليد طه». فهل فقدنا، نحن المواطنين العرب في إسرائيل، «يواطرنا»، وصرنا جماهير مناصرة أو جنودا لدى «حركة حماس» أو لدى غيرها من الفصائل الفلسطينية الأخرى؟
وأخيرا، لا أعرف مدى تأثير تصريحات النائب وليد طه عندما سئل عن موقفه في حالة اجتياح إسرائيل لغزة، ولا تأثير تصريحات النائب منصور عباس بخصوص الأسرى الفلسطينيين، أو غيرها من التصريحات الخلافية، على شعبية الحركة الاسلامية بين المواطنين العرب في إسرائيل؛ فهذه النتيجة ستبينها نتائج المعركة الانتخابية المقبلة والفاصلة ليس بحق نهج النائب منصور واخوانه وحسب، إنما بحق القائمة المشتركة وجميع مركباتها؛ فهنالك من يجزم باستحالة عبور جميع مركبات القائمة المشتركة لعتبة الحسم، إذا خاضوا المعركة وهم منفصلون وهنالك من يعتقد انهم لن يعبروها حتى إذا خاضوها مجتمعين، إذا بقي أداؤهم على ما هو عليه في هذه الأيام. وإلى أن نتبين ذلك علنا نصحح ما جاء في بيان حركة حماس، فالنائب وليد طه لا يمثل فقط نفسه، كما جاء في البيان، بل يمثل حركة إسلامية وليدة فكر إسلامي قديم ومعروف، وتحظى بشعبية لافتة وبأربعة مقاعد في البرلمان الصهيوني وشراكة مع حكومة اسرائيل وتأثير لا يستهان به.
أما بخصوص مواقفنا الوطنية واللاوطنية، فهذه قضية لم نتفق عليها في مطارحنا، كما ترون، ولن نتفق عليها، كما يبدو؛ ألم تعرفوا أن بين كفرقاسم وغزة، دمعة حرّى وهوية زرقاء ونداءات وطن؟ فارجوكم أتركونا كي نقتلع أشواكنا بأيادينا؛ ولغزة منا الحرية والحياة والسلام.
*كاتب فلسطيني

 

 

 

بين إياد شفاعمرو

وعزيز عمان ميدالية واعتذار

جواد بولس


لقد حظيت أخبار فوز الشاب إياد شلبي ابن مدينة شفاعمرو بميداليتين ذهبيتين في أولمبياد طوكيو لذوي القدرات المحدودة، بأصداء إيجابية لافتة في الإعلام العبري والإعلام العربي على حد سواء. ويعدّ هذا المديح المضاعف في حياتنا، مؤشرا لغرابة الحدث أو لكونه «شاذا»؛ ويعكس، في واقعنا المركب، إشكالية تتخطى تبعاتها شؤون الشخص نفسه، أو حتى عائلته أو مدينته.
نحن أمام دليل آخر على تعقيدات علاقاتنا مع الدولة؛ فإياد شلبي المواطن المسلم العربي، فاز باسم دولته إسرائيل بميداليتين ذهبيتين واستلمهما، على إيقاع نشيد هتكفا الصهيوني، كبطل إسرائيلي «كاشير». مع ذلك قامت عدة قيادات وشخصيات عربية بتهنئته على إنجازه الكبير، فكتب ابن مدينته محمد بركة رئيس لجنة المتابعة العليا: «الآن شفا عمرو تحتفل بعودة ابنها وابن جماهير شعبنا كله، البطل العالمي إياد شلبي. إياد حقق ميداليتين ذهبيتين في أولمبياد طوكيو لذوي القدرات الخاصة. فخورون بإياد وفخورون بأهله الإعزاء الكرام».
وقامت عدة مرجعيات رسمية إسرائيلية بتهنئته بحرارة، برز من بينها رئيس الدولة يتسحاك هرتسوغ، ووزير الثقافة والرياضة حيلي طروبر، الذي أعلن بدوره: «أنه انتصار كبير. كل التهاني لسبّاحنا الإسرائيلي.. إياد هو شخص مثير للإعجاب. نحن فخورون بك إياد شلبي». سيبقى، رغم هذا الاشتباك، إيادنا بطلا عالميا ويستحق تقديرنا وإعجابنا.

عزيز مرقه «يا باي»

لا أعرف لماذا نشر، قبل يومين، الفنان الأردني عزيز مرقة، صاحب الأغنية الشهيرة «يا باي» على حساب الفيسبوك الخاص به اعتذارا يبدو، من حيث موضوعه وتوقيته الحالي، غريبا ومستهجنا ومثيرا للشفقة؛ حيث جاء فيه: «أود أن اعتذر عن أسفي الشديد واعتذاري الأكيد عن الأخطاء التي ارتكبتها دون تثبت منّي للظروف التي أحاطت بالفعالية التي أقمتها بتاريخ 2019/12/16 لأهلنا في كفرياسيف المحتلة من الداخل الفلسطيني، بناء على دعوة من بلديتها، وأوكد أنني ضد التطبيع بكل أشكاله، قولا وفعلا، وأنني التزم من الأن فصاعدا بالمعايير التي أجمعت عليها الهيئات المناهضة للتطبيع مع العدو الإسرائيلي، وأنني أؤكد أنه لم يكن لديّ في أي وقت من الأوقات علاقة بالكيان الصهيوني.. إنني اتحمل مسؤولية جميع الأخطاء المتعلقة بي من هذه القضية، ومرة أخرى أعتذر من كل قلبي لأهلي وشعبي الفلسطيني وأمتي العربية عن تلك التجربة المريرة التي آلمتنا جميعا»! لقد أعادنا هذا المنشور إلى ملابسات حدث جرت تداعياته على خلفية إحياء الفنان عزيز مرقة حفلا غنائيا ناجحا، نهاية عام 2019، في قرية كفرياسيف الجليلية، حل فيه ضيفا على أهل الجليل وشاركهم الفرحة، ملبيا دعوة مجلس القرية المحلي، كضيف خاص على هامش احتفالات «الكريسماس ماركت» التي استمرت فعالياتها الثقافية والفنية لمدة أربع ليال متتالية. لن أنهك القراء بتفاصيل تلك الحادثة؛ ففي حينه تعرّض الفنان الأردني/الفلسطيني، بسبب تقديمه للعرض الفني في كفرياسيف، إلى هجوم كاسح من قبل ناشطين يعملون فيما يسمى «اللجنة الفلسطينية لمقاطعة إسرائيل من الداخل (BDS 48)؛ ورغم الظلم الذي سببه ذلك الهجوم عليه، واتهامهم الجائر له بالتطبيع مع العدو الصهيوني، أعلن هو في حينه عن اعتذاره الصريح، لاعتبارات يستطيع كل مواطن عربي واع وصادق مع نفسه، أن يتخيّلها، ثم طلب ممن هاجموه العفو وصك غفرانهم.

علّمنا أجدادنا الذين رفعوا في وجه الليل المناجل وخاطوا من الكرامة للوطن كوفية، أن نرفض الذل والتذلل

ما زال، على ما يبدو، عزيز مرقة ملاحقا بسبب تلك الزيارة من قبل بعضهم في بلده، أو ربما في محافل أخرى، وما زال يدفع ثمن غنائه على أرض الجليل؛ فلولا معاناته المستمرة حتى هذه الأيام، هكذا افترض، لما اضطر، بعد مرور قرابة العامين، أن يكرر نشر اعتذاره الآنف، وبلغة محزنة تذكرنا بأجواء محاكم التفتيش البغيضة، وبما ساد في مجالس أمراء الاستبداد. ومن المؤسف، في الوقت نفسه، ألا نسمع أصواتا تدافع عنه وعن أمثاله، ليس من أجل إنصافهم، كفنانين أحرار وحسب، بل من أجل تصويب حالة عربية مشوهة يشوبها كثير من الالتباس والخلل؛ وأقصد تلك الحملات والملاحقات التي تشنها ما تسمى «اللجان الفلسطينية لمقاطعة إسرائيل من الداخل، وما تثيره مواقفهم أحيانا من نقاشات زائدة، وتتيحه نصوص لوائحهم التوجيهية من مغالطات وفرص للمزايدات والبلبلة، التي خلقت في بعض الحالات وتخلق الفوضى في صفوف المناصرين لنضالات المواطنين العرب داخل إسرائيل، وتضر بنشاطاتهم الاجتماعية والثقافية، التي تهدف إلى المحافظة على هويتهم الثقافية الجامعة العريقة، وإلى ترسيخ وجودهم الصلب في وطنهم.
من المؤسف أن يضطر بعضنا، من حين لآخر، إلى العودة ومناقشة تلك اللجان وحثها على ضرورة إعادة النظر في منطلقاتها نحونا، نحن المواطنين العرب في إسرائيل، والتدقيق مجددا فيما يضعونه، جزافا، من مساطر تحرّم علينا وعلى غيرنا القيام، أو عدم القيام بفعل ما، تحت يافطة مقاطعة إسرائيل، العدو الصهيوني. فعزيز مرقة لم يأت إلى كفرياسيف مطبعا مع العدو الصهيوني، بل على العكس تماما، فهو حين وقف على المسرح قرب ساحة السوق الكفرساوية الشهيرة وحيا فلسطين وهو يضم كوفيتها بعفوية ساحرة، روّى حناجر الشباب بحماس وأسقاها حبا أعاد إلى ربوع الجليل وعد أآبائنا الصادق، لكن ما دمنا في حضرة اعتذار جديد لابن الأردن بسبب الظروف التي أحاطت بفعاليته في كفرياسيف، على حد تعبيره، أودّ تذكيره كيف تماوج آلاف الشباب على وقع «دمعته» السخية وهي تغني لهم بفرح جليلي فريد؛ وكيف وقفت الحشود أمامه وقبل مجيئه، على مدار أربع ليال متتالية، كي تنشد للحرية أهازيج من عزة، وترقص بفرح على إيقاعات الجمر الذي أوقده قبله وقبل ميلاد صرعات المقاطعة والتحريم، شاعر صبغ الوطنُ سمرةَ وجهه، فصرخ في وجه القهر والقمع والرصاص معلنا في أحد مهرجانات كفرياسيف التاريخية: «اليوم جئت وكلنا سجناء فمتى أعود وكلنا طلقاء»؛ هذا هو راشدنا، فهل تعرفتم عليه في بلادكم، وهو ينفخ في رماد العرب ويتحلّف دولة القهر ويتوعدها صارخا: «سنفهم الصخر إن لم يفهم البشر».
نحن يا عزيزنا، في كفرياسيف وأخواتها، الرابضات من أعالي جبال الجليل حتى آخر خيمة ساهمة في رمال النقب، ولدنا كأبناء للقلق؛ فعلّمنا أجدادنا الذين رفعوا في وجه الليل المناجل وخاطوا من الكرامة للوطن كوفية، أن نرفض الذل والتذلل، وعلّمونا، أيضا، كيف نعتصر الأمل من بطن غيمة ساهرة لتحرس ساحات البلد. أنا لا أعرف من أو ماذا يجبرك، في هذا الصيف المريض، على نشر اعتذارك بهذا النص المستفز لكل حر؛ لكن عليك أن تتيقن بأن حضورك وغناءك بين أهلك في الجليل، بخلاف لو غنيت في احتفال ترويجي للمؤسسة الصهيونية أو لعملائها، لم يكن تطبيعا مع دولة العدو الصهيوني؛ واعلم كذلك بأن صدى تلك الليالي، رغم ضجيج من هاجموك ورغم اعتذاراتك، بقي في صدور جيل علمه الكبار قبلك وقبلهم كيف تلاطم أياديهم المخارز، وعلموهم ألا يرضخوا لهرطقات مستوردة عرجاء ومغرضة، ولا لسفسطائيات هوجاء ونزقة. لقد اعتذرت يا عزيزنا في حينه أمام قلة هاجمتك، لأنك غنّيت للحب في ساحات كفرياسيف، التي كانت كما وصفها حاديها محمود درويش «بالبيت والطريق» فأحزنتنا وأبكيت نجوم الجليل؛ أو لم تكن تعلم أنك وقفت ليلتها في حضن التاريخ، وغنيت في إحدى قلاعه المنيعة التي وقف على أبراجها «السميح» وخاطب سماءها قائلا: «أنا لا أحبك أيها الموت.. لكنني لا أخافك»؛ وتألق في رحابها قبله رفيقه سالم جبران حين علم الكون درسا في حب الوطن وأنشد: «كما تحب الأم طفلها المشوه أحبها.. حبيبتي، بلادي». فهناك قريبا من حيث وقفت أنت، أشهرَ «الدرويش» هويته في وجه الحاكم الإسرائيلي العسكري وأمره: «سجّل أنا عربي». أولئك، وأمثالهم كثر، هم أهلي وهم بناة هوية شعبي الثقافية؛ فقل لي بربك، يا عزيز، أمام من اعتذرت؟
وأخيرا، أعرف أن القضية لم تبدأ بزيارتك إلينا ولن تنتهي عند مخاضات التطبيع والتتبيع؛ ولذلك ستبقى محاولات إخضاع مجتمعنا العربي في إسرائيل لمفاهيم المقاطعة الثقافية، من خلال استنساخ تجارب هجينة لا صلة لنا فيها، هي مجرد محاولات عاقر لا يمكن أن تلد، إلا الاعتذارات أو المناكفات التي تستفيد منها في النهاية إسرائيل.
لن استعيد اليوم قوائم معضلاتنا التي تنتظر تفكيكها ومواجهتنا لها بجرأة وبحكمة، لكنني سأكتفي بالعودة إلى ما بدأت فيه؛ فإياد الشلبي بطل ذهبي شفاعمري احتضنته إسرائيل بكل دفء ورعاية، ويحتضنه، أهله وأبناء شعبه، بكل تقدير وبجداره.. فماذا سيقول أهل المقاطعة في ذلك؟ أنا لا أنتظر الإجابة من أحد؛ فكما ترى، يا عزيزنا، نحن قوم يعرف بعضنا كيف يفخر بأبطاله، ويصرون، رغم الوجع والالتباس، على أن «ينقوا عدسهم بغرابيلهم» ولا يخشون الوقوع في حفرة، فهذه كي تأمنها يفضل أن تطمرها. وأخيرا، لا أعرف كيف ستعتذر من أمة أضاعت طريقها على ضفاف دجلة والجيحون، وتشتت أبناؤها كحبات الرمل في البحار. أما من أهلك فاعتذر فهم حصنك والأدرى بشعابك، لكن لا تعتذر من شعبك فلقد اتخمته، يا باي، القوافي هباء واعياه، يا ويلي، اللهاث وراء السراب. لك منا كل الحب، ودعوة جليلية خالصة لتحل ضيفا عزيزا في ربوعنا متى ما شئت، واعلم أن بين شفاعمرو وعمان ميدالية وحسرة وحب.
كاتب فلسطيني

 

 

من دلفة الشرطة

إلى مزراب المستعربين

جواد بولس

 

 

أعلنت شرطة إسرائيل يوم الثلاثاء الماضي عن بدء عمل وحدة «مستعربين» سرية ضد العصابات الإجرامية في جميع أنحاء البلاد، وضد أعمال العنف والشغب ومكافحة الإرهاب، خاصة في البلدات العربية.
وقد اطلق على الوحدة اسم «سيناء» وتم تجنيد عناصرها من ثلاثة مصادر رئيسية: الأول، قادة وضباط ومقاتلون خدموا في وحدات «حرس الحدود» التي نشطت في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وفي المناطق المتاخمة للحدود مع قطاع غزة؛ والثاني من مجموعات المقاتلين الذين خدموا في ما يسمى «الوحدة التكتيكية» الخاصة؛ أمّا الباقون فجنّدوا إلى وحدة «حرس الحدود» من بين الوحدات الخاصة في الجيش.
لقد جاء إعلان الشرطة المذكور بعد إعلانها قبل أسبوعين عن إقامة وحدة «سيف» لمكافحة الجريمة والعنف في المجتمع العربي، وتعيين اللواء جمال حكروش رئيسا لها.
تعكس هذه القرارات حالة التخبط والهلع الذي بدأ يتسرب إلى صفوف قادة الشرطة الإسرائيلية؛ فتزايد وتائر العنف وأعداد الضحايا في معظم البلدات العربية، وبروز بدايات النشاط الإجرامي ضد مصالح بعض المواطنين اليهود، أو ضد بعض المسؤولين الرسميين، دفع ببعض الجهات الأمنية إلى إعادة النظر في فهمها التقليدي لتلك الظواهر، ولاحتسابها مجرد «مصائب قوم عند قوم فوائد» أو وفق منطق مفاده، فليقتل العربُ العربَ، وليصرخ دمهم كي يعيشوا بخوف وبدون استقرار.
من الصعب أن نعرف اليوم عمق هذا التحول المفاهيمي، ومن يدفع باتجاهه داخل دهاليز المؤسسة الحاكمة؛ لكن من الجدير أن نتابعه بعناية، وأن نتحقق من جدّيته، خاصة بعد أن بدأنا نسمع مؤخرا عن تحوّلات لافتة في مواقف بعض القادة السياسيين والمسؤولين الأمنيين، الذين أعلنوا بلغة قاطعة عن قناعتهم بأن أزمة تفشي العنف والجريمة في المجتمعات العربية بدأت تهدد أمن وسلامة الدولة، فنتائجها الكارثية سوف تؤثر في تماسك المجتمع في الدولة وفي مكانتها وتأثيرها بين جميع المواطنين.
مع إعلان المفتش العام للشرطة عن إطلاق وحدة المستعربين «سيناء» وبدء نشاطها داخل البلدات العربية، أعلنت، مباشرة، عدة شخصيات قيادية ومؤسسات مدنية عربية معارضتها للقرار، الذي اعتبر استفزازا مدروسا بحق المواطنين العرب.

في غياب دور الدولة الطبيعي في حماية مواطنيها، وجدت عناصر الإجرام، على اختلاف انتماءاتها، تربة خصبة، فتكاثرت مثل الشر المنفلت

كل ما قيل ضد هذا القرار صحيح، ويبرر ضرورة معارضته بالمطلق، تماما كما فعل رئيس اللجنة القطرية للرؤساء المحامي مضر يونس، الذي أكد على «أنه لم يتم طرح فكرة الاستعانة بوحدة «المستعربين» من قبل الطواقم الحكومية وقيادة الشرطة الإسرائيلية خلال المشاورات والاجتماعات التي عقدت مع وفد لجنة الرؤساء القطرية حول الخطة الحكومية لمكافحة العنف والجريمة؛ على الرغم من أن الشرطة ذكرت أنها ستستعين بوحدات خاصة لمكافحة العنف والجريمة، بدون أي ذكر لطبيعة تلك الوحدات، وبدون ذكر وحدة المستعربين». في الواقع تكفي هذه الشهادة برهانا على أن قرار إقامة «وحدة المستعربين» لم يأت نتيجة لتغيير جذري في عقلية جهاز الشرطة إزاء حق المواطن العربي بالعيش بأمن وبحرية وبكرامة، وبدون خوف؛ لاسيما انه أُسقط «من فوق» وبدون إعدادت مسبقة لتسويغه، علما بأن الجميع يعرف عن «ثقافة كراهية العرب» التي تربت عليها وحدات «المستعربين» ودورها التاريخي في نشاطات المنظمات الصهيونية، وممارساتها المتواصلة ضد المواطنين الفلسطينيين في الأراضي المحتلة، وخلال المواجهات الأخيرة في شهر مايو المنصرم. لقد برزت، إلى جانب بيانات الساسة والقياديين، رسالة طارئة بعثها مركز «عدالة الحقوقي» إلى المستشار القضائي للحكومة الإسرائيلية أفيحاي مندلبليت، وإلى مفتش الشرطة العام يعقوب شبتاي، يطالبهما من خلالها بالعدول عن قرار إقامة «وحدة مستعربين تعمل في البلدات العربية» مع التشديد على أن قرار إقامة تلك الوحدة يعتبر «عنصريا وغير قانوني» كما أشار المركز إلى «انعدام صلاحية الشرطة بإقامة مثل هذه الوحدة، والى أن القرار في هذا الشأن هو قرار عنصري يقع في خانة التنميط العنصري، ويخلق نظامين لتطبيق القانون، واحدا في البلدات العربية وتجاه المواطنين العرب، وآخر في سائر البلدات». لا أعرف كيف ستتابع «اللجنة القطرية للرؤساء» هذه القضية المقلقة، مع أن رئيسها مضر يونس، كان قد أعلن أنه «سيجري مشاورات وسيدعو إلى جلسة للجنة القطرية وللهيئات والفعاليات الناشطة كافة بهدف التباحث حول التطورات، واتخاذ موقف موحد ضد الزج «بالمستعربين» في البلدات العربية» فمع إيماني الكامل بأهمية هذه الخطوة وبصدق وجدية صاحبها، يبقى الرهان على نجاحها في حكم المغامرة المستحيلة، لأننا نعرف ما تعانيه معظم مجالسنا البلدية والمحلية، حتى أننا لا نخطئ إذا قلنا في حالة بعضها مجازا : «من غص داوى بشرب الماء غصته.. فكيف يصنع من غص بالماء» ويكفي اللبيب غصة كي يفهم. بالمقابل، يحظى «مركز عدالة الحقوقي» بمكانة خاصة بين قطاعات نخبوية محلية وخارجية واسعة؛ ويتمتع أيضا باحترام واضح داخل «الكاتدرائية القضائية» الإسرائيلية، فقد واكبت طواقمه، خلال سنوات عمل المركز الطويلة، جملة من القضايا العربية العامة المهمة، أمام محاكم الدولة؛ وقد أحرز المركز، في هذه المسيرة، عددا من الإنجازات، وواجه معها طبعا عددا من الإخفاقات، كما يتوقع في حالة صراع مع نظام حكم عنصري ومع جهازه القضائي الظالم والمنحاز بشكل سافر وواضح. أقول ذلك متوخيا ألا يكتفي «مركز عدالة» وهو المتخصص في الدفاع عن حقوق الأقلية العربية داخل إسرائيل وصاحب الخبرة والرؤى التقدمية والمواقف الطليعية، بمطالبته المذكورة، ولا بالتوقف عند رفضه لإطلاق وحدة المستعربين ولا بالتأكيد المحق على عدائية الشرطة وأجهزة امن الدولة، بل عليه أن يتجاوز هذا الدور والانتقال إلى المبادرة لوضع تصور قانوني حقوقي شامل، يتم فيه التعرض إلى هذه الآفة من جميع جوانبها.
يعيش مجتمعنا حالة إرهاق خطيرة؛ فعلاقاته مع الدولة، بدون الدخول في تفاصيلها، تخطت، من جهة، عتبة الالتباس الهوياتي والتجاذبات التقليدية، ووصلت إلى حالة من التنافر الصادم والعدائية الحتمية، وفقد، من جهة ثانية، معظم المظلات السياسية الحامية، والمرجعيات الاجتماعية الرادعة، والأحزمة القيمية الواقية. وفي غياب دور الدولة الطبيعي في حماية مواطنيها، وجدت عناصر الإجرام، على اختلاف انتماءاتها ودوافعها، تربة خصبة، فتكاثرت مثل الشر المنفلت، مستفيدة من إهمال وتواطؤ مؤسسات الحكم وغض أبصارها عن الدماء المسفوكة في شوارع بلداتنا وعن استشراء العنف وإشاعة حالة الهلع بين المواطنين. قد تتيح هذه الأيام فرصة أمام «مركز عدالة» لإطلاق مبادرة تاريخية تتناول قضية استفحال الجريمة والعنف المستشري ولتضع رؤية مهنية جدية وجريئة حول مسبباتها، ومقترحات لكيفية مواجهتها؛ مع التأكيد على سياسات حكومات إسرائيل المتعاقبة ومسؤوليتها عن تناميها وعدم مواجهتها ومحاربتها ومعاقبة المتورطين فيها؛ وفي الوقت نفسه تتضمن تشخيصا صريحا لمفاعيلها المحلية. قد تكون هذه المهمة كبيرة على «مركز عدالة» لوحده، لكنه يستطيع، بسبب قدراته ومكانته وخبرته، أن يشرع بها، وأن يدعو لمساهمة عناوين أخرى، معنية وقادرة، لتأخذ دورها في هذه المهمة الكبرى .
قد تكون هذه الأيام مواتية؛ فعلى ما يبدو بدأت بعض الجهات داخل المنظومات، الأمنية والسياسية، التي ترسم سياسات الدولة الاستراتيجية، تستشعر خطر هذا الانفلات الجرائمي الجهنمي المتفشي في المجتمع العربي، على سلامة وأمن مجتمعاتهم اليهودية؛ ولنا في ما أعلنه وزير القضاء جدعون ساعر، قبل يومين، إشارة بليغة، قد تشي بما يجري هناك. فعندما خاطب موظفي وزارته بمناسبة الأعياد حثهم قائلا: «أعطوا الأولوية لمحاربة منظمات الإجرام، زوّدونا بمزيد من الآراء.. نحن بعيدون عنهم، لأسفي، مسافة سنوات. هذه حرب على مستقبل إسرائيل، فنحن كدولة لا نستطيع أن نسلّم بوجود مساحات في النقب والجليل وجنوب تل أبيب واللد، تعيش خارج نطاق سلطتنا. على جميع مؤسسات الدولة أن تتجنّد لمقاومة هذا النوع من الإرهاب. كل يوم أنا أتذكر أن بعض المواطنين في إسرائيل يعيشون في حالة خوف ولا يحظون بحماية القانون. هذا الوضع يبعد النوم عن عينيّ». ثم أوجز حاسما وواضحا بما بدأ، هو وغيره، من قادة ومسؤولين يشعرون به، فقال: «لقد صاروا موجودين هنا، وليس فقط داخل المجتمع العربي. بنظري هذا هو التهديد الأكبر على مستقبل دولة إسرائيل». ما أوضح ما قال!
لا اعتقد أن تصريح الوزير ساعر جاء من فراغ، أو بهدف المزايدة، ولا لأنه يسعى إلى تحسين صورته بين العرب وأمام العالم، فمن أراد أن يصدقه ليدق أبواب وزارة القضاء، ومن لا يريد تصديقه فليتجهز لمعركته المقبلة مع وحدات «المستعربين» ولنستخر النائب منصور عباس؛ عساه يأتي من عندهم الفرج، فلا خاب من استخار.
كاتب فلسطيني

 

 

مَن هزم مَن في أفغانستان؟

جواد بولس

 

تصدرت أخبار انهيار الحكومة في أفغانستان، وسيطرة حركة «طالبان» على العاصمة كابول، معظم نشرات الأخبار العالمية؛ وأدت مشاهد انسحاب بقايا القوات الأمريكية العسكرية ودخول قادة طالبانيين إلى قصر الرئاسة، وما رافقها من صور للفوضى التي عمّت مطار العاصمة وبعض شوارعها، إلى حدوث انقسامات عميقة في آراء المدوّنين العرب، ومعظم المعلقين والمحللين السياسيين، وإلى تضارب في تقييم حقيقة ما حدث؛ فبعضهم استحضر نظرية المؤامرة، وأكد وجود عملية تنسيق مسبق بين النظام الأمريكي وقادة حركة طالبان، في حين أكد غيرهم على أنه انتصار إسلامي خالص على قوات الغزو الأمريكية وعملائها في أفغانستان.
من السابق لأوانه أن يحكم مراقب بعيد مثلي على ما جرى في دهاليز المفاوضات، التي دارت خلال السنوات الأخيرة بين قادة في حركة «طالبان» ومسؤولين في النظام الأمريكي؛ ومن العسير أن نتنبأ حول ما ستفضي إليه الأحداث المتفاعلة على الساحة الأفغانية الداخلية؛ ومن المستحيل أن يُراهن اليوم على خيارات النظام المتشكّل ومكانه في التموقع النهائي على الخريطة الإقليمية المجاورة لحدود البلاد الكبيرة، وداخل النظام العالمي المتغيّر.
علينا أن ننتظر قبل إصدار الحكم، وأن نتذكّر أشكال اشتباك مصالح هذا النظام مع مصالح دول ساهمت في دعم حركة طالبان كباكستان، أو مصالح دول كإيران والصين وروسيا، تطمع أن تتبوأ مكانة متقدمة في صنع أحداث المستقبل. كل ذلك، طبعا، من دون أن ننسى ما صرّح به العديدون من ساسة الدول الكبيرة، الذين لم يخفوا قلق بلدانهم مما يجري، وفي طليعتهم تقف أمريكا المهزومة، التي أعلن قادتها أنها ستحتفظ بوحدة عسكرية خاصة دائمة مرابطة في إحدى قواعدها في الكويت، قوامها 2500 جندي، ستكون جاهزة للطيران إلى أفغانستان من أجل الدفاع عن مصالح امريكا إذا لزم الأمر. لم تغب أحداث الساحة الأفغانية في العقدين الأخيرين عن حوارات المثقفين العرب، وبقايا نخبهم اليسارية؛ فالصراع الذي تقوده في أفغانستان حركة إسلامية أصولية ضد جيوش الولايات المتحدة، سيدة العالم الرأسمالي، خاصة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وانفراط عقد المنظومة الاشتراكية، أحرج لغة هؤلاء القادة الحزبيين والمثقفين، وكشف عن عجز مساطرهم السياسية والفكرية، التي عمدت بعميائية دوغماتية، أن تخُط حدود مواقفها ضد أمريكا، حتى اذا كان غريم أمريكا في أي صراع، مثلما هو الحال في المشهدية الأفغانية، حركة أصولية دينية أثبتت ممارساتها بشاعة ما ستقترفه بحق أبناء شعبها، وبحق جميع القيم الإنسانية التقدمية التي يؤمن بها هؤلاء المثقفون. ومن الصعب ومن الخطأ أن ننسى كيف تمنى، قبل عشرة أعوام، أكثر من مثقف عربي وقائد حزبي يساري، أن ينتصر طالبان على أمريكا؛ وكان صوت الكاتب الفلسطيني التقدمي المعروف رشاد أبو شاور، من أشهر وأوضح من كتبوا في هذا الاتجاه، علما بأنه أكّد، مثل غيره، على أنه لا يدعم حركة طالبان، لكنه ينتظر ذلك النصر من باب تأييده لحق كل شعب في الحرية والاستقلال والسيادة والمقاومة. لقد تحققت أمنيتهم، كما رأينا في الأسبوع الفائت؛ وها هي حركة طالبان بسطت سيطرتها على معظم أراضي الدولة الشاسعة، وسوف تتحكم، في ما يبدو، بمقاليد الإمارة الإسلامية الجديدة، وبرقاب شعبها الفقير.

بين أن نقف ضد غزو أمريكا لأفغانستان ولأي بلد آخر وأن نصلّي لنصر حركة طالبان، فرق كبير، ولنا في التاريخ عبرة ودروس

هنالك فارق كبير بين تمني المثقف الثائر ضد عربدة أمريكا عندما تكون «يداه في الماء» وصباح الأفغانيين المعمّد بنار فتاوى حركة أصولية كطالبان، التي سيمعن قادتها بتطويع جميع معارضيهم، ومن سيعتبرونهم زناديق وكفرة؛ فالأمانة كانت تقتضي أن يضع كل سياسي، أو مثقف تمنى انتصار طالبان على أمريكا، نفسه مكان رفيقه الأفغاني، ليتحقق من صحة موقفه السياسي والأخلاقي على حد سواء.
لقد أحسست وغيري بعدم صحة موقف من استقدم نصر طالبان على أمريكا؛ وسأذكّر بما قلته في حينه وذلك للفائدة وللمناقشة، فعندما «يتمنى مثقف ليبرالي تقدمي علماني، أن ينتصر طالبان في أفغانستان على أمريكا الشر والطغيان، أقول هي أمنية العاجز الضعيف؛ وعندما يدعونا هذا المثقف لنصطف وراءه، ونزف أمنية على أمنية كي يحقق جيش طالبان نصره على قوات الغرب الغازية، أقول إنها دعوة لنختار بين ظلم ذلك الغازي، وظلمة حركة لا يجمعنا معها أي سلوك أو أي موقف، ولأنها لن تُبقي لأمثالنا أي هامش لنحيا بهدي عقولنا وبحريتنا ووفق قيمنا وأخلاقنا. فكل من ضدّهم، ونحن معهم، سيمسي حطبا لنار جهلهم، ولا جدال في ذلك.
أقول ما أقول وأعي أن شعباً يرزح تحت الاحتلال، أو يواجه غزواً، من حقه ومن واجبه أن يقاوم من يحتله؛ لكنني أكتب عن ذلك العجز الذي أدى بالعديد من مثقفي العرب وطلائع شعبنا أن يرفعوا الراية البيضاء، ويستسلموا لواقع يخيِّرهم بين ظلم أمريكا القبيحة وضرورة هزيمتها، وحركة رجعية ظلامية، كحركة طالبان، والدعاء لنصرتها؛ وكأننا نواجه قدرنا المحتوم، وكأنّ دور المثقفين، في عصر القحط الذي نعيشه، يقتصر على الاختيار بين ذينك الشرّين، ويعفيهم من واجب المبادرة والعمل من أجل تحقيق رسالتهم الإنسانية وبناء مجتمعات ديمقراطية وحرة.
دعوني، كي لا يساء فهمي، أن أؤكد على موقفي السياسي الواضح والرافض لغزو أمريكا لأفغانستان أو للعراق أو لغيرهما من دول العالم، فهذا يجب أن يبقى الموقف السياسي الواضح والصريح وغير القابل للمقايضة وللتبديل عند كل إنسان حر وعاقل؛لكن.. نحن لسنا بحاجة لبراهين لما ستؤدي إليه سيطرة حركة طالبان على أفغانستان، ولا إلى كيف سيعيش الأفغانيون تحت حكمها؛ ولسنا بحاجة لإثباتات لما كانت ستفعله هذه الحركة حتى بحق من كتب في صالحها ودعمها، لكنه لا يؤيد عقيدتها ومذهبها. ولسنا بحاجة لقرائن لما سوف تفعله هذه الحركة مع كل «آخر غريب» أو فنان ومبدع؛ ويكفي أن نتذكر كيف حكموا، وكيف دكت مدافعهم تلك التماثيل الأثرية التي خلّفها شعب أفغانستان كشواهد على عراقة التاريخ وثقافاته الغابرة.
ولنتذكر أيضاً كيف ستعيش النساء في ظل عصيّهم وفرق مطوّعيهم؛ ولنتصور أي نظام قضائي سيسود، ومن سيحمي حرية الصحافة والنشر، وحرية الناس والمثقفين في إبداء الرأي والكتابة والتظاهر، وكيف ومن سيحاكم العاصين في ساحات البلاد ليكونوا عبرة لمن لم يعتبر. ألا يحق لنا اليوم أن نسأل بعد انتصار طالبان، إن كنا فعلا بحاجة لنتساءل قبل عشر سنوات: هل انتصار أفغانستان بقيادة حركة طالبان، هو خدمة للإنسانية؟ أو أن نتساءل بشكل آخر: هل هزيمة أمريكا، على يدي حركة طالبان تعتبر خدمة للإنسانية وانتصارا لها؟ ألم يكن هذان التساؤلان، كما طرحهما بعض مثقفي العرب، إقرارا بحالة عجز قاتلة، ومؤشرا على إفلاس فكري خطير كانت قد سبقته ظواهر التصحر الحزبي والنأي الشعبي عن طروحات اليساريين التقليدية، التي فشلت في استهواء قلوب شعوب بقيت متخلفة ومنهكة من استبداد دولة الخلافة العثمانية وما تلاها؟
ما حصل في أفغانستان له علاقة بفلسطين وبمستقبلها، ويوثر، بطبيعة الحال، في كل واحد منا، ويجب أن يؤرق كل مثقف يساري علماني تقدمي؛ فبين أن نقف ضد غزو أمريكا لأفغانستان ولأي بلد آخر، ونقف أيضاً ضد حكام الدول المستبدين بشعوبهم، وأن نصلّي لنصر حركة طالبان ولاعتلائها سدة الحكم، فرق كبير، ولنا في التاريخ عبرة ودروس. لقد كان خياري مع من كان ثائرا على تحرير الأفغانيين من سطوة الغزو الأجنبي، وفي الوقت نفسه مع من يحررهم من الظلمة التي ستخيم عليهم، ولن تترك لهم فسحة لأمل ولا لبقعة ضوء، به وبها، أريد، لمن يؤمن مثلي، أن يعيش حياته بعقله حراً كريماً.
فنعم: لا لاحتلال أمريكا لأفغانستان ولا لأي «ستان» ولا لهيمنة وحكم حركة متخلفة ظلامية، كحركة طالبان.لكن كيف سيتحقق ذلك، وعندنا، في الشرق، في كل جامعة «رفيق» يؤمن أن طالبان خيمتنا ويدعو لها بالنصر ، حتى لو دمّرت البلد.
قالوا: لقد تحررت افغانستان؛ فهل حقا هزمنا فيها أمريكا؟
كاتب فلسطيني

 

 

«سيف» نفتالي

بينيت وعرب الـ48

جواد بولس

 

افتتح رئيس الحكومة الإسرائيلية، نفتالي بينيت، ظهر يوم الأربعاء الفائت، المقر الرئيسي لوحدة «سيف» لمكافحة الجريمة في المجتمع العربي، التي سيرأسها اللواء جمال حكروش ابن قرية كفركنا الجليلية. وحضر حفل الافتتاح، كما جاء في الأخبار، إلى جانب رئيس الحكومة، كل من وزير الأمن الداخلي عوفر بارليف، والمفتش العام للشرطة كوبي شبتاي، وعدد من كبار الضباط، وفي طليعتهم بالطبع الجنرال حكروش نفسه. وقد تعهد رئيس الحكومة، بينيت، أمامهم، في خطبة حفلت بطعم التفاؤل، بانه سيعمل على اجتثاث ظواهر العنف من شوارع البلدات العربية، مؤكداً على أن «هدفه كرئيس حكومة هو أن يعيش جميع المواطنين في دولة إسرائيل بأمان، وأن يعيش أهل الطيبة كما يعيش المواطنون في كفار سابا».
كم كنت أرغب بتصديق هذا الكلام، خاصة أنه يجيء بعد أن تخطى عدد ضحايا جرائم القتل داخل المجتمعات العربية، منذ مطلع العام الحالي، السبعين مواطنة ومواطناً، ولأنه تضمّن، أيضاً، إقرار رئيس الحكومة المباشر بأن «الإهمال المتواصل، على مدار سنوات طويلة، أدّى إلى ارتفاع وتيرة العنف والجريمة في المجتمع العربي وإلى حالة من عدم السيطرة» لكنني وللأسف، أعرف، مثل معظم الناس، أن جهاز شرطة إسرائيل ليس مؤهلاً ولا قادراً على محاربة ظاهرة استفحال الجريمة داخل المجتمع العربي، ناهيك من قناعتنا، المعمّدة بدم التجارب، بأن الشرطة الإسرائيلية ليست معنية أصلاً «باجتثاث مظاهر العنف من شوارع البلدات العربية» ولو كان عكس ذلك لما عانت مجتمعاتنا وتعاني من حالات هلعها اليومي الحقيقي، بعد أن فقدت مشاعر الأمن الفردي ومقوّمات الأمان المجتمعي العام.
قد يبدو كلامي في هذه المسألة مكرراً أو حتى ممجوجاً ولا طائل من ورائه ورغم ذلك لن أيأس، فمسألة العنف والجريمة داخل المجتمع العربي هي قضية مركبة، ولا يمكن مواجهتها، حكوميا أو محليا، من دون تفكيك عناصرها التاريخية والاجتماعية والجنائية، وبداية من دون تغيير نظرة المؤسّستين الأمنية والسياسية الإسرائيليتين تجاه المواطنين العرب وتوقفهما عن معاملتهم وفق فرضيات عمل تخوينية، كانت وما زالت تشكك في مواطنتهم وتحرمهم من حقوقهم الأساسية والشرعية. لكن هذا لوحده لن يكفي، فالدولة وإن كانت وستبقى، كما قلنا وأكدنا مرارا، هي المسؤولة الأولى عن أمن وسلامة المجتمع وأفراده، وعن ملاحقة ومقاضاة الجناة والعابثين بقدسية الحياة وباستقرار الناس، لن تنجح في مهمتها إذا لم تتعاون معها مجتمعاتنا، واذا لم تتوقف بعض مفاعيلها ومؤسساتها عن مدّها، في بعض حالات العنف والجريمة، بذرائع تبرر للدولة عدم قدرتها أو قصورها عن مواجهة الواقع أو تواطؤها في بعض الحالات، كما نعرف. وقد نستفيد إذا استحضرنا تفاصيل ماذا حدث قبل خمسة أعوام فقط، ونقتفي ماذا حصل بعد أن التقى، في منتصف عام 2016، كل من محمد بركة رئيس لجنة المتابعة العليا لشؤون الجماهير العربية، ومازن غنايم رئيس مجلس بلدية سخنين ورئيس اللجنة القطرية لرؤساء المجالس العربية في حينه، وطلب الصانع رئيس لجنة مكافحة العنف في المجتمع العربي، مع روني الشيخ، الذي كان يشغل منصب المفتش العام للشرطة الاسرائيلية، علما بأن الإعلان عن نيّة جهاز الشرطة إقامة وحدة خاصة لمكافحة الجريمة والعنف في داخل المجتمع العربي، وتعيين اللواء جمال حكروش رئيساً لها، قد تم في ذلك الوقت تحديداً. لم يكن صعبا علينا وقتها التنبؤ بأن الاجتماع مع روني الشيخ وإقامة تلك الوحدة الخاصة، وبرئاسة لواء عربي، لن يغير من تفاقم العنف والجرائم داخل المجتمع العربي، ولن يوقف النزف في قرانا ومدننا، وعلى الرغم من تقييمي، في حينه، للاجتماع المذكور في تل أبيب على أنه «واحد من المبادرات اللافتة والواعدة» كنت أوضحت، في الوقت نفسه، أنني أقول ذلك من باب التمني، وأنا أضع «يدي على قلبي» وأشرت، حينها، إلى أن «اجتماعاً يتيماً واحداً لن يترك أثرا، إذا لم تتبعه، على الأقل، لقاءات دورية مع قيادات الشرطة، على أن تكون مسبوقة ومصحوبة بخطط عمل تفصيلية، تعمل القيادات العربية على وضعها، مستأنسة ومستعينة بطواقم خبراء مهنيين ومحترفين، لاسيما بعد أن قرأنا أن الوفد العربي، واجه قيادات الشرطة بحقيقة تقصيرها في مجابهة موجات العنف وحمّلوها كامل المسؤولية عن الاوضاع القائمة.. فبعد تحميل المسؤولية وكشف الأقنعة من المفروض أن نمسك المحاريث، ونتحضر لمواسم الزرع عسانا ننعم بجنى بيادرنا، أو، على الأقل، من أجل سلامة أبنائنا».

عانت مجتمعاتنا وتعاني من حالات هلعها اليومي الحقيقي، بعد أن فقدت مشاعر الأمن الفردي ومقوّمات الأمان المجتمعي العام

لا يعقل ألا يكون رئيس الحكومة بينيت على علم بتفاصيل تلك الجلسة، أو أن يجهل وزير الأمن الداخلي الحالي ماذا كانت مخرجاتها وكيف ومن تابع تنفيذها؟ فمن دون أن نسمع منهم، أو من اللواء حكروش، تقييماً مهنياً جدّياً لما قاموا، أو لم يقوموا به، خلال الخمسة أعوام المنصرمة، لن يكون لما قاله بينيت مؤخرا أي وزن ومعنى، ولا كيف سيضمن تنفيذ وعيده المعلن بأن وحدة «السيف» الشرطية الجديدة ستنزل ضربتها الموجعة للعنف بالوسط العربي، وتفرض بكل قوة النظام والأمن لكل طفل وعائلة عربية؟ لا أعرف إذا هنأت وقتها القيادات العربية اللواء حكروش على منصبه، ولا إذا بادرت إلى عقد لقاءات عمل جدية معه، كما وعد طلب الصانع في حينه، أو إذا هو بادر لمثل تلك الاجتماعات، وماذا كان قد حصل فيها، ولا أعرف اليوم كيف ستتصرف هذه القيادات مع وحدة «سيف» لمكافحة الجريمة في المجتمع العربي، التي سيرأسها اللواء حكروش نفسه؟ فهذا المشهد كان وما زال يشكل للكثيرين من القيادات الحزبية والحركية السياسية معضلة جدية، ويثير لديهم عدة تساؤلات تتعلق بإشكالية ثنائية وجودنا المواطني والوطني في «الدولة اليهودية». فكيف يمكن أن يجلس محمد بركة ابن شفاعمرو، ومازن غنايم ابن سخنين، وطلب الصانع ابن النقب، ومنصور عباس ابن الحركة الإسلامية، مع اللواء حكروش ابن كفركنا، لمناقشة ضرورة تغيير نهج وعقلية الشرطة الإسرائيلية في التعامل مع المواطنين العرب، ودراسة شروط استعادة ثقتهم بها وثقتها بهم، كما صرح في حينه طلب الصانع؟ وكيف سيتلقى المواطن العربي العادي تبعات هذه الحالة الشاذة؟ وهل من الممكن أن يُقفز عن هذه العقبة من أجل مواجهة الجريمة والعنف؟ وإذا لا يعقل، فما العمل؟
سننتظر وسنرى، وإلى أن يجد مجتمعنا الوسائل لتخطي تلك العتبات، على أولي الرأي والنخب القيادية، ألا يكفوا عن دق جميع أبواب الدولة، وحثها على تحمّل مسؤولياتها في مواجهة العنف والجريمة، وملاحقة الجناة أو فضحها إذا لم تفعل. وعليهم كذلك أن يعترفوا بحصص مجتمعاتنا من بعض أنواع العنف والجرائم التي تغذيها بعض مفاهيم موروثنا الثقافية، وقيمنا الاجتماعية المتوالدة في دفيئات قبلية، عائلية، اقتصادية، نفعية، مريضة وخطيرة. وكيلا يساء فهمي فأنا لا ولن أعفي جميع مؤسسات الدولة من مسؤولياتها عن جميع مظاهر العنف وعن هذه الجرائم، وخاصة ما يجري في عالم الجريمة المنظمة، لكنني أؤكد أن مسؤولية «العقل العربي» المؤمن بحتمية التسيّد الذكوري المطلق، والداعي إلى ممارسة دور الخفر على «شرف النساء» والتجبر في حكم العائلة، ستبقى هي من أهم المسببات لارتكاب الجرائم في هذا الفرع من فروع الجريمة، الذي يحظى في كثير من الأحيان بمساعدة المجتمعات المحلية، ما يؤدي إلى عدم ملاحقة الجناة ولا ضبطهم. وأؤكد، أيضا، على أن العصبة العائلية النفعية تحمي أحيانا، بعض السفهاء والسفلة والبلطجيين، وتدعم تسيّبهم ورعونتهم وتطاولاتهم على «الآخرين» وعلى الحيّزات والمؤسسات العامة، وهي لذلك المسؤولة عن العنف والجرائم المرتكبة في هذا الفرع من فروع الجريمة.
لن أسترسل أكثر في هذه القضية، رغم أهميتها، وسأعود إلى البداية، فحتى لو نجحنا بإقناع بينيت وحكومته بأن انتشار الجريمة بين المواطنين العرب لن يصب في صالح دولة اليهود، بل على العكس تماما، وبأن خطته، كما شرحها أمام ضباطه ووسائل الإعلام هي فكرة ناقصة وفاشلة، لن تستطيع الحكومة وحدها مواجهة العنف وإيقاف عمليات القتل داخل المجتمع العربي، فمن دون تفكيك صحيح وجريء لجميع عناصر وأسباب ظواهر العنف وانتشار الجريمة وعمليات القتل في مواقعنا، لن نتقدم نحو مستقبلنا الآمن، ومن دون تسمية العناوين المسؤولة عن تغذية هذه الظواهر، أو من دون التوقف عن مداهنة بعض تلك العناوين، أو التستر على المتواطئين معها، لن تبرأ مجتمعاتنا، بل ستزداد أوجاعنا من يوم إلى يوم. فإذا كان الاجتماع مع المفتش العام للشرطة، والوافد إلى منصبه من كرسيه السابق في جهاز المخابرات العامة، ضروريا ومباحا، فلماذا لا يسعى القادة، كما اقترحت عليهم في الماضي، إلى وضع خطة شاملة للعمل مع ومقابل جميع من يقف على رأس أجهزة الحكم الفعلية في الدولة، لاسيما من لهم تأثير مباشر في حياتنا ومستويات معيشتنا، مثل: المستشار القانوني للحكومة، رئيس المحكمة العليا الإسرائيلية، رئيس جهاز الأمن العام، المدعي العام للدولة، ومن مثلهم في ذلك المقام؟ لكن المشكلة أننا لن نستطيع التعاطي مع هذه الخيارات بمنهجية وعلم ومهنية، قبل أن يحدد سياسيونا بدايةً علاقة أحزابهم مع هذه الأجهزة وما موقفهم منها وما يريدونه، خاصة ومعظم قياديينا يصفونها بالمعادية ويطالبون بتحريمها وعدم التعاطي معها. مضت خمس سنين منذ كتبت «لنا في كفركنا لواء» ولم يتراجع العنف ولا القتل في شوارعنا. حكومات ولّت وحكومة جديدة، تقف على ساق عربية، جاءت، وما زلنا نواجه «سيف» نفتالي بينيت وصحبه، ونواجه الأسئلة والمعضلات ذاتها: فما العمل؟ ومن سينقذنا من حالات الشذوذ هذه؟
كاتب فلسطيني

 

 

محمود درويش الحاضر

بين صفورية وسيدني

جواد بولس

 

لم أكن أشعر بأنه، ومع كل إطلالة يوم جديد، كان ينحت حروف جداريته على مرايا أرواحنا، ويحرق كل صباح ريشة من جناحيه ليقترب من الحقيقة «وليكمل رحلته الأولى إلى المعاني». في مثل هذه الأيام، قبل ثلاثة عشر عاما، تيقّن محمود درويش من أنه «يمتلك ما يكفي من الماضي وينقصه غد» فقرر أن «يسلّ من عدمه وجوده» وهو الذي قال للموت: «أيها الموت انتظرني خارج الأرض، انتظرني في بلادك، ريثما أنهي حديثا عابرا مع ما تبقى من حياتي قرب خيمتك». لا أجمل من أن تقرأ محمود درويش في كل فصول السنة؛ فلأشعاره رائحة الأمل المتجدد، وطعم فريد لحنين شفيف، يصيبك بلذة آسرة وأنت على حافة الصهيل، فتشفى من غصتك وتدخل إلى «ليلك المشتهى».
عاش محمود درويش حياته الشخصية وفق طقوس يومية صارمة حافظ عليها كي يحمي «أرض قصيدته الخضراء» لكنّه خرج قليلًا عن عاداته، حين زاد في سنواته الأخيرة من زياراته إلى الجليل، وكأنه كان يحاول أن يستعيد توازن مكوّني مسيرته الأبديين: البيت والطريق. كنت محظوظًا لأنني رافقته في معظم تلك الزيارات الجليلية؛ لكنني نادم لأنني لم أنتبه، ساعتها، إلى أنه كان يأخذني، بذكائه الصامت والجميل، إلى منابع روحه الأولى؛ فيمشي كغزال مرتبك على رصيف ميناء عكا ليضوّع مسكه الخالد على حجارة أسوارها الذهبية؛ ويقف كنسر ملحميّ على شرفة الكرمل ليضاحك المدى بعفوية عاشق سرمدي؛ ثم يسألني أين سنأكل اليوم؟ ومن سنزور ممن بقوا حرّاسًا للذاكرة وللملح؟
أذكر يوما وصلنا فيه إلى الناصرة قبل ظهيرة تموزية هادئة، دخلنا إلى قاعة مطعم «الجنينة» وجلسنا، وحيديْن في المكان، حول طاولة مستديرة كبيرة. انتبه، بعد دقائق قليلة، صاحب المطعم لوجودنا؛ ثم اكتشف فجأةً أننا لسنا مجرد زبونين جائعين، فأبدى علامات فرح مضطرب عندما تحقق من أن ضيفه هو محمود درويش. اندفع نحو طاولتنا محييا، ثم بدأ يحث عماله على تجهيز الطاولة، وأخذ يحرك يديه بعصبية واضحة، وفي الوقت نفسه يمطر علينا عبارات الترحاب والتأهيل والسرور. نظرت نحو محمود، فكان لون وجهه كلون الحرج، أحمر؛ فرددت على مضيفنا وشكرته حاسمًا بأننا سنشرب عنده القهوة فقط، لأننا تناولنا وجبة الإفطار مسبقًا، والوقت ليس وقت غداء. لم يقتنع صاحبنا في البداية، لكننا نجحنا، بعد مفاوضات عسيرة معه، على إرضائه بأن نشرب القهوة وأن نأكل معها، من صنع يديه، صحني كنافة نصراوية. سعد محمود حين شعر بشعبيته، بعد سنوات من الغياب، وبدت على وجهه علامات رضا وراحة. ثم سألني كعادته وببراءة كنت أفهم كنهها: من تقترح أن نزور اليوم في الناصرة؟ لم يكن سؤاله غريبا عني، ولم أجد صعوبة في إقناعه بأول اسمين ذكرتهما؛ فقررنا أن نتصل بالشاعر طه محمد علي (أبو نزار) وإعلامه عن نيتنا بلقائه. كان صوت أبو نزار في الهاتف صاخبا كرياح «صفورية» وعميقًا مثل حزنها؛ فأخبرته أن محمودا موجود في الناصرة، وأنه ينوي زيارته، إذا كان ذلك ممكنًا بالنسبة له. سمعت صمته يتنفس بثقل، ثم، بعد هنيهة، انهال على أذني سائلًا: أين أنتما الآن؟ فأخبرته «اننا عند ابو ماهر بالجنينة» لكنه أعاد السؤال عدة مرات، حتى صرخ، بعدها، مناديًا على ابنه، نزار، وطلب منه الذهاب فورا إلى المطعم كي يصطحبنا إلى بيتهم في حي بير الأمير. حاولت أن أفهمه أننا سنأتي لوحدنا، لكنه لم يسمعني وأغلق الهاتف. لم ننتظر، تحركنا باتجاه الحي وسألنا عن بيت أبي نزار، فوصلنا ساحته الرحبة وصعدنا درجا في نهايته باب مفتوح على مصراعيه، فدخلنا وأنا أنادي من الخارج على أبي نزار. كان يجلس إلى طاولة صغيرة في المطبخ، وكانت أم نزار بجانبه. كان ظهره لنا وكنبة عسلية تفصل بين حيز المطبخ ومقعد الضيوف. انتبه بعد لحظة لوجودنا داخل البيت، فانتصب دفعة واحدة حتى خلته جذع سنديانة يمشي، ثم رفع يديه الطويلتين وهو يندفع باتجاهنا فارتطمت ساقاه بظهر الكنبة، لكنه لم يتوقف، فتحايل عليها حتى رمى جسمه على محمود فاحتضنه كلّه فغاب في صدره. كانت أم نزار تلحق زوجها وبيدها منشفة وترجوه أن يمسح فمه من الزيت قبل أن يدهن رقبة محمود به. لم يسمعها ولم يرتبك، وضحك محمود والزيت صار بينهما علامة هذه الزيارة الفارقة.

كان درويش يتزود، من خلال زيارته، بماضيه ويكمله كما خطط وأعدّ حتى «امتلأ بكل أسباب الرحيل»

امتلأ البيت سعادة. كنت أجلس بجانب محمود وأشعر بهدوئه، وكان الفرح يغرق جسد أبي نزار الضخم، فيبدو أحيانًا كطفل تملؤه المفاجأة عبثا؛ وكان يحاول أن يشكر محمود على الزيارة، لكن محمود كان في كل مرة يتدخل وبدماثة كان يحدثه عن بعض قصائده التي يتابعها باهتمام. تحدثا حول الشعر والشعراء، وعن الماضي وعن الوجع، لكنهما لم يأتيا على ذكر المستقبل سوى مرّة واحدة سمعت فيها محمودا يقول: «لا شيء يبقى على حاله، للولادة وقت، وللموت وقت، وللصمت وقت.. كل نهر سيشربه البحر، والبحر ليس بملآن ، كل حي يسير إلى الموت، والموت ليس بملآن». لم أشعر بمرور الوقت إلا عندما استئذنّا أصحاب البيت بمغادرتهم، فوقف أبو نزار ورفع رأسه ويديه نحو السماء وقال: «يا ربي، تستطيع أن تأخذ وديعتك بعد هذه الزيارة، فأنا لا أريد أكثر من هذا العالم بعد اليوم». شعرت ببعض الحزن حين نظرت نحو يد محمود اليمنى، التي كانت تزيل بلطافة عن خده قطرات من عسل الوفاء. ودّعا بعضهما من دون بكاء ومحمود يقول ويده ملقاة على كتف الزمن: «عش ليومك لا لحبك. كل شيء زائل، فاحذر غدًا، وعش الحياة الآن في امرأة تحبك..». وصلنا حيفا وقبل نزولنا من السيارة نظر اليّ وسألني، بدعابة، هل ما زال زيت أبو نزار على رقبتي؟ لم أسال محمود لماذا قرر أن يزور الأماكن والاصدقاء الذين زرناهم معا، وقد أجّلت هذه الاسئلة إلى ما بعد عودته من إجراء العملية في أمريكا.
رحل في هيوستن ولم يعد هنالك حاجة لتلك الأجوبة فقد كانت أمامنا طيلة تلك السنوات حين كان يتزود، من خلال زيارته، بماضيه ويكمله كما خطط وأعدّ حتى «امتلأ بكل أسباب الرحيل» وصار، كما أعلن، ما يريد: خالدا أبدا وحاضرا دوما في الغياب. أفقت قبل أيام قليلة على غصة ورسالة موجعة من صديقنا المشترك مرسيل خليفة الذي يعيش منذ أكثر من عام ونصف العام في أستراليا في شبه منفى قسري، بعد أن تحوّل لبنانه إلى مبيد للأماني ومزارع للقلق، وفيها يخبرني أنه: «في هذا الحجر المنزلي الصارخ، أنجزت حتى الساعة المسوّدة الأولى للكتابة الموسيقية والغنائية للجدارية وسيكون صوت درويش في قلب العمل.. بدأت بالتصحيح والنقل وإعادة التأليف، وتلزمني أشهر أخرى لإنجاز ذلك. أحببت أن أخبرك بمخاض الكتابة الموسيقية للجدارية، لتستمع الى دقات قلب الحنين. تخيّل يا صديقي ملامح الجدارية مع 150 موسيقيا وكورس ومنشدين. كان هذا العمل ثأري من الوقت والمسافة والتلاشي وسُعَف انتصارنا على العبث والصمت.. لقاء الشعر مع الموسيقى هو استعادة الحوار بين «الأنا» و»أنا» الآخر ـ للجدارية – وفي السير على البحيرة وعلى دروب القوافل.. هو صدى هوائيات حواراتها وحميم بوح إناثها.. هو رجع نحاسيات مشاهد التاريخ من الإغريق إلى الفراعنة إلى خوذ جيوش الملاحم.. والموت الآلة الوحيدة الحاضرة ولو على حدود الصمت، تتهكم كلما تردّد هديل أنثى اليمام .. أغمض عينيّ فيصبح أنكيدو آلة تنساب ما بين نهرين، وابن السجان وطيف أبيه آلتين على اللحن المنفرد مع صوت أعلى بين الآلتين. خوفي من صهيل الحصان الذي طارت جذوته على مقربة من الميناء، وانكساري لدى نمو الزهر الفوضوي اللون الى آخر الرؤيا.. . صمت 150 آلة وصوت محمود يرافق صمتي العميق كلما أشرفت على حافة الحفرة في نهاية الاعتراف. «أنا لست لي» أنا عود وحيد على كرسي بعدما غادر الموسيقيون المكان وأسدلت الستارة على المسرح».
فرحت لما جاء في الرسالة، وآلمني وجع صديقي، وتمنيت لو كنت هناك كي أبدد وحدته وازيح العتمة عن ليل ذلك الغريب. إنه آب الغصّات.. فكم كنا غفاة يا محمودنا وكم كنت واضحًا أيّها المعلم.
كاتب فلسطيني

 

 

القاضي جورج قرّا ضد

المحكمة العليا الإسرائيلية

 

جواد بولس

صدرت محكمة العدل العليا الإسرائيلية في الثامن من الشهر الجاري قرارها النهائي فيما يعرف بقضية «قانون القومية» وذلك بعد أن كانت قد استمعت، في الجلسة التي انعقدت يوم  22/12/2020، بهيئة من أحد عشر قاضيًا، إلى مواقف وادعاءات جميع الملتمسين وإلى ردود الكنيست وحكومة إسرائيل عليها.
وكما حصل ويحصل في معظم المفارق القضائية الهامة في حياة الجماهير العربية، لم يحظ القرار إلا بنتف متطايرة من أخبار سطحية شعبوية، في حين غابت عن المشهد، أصوات أكثرية المثقفين والحقوقيين والخبراء من العرب، كما وغابت مشاعر التوجس الشعبي من عواقب القانون ومن تبعاته.
لا أوافق رأي من اعتبر القرار هدية لنا من هذه المحكمة بادعاء أنها، أو هكذا اعتبر هؤلاء، قد عرّت أمام مجتمعات العالم، قبحها، وشرعنت القانون رغم ما ينضح به من «أبرتهادية» صارخة.
لا أوافق هؤلاء لأننا، أولا، لسنا بحاجة لمثل هذا البرهان كي نتحقق من دور المحكمة العليا الإسرائيلية التاريخي المثبت في تسويغ وتبرير وشرعنة سياسات القهر والقمع العنصريين بحقنا كمواطنين في الدولة، وثانيًا، لأن القرار، لمن يقرأه بجدية وبعمق، يتضمن خلاصات قضائية خبيثة محسّنة ومطوّرة وخطيرة لما سيصبح قواعد سلوكية عملية راسخة وملزمة لجميع مؤسسات الدولة وفي طليعتها جهازها القضائي. ومع العلم بأن هذا الجهاز، رغم قبحه المتوارث، قد «نعِمَ» بهوامش ضيقة لطالما أتاحت له التصرف في منع محاولات المؤسسة الحاكمة من الإسراف بعنصريتها القومية العرقية الفوقية، وإلزامها، ولو بأشكال محدودة وبحالات فردية قليلة، بما يمليه تعريفها لنفسها كدولة ديموقراطية ويهودية، لا سيما إزاء مبدأ مساواة جميع مواطنيها في بعض الميادين.
لقد كتبت رئيسة المحكمة العليا، استر حايوت، متن القرار الأساسي، رافضة جميع الالتماسات، وقامت، بعد تفنيد رخيص للادعاءات الجدية التي أوردها الملتمسون ضد القانون، بتسويغه، معتمدة على بعض الفذلكات السياسية المبطنة وشبه القضائية، وعلى التحليلات العنصرية المموهة بموضوعية كاذبة.
ثم انضم إليها تسعة من زملائها القضاة، ففتح كل واحد منهم، وبينهم قاضيان مستوطنان، شهيته، وأضاف «دررًا وحكمًا» خاصة به، وكأنهم يتسابقون على حفر أسمائهم على دروع نصر دولتهم في مسيرتها العنصرية وفي سجلّات القهر والظلم.
لست في معرض التطرق لما جاء في قرار المحكمة العليا، الذي امتد على أكثر من مئتي صفحة، لكنني سألفت نظر المعنيين والقراء لموقف ولرأي الأقلية الوحيد للقاضي العربي جورج قرا، الذي عارض أراء زملائه جملة وتفصيلا، وفنّد، بحصافة مؤثرة وبمهنية عالية، جميع الادعاءات التي دفع بها المستشارون القضائيون الذين مثّلوا الكنيست والحكومة، وقضى، في مستهل قراره، «بأن قانون القومية يمس بقيم الديموقراطية، لا سيما على خلفية عدم وجود مساواة للأقلية العربية في الممارسة العملية»، ثم راح يقارع حججهم بلا أي مواربة، إلى أن خلص وقال بشكل قاطع: «قانون القومية هو قانون عنصري ومجزوء، ويعاني من نواقص جوهرية كثيرة، مثل عدم تطرقه للأقلية العربية التي يصل عددها إلى أكثر من 20٪؜ من تعداد السكان العام، وعدم اشتماله على مبدأ المساواة وهوية الدولة الديمقراطية، وهو لذلك يعطي لمؤسسات الحكم حرية واسعة جدًا أثناء تطبيقه».
ومع أن المقام هنا غير ملائم للوقوف على التفاصيل التي تعرّض لها القاضي جورج قرّ ا بالكامل، لكنني سألقي الضوء على بعض المحطات البارزة في قراره، مثل اعتراضه على موقف زملائه وإصراره على ضرورة احتفاظ المحكمة العليا بحقها في مراقبة عملية التشريعات، وحقها بالتدخل في مضامينها إذا ما تجاوزت الكنيست حدودها ومست في أحد تشريعاتها، كما في قانون القومية الحالي، بقيم الديمقراطية الأساسية، على حساب إعلاء يهودية الدولة، وما تعنيه هذه المفاضلة في تاريخ السياسية العصرية.
ومن اللافت أن نقرأ دفاع القاضي عن دور المحكمة العليا وضرورة حمايته، خاصة في الواقعين السياسي والاجتماعي اللذين تعيشهما الدولة وما ينذران به من مخاطر تتربص بقيم الديموقراطية وبمكانة المواطنة السليمة المتساوية، ولذا كتب، أو قد يكون صرخ في وجه زملائه وحذرهم قائلًا: «إن الأقلية (العربية والدرزية) في إسرائيل هي أقلية أصلانية وليست مجموعة أغيار أو غرباء، وهي ترى بدولة إسرائيل وطنها وتريد أن تعيش فيه كمتساوية بين متساوين. وهي أقلية تنتفض ضد إقصائها وضد المحاولات لمنع دولة إسرائيل أن تكون دولتها أيضًا. إن المبادرين والمتبنين لهذا التشريع، لمجرد كونهم من معسكر الأغلبية في الدولة، لا يشعرون على «جلودهم» بالأذى المريع الذي يتسببون به للأقليات في الدولة. أو كما قال المثل العربي» اللي ايده في المي مش زي اللي ايده في النار».
لم يتوصل القاضي جورج قرّا، إلى قراره بضرورة إلغاء القانون أو تعديله بشكل جذري وجوهري، إلا بعد أن وقف على استهداف مشرّعيه لحقيقة كون اللغة العربية لغة رسمية معترفًا بها منذ أيام الانتداب البريطاني، رافضًا تطبيبات زملائه القضاة ومحاولاتهم العنصرية للتستر على هدف مشرّعيه الحقيقي، فواجههم بكل وضوح برأيه كاتبًا  «على خلفية تشريع قانون القومية وهدفه، وأخذاً بعين الاعتبار عدم تضمين مبدأي المساواة والديمقراطية فيه، يصبح الاستنتاج، بأن التعرض لمكانة اللغة العربية جاء بغرض «حني قامتها» وإذلال المتحدثين بها، هو الاستنتاج القوي الوحيد». ثم ذكّر زملاءه بمقالة للكاتبة «ميطال بينتو» جاء فيها أن: «في الدولة القومية يوجد للغة دور حاسم في خلق وبلورة الهوية القومية، وبسبب هذا الدور يميل أفراد معسكر الأغلبية السكانية إلى الاعتقاد بأن لغة الأقلية تشكل خطرًا على هوية الأغلبية القومية. فالحضور القوي للعربية في الفضاء العام المشترك مع اليهود يستوعب كتهديد للأغلبية اليهودية، أو كنوع من انتصار ثقافة الاقلية على الأغلبية». قالها ليُفهمهم، إذا نسوا، دروس التاريخ الأسود.
لقد أعجبتني مواجهته لموقف زملائه من المادة التي ألزمت الدولة بضرورة العمل على تشجيع الاستيطان اليهودي في «أرض إسرائيل» وكيف قارعهم، بحنكة قومية غير خجولة، وبوعي مواطني سليم، رافضا جميع ما سيق من قبلهم، ومستنتجا بحزم على أن «مادة الاستيطان اليهودي، التي تسمح بممارسة التمييز العنصري وبتخصيص الأراضي على أساس الانتماء القومي، تمس بشكل متطرف بجوهر هوية الدولة..»  فخلاصة القول، هكذا واجههم «بأن قانون القومية يتعارض مع السمات الجوهرية للدولة الديموقراطية وبدرجة تبرر تدخل هذه المحكمة فيه.»

لم تعِر أغلبية الأكاديميين العرب أي اهتمام لمضامين القرار رغم أهميتها القصوى وتأثيرها المباشر على مستقبل علاقاتهم وعلى صور اشتباكها مع الدولة

سوف يقلل البعض من أهمية هذه الصرخات المدوية التي جاءت على لسان قاض عربي في المحكمة العليا الإسرائيلية، وذلك لموقفهم المسبق من الموقع وليس من الشخص تحديدًا. وعلى الرغم من قناعتي بعدم صحة تلك المواقف التي تدمن عملية المعارضة الروبوتية، أدعو إلى ضرورة مناقشتها مستقبلًا، لأنها تتعلق بواحدة من معضلاتنا الوطنية/ المواطنية وعلاقتنا بالدولة.
سيبقى عتبي على من تطرق للقرار قبل قراءته، وأكثر على من كان يجب أن يقرأه ولم يفعل، فقراءة ما كتبه «مطوّعو الديمقراطية وساحلوها» مهم، والأهم ما كتبه القاضي جورج قرا، الذي كتب بلغة قضائية واضحة و»بدم قلبه» كما وصف ذلك القاضي ميلتسر ، وهو الوحيد من بين العشرة قضاة اليهود الذي تطرق ببضع كلمات لموقف زميله الذي كتب بحس سياسي ناضج وكابن فخور لأقلية عربية لا تسمح بإذلالها.
لم تعِر، كما تقدم، أغلبية الأكاديميين العرب أي اهتمام لمضامين القرار، وذلك رغم أهميتها القصوى وتأثيرها المباشر وطويل الأمد على مستقبل علاقاتهم وعلى صور اشتباكها أو تقاطعها مع الدولة. قد يكون السبب وراء هذا العزوف النخبوي والشعبي هو شعور الأكثرية «بتفاهة المسألة» ، فمكانة المواطنين العرب في إسرائيل، هكذا يفترض هؤلاء، لن تتغير بسبب هذا القانون، وما كان بالنسبة لهم، كل من موقعه وكرسيه وجمعيته وحقله، سيّئا أو جيّدا، سوف يكون، وقد يكون هذا دليلًا على حقيقة الهوّة القائمة بين ما يشعر به الناس، كل الناس، وهواجسهم الفردية المستوطنة في صدورهم، وبين حقيقة الخطر الذي استشعرته قلة نخبوية وبعض النشطاء السياسيين من جراء تبني كنيست إسرائيل لقانون توّج جميع التشريعات العنصرية التي سبقته وتفوّق عليها.
وأيًا كانت أسباب هذا العزوف، الشعبي والنخبوي، ستبقى كلمات القاضي العربي جور ج قرا نواقيس ضاجة في سماوات إسرائيل، وستقض مضاجع من يتشدقون فيها بإنسانيتهم العاقر وبديموقراطيتهم الكاذبة، وستبقى مواقفه، كذلك، همسات ساخنة في آذان من يحترفون فنون الشجاعة الفيسبوكية فقط، أو من ينتظرون الفرج يأتيهم من جيوب السلاطين، أو من يمضون وراء ضجيج هتافاتهم راكضين وراء حلمهم/وهمنا يوم آمنا أن البداية ستكون بتحرير سبتة وثم ساحات الربيع العربي، فالقدس، وأخيرًا سيزخ الخير على حيفا وصفد وفي سائر الميادين.
هنالك أهمية كبرى للمضامين القانونية وللاجتهادات التأويلية الشاملة التي لجأ اليها القاضي جورج قرا في مسعاه لتفنيد مواقف زملائه القضاة، ويا حبذا لو يتم الرجوع إليها وترجمتها ونشرها وتجنيها في خطابنا السياسي والحقوقي بشكل عام. فلنقرأ ونتناقش، عسانا نخرج من أزمة «القات» التي أنهكت وشلّت عقولنا. ولك، سعادة القاضي جورج قرا، جزيل الشكر، وأعلم أنك لا تنتظره من أحد.
كاتب فلسطيني

 

 

سهى جرار، رحيل مفجع،

في زمن " الشر العادي"

جواد بولس

 

كان لا بد للأسيرة خالدة جرار أن تحكّ ذراع الشرّ مرّة أخرى، لا كي تمتحنه، بعد خمسين عامًا من القهر والوجع، بل لتؤكد لنفسها أنها ما زالت قادرة على السفر في دروب الملح؛ ولكي تثبت، للعالم أيضًا، أن التاريخ قد يكتبه الغاصبون والأقوياء لكنّ مداده كان وسيكون دومًا من دماء ضحاياهم، وصفحاته ستبقى هي أرواحهم المعذبة الخالدة.     

لقد سمعت خالدة بنبأ وفاة ابنتها سهى حين كانت مع رفيقاتها الأسيرات في غرفتها في سجن الدامون، الذي يقع على قمة جبل الكرمل؛ فأمضت ليلتها، هكذا أتخيّل، وهي تعصر قلبها قطرات من أسى ولوعة وحنين لا يداوى. وحين زارها المحامون في صباح اليوم التالي وجدوها قويّة وصابرة؛ فأوصتهم أن ينقلوا باسمها، لأهلها ولشعبها، دعاء الأسيرات الأمهات اللواتي يتحرّقن حسرة ولوعةً وشوقًا، وينتظرن، بعناد وبشموخ موعدهن مع الحرية في أحضان الوطن وعلى ترابه، مع أحبابهن.

أعرف أن خالدة لم تراهن على موقف مصلحة سجون الاحتلال الاسرائيلي ازاء مطالبة محاميها بالسماح لها بحضور جنازة ابنتها؛ فهي، وزوجها غسان، أبناء لأجيال فلسطينية خبرت، منذ عقود، كيف يكون "الشر عاديًا "، وكيف يكون التاريخ  أسودَ، وتكون "تاؤه" مربوطة على قرني محتل ظالم وشرير؛ فعندها، هكذا تعلّما، لا يصح التنبؤ والانتظار ؛ فالشر لا يعرف إلا أن يتمظهر بطبيعته العادية الواحدة البسيطة والواضحة ونتائجه دائمًا متوقعة وبديهية. 

ترددت كثيرًا قبل اتصالي بغسان كي أعزيه بوفاة سهى؛ وتمرّنت على عدة سيناريوهات ممكنة لبداية مكالمتي معه، لكنني لم أعرف أيها سيكون الأهون علي وعليه. طلبته، فرد علي مباشرة بصوته المألوف، وبلكنته المميزة التي كان يصاحبها القلق. صمتُّ لوهلة، ثم بدأتُ معتذرًا أنني لست الى جانبه في هذه الأوقات الصعبة. حاولت أن استرسل في شرح أعذاري، فقاطعني بدماثة صديق عتيق وقال: "من قال أنك لست موجودًا فأنت معنا الآن ومنذ أكثر من ثلاثين عامًا، ألا تذكر ?" 

أتذكر بالطبع كيف تعرّفت الى غسان جرار وخالدة رطرورط/ جرار، حين كانا طالبين يساريين ناشطين في جامعة بير- زيت، وحين أحبّا بعضهما، ومضيا يربيان معًا قلبين أحمرين ويسيران على دروب مقاومة الاحتلال وبناء عائلة تباركت أولًا "بيافا" وبعدها "بسهى"؛  فكبرتا طفلتين طموحتين في دفء خيمتين وارفتين وعلى نفس الوعد والعهد. 

 لم أعرف، وأنا أحدّثه، إذا كان المقام يتيح لي دق أبواب ذلك الماضي، عندما اعتقلت قوات الاحتلال الاسرائيلي، في الأول من كانون ثان عام 1992، غسان من بيته في رام الله، واقتادوه الى معتقل الظاهرية، ليجد أن رفيقيه، حسن عبد الله وعلي فارس، قد سيقا قبله إلى هناك؛ وكيف في غداة تلك الليلة أخبروهم بأن قائد جيش الاحتلال قد أصدر أوامر أبعادهم عن الوطن لأنهم، كنشطاء في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، يخطّرون أمن المنطقة وسلامة السكان .     

استأنفت محادثتي مؤكدًا على أنني أعرف كيف يتقطع قلبه على فقدان حبيبته سهى؛ لكنني، هكذا أضفت، أعرف أيضًا صلابته وقوة تحمّله ورجاحة عقله وحكمته، وتمنيت عليه أن ينجح في تخطي الأزمة، لتصبح ذكرياته مع سهى مشاعل تنير فضاءاتهم بالبسمة، التي ستبقى كسيرة وحزينة، وبالأمل.

ثم انتقلت، محاولًا حجب غصة داهمت حلقي، وسألته: هل تذكر عندما زرتك في معتقل الخليل لأرتب معك تدابير معركتنا في الدفاع ضد أوامر ابعادكم ، انت وحسن وعلي. أجابني: طبعًا أتذكر،  ثم أردف، وكأنني أشعلت في صدره شرارًا: كان الثلج يغطي مدينة رام الله وجبال فلسطين، وكنا نجلس في بيتنا أنا وخالدة ويافا ابنة الخامسة.  انقطع صوته لهنيهة، وكأنه كان يبعد عن عينيه الندف، ثم أضاف: "كان عمر سهى أربعة عشر شهرًا". سمعت في صوته نبرة حنين دفين فأكمل مضيفًا: "عساك لا تتذكر، يا جواد، فسهى كانت قد ولدت  في يوم  11/9/1990 وأنا كنت في ذلك الوقت سجينًا في زنازين سجن رام الله، وأنت كنت المحامي عني.  جئتني الى ساحة بجانب الزنازين لتخبرني بأن القاضي العسكري قد أمهل المحققين مدة أثنتين وسبعين ساعة، وبعدها، هكذا طمأنتني، فإما ان يقدّموا بحقي لائحة اتهام، واما أن يحيلوني الى الاعتقال الاداري، واما أن يفرجوا عني. كنتُ منهكًا من التعذيب فسمعتك بطمأنينة وحفظت وصيتك التي جعلتني بعد أن غادرت مثل الرخام أصم، فأفرجوا عني بعد اربعة أيام". كان يخاطبني وكأنني زرته قبل أيام قليلة؛ شأنه، في هذه التجربة شأن جميع الفلسطينيين الذين يبنون قصور آمالهم من تراكم أفراحهم الصغيرة؛ فيفرحون بسقوط الثلج على لياليهم المزعجة، ويحسبونه رسائل حب من السماء، وينتصرون قليلًا، ويصمدون كثيرًا، وينامون خفافًا ولا يحلمون بالمستحيل.       

مدهش كيف تحفظ الضحية تفاصيل معذبيها وتعذيبها وكيف يتذكر جسدها تقاسيم السياط واختلاف موسيقاها في كل ضربة هاوية على لحمها ومع كل أنة. ومفرح كيف يواجه الفلسطيني تلك الذكريات، فهي، وان بقيت ندوبًا على ذاكرته، سرعان ما تتحول الى صور من هزائم مُنيَ بها الظالم، وتفاصيل ترسم فسيفساء صمود شعب ما  زال، رغم ظلم الاحتلال وبطشه، ورغم خيانات الاشقاء والاقارب، "يحلم بالزنابق البيضاء" وبالثلج، ويطارد حبيبات الندى ليحيا أبناؤه عزيزين رغم طغيان العهر والعطش والسراب.

لقد ازعجتهم حريّة غسان؛ فعادوا في مطلع العام 1992 واعتقلوه مع مجموعة من  رفاقه بنية إبعادهم خارج الوطن. أوكلت للدفاع عنهم أمام لجنة الاعتراضات العسكرية، ومن ثم في الالتماس الذي قدمناه الى " محكمة العدل العليا" الاسرائيلية. زرتهم مرارًا في سجن الخليل وأعددنا معًا نصوص مرافعاتهم بعد ان أتفقنا، هكذا ذكرني غسان، على ضرورة المماطلة في الاجراءت القانونية، فاسرائيل في تلك الايام كانت على عتبة خوض انتخابات برلمانية لا تساعد أجواؤها على ادارة معركة سياسية شعبية ضد سياسة الابعادات ولا المضي في معركة قانونية مجدية بالطبع. 

قدم غسان ورفاقه مرافعاتهم الطويلة التي كانت عبارة عن لوائح اتهام بحق الاحتلال وموبقاته؛ أما أنا فتحدثت وأطلت، ثم أجملت مرافعتي كما أوردها الاسير حسن عبد الله، الذي أصبح روائيًا وقاصًا فلسطينيًا معروفًا، في مجموعته  القصصية "رام الله تصطاد الغيم "، فقلت للقضاة : "مرافعتي الاجمالية ستكون قصيرة وموجزة، فهذه رغبة من أوكلوني عنهم، حيث طلبوا مني أن اعترف أمام المحكمة نيابة عنهم بما يلي: الرجال الذين يجلسون فيما تطلقون عليه اسم -القفص- يعترفون أنهم يعشقون الزيتون ويفتنون بنوار اللوز، ويطربون للحن الشبابة..انهم يعترفون بحسهم المرهف الشفاف عندما يستمعون لبكاء طفل ويهتزون من اعماقهم لزغرودة أم شهيد، وهي تزف ابنها في عرس مهيب؛ فهل تستحق هذه التهم عقوبة الطرد من الوطن ."  لن اسهب في تفاصيل الحكاية؛ ففي شهر تموز من العام 1992 انتخبت في اسرائيل حكومة جديدة، فقام وزير عدلها بالغاء أوامر الأبعاد بحق غسان ورفاقه، مؤكدًا عمليًا بقراره، ما أعلناه دومًا على انها كانت قرارات سياسية باطلة وكيدية وتستهدف الحاق ابشع العقوبات الوحشية بحق الفلسطينيين. ولكنهم  ... لم يفرجوا عن غسان جرار، بل حوّلوه الى الاعتقال الاداري، ليمضي، وراء قضبان القهر، مدة خمسة عشر شهرًا اضافيًا.

"تعرف كم نحن أقوياء" ، هكذا أجابني حين رجوته أن يصمد كي يسعد "يافا" ويبقى الى جانب خالدة، لكنه تابع وقال بصوت الأب الحنون:  "لكننا، في النهاية، نبقى بشرًا، نحب حتى آخر الأنفاس، ونعشق الفجر وهو يراقص محيّا بناتنا، ونذوب حين يغرقوننا بالرقة وبالغنج. لقد قصم ظهري هذا الرحيل.." ثم استعاد تفاصيل تلك الليلة، قبل ثلاثين عامًا، عندما كانت سهى طفلة صغيرة، ويافا عروسًا تحب الثلج، وحين "لبست رام الله، مدينته الحبية، ثوب زفافها ونامت ترتعش من الانفعال تحت أنفاس عريسها القادم من السماء" ، كما  كتب صديقنا حسن عبد الله في قصته الجميله "عروسان في الثلج"، ووصف فيها كيف قضى غسان ليلته الأخيرة مع عائلته وكيف سألته يافا  " ألا يلعب الناس في بلادنا بكرات الثلج؟ " فأجابها " بعد أن تنامي، فاذا نمت سنخرج جميعنا من البيت في الصباح ونلعب بالثلج ونقيم تمثالًا جميلًا، وسأصورك بجانبه ثم نعمل كرات ثلجية ونقذف بها أمك ". فرفضت يافا فكرة قذف أمها لأنها تحبها، فأجابها غسان بأنه هو أيضًا يحب أمها، فقالت: " اذن سنقذفك أنا وأمي بالثلج" . ثم أغمضت يافا عينيها وهي تحلم، فحملها غسان الى سريرها وغطّاها جيدًا وطبع على جبينها قبلة.

سمعته يتنفس بصعوبة ثم قال: ما زلنا نحلم بذلك التمثال الأبيض، وبالعروسين وهما تلعبان بكرات الثلج.   

أصغيت له بخشوع مضطرب، وحاولت أن أحيط صدري بكواتم أصوات، وخفت أن يشعر بأنني ضعفت حتى البكاء؛ وددت لو كان في مقدوري أن أسمعه زفرة "الدرويش" حين قال: " للحقيقة وجهان، والثلج أسود فوق مدينتنا، لم نعد قادرين على اليأس أكثر مما يئسنا "،  لكنه سألني فجأة، متى ستزور خالدة، فقد تكون هي بحاجة لمثل هذه الزيارة؟ وعدته قريبًا .  

    كم نحن

بحاجة إلى لم الشمل

جواد بولس

Description: https://www.alquds.co.uk/wp-content/themes/alquds/img/plus-gray.svg

أثار موقف أعضاء القائمة الموحدة، الذراع السياسي للحركة الإسلامية الجنوبية، في الكنيست، يوم الثلاثاء الفائت، موجة جديدة من التهجم عليهم وانتقادهم بلغة شديدة، حتى ذهب بعض المعقبين نحو وصف تصويت النائبين منصور عباس ووليد طه، لصالح “قانون منع لم شمل العائلات الفلسطينية”، بالخيانة.
لقد شرّع الكنيست الإسرائيلي هذا القانون لأول مرة في سنة 2003، ووصفوه بخبث كقانون مؤقت جيء به، في حينه، لمواجهة “حالة أمنية طارئة” ولمدة عام واحد. ولأننا نعرف كيف تعاملت، وما زالت تتعامل حكومات إسرائيل مع حقوق المواطنين الفلسطينيين، لاسيما ما يتعلق منها بالقضايا السكانية، أحسسنا، من وقتها، بأن الذرائع التي استعملت لتسويغ الضرورة ولتسويق القانون، لم تكن سليمة ولا صادقة؛ فالأهداف من وراء تشريعه كانت كيدية وديموغرافية وتستهدف، في الواقع، حرمان الفلسطينيين، المواطنين داخل إسرائيل، والساكنين في الأراضي الفلسطينية المحتلة، من ممارسة حقهم في الزواج من بعضهم بعضا، وبناء عائلات فلسطينية جديدة؛ ومن ثم ممارسة حقهم القانوني والإنساني، في لم شمل عائلاتهم كي تعيش في أماكن سكناها الدائمة، داخل حدود 1967.
وعلى الرغم من تحديد مدة سريان مفعول القانون، في الأصل، لعام واحد، إلا أن إبقاء إمكانية تجديده واردة، في حالة استمرار المعطيات والظروف التي استدعت إلى سنّه، حوّلته، في الممارسة، إلى قانون دائم، كما رأينا عبر السنين، وتصويت الكنيست على تمديده عاما بعد عام.
يعرف النائب منصور عباس ومعه زملاؤه في القائمة الموحدة، ومثلهم أيضا أعضاء مجلس شورى حركتهم الإسلامية، أننا بصدد قانون شيطاني جائر كان قد أوقع، خلال السنوات الماضية، آلاف الضحايا الفلسطينيين، الذين حرمهم حظره بلم الشمل، من العيش كعائلات طبيعية وبطمأنينة واستقرار وبسلام. ويكفي أن نقرأ ما كتبه عباس نفسه على صفحته، في وصف بشاعة هذا القانون حتى نفهم لماذا انتقدوه بغضب، ولماذا كانت خطوته مستهجنة، فهو الذي كتب على صفحته قبل يومين إنه: “يؤكّد بداية موقفنا المبدئي الرافض لهذا التشريع الظالم العنصري والمعتدي على حقوق أبناء شعبنا خاصة، وعلى حقوق الإنسان بشكل عام”، لكنه استطرد بعدها محاولًا تبرير تصويته والنائب وليد طه مع هذا القانون، وتبرير امتناع النائبين، مازن غنايم وسعيد الخرومي، عن التصويت معه أو ضدّه. لن أدخل في نقاشات مع مرافعات قياديي الحركة الإسلامية الجنوبية الدفاعية، ومحاولاتهم شرح وتبرير مواقف الحركة غير الملتبسة، في هذه الحالة وفي غيرها، بل الواضحة والمنسجمة مع نهجها منذ تأسيسها؛ لأنني على قناعة بأنهم لن يتراجعوا عن برامجهم المعلنة، خاصة إذا بقيت المعطيات السياسية الإسرائيلية الحالية على حالها؛ ولأنهم، هكذا افترض، يقدرون ويشعرون بأن اتباعهم لطريق السياسة النفعية/الذرائعية هو الخيار الأصوب، الذي سيزيدهم قوة داخل مجتمعاتنا العربية، التي تواجه حالة التباس واضحة، مواطنية وهويّاتيّة، كنت قد تطرقت إلى معالمها ومخاطرها في الماضي.

احتمالية تشكّل حالة اجتماعية سياسية جديدة داخل مجتمعاتنا، في ظل نشوء مفاهيم مشوهة حول المواطنة، وفصلها عن ضرورة اقترانها بهويتنا القومية

لا أعرف كم من المتابعين والمحللين السياسيين، تابعوا أو اهتموا بحيثيات خبر لقاء نواب القائمة الموحّدة مع طاقم رؤساء السلطات المحلية والبلديات العربية، الذي جرى في ضيافة الدكتور سمير محاميد، في مبنى بلدية أم الفحم، في السادس والعشرين من الشهر المنصرم؛ إذ نشر الدكتور منصور عباس على صفحته خبراً لافتاً حول اجتماع القائمة الموحدة مع رؤساء السلطات المحلية العرب، كان عنوانه، كما جاء في الخبر، “نحو تكامل العمل البرلماني والحكم المحلي العربي” وأهدافه “من أجل تعزيز التنسيق والتعاون والشراكة بين نواب القائمة العربية الموحّدة ورؤساء البلديات والمجالس العربية ولجنة الرؤساء، ومنتدى السلطات البدوية في الشمال”. وقد شارك في الاجتماع، علاوة على النائبين منصور عباس ومازن غنايم، رئيس المكتب السياسي للقائمة الموحدة، ورؤساء البلديات من المدن: أم الفحم وكفر قاسم ورهط وباقة الغربية؛ وكذلك شارك رؤساء السلطات المحلية عن مجالس البطوف والمزرعة وكفر برا والبير المكسور والمجلس الإقليمي القصوم، ورئيس منتدى السلطات المحلية العربية في الشمال، وشخصيات أخرى؛ حيث استعرض النائبان عباس وغنايم فرص وإمكانيات التعاون والتنسيق المشترك، على ضوء مشاركة القائمة الموحدة في الائتلاف الحكومي، سواء في الاتفاق على بناء الخطط الخماسية الشاملة، التي رصد لها مبالغ كبيرة في الائتلاف الحكومي، أو في التعاون الثنائي المباشر بين النواب ورؤساء البلديات والمجالس العربية. وكل ذلك حسبما جاء في الخبر المذكور.
لا يمكننا غض النظر، وعدم الانتباه إلى هذه التطورات التي تدل على احتمالية تشكّل حالة اجتماعية سياسية جديدة داخل مجتمعاتنا، في ظل نشوء مفاهيم مشوهة حول المواطنة، وفصلها عن ضرورة اقترانها بهويتنا القومية. لقد أشرنا، مع بداية ظهور أولى علامات هذا التحوّل، إلى خطورته البارزة، خاصة بعد أن ضعفت مكانة الأحزاب والحركات السياسية العربية التقليدية غير الدينية، وبعد أن اهتزت صورة قياداتها بين المواطنين، وبرزت، في مقابلها، أنماط لقيادات استمد بعضها شرعياته بشعبوية متمردة ومتحدية، وبعضها باللجوء إلى خطاب غيبي محافظ تمويهي، ومؤثر، خاصة بين فئات المواطنين غير المسيّسة والبسيطة والفقيرة. سيفضل البعض عدم الالتفات إلى هذه التداعيات “الهامشية” ونسيانها، وسوف يتفّهها آخرون ويحيلونني إلى حتمية تفتّتها على صخرة أبناء مجتمعنا، الذين يمضون نحو نصرهم الحتمي، وهم “منتصبو القامات” وبإرادات من فولاذ؛ وقد يعوّل بعض الواقفين، على الضفة الاخرى، على نهاية هذه الحكومة القريبة، التي ستنتهي معها مغامرة الحركة الإسلامية السياسية العابرة؛ وحينها ستعود الحراكات السياسية داخل المجتمع الإسرائيلي وبين الأحزاب الصهيونية إلى مساراتها العنصرية التقليدية الطبيعية، حين لن تجد الحركة الإسلامية أو شبيهاتها مكانا ولا حتى على مقاعد البدلاء، ولن تنعم بشرعية حتى لو كانت عرجاء أو عاقراً، كما أوهمتنا وتوهمت. ولكن على الرغم من جميع هذه الفرضيات أو القناعات أو التمنيات، فأنا، على نقيضها تماما، أومن بأن خطاب الحركة الإسلامية الجنوبية، كما يردده ويشرحه منصور عباس وسائر قادتها، قد ذاع بين المواطنين العاديين، وخلق لسائر الأحزاب والحركات السياسية تحديّات كبيرة، كما أنه وضع أمام مؤسسات المجتمع المدني مهام ثقيلة وصعبة. فالتزام الحركة بالعمل السياسي، في واقعنا المشوه، وفق منهج “النفعية المطلق”، من جهة واحدة، وتمسكها بالعمل من أجل بناء “مجتمع محافظ”، من جهة ثانية، سيفضي حتماً إلى فرضها وقائع تتماشى مع مبادئها، وتتعارض مع ما تؤمن به الأحزاب السياسية الضعيفة، والمؤسسات المدنية والحقوقية، التي تنشط من أجل الدفاع عن الحريات الأساسية، وعن قيم اجتماعية وسلوكيات غير “محافظة”، وفق قاموس حركات الإسلام السياسي.
أكتب ذلك وأعرف أن البعض سيدّعي أنني أبني فرضيتي من فراغ، أو أنني قد أهملت دور الحراكات الشعبية والشبابية، وتأثيرها المضاد للحركات الإسلامية، ولنهج الاندماج المنقوص والمجاني، الذي نلحظ تناميه داخل مجتمعاتنا، لكنني رغم اعترافي بأهمية هذه الحراكات، والتي سأعود إليها مستقبلًا، ما زلت أرى تعاظم دور الحركة الاسلامية وتأثير المفاعيل التي تعمل على نشر نظام الانتفاعات/ الامتيازات الإسرائيلي.
لا يستطيع أحد التكهن بما سيحصل في الأيام المقبلة، لكنني على قناعة بأن دور هذين العاملين لن ينحسر أو لن يحجّم، إلا إذا قامت داخل مجتمعاتنا قوى سياسية جديدة قادرة على لم شملنا، وعلى مواجهة المنزلق الخطر وكسب ثقة الجماهير العريضة وتأييدها. وللتنويه سأعود لما اختتم به الدكتور منصور عباس خبره عن ذلك الاجتماع، فقال: “واتفق الطرفان على الاستمرار في بلورة رؤية مشتركة لاحتياجات المجتمع العربي ووضع سلم أولويات للقضايا التي يجب التقدم في علاجها في الخطط الخماسية المقبلة، ليكون الموقف موحدا وقويا ومتماسكا أمام الوزارات والحكومة”.
هكذا إذن ! تداولوا وتحدثوا عن رؤى مشتركة في ظل مواطنة يرونها كاملة، ونحن نعتبرها، بحق، عرجاء منقوصة، خاصة إذا لاحظنا أن هويتنا الفلسطينية، التي كبرنا في ظلها، كانت غائبة عن أجندة النائب منصور وزملائه هناك.

*كاتب فلسطيني

 

 

الغضنفر

جواد بولس

كانت حركة الوافدين على مدخل مسستشفى كابلان، في مدينة رحوبوت، خفيفة؛ فدرجات الحرارة كانت مرتفعة بشكل استثنائي، وأخبار عودة انتشار فيروس كورونا بدأت، على ما يبدو، تردع البعض، وتلزمهم بالتحرك ساعة الضرورة الملحّة فقط، كيلا تعود أيام الحصار المقيتة.
دخلت من الباب الرئيسي، وبدأت أمشي نحو قسم الأمراض الباطنية في الطابق السابع؛ فهناك سوف ألتقي بموكّلي، الغضنفر أبو عطوان، الذي نقل من سجنه إلى هذا المستشفى في منتصف يونيو أثر تردّي حالته الصحية، بسبب إضرابه عن الطعام.
في البداية انتابني شعور بالغربة والضيق، فزوّار المكان كانوا مختلطين بالمرضى، وكان الجميع يتحركون بتثاقل واضح ووجوههم مغطاة بالكمامات الملونة؛ كان بعضهم يَجرّ أو يُجرّ على كراسي متحركة، ارتفعت من جنبات عدد منها مواسير فضية، تتدلى من رؤوسها أكياس مليئة بالسوائل، ومنها تنطلق أنابيب بلاستيكية رفيعة تغور أطرافها في أذرع ركاب تلك الكراسي. وقفت للحظة أراقب، فانتبهت كيف كان الجميع يتدحرجون ببطء وبصمت، ولا يتكلمون، حتى تخيّلت نفسي أمام مشهد من أحد أفلام الخيال العلمي، وهؤلاء أشباح غريبة أو مخلوقات تشبه البشر.
لم أتوجه إلى منطقة استعلامات المستشفى، فما أن استأنفت تقدمي أيقَظت رائحة المكان ذاكرتي؛ فمشيت وانحنيت يمنة ويمنة فيسرة حتى توقفت، بعد عدة دقائق، أمام المصعد المناسب الذي سيقلني، كما أقلني في السنوات الماضية، نحو الطابق السابع، حيث رقد رفاق الغضفنر قبله. في المصعد شعرت باختناق شديد. كان الهواء ثقيلاً ومشبعاً بروائح المرض والعرق والأدوية. توقفنا في كل طابق؛ كانت ثرثرة “المسافرين” متواصلة، وفوضاهم في تحديد وجهة المصعد مزعجة، فنزل من نزل وصعد آخرون وكأنهم في رحلة طيران مجانية؛ وأنا، من مكاني في الزاوية الخلفية، كنت أحاول، أن استعيد ما خبرته من زيارات المشافي، فلكل مشفى رائحته الخاصة وكل الروائح تذكرنا بالموت.
لم يكن أمام الغرفة حرس السجون، أو رجال أمن؛ فدخلتها، بعد أن مررت على أسرّة أربعة مرضى اسرائيليين، تعمّدوا إشاحة أعينهم عني، فتذكرت لحظتها، ما اسم ذكر النعام. استقبلتني أخته بنازير حارسة سلامته، وذات الشخصية القوية اللافتة، وعرّفتني على والدته وعلى ضيفين، رجل عربي وسيدة يهودية، جاءا ليتضامنا مع أخيها، جلست قريباً منه، فأدار وجهه نحوي بصعوبة ولم يتكلم، سألته إن كان يعرفني فأجابني بهزة خفيفة من رأسه وتبسم. سألته ماذا تريد مني؟ حاول أن يستقيم بجسده فبدت المهمة مستحيلة؛ لقد خانه الجسد وبقيت معه العزيمة. عيناه ناعستان تشعان، من فتحتين صغيرتين، إصراراً طفولياً؛ وذقنه مكسوة بشعر داكن، كلون الحناء، أو ربما الكستناء، وحاجباه سيفان جميلان يحملان جبينا شهيا، وشعره تخفيه كوفية عقدها مستديرة على رأسه، كزنار من شمس، بطريقة “خليلية” مألوفة، وأرخى من طرفها ذيلاً يشبه ذيل الفرس.

لقد حوّل الإسرائيليون المضرب عن الطعام إلى محرر مريض أسير، ورحّلوا عن كواهلهم، المسؤولية عن حياته وعن حريته

“أريد منك أن تخرجني من هنا إلى البيت”. قال بصوت خفيض وسبابته تلوح برقة في الفضاء، ثم أردف مؤكدا، أنه يعي خطورة وضعه الصحي؛ فهو مضرب منذ خمسة وخمسين يوماً، ولا يشرب إلا الماء، ويرفض إجراء الفحوصات الطبية؛ لكنه يعرف أيضاً أنه مسجون، منذ بداية شهر أكتوبر الماضي، بدون سبب وبلا محاكمة. فإما الحرية وإما الحرية؛ قال بحزم وحاول ألا يغفو. أوجزت أمامه خلاصة الإجراءات القانونية، التي استنفدت حتى موعد زيارتي له؛ فبعد أن أمضى مدة ستة شهور في السجن، وفق أمر الاعتقال الإداري الأول، قرر قائد جيش الاحتلال الإسرائيلي إصدار أمر اعتقال جديد لمدة ستة أشهر إضافية؛ فصادقت المحاكم العسكرية على أمري الاعتقال، ومثلها فعلت محكمة “العدل” العليا، “بذريعة كونك عنصرا خطيرا في “التنظيم” وتهدد بميولك إلى النشاط العسكري أمن وسلامة المنطقة والمواطنين. وبعد أن تردت حالتك الصحية، وفق تقارير أطباء المستشفى، تقدمت النيابة العامة الإسرائيلية بطلب من المحكمة العليا، لتجميد أمر الاعتقال أو لتعليقه، فكونك مقعداً، وبحالة صحية حرجة، لم تعد تشكل خطرا كما كنت، وذلك حسب ادعاءات النيابة. وقد استجاب قضاة المحكمة العليا لطلب النيابة، وقرروا، في الرابع والعشرين من يونيو المنصرم، تجميد أمر الاعتقال بحقك، وأوضحوا أنك، منذ تلك اللحظة، ستبقى في مستشفى كابلان، ولكن ليس كأسير، ولن يحرسك حراس مصلحة السجون ولا غيرهم، بل كمريض حيث ستستطيع عائلتك زيارتك، وفق قواعد الزيارة المتبعة في المستشفى. وأضافوا، أنه وفي حالة استردادك لصحتك ستسترد أيضا قوات الأمن الاسرائيلية “حقها” في تجديد أمر الاعتقال الإداري بحقك”.
كانت تعابير الدهشة تنطق من وجهه المتعب؛ حاول أن يستوضح كيف يمكن أن تصدر هيئة قضائية مثل هذا القرار- السخرية، فأين القانون وأين المنطق؟ قاطعته، وقلت له بألم قليل وبكثير من العتب المبطن: “ألم تتعبوا، أنتم هناك في فلسطين المحتلة، من التفتيش عن القانون في خوذات الجنود؟ أولم تيأسوا من الركض وراء المنطق الوهمي في قرارات محاكم الاحتلال؟ أما زلتم تؤمنون بعدل بنادق رسمت المواجع على شواهد قبوركم؟”. لم أقسُ على الغضنفر؛ وقلت ما قلته بلغة المحامي المجرّب، الذي يعرف كيف تكون قلوب هؤلاء المناضلين أرق من نبع، وآمالهم معلقة على رموش العبث. فأنا في الحقيقة أستوعب دهشته إزاء ما تفتقت عنه عقول أجهزة القضاء الإسرائيلي، حين اخترع قضاة ما يسمى بمحكمة “العدل” العليا إمكانية تجميد قرار الاعتقال الإداري الصادر بحق المواطن الفلسطيني، وإبطال مكانته، بالمفهوم القانوني، كأسير؛ لكنهم يمنعونه، في الوقت نفسه، أن يتصرف كإنسان حر، وأن يختار المكان الذي به سيعالج أو يموت. لقد حوّلوه إلى محرر مريض أسير، ورحّلوا عن كواهلهم، بفذلكة وقحة تشبه شطحات محاكم التفتيش الجهنمية، المسؤولية عن حياته وعن حريته. فمن بدأ في سنوات الخمسين الماضية باختراع منزلة “الحاضرين الغائبين” سيعرف اليوم كيف يخترع منزلة “المحرر الأسير”. سألته إن كان يعرف شيئاً عن تاريخ محاكم التفتيش، فلاحظت على زجاج النافذة التي بجانبه صورة وجهه وبسمة خفية وسرب حمام كان يطير بسلام.
بعد نصف ساعة تقريبا دخلت علينا الطبيبة، رئيسة القسم، وطلبت أن تشرح بحضوري للغضنفر حقوقه وواجباتها؛ فهي كطبيبة مسؤولة عن بقائه حيا، عليها أن تقوم بفحصه وبمعالجته. سمعها باحترام ورفض ما طلبته بحزم. احترمَت موقفه وحذّرتْه من أنه يمر في وضع صحي حرج، وقد تصيبه في كل لحظة جلطة دماغية أو سكتة قلبية، وقد يقع ضحية لحالة وفاة فجائية. أصغى لها بانتباه شديد، ومدّ كفه نحو السماء وأغمض عينيه، لهنيهة، ثم نظر نحو أمه، التي كانت تستمع للحديث بعينين حائرتين وبشفة مزمومة وسمرة تشبه لون العناب، وقال للطبيبة بطيبة: إما ذلك المدى، وأشار نحو سرب الحمام البعيد، وإما هذا الردى. أحسست بركاناً في شراييني وتمنيت لو أكتب اليوم قصيدة يكون مطلعها: “على هذه الأرض من يستحق الحياة”.
نظرتُ في عيني الطبيبة التي كنت أعرفها منذ سنوات، وتابعت معها عدة حالات أسرى مشابهة، بدءا من قضية الأسير سامر العيساوي عام 2012، وآخرها قضية الأسير ماهر الأخرس، عام 2019، فلم أجد في عينيها غير الحيرة والدهشة. بلعت ريقها، توقفتْ عن الكلام للحظات ثم تابعته فقالت للغضنفر: أنت في الواقع بالنسبة لنا إنسان حر، وتستطيع أن توقع على وثيقة مغادرة وتغادر المستشفى على مسؤوليتك، لكنني ملزمة، هكذا أردفت، أن أخبرك أنك اذا اخترت ذلك، سأقوم بإخبار حرس المستشفى، فلربما لديهم تعليمات أخرى.. لم ينتظر الكمالة فأجابها مباشرة: لن أوقع لكم على أي ورقة، واعلمي أننا والحرية على ميعاد.
أعلمته بدوري أنني انتظر من المستشفى إعداد تقرير طبي جديد، فبعد استلامه سوف أتوجه إلى الجهات الإسرائيلية المعنية وسأطالب بالإفراج عنه أو بنقله إلى مستشفى فلسطيني، وإننا سنلتقي قريبا. استسمحته المغادرة، فأذن لي بعد أن ضمن وعدي بأن أكون ضيفهم على مائدة التحرير؛ غصصت، وأعلنت عن إضرابي عن الطعام كي آتيهم جائعا. ضحك مثل فلة أصيلة، ووضع سبابته على شفتيه وحررها برشاقة فارس فكانت هذه قبلته هي زوادتي في طريق عودتي.
تواصلت مع الإخوة في نادي الأسير، وبلغتهم تفاصيل زيارتي؛ فأفرحوني بتفاصيل عملية الإفراج عن الشيخ خضر عدنان بعد شهر من خوضه إضرابا محكما عن الطعام. وقرأوا لي مقطعا من رسالته التي نشرها فور تحرره، حيث خصني بها بمقطع قال فيه: “سلامي للمحامي الإنسان الذي افتخر به، ورافقني في السنوات (2011،2012، 2015، 2018 ،2021 ) جواد بولس الفذ، الذي أفخر بصحبته وأهله وزوجه وعياله. ابنته كتبت لي في بداية الاضراب: الحرية لخضر عدنان. وأسأل الله أن لا أكون قد خذلتها، ولا الأهل في كفرياسيف، ولا في الجولان، ولا في المثلث، ولا في غزة، ولا في الشيخ جراح، ولا في القدس ولا في جنين ولا في أي موقع”. سمعت الرسالة بغبطة جمة، ونظرت إلى الأعلى. كان شباك الغضنفر فوقي، وكنت أسمعه، هكذا خيّل لي، يردد معي “على هذه الأرض من يستحق الحياة “. طرت عائدًا إلى وعدي ومن فوقي راح يصفق سرب حمام.

*كاتب فلسطيني

حكومة بينيت – عباس…

ابنة الانتهازية والالتباس

جواد بولس

على الرغم من مرور شهر تقريبا على إعلان يائير لابيد عن نجاحه بتشكيل حكومة إسرائيلية جديدة، وحصولها على الدعم من قبل الحركة الإسلامية الجنوبية، لا نستطيع أن ندّعي بأن مشاعر سخط المواطنين العرب على هذه الحكومة بارزة للعيان، بشكل لا يقبل المناقشة والتأويل؛ ولا أن ندّعي بأن معارضة “الشارع” العربي، داخل إسرائيل، لقرار دعمها من قبل الدكتور منصور عباس وزملائه في القائمة الموحدة، واضح لجميع المراقبين والمتابعين والمحللين.
لقد سمعنا، بالطبع، انتقادات متفرقة لهذه الخطوة؛ وقد تصدّر نواب القائمة المشتركة حملات الانتقاد هذه، والهجوم على زملائهم في القائمة الموحدة، ومثلهم فعل قادة الحركة الإسلامية الشمالية، المحظورة داخل إسرائيل، ومعهم قيادات بعض المؤسسات المدنية والشخصيات النخبوية؛ ولكن إذا أصغينا بجدية لنبض الجماهير، وإذا نظرنا بدقة إلى طبيعة الأجواء السائدة في معظم القرى والمدن العربية، لن نشعر بحالة من الفوران والغضب الشعبيين، بل ربما سنلمس حالة من شيوع الالتباس، التي تجاورها، في بعض الجيوب السكانية الواسعة، مشاعر من الترقب أو التمني بخيرات حكومة التغيير الجديدة، كما سماها مقيموها.
لسنا في معرض تحليل هذا الواقع ولا بمآلات تشكّله التاريخي؛ لكننا نستطيع، بهذه العجالة، أن نعدد بعضاً من الأسباب البارزة التي ساعدت على بلورته، وعلى إفشاء حالتي: الالتباس العام والتخبط الهويّاتي. فهنالك فوضى في سوقي المواطنة والهوية؛ حيث لا يستطيع المواطن العربي العادي أن يقتفي، وأن يتفهم ما هي مواقف معظم الأحزاب والحركات السياسية والدينية الناشطة في مجتمعاتنا، إزاء العلاقة بين شقي معادلة وجودنا بمركبيها: المواطني/ الاسرائيلي والوطني/ الفلسطيني، ولا كيف يشتبكان أو يتعايشان، ليس في النظرية وحسب، إنما في حياة ذلك المواطن اليومية، وأثناء ممارسته للعلاقات الطبيعية مع مؤسسات الدولة وداخل مجتمعه.

حالة من شيوع الالتباس تجاورها، في بعض الجيوب السكانية، مشاعر من الترقب والتمني بخيرات حكومة التغيير، كما سماها مقيموها

وكي لا نذهب بعيداً في التاريخ، ولا نظلم أحداً على حساب أحد، أقول إن الجميع كانوا وما زالوا شركاء في خلق وهندسة هذا الواقع الملتبس؛ فالحركة الإسلامية نفسها كانت سبباً في خلق هذه البلبلة الهوياتيّة، خاصة بين مؤيديها؛ ليس فقط بتقديمها، كما هو متوقع، مركب الإسلام على غيره في هوية الإنسان/المواطن الفلسطيني، بل بخلقها حالة من الصراع الشديد داخل المجتمعات الإسلامية، عندما انقسمت على نفسها، في منتصف تسعينيات القرن الماضي، واختلف جناحاها حول شرعية المشاركة في انتخابات الكنيست الإسرائيلية. لقد نمّى ذلك الانقسام، الذي ما زال قائماً بحدة، مشاعر الضياع في كثير من التجمعات السكانية، وساعد على عزوف الكثيرين عن المشاركة السياسية، ودخولهم إلى حالة من الفردانية، وحتى الاستدفاء في أحضان الدولة، والتماهي مع مؤسساتها. ثم إن استغلال مجلس شورى الحركة لحالة الفوضى السياسية الحزبية القائمة، وللتناقضات في تعريف حدود الممنوع والمسموح، وطنياً ومواطنياً، ساعدهم، إلى حد بعيد، في تسويق قرارهم الأخير؛ خاصة بعد أن أكدوا على الملأ أن اختيارهم لنهج “الدبلوماسية النفعية” لم يولد في زمن الدكتور منصور عباس، بل سبقه إلى ذلك المحامي عبدالمالك دهامشة، الذي مثل الحركة في الكنيست، (منذ عام 1996حتى عام 2006)، ورغم سلوكها المعروف، لم تمتنع مركبات القائمة المشتركة عن اتخاذ الحركة الإسلامية حليفا لها في جولة الانتخابات قبل الأخيرة.
لم يكن حال حزب التجمع الوطني في خلق واقع المواطنين العرب السياسي التعيس أفضل من غيره؛ فعلاوة على التنافر البنيوي القائم بين عقيدة الحزب السياسية وطموحاته في الواقع الإسرائيلي، أدّى ضعف مؤسساته القيادية، وتعلقها لسنوات طويلة بمؤسس الحزب، حتى بعد استقراره في دولة قطر، وتخبطهم في اتخاذ المواقف المفصلية أحياناً، إلى ابتعاد أعداد بارزة من كوادره القيادية، وإلى خلق بلبلة كبيرة في صفوف واسعة من مؤيديه العلمانيين، وإلى تشظيهم بين مجموعات راديكالية ضاجة، ومجموعات تحترف الصمت إحباطاً ويأساً. وللتدليل على حجم دور حزب التجمع في تصنيع وإشاعة حالة الالتباس التي ذكرتها، سوف أستعين بمثالين وقد وفرتهما مؤسساته مؤخرا.
فقرار مؤتمره، قبل جولة الانتخابات الأخيرة، باستبدال رئيس الحزب، بعد مدة قصيرة جداً من انتخاب الرئيس، كان دليلاً على التخبط، وعلى افتقار قيادته لصفة الحسم، تماما كما ظهر في حالة امتناعهم عن تجريد مازن غنايم، الذي كان يعدّ أحد قياديي حزب التجمع البارزين، من عضويته في الحزب، حتى بعد إعلانه الانضمام إلى الحركة الإسلامية وانتخابه نائبا عنها في الكنيست، ناهيك من كون انتقاله هو خطوة انتهازية بامتياز. قد يكون دور الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة في تدهور الحالة السياسية بين المواطنين العرب في إسرائيل، هو الأكبر؛ ببساطة لأن دورها التاريخي في بناء ذلك الواقع كان أيضًا هو الأكبر. وحين أقول ذلك أعرف أن الكثيرين سوف لا يوافقون على هذا التقييم، أو أنهم فرحون لأن منجزات الحزب الشيوعي، ومن ثم منجزات الجبهة الديمقراطية، تآكلت أو أنها دمرت وأمست من دوارس الماضي. إنها مسألة كبيرة لا يمكن تغطيتها في هذا المقال، لكنني سأكتفي بالإشارة إلى عدد من العناوين الرئيسية، التي كانت تميّز مواقف الجبهة وممارساتها في عصر قيادتها الذهبي، آملاً العودة إلى معالجتها كما يجب. لقد اهتم آباء الحزب الشيوعي، وبعدهم قادة الجبهة الديمقراطية، إلى بناء معادلة متوازنة بين حقيقتي كوننا جزءا لا يتجزأ من الشعب الفلسطيني، وفي الوقت نفسه، مواطنين في دولة إسرائيل؛ وقد ناضلوا، من مواقعنا، منذ البدايات، إلى جانب أبناء شعبهم وخطّوا، في أكثر من حالة تاريخية، شعارات المرحلة الوطنية، واجترحوا، في الوقت ذاته، وسائل الصمود والكفاح الحكيمة والناجعة. لم يغرهم بريق شعارات القوميين من جهة، ولم تردعهم، من جهة ثانية، هرولة بعض “مخاتير” العرب إلى أحضان إسرائيل، ولا زعرنات أذنابها في ذلك الوقت؛ لكنهم أكدوا دوماً على ضرورتين أساسيتين للصمود وهما: تعزيز الوحدة الكفاحية مع القوى المحلية الوطنية، والعمل مع القوى التقدمية اليهودية. لم يكتفوا بردود الفعل على سياسات إسرائيل العنصرية، فبادروا، كما يليق بقيادات مجتمع يكافح من أجل البقاء في الوطن، والعيش بكرامة وبمساواة قومية ومدنية، بوضع سياسات تستشرف المستقبل، وببناء المؤسسات الكفيلة للوصول إلى ذلك المستقبل. لقد استلهموا، في سبيل ذلك، تجارب الشعوب ونضالاتها ضد الفاشية تحديدا، فعرفوا متى وكيف تبنى الجبهات ومعها وحولها عدد من المؤسسات القيادية: النقابية والمدنية والنسائية والطلابية والشبابية والبلدية.
لم تحافظ الجبهة على صدارتها ومواقعها، لأنها لم تستحدث بناها التنظيمية، ولأنها قبلت بترئيس قيادات حزبية ضعيفة، وغير قادرة ولا معنية بمواكبة معظم التغييرات التي حصلت داخل المجتمعين، اليهودي والعربي؛ فتحولت معظم هيئاتها إلى مجرد هياكل باهتة تتحدث، على الأغلب، بأكثر من لغة وبعكس ما يتوقع منها.
لن أجد صعوبة بتقديم عشرات الأمثلة على تلكؤ مؤسسات الجبهة وغيابها عن تأدية دورها الريادي، أو عن قصورها المتكرر في مواجهة وإزالة حالة الالتباس المستشرية بين الناس، وفشلها في بناء جبهة عريضة لمواجهة اليمين والفاشية.
سيكفيني، في هذه الجزئية، أن استحضر كيف هاجم ويهاجم بعض القياديين الشيوعيين والجبهويين جميع الأحزاب والمؤسسات والشخصيات الصهيونية، بدون التمييز بينهم وبين مواقفهم إزاء مسألتي الاحتلال ومطالبنا بالمساواة، وإلزام رفاقهم بهذه المواقف، رغم عدم وجود إجماع حولها؛ كما رأينا في مواقف بعض قيادييهم وآخرهم ما بادرت اليه النائبة عايدة توما.
لا أعرف ما إذا ستهاجم النائبة عايدة توما من قبل بعض رفاقها، بسبب مبادرتها التي دعت فيها، بالشراكة مع زميلها النائب عن حزب “ميريتس” موسي راز، المعدود في قاموس السياسة الإسرائيلية من أحزاب اليسار الصهيوني، إلى عقد مؤتمر تحت عنوان “بين الاحتلال والأبرتهايد”. لقد عقد المؤتمر داخل الكنيست، رغم أنف عدد من النواب الفاشيين اليمينيين، وشاركت فيه، قبل يومين، مجموعة من مؤسسات المجتمع المدني، العربية واليهودية. لقد أوضحت النائبة توما، على صفحتها على أنه “في السنوات الأخيرة غيّبت الحكومات الإسرائيلية موضوع الاحتلال من خطاب غالبية الخريطة السياسية، ولكنها لم تغيّب من جدول أعمالها هي تعميق الاحتلال، وتوسيع المنظومة الكولونيالية للاستيطان، ونشاطات ترسيخ نظام الأبرتهايد”؛ وهذا ما دعاها إلى المضي في مبادرتها بالشراكة التامة مع النائب عن حزب “ميريتس” الصهيوني، الذي أعلن ويعلن أسوة بصهاينة كثيرين معارضته للاحتلال، ووقوفه في وجه الفاشية والفاشيين، وتأييده لجميع مطالبنا بالمساواة التامة.
ما زلت أراهن على أن حياة هذه الحكومة ستكون قصيرة؛ وهي في الواقع ليست أكثر من بديل يميني بجوهره، فُرض على جميع الشركاء، لأداء مهمة الانتقال من عصر اليمين النتنياهوي، الذي يدفع ثمن جشع وتورط أيقونته وقائده “المفدى”، إلى عصر الظلمات الذي قد يجتاح البلاد قريبًا من النهر وإلى البحر.
فإذا حصل ذلك وسقطت هذه الحكومة، علينا، كما قلت مرارا، أن نراجع بعض مفاهيمنا السياسية الأساسية، وأن نفتش عن حلفائنا من أمثال موسي راز وغيره، ومعهم نبني جبهتنا ونعزز قوتنا في وجه حكومة الظلام الآتية.

*كاتب فلسطيني

 

 

ما العمل؟ كان

سؤالنا الأكبر ولم يزل

جواد بولس

نجح يائير لبيد، رئيس حزب «يش عتيد» بإقامة حكومة إسرائيلية جديدة، بعد أن تنازل عن رئاستها في نصف مدة ولايتها الأول، لصالح رئيس حزب «يميناه» نفتالي بينيت، وبعد أن ضمنوا دعمها من قبل نواب القائمة الموحدة التي هي في الواقع ممثلة للحركة الإسلامية الجنوبية في الكنيست.
رافقت جلسة التصويت على إقامة الحكومة، التي جرت يوم الأحد الفائت، مشاعر الإثارة والترقب؛ فإمكانيات فوزها بثقة الأغلبية بقيت غامضة حتى اللحظات الأخيرة، بعد أن أعلن بعض النواب في أحزاب الائتلاف عن إمكانية امتناعهم عن دعمها، أو حتى التصويت ضدها. وقد برز من بين هؤلاء «المتمردين» النائب سعيد الخرومي، ممثل منطقة النقب في القائمة الموحدة، الذي احتج على استمرار عمليات هدم البيوت في القرى البدوية، بما فيها القرية التي يسكنها النائب وغيرها.
لم يصوّت النائب الخرومي ضد الحكومة المقترحة، بل أعلن، في اللحظة الحاسمة، امتناعه عن التصويت، مسجلاً، في مشهد تاريخي أنومالي/شاذ، موقفاً يعادل، في الواقع، إعلان دعمه لها؛ لأنها حظيت، بسبب امتناعه، بستين صوتاً، بينما عارضها تسعة وخمسون نائباً، منهم ستة أعضاء القائمة المشتركة. لقد اثار تغيّب النواب أيمن عودة وأحمد الطيبي وأسامة السعدي عن جولة التصويت الأولى انتقادات شديدة داخل بعض أوساط المواطنين العرب؛ فقد تبين في النهاية أنهم لم يقصدوا فعلياً إسقاط الحكومة، بل عادوا إلى قاعة الكنيست وصوتوا ضدها في جولة التصويت الثانية، بعد أن تأكدوا من أنها حصلت على الأغلبية النيابية المطلوبة.
ستبقى جميع هذه التفاصيل، رغم أهميتها لدى البعض، غباراً على صفحة الحدث الأهم؛ وهو برأيي مشاهد المخاضات الأخيرة من عملية الصراع السياسي المحتدم داخل المجتمع الإسرائيلي؛ والنجاح النسبي، غير المفهوم ضمناً، بإيقاف زحف القوى اليمينية المستوحشة نحو سدة الحكم، وتوقعاتها أن تستولي على الدولة التي كانت ستتحول إلى كيان آخر لا يشبه المألوف الذي عانينا، نحن المواطنين العرب، من سياساته وممارساته طيلة العقود الماضية. من الصعب أن نتنبأ حول عمر هذه الحكومة المتوقع، أو كيف ستتصرف أزاء معظم القضايا المفصلية والخلافية بين مركباتها الثمانية التي تجمعها شهوة الحكم والكراهية الكبيرة لشخص بنيامين نتنياهو، وتفرق بينها العقائد والمصالح والمطامع والرؤى.
يعتقد البعض أن ضعف أحزابها وصغرها ستكون من بواطن قوتها، فنفتالي بينيت، على سبيل المثال، يعرف في قرارة نفسه، ورغم انتمائه الطبيعي إلى معسكر اليمين الصهيوني المتدين، أنه ما كان ليحقق أمنية حياة كل سياسي، ويصبح رئيس حكومة وهو يقود حزباً مكوناً من ستة أعضاء كنيست فقط. لم يتقبل اليمين الجديد خسارته، ولم يعترف الكثيرون من رموزه، بشكل واضح، بشرعية حكومة بينيت – لبيد. وإذا ما راجعنا خطاب نتنياهو في الكنيست وتصرفاته بعد تشكيل الحكومة، سنلمس أنه لم ولن يتوقف عن إيجاد لحظة الانقضاض مجدداً على الحكم، سواء عن طريق محاولاته لإسقاطها من داخلها، أو عن طريق وكلائه الغوغائيين، ودفعهم لخلق الفوضى والبلبة في شوارع الدولة، وفي نقاط التماس الحساسة، وإكثارهم من عمليات التحريض والاعتداءات، على غرار ما قامت به قطعان اليمين في هجومها قبل شهرين على الأحياء العربية في المدن المختلطة، وإشعال موجة المواجهات الأخيرة مع المواطنين العرب؛ أو ما شاهدناه يوم الثلاثاء الماضي عندما أصرت جماعات المستوطنين واليمينيين السائبين على إجراء ما يسمونه «مسيرة الأعلام» الاستفزازية لمشاعر المقدسيين والمسلمين، التي كانت أيضا، في هذه المرة، أولى خطوات إرباك الحكومة الجديدة وحشر حلفائها، خاصة أعضاء القائمة الموحدة/ الحركة الإسلامية في «خانة اليك». وقد سارع النائب منصور عباس إلى شجب المسيرة، ووصفها بعمل استفزازي؛ فنجا مؤقتاً من تبعاتها؛ لكنه أحس، هكذا أتوقع، بغرابة تأييده شبه المطلق لحكومة سوف تضطر في المستقبل القريب إلى إجازة «مسيرات»سياسية أخطر وأكبر من مسيرة أعلام مستفزة».
سوف نعود، بطبيعة الحال، إلى مناقشة مواقف الحركة الإسلامية واختيارها طريق الشراكة النفعية مع حكومة إسرائيل، من دون أن تعلن ما هي ضوابطها السياسية ومتى وفي أي الظروف ستفك ارتباطها، خاصة أن قادتها ما زالوا يصرون على كونها «بيضة القبان» ويشيدون بقرارهم الذي أدى إلى إسقاط حكومة نتنياهو، وتحقيقهم ما وعدوا الناخبين به، كما جاء في بيانهم الرسمي الصادر في أعقاب تأييدهم للحكومة. وإلى أن تتم عودتي لمناقشة خطوات ومواقف الحركة الإسلامية، أود تذكير مجلس شورتها، وهو الهيئة الموجهة العليا وصاحبة الصلاحية في اتخاذ قرارتها، بأن قائمتهم قد تعتبر «بيضة القبان» تماماً، كما كانت تستطيع أن تكون القائمة المشتركة «بيضة ذلك القبان» لكنها لم ترض بذلك، ولم تفعل، لأننا ببساطة بحاجة لوجود «قبان» قبل أن يصير حزب أو حركة ما «بيضته».

ما يجري في إسرائيل تفاعلات معركة سياسية ستحسم قريباً؛ والمشكلة أنها قد تحسم ونحن العرب، نعاني حالة ترهل سياسي خطيرة

ودعوني أذكركم أيضا، أن شعار إسقاط حكومة نتنياهو خلال المعركة الانتخابية الأخيرة، كان أحد أبرز شعارات «القائمة المشتركة» وبعض الأحزاب اليهودية الأخرى مثل حزبي «ميريتس»و»العمل»؛ لكنه لم يكن شعار قائمتكم على الإطلاق.
واذا نسيتم فتذكّروا كيف أيّدتم موقف رئيس القائمة الدكتور منصور عباس الذي أطلق وتمسك بشعاره الملتبس «لسنا في جيب أحد» وأعلن «أننا لسنا يساراً ولا يميناً» ثم مضى يفاوض نتنياهو الذي احتضنه بمحبة أبوية «وبيّضه» بمهنية، وشرعنه أمام المجتمع اليهودي. لقد سمعنا، مثلكم، كيف شكر نفتالي بينيت، في خطاب العرش، بنيامين نتنياهو وامتدح علاقته مع عباس؛ فلولا ما قام به نتنياهو، هكذا صرّح بينيت، في هذا الاتجاه لكان من الصعب عليه وعلى حلفائه احتواء الدكتور عباس، وقبول حركتكم كحليف شرعي داعم لحكومتهم.
لم تُخرج الانتخابات المجتمع اليهودي من أزمته السياسية؛ ولا أرى كيف ستساعده هذه الحكومة على تخطي المرحلة والانتقال إلى مرحلة مغايرة جديدة؛ خاصة وكلنا يعرف أن إبعاد الأحزاب الصهيونية المتدينة وأحزاب اليهود الحريديم، عن تشكيلة الحكومة التي يشارك فيها حزب نفتالي بينيت «يميناه» وحزب «الأمل الجديد» برئاسة اليميني جدعون ساعر، كان عملياً مجرد خيار انتهازي للاثنين، ما خلق واقعا سياسيا غير مستقر، يناقض مواقف أكثرية المجتمع الإسرائيلي الحقيقية، كما عبرت عنها نتائج الانتخابات الأخيرة. فما يجري أمامنا هي تفاعلات معركة سياسية ستحسم قريباً؛ والمشكلة انها قد تحسم ونحن، العرب، نعاني حالة ترهل سياسي خطيرة، وضياع في سراديب معتمة؛ فالحركة الإسلامية اختارت طريقاً لم يسلكه من قبلها أي تنظيم عربي ولا نعرف إلى أين سيفضي بها وبنا، وكيف سيؤثر في سلوكيات أبناء مجتمعاتنا؛ بينما لم تعد القائمة المشتركة، بشكلها الحالي، عنواناً ملائما لمواجهة المرحلة المقبلة ولا وسيلة جاذبة ومقنعة للناس. في المقابل، نشاهد كيف تنمو بيننا شرائح شبابية تفكر بشكل «افتراضي» وتعمل بأساليب غير تقليدية وبفوضوية أحيانا؛ فتفور ساعة وقوع حدث ما، أو احتفاءً بذكرى ما، ثم تهدأ وتختفي داخل عوالمها الافتراضية؛ وعلى الغالب ما يجري كل ذلك بغياب قيادات واضحة لها وبدون أهداف سياسية محددة ومعلنة. إنهم أبناء جيل ما زال يفتش عن لغة توحّده وعن هوية تعرّفه وعن وجهة يبحرون صوبها ؛ لكنهم يتدافعون بأحاسيسهم، قبل كل ذلك ومن أجله، ضد عنصرية إسرائيل، ويواجهون بأجسادهم، بلا خوف، سياساتها ويتصدّون لأوباش اليمين بلا هوادة ونصرة لكراماتهم ولحقوق أبناء شعبهم.
لقد عرّت الانتخابات بشكل نهائي عيوب قادتنا وعجز معظم الأحزاب والحركات الناشطة بيننا؛ وأخشى أن يحصل الانكسار المقبل داخل المجتمع الإسرائيلي ولمّا نلملم جراحنا بعد، ولم نعدّ أنفسنا لمواجهة المرحلة المقبلة، فأمامنا خياران، أولهما: أن تعمّر حكومة بينيت – لبيد مدة أطول مما نتوقعه، وساعتها سيكون على قيادات مجتمعنا إيجاد السبل للتواصل معها لما فيه مصلحة الناس ومجتمعاتنا؛ وإما، وهذا الاحتمال الثاني، أن تسقط الحكومة قريباً، ويستأنف التاريخ الأسود فورانه ويستعيد اليمين الفاشي حكومته، فساعتها علينا أن نعرف كيف نقاوم وكيف نصمد أمام من لن يترددوا بالعودة إلى إحيائنا لإتمام ما بدأوا به في معركتهم الاخيرة.
لقد كان سؤالنا الأكبر قبل الانتخابات ما العمل؟ وبقي سؤالنا الكبير بعدها ما العمل؟
كاتب فلسطيني

 

« يداً بيد» وحكومة

إسرائيل المقبلة

جواد بولس

سأكتب مقالتي هذه المرة باسم التفاؤل، عن بقعة ضوء صغيرة وجميلة؛ وقد أنهكتنا العتمة في مواقعنا وحولنا في الشرق النازف عجزاً وجهلاً. أعرف أن الخوض في العموميات يكون على الكاتب بالعادة أسهل، واحتماءه بالغيبيات يحيل ليله إلى قنطرة، واحترافه للرفض يجعله إمّا منظّراً أو «مفكراً» وإدمانه على المزايدات قد يحوله إلى «مناضل» ومسطرة.
لم يسمع معظم القراء، على الغالب، باسم جمعية «يداً بيد» لأنها رغم أهمية ما تؤمن وتقوم به، تعتبر مؤسسة صغيرة تعنى بتنشئة أجيال جديدة من الطلاب العرب واليهود، على مبادئ الشراكة الحقة بين جميع المواطنين في إسرائيل، وعلى أسس من التكافؤ الكامل واحترام الغير، وقبول موروثه الثقافي ومعتقداته، ومفاصل تاريخه كما هي موجودة في ذاكرته الجمعية وفي سردياته الخاصة.
لقد آمن مؤسّسو الجمعية بأهمية رسالتي التعليم والتربية، وبكونهما الوسيلتين الأساسيتين لبناء حاضر المجتمعات، وضمان مستقبلها السليم، خاصة إذا كان المجتمع يواجه انشطارا عاموديا، وتتخاصم قطاعاته المختلفة، لأسباب تاريخية، مثلما هو الحال بين العرب واليهود داخل إسرائيل. بدأت الفكرة تتجسد عن طريق بناء مدارس تعتمد نظاما تعليميا ثنائي اللغة، يتعلم فيها الطلاب العرب واليهود، من جيل الحضانات حتى التخرج، باللغتين العربية والعبرية، ووفقاً لمناهج خاصة يتمّ إعدادها وانتقاؤها من قبل طواقم المعلمين والمسؤولين التربويين العاملين في الجمعية. أقيمت أول مدرسة عام 1997 وكانت في بناية متواضعة ومستأجرة في أحد أحياء القدس، ثم ما لبثت تتطور حتى أصبح لدى الجمعية في أيامنا سبع مدارس يتعلم فيها أكثر من ألفي طالب، عربي ويهودي. بنيت أولى المدارس العصرية التابعة للجمعية في القدس عام 2007 بدعم كامل من عائلة ماكس رين البريطانية، ثم أقيمت بعدها المدارس في منطقة المثلث كفر قرع وكفر قاسم وراس العين والجليل ويافا وحيفا وبيت بيرل. يقوم على إدارة الجمعية طاقم عربي ويهودي من الموظفين أصحاب الخبرة، ويعلّم في مدارسها طواقم معلمين، عرباً ويهوداً، وجميعهم مؤمنون بالفكرة وبأهمية الرسالة.
تعرضت مدرسة «يداً- بيد» في نهاية عام 2014 لاعتداء آثم، حيث قامت مجموعة من ناشطي اليمين الفاشي بإحراقها، وبكتابة عدة شعارات معادية للعرب وللمدرسة التي يتعلم بين جدرانها طلاب عرب ويهود. أثار الاعتداء، في حينه، موجة من الغضب في أوساط رسمية وشعبية عديدة، لاسيما بين عائلات الطلاب وأصدقاء جمعية «يدًا بيد» الذين طالبوا بالكشف عن الجناة وبتقديمهم إلى القضاء. نجحت الشرطة باعتقال ثلاثة مجرمين ناشطين في إحدى الحركات العنصرية الفاشية، وتمّ تقديمهم إلى القضاء بتهم التحريض على العنف وإحراق المدرسة. بعد أن «استفزتهم» المدرسة، حسب ادعاءاتهم، عندما أحيت ذكرى وفاة الرئيس الراحل ياسر عرفات. اعترف الأخوان شلومو ونحمان طويطو بالتهم المنسوبة إليهما، فحكمت المحكمة المركزية في القدس، أواسط عام 2015، بالسجن الفعلي لمدة عامين على شلومو طويطو، بينما حكمت على نحمان بالسجن الفعلي لمدة عامين ونصف العام. وفي وقت لاحق بتاريخ 1/12/2015 تمت إدانة المتهم الثالث ويدعى يتسحاك جباي، بعدة تهم جنائية، تضمنت، علاوة على التهمتين المذكورتين، تماثله مع تنظيم إرهابي؛ فحكمت عليه بالسجن الفعلي لمدة ثلاثة أعوام، ومن الجدير ذكره أن المحامي عضو الكنيست الحالي إيتمار بن جبير، مثله ودافع عنه أمام القضاء.
استقطب حكم المحكمة المركزية انتقادات واسعة، فوصفته جهات عديدة بالحكم الخفيف، وبكونه خالياً من مركب الردع، ليس بحق الجناة، الذين صرحوا بأنهم نفذوا جرائهم انتقاماً من المدرسة التي تساعد على التعايش والاختلاط بين المواطنين العرب واليهود، وحسب بل لضرورة إشاعة أجواء الردع في وجه موجات التحريض والاعتداءات العنصرية المتفاقمة في جميع أنحاء البلاد. قامت النيابة العامة بتقديم استئناف على الأحكام الصادرة فقبلته المحكمة العليا، وأضافت على حكم كل من الأخوين طويطو مدة ثمانية أشهر على السجن الفعلي، وعلى المتهم جباي مدة أربعة شهور، بعد أن وصف القضاة خطورة جرائمهم العنصرية، التي استهدفت هدم النسيج الإيجابي، الذي تحاول جمعية «يداً بيد» ومؤسساتها التربوية بناءه.

«يداً بيد».. منارة تبعث الأمل في زمن العتمة، وبقعة ضوء صغيرة وجميلة نتمنى أن تدوم، وألا تدفنها حكومة إسرائيل الجديدة

لم يكن درب الجمعية خضراء؛ فمنذ البدايات وحتى أيامنا تواجه تحريض القوى اليمينية، وتواجه إعراض مؤسسات الدولة وتردُّد وزاراتها في قبول فكرة التعليم ثنائي اللغة؛ وهي الفكرة التي قوبلت ايضا بالتشكيك من قبل المجتمعين العربي واليهودي، اللذين كبرا في دولة ربّت مواطنيها اليهود على استرياب مواطنيها العرب، ونمّت بين مواطنيها العرب مشاعر القهر، جراء سياساتها العدوانية والعنصرية بحقهم وبحق أبناء شعبهم.
لقد صمدت الجمعية في وجه جميع محاولات كسرها وإفشالها ونجحت مدارسها، بدعم الخيّرين المؤمنين بالنور ولاعني الظلمات، بترسيخ نهجها الطلائعي الجديد، الذي بدأ يستقطب اهتمام قطاعات واسعة من العالم وداخل المجتمع الإسرائيلي.
«يدًا بيد» والحكومة الجديدة!
من المتوقع أن تصوت الكنيست يوم الأحد المقبل على حكومة لابيد – بينت، التي ستنال لأول مرّة في تاريخ إسرائيل دعم قائمة عربية إسلامية، لم يتم تشكيلها منذ البداية كقائمة تابعة لحزب صهيوني، كما كان يجري في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، مع خلق ظاهرة «أقمار» حزب «مباي» وأعوانه من بين المواطنين العرب.
كانت السياسة ومازالت أمّ الخيبات وقاهرة المستحيلات، وستبقى، كذلك، سيدة المفاجآت الكبرى؛ فلا أحد يستطيع أن يتخيل كيف ستصمد هذه الحكومة المتوقع إعلانها رغم جميع التناقضات الجوهرية القائمة بين مركباتها، ولا أعني طبعا صعوبة توافق نواب الحركة الإسلامية مع سياساتها المتوقعة، بل أقصد استحالة استمرار حالة «الطاعة البيتية» بين نفتالي بينت من جهة وسائر الشركاء، خاصة إذا استمرت الأحزاب اليمينية والدينية التي بقيت خارج الإئتلاف بهجومها السافر والمباشر عليه. يساورني حدس بأن عمر هذه الحكومة سيكون قصيرا؛ فطبيعتها غير متجانسة مع روح الفضاءات السياسية، التي تجلت في نتائج الانتخابات الأخيرة؛ وهي، بكونها البديلة أو النقيضة للحكومة الأسوأ والأخطر التي لم ينجح نتنياهو بتشكيلها، لا تعد إفرازا طبيعيا، لوجهة التيارات الصهيونية المتعاظمة داخل المجتمع الإسرائيلي، والجانحة نحو يمينية صهيونية دينية، متوشحة بنزعات فاشية واضحة.
لقد شاركتُ في جميع جولات الانتخابات النيابية للكنيست الإسرائيلية، ودعوت غيري للتصويت؛ وحاولت أن أؤثر في النتائج كي ندرأ، نحن المواطنين العرب في إسرائيل، الأسوأ. وأعي أننا نعيش وسط مجتمع يهودي تتزايد عنصريته السامة من يوم إلى يوم، وأعرف أنه ليس بالمشاركة السياسية وحدها سنحصل على حقوقنا، لكنني مقتنع بأننا بممارستها ستكون فرصنا بالحياة الكريمة أكبر وأكثر واقعية، خاصة إذا عملنا من أجل تعزيز وحدتنا، واتفقنا على ما نريد وما لا نريد وما هي وجهتنا وكيف تكون نجاتنا.
آمنت، منذ البدايات، بضرورة الشراكة مع القوى اليهودية، التي ترفض الاحتلال الإسرائيلي، وتقاتل من أجل تحويل إسرائيل لدولة مواطنيها، حيث ينال فيها الجميع كل حقوقهم، المدنية والقومية، ويعيشون بمساواة وحرية وعدل كاملين غير منقوصين. لقد خضت خلال العقود الخالية تجارب عديدة، فحققنا، على طريق تلك الشراكة، القليل القليل، وفشلنا في معظم الجبهات والمعارك؛ ومع ذلك لم أيأس، لأنني مقتنع بأن هويتي هي لغتي ودمي وهي حصني، ولكن مواطنتي، مهما كانت منقوصة، هي، بالبداية، حقي الطبيعي، وهي، في النهاية، مظلتي التي أقاتل وأناضل تحتها من أجل بقائي، حراً كريماً، في أرضي، ومن دون منة أحد. قصتي مع جمعية «يداً بيد» هي امتداد طبيعي لتلك التجارب، وقد بدأت عندما انتقلت ابنتي للدراسة الثانوية في المدرسة على اسم ماكس رين، وتخرجت منها قبل عقد من الزمن. كنت ناشطًا كأب في لجنة الأولياء، ثم رئيساً للجنة، ثم انضممت ، بعد تخرج ابنتي، كعضو في لجنة إدارة الجمعية، ثم انتخبت، قبل سنوات ومازلت، رئيسا قطريا لها إلى جانب رئيسها، بالشراكة، اليهودي المحامي حاجاي شموئيلي. تضم لجنة الإدارة مجموعة من الشخصيات اليهودية والعربية البارزين والمتطوعين للعمل فيها والداعمين لفكرتها ولرسالتها، ولدورها في تنمية أجيال من الخريجين المؤمنين بقدسية الحياة، وبضرورة احترام الآخر وقبوله إنسانا كاملاً، رغم اختلاف ثقافته ومعتقداته ومواقفه؛ أجيال واجهت واصغت للروايات المختلفة والنقيضة من مصادرها، ففهمت معنى الشراكة في ظل مواطنة حقيقية وفي دولة تعيش ف
aيها أكثرية يهودية إلى جانب أقلية عربية، هي جزء من شعب فلسطين الذي تشتت في يوم النكبة؛ أجيال تعلمت معنى الغبن وضرورة الإقرار به كي يصبح الصفح جائزاً والتسامح ضرورة؛ ويفتشون، على الرغم من المآسي والوجع، عن مستقبل يجمعهم؛ أجيال عربية ويهودية تعرف كيف تختلف من دون أن يحرقوا المدارس ويعلقوا لبعضهم أعواد المشانق.
«يداً بيد».. منارة تبعث الأمل في زمن العتمة، وبقعة ضوء صغيرة وجميلة اتمنى أن تدوم، وألا تدفنها حكومة إسرائيل الجديدة.
كاتب فلسطيني

 

 

في «الشيخ جراح»

يبكون فيصل الحسيني

جواد بولس

 

ما زلت أذكر ذلك الصباح الموجع قبل عشرين عاماً؛ كانت القدس تصحو بكسل من نومها القلق؛ وأنا في سيارتي، أراجع بهدوء برنامج عملي في ذلك النهار. قطعت منطقة حي الشيخ جراح، وبعدها دوار فندق أميريكان- كولوني، وحين وصلت بمحاذاة عمارة سينما النزهة، تلقيت اتصالاً هاتفياً من أحد حراس «بيت الشرق» وسمعته بصعوبة وهو يسألني: «وينك أستاذ؟» كان صوته متهدجاً ومخنوقاً، فبلع ريقه، وأكمل، دون أن يسمع إجابتي «أبو العبد توفي في الكويت هذا الصباح» قالها فغصّ واختفى. لم أستوعب لوهلة كلامه وبقيت واجمًا. كان عقلي يحاول، بخفية، أن يمتص الصدمة وأن يجد لها مكاناً، فقلبي بدأ يغرق بدمائه وفكري يشلّ. وصلت ساحة بيت الشرق، حيث كان بعض العاملين يقفون، بدون حراك، في الزوايا كجذوع الشجر، ونحيبهم يملأ الفضاء. بدأت الناس تتقاطر كأسراب نمل، بعضهم بتثاقل خائفا وآخرون بهرولة، حتى فاض المكان دموعاً ووجوهاً بيضاء وصمتاً كسيرا.
سافر فيصل الحسيني إلى الكويت، بعد العاصفة، ليصلح التباساً وقع بينها وبين فلسطين في ظرف تاريخي استثنائي؛ لأنه آمن بضرورة «إزالة غبار الهفوة» في وقت كانت فيه فلسطين محاصرة وبحاجة لكل «رئة» ودعم لاسيما من قبل أشقائها العرب، ودولة الكويت في مقدمتهم. كان فيصل «مرمماً للجسور» وسفيراً فلسطينياً حاذقاً ومرغوباً، ليس عند جميع الدول العربية وحسب، بل في معظم دول المعمورة. لن نخوض في ملابسات تلك الأيام، ولكن عسانا نتذكر كيف كانت القدس الشرقية مستهدفة من قبل حكومة إسرائيل، وكان بيت الشرق خارجا من معركة ظافرة ضد محاولة إغلاقه. كان فيصل للقدس حارساً أميناً ودرعاً صلباً ومدافعاً عنيدا وحكيماً؛ وكان، في الوقت ذاته، قائداً فلسطينياً وطنياً جامعاً، دانت له باحترام وقبلته جميع الفصائل والحركات والمؤسسات والشخصيات الفلسطينية على مختلف مشاربها وعقائدها وانتماءاتها السياسية.
عشرون عاما، من عمر الخسارة، مضت وما زال جرح القدس مفتوحاً، والدمع رفيقي؛ عقدان واجهت فيهما المدينة المكائد وإصرار دولة الاحتلال على ابتلاعها وتدجين أهلها أو ترحيلهم؛ ورغم ما حصل لها، أشعر بأن فيصلًا باق فيها كأحلام الياسمين، التي تتعمشق في الأزقة وبين القناطر؛ وكالحنين يتجدد كلما ولد في القدس طفل أو طفلة؛ فبعض البشر، لمن لا يعرف، يرحلون بالجسد، وتبقى أنفاسهم إكسيرا لحياة الناس وللشرف. لذكرى رحيله، في هذه الأيام، طعم مرّ وحاد؛ فنحن نتذكره ونشاهد اعتداءات المستوطنين وقوات الشرطة على المواطنين المقدسيين، وعلى ممتلكاتهم في عدد من أحياء المدينة، وأشدّها ما يجري منذ سنوات في رحاب المسجد الأقصى، ومنذ أسابيع في حي الشيخ جراح، اللذين كانت أحداثهما بمثابة الشرارة التي دفعت بحركة حماس إلى إطلاق صواريخ غزة نحو المدن الإسرائيلية، واشتعال موجة المواجهات الأخيرة. لقد خفنا، مع إطلاق أول الصواريخ، أن يُنسى الشيخ جراح، أو أن يصبح مجرد عروة هامشية في خريطة جسد كبير ينتفض، ولكن المطمئنين كانوا كثرا، والرافضين لهذه النبوءة السوداء كانوا أكثر؛ ومع ذلك؛ ورغم ما قيل ويقال، ستبقى الأمور محكومة بخواتيمها وسيبقى ظهر الغد أصدق.
لقد قاوم فيصل الحسيني محاولات الاستيطان الإسرائيلية في جميع أحياء القدس بدون استثناء، وأذكر في هذه المناسبة صولته الأخيرة في حي الشيخ جراح، قبل سفره إلى الكويت بأيام معدودة، حين وقف، كعادته، وواجه بجسده، مع عدد قليل من رفاقه المقدسيين، عصابات المستوطنين، وعناصر الشرطة، التي حضرت لحمايتهم في محاولات سيطرتهم على هذه البيوت نفسها. ثم سافر وقال لنا: «انتظروني، فالقدس عندي كالنفس».

بنى فيصل سياسته على توازنات ميدانية دقيقة وخيارات حكيمة، من خلال نظافة قلب ويد ولسان، واستعداد خرافي لمواجهات العدو

لم يعد فيصل إلى قدسه كما تمنى، لكنه ترك وراءه إرثاً نضالياً غنياً ومهاماً وبوصلة أثبتت نجاعتها في معظم المعارك التي خاضتها المدينة في عهده. لقد كانت إسرائيل أكبر الرابحين من رحيله، فبعده صارت القدس تبكي، وكل شيء تغير. وللتذكير أقول مجددا: لقد نجحت قيادات القدس، بعد نكسة 1967 وبقاء أهلها، بترميم بنى المدينة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ما أفضى إلى إعادة تأهيل مجتمع مقدسي متماسك، تجمعه عرى هوية فلسطينية واضحة، سهّلت على نخبها القيادية استرجاع موقع المدينة تدريجياً ورمزيتها كعاصمة للمشروع الوطني الفلسطيني، وكعنوان مهم تواصلت معه دول العالم ومؤسساتها، وكذلك فعل جميع الفلسطينيين. لقد استمرت عملية بناء الهوية الوطنية على مراحل، حتى وصلت ذروتها في ما أسمّيه «عصر بيت الشرق الذهبي» وخلاله استطاع فيصل الحسيني ومعه كوكبة من قيادي المدينة وفلسطين، تحويل القدس الشرقية إلى كيان سياسي واجتماعي شبه مستقل عن السيادة الإسرائيلية، وفرضوه ، بحنكة فريدة، كواقع مقبول وكحقيقة معيشة وملموسة. لقد بنى فيصل سياسته على توازنات ميدانية دقيقة وخيارات حكيمة وشجاعة، من خلال نظافة قلب ويد ولسان، واستعداد خرافي لمواجهات العدو، بعيدًا عن المزايدات والمراهنات غير المحسوبة. وهو، برؤيته الكفاحية الواقعية ووقفاته الميدانية الصارمة، نجح في خلق حالة من «الردع الإيجابي المتبادل» مع إسرائيل التي أُجبر زعماؤها على إبداء احترامهم له، خشية ردات فعله وقدرته المجربة على زعزعة «السلامة العامة» والمس بحالة « الهدوء العام». أما موقفه بخصوص الأماكن المقدسة فكان يعتمد على اتباع مبدأ المحافظة على «الستاتوس كوو» ، الوضع القائم؛ ونجاحه في هذه الجبهة يُعدّ إنجازًا بالغ الأهمية؛ إذ حرص، لسنين عديدة، على تحييد جميع هذه الأماكن، وفي طليعتها المسجد الأقصى، عن بؤر التنازع والاحتكاك مع العناصر اليهودية، الحكومية والشعبوية، مدركا أن زعامات إسرائيل اليمينية والصهيونية المتدينة، تسعى لإسقاط بعدي الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي الأبرزين، السياسي والقومي، وحصر النزاع في بعده الديني وحسب؛ إيماناً منها بأن اللجوء إلى المرجعيات الدينية، وإلى أحكام السماء ستتيح لهم فتح طاقاتها كي يمطروا الناس بفتاواها، وعندها سيسود الالتباس وتغمط الحقوق ويكثر الاجتهاد وستنافس العبرية العربيةَ والأرض ستتكلم، حسب توراتهم، العبرية، والحرب ستصبح مقدسة.
لقد وافقت معظم القوى السياسية، الوطنية والإسلامية، في تلك السنوات على معظم المبادئ التي حملها فيصل ورفاقه، حتى صار العمل وفقاً لها إجماعاً فلسطينياً وبوصلة القدس المتوافقة.
لم تتغير قواعد اللعبة إلا بعد رحيل فيصل، وبعد إغلاق بيت الشرق، ومعه إغلاق عشرات المؤسسات الفلسطينية. لا أنوي هنا الاسترسال في ما أصاب المدينة بعد عقدين من ذاك الرحيل الموجع، ولكن من السهل أن نرى كيف تراجع أداء أهلها النضالي، وارتبطت مصالح قطاعات واسعة من سكانها بإسرائيل، وجنحت أقسام كبيرة منهم نحو المؤسسة الصهيونية الحاكمة. ما زالت رحى معركة الشيخ جراح دائرة، وستصبح، من دون شك، أشرس وأخطر؛ فنحن نرى محاولات الشرطة الإسرائيلية وناشطي المستوطنين حسمها ميدانيا، وذلك عن طريق مضاعفة التنكيل اليومي بالمتظاهرين من جهة، وترهيب أصحاب البيوت من جهة أخرى؛ وما حصل مع عائلة المواطنة جنان الكسواني ابنة السادسة عشر ربيعاً، وإصابتها مع والدها، وهم داخل منزلهم، بعيارت نارية أطلقتها عليهم عناصر الشرطة عن عمد، ومن غير وجود أي سبب، يشكل دليلاً على ما يخطط له المستوطنون، وعلى موقف الشرطة الإسرائيلية الداعم لهم. كذلك فإن قيام الشرطة باستغلال الحادثة التي هاجم فيها سائق عربي بعضاً من عناصرها الذين تواجدوا على حاجز هناك، من أجل إغلاق المنطقة والسماح لسكانها فقط بدخولها، يدل على مخططها لعزل المنطقة وسكانها، وإبعاد المتظاهرين عن المكان بهدف تيئيسهم وإرهاقهم.
لقد خاضت مجموعات من المقدسيين مواجهات لافتة في دفاعهم عن المسجد الأقصى وحققوا فيها إنجازات نسبية ومحصورة في تلك الجبهة الوحيدة؛ وفي المقابل لم نرَ مثل تلك الوقفات في بؤر التماس الأخرى، وهي كثيرة جداً، حيث ما زال الاستيطان اليهودي ينتشر ويتغول في أحياء كثيرة من المدينة؛ وما زالت إسرائيل تسجل، بالتوازي مع عملية التهويد، نقاطا كبيرة في إحكام سيطرتها على عدد كبير من قطاعات حياة المقدسيين، ما كانت لتسجل في عهد فيصل..
القدس تبكيك أيها الباقي فيها، ومعها تبكيك فلسطين..
فالسلام لروحك
كاتب فلسطيني

 

 

رسالة إلى رئيس وقادة جهاز

المخابرات العامة «الشاباك»

جواد بولس

 

 

قد يبدو غريباً أن أقوم بنشر هذه الرسالة وبتوجيهها إلى قادة جهاز «الشاباك» الإسرائيلي؛ إذ ليس مرغوبا ولا مقبولا أن يخاطب مواطن عربي، مثلي، جهازاً أمنياً؛ وإن فعل فلا يجوز أن تكون لغته طبيعية ومحترمة، لاسيما في هذه الأوقات، التي تشهد فيها مجتمعاتنا العربية، في معظم المدن والقرى، هجمة اعتقالات وملاحقات خطيرة، تنفذها بأساليب قمعية مرفوضة، عناصر الشرطة بدعم من جهاز المخابرات نفسه، وبالتعاون الكامل معه.
لست ساذجا كما قد يتهمني البعض، ولا حالِما كما سيظن آخرون؛ لكنني سأحاول، من خلال هذه الرسالة، أن أحكّ مرآة النهايات، قبل رحلة التفتيش عن بدايات جديدة تتعلق بمضمون سؤالي الواضح والبسيط، الذي أوجهه بصيغة الاستنكار، ولا أنتظر الإجابة، فهي على ما أظن، واضحة كالعتمة:
من برأيكم يشكل الخطر الأكبر على مصير دولتكم إسرائيل، التي تأسس جهازكم، في حينه، من أجل حماية أمنها وتأمين السلامة لمواطنيها وضمان مستقبلها واستقرارها؟ هل هم قادة وأعضاء المجموعات اليهودية الدموية، التي تطارد العرب في الحارات وفي الشوارع وتحرّض على قتلهم علنا، من دون رادع ولا ملاحقة؛ وتعلن كذلك، عن نيتها القضاء على النظام السياسي القائم، من أجل إقامة المملكة اليهودية الجديدة؟ أم هم مواطنو الدولة العرب، ومن يمثلهم من أعضاء الكنيست وقيادات المجتمعات المدنية المحلية؟ وبعد، وإن لم يكن هذا هدف رسالتي الأساسي، ولكن كما يُتوقع مني، سأبدأ بالتأكيد على أن حملات الترهيب والملاحقات والاعتقالات، لهذه الاعداد الكبيرة من الشباب لن تحقق أهدافها المرجوّة، ولن تثبّط عزائمهم، بل إنها ستزيد من إصرار أغلبية المواطنين العرب، ومن قناعاتهم بضرورة عدم الخوف ورفض الاستسلام والركوع؛ خاصة بعد اتضاح هويات معظم المجموعات اليهودية اليمينية المتطرفة، التي وقفت وراء غزو الأحياء العربية في المدن المختلطة، وبعد انكشاف أهدافها الرامية إلى تهجير المواطنين، أو على الأقل، إلى دبّ الذعر في صدورهم وتدجينهم. واعلموا، إنني لن أتطرق إلى تفاصيل أحداث الشهر الفائت، رغم أهميتها، ولن أراجع تداعياتها ولا ما أفضت اليه من نتائج أولية على جميع الجبهات؛ لكنني سأذكّركم بمن عادوكم وهاجموكم علنا قبل بضعة أعوام، وبالتحديد بعد الجريمة التي وقعت في القرية الفلسطينية «دوما» وما كان يقضّ، في ذات الوقت مضاجع مجتمعاتنا العربية، التي كان أهلها ينامون على أصوات الرصاص ويفيقون كي يحصوا خسائرهم في الأرواح وفي الأموال. لقد عشنا، قبل اندلاع المواجهات الأخيرة، حالة عبثية من عدم الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي، فقدت في أعقابها أكثرية المواطنين العرب العاديين الثقة في مؤسسات الدولة، وفي طليعتها جهاز الشرطة الإسرائيلية، التي باتت متهمة بالشراكة مع مفاعيل العنف الناشطة في مواقعنا، أو المتغاضية عنها أو المتواطئة، في بعض المواقع والحالات، مع عصابات الإجرام المنظم، التي أخذ دورها المهيمن يتعاظم باسم الدولة وبالنيابة عنها. كانت مشاعر الذل واليأس مسيطرة، لكنها، أدت، في الوقت نفسه، إلى زيادة في درجات الغليان الباطني، الذي صار جاهزا للانفجار في أي لحظة مواتية..
وكانت اللحظة وكان الانفجار.

هجمة اعتقالات وملاحقات خطيرة، تنفذها بأساليب قمعية مرفوضة، عناصر الشرطة بدعم من جهاز المخابرات

لم تغب عنكم، في جهاز المخابرات العامة، حقيقة التفاعلات التي كانت جارية داخل المجتمع العربي؛ واعتقد أنكم توصلتم، بحسّ أمني صادق، إلى أن الأوضاع الحالية آيلة للانهيار التام، الذي قد يبدأ داخل القرى والمدن العربية، لكنه سيتعداها، حتما، ليصل إلى جميع أنحاء الدولة. لقد استفاق عدد كبير من المتخصصين والخبراء في الشؤون الأمنية، والناشطين حاليا في معاهد الدراسات الأمنية الكثيرة في الدولة، واستشعروا فداحة الخطر القائم؛ فكتبوا جهارا ودعوا ساسة الدولة إلى ضرورة تعريف حالة العنف المستشرية داخل المجتمع العربي، على أنها آفة دولة وأنها تشكل حالة خطر وجودي على الأمن، وعلى سلامة جميع مواطنيها، وليس على العرب فحسب. بينما ذهب بعضهم إلى أبعد من ذلك وطالبوا بتغيير جذري في السياسات الرسمية، وبالتوقف عن تعريف العرب كطوابير خامسة، وكأعداء الدولة ومعاملتهم كمواطنين شرعيين ومتساويين. لم يقتصر نداء هؤلاء الخبراء على تلك الدعوة الموجهة لصانعي القرار السياسيين، بل سنجد بينهم من دعا جهازكم، جهاز «الشاباك» إلى تولي مهمة محاربة الجريمة المستفحلة داخل المجتمعات العربية، وفق سياسات ومسارات مهنية محددة المهام والمعالم، ومسقوفة من ناحية زمنية؛ كما فعل مثلا الدكتور أفنر بارنيع – وهو خبير أمني وأكاديمي، كان قد خدم في السابق كمسؤول كبير في جهاز الشاباك – حين كتب مقالا تحت عنوان: «إنها خطوة متطرفة، لكن هكذا تقتلع الجريمة من المجتمع العربي» نشره، في موقع واي – نيت، يوم 2021/1/19، ودعا فيه جهاز الشاباك إلى تولي مهمة محاربة الجريمة في المجتمع العربي، لأن جهاز شرطة إسرائيل، حسب رأيه، قاصر عن أداء هذه المهمة، وغير مهيّأ، في هذه الظروف، من الناحيتين، المهنية والميدانية، لتوفير الحماية الكافية للمواطنين العرب.
أعرف أن الكثيرين من بين المواطنين العرب واليهود، سيعترضون لأسباب وجيهة على هذا المقترح، وهذا موضوع يستحق المتابعة والنقاش طبعا في ظروف أخرى؛ ولكن ما همّني في هذا السياق كان، أولا: حقيقة اعتراف الكثيرين من أصحاب الخبرة الأمنية بان قضية استفحال الجريمة بين المواطنين العرب لم تعد مسألة تخص العرب وحدهم، بل هي قضية أمن الدولة. وثانيا: إقرار هؤلاء الخبراء بأن جهاز شرطة اسرائيل لم يعد هو الجهة المناسبة القادرة والمؤهلة للقيام بمهمة محاربة الجريمة وحماية المجتمع. لم يكن التوصل إلى هاتين النتيجتين اللافتتين، بعد هذه السنوات الطويلة من معاناة المواطنين العرب، مفهوما بشكل ضمني؛ لكنه قد يكون مؤشرا، أو هكذا تمنيت، على حدوث بعض المتغيرات في عدد من المفاهيم العنصرية الرسمية المؤسسة، وفي تفكير خبراء الأمن، وبين بعض النخب القيادية المؤثرة. لقد تدخل جهازكم وقاد في عام 2015 عملية التحقيق مع المشتبهين في تنفيذ عملية «دوما» الإرهابية؛ ونجحتم بالكشف عن القتلة المستوطنين المتورطين في جريمة حرق وقتل أفراد عائلة «الدوابشة» ومع نشر نتائج التحقيق انقضت عليكم قوى اليمين المتطرفة ووصفتكم بالإرهابيين؛ ما اضطركم، للمرة الاولى على ما أذكر، إلى نشر بيان صارم قمتم من خلاله بتفنيد الادعاءات ضدكم، ووصفتم الإرهابيين اليهود ومن وراءهم، بمجموعات يهودية خطيرة تعمل من أجل تدمير النظام السياسي القائم وبناء مملكة اليهود الجديدة. لم يهتم الرأي العام العربي المحلي لتفاصيل تلك المعركة التي دارت رحاها على المكشوف؛ فكتبتُ عن ذلك واعتبرتها جولة حاسمة في حرب تشكيل موازين القوى داخل المؤسسة الإسرائيلية المستمرة حتى أيامنا هذه.
لقد مضت السنون وما زالت المعارك على تلك الجبهة محتدمة، إلا أن القوى اليمينية الفاشية والعنصرية المتطرفة أصبحت أقوى، وسجلت مزيدا من النقاط والتقدم في سعيها للإجهاز على جهازكم، بصيغته الحالية القائمة، وبكونه آخر عناصر النظام السياسي الإسرائيلي القديم.
قد يكون التذكير ببعض ما كتبتُ بعد عملية «دوما» الإرهابية، مفيدا في هذه المرحلة الحساسة، فحينها خاطبت أبناء شعبي بعتب، وقلت إن الساحة الإسرائيلية «شهدت في الأسابيع الماضية واحدة من أبرز المعارك الشرسة المكشوفة، التي سيكون لنهايتها، برأيي، تأثير مصيري على وجه نظام الحكم في إسرائيل. فالهجوم السافر والشرس الذي جاهرت به قوى اليمين على جهاز المخابرات الاسرائيلي، وانفلات بعض فئات المستعمرين ووصفهم غير المسبوق، للوحدة الخاصة بمتابعة المواطنين اليهود في الشاباك، بأنها وحدة إرهابية، يدلل بشكل لا يقبل التشكيك أو التأويل، إلى أن تلك القوى اليمينية، ماضية في حملاتها للتحكم في أكثر ما يمكن من المواقع واحتلال ما يمكن احتلاله على مستوى السلطات الأربع في الدولة» وأضفت: «إنها مرحلة تستوجب منا، نحن العرب، التوقف وإعادة النظر حتى في بعض المسلمات؛ فلا يعقل أن تهبّ هذه العواصف والنيران بيننا ولا يلتفت اليها أحد».
ما زالت تلك التساؤلات والأسئلة صحيحة في أيامنا، بل قد تكون الحاجة لمواجهتها وللإجابة عليها ملحّة أكثر من أي وقت مضى؛ فنحن ما زلنا بحاجة إلى وجبات من الجرأة والمبادرة أو إلى صحوة، لنقوم، كل من موقعه، بفحص وتقييم ما يجري بيننا وبينهم، بشكل مسؤول وواضح، والتحقق ما إذا كان هو ما سيكون، وهل ما زلنا، كمواطنين عرب، هاجس جهاز الشاباك الأول، وعدو الدولة الأخطر والأكيد في نظرهم؟ هكذا كتبت لأبناء شعبي قبل ستة أعوام؛ وحتى لو كنا مقتنعين بأن الجواب على ذلك هو بنعم، لا يعقل أن نستمر بطيّ نهاراتنا بالتمنّي، وبتوسّد ذراعات الهمّ في الأماسي. أمّا اليوم، ماذا عساني أن أقول وعن أي حلم سأتحدث، وقد قرأنا عن شراكة جهازكم في عمليات جهاز الشرطة وبتنفيذ سياساتها، علما بأنكم وصفتموها ، قبل رمشة، بالقاصرة وغير المؤهلة؟ أو ليست هي الشرطة ذاتها التي ستذود عناصرها عن مملكة إسرائيل المقبلة، وستدوس، بضراوة وبعدائية سافرة، على شبابنا في جميع القرى والمدن، وعلى كل من سيعترض طريقها؟
حتى المواجهة المقبلة، باحترام، جواد بولس.
كاتب فلسطيني

 

 

ماذا بعد أن

استردت الهوية روحها؟

جواد بولس

 

مرّت علينا أيام صدامات صعبة وخطيرة للغاية؛ وهي وإن بدت شبيهة بما سبقها من مواجهات خاضتها مجتمعاتنا ضد سياسات حكومات إسرائيل المتعاقبة، فإنها تختلف عنها جوهرياً، لا في حدتها أو في حجمها فحسب. ليس من الحكمة أن نستبق النهايات وأن نتحدّث عن الخلاصات والنتائج، بينما مازالت ماكينات الدمار الإسرائيلية تسقط حمم صواريخها، وتخلف القتلى والدمار داخل قطاع غزة؛ ونشاهد، في الوقت نفسه، استعار الاحتجاجات الشعبية الضخمة والمواجهات في جميع المناطق الفلسطينية المحتلة.
سننتظر إلى أن تهدأ النيران، وتُدفن جثامين القتلى، وتُزال الأنقاض، وتستوعب الضحايا حجم خسائرها وعمق نزيفها، ويبدأ الناس باستعادة توازناتهم؛ فعندها سيُجري كل طرف حساباته، ويملأ اهراءاته من جديد، ويستأنف مسيرته، على إيقاع البارود وبهدي الفرج المشتهى والخرافات، نحو ذلك المستحيل.

الجموع المحتقنة والمتأهبة قد تيأس ساعةً وتتعب وتنأى عن النضال، إذا تقاعست قياداتها لكنها لا ترضى أن تنام دهراً على ضيم

نحن أيضا، المواطنين العرب في إسرائيل، بحاجة إلى استراحة المحاربين، وإلى تقييم تجربتنا الحالية؛ فمَن لم يشعر كم كنا قريبين من فوهة الجحيم، قد لا ينجو منها في المرة المقبلة؛ ومَن سيكتفي بالنوم على وسائد انتصارنا، كما يشعر البعض، قد يفيق على أصوات العويل، أو قد لا يفيق. لقد استهدفت ميليشيات اليمين الإرهابية وسوائب المستوطنين، معظم المدن الساحلية المختلطة، بدءاً من اللد والرملة ومن ثم يافا وحيفا وعكا؛ في مسعى منها لطرد أو لعزل سكان هذه المدن الفلسطينيين، حسب ما خططه، منذ سنوات طويلة، بعض راسمي سياسات الدولة العنصريين، حين بدأوا باستيراد تلك المجموعات اليمينية الهمجية وتوطينها في أحياء قريبة من بيوت العرب. وبعيداً عن التفاصيل الدقيقة التي رافقت الأحداث في جميع هذه المدن، وما دار حولها من نقاشات، ورغم الحاجة والأهمية للوقوف عليها ودراستها، سيبقى صمود أهلها العرب في وجه الهجمات الوحشية، وصدّهم لغارات المجموعات الفاشية الفالتة، علامة فارقة وراسخة في مسيرة النضال من أجل بقائنا الكريم والحر في الوطن. لم تكن تلك الوقفات الحازمة مفهومة ضمنيا، خاصة بعد أن وضع مخططو إسرائيل استراتيجيات خبيثة وواضحة لسلخ مجتمعات تلك المدن عن عمقها الفلسطيني الطبيعي، وإتباعها إلى هويات مشظّية أخرى، وبذلوا جهوداً متواصلة وجبارة لتحقيق تلك الغايات، سواء عن طريق سياسات الإفقار المتعمد، أو زرع الفتن، وفق قواعد فرّق تسُد، أو عن طريق إفشاء الجريمة والعنف، وتشجيعها عمليا، من خلال تسهيل انتشار الأسلحة والمخدرات، وغض النظر عمن يقفون وراءها وعدم ملاحقتهم، وغير ذلك من وسائل. حاولت قطعان اليمين «ضبع» المواطنين العرب وإرغامهم على الاستسلام والإقرار بالهزيمة ؛ فأعدّوا هجماتهم على غرار ما تقوم به فرق الجيش النظامية المدرّبة، وهم من خريجيها، ونفذوها بالتواطؤ الظاهر مع عناصر الشرطة الإسرائيلية التي لم تمنعهم من تنفيذ جرائمهم، بل سهلت عليهم غزواتهم وساعدتهم في كثير من المواقع التي شاهدنا فيها كيف اعتدت الشرطة نفسها بوحشية سافرة على المواطنين وعلى ممتلكاتهم.
لم ينجحوا، رغم مستوى بطشهم وقمعهم الرهيبين ؛ فبعد هجماتهم المباغتة التي نفذوها في اليوم الأول، استوعب أبناء الأحياء العربية، في معظم المدن المختلطة، حقيقة ما يواجهون، واستشعروا، بحدس كفاحي، أن المعركة، هذه المرة، ليست من أجل التضامن مع أبناء شعبهم، هناك في غزة وفي رام الله «البعيدتين» ولا من أجل الكرامة العربية بمعناها المطلق فحسب، بل هي معركة كل فرد وفرد منهم على بيته الشخصي، الذي من حجر وعرق وذكريات وعبق الأحباب، وأحسّوا، بسبب ذلك، في لحظة صحوة وطنية، بضرورة الذود عن آخر الحصون، وعن أدفأ الحضون وعن أأمن الشواطئ؛ فإمّا الصمود في أحيائهم والبقاء، وإمّا الهزيمة والجلاء.
لقد اختاروا الصمود والمواجهة؛ فتبيّن لهم ولجميعنا كم كان الشعار «لا لنكبة أخرى» رغم خطورته، شعاراً دقيقاً وواقعياً ومحرّكاً لكل فرد، كان قد أحسّ، بدوافع هوياتية صادقة، معنى انتمائه «للكل» وكيف يصير «الكل» مظلة واقية ومستوثقة للفرد. لم ينتشر ذلك الشعور داخل أبناء المجتمعات العربية في المدن المختلطة لوحدها، بل تغلغل، ببطء ولكن بوضوح، إلى جميع المدن والقرى العربية، من النقب جنوبا، حتى أعالي جبال الجليل؛ فبدأنا نشاهد أعمال الاحتجاج التي اتسمت في بعض تجلياتها الأولية بعفوية شاردة، أو بردّات فعل عنيفة، أُفرغت، أحيانا، بغضب وبشطط ضد الأفراد والممتلكات؛ لكنها سرعان ما تحوّلت إلى أنشطة كفاحية حية، كشفت، في بعض مشاهدها، حقيقة نمو قوى اجتماعية سياسية جديدة، كانت على الأغلب من فئات الشباب الذين تصرفوا كأصحاب الريادة، وكضباط لإيقاعات الساحات والميادين والشوارع في معظم البلدات والمدن. لن نسهب بتحليل هذه الظاهرة، التي بدأت تظهر مؤشرات وجودها قبل سنوات عديدة، ولا بدورها المتنامي، مقابل دور الأحزاب والحركات السياسية والدينية والمؤسسات المدنية التقليدية؛ لكنني سأكتفي، هنا والآن، بالتأكيد على أن الثقة بجماهير شعبنا يجب أن تبقى منارة لكل قائد مخلص وحقيقي، فهذه الجموع المحتقنة والمتأهبة، كما رأينا، قد تيأس ساعةً وتتعب وتنأى عن النضال، إذا تقاعست قياداتها أو نفَدت خزائنهم، لكنها لا ترضى أن تنام دهراً على ضيم حتى إذا غطّت نواطير مقاثيهم المتعبة في نومها، أو اذا أفلست وتاهت.
لا أعرف مَن من قياداتنا، التقليدية أو الناشئة، سيتّعظ مما حصل، والى أين سيمضي من حيث وصلنا؛ فعلينا أن نراجع دروس الهبة الحالية، ونستمع للأصوات التي رددتها الحناجر الغاضبة، وأن نعرف لماذا أشهرت السواعد السمراء قبضاتها لتسطر بعنفوان معالم نجاة تلامس المعجزة؛ وعلينا أيضا أن نتوقع كيف سيتصرف وكلاء الدولة الرسميين، والشرطة في طليعتهم، الذين ادعوا كذبًا، هذه المرة، وقوفهم في الوسط بيننا، نحن المواطنين العرب، وسوائب اليمينيين. إنهم في الجولة المقبلة، سوف يُسقطون جميع ما تبقى من الأقنعة، كما فعل أمثالهم في الأنظمة الفاشية كاملة الاختمار. وبالمقابل، لا أعرف كيف سيقيّم قادة إسرائيل حقيقة ما جرى في المدن والقرى العربية، وهل ربحت سياساتهم أم فشلت، لكنني اعتقد أنهم لن يجمعوا على الخلاصات والنتائج ذاتها، فهنالك قلة ستطالب بإعادة النظر في سياسات الحكومة تجاه مواطنيها العرب، وعن هؤلاء سنتحدث في المستقبل القريب، بينما سيبدأ اليمين المستوحش على تفرعاته، الرسمية وغير الرسمية، بالإعداد لمعركتهم الطاحنة المقبلة مستفيدين من عِبر المواجهات التي جرت، ومن إخفاقاتهم الواضحة بتحقيق ما خططوا له. فلن يختلف اثنان على أن محاولات البطش والترهيب التي مارسوها، هم والشرطة وما يسمى حرس الحدود، في اللد مثلا وفي حيفا ويافا والرملة وعكا، لم تنل من عزيمة الشباب، وعزيمة معظم المواطنين العرب، بل على العكس تماما فقد ازدادت أسهم العمل الوحدوي، وارتفع منسوبها كحاجة ضرورية في ميزان الردع العام؛ كما ساعدت الوقفات الشعبية في وجه «الغزاة» على استعادة لون وروح هوية المجتمعات الفلسطينية الأصيلة، وذلك بعد ما أصابها الكلح والتصدع خلال السنوات العجاف الماضية.
من الصعب أن يُكتب بمداد العقل وباسم الرجاحة عن قضايا هويتنا المركبة، ببعديها الفلسطيني والمواطني، في زمن تلهث فيه فرق الموت الفاشية وراء فرائسها من المواطنين العرب؛ فعند احتدام القدر على عتبات بيتها، تقول الضحية، فتش عن إرادتك ولا تني؛ وإن قهقهت ساعة الخطر، يقول الفتى وهو ينتظر طلة القمر، ذد عن شرفتك ولا تنحني؛ وإن هاجمك «الضبع» في مخدعك، يقول صاحب البيت، لا ترمش أمامه، واوقد، من نار عينيك، نهارك، ولا تنثني. إنها غريزة البقاء السرمدية؛ فحكايتنا مع تلك القطعان السائبة، لم تبدأ اليوم، ولا على درجات باب العمود في القدس، ولا في حواكير حي الشيخ جراح؛ إنها تغريبة الجرح الذي كلما أراد أصحابه أن يلفوه بطرابين الأمل، ينكأه عُصاة الحقب الذين لم يفيقوا من سكرة عنجهيتهم، وما انفكوا يلاحقوننا، مؤمنين بأننا أحفاد من بنوا أعشاشهم على بالات من الخوف، حيث يعز نومنا فيها؛ ويعتقدون أننا ورثة ذلك الجهل ومثل أصحابه سنكون كما كانوا حطبا يشعلون فينا مواقدهم، حتى يرحل من بيوتنا الدوري، ونموت نحن، أو نحيا عبيداً عندهم أو قرابينَ على مذابحهم. سوف ترحل العاصفة، كما يبدو، بعد أيام قليلة عن مواقعنا، وسيبقى «القبان» من دون «بيضته» مكسورا، وسيظل صاحبه باطشا ومخمورا؛ ولسوف يعود الهدوء إلى مطارحنا، فنجاح الإضراب العام الذي دعت إليه لجنة المتابعة العليا توّج هذه الهبة وشكّل، من دون شك، خطوة لافتة وضرورية في طريق استعادة مكانة لجنة المتابعة كعنوان شرعي وجدير وموحّد، وكصاحبة الدور الأهم، وليس الوحيد، في قيادة النضالات ضد سياسات القمع والاضطهاد بحق المواطنين العرب. لقد أصدرت اللجنة بيانها الختامي حيث تطرقت فيه لأحداث الأيام الماضية، وأكدت فيه على «أن الإضراب كان بمثابة محطة فارقة لها ما بعدها، ونضالنا متواصل ومستمر ولجنة المتابعة ستعلن عن الخطوات المقبلة وفق التطورات والمستجدات»؛ فمن الواضح أن الصدامات التي جرت على ضفتنا القومية، كشفت من جديد عن تعقيدات وجودنا كفلسطينيين وكمواطنين في دولة لا تريد أغلبية سكانها اليهود أن نعيش بين ظهرانيها، ما سيضطرنا، بعد استعادة أنفاسنا، إلى العودة إلى ضفتي حياتنا، كجزء من شعب فلسطين وكمواطنين في إسرائيل؛ ونحسب، بعقولنا وبحكمتنا، كيف نبعد أشباح الترحيل التي تنقر خواصرنا.
كاتب فلسطيني

 

 

مواطنة بين زغرودة وصاروخ

جواد بولس

 

لن يجرؤ أحد على التكهن كيف ستنتهي هذه الهبة الفلسطينية، التي استدرجتها، هذه المرّة، اعتداءات المستوطنين المستوحشين، على المواطنين الفلسطينيين وعلى ممتلكاتهم في جميع أنحاء الأراضي الفلسطينية المحتلة، لاسيما في القدس الشرقية، وتحديداً في حي الشيخ جراح، الذي يشهد، منذ سنوات، حملة تطهير شرسة من سكانه العرب، ومحاولات لتهويده، على غرار ما جرى ويجري في أحياء مقدسية أخرى مثل، سلوان وراس العامود وشعفاط وغيرها.
ليس من الحكمة الآن أن نبدأ بتحليل العوامل التي أدّت إلى استفاقة الميادين/الجبهات الفلسطينية الثلاثة وتحرك أهاليها – في غزة، وفي القدس، وفي الداخل الإسرائيلي – ضد سياسات إسرائيل العنصرية ونهجها واحتلالها؛ أو أن نفتش عما يجمع، أو ما يفرق، بين رشقات الصواريخ التي أطلقت من غزة باتجاه العمق الإسرائيلي، ووقفة المقدسيين البطولية في وجه المستوطنين وقوات الشرطة الإسرائيلية، والحراكات الشعبية على اختلاف تمظهراتها في معظم البلدات العربية داخل إسرائيل.
يشعر الكثيرون بحاجة لفهم ما وراء هذه التداعيات، خاصة في ما يتعلق بقرار الفصائل الغزية، في هذه اللحظة التاريخية بالذات، بإمطار مدن إسرائيلية بالصواريخ؛ أي بعد الإعلان عن إرجاء إجراء الانتخابات الفلسطينية، وفي حين كانت القدس الشرقية تتصدر عناوين النشرات الإخبارية في العالم، وتستقطب مشاهدُ كفاحات أهلها، غير المسلحة، ومواجهاتهم بصدور مكشوفة بنادقَ الشرطة والمستوطنين، الدعمَ والتضامن والإسناد من جميع جهات الأرض، وإعجابَ العالم وتقديره. على جميع الأحوال، سوف يحظى الجميع بفرص لتقييم ما جرى وما يجري على الجبهات الثلاث، بعد انتهاء المواجهات، وبعد عودة «المحاربين» الى ثغورهم؛ فالامور تقاس، دوما، بخواتيمها، والمحاصيل توزن بعد انتهاء مواسم الحصاد. وعلى الرغم من ذلك نستطيع اليوم أن نتحدث، على صعيد الداخل، عن بعض المؤشرات التي عكستها مشاهد المظاهرات والحراكات الشعبية والوقفات التي انطلقت، بشكل عفوي أو مخطط له، في العديد من البلدات العربية والمدن المختلطة داخل إسرائيل، مثل اللد والرملة وحيفا ويافا وعكا. ففي جميع هذه المدن والقرى وصلت حدة المواجهات بين بعض السكان العرب، وعنف قوات الشرطة واعتداءاتها الخطيرة، وبعض السكان اليهود المنفلتين، إلى مستويات غير مسبوقة من الحدة والصدامات والانفجارات؛ التي ستترك وراءها، من دون شك، أراضي مدمرة ومحروقة، وهوات أعمق بكثير من تلك التي كانت قائمة أصلاً بين المعسكرات قبل تلك المظاهرات والمواجهات.
لقد لمسنا، مرّة أخرى، نتائج غياب دور القيادات السياسية المركزية عن ساحات الأحداث، وشعرنا بعمق الفجوة بينهم وبين قطاعات واسعة من الشعب، خاصة بين فئات الشباب، وتيقنّا مجدداً من عدم قدرة تلك القيادات على إدارة الأزمة بمسؤولية وبجرأة وبحكمة، ومن فشلها الواضح والقاطع بضبط، أو محاولة ضبط، «إيقاعات الشارع» وتحركاته. وفي ظل غياب ذلك الدور القيادي الحيوي، راحت بعض المفاعيل السياسية والاجتماعية والدينية، تطور أساليب مواجهاتها، مع من يرونهم وكلاء الكيان الصهيوني الغاصب أو الكافر، بفوضوية مندفعة، في بعض الأحيان، وبثورية رومانسية، في أحيان أخرى، من دون أن يرفقوا بهبتهم أي أهداف سياسية محددة ومعلنة؛ بينما استغلت، من جهة أخرى، بعض القوى السياسية، والسياسية الدينية، ذلك الفراغ القيادي، فنزلت إلى «الشارع» وفرضت أجنداتها العقائدية، من دون أي اعتبار منها، في هذه الأوقات الحرجة، لما قد يلحقه خطابها الإقصائي والحماسي من أضرار على مصير العلاقات بين المواطنين العرب والدولة؛ أو ما ستؤدي له زغاريد الفرح العربي والشماتة بين المواطنين اليهود، كل اليهود.

مسؤولية القيادة الحقيقية، دائما وفي ساعات المحن الكبرى، أن تقف بالمقدمة وتحدد الأهداف المرجوة، وتُعِدّ للمواجهة السليمة الرابحة

أتصور أن البعض سوف يتنطحون لعدم شرعية هواجسي وخشيتي من المشاعر العدائية الجديدة، التي ستراكمها مشاهد المسيرات الصاخبة، وما رافقها أحياناً من انفلاتات وعمليات حرق لبعض الممتلكات والسيارات، التي ستضاف على ما كان في رصيدنا لدى أكثرية المجتمع اليهودي الفاشي؛ وستعبر عدة جهات عربية بيننا، بالمقابل، عن تفهمها لتدفقات الفرح الشعبي من جراء سقوط الصواريخ وإيقاع القتلى والأضرار في الجانب الإسرائيلي، تماما كما حصل في زمن إطلاق صواريخ صدام حسين صوب تل أبيب؛ وسيقول هؤلاء: ما ضرّ لو أعطيت للحزانى وللمقموعين فسحة عابرة للابتهاج وللشماتة، ولتخرب بعدها «بصرى»!
لن يقبل الكثيرون، رغم إغواءات العواطف، هذه المواقف على الإطلاق، فبالعواطف لا تبنى الأوطان، ولا تضمن السلامة ولا يتحقق الأمان؛ وسيبقى إعمال العقل بحكمة، ضرورة للدفاع عن مصالحنا في هذه الأوقات الحرجة. أتوقع، كذلك، أن تدّعي بعض تلك الجهات، وبحق، بأن الاحتلال الإسرائيلي كان وما زال هو الأب المولّد لجميع عمليات القتل والتدمير والموبقات الممارسة بحق الفلسطينيين، سواء في قطاع غزة، أو في الضفة الغربية والقدس الشرقية طبعاً؛ وسيدّعي مثلهم آخرون، وبحق أيضا، أن هبة المواطنين العرب في إسرائيل، لا سيما في المدن المختلطة، هي نقطة الانكسار المتوقعة والرد الطبيعي على عقود من السياسات العنصرية والاضطهاد، الذي عانت منه الجماهير العربية، وستعاني أكثر إذا ما مضت الحكومات الإسرائيلية المقبلة بتطبيق قوانينها العنصرية، وأهمها، وليس وحيدها، هو قانون القومية. ومع موافقتي على صحة تلك الادعاءت، فأنا، وأعتقد أن الكثيرين الصامتين معي، نرفض أن تُستغل تلك الادعاءات، من قبل أي جهة، كمبررات «لضياع الطاسة» النضالية، وكمسوّغات لترك الناس تندفع وراء عواطفها الصادقة ومشاعر غضبها المكتوم والمتراكم، جراء ممارسات إسرائيل وبطشها؛ فمسؤولية القيادة الحقيقية والأصيلة، دائما وفي ساعات المحن الكبرى طبعا، أن تقف بالمقدمة وأمام كل الناس، وأن تختار شعاراتها السياسية الملائمة والمجندة، وأن تحدد الأهداف المرجوة، وأن تُعِدّ للمواجهة السليمة الرابحة؛ خاصة ونحن نرى، في هذه الأيام، كلما تصاعدت وتائر الصدامات المباشرة، كيف تزداد الخسائر المادية والبشرية. وقد تستغل القوى الإسرائيلية الفاشية تلك الصدامات كذرائع إضافية على ما تجتره بصلافة من أجل الانقضاض على المفارق والشوارع، كما حصل في الرملة واللد والقدس وحيفا ويافا والتعرض للمواطنين العرب والاعتداء عليهم، وكسبب للإجهاز على ما تبقى من احتمالات لتأليف حكومة جديدة والانتقال السريع الى حكم فاشي متكامل، سيسارع أصحابه بالانتقام من جميع المواطنين العرب وتدفيعهم ثمن تجرؤهم على رموز الدولة، وتماديهم على يهوديتها المقدسة. فنحن إلى الفاشية أقرب من أي وقت مضى.
لا يمكننا إنهاء هذا المقال من دون التطرق إلى موقف الدولة المتنكر لنا كمواطنين ننشد المساواة المدنية والقومية؛ ولئن طالبت دوما بضرورة إعادة نظرنا، نحن المواطنين العرب، بطبيعة علاقاتنا مع الدولة التي ما زالت مبنية على نظريات وفرضيات حددتها معطيات السنوات الأولى بعد النكبة، أعرف أن على الدولة  التخلي، أو علينا إجبارها أو إقناعها على التخلي، عن اعتبارنا زوائد ضارة يجب التخلص منها؛ فالمواطنة، التي أسعى وراءها، إذا لم تجد دفيئتها، ستصبح مستحيلة؛ وفي ظل أكثرية يهودية عنصرية كاسرة، ستصير المواجهات بين ابناء تلك الأكثرية ومواطني الدولة، غير المرغوب فيهم، حتميةً وداميةً؛ تمامًا كما نشاهد اليوم في جميع مواقعنا؛ علما بأن بعضنا يؤمن أن لا شيء يمكن أن يوقف التدهور نحو الفاشية، سوى بلوغها منتهاها. أمعقول أن يكون هكذا؟
سننتظر حتى رحيل العاصفة الحالية، وبعدها سنقيّم الأضرار والنتائج ونحك عقولنا لنواجه ما استجد من تحديّات؛ ثم نستأنف محاولاتنا لمواصلة مسيرتنا نحو شاطئ النجاة.. والحياة، كمواطنين متساويين أحرارا، وليس في ظل الفاشية التي يجب أن نمنعها من أن تبلغ منتهاها.
كاتب فلسطيني

 

الهوية بين إغواءات

المصالح وتعدد الولاءات

جواد بولس

مرّة اخرى أخفق بنيامين نتنياهو بتأليف حكومة على مقاساته، رغم جميع مراوغاته السياسية، واستعداده لتقديم حتى نصف مدة رئاسة الحكومة لنفتالي بينت، زعيم حزب «يميناه»، الذي بات يطمع برئاسة الحكومة المقبلة من دون واسطة نتنياهو، ويناور من أجل تعزيز مواقع حزبه الانتخابية، استعدادا منه لمواجهة المعركة الانتخابية المقبلة في حالة عدم التوصل إلى تشكيلة حكومية تحظى بدعم الأغلبية من بين أعضاء الكنيست الحاليين.
ومن الواضح أن المجتمع اليهودي يعيش في ظروف أزمة كبيرة، تعكس في الواقع، كما كتبت في الماضي، ملامح المتغيرات الاجتماعية والسياسية العميقة ،التي حدثت في السنوات الماضية، وما زالت تتداعى فصولها متسارعةً داخل المجتمع اليهودي/الصهيوني/ المتدين في الدولة.
ليس من الصعب أن نراهن اليوم على أن هذه الأزمة لن تنتهي قريبا، بمنأى عما ستفضي إليه مساعي تركيب الحكومة الحالية، أو نتائج المعركة الانتخابية المقبلة؛ فإسرائيل اليهودية ذاهبة بمعسكريها لتخوض حربها الفاصلة في «أم المعارك»، ولتحسم أمرها، إما بانتصار دولة الحركة الصهيونية «البنغوريونية»، وإما بهزيمة هذه أمام مملكة « الراب دروكمان» ومن معه من أمراء العرش، وكهّان المذابح.
لم تتركنا هذه الأزمة سالمين؛ فكلما احتدمت معالمها وجدنا أنفسنا، نحن المواطنين العرب، أمام جدران موصدة، أو تائهين لا نصحو من حلم إلا لنغطس في كابوس قديم؛ ثم نفيق مجددا لندرك أن أرضنا مرايا من زجاج هش، وخيولنا تطارد، هناك في قمم المستحيل، أشباحهم الخرافية؛ وأمانينا، التي شربناها في حكايات المطر، أصبحت سطورا معلقات على صدر تاريخ أصم. كم سألنا ما العمل؟ وكم نادينا حي على الفلاح.
لقد حاولت أن أسهم، في مقالات سابقة، بطرح مجموعة من المقترحات/الأفكار التي وصفتها كاجتهادات شخصية خارجة عن المألوف، بعد أن يئست، مثل الكثيرين، من رغبة وقدرة الأحزاب والحركات والمؤسسات المدنية، على تغيير واقعنا المؤلم، وعلى مواجهة المخاطر التي تتربص وتعصف بمجتمعاتنا. وللأسف لم تلق جميع تلك المقترحات أي نوع من التفاعل، لا من قبل مؤسسات تلك الأحزاب، ولا من قبل أي الجهات أو الأشخاص. قد تكون اجتهاداتي، بعين جميع أولئك غير المعنيين أصلًا بالتغيير، فاشلة، أو غير ملائمة أو غير واقعية، لكنني توقعت أن تُناقَش، ولو من باب تحريك الساكن، من قبل بعض المعنيين من أكاديميين ومثقفين، أو ناشطين  اجتماعيين، أو خبراء متخصصين، أو متابعين يشكون من كثرة التحليلات، وانعدام الحلول والاقتراحات. توقعت ذلك لأنني مؤمن بضرورة الشروع في التفكير ببناء مؤسسات اجتماعية، وأطر سياسية جديدة، ووضع تصورات خلاقة لوسائل نضال مستحدثة وقادرة على حماية مجتمعنا وإنقاذه؛  فعندما ناديت لبناء «مجلس طوارئ أعلى» أو لإقامة «اللجنة ضد الفاشية»، أو «منتدى الحقوقيين العرب» أو «رابطة العلمانيين العرب» أو «منتدى الحقوق المدنية»، توخيت إقامة مجموعة أجسام متخصصة في ميادين مختلفة، كي تبدأ بالعمل من داخل المجتمع، وتحاول تنظيمه وإعادة ثقته بالنشاط السياسي، وبضروة النضال الجماعي؛ وكي تحاول، كذلك، اختراق المجتمعات اليهودية، وتجنيد من يرون انفسهم من داخلها، كضحايا محتملة للنظام السياسي الفاشي المتشكل أمامنا وأمامهم.
حاولت، من خلال بعض الأصدقاء، أن أفهم لماذا لم تتفاعل أي جهة أو مؤسسة أو حتى شخصية، مع أي مقترح من جميع ما ذكرت، ولم نتوصل إلى نتائج قاطعة؛ بيد اننا حين استبعدنا الفكرة، أن جميع تلك المؤسسات والأطر المقترحة لا تشكل، عند البعض على الأقل، تحديات جديرة بالمناقشة، توصلنا إلى حقيقة مزعجة ومقلقة مفادها، ان العناوين التي افترضنا أنها يجب أن تكون معنية بتغيير واقع العمل السياسي والاجتماعي البائس، وتلك التي افترضنا أنها قادرة على تناول هذه المسألة بمهنية وبدوافع وطنية وبمسؤولية اجتماعية عليا، لم تكن مثلما توقعنا أو افترضنا.
ويبقى السؤال لماذا؟ من راهن على أن اسرائيل ستترك مواطنيها العرب يبنون أعشاش أحلامهم في عرى مواطنة هادئة فقد أخطأ؛ ومن افترض أنه إذا ابتعد طوعيًا عن أحشائها ليعيش كمواطن عربي «سلبي» ويتكاثر بصمت كالنمل، أو كي يمارس حياته على دائرة رغيف الخبز ، فقد أخطأ أيضا؛ ومن وقف على رصيف الزمن منتظرا زحف جحافل الشرق لاستعادة بلاده المنكوبة، أو مَن دعا السماء، حبيبته وحليفته، لتزلزل كي يحصحص الحق، فقد راهن على غيب غافل وعلى قدر عاقر. فإسرائيل تعرف أننا، نحن المواطنين العرب، لحاء الزمن الساري في عروق هذه الأرض، وتعرف أنها اليوم أقوى من أن تنام على جرح ينزف بين ساقيها، وهي، لكل ذلك، تدفعنا لنختار المستحيل! وكي نحدد وجهتنا بخيار واحد من بين انتمائينا الحقيقيين: مواطنين، بحكم البقاء والإصرار، وفلسطينيين باقين كأنفاس من هُجّروا أو هجروا.

استمرار النأي عن مواجهة الأزمة سيفاقمها وسيبقينا ننزف على دائرة مغلقة ودامية

هنالك أسباب عديدة لاستفحال أزمتنا الحالية، وقد نضع في طليعتها حقيقة أننا كمجتمع، يعيش حالة مواجهة مع سياسات الدولة، لم نفرز، رغم مرور السنين، رؤى كفاحية حقيقية واقعية توازي وتواكب ما طرأ على المجتمع الاسرائيلي وعلى مجتمعنا العربي من تطورات، وتحاول إيجاد السبل الصحيحة، إما للتوافق المتزن مع الدولة أو للاشتباك الرابح معها. أما، بالمقابل، إذا اقتفينا آثار السياسات الإسرائيلية، فسنجد حدوث بعض التغيّرات المفاهيمية الاستراتيجية، التي اتبعتها مؤخرا مؤسسات الدولة تجاه بعض فئات من مواطنيها العرب، وسنلحظ مثلا أنها أفسحت، بمنهجية ذكية، هوامش لممارسة مواطنة مريحة، مدروسة ومحدودة، أدت، مع مرور الوقت، إلى نمو شرائح اجتماعية جديدة ولافتة ومؤثرة في مجتمعاتنا، راحت تربط مصائرها، ولو بصورة خفية ومموهة، مع مصالحها، فصارت طريقها من هناك إلى تحديد انتمائها الهوياتي محصورة، أولا وأخيرا، ببعدها المواطني الفردي أو الشرائحي. لقد استهدفت سياسات إسرائيل الجديدة فئات عديدة من الأكاديميين العرب، وقررت استيعابهم في مؤسساتها الحكومية والأكاديمية، والتابعة للقطاعات الخاصة السمينة، وأرادت من وراء ذلك تحييد الكثيرين منهم وإبعادهم عن إمكانية الانخراط في نشاطات كفاحية مباشرة، أو بمبادرات مثل تلك التي اقترحتها، إذا كان تقييمهم بأنها مبادرات قد تستفز مخططات الحكومة وسياساتها النافذة.
إنها حالة تستدعي الدراسة والتمحيص بمسؤولية عالية، وبعيدا عن خطابات التهريج والتقريع والهجاء، التي يمتهنها بعض مقاولي الأحزاب وناشطيها المؤذين وبعض المزايدين؛ ففي النهاية لا يمكننا تأجيل مواجهة إشكالية ثنائية الانتماء، المواطني والقومي، الذي كنا نعيشه بروتينية هشة، إلى أن قررت إسرائيل التدخل بصورة فظة وقامعة، وليس فقط عن طريق سن التشريعات العنصرية. لا تحتاج هذه المواجهة إلى الجرأة فحسب، كما يطالب البعض، بل إلى تذويتها كحاجة وطنية وجودية ضرورية وملحّة، وكمعضلة تستدعي تفكيكها بمفاهيم صحيحة ونقاط توازن سليم بين المركبين؛ فبدون أن تنجز القيادات الأمينة والنخب الحرة هذه المهمة سيبقى التصرف بمفاتيح هذه المعادلة متاحا بعشوائية لكل المواطنين، ولأحزابهم وتأطيراتهم وحسب أهوائهم وانتهازياتهم، ويكفينا ما نراه عند بعض رؤساء المجالس والبلديات، أو لدى بعض مؤسسات المجتمع المدني، وكذلك طبعا في ما تمارسه الحركة الاسلامية ورئيسها منصور عباس، وبين الكثيرين من المواطنين.
لا استطيع التعميم، بطبيعة الحالة، ولا الجزم في ما قلت؛ لكن استمرار النأي عن مواجهة الأزمة سيفاقمها وسيبقينا ننزف على دائرة مغلقة ودامية؛ في حين سيقف خارجها الذين يؤمنون بأن معارك اليهود مع بعضهم لا تعنينا، ذلك أن إسرائيل، بحسب هؤلاء، دولة كانت أم مملكة، مصيرها إلى فناء؛ ومعهم سيقف، على الضفة الثانية، أولئك الذين يمضغون قات المواطنة الرخيص، ويمارسون على وجوههم السمراء «عمليات التجميل الإسرائيلية» بدون حسابات ولا روادع.
ويبقى السؤال: ما العمل؟ الدعوة إلى تشكيل حركة شعبية؟ أو ربما إقامة حزب جديد؟
كاتب فلسطيني

 

 

 

ماذا لو رُشّح مواطن

عربي لرئاسة إسرائيل؟

 

جواد بولس

في محاولة مني للرد على سؤال ما العمل، دعوت في مقالي السابق جميع الذين يشعرون بالخطر مثلي، إلى إطلاق مبادرة لإقامة جبهة عربية يهودية تحت اسم: «مواطنون ضد الفاشية».
لا أعرف ما إذا كانت الفكرة ستلقى تجاوباً فعلياً؛ أو أنها ستجد من يحوّلها إلى إطار عمل نضالي حقيقي ليقف في وجه قطعان اليمين المنفلت، كما نراهم في أيامنا هذه، فحتى كتابته لم ألحظ، لأسفي، أي تفاعل مع هذه الفكرة.
لم ينجح بنيامين نتنياهو، لغاية الآن، بتشكيل حكومته؛ لكنه ما زال يحاول ويراوغ مع جميع الأحزاب، التي يعتقد انها صالحة للشراكة معه، (أو عندها، بلغة المكان، شهادة الكوشير) وبضمنها قائمة الحركة الإسلامية، التي أكد رئيسها الدكتور منصور عباس، في بيان رسمي نقلته المواقع يوم الاربعاء الفائت، على أنه تواصل هاتفيا مع بنيامين نتنياهو وتحدثا حول القضايا السياسية الراهنة، التي كان من بينها إمكانية تشكيل الحكومة، والقضايا الحارقة للمجتمع العربي، وقضايا سياسية أخرى.. كما جاء في الأخبار. لا نعرف ماذا تناول الاثنان في محادثتهما، وعن أي القضايا الحارقة تحدثا؛ وأملي، على الأقل، أن يكون النائب عباس قد لفت انتباه رئيس الحكومة نتنياهو لمضامين الدعوات التحريضية التي تطلقها في هذه الأيام، مجموعات إرهابية يهودية وتدعو من خلالها أنصارها ومؤيديها للتجند والتجهز والانقضاض على المواطنين العرب في القدس الشرقية وفي يافا، في عمليات ثأر لما وصفوه «الشرف اليهودي» ومن أجل تكسير رؤوس العرب وتلقينهم دروسا لن ينسوها. لم تتوقف، خلال السنوت الماضية، معظم المنظمات الإرهابية، مثل «تدفيع الثمن»و «لاهافا» و»شباب/ زعران التلال» عن حملاتها واعتداءاتها على التجمعات السكانية العربية وعلى الممتلكات، سواء في الأراضي الفلسطينية المحتلة، أو داخل إسرائيل؛ لكن ما نشهده الآن يشكّل تصعيدا خطيرا وجديدا، من حيث دموية الخطاب ووضوح أهدافه المخططة، وبالاستجابات الواسعة له، كما رصدتها الصحافة العبرية ونقلت تفاصيلها المقززة على الملأ.

الأزمة السياسية التي يواجهها المجتمع اليهودي، عرّت بواطن ضعفنا، وكشفت مخاطر تخبطنا بثنائية الانتماء الوطني والمواطني

إنها الترجمات العملية المرعبة للوضع المتولد والناتج عن تغيير المناخات السياسية في الدولة، كما كنا قد توقعنا حصولها؛ فهذه المنظمات وغيرها لن تنتظر تشكيل حكومة مقبلة، ولا كيف سيكون شكلها، لأنها عبارة عن فرق الدم الضاربة، مثل شبيهاتها في تاريخ أوروبا الأسود، وابنة غريزتها المفترسة التي تشم رائحة فرائسها فلا تهمل ولا تمهل. تنتظرنا، نحن المواطنين العرب، أوقات عصيبة؛ والمشكلة أن معظمنا يشعر بتداعياتها القريبة، ولا يعرف كيف سيكون الخلاص، ولا ما هي سبل مواجهتها المثلى؛ فالأزمة السياسية التي يواجهها المجتمع اليهودي، هي عندنا أخطر وأعوص، وقد عرّت بواطن ضعفنا، وكشفت مخاطر تخبطنا بثنائية الانتماء الوطني والمواطني. لقد أجاد الكثيرون من الأكاديميين والمحللين العرب بتوصيف حالتنا/ معضلتنا كفلسطينيين بالانتماء وكمواطنين في إسرائيل؛ لكن معظمهم لم يتعرضوا إلى نقطة الحسم، ولم يطرحوا حلولا واضحة. وقد لفت انتباهي مؤخرا حوار مطول أجرته الدكتوره رلى هردل المحاضرة في العلوم السياسية، مع موقع عرب 48 حول نتائج الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة، حيث أكّدت في أحد ردودها هناك على أن «سؤال المشاركة السياسية في المؤسسة يطرح نفسه علينا، ويجب إيجاد الإجابة عليه. والمدخل هو الحسم بين كوننا فلسطينيين نريد تفكيك المشروع الصهيوني، والمواطنة الإسرائيلية والانخراط في المشاركة في المؤسسة الإسرائيلية». وعندما حاول محاورها الصحافي سليمان أبو رشيد، أن يستوضح في ما إذا كانت تموضع خياراتها بين مواطنة جزئية واندماج مشوه، أو انتظار الفرج، أجابته: «أقصد أن شعار دولة المواطنين لم يعد يشكل عائقا، وأن مسألة التأثير والمشاركة السياسية في طريقها إلى التحول، ربما إلى صيرورة «عربية فلسطينية» واسرائيلية أيضا، وستطرح علينا هذه الأسئلة بشكل ملحّ ويجب أن نزود أنفسنا بأجوبة مقنعة لنا ولجماهيرنا، مع الأخذ بعين الاعتبار أن الرفض الإسرائيلي ليس حالة جامدة وربما يكون خاضعا للكثير من الاعتبارات التكتيكية، وليس الاستراتيجية فقط» قالت، أفصحت وزادت من حيرة القراء. قد يحتاج بعضنا وقتا لحسم خياراتهم الكبرى، ولكن هذا لا يعفيهم من ضرورة التفتيش الفوري عن وسائل المواجهة من أجل البقاء أحياء بين فكي تلك المعادلة؛ فأنا لن أنتظر على «رصيف الفرج» ولا إلى أن ننجح في تفكيك المشروع الصهيوني، الذي لا أعرف من وكيف سيفككه، بل سأسعى، كمواطن وكصاحب حق إلى إيجاد سبل الانخراط في المشاركة السياسية والتأثير فيها وعليها؛ وسأدعو بالطبع غيري لنفعل معا، كيلا يبقى هذا الانخراط فرديا، لأنه يجب أن يكون جماعيا، كما يليق بمكانة أقلية تقاتل من أجل بقائها وحقوقها، الفردية والجمعية ومستقبلها. وفي هذا المسعى سوف اقترح، علاوة على فكرة إقامة الجبهة ضد الفاشية، بعض الأفكار التي أهدف من ورائها إلى بناء أطر جديدة، قد تؤدي إلى تحديث أساليب نضالنا وعملنا وكيفية اشتباكنا، أو انخراطنا، مع الدولة وسياساتها تجاهنا كمواطنين عرب مهددين.
أولا: إقامة منتدى القانونيين العرب؛ سوف يعمل هذا المنتدى على التشبيك بين آلاف الأكاديميين، خريجي كليات الحقوق، الذين يعملون كمحامين أو كمحاضرين في جامعات البلاد، وبعضهم وصل إلى درجة العمادة، أو موظفين في مناصب إدارية رفيعة في أجهزة الدولة أو كبرى الشركات، أو اصحاب مكاتب محاماة، أو شركاء في مكاتب محاماة كبيرة، أو قضاة متقاعدين، في محاولة لإيجاد إطار أو وسيلة تجمعهم بهدف الاستفادة من خبراتهم في المجالات الحقوقية، وتسخير طاقاتهم المهنية والذهنية، وتحويلها إلى عوامل مؤثرة في تحديد معالم أزماتنا وتشخيصها من وجهة نظر قانونية؛ ومن ثم وضع برامج ومقترحات لتفكيكها ولمواجهتها بمنهجية وبنجاعة.
ثانيا: الدعوة إلى تأسيس رابطة العلمانيين العرب، التي ستعمل على نشر مناخات من الثقافة الإنسانية والديمقراطية الحقة داخل مجتمعاتنا، وعلى تعزيز ثقافة الحرية واحترام حقوق الغير المختلف، والانتماء إلى هويات جامعة وقادرة على تحصين مجتمعاتنا وتمكينها من مواجهة جميع المخاطر المتفاقمة بيننا.
ثالثا: التأكيد مجددا على مقترحي القديم لإقامة مجلس طوارئ أعلى؛ على ألا تكون عضويته محصورة في ناشطي الأحزاب والحركات السياسية والدينية القائمة، بل تتعداهم ليضم المجلس عددا من الشخصيات صاحبة المكانة والمهارة والتجرية والأهلية، لوضع تصوراتهم أزاء أزمتنا الناجمة، كما وصفتها على سبيل المثال الدكتورة هردل، وإرفاقها بحلول متخيّلة.
رابعا: أدعو قائمة النائب منصور عباس إلى تبني فكرة ترشيح مواطن عربي لرئاسة الدولة، خلفا للرئيس الحالي رؤبين ريفلن، وإلى تجنيد علاقاته ووزنه، كبيضة قبان، من أجل إنجاح هذا المقترح. فصلاحيات رئيس الدولة مهمة لكنها محدودة جدا، ولا يعد منصبه منصبا سياسيا، بل فوق الفئوية والسياسة ومن المفترض أن يمثل جميع مواطني الدولة.
واقترح عليهم ترشيح قاضي المحكمة العليا المتقاعد سليم جبران لهذا المنصب، فهو كقاض متقاعد من أعلى هيئة قانونية رسمية في الدولة، يعدّ صاحب شرعية مواطنية يجب أن تكون مقبولة على نتنياهو ومعسكره أو على لابيد ومعسكره. لقد نال القاضي جبران كأول غير يهودي على الإطلاق، قبل مدة وجيزة جائزة «المنظمة الأمريكية للمحامين وللحقوقيين اليهود» وهي إحدى المنظمات الكبرى والمؤثرة، ليس فقط على مستوى أمريكا، بل أبعد منها بكثير. وقد قدّم أمام أعضاء هذه المنظمة خطاب المواطنة الكاملة، حيث لفت فيه أنظارهم إلينا كأبناء أقلية عانت وتعاني من عنصرية الدولة، التي سوف تضاعفها تبعات قانون القومية السيئ والخاطئ، الذي سيشكل خطرا على بقاء الديمقراطية في إسرائيل. قد يكون ترشيح القاضي جبران صعبا على الحركة الإسلامية لكونه لا ينتمي، على طريقتهم، إلى «القوى المحافظة» في مجتمعنا؛ فعندها من الممكن أن يتبنوا ترشيح غيره من الشخصيات المحافظة ذات المقام والمكانة والمؤهلات والسمعة لهذا المنصب، فالعبرة بقبول مبدأ الترشيح لهذا المنصب، وبكونه مقترحا متساوقا مع خطاب الإنجازات المواطنية الذي ينادي به النائب عباس وحركته. على جميع الأحوال قد لا توافق القائمة المشتركة على هذا المقترح، لكنني اعتقد أن «حركة ميرتس» تستطيع تبنيه، إلى جانب، أو بدون، موافقة الحركة الإسلامية عليه.
وأخيرا، أعرف أن جميع هذه المقترحات هي مجرد أفكار تستدعي المناقشة والدراسة والتطوير، عساها تنضج وتصبح ناجزة كوسائل عمل مستحدثة وقادرة على تحسين أوضاعنا أو جاهزيتنا لمواجهة من نراهم يكشرون عن أنيابهم؛ فهم فرق السماء الغاضبة، صناع مناخات الخوف، النافخون بأبواق الدمار، والقابضون على مناجل حصاد الجماجم التي سيشيّد على أكوامها، هكذا يؤمنون، شعب إسرائيل مملكته اليهودية الجديدة.
كاتب فلسطيني

 

 

من أجل إقامة جبهة:

«مواطنون ضد الفاشية»

جواد بولس

 

لا أعرف كم من المشاهدين نجحوا، أو حاولوا استيعاب مشهد اعتداء عناصر شرطة إسرائيل الوحشي على النائب عن الجبهة الديمقراطية في الكنيست، الدكتور عوفر كسيف، ومن ثم ترجموه كتجسيد لسياسة الدولة الرسمية الجديدة، وأساليب جهاز شرطتها، التي باتت اعتداءاتها المتكررة على المواطنين المسالمين، من عرب ويهود، مؤشرا واضحا على خطورة التغيير العنصري الفاشي الجوهري الذي حصل داخل المجتع اليهودي، وعلى مفاهيم دهاقنة الحكم تجاه جميع «الآخرين» الخارجين عن إجماعهم.
لقد شارك النائب كسيف مع مجموعة من المحتجين، العرب واليهود، في مظاهرة سلمية ضد اعتداءات المستوطنين المتطرفين على السكان العرب، وعلى ممتلكاتهم في حي الشيخ جراح في القدس المحتلة، لكن رد الشرطة، التي صارت عصيها أطول من أنفاسها، جاء عنيفا بشكل غير مبرر على الإطلاق، وإصابة كسيف كانت متعمدة، خاصة أنهم كانوا يعرفون أنه يهودي، وأنه نائب في البرلمان ويحظى بحصانة تامة.
لا يمكن، في هذا المقام، ألا نستحضر مشاهد اعتداء هذه الشرطة نفسها على كرمي جيلون الرئيس السابق لجهاز المخابرات العامة في إسرائيل، وإصابته بجراح طفيفة عندما شارك، قبل حوالي نصف عام مع آلاف المحتجين اليهود، أمام بيت رئيس الوزراء في شارع بلفور في القدس الغربية، في مظاهرة سلمية، كانت قد انتهت بالاعتداء عليها، وبمشهد عرّى قبح واقع إسرائيل، وأثبت أننا نقف، كما صرخت حينها، عند «باب جهنم» فسألت: «من يوقف السقوط به وكيف؟». لم يكن الاعتداء على المتظاهرين في حي الشيخ جراح، وإصابة النائب كسيف، هو النذير الوحيد الذي أصابنا في الأسابيع القليلة الماضية، وذكّرنا بما يتربص بمستقبلنا، فقبل أيام رفض ثلاثة من قضاة محكمة «العدل» العليا الإسرائيلية التماس «لجنة اختيار الفائزين في جائزة إسرائيل» ضد وزير التربية والتعليم يوآف غالنت. قدمت اللجنة التماسها في أعقاب رفض الوزير لقرارها القاضي بمنح البروفيسور عوديد غولدرايخ، وهو باحث معروف في معهد «وايزمن» في مدينة رحوبوت، الجائزة لهذا العام، تقديرا له على أبحاثه في علوم الرياضيات والحاسوب. وعلل الوزير غالانت رفضه لقرار منح الفائز جائزته على خلفية مواقف البروفيسور غولدرايخ في مناهضة الاحتلال الإسرائيلي للمناطق الفلسطينية، وتأييده لحركة المقاطعة العالمية (
BDS) وتوقيعه على عريضة كانت قد نادت بمقاطعة جامعة «أريئيل» المقامة على الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967.
لم يلفت قرار المحكمة العليا انتباه قادة مجتمعنا، ولم تستفز خلاصته ومسوّغاتها الخبيثة معشر الأكاديميين، ولا المحامين والقانونيين العرب، باستثناء التفاتة من قبل الصحافي الكاتب سليم سلامة، الذي نشر مقالًا بعنوان «السقوط في شرعنة العقاب على الآراء السياسية» شرّح فيه مضامين قرار المحكمة العليا وتناول أبعاده بمهنية، وأشار إلى تداعياته، في فضاء عدل كسيح، ومنظومة قضاء ما انفكت تهرول نحو الهاوية والخراب. لقد تعوّدنا على ألا يعير معظم المواطنين العرب، على جميع انتماءاتهم وشرائحهم، هذه الأخبار «الصغيرة» والمشاهد السامة المستفزة أي اهتمام، فمجتمعاتنا تعيش حالة إدمان على تعاطي الخبر برتابة منهكة، وتحترف، ببردوة، طقوس النفاق والكذب الاجتماعيين القاتلين، حتى إن معظم الناس تعلموا كيف يكيّفون شروط سلامتهم والنجاة بين صلاة ورصاصة ووجبة، وكيف يتقنون مدائح الدم في جنازات القتلى، ويستمطرون، بدموع من زجاج، رحمة السماوات كلما اغتيلت سوسنة في المساء.

براهين عديدة على انتقال نظام الحكم من نظام عنصري، يقمع ويضطهد المواطنين العرب، إلى نظام مستبد لا ديمقراطي بالمطلق

كتبت قبل مدة قصيرة أنني لا أعرف متى سنستوعب، بسطاء «ونبلاء» أننا نقف على «عتبة جهنم»؛ وأننا لا نملك ترف التناسي والتغافل عمّا يحصل في شوارع الدولة وفي أروقتها، وأنه من الحماقة أن يفرح بعضنا كلما سقطت هراوة شرطي يهودي فاشي على رأس يهودي عاص، أو أن يغني جاهل متحذلق بشماتة حمقاء ويعلن من على المنصات: ها قد دنت ساعة خلاصنا، فإن بعضهم يأكلون بعضهم، فدعوهم يسيرون ببطء نحو نهايتهم القريبة. هنالك هوة كبيرة بين ما يجري من تفاعلات سياسية داخل المجتمع اليهودي، وما يوازيها من ركود مقلق مسيطر على وعي جماهيرنا وقياديينا، وما يرافقة من انهيارات في القيم الاجتماعية والسياسية، فبين الأكثرية اليهودية تتنامى وتكتمل معالم «جهنم» وفي مواجهتها تتسع حلقات المعارضين الذين بدأوا يستشعرون بحتمية ذلك التطور، الذي سيفضي إلى تشكل نظام ديكتاتوري شبيه بجميع الأنظمة السوداء التي عرفها التاريخ، لاسيما في الفترة الواقعة بين الحربين العالميتين.
أما في المقابل، وعلى الرغم من اقتناع معظم طلائعيي النخب العربية، المزودة بأدوات علمية والمنكشفة على تجارب الشعوب الأخرى، بأن ممارسات النظام الإسرائيلي الجديد ستختلف جوهريا عمّا عاشه المجتمع الإسرائيلي وعشناه نحن في العقود السبعة الماضية. وعلى الرغم من معرفة هذه الحقيقة، لم تبادر هذه النخب في مجتمعاتنا إلى أيّ محاولة لمنع وقوع الأسوأ المتوقع، أو للبحث عن وسائل لمقاومته.
سيدّعي الكثيرون، حتى بعد حالة الاعتداء السافر على النائب كسيف وعلى المتظاهرين معه، كما أتوقع، أن لا جديد في المشهد الإسرائيلي؛ فهذه الشرطة هي شرطة الدولة القديمة الجديدة، ولطالما شاهدنا عصيّها وهي تهوي على رؤوس وأجساد المتظاهرين العرب، وبنادقها تطلق عليهم قنابل الغاز المسيل للدموع، أو حتى الرصاص المطاطي والحي، كما جرى في أحداث يوم الأرض، أو خلال احتجاجات ومواجهات شهر اكتوبر عام 2000 وفي غيرها من حالات الانفلات الشرطية العنصرية القمعية، التي خلّفت وراءها بين المواطنين العرب الضحايا والمصابين والأحزان.
لكنني، هكذا كتبت قبل إجراء جولة الانتخابات الأخيرة، وإن كنت أوافق على صحة هذا الادعاء بمنظوره التاريخي، أؤكد مرة أخرى، على أن ممارسات عناصر الشرطة الأخيرة وثبوت عملية سقوط المحكمة العليا الإسرائيلية الأخلاقي والمهني، ستبقى، بعد احتلال اليمين بأطيافه لأغلبية مقاعد الكنيست، علامات فارقة وتاريخية، وبراهين على انتقال نظام الحكم من نظام عنصري، كان يقمع ويضطهد مواطني الدولة العرب ولم يزل، إلى نظام مستبد لا ديمقراطي بالمطلق. هذا النظام لا يقبل بأي نوع من المعارضة السياسية، حتى لو كانت آتية من داخل المجتمع اليهودي، وتمارسها قطاعات صهيونية عرفت في الماضي بدعمها للحكومات الصهيونية اليمينية، على أصنافها، أو من قبل أجسام وجهات وشخصيات يهودية، أو يهودية صهيونية بارزة، وصاحبة تاريخ مشهود في تضحياتها من أجل بناء إسرائيل القوية، مثل ما حصل مع كرمي جيلون وآخرين قبله.
ان من لا يقرّ بالفوارق بين النظامين لن يأمن، بعد انتشار الذئاب في الطرقات، على مستقبل أولاده في هذه البلاد. كم هتفنا، حين كانت حناجرنا واثقة مثل حجارة الصوان، بأن الفاشية لن تمرّ؛ وحاولنا صدّها، وصمدنا وعشنا.. ولكن، كما نسمع ونرى، لم يعد هذا الهتاف شافيا ولا كافيا. لقد تمنيت على أحزابنا وحركاتنا السياسية والدينية والمدنية أن تتصدر مواجهة هذه القوى، قبل أن تستقوي وتستحكم في رقاب الدولة وفي مفاصلها؛ وكان الأمل أن يتم ذلك من خلال نضال حقيقي، لا بإطلاق الشعارات ونشر بيانات الشجب والاستنكار فحسب، وعوّلنا كثيرا على «الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة» لأنها كانت صاحبة هذا الشعار التاريخي والمؤمنة فكريا بضرورة بناء الجبهات العريضة في مواجهة الفاشية، وكانت هي المبادرة لإنشائها في البدايات؛ إلا أنها، يبدو، لم تعد مهيئة، بتركيبتها الحالية، لحمل عبء هذه المسؤولية. وبما أنني مؤمن بأننا كمواطنين عرب كنا وسنكون أول الضحايا، فعلينا تقع مسؤولية المبادرة لبناء أوسع جبهة تتوافق مركباتها على ضرورة العمل النضالي الموحّد؛ والأمل معقود على أن تضم هذه الجبهة كل جهة أو جسم أو مجموعة أو حركة أو شخصية، عربية ويهودية، تقر مثلنا بخطورة تنامي قوة منظومة القوى الفاشية وبضرورة التصدي لها.
ولأنني أعرف أن الكثيرين بيننا يؤمنون مثلي، فعلى مجموعة مبادرين أن يلتقوا، لا على أسس الانتماءات الحزبية المؤطرة، بل في عروة الفكرة وبهدف تشخيص أعراض المرحلة والاتفاق كيف يكون الانطلاق وما هي الخطوة التالية في التوجه نحو جميع الحلفاء الممكنين. فلنقم، إذن، رابطة أو جبهة «مواطنون ضد الفاشية».
كاتب فلسطيني

 

 

ويبقى السؤال أمامنا:

ما العمل؟

 

جواد بولس

 

أثارت تصرفات بعض النواب العرب واليهود، التي رافقت جلسة الكنيست الخاصة بأداء اليمين الدستورية المطلوبة منهم وفق «قانون أساس الكنيست» حركة ما يسمى في لغة العصر كتائب الذباب الإلكتروني، واستجلبت، في الوقت نفسه، ردود فعل غاضبة من قبل عدة جهات يمينية عنصرية، قامت بتجييش الموقف لمزيد من التحريض على النواب العرب، وعلى ناخبيهم أجمعين.
لقد اختار نواب الجبهة الديمقراطية الثلاثة، أيمن عودة وعايدة توما وعوفر كسيف، والنائب عن حزب التجمع، سامي أبو شحادة، عدم الالتزام بالنص القانوني الذي يتعهد بمقتضاه النائب المنتخَب على أن «يحفظ الولاء لدولة اسرائيل» وأن يلتزم «بتأدية رسالته في الكنيست بإخلاص» واستبدلوه بتعهدهم بالعمل ضد الاحتلال وضد العنصرية والعنصريين، ومن أجل العدالة والديمقراطية، في خطوة احتجاجية أرادوا منها تسجيل موقف سياسي في لحظة تاريخية حرجة، ولفت أنظار المجتمع، في إسرائيل والعالم، إلى واقع كارثي ومرير، هو في الحقيقة مصدر الجحيم الذي يعيشه الفلسطينيون في الأراضي المحتلة، ويعاني من جرائه المواطنون العرب وجميع الفقراء والبؤساء في إسرائيل.
هنالك من لا يعرف أن عددا من جلسات قسم اليمين الدستورية، منذ إنشاء الكنيست الاولى عام 1951، قد شهدت مثل هذه الأحداث؛ فالمقام والفرصة يغويان النائب أحياناً، ويدفعانه إلى استغلال المنصة بشكل متعمد للاحتجاج الخاطف، أو من أجل تمرير رسالة خارجة عن المنصوص المتوقع، ومستفزة لقواعد البروتوكول؛ بهدف استثارة «الآخر» وخضّه، أو لفت انتباه قطاعات واسعة من المتابعين على اختلاف انتماءاتهم . أما الحكم على فائدة هذه الفذلكات، أو تأثير هذه الإشراقات، فسيبقى مختلفا عليه؛ تماما كما حصل في هذه المرة، خاصة في عالم الحريات الإلكترونية المنفلتة والمتوحشة؛ في حين تواجه فيه مكانة النائب العربي في الكنيست الإسرائيلي أزمة ثقة وجودية خطيرة، عبّر عنها، بشكل جزئي، الانخفاض الواضح في نسبة تصويت المواطنين العرب في الجولة الانتخابية الأخيرة. سوف تتداعى التطورات السياسية العامة بتسارع مجنون، ولن يبقى من ذلك الحدث إلّا رذاذ مخلفات قد تُستحضر في المستقبل، إما على سبيل التفكّه، أو كأسلحة في مناكفات «الأخوة» الحزبية و»القبائلية؛ وستبقى كذلك الحقيقة الموجعة وهي، أن هذه الكنيست تضم أكبر عدد من النواب العنصريين والفاشيين، الذين بدأوا بتنفيذ ما أعلنوه قبل انتخابهم إزاء مكانة العرب، كل العرب، في الدولة، خاصة في ما يتعلق بمفهومهم ليهودية الدولة ولطبيعة الحكم فيها ولمرجعياته. وقد برزت في هذا الاتجاه تغريدة رئيس حزب «الصهيونية المتدينة» النائب سموطريتش، التي وجهها من على صفحته قبل يومين، للنائب أحمد الطيبي وهدده فيها قائلاً: «أحمد هو مسلم حقيقي، ويجب أن يعلم أن أرض اسرائيل هي ملك لشعب إسرائيل، ولن يبقى فيها، مع الوقت، أمثالك الذين لا يعترفون بذلك، ولسوف نهتم نحن بتنفيذ ذلك الأمر». وردت تغريدة سموطريتش بعد خطاب النائب منصور عباس، الذي طنطنت له وسائل الإعلام العبرية، وبعد أن غازل من خلاله أحزاب اليمين وحاول استرضاءهم؛ وتزامنت كذلك مع هجمات عنصرية مشابهة، أطلقها زميله النائب ابن جبير، ومع أصوات عنصرية عديدة أخرى، تشكل بمجموعها مؤشرات أولى وأكيدة على طبيعة وخطورة مواجهاتنا القريبة المقبلة، خاصة إذا علمنا أن هذه المواقف تحظى بوجود إجماع نيابي عريض وناجز، ومدعومة من قبل أكثرية يهودية عنصرية شعبية واضحة.

الاعتراض على خيارات الأحزاب المشاركة في «اللعبة الديمقراطية» وتسفيه نشاطها، لن يفيدنا ولن يوصلنا إلى بر النجاة

من المؤسف أن ينقسم المعقّبون العرب حول تقييم خطوة النواب الأربعة المذكورة، وأن يتواجهوا بسببها في معارك هامشية، تشكل مشهداً يذكرنا بحماقات بعض المجتمعات العقيمة، التي سهّل تشظّيها، لاسيما حول أمور جانبية، مهمّة سيطرة القامع وتحكّمه في رقاب عامة المقموعين. لقد كان الأولى بالجميع أن يتنبهوا، بعد انتهاء المعركة الانتخابية، لما ينتظرنا، وأن يشاركوا في «مجهودهم الحربي» الحقيقي المطلوب في ساعة الصفر الحاضرة الآن الآن. لن تكون مهمة مواجهة القوى اليمينية الفاشية في المعركة المقبلة، محصورة في الأحزاب والحركات العربية التي خاضت المعركة الانتخابية، مؤمنةً بضرورة النضال البرلماني كواجب وكاستحقاق تتيحة مواطنتنا في الدولة؛ فجميع المواطنين العرب مستهدفون وعليهم أن يستوعبوا كيف تغيّرت مفاهيم الأكثرية داخل المجتمع اليهودي، نحو مسألة وجودنا كأقلية قومية تهدد استقرار دولتهم ومستقبلها؛ وكيف ترى الأكثرية، التي يمثلها سموطريتش وأشكاله اليوم، سبل مواجهة هذا الخطر المتخيّل؛ وما هي الأدوات القانونية وغيرها، التي ابتدعوها، والتي ستجنّدها مؤسسات الدولة في سبيل تأمين نصرها في المعركة الحاسمة المقبلة؟
سوف يخطئ من سيستخفّ بما كتبه سموطريتش في تغريدته المذكورة؛ فهو وما يمثله لم يعودوا مجرّد مهلوسين سائبين كقطعان من مخلوقات خرافية هائجة على سفوح تلك الهضاب البعيدة، بل أصبحوا ساسة النظام؛ وسرعان ما ستتحول أفكارهم قريبا إلى برامج عمل حقيقية، سنكون نحن، المواطنين العرب، عناوينها المباشرة والأكيدة. يجب أن نعود فورا إلى قضيتنا المركزية والإجابة على سؤالها المفتاح وهو: ما العمل؟ قد لا تملك الأحزاب والحركات التي تخوض الانتخابات سبلًا كافية وكفيلة لمواجهة المخطط الذي تهدد بتنفيذه أحزاب اليمين الفاشي وحلفاؤها، ولكن ما هي الحلول الواضحة، والمخططات العملية التي يملكها بالمقابل من قد قاطعوا الانتخابات؟ فالاعتراض وحده على خيارات واجتهادات تلك الأحزاب المشاركة في «اللعبة الديمقراطية» وتسفيه نشاطها، لا يكفي ولن يفيدنا ولن يوصلنا إلى بر النجاة.
قد تنعكس ملامح الانقسام الأساسي القائم داخل المعسكرات العربية السياسية الأساسية على ظاهرة فقدان مجتمعاتنا لعناصر هويتنا الجامعة، خاصة عند اشتباكها مع مسألة المواطنة الإسرائيلية، التي ترفض بعض الحركات السياسية الإسلامية والقومية التعامل معها بشكل مبدئي؛ أو على العكس، يقبلها الآخرون لكنهم يختلفون حول كيفية ممارستها وتصريفها أثناء التعامل، كأفراد وكمجموع، مع مؤسسات الدولة. وعلى سبيل المثال، ظهر هذا الخلاف مؤخرا بشكل واضح داخل شقي الحركة الاسلامية، وهي بدون شك من أهم الأجسام السياسية التي تؤثر في هندسة هوية مجتمعاتنا وفي سلوكيات أفراده وقيمهم المعيشية. فعندما استهل الدكتور منصور عباس، زعيم الحركة الاسلامية وممثلها المنتخب في الكنيست، خطابه الموجه إلى المجتمع اليهودي بالآية رقم 13 من سورة الحجرات وطمأنهم بـ «يا أيها الناس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا» رد عليه الشيخ كمال خطيب، زعيم في الشق الشمالي للحركة الاسلامية التي تدعو إلى مقاطعة انتخابات الكنيست، وهاجمه مستشهداً بعدة آيات مناقضة، لم يحصرها بموقف القرآن من اليهود، بل جمع معهم النصارى أيضا مستعينا بالآية رقم 120 من سورة البقرة متسائلًا: «أليس في قرآن منصور عباس الذي في صدره قول الله تعالى: ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم».
هذا ليس مجرد خلاف عقائدي بسيط بين الشقّين الإسلاميين حول مفهوم المواطنة، وعلاقة المسلمين مع سائر المواطنين والدولة، بل هو تعبير عن توجّهين إسلاميين مختلفين حول فهمهما لمسألتي الهوية والمواطنة؛ وهو ما يخلق واقعا ملتبسا يؤثّر بشكل سلبي في وحدة مجتمعنا، وفي مواقف المواطنين المسلمين المحافظين إزاء «الآخر» ، ويؤدي، في الوقت نفسه، إلى ضياع بوصلتهم وفقدانهم للثقة في نجاعة العمل السياسي، ودخولهم في حالة من السبات الاجتماعي؛ أو إلى لجوئهم لحالات من الفردانية والشخصانية، وما تتيحانه من «خيرات» متخيّلة في حمى الدولة اليهودية وتحت سقف مؤسساتها، أو ما تكفله القبائلية والحمائلية البغيضتين. إنه مجرد مثال على أحد المفاعيل المسؤولة عما آلت إليه أحوال المواطنين العرب، وعن انتشار حالات الانتماء السائل والهش؛ فإن كانت طريق منصور عباس وحركته الإسلامية الجنوبية ستوصلنا، كما نجزم نحن أيضا، إلى حضن اليمين الصهيوني المتوحش، فهل يكشف لنا قادة الحركة الاسلامية الشمالية عن مخططات مشروعهم الإسلامي النضالية الميدانية، وبرامجهم العملية المعدّة لمواجهة مخططات اليمين الفاشي المعلنة، خاصة أنهم يؤكدون لنا أن اليهود والنصارى لن يرضوا عن المسلمين «حتى يتبعوا ملّتهم؟». هذا السؤال موجّه أيضا إلى جميع الأحزاب والحركات والمؤسسات ولجميعنا بدون استثناء؛ فبدون الإجابة عليه سنجد أنفسنا وسط معارك أكتوبر جديد وسنعود لعدّ أسماء شهدائنا الجدد، وسنحتفي بذكراهم الخالدة بعد عام وعام وعام.

كاتب فلسطيني

 

 

الحركات الإسلامية بين نداءات

المقاطعة والدعوة للاندماج

جواد بولس

 

رغم مرور عشرة أيام على انتهاء الجولة الانتخابية الرابعة للكنيست الإسرائيلية، لم تظهر بعد بوادر انفراج الأزمة السياسية القائمة، وذلك رغم محافظة الأحزاب اليمينية على قوّتها وتراجع نسبة المصوتين العرب بشكل بارز، فالانقسامات الداخلية بين أحزاب اليمين والعداوات الشخصية التي يكنها بعض زعاماتها لشخص بنيامين نتنياهو أدّت إلى تعقيد وضعه وإلى منعه من جني نتائج إنجازاته في حقلي مكافحة كورونا وتوقيعه عددا من «معاهدات السلام» مع بعض الدول العربية، أو من قطف ثمار سياساته العنصرية والتحريضية السابقة وتودّده الانتهازي المفاجئ للمصوتين العرب قبل هذه الجولة. سيستمر المعسكران، واحد برئاسة نتنياهو، والآخر برئاسة يئير لبيد، بمحاولاتهما في تجميع أكثرية نيابية تمكنهما من إقامة حكومة وترؤسها علمًا بأن جميع الاحتمالات ما زالت واردة، بما فيها الاضطرار لجولة انتخابات خامسة ستضع المواطنين العرب في إسرائيل، مرة أخرى، أمام نفس التجربة والتحديات.
تعيش إسرائيل إذن تداعيات أزمة سياسية متدحرجة وخطيرة، ولن تنتهي بطبيعة الحال مع تشكيل الحكومة أو إذا أدّى فشل ذلك إلى الذهاب لجولة انتخابية خامسة، فالصراع الحقيقي داخل المجتمع اليهودي هو، بدون شك، أعمق ويدور حول شكل «الدولة القومية اليهودية» العتيدة وطبيعة نظام الحكم فيها ومرجعياته المعتمدة.
لقد تطرّقت في مقالتي السابقة إلى بعض الخلاصات التي قرأتها في النتائج كما أقرتها «لجنة الانتخابات المركزية» ولاحقًا لما ذكرت هناك سأتعرض، فيما يلي، لظاهرة الحركة الإسلامية وأسلوبها في العمل السياسي بيننا من جهة، ولظاهرة مقاطعة الانتخابات من جهة أخرى. إنهما قضيتان أساسيّتان مرتبطتان في عملية الانتخابات، لكن لهما تأثيرات أبعد بكثير وأدوم على حياتنا اليومية وعلى هوية مجتمعاتنا وعلاقاتنا مع الدولة كما نمارسها في واقع لم يعد يشكّل امتدادًا طبيعيًا لماضينا، كمواطنين عرب في إسرائيل، بل يشي بظهور انشطارات وتشكّلات «عرب – إسرائيلية» جديدة، لن تحتكم بالضرورة إلى قواعد اللعب المتعارف عليها، وغير مدفوعة بنفس الهواجس والمصالح التي أملتها في العقود الماضية مشاعر الانتماء إلى هوية عربية وطنية واضحة وجامعة حافظت على معالمها الأساسية رغم وأثناء تجاذبات بعديها القومي والمواطني وتصادمهما أحيانًا كثيرة.
لا ولن تنحصر هذه المتغيرات في أداء الحركة الإسلامية الجنوبية الأخير، وإن كانت هي من أهم معالم تلك التحولات وربما أجدرها بالمتابعة، وذلك لأن أسباب نشوء هذه الحركة ونشاطها كحركة يمينية سياسية إسلامية، وإمكانية نشوء غيرها من بين الشرائح العلمانية أو شبه المتدينة، مغروسة عميقًا في طبيعة الفكر السياسي الإسلامي وفي ما يعتمل داخل هويات بعض الشرائح الاجتماعية، سواء ما يتوالد منها ويتراكم على شاكلة طبقة وسطى جديدة، أو ما يتفاقس على حفافها، أو، على النقيض، بين الشرائح المجتمعية المهمشة والفقيرة أو العابثة.

سلوك قادة القائمة المشتركة ثم انشطارها وخروج الحركة الإسلامية منها أحد العوامل الرئيسية التي أدت إلى تراجع قوتها شعبيًا

لقد انبرى البعض بتعريف عبور الحركة الإسلامية لعتبة الحسم وحصولها على أربعة مقاعد نيابية بالنصر الكبير. وقد يكون هذا التوصيف صحيحًا في المواجهة بين جناحي الحركة الإسلامية ودليلًا على تراجع قوة قادة جناح الحركة الإسلامية الشمالية وفشلهم بإقناع المصوتين المسلمين المحافظين بصحة نداءات مقاطعة الانتخابات، فالاختلاف حول التصويت أو الامتناع عنه لا يقع ضمن الفقهيات العقائدية المجمع عليها، بل هي اجتهادات حول المفاهيم السياسية التي يطوّعها المفتون/المجتهدون حسب الظروف والمصلحة، حيث يصبح الاهتداء بقواعد إسلامية سياسية مقرّة ومغايرة، مثل الضرورة «بدرء المفاسد» أو حتى «طاعة أولي الأمر» جائزًا. أمّا أنا، وإن كنت لا أرى بسقوط الحركة الإسلامية، لو كان قد حدث، مدعاةً للفرح، لن أرى بفوزها نصرًا، إلا إذا رصّد قادتها هذه الأمانة في حسابات المواطنين العرب قوتًا وكراماتٍ وحقوقًا مستحقة، وإذا لم يستغل قادتها نجاحها من أجل تقوية حكومة نتنياهو وحلفائه الفاشيين سواء تبوأ هؤلاء الوزارات أم لا.
لا نعرف كيف سيتصرف قادة الحركة الإسلامية في الأيام القريبة المقبلة ومعهم النائب مازن غنايم، رئيس بلدية سخنين السابق، الآتي مؤخرًا إلى صفوفها من أحضان حزب «التجمع الوطني» القومي. ومع أن كثيرًا من المؤشرات لا تستبعد إمكانية اصطفافهم إلى جانب حكومة برئاسة نتنياهو، سيبقى الأمل معقودًا على بعض قادة ونشطاء هذه الحركة التاريخيين، لا سيما أولئك الذين تحدثوا ويتحدثون دفاعًا عن المصالح العليا للجماهير وعن ضرورة تأمين حد أدنى من التنسيق والعمل الوحدوي بين جميع الأحزاب والحركات العربية، مثل تصريح النائب السابق عن الحركة، مسعود غنايم، الذي استحضر قبل أيام ذكرى يوم الأرض ومقتل الشاب منير عنبتاوي برصاص شرطة نتنياهو، فصرّح أن « الدعوة إلى الوحدة هي واجب الساعة. فبعد معركة انتخابية شرسة كان بها هذا التشرذم، نحن بحاجة إلى لملمة البيت وإعادة اللحمة والتنسيق والتعاون بين جميع الأحزاب وبين القوائم العربية» وهو ليس وحيدًا في هذه الرؤية.
وبعيدًا عما سيطرأ على هذه الجبهة الضيقة، رغم أهميتها، ستبقى الأزمة الكبرى التي تعيشها جميع الأحزاب والحركات والمؤسسات غير الإسلامية هي الحقيقة الأهم التي عرّاها أمامنا تحدّي الحركة وزعيمها كاشفًا عجزهم في حماية مواقعهم وفشل تنظيماتهم في قراءة الواقع ودرء مخاطره.
لم تكن سقطة القائمة المشتركة المدوية غير متوقعة، فمن تابع، خلال العقدين الأخيرين، غياب قادتها وتنظيماتهم عن مواكبة المتغيرات العميقة الجارية داخل مجتمعاتنا، أحس بالمخاطر الداهمة، خاصة بعد أن برز يومًا بعد يوم فشلهم في حماية الفضاءات الاجتماعية الضامنة لاستمرار حياتنا اليسيرة والآمنة، وتعنتهم، رغم الخسائر، بعدم مراجعة تجاربهم. لقد حافظوا على بنى تنظيماتهم الهرمة والقاصرة عن خلق وسائل ردع سياسية واجتماعية تكون قادرة وكفيلة على صد تفشي مظاهر العنف في مواقعنا، وعلى محاصرة تنامي قوة العصابات الإجرامية الهدامة، أو على مواجهة الحركات الاندماجية في مؤسسات الدولة، على طريقة الحركة الإسلامية الجنوبية، وهي ليست الوحيدة في هذا المدار، في وقت كان قادتها يوسّعون مناطق نفوذهم ويسيطرون على مرافق ومنصات جديدة داخل مجتمعاتنا، سواء كان ذلك تحت يافطة حماية مجتمعاتنا المحافظة، أو نتيجة لعدم مهادنتهم في مسائل العقيدة والإيمان.
كان سلوك قادة القائمة المشتركة ومن ثم انشطارها وخروج الحركة الإسلامية منها أحد العوامل الرئيسية التي أدت إلى تراجع قوتها شعبيًا كما شاهدنا، وكان التراجع في نسبة أعداد المصوتين العرب هو العامل القاتل الثاني.
لا أحد يستطيع أن يثبت مدى تاثير نداءات المقاطعة المؤدلجة على من بقوا في بيوتهم، ولكن، مع ذلك، يجوز لمن بادروا بإطلاق تلك الحملات أن يعزوا نتائجها أو جزءًا منها لصالحهم وأن يفسروها كزيادة في شعبيتهم وقدراتهم على التأثير.
وعلى جميع الأحوال، هنالك حاجة حقيقية لمناقشة هؤلاء، وأنا أقصد مناقشة الذين يؤمنون بأن المقاطعة هي وسيلة نضالية فعالة في مواجهة سياسات إسرائيل العنصرية والقامعة، وليست عبارة عن نزق رومانسي أو وقفة احتجاجية غاضبة أو ردة فعل عقابية لهذا الحزب أو لذاك المسؤول، فالاكتفاء بتسفيه تلك النداءات، التي هي في الواقع جزء من كلٍّ مفاهيمي سياسي، أو بإغفالها أو بمهاجمة أصحابها لا يسعف ولا يلغي وجودها وتأثيرها، بل على العكس، فقد يلحق الضرر بمن يؤمن، مثلي، بفعالية التصويت وبكون النضال البرلماني ليس أكثر من رافد في معركة يجب أن تلتئم فيها عدة روافد نضالية أخرى كي تؤتي أكلها السياسية المرجوة.
لا أعرف من هم المعنيون بإجراء هذا النقاش الضروري ولا من هم القادرون على تقييم تجربتنا السياسية باستقامة ومهنية وانتماء حقيقي، فصوت المقاطعين موجود بيننا وقد يكون فيه حكمة الحالمين أو طنين طهارة الحق أو كله على خطأ، ودور الحركات الإسلامية، على تفرعاتها، شاخص في كل ساحة من ساحات بلداتنا وشوراعها، فمتى سيُناقشون سياسيًا حول مواقفهم وبرامجهم كما «ناقشت» الأحزاب الأخرى بعضها وبدون مراءاة أو خوف أو تلعثم، أو كما كان سيفعل، النشطاء الماركسيون والقوميون والعلمانيون أو المثقفون إزاء حركة سياسية مسيحية متخيّلة دعت إلى إقامتها مجموعة من الأكاديميين والعلماء الفلسطينيين المواطنين في إسرائيل تحت اسم «الحركة المسيحية الحرة» التي ستعمل بهداية تعاليم المسيح ومن أجل المحبة والسلام ونشر رسالته بين الأمم، وتعلن، في الوقت نفسه، عن نيتها لخوض انتخابات الكنيست المقبلة بقائمة تؤمن بحماية حقوق الفرد وتنادي وتطالب بحقوق العرب الفردية والقومية في إسرائيل وبمساواتهم المواطنية الكاملة، وقد تدعم نتنياهو في مساعيه لتشكيل حكومة. فمن منكم لن يصمها بالطائفية وبالشرذمة وبأكثر، كما كنت سأفعل؟

 

 

نصر يعادل هزيمة

جواد بولس

 

 

سوف تعلن لجنة الانتخابات المركزية الإسرائيلية نتائجها النهائية بعد إتمامها لعملية فحص جميع مغلفات الاقتراع، وتدقيقها حسب الأنظمة والقوانين المتبعة؛ لكنني لن أنتظر كي أكتب عن سقوط آخر السدود، فبعض الخلاصات، بناءً على المعطيات المعروفة، حسب ما نشر لغاية منتصف ليلة الاربعاء الفائتة، أصبحت ناجزة، كما أراها.
أولًا: معظم الأحزاب اليهودية المنتخبة تنتمي إلى الفصائل نفسها المعادية لوجود وحقوق المواطنين العرب في الدولة؛ وقد نستثني بحذر حزب «يش -عتيد» وبعده حزب «العمل» وطبعا بفوارق كبيرة، وببعد عنهما حزب «ميرتس».
ثانيًا: سوف يحتاج كل مرشح لتشكيل الحكومة إلى دعم أحزاب اليمين، القومي منها أو القومي المتدين، التي رغم التفاوت في درجات تطرفها وعنصريتها وخطورتها، فإنها تتفق حول قواسم مشتركة أساسية، مثل مسألة الحكم ومرجعياته الدستورية، ومصير الأراضي الفلسطينية المحتلة، وكيف يجب التعامل مع سكانها الفلسطينيين، وما هي مكانتنا، نحن مواطنين الدولة العرب، في الدولة القومية اليهودية، التي يُجمعون على ضرورة المحافظة عليها ككيان قوي لليهود، وقادر على مواجهة جميع أعدائه، سواء جاؤوه من الخارج، أو من داخله، ويصرون أيضاً، على ضرورة القضاء عليهم جميعاً لأن «من جاء كي يقتلك قم باكراً واقتله» كما ورد في موروثهم الفقهي والتاريخي الحافل.
أما إذا نجح بنيامين نتنياهو في تجنيد معسكر داعم له، وبنيل ثقة رئيس الدولة كمرشح لتشكيل الحكومة، فسيخضع، كما أقدر، إلى عمليات ابتزاز سياسية شرسة، من قبل جميع رؤساء الأحزاب اليمينية والمتدينة الحليفة، التي سيعرف قادتها، هذه المرة، كيف سيُحكمون أصفادهم حول رقبته، ويجبرونه على قبول شروطهم وفق ضمانات لن تدعه يفلت، كما فعل مع غانتس في المرة السابقة، أو مع غيره في تاريخه المليء بالنكث بالوعود، وبعدم الوفاء بتعهداته. ومن الطبيعي، في هذه الحالة، أن نكون نحن، المواطنين العرب وأخواننا الفلسطينيين في الأراضي المحتلة، أول ضحايا هذا الإئتلاف وأكثر المتضررين منه.
ثالثًا: نجحت عدة شخصيات وفرق يهودية سياسية متطرفة في دخول الكنيست الإسرائيلي، رغم أنها كانت، خلال عقود طويلة، فاقدة للشرعية القانونية، وغير مقبولة من الناحية القيمية، كلاعب في العملية السياسية الرسمية، ولا تحظى، بسبب رعونة مواقفها الفاشية المعلنة، بدعم شعبي ملموس. واللافت، في هذه التجربة الخطيرة، أن نجاح تلك المجموعات، تم بدعم مباشر من جهات وشخصيات أكاديمية ودينية عديدة، وفي طليعتهم برز نتنياهو وحزب الليكود، حتى تحولت هذه القوى، بعد اليوم، من مجرد «أشواك ضارة ومهملة» إلى قوة علنية شرعية ومؤثرة وشريكة طبيعية في قيادة جميع مؤسسات الدولة، كما سنرى في المستقبل القريب.

الإصلاحات السياسية لن تحدث من داخل أطر حزبية متهالكة، ومسيطر عليها من قبل قيادات ترفض الإقرار بهزيمتها وبفشلها

رابعاً: قد لا ينجح أي مرشح منتخب في تشكيل حكومة تحظى بأغلبية، أو بأغلبية مستقرة من باقي الأحزاب المنتخبة، وعندها ستضطر إسرائيل إلى خوض معركة خامسة، ستكون نتائجها علينا كمواطنين عرب أوخم وأخطر؛ فحالة التوازن/الجمود الحزبي التي تعيشها إسرائيل، بعد أربع جولات انتخابية، أدت عمليا إلى خلق أزمة سياسية واجتماعية واقتصادية غير مسبوقة في تاريخ الدولة، ودفعت بالكثيرين إلى حالة من التعب، أو اليأس وفقدان الثقة والرغبة بالمشاركة بالعبث الحاصل؛ أو على النقيض، إلى اللجوء «للحلول الحاسمة»: فالمصوتون اليهود بدأوا يقامرون على نجاعة الأحزاب الخلاصية المتطرفة، التي قد يكون عندها «الحل النهائي» لجميع مآزقهم؛ بينما قرر نصف المصوتين العرب مقاطعة الانتخابات، فلا غرو أن بقي غدهم ريشة على «ظهر الغيب» ونصف نصفهم شاركوا وانتخبوا من وعَدهم بالبقاء في «جلابيب أبائهم» ورعايا محافظين في بلاط السلطان ومحظيين على موائده.
خامساً: شهدنا تطورا واضحا في مواقف الحركة الإسلامية الجنوبية، التي جاهرت بتبنيها سلوكاً سياسيا تفريطيا، كما سماه بعض المعقبين، يعتمد على معادلة تبادل المصالح النفعية مع الدولة، ومن دون إخضاع هذه العلاقة لأي محاذير، أو شروط سياسية مسبقة، في تحدٍّ لجميع مسلّمات ومفاهيم النضال والمواجهات السياسية العربية السابقة. لقد أطلق الدكتور منصور عباس شعار الحركة، الملتبس والمغالط،: «نحن لسنا في جيب أحد» حتى أمسى كلامه بمثابة جواز «السفر الدبلوماسي» الأخضر الذي أخرجها من بوابة القائمة المشتركة، والقادر على إدخال الحركة الإسلامية في حكومة يرأسها نتنياهو، أو في أي حكومة صهيونية يمينية. قد ترفض الأحزاب اليمينية المتطرفة الدخول في أي صيغة تحالف مع الحركة الإسلامية، ولكن المهم والجديد في هذا المشهد سيبقى متعلقًا بمواقف هذه الحركة، وما قد تحدثه من خلل في موازين العلاقات بين المواطنين العرب، ومؤسسات الدولة، وتصديعها لمعادلة المواطنة والهوية، خاصة إذا عرفنا أننا نختلف معها حول تعريف هويتنا ومركباتها والحقوق التي نقاتل من أجلها.
سادسا: حصدت الأحزاب والحركات السياسية العربية في هذه الانتخابات ما زرعته، أو لم تزرعه، خلال السنوات الماضية؛ ودفعت ثمن صمتها، حين كان يتوجب عليها الصراخ والمواجهة، وتواطئها أحيانا على حساب مصالح ناخبيها، وتملقها، باسم وحدة زائفة «حلفاء» كانوا يستغلون تلك «الوحدة» من أجل مشاريعهم وأهداف حركاتهم الخاصة.
سابعاً: قد تُسجَّل هذه الجولة الانتخابية كعلامة فارقة في حياة أكبر تيارين سياسيين تاريخيين عرفتهما الساحة السياسية المحلية عندنا: الشيوعي من خلال الحزب، وبعده الجبهة الديمقراطية للسلام والمساوة، والتيار القومي، كما عبّرت عنه في البدايات مجموعة حركات صغيرة، أفضت في ما بعد إلى ولادة حزب التجمع الوطني. وقد تتحوّل نتائج هذه المعركة بعد سبعين عاماً من تسيّد هذين التيارين إلى شهادات على وصولهما إلى حالة من الهرم العاجز، والتكلس الفكري والتنظيمي، وأفول قمريهما بشكل نهائي؛ بعد أن كان لدوريهما جليل الأثر على معجزة بقائنا، بعد النكبة، في الوطن، ومن ثم التأثير في هندسة معالم هويتنا الفلسطينية الوطنية كمواطنين في إسرائيل.
لسنا في معرض تحليل مسببات ما جرى للحزبين المذكورين في هذا المقال؛ لكننا نستطيع ببساطة أن نتابع مسيرة التقهقر الجبهوية، ونرى كيف لم يعُد الحزب الشيوعي عنوانًا للفقراء وللكادحين، ولا ملجأ للأمميين، ولا منصة لأصحاب الحناجر «الزيّادية» الجريئين؛ ونشهد، كذلك، كيف اختفت جبهة كانت ذات يوم ديمقراطية وبيتاً للناس المنتمين لمصالح شعبهم وملاذا للحلفاء من لجان ونقابات وجمعيات وتجمعات للحرفيين والأكاديميين والشباب والنساء، فتحولت إلى «ضفيرة صغيرة» منسية أو «دكانة» مستضعفة على رصيف أصحاب حزب، صنع أباؤه أمجاد شعب أمين. أما مسيرة حزب التجمع نحو النهاية، فكانت أسرع وأوضح، وهي بدأت عمليا مع إشكالية تموضعه كحزب قومي داخل الدولة الصهيونية، وتعقيدات طروحاته، النظرية وممارساته التطبيقية، في مسألتي المواطنة والهوية؛ ومرورا بأزمة قياداته، خاصة بعد انتقال زعيمه المؤسس للعيش في دولة قطر، وتحكمه في منشآت ومؤسسات وقيادات الحزب، التي مازال بعضها مرتبطا به، أو حتى يقيم مثله فيها.
ثامناً: على الرغم من تأبين الكثيرين لحزبي العمل وميرتس قبل الانتخابات، فقد نجحت قيادات الحزبين الجديدة باجتياز عتبة الحسم. هنالك اختلاف بين مفاهيم الحزبين التقليدية، لاسيما في ما يتعلق بمسألة إنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، ومسألة حقوقنا القومية والمدنية كمواطنين في الدولة، ولسوف نتطرق لاهمية وجودها في المستقبل.
تاسعا: لن تجعل قيادات الأحزاب اليمينية والدينية الصهيونية، حياة الحركة الإسلامية سهلة، رغم ما أشاعه رئيسها عباس من رسائل مطمئنة ومواقف غزل مع نتنياهو وغيره؛ ولئن شعر قادة الحركة لوهلة أن سموطريتش وأمثاله أقرب إليهم من هوروفيتس، رئيس حزب ميرتس، والنائبة عايدة توما ورفاقها، سيكتشفون، في أول مواجهة عقائدية قريبة، أن كونك «محافظًا» إسلاميا لا يكفي كي تصبح حليفَ محافظٍ صهيوني عنصري ومتدين، رآك ويراك كعربي وكفلسطيني وكمسلم شيطانا وعدوا ومخربا ؛ فقد يعادل نصرهم، في حسابات التاريخ، هزيمة.
عاشرا: أثبتت تجارب من مروا بمثل حالاتنا، أن الإصلاحات السياسية لن تحدث من داخل أطر حزبية متهالكة، ومسيطر عليها من قبل قيادات ترفض الإقرار بهزيمتها وبفشلها، وعليه، وفي سبيل مواجهة الخطر المتجسد أمامنا، يتوجب علينا إيجاد المخارج والحلول فهل ستعادل الهزيمة نصرًا؟
كاتب فلسطيني

 

 

كيف ومتى أصبح

نتنياهو ناصر العرب؟

جواد بولس

 

قد لا نستطيع اليوم التكهن بنتائج الانتخابات الإسرائيلية المقبلة، ولا مَن ستكون الشخصية التي ستوكل إليها، مهمّة تأليف الحكومة المقبلة؛ لكننا نستطيع، مع قليل من الحذر، أن نتصوّر شكل الخريطة السياسية الجديدة، التي ستأخذ معالمها بالبروز في صباح الرابع والعشرين من آذار/مارس الجاري، وأن نتصور كيف ستؤثر هذه القوى المنتخبة في مستقبل الأحداث داخل إسرائيل، وفي علاقاتها مع دول الجوار وتجاه القضية الفلسطينية تحديدا.
سوف ينتخب المواطنون اليهود مجموعة من الأحزاب الصهيونية القومية، التي ترانا، نحن المواطنين العرب، زوائد ضارة على جسم الدولة، ومن الأحزاب القومية الدينية المتزمتة، التي تؤمن بفكرة إسرائيل الكبرى، وبضرورة اعتماد الدولة على روح قوانين الشريعة اليهودية في جميع ميادين الحكم والحياة. ولن يستطيع، على الأغلب، أي زعيم حزب أن يشكل حكومة ثابتة ومستقرة، بدون أن يضمن دعم تلك الأحزاب، أو دعم جزء كبير منها، مقابل إرضائهم، ليس عن طريق إتمام تبعات مشروع قانون القومية، وتطبيق إسقاطاته العملية على حياة ومكانة المواطنين العرب في إسرائيل فحسب، بل بإرضائهم أيضا بحسم موقف الحكومة المقبلة من مسألة حل الدولتين، والقضاء الفعلي على إمكانية إقامة دولة فلسطينية على أي جزء من أرض إسرائيل الكبرى.
ومع أن التكهن، كما قلنا، صعب، لكننا لا نستطيع أن نحذف اسم بنيامين نتنياهو من قائمة المرشحين لمنصب رئيس الحكومة القادم، إن لم نقل إنه أقواهم. أما أصوات المواطنين العرب فستتوزع بين القائمة المشتركة، التي أتمنى أن تنال منها حصة الأسد بدون منازع، والحركة الإسلامية بقيادة الدكتور منصور عباس، وهوامش ستدعم بعض الأحزاب الصهيونية على اختلافها. ستكون هذه المعركة حاسمة ومميزة في تاريخ المشهد السياسي الإسرائيلي، لا لأنها ستضع نهاية لكثير من البنى السياسية الإسرائيلية والحزبية التقليدية فحسب، بل لأنها ستشكل محطة بارزة ورئيسية في طريق شرعنة مفاهيم وأطر سياسية وأيديولوجية دينية وصهيونية، كانت طيلة السنين الماضية خارج اللعبة السياسية ومفاعيلها الرسمية والسائدة، وغير مهضومة داخل أروقة المؤسستين، القانونية والأمنية. أنا أؤمن بأن سعْينا للتأثير في نتائج الانتخابات، وما سيتداعى بعدها سيخدم مصلحتنا المواطنية، وأننا نستطيع ضمان ذلك من خلال إقناع المواطنين بضرورة مشاركتهم بعملية التصويت وزيادة نسبة المصوتين من بيننا.

دأب قادة إسرائيل على عرقلة ممارسة المواطنين العرب لأحد أهم حقوق مواطنتهم، وعملوا على الحصول على أصواتهم، بالترغيب حينا وبالتهديد أحيانا

لم يغفل قادة الأحزاب الصهيونية أهمية ووزن المواطنين العرب كقوة انتخابية كامنة وقادرة؛ فسعت، منذ انتخابات الكنيست الأولى، وراء تلك الأصوات، وحاولت اصطيادها بشتى الأساليب والأحابيل والحجج: فتارة عن طريق إقامة قوائم عربية متحالفة بالخفية مع «السلطان» وموكلة بمهمة حماية «مجتمعاتنا المحافظة» في تلك السنوات؛ ودائما عن طريق إطلاق أبواق مجندة لنشر الدسائس أو التشكيكات، وأهمها كان التساؤل الذي لم يغب اليوم، ولا في جميع الجولات الانتخابية السابقة: ماذا فعل لكم نوابكم الشيوعيون، وبعدهم العرب؟ لقد نجحت تجربة القائمة المشتركة بإغاظة قادة اسرائيل، وأثبتت لهم، في الوقت نفسه، صحة ما أطلقه، في حينه، رئيسها، النائب أيمن عودة، كشعار للمرحلة: «لوحدنا قد لا نستطيع، لكن بدوننا لن يكون التغيير». لقد استوعب معظم قادة الأحزاب الصهيونية قوة وصحة هذا الشعار، فتراجع بعضهم، وكان أبرزهم رئيس حزب «يش عتيد» يئير لبيد، عن مواقفهم المخزية السابقة، ورحبوا بالمشتركة حليفا شرعيا بعد انتهاء معركة الانتخابات؛ بينما شرعت جميع الأحزاب اليمينية تقريبا بالهرولة وراء أصوات المواطنين العرب، وكأننا لم نكن يوما في قواميسهم «طابورا خامسا» أو «صراصير في زجاجات» أو «سرطانات في جسم الدولة». اختارت القائمة المشتركة شعار «كرامة وحقوق» عنوانا لمواجهة أي حكومة ستشكَّل بعد الانتخابات المقبلة؛ وليس أسهل من أن يثبت أي كاتب في السياسة صحة هذا الشعار وحاجته، لاسيما إذا ما راجعنا تاريخ نضالات المواطنين العرب ضد سياسات القمع العنصرية، التي مارستها حكومات إسرائيل منذ قيامها؛ فبدون التمسك بالكرامة، وتأكيدنا كأقلية على الانتماء الهوياتي الوطني، كان كل ما أعطي، للأفراد أو لقرانا ومدننا، فتاتا أو مجرد منن؛ وهذا ما أثبتته وأوضحته تجربة القائمة المشتركة خلال مسيرتها القصيرة.
لن تتوقف تداعيات المعركة الانتخابية عند ما سيجري داخل إسرائيل فقط، فمصير الأراضي الفلسطينية المحتلة وحل المسألة الفلسطينية، سيتأثران بشكل كبير ومباشر بهوية الحكومة الاسرائيلية المقبلة، خاصة أنها ستعتمد على أكثرية لا تؤمن بحل الدولتين، وتحارب من أجل بسط السيادة الإسرائيلية والقانون على الضفة الغربية. لقد واجه الفلسطينيون، منذ اليوم الأول للاحتلال، مثل تلك النداءات «الحالمة» والعنصرية، لكنها كانت دوما أصواتا هامشية، ولم يحسب لها حساب، لأن احتفاظ قادة إسرائيل بأرض فلسطين المحتلة عام 1967 كان، حسب الفرضيات المقبولة عبر تلك العقود، لأهداف سياسية، ومن أجل تأمين صرف شعار «الارض مقابل السلام» عندما تحين ساعة المقايضة السياسية؛ ولكن.. مرّت السنون ولم يرحل الاحتلال، ولم يُقضَ عليه ولم يتبخر؛ وبقي جاثما كالقدر على صدور الفلسطينيين، وتحوّل ببطء مرض خبيث، إلى واقع لم يعد يشكل، كما كان في بداياته، حالة خلافية بارزة داخل المجتمع اليهودي ومؤسساته، أو ممارسة مرفوضة من قبل بعض الجهات والقوى السياسية الإسرائيلية، بل على العكس تماما؛ صار معظم المواطنين اليهود يتقبلونه، على الرغم مما ينشر عن ممارسات زعرانه واعتداءاتهم على المواطنين الفلسطينيين وعلى ممتلكاتهم؛ وصارت مؤسسات الدولة، وبضمنها جهازها القضائي، تتعامل معه بشرعية وبإيجابية وتحيطه بالدفء وبالدعم وبالتشجيع.
لن أتطرق في هذه المقالة إلى سائر المتغيّرات التي طرأت على الجبهات الأخرى وأثّرت في مصير الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، وتأثرت به؛ فسوء الحالة الفلسطينية الداخلية يعتبر من أهم هذه العوامل وأخطرها في حال أي مواجهة آتية، تليها مواقف معظم الأنظمة العربية والإسلامية السائلة، التي صار الرهان عليها كالرهان على «حصان ميت»؛ أما الاعتماد على «نزاهة الأمم» الأخرى وضميرها الإنساني، فسيبقى، كما كان دوما، احتمالا مرهونا بمصالح تلك الدول، ومرآة لأين ستموضع كل واحدة منها حجرَ فلسطيننا على رقعة الشطرنج الكبرى. واذا كان الحال كذلك، يجب ألا ننسى خطورة ما تؤمن به أحزاب اليمين الصهيوني المتدين المتزمت، التي تنادي بإقامة دولة فلسطين على أراضي المملكة الأردنية الهاشمية؛ فماذا سنفعل نحن وماذا سيفعل إخواننا الفلسطينيون، إذا قرر أصحاب هذا الموقف، الذين قد يصبحون بعد الانتخابات المقبلة الأكثرية الحاكمة في الدولة، تحويله من مجرد «فكرة» هنا إلى «دولة» هناك، أو قل إلى نكبة هنا وهناك؟ ألا يظن الناخب أننا سنحتاج، ساعتها، إلى أكثر من رهان على «الناصر أبو يائير» ونحتاج إلى جانب دعاءات «مجتمعنا المحافظ» إلى مزيد من الإصرار ومن الحكمة ومن الكرامة التي باسمها انزرع أباؤنا في الوطن.
وأخيرا، لقد دأب قادة اسرائيل على عرقلة ممارسة المواطنين العرب لأحد أهم حقوق مواطنتهم، وعملوا، في الوقت نفسه، على تفتيت قواهم أو الحصول على أصواتهم، بالترغيب حينا، وبالتهديد أحيانا، ودائما وجدوا من يسهل لهم هذه المهام. فهل ندعهم ينجحون هذه المرة؟ سأصوت للقائمة المشتركة وأدعو الجميع إلى التصويت مثلي؛ فنحن نعرف، أو يجب أن نعرف، أن هذه المعركة لن تشبه سابقاتها، إذ يكفي أن نستمع إلى صوت الرصاص في شوارعنا ونرى إلى جانب من يقف مُشيعوه؛ وأن نصغي بعده إلى موسيقى «ابن جبير» وهو يعِد بأنه آتٍ ليبني نظامه الجديد؛ وثم نتابع مشاهد زيارات نتنياهو «الفاتح» في المستعمرات، وبعدها زياراته المتتالية، مستعربا، لقرانا في المثلث والنقب والجليل؛ ثم نستمع في المساء تصريحا لزميل الدكتور عباس وهو يعلن بأن قائمتهم الاسلامية ستكون حليفة لكل رئيس حكومة سينتخب، سواء كان نتنياهو أو غيره، لأنهم، هكذا حسب فقه ذاك الناطق، سينتخبون من أجل حلب الدولة، وليس من أجل التجارة بالشعارات، فكيف ومتى صار بنيامين نتنياهو ناصر العرب؟
كاتب فلسطيني

 

 

لتحية لشباب

أم الفحم والعزاء لجلجولية

جواد بولس

 

نظمت في الخامس من آذار/مارس الجاري، مجموعة من أهالي مدينة أم الفحم، أطلقت على نفسها اسم «الحراك الفحماوي الموحد» مظاهرة حاشدة ضد تفشي مظاهر الجريمة في المدينة، وفي سائر المدن والقرى العربية، وضد تواطؤ الشرطة الإسرائيلية وتقاعسها في التصدي لهذه الآفة المستفحلة، وتناميها في مواقعنا من يوم إلى يوم.
استقطب الحدث اهتماماً جماهيرياً كبيراً، فاستعدّت شرطة إسرائيل لمواجهته بأسالييها المعهودة، وببذل كثير من الطاقات من أجل محاصرته والتشويش عليه، بما في ذلك عن طريق إغلاق العديد من الطرقات، وعرقلة وصول المواطنين إلى موقع التظاهرة.
من السابق لأوانه أن نحكم على «عظمة» هذا النشاط، كما حاول ويحاول بعض المتابعين والمعقبين أن يصفوه، وقد فعلوا ذلك وهم مدفوعون برغبات سياسية مبررة، وبتفاؤل مرتجى قد يعوّضهم عن مشاعر الإحباط السائدة لديهم من جراء حالة القصور، التي تعاني منها القيادات السياسية والاجتماعية، لاسيما في فشلها بمواجهة ظواهر العنف والتسيّب، الذي نعاني منه منذ سنوات متعاقبة؛ ومع ذلك ستبقى هذه التجربة جديرة بالتقدير وبالاهتمام وبالمتابعة، وسيسجل لصالح المبادرين إليها نجاحهم في تخطي الكثير من المعيقات المحلية، والمؤثرات السياسية القطرية وانطلاقهم كجسم متماسك ومتوازن وقادر على تحشيد قطاعات واسعة من الفحماويين، وإلى جانبهم طاقات جماهيرية شعبية من سائر المدن والقرى العربية.
شاهدنا في الآونة الأخيرة، ولادة بعض الحراكات الشبابية التي أطلق نشطاؤها في بعض المدن أعمالا احتجاجية محلية كانت لافتة أحياناً، وملتبسة خلافية في أحيان أخرى؛ رغم ما حظيت به هذه الظاهرة من اهتمامات ونقاشات وتأييد وانتقادات، فقد اتسمت بعض نشاطاتها بالمزاجية المندفعة، والفوضوية الحماسية، حيث لم ينجح محرّكوها ببلورة مفاهيم نضالية واضحة وجامعة، ولا أن يحوّلوها إلى حالة كاملة النضوج والشروط، مؤهلة للعب دور سياسي اجتماعي قيادي، إلى جانب سائر المؤسسات القيادية الموجودة على الساحة، أو حتى كبديلة لها أو لبعضها.
جاءت مظاهرة أم الفحم الأخيرة بعد سقوط عشرات الضحايا في عمليات القتل منذ مطلع العام الجاري، ودفعت المدينة منها حصة كييرة، مؤلمةً وموجعةً. وكان التجاوب الشعبي مع نداء «الحراك الفحماوي» تعبيراً عن الألم والسخط المتراكمين بين المواطنين، من ناحية، ورسالة للحكومة الإسرائيلية، من جهة، ولقيادات الأحزاب والحركات السياسية والدينية العربية من الجهة الأخرى. ولا يمكننا الحديث عمّا جرى في مظاهرة الخامس من مارس، المذكورة على أراضي أم الفحم من دون التطرق لما جرى مع النائب منصور عباس، وكيف تم التعامل مع الحدث بشكل عام، من قبله وقبل حركته الإسلامية بشكل خاص؛ أو كيف عالجته وسائل الإعلام العبرية والعربية. فمع وصول عباس إلى المكان، استقبلته مجموعة من المتظاهرين بهتافات غاضبة، وبصراخ احتجاجي على ما كان قد نشر على لسانه بخصوص مواقفه الحريرية، إزاء دور شرطة إسرائيل في مكافحة الجريمة وانتشارها بين المواطنين العرب، مع شيوع نبأ محاولة الاعتداء على النائب عباس، نشرت كل القيادات العربية بيانات شجب واضحة، واستنكارات حازمة لما جرى، من خلال تأكيد رفضهم القاطع للحادثة، خاصة أن الألوف جاءت إلى أم الفحم لتعبر عن رفضها لمظاهر العنف المستشري بيننا، وضد تقاعس الشرطة وتواطئها مع المجرمين.

الحراك «الفحماوي» تعبير عن ألم وسخط المواطنين ورسالة للحكومة الإسرائيلية، ولقيادات الأحزاب والحركات السياسية والدينية العربية

لن يختلف اثنان على أن أهداف المظاهرة، كما أعلنها «الحراك الفحماوي» ونجاحه في تجنيد آلاف المواطنين، كانت يجب أن تبقى هي الأحداث والعناوين الأبرز والأهم في ذلك النهار، ومن غير منافس أو منازع، خاصة بعد أن تم شجب الحادثة من جميع الجهات والأحزاب والحركات، بشكل قاطع وصريح؛ ولكن الطريقة التي تصرف بها النائب عباس مباشرة، وهو في أرض «المعركة» وتبنتها من بعده قيادة حركته، دللت على عكس ذلك، وبرهنت على تعمدهم استغلال ما حصل معه وتضخيمه بشكل ممنهج، خدمة لدعايتهم الانتخابية، التي انبرت بعض المواقع العربية الإعلامية المتعاونة معهم إلى ترويجها، ومعظم وسائل الإعلام العبرية إلى استعراضها كالحدث الأهم، وكأن المظاهرة حدثت في ظلاله. ومن اللافت أن نقرأ اتهام عباس في تصريحه الأول، ومن الموقع مباشرة، بعد انتهاء الحادثة، وقبل التحقق من التفاصيل، على أن من تهجم عليه «هم قلة تنتمي للأحزاب السياسية المنافسة من خارج أم الفحم، ولا علاقة للحراك الفحماوي الشريف، ولا لأهل أم الفحم الشرفاء بالموضوع..» رغم أنه كان يجب أن يعرف من قام باعتراضه قبل أن يتهم ببيانه منافسيه من الأحزاب السياسية الأخرى؛ لكنه تصرف للأسف، كسياسي يسعى وراء مكاسب انتخابية، ولا تهمه الحقيقة والواقع وتداعيات المظاهرة المرجوة.
أتمنى أن تستمر النشاطات المناهضة للعنف ولسياسات الشرطة الإسرائيلية في أم الفحم، وفي جميع بلداتنا المنكوبة، رغم قناعتي أنها لن تكفي ما دامت أحوالنا ستراوح في بؤسها المزمن، وتواجه بضعفها من يحاولون تخثيرها، أو ترويضها، أو تجنيدها مزارعَ لمصالح أحزابهم وحركاتهم ووجاهاتهم الخرافية. لم نكن بحاجة إلى أكثر من ليل وحلم كي نصحو مجدداً على حافة الهاوية؛ فقد نامت أم الفحم، بعد المظاهرة، على وسائد من عزم وإصرار جميلين؛ لكنها أفاقت، مثلنا جميعاً، على صرخة اختها جلجولية، وهي تستعد لحفر قبر يليق بجسد يافع اسمه محمد عدس، أعدم بالرصاص وهو في عمر الورد فسقط على عتبة داره حين كان مع صديقه يأكلان، وثالثهما القدر. نحن بحاجة إلى ثورة تأخذنا إلى ما وراء الغيم والسراب، فبدونها لا يوجد حل لقضية العنف ولحالات القتل في واقعنا الحالي؛ لأنني، كما كنت كتبت مؤخرا؛ لا أرى من وكيف سيفعل ذلك، ولذا سننام ونصحو في حضن حالة «اجتماعية» مستديمة، كالتعلم والزواج أو كالترمل والمرض، وسيبقى القتل رفيق شوارعنا والعنف شرطي مدارسنا ومجالسنا وفراشنا، إلى أن نتغير نحن وتتغير أحوالنا.
قد ينتقد البعض تشاؤمي، لكنني مقتنع بأننا إن لم نقر بعجز مجتمعنا، وقصور مفاعيله السياسية والاجتماعية والدينية والتربوية، وفشلهم في مواجهة هذه الآفة، ستستمر أرواحنا بالتنفس في بقع الضوء الشاحبة، وسيُحكم من يسمون، مجازاً وخطأ، بخفافيش الظلام قبضاتهم على حناجرنا، ويمضون في تسيّدهم على حاراتنا الخائفة.
لا نقاش حول واجب الدولة ومؤسساتها في محاربة الجريمة المستفحلة بيننا، ولا حول دورها في معاقبة الجناة وضرورة ردعهم، ومسؤوليتها عن معالجة مسببات هذه الظاهرة الخطيرة، ولا جدال في أنها لم تفعل ذلك عن قصد، وتنفيذا لسياسات عنصرية تستهدف حصانة مجتمعنا، وأمن مواطنيه واستقرارهم السلمي؛ بيد أن ذلك، رغم صحته، لا يبرر فشلنا الداخلي في مواجهة ظواهر العنف، كما تتداعى في عدة أشكال، وفي مواقع تخضع لسيطرتنا بشكل مطلق؛ ولا يبرر أيضاً فشلنا في إيقاف نزيف الدم، وتحجيم عدد عمليات القتل التي تحصل مثلًا على خلفية ما يسمى بشرف العائلة، أو بسبب عادات الثأر القبلي البغيضة وما شابهها. ستبقى الحكومة الاسرائيلية المسؤولة الأولى والأخيرة، عن كل المجرمين والجرائم عندنا، خاصة عما تقترفه عصابات الجريمة المنظمة؛ ولكن سيبقى، في الوقت نفسه، التساؤل حول دور مؤسساتنا المحلية، مثل المجالس والبلديات، ضرورياً ومبرراً؛ والتساؤل حول مساهمة ودور المؤسسة التربوية موجعاً؛ والتساؤل حول تأثير المؤسسة الدينية مقلقاً ومستوجبا. فاذا فتشنا عن دور هذه المؤسسات سنجده، في أحسن الأحوال، هامشياً، وفي بعضها سنجد أنها تساعد، إما بصمتها وإما بفعلها، في ترسيخ ظواهر العنف وفي استفحالها.. فإلى متى؟
لأم الفحم تحية وسلام.. ولجلجولية ولكل بلدة مفجوعة العزاء.
كاتب فلسطيني

 

 

مرة أخرى انتخابات…

فهل سيجزينا آذار

جواد بولس

يأتينا آذار/مارس وهو مثقل بالنعاس وبالعتاب؛ ونحن، عشّاقَه الأثيرين، ما زلنا نجهش، كلٌّ على أريكته، بالهتاف، ونُطعم لياليه أحلامنا والسرابا. بين آذارين غفونا فتاهت شواطئنا وكل شيء حولنا تغيّر؛ حتى ما حسبناه في قصائدنا ربيعنا، لن يكون في ما يبدو أكثر من ظل كسير «لربيع» أشقائنا العرب؛ فلونه، مثل لون الوجع، أحمر، ومذاقه مثل الرماد الأخضر يخدع ويلسع. وجهتنا في الثالث والعشرين المقبل نحو المجهول، فمن سيضمن للعشاق ضحكات زهر اللوز، بعد انقضاء هذا الشتاء الأسود؟ ومتى سنعرف كيف نبني لنا وطنًا من لغة لا تدمن «أحابيل البلاغة» ولا تنام على رموش السحاب؟
يحاول البعض إقناعنا بأن أحوالنا في إسرائيل، رغم تهافت الأسئلة والعقد، ما زالت عادية ولا تقلق؛ فكل الخرائب التي نتأت في مواقعنا، وكل الرماح التي تساقطت على جيادنا، وكل الصدور التي عرّتها أربع جولات انتخابية، لم تكن، وفق حساباتهم، إلا تواقيع لحروب اليهود مع اليهود؛ وجميع ما نواجهه من تداعيات وأزمات، ليس إلا علامات ربّانية على دنو نهاية «الكيان الصهيوني»، وتباشير لساعة الفرج والخلاص، وما دامت تلك هي البشرى فإن هؤلاء يدعوننا لمقاطعة الانتخابات، لأنها في البداية وفي النهاية، لعبة الصهيونية الخبيثة، والكنيست وَكرها المقيت.
أنا لست من هؤلاء المطمئنين الواهمين؛ فإسرائيل التي عرفناها وواجهنا سياساتها القمعية لعقود عديدة، تمضي بخطوات من نار نحو العدم، وتشلح جلودها القديمة، وتطرد «قضاتها» وتستبدلهم بملوك لن يرضوا «بالأغراب» إلا عبيداً صاغرين في أراضيها، أو إذا عصوها، فقرابين على مذابح الولاء، أو على أنوف الخناجر. وقد يكون بطء التحولات السياسية والاجتماعية على الساحة الإسرائيلية، وانصهارها في ما يحصل على الساحة العالمية وفي منطقتنا، هو أحد الأسباب التي تدفع ببعض المواطنين العرب، إلى عدم ملاحظة الفوارق بين ما ميّز نظام الحكم الذي كان قائماً منذ الاعلان عن الدولة، وما تشكّل في السنوات الأخيرة الماضية ويتشكّل في هذه الأيام؛ وقد تكون سيولة اللغة اليمينية الصهيونية العنصرية وفوضاها الواخزة المنبعثة من أفواه جميع قيادات الأحزاب الصهيونية المتنافسة في جولات الانتخابات الحالية، هي أيضاً، سببا لخلق ذلك الوهم لدى الكثيرين واقتناعهم بأن جميع هؤلاء اليهود متشابهون، ولا فرق بالنسبة لنا، العربَ، إن حَكَمنا ابن جبير، أو بينت، أو ساعر، أو نتنياهو، أو لبيد، ولا ما أهداف كل واحد منهم النهائية، المعلنة أو المضمرة، على حد سواء. ولكن تبقى تلك محض مغالطات يقعون فيها، وأوهاما كبيرة قد جعلت الكثيرين يتخذون مواقف ملتبسة وعاقرة، لم تسعفنا في تحسين أوضاعنا الحياتية؛ بل، على العكس، عززت تدافع تلك السيرورة الفاشية المتنامية في الدولة، وساعدت على تفريخ وتسمين العديد من القوى الدينية اليمينية الجديدة، المنفلتة وتعاظم تأثيرها داخل المجتمع اليهودي، حتى غدت فرصة تمكّنها من استلام مقاليد الحكم جائزة ، قاب آذار أو أقل.
من الخطأ الاستخفاف أو إغفال خطورة تحوّل المجتمع اليهودي إلى كيان فاقد لمعظم القيم الإنسانية الأساسية، وإلى معظم المبادئ التي آمن بها بُناته الأوائل، وحاولوا تطويرها كدعائم تحفظ أواصر دولتهم، التي أرادوا أن تكون ديمقراطية بالنسبة للأكثرية اليهودية، وتحكم، في الوقت نفسه، بعنصرية فاجرة مواطنيها العرب.

من غير المعقول أن نفقد أملنا بالتأثير في مجريات الحالة السياسية في واحدة من أهم ساحات المواجهة والمقارعة والنضال: في الكنيست

لن أعدّد اليوم الفوارق بين إسرائيل الناكبة الباكية وابنة الكارثة، وإسرائيل الظافرة القادرة وصانعة المواجع، وريثة حجارة السماء وعسل الملائكة وغضبهم؛ ومن لم يفقه ما يقوله لنا حدس التاريخ، ينَم مثلما نامت أريحا، مدينة القمر، حين لم تسمع نعيق الأبواق ودردبات طبول الدم، وهي تعربد على نواصي الهضاب، ولم تصحُ على تصفيق أجنحة السنونوات الهاربة مذعورة في فجر كله سيوف وبكاء وصلاة.
لا أعرف ماذا يجب أن يحصل لنا، نحن المواطنين العرب في إسرائيل، كي يتراجع البعض، ولو من باب فائدة التجريب المسؤول، أو بدافع «غريزة البقاء»، عن موقفه الداعي إلى مقاطعة الانتخابات؛ وأتمنى أن يراجع هؤلاء مواقفهم قبيل السقوط الأخير في الهاوية؛ فمن غير المعقول أن نفقد أملنا بالتأثير في مجريات الحالة السياسية في واحدة من أهم ساحات المواجهة والمقارعة والنضال: في الكنيست. لا يوجد مسح علمي ودقيق لدوافع الجهات الداعية إلى مقاطة الانتخابات، لكننا نستطيع، من باب التكهن الحذر والتمعن في التجارب الماضية، أن نفترض أن الفئة الأولى والأكبر تلتزم بموقف «الحركة الاسلامية الشمالية»، والثانية تنتمي لمجموعات صغيرة لا تؤمن بشرعية وبنجاعة نضال المواطنين العرب البرلماني؛ وقد برز من بينهم تاريخياً أتباع «حركة أبناء البلد» على تفرعاتها القومية المختلفة؛ وإلى جانب هؤلاء المقاطعين لأسباب عقائدية دينية أو مبدئية سياسية، سنجد مجموعات أصابها السأم فاستسلمت للكسل وللامبالاة، نتيجة تكرار عمليات الانتخابات، التي لم تفض لأي مخرج سياسي؛ ومعهم مجموعات من «الزعلانين» والمحتجين ومدمني الرفض العبثيين والمزايدين. يمكن ويجب التأثير في بعض تلك المجموعات وثنيها عن قرارها بمقاطعة الانتخابات؛ وهذه، بطبيعة الحال، هي أهم مهمات قيادات القائمة المشتركة وكوادر الأحزاب الشريكة، وقد يكون انشقاق الدكتور منصور عباس وحركته الإسلامية عن القائمة المشتركة، عاملًا محفزًا لكثيرين ممن ابتعدوا عن الصناديق، ووقعوا فرائس لليأس وللغضب.
حق المواطن في مقاطعة الانتخابات قائم، لكنني أرى أن واجبه المواطني الأساسي يقضي المشاركة فيها؛ فعدم مشاركته يضر بمصلحة المجتمع؛ أقول ذلك وأعرف أننا كمواطنين عرب ما انفكت مؤسسات الدولة تستعدينا منذ يومها الأول، وتحاول إقصاءنا مرّة، وابتلاعنا حيناً وتفتيتنا أحياناً، ولن ننتصر على هذه السياسات بالنضال في ساحة البرلمان لوحده؛ لكنني أجزم أن نجاحنا في الانتخابات الأخيرة بإيصال خمسة عشر نائباً لمقاعد الكنيست، قد زوّدنا، كمجتمع يخوض صراعاته في عدة جبهات، بقوة كبيرة نجحت بشكل نسبي وملموس بالوقوف أمام سياسات القمع والاضطهاد، ومنعت إمكانية أن تكون أوضاعنا في عدة ميادين حياتية أسوأ وأخطر. ولا يمكن أن نفهم ظاهرة اللهاث وراء الصوت العربي العادي والحر، بخلاف ظاهرة احتواء المخاتير والأعوان القديمة الجديدة، إلا من باب استشعار الأحزاب الصهيونية وإقرارها بمدى قوة مجتمعنا الكامنة واستيعابهم لاحتمالات تأثيرنا السياسي هنا وأمام العالم. أنا سأصوّت هذه المرة أيضاً، ولا أفعل ذلك بسبب إيماني «بكرم» الديمقراطية فحسب، ولا كي أسقط اليمين بضربة قاضية، ولكن، ببساطة، سأصوّت كي أغرس، كما قلت في الماضي، سنبلتي في صدر قدري، مؤمناً بأن قليلًا من الإصرار والعمل خير من نهر تنظير، وأجدى من قناطير رومانسية طاهرة وصاع كسل؛ سأزرع تلك السنبلة، وأنا أتذكر نصيحة الحكيم بألا أكتفي بلعن الظلام بل عساني أضئ شمعة.
لا نعرف ماذا تخبئ لنا الأيام هذه المرة، لكنني أتمنى ألا يقف الأب منا، في الرابع والعشرين من آذار، أمام طيف ابنه في مرآة البيت المرتجفة، ويردد وصية تلك الريح المشمئلة المنسية ويقول له: «لا تخَف. لا تخف من أزيز الرصاص، التصق بالتراب لتنجو! سننجو ونعلو على جبل في الشمال، ونرجع حين يعود الجنود إلى أهلهم في البعيد»، فلنعبر الجسر بسلام، ولندَع آذار وادعاً بدون أن تجفله حماقاتنا، ولنترك حساباتنا مع قادة غفلوا، إذا غفلوا، إلى ما بعد ركود المطر وقبل هبوب العاصفة ونزول أول الغبار.
كاتب فلسطيني

 

 

هل يحلم

 عماد بالزنابق البيضاء

 

جواد بولس

 

اعتليت سيارة زميلي أحمد ومضينا من حي بيت حنينا باتجاه محكمة العدل العليا. كان الفضاء فوقنا نقيّاً وسماء القدس زرقاء رمادية وبعيدة، وفي الجو برودة لاذعة لطالما خبرناها بعد سقوط الثلج الذي يزور المدينة أحياناً، ليذكّر ناسها أن للجنّة وجهين واحدا أزرق مثل لون الأماني والآخر أبيض مثل لون الخوف.
دسّ أحمد بيدي بضع أوراق كانت نيابة الدولة العامة قد أرسلتها في الصباح عبر بريدنا. لم يكن فيها غير ما توقعت عندما قدمت الالتماس، وطلبت تدخل المحكمة لإلغاء أمر الاعتقال الإداري بحق الأسير عماد البرغوثي؛ فهو ليس كما تدعي الأوراق على لسان المخابرات العامة الإسرائيلية خطيراً على الأمن وسلامة المواطنين، ولا حق لهم باعتقاله ادارياً وسلب حريته وإبعاده عن عائلته وجامعته التي يعمل فيها محاضراً في مادة الفيزياء.
حاول أحمد أن يستدرجني لأخرج عن صمتي الخانق، فهو يحس متى أكون غاضبا حتى الحنق؛ كنت أجيبه باقتضاب وتعمدت إغفال سؤاله الأخير الذي وجهه إليّ قبل وصولنا إلى ساحة المحكمة: كيف لم تيأس بعد هذه السنوات الطويلة، وأنت تعرف أنك اليوم ستخسر هذه القضية تماماً، كما خسرت المئات مثلها خلال مسيرة عملك أمامهم؟ كنت ألف رقبتي بالشال، وألقي على ذراعي العباءة السوداء حين نظرت نحوه، فقرأ ما فيهما، وتبعني.
وصلت بهو المحكمة الفسيح في تمام الساعة الواحدة، نصف ساعة قبل ميعاد الجلسة المحدد، تقدمت نحو القاعة ببطء وعلى يساري ارتفع حائط من حجارة الصوان الضخمة التي قطعت من جبال القدس، وقبالتها نوافذ كبيرة من زجاج تكشف بعضا من المدى. لا أعتقد أن مصممي هذه البناية اختاروا تلك الحجارة كرمز لرسوخ العدل ولعلوّه، بل، على الأغلب، لتكون تذكارات تنقر صمم التاريخ، كما قرأوه، وشهادات على جبروت شعب وإصرار بنيه على زرع روايتهم في قلب الزمن. على مدخل القاعة توجد يافطة مكتوبة باللغة العبرية، تحذّر بأن عدد الحضور في الداخل يجب الا يتخطى الأربعة عشر شخصا، وعلى الجميع أن يحافظوا على لبس الكمامات. جلست على أحد المقاعد الشاغرة، ومن حولي كل الوجوه مغطاة بكمامات، فبدا المشهد وكأنه مأخوذ من احتفال تنكري. قرأ الحاجب اسم موكلي معلنًا بداية الجلسة. لم يُجلب عماد لحضورها، رغم أنني طلبت ذلك مسبقاً، لكن المحكمة رفضت طلبي بسبب أنظمة كورونا، وموقف مصلحة السجون الإسرائيلية في هذه المسألة. شعرت بخبو حماس القضاة، الذي كان ظاهراً عليهم في الملف السابق؛ ولم أعرف ما إذا كان ذلك نتيجةً لتعبهم في نهاية يوم عمل طويل، أم لأنهم بدأوا يمقتون النظر في ملفات الأسرى الفلسطينيين الإداريين، لأنها، ربما، بحكم عبثيتها الرتيبة، حوّلتهم إلى ما يشبه الروبوتات، التي تمضغ سوابق من كانوا قبلهم، وتلوك التعابير والمواقف نفسها، وتنتج قرارتها كمعلبات في خط إنتاج سريع.
وقفت أمامهم وأنا في حالة تأهب يألفونها؛ فأحسست بنظراتهم تثقب صدري وأعناقهم تترقب ما عساني سأقول اليوم، وهل سأقصّ عليهم قصيدة أم حكمة وجع جديدة وأتركهم بعدها كي يسكروا، مرّة أخرى، في نبيذ نصرهم الرخيص. جلسَت إلى يميني ممثلة النيابة العامة، وورائي، على مقاعد فارغة، أربعة من «شبيبة» الشاباك الذين يبدأون طريقهم كمتدربين في ساحات الغبار الفلسطيني، ويكبرون في حضن احتلال منسي. كنت والحقّ وحيدين على هذا المسرح.

إن فقدان الأمل هو عدو العدل الأكبر وأن لكل باطل جولة

تفضل سيد بولس، بادرني رئيس هيئة القضاة، سائلاً إذا كنت قد قرأت رد النيابة العامة على التماسي. طبعا قرأته؛ أجبت، ثم أردفت أنني لا أصدق ما هو مكتوب ولا أؤمن بعدالة هذه الإجراءات مطلقاً؛ وأتوقع أن ترفضوا التماسي مثلما فعلتم، أنتم وغيركم من القضاة، طيلة أربعين عاماً مثّلت خلالها، أنا وزملائي المحامون، كما تعلمون، آلاف الأسرى الإداريين الفلسطينيين، ولم نفز ولا حتى بقضية واحدة. فهذه المسألة محسومة لديكم، ولن تغيّرها تداعيات قضية عماد البرغوثي الفاضحة، كما ستسمعونها الآن كما جرت في المحكمة العسكرية في عوفر: فقد قامت عناصر قوات الأمن الإسرائيلي باعتقال الدكتور عماد من بيته في تاريخ 22/7/2020 وحققوا معه حول مجموعة ملصقات كان قد نشرها على صفحته في فيسبوك. بعد انتهاء عملية التحقيق قامت النيابة العسكرية، في الثاني من أغسطس، بتقديم لائحة اتهام ضده عزت إليه فيها مخالفات التحريض، ومؤازرة تنظيم محظور، ونشر شاراته ورموزه.
مع تقديم لائحة الاتهام طلبت النيابة العسكرية إبقاءه في السجن حتى نهاية الإجراءات القضائية ضده. قرر قاضي محكمة عوفر العسكرية بتاريخ 27/8/2020 ، وبعد سماع الأطراف، ومعاينة ملف البينات، الإفراج عن الدكتور عماد بشروط مقيدة، لعدم اقتناعه بأن الدكتور وما عزي له من مخالفات وبينات، يشكل خطراً على أمن المنطقة وعلى سلامة المواطنين. لم تستسلم النيابة العسكرية ولم ترض بذلك القرار؛ فقامت بتقديم استئناف عليه أمام محكمة الاستئناف العسكرية. ومرة أخرى، بعد سماع الأطراف، قرر قاضي محكمة الاستئناف العسكرية، في تاريخ 2/9/2020 رد طلب النيابة وإبقاء قرار الإفراج عن الدكتور بشروط مقيدة ساري المفعول. لم تفرج سلطات الاحتلال عن الدكتور عماد، رغم حصولنا على قرارين صادرين عن قاضيين عسكريين؛ فبعد قرار محكمة الاستئناف أعلمتني النيابة العسكرية بإصدار أمر اعتقال إداري بحق عماد البرغوثي، موقعٍ من القائد العسكري للمنطقة، وذلك لغاية تاريخ 6/11/2020؛ ثم الحقوه بأمر ثان قضى بأن يبقى عماد رهن الاعتقال لغاية 28/2/2021 ؛ وكانت المحكمة العسكرية في عوفر قد صادقت على هذين الأمرين، أما اليوم، في هذه الجلسة، فقد أعلمونا نيتهم إصدار أمر اعتقال جديد ثالث بحقه. إنها إجراءات باطلة، وممارسات قمع سياسية صارت ممكنة، لأنكم أوجدتم في محاكمكم مسطرتين نقيضتين؛ فواحدة كالبلطة تهوي على حقوق الفلسطينيين، وتقتلع أحلامهم وتدمر حياتهم، والأخرى تسهمد للمواطنين اليهود دروب الليل على الهضاب، حيث يفرخ الفزع يأساً وقنابل. توقفت لألتقط نفسي، فحاول رئيس الهيئة أن يقاطعني، ويلفت انتباهي إلى أن موكلي ليس متهماً بالتحريض فحسب، بل حسبما يدّعي في أمر الاعتقال الإداري فهو ناشط بارز في حركة حماس، ومتورط في عملية ترميم قيادة الحركة في الضفة، ويشارك في لقاءات تنظيمية مع ناشطين آخرين، وفي أنشطة تحريضية بما فيها على الفيسبوك. سمعته وتساءلت: ما شأن كل هذا والاعتقال الاداري؟ فحتى لو كان كل ذلك صحيحا، لا يجوز اعتقاله إدارياً، لأن اللجوء للاعتقال الإداري يكون فقط في الحالات الاستثنائية والقصوى، وليس في مثل هذه الحالات بالتأكيد.
رفع القاضي الذي كان يجلس على اليمين رأسه، بعد أن أرخاه للأسفل منذ بداية الجلسة، وتوجه إليّ بصوت نعس وقال: «أنا أحترمك سيد بولس منذ سنوات طويلة وليس مريحاً أن نسمع ما تقوله أمامنا، فانت تأتي إلى هنا كي تشكك فينا، هذا أمر يصم الآذان». أكملت حديثي من حيث توقف، فأنا أقول هذا وأكتبه منذ سنوات طويلة وقبل تعيين حضرتك قاضيا في المحكمة العليا، لأنني شاهد على حكاية العبث التي قد بدأت منذ اليوم الأول للاحتلال، وبعد أن وافق، طوعاً، من سبقوكم على هذه المقاعد أن يكونوا جنوداً في أثواب قضاة، وأن يتمموا ما لم ينجز في أرض المعارك؛ فالفلسطينيون جاؤوكم ضحايا نكسة وموهومين بـ»نور» احتلالكم ورأفتكم، فأدمنوا، مهزومين، ظلمكم بعد أن سدت عليهم جميع المعابر، وأنتم كقضاة أكملتم المشهد فاستمر العرض كما نرى والمصيبة بالخواتم.
شعرت بأنهم يغضبون مما أقول، فمضيت في حزني، إلى أن أوصلتهم إلى ذلك «الجندي» وليكن اسمه شلومو أو عماد، الذي يحلم بالزنابق البيضاء «ويريد قلباً طيباً، لا حشو بندقية ويريد يوما مشمسا، لا لحظة انتصار مجنونة فاشية، وطفلاً باسماً يضحك للنهار لا قطعة في الآلة الحربية» عندها أوقفني رئيس الجلسة وقال: «كنا سعداء لو رأينا حركة حماس تحلم بالزنابق». فقلت له: أرأيت يا سيدي أنها ليست محكمة وقانونا، وأنها معركة كانت ولما تزل سياسية.
قرأوا ملف عماد «السري» في دقائق، ثم رفع رئيس الجلسة رأسه وصوبه نحوي وقال بنبرة الحانق الساخر، هكذا شعرت: «لقد صدقت يا سيد بولس» وتوقف على طرف ابتسامة شامتة «قصدك انني خسرت القضية» أجبته، وقد أحسست لغماً في حلقي؛ فقال: نعم، ووقف ومثله فعل القاضيان الآخران وانسلوا بسرعة إلى ما وراء السراب. لم أشعرهم بما أخفته عيناي، ولم أعرف إذا سمعوني عندما قلت: «أعرف أنني الصادق».
نظرت في عيني أحمد وكانتا مشرقتين. «لقد أغضبتهم» قال وصمت. فربتُّ على كتفه وسألته أتريد أن تعلم لماذا ما زلت آتيهم رغم أربعين سنة من عمر «الخسائر» لأنني أعرف أن فقدان الأمل هو عدو العدل الأكبر وان لكل باطل جولة.
كاتب فلسطيني

 

 

أنشهد نهاية اليسار

في انتخابات فلسطين؟

 

جواد بولس

 

كنت عائداً إلى بيتي في القدس استعيد تفاصيل محادثتي مع بعض الأصدقاء الذين قابلتهم في رام الله، التي غبت عنها قسراً أسابيع كثيرة؛ وأسفت لأنني لم أتذكر تفاصيل حادثة، لو تلوت تفاصيلها عليهم، رغم حصولها معي قبل سبعة عشر عاماً، لعزّزت ما قلته لهم خلال نقاشنا الذي دار بشكل طبيعي حول الانتخابات المزمع إجراؤها في فلسطين.
فبعيداً عن جميع محاور النقاش التي أثيرت، أشرت بدوري، إلى أن أبرز المشاهد فيها سيكون غياب دور فصائل «اليسار الفلسطيني» وحركاته، وذلك بعد انحسار مكانتها تدريجيا عبر السنين، وتحولها إلى مجرد أجسام تشغل بعض القياديين والناشطين وقبولهم أن يعتاشوا على طاولة «السلطان» ووفقاً لشروطه.
في الأسبوع الأول من تموز/ يوليو عام 2004 كان العالم ينتظر قرار «محكمة العدل الدولية في لاهاي بشأن جدار الفصل العنصري». تلقيت في مساء أحد الأيام اتصالًا من مكتب الرئيس «أبو عمار» يعلمني فيه محدثي بأن «الوالد» – هكذا كانوا يسمونه أحيانًا – يريد لقائي في الصباح، لأمر ضروري. حاولت أن أعتذر، فأنا متواجد في قريتي الجليلية، كفرياسيف، للمشاركة في حفل زفاف قريب لي، لم تمر إلا بضع دقائق حتى عاودوا الاتصال، إلا أن محدثي هذه المرة كان أبو عمار نفسه. أعدت اعتذاري بحذر شديد، لكنه أصر على حضوري ووعدني بأن «يفرج عني» في ساعة تمكنني من الرجوع للقرية خلال وقت مناسب. وصلت في العاشرة صباحاً إلى مبنى المقاطعة، الذي نالت منه شفرات بولدوزورات الاحتلال ورصاصه. اصطحبني الحرس إلى الطابق الثاني، كان أبو عمار يجلس لوحده خلف طاولة خشبية متواضعه على الجسر/الممر الشهير، كي يلتقط، كعادته في تلك الأيام، بعضاً من خيوط الشمس الصباحية. استقبلني بحفاوة الأب وسأل عن أحوالي؛ ثم وضع أمامي قصاصة من جريدة «هآرتس» العبرية، كانت عبارة عن تقرير أعده مراسلها السياسي المعروف ألوف بن، وفيه توقع صدور قرار محكمة لاهاي في اليوم التالي للقائنا، ويؤكد فيه أيضاً، بناء على معطيات أوردها في تقريره، أن القرار سيكون لصالح فلسطين. قرأت بتمعن ورفعت رأسي نحو أبي عمار، الذي مدّ يده وضغط على يدي بقلق غير المصدق، وقال:» معقوله.. معقوله دي يا حبيبي يا جواد»؟ أجبته بنعم؛ فهذا الصحافي يحترم ما ينشر، ولديه مصادر موثوقة، خاصة في الساحة الأمريكية، ثم أن «هآرتس» ما كانت لتنشر مثل هذا التقرير على صفحتها الأولى لو لم تكن متأكدة من صحته؛ وأخيراً فلماذا لا نصدق ونحن أصحاب حق في هذه القضية، ولا يوجد سبب قانوني لعدم قبول قضيتنا. أعجبه كلامي. بدت على وجهه علامات فرح طفولي، كانت تبدو عندما كان يشعر بفرح حقيقي. وقف، لكنه عاد وجلس وأستأنفنا الحديث حول القرار وأهميته. وافقني على ضرورة الانتظار حتى صدور القرار بشكل رسمي، وعدم الاكتفاء بما نشره ألوف بن، لكنه طلب من مساعده أن يدعو أعضاء القيادة، كما كان يسميهم، لاجتماع طارئ، سيعقد في تمام الساعة الرابعة من اليوم نفسه في المقاطعة؛ ثم نظر إليّ وطلب مني الحضور، وكرر وعده السابق لي. وصلنا إلى قاعة الاجتماع، أنا والمحامي الكبير علي السفريني، الذي أخبرني أن أبا عمار طلب حضوره أيضاً. في القاعة وجدنا ممثلي الفصائل وقياديين آخرين يحاولون التكهن حول سبب دعوتهم الطارئة. وقفت بينهم فسمعتهم غاضبين على عرفات، ولم يخل كلامهم من انتقاد لطريقة عمله، وبعضهم كان يتحدث ضده بحدة يسارية ثورية، وبامتعاض بارز، حتى إنني توقعت، لوهلة، أن الاجتماع سيتحول إلى جملة من المناكفات والمصدامات، فالتزمت، بينهم، الصمت وتصرفت في حدود الكياسة والمجاملات المطلوبة.

في رام الله أجمعت قطاعات واسعة على ضرورة إجراء الانتخابات، لأنها وإن لم تفض إلى إحياء ثورتهم النائمة، فإنها ستحرك مياهها

دخل أبو عمار القاعة وأخذ يسلم على الجميع وهم في مقاعدهم.. كان كل واحد منهم يقف في مكانه ويرحب به مبتسماً.. أنهى التسليم وجلس على رأس الطاولة وأجلسنا، أنا على يمينه والمحامي علي على يساره. بدأ حديثه بالترحيب بجميع الحاضرين، وكان يتوجه أحيانا لبعضهم بأحاديث شخصية أو بالمزاح، فبدأوا واحداً تلو الآخر، يبادلونه الحديث، ويكيلون له المديح ويشيدون بقيادته الحكيمة والرشيدة؛ ولم ينتقده أحد. أخبر أبو عمار الحضور بتوقعاته من محكمة لاهاي وأسهب حول معنى ذلك القرار، ووقعه القضائي والسياسي، ففهم الجميع أننا معه كمحاميين، لتعزيز تقييماته؛ فكان عرسا وكان فرحا عظيما. ودّعتهم، وركبت المصعد بصحبة صديق يساري عتيق من أيام الشباب. لم نتكلم كثيراً حول ما حصل قبل وخلال الاجتماع، فقد نظر نحوي وتبسم لأننا كنا نعرف أن أحاديث «الملاهي» في فلسطين ليست كأحاديث «المقاثي». رحل أبو عمار ومضت السنون وما زال اليسار يمضغ روحه المتهالكة، بينما تعيش فلسطين على حد سيفين حالة من «أنوماليا» خبيثة ومهلكة، وتعاني من واقع هش كالندى، ومليء بالمرايا المحطمة التي أنست الرائين إليها كيف تكون الحقيقة ومن هو القاتل ومن الضحية.
في هذه الأيام نستقبل الشتاء من جديد؛ فبعد أن أقنعنا شهر شباط/فبراير بأن في أحشائه تولد شموس الصيف، زارتنا آخر عواصفه الباردة التي حملت معها أنفاس القطب ورقائق الثلج الناعم، حتى غطى بياضها قمم جبال فلسطين العالية وأنسى الناس هموم لياليهم السود. في بلادنا يكفي سقوط زختي بَرَد غاضب فوق رؤوسنا، وإبالتي ثلج هناك على الجبل البعيد، حتى تستقيظ غريزة الصحراء الدفينة بين أضلعنا، ونعيش، في كل أماكن تواجدنا، كالأطفال الذين لا ينامون من شغف وخوف وعيد. كانت شوارع القدس، خلال النهار، تتهيأ لغزوة الجنرال الأخيرة والبرد كان يضع أوزاره في كل الزوايا والحفر، وصفير الريح يلهث بدون انقطاع وكأنها كانت تهرب من عشيرة ذئاب جائعة. وتستمر نشرات الأخبار بتحذير المواطنين من آثار العاصفة، وتنقل من باب الروتين فقط ، آخر التفاصيل عن أعداد ضحايا كورونا في فلسطين وإسرائيل وأعداد المصابين الجدد، وتختفي أمام تقدم الليل أخبار الانتخابات في فلسطين وإسرائيل أيضاً؛ فالليل في بلاد الوجع هو حضن العواصف والقلق.
كنت في البيت وحدي عندما سمعت طارقاً على الباب. كان موظف شركة المياه واقفاً لتحيتي وللسؤال عن صحتي بعد أن سمع من الجيران عن تراجعها في الأشهر الأخيرة. طمأنته بصوت مقنع؛ فابتسم واستماحني بإلقاء سؤال آخر عليّ كان يشغل باله وهو متأكد انني أعرف الإجابة عليه: إذا كانت إسرائيل ستعيد انتخاب بنيامين نتنياهو، وكم مقعداً ستحصد القائمة المشتركة في مقابل الحركة الإسلامية؟
أفهمته أن التكهن في هذه المرحلة المبكرة مستحيل، والايام المقبلة قد تكون حبلى بالمفاجآت، وحاولت أن أفهم سبب اهتمامه بالانتخابات الإسرائيلية وليس بالانتخابات الفلسطينية، وسألته إذا كان سيصوت في فلسطين؟ لم يكن واضحاً بإجابته، لكنه بدا كغير المؤمن بحصول الانتخابات الفلسطينية، وأكد في الوقت نفسه، على قناعته بأن تأثير نتائج الانتخابات الاسرائيلية على الفلسطينيين سيكون أهم وأكبر خاصة في السنوات القريبة المقبلة. لا أعرف لماذا تشعر قطاعات واسعة من الفلسطينيين بأن الانتخابات عندهم لن تتم؛ فحتى من يثقون بقرار الرئيس محمود عباس ومعه القيادات الفلسطينية على اختلاف مشاربها، وموافقة حركة حماس، يفترضون أن هنالك من سيسعى لعرقلة العملية وإفشالها؛ ولكن فلسطين التي وراء جبال الضباب تعيش حالة من أمل مشتهى؛ وليس بسبب وعود الانتخابات المقبلة بل أكثر بسبب هزيمة ترامب الطاغية الأرعن، وافتراضهم أن لا أسوأ منه في جهنم، فعسى القدر بعده يهديهم برزخاً من عدل وجنى. في الصباح، في رام الله أجمع وتمنى المشاركون على ضرورة إجراء الانتخابات، لأنها وإن لم تفض إلى إحياء ثورتهم النائمة، فإنها ستحرك مياهها الآسنة؛ لكنهم اختلفوا تقريبًا حول جميع محاور النقاش الأخرى. لقد تحدثوا بألسنة مختلفة، فبعضهم كان في الثلاثينيات أو أكبر قليلًا، يفتقرون، هكذا بدا واضحاً، إلى لغة فلسطين التاريخية السياسية، فناقشوا زملاءهم، ممن كانوا في عمر الاحتلال، بلغة الحاجة والعواطف وكمواطنين وعوا على الدنيا بعد أن تحولت الثورة، حلم أبائهم، إلى ذكرى انتفاضات عابرة، وإلى سلطة، وتحول العرب من أشقاء إلى قبائل عابدة وعابرة. وقفت، في منتصف الليل، أمام نافذتي ألملم أطراف النهار وتذكرت حين سألني صديقي اليساري العتيق في مصعد المقاطعة، أننا نعرف الصوت الذي تحدثه يدان تصفقان معاً، ولكن ما هو الصوت الذي تحدثه يد واحدة حين تصفق؟ كانت الريح فوقي تعوي هوجاء مذعورة، والبيوت مخفية في المدى تحت عباءات رمادية، والأرض تلمع بعد أن غسلها شيخ أبيض ورحل؛ في الفضاء تتماوج مشاعل ناعسة بدت كفنارات بعيدة، وفي الشارع أمامنا خرج بعض الأطفال، رغم البرد القارس، كي يفتشوا، في العتمة، عن حلم لم ينم ،وعن غد هارب؛ لكنهم لم يسمعوا مثلي، صدى الأيام المبحوح الآتي من بعيد وأنات الزنابق الكسيرة.
كاتب فلسطيني

 

 

الحركة الأسيرة

الفلسطينية وبشائر القاهرة

جواد بولس

 

ما زلت أشعر، قبل كل زيارة لأسرى الحرية الفلسطينية في سجون الاحتلال، برهبة تذكّرني ببدايات عملي قبل أربعين عامًا؛ فقبل النوم أراجع ترتيبات الدخول إلى السجن المعني، وأعدّ رئتيّ لرحلة عذاب صغيرة بعد أن أعياهما الزمن وصارت قدرتهما على إكمال الشهيق، حتى في حالة جهد بسيط، مهمّة عزيزة وشاقة. وفي الصباح أحدّث نفسي وأهيّئها لحوار أريده بين صديقين، وأتعمد أن يكون بعيداً عن التكلف والرتابة.
السجن، هكذا علمتني التجربة، هو مرآة لحياة الناس؛ وفي بعض حالاته وتقلباته هو الحقيقة وتجسيد لواقعهم؛ فعتمته تعرّي، في أحيان كثيرة، الزيف المدّعى في نور ذلك «الخارج» وبرده يفضح فشل «الإنساني» في إقامة العدل البسيط. في السجن، في حيّزاته/الجغرافية، لا مرتبة وسطى، فإما قامع وإما مقموع؛ إما وراء القضبان، حيث يصير المتغطرس المستبد سيّد العذاب وكاتم صرخة العدم الأولى، الخارجة من رحم الوجع إلى عالم الشقاء، تبقى الحرية مجازاً والأرواح إما شظايا ونثاراً وإما رماحاً.
السجن في الحالة الفلسطينية هو «مسنّ للجباه» أو قدر لا يمكن اجتنابه أو النأي عنه، فما دام هنالك احتلال سيكون، فريضةً، نضالا ومهورا وسناء؛ والخارجون منه أحياء هم الأمنيات المحلقة على «طريق النحل» أو شقائق نعمان. كانت زيارات الأسرى الأمنيين في السجون الاسرائيلية، وبقيت بالنسبة لي بمثابة الحاجة والضرورة؛ فبدونهم أشعر بحالة «يتم سياسي» مرهقة، أما بلقائهم فأستعيد توازني الضروري لبقائي سالماً في عالم فلسطيني مشوّش ومخادع وهش. أدخل السجن، بالعادة، وفي صدري غصة نابعة من مرارة الواقع الذي نعيشه «كأحرار» في وطننا، وكثيراً ما أخرج منه وعلى وجهي بسمة وفي البال أغنية، وهذا ما حصل معي في زيارتي الأخيرة.
لم أنتبه لدخوله إلى غرفة الزيارة، فقد كنت ألتقط أنفاسي ملقياً رأسي على ذراعي، وعيني ساهمتين. سمعت نقرة كفه على الزجاج الفاصل بيننا، فجفلت. سألني عن صحتي واعتذر على طلب زيارتي، بحركة خفيفة برأسي أسكتّه وأكّدت له بأنني مرتاح ومغتبط للزيارة، فأنا من دون هذه الفسحات سأختنق. ثم انتقلنا إلى شؤون الساعة وما يواجهه ورفاقه داخل السجن وخارجه. كان بشوشًا كعادته ومرحاً كطير الصباح، على الرغم من السبعة عشر عامًا التي قضاها في الأسر. أوجز أمامي أوضاع الأسرى ومشاكل السجن؛ ففهمت أن الأمور مازالت تراوح مكانها، وانهم لم يشعروا بينهم بأي انعكاسات لأحاديث الوحدة والمصالحة، واستعادة أنفاس فلسطين الديمقراطية وتراتيل التسامح والمغفرة. حاول أن يفهمني أنهم كأبناء لحركة «فتح» ليسوا في حالة حرب مع أسرى باقي الفصائل؛ لكن جروح الانقسام التي أصابت جسد الحركة الأسيرة، في أعقاب زلزال عام 2006، لم تندمل بعد، بل مازالت آثارها تنضح هنا وهناك وبشكل أو بآخر؛ وأكّد، كذلك، على أن بني «عبس» مازالوا يعيشون، في معظم السجون، في مضاربهم؛ بينما يعيش، بمعزل عنهم، بنو «ذبيان» وحتى بين هؤلاء قامت قبائل جديدة وأفخاذ عديدة. كان صارمًا ومتفائلًا وقلقًا، وكنت حزينًا؛ لا سيّما وكلانا يعرف أن نجاح أي حكومة يمينية إسرائيلية جديدة بتطبيق قرارات لجنة «أردان» بشأن حقوق الأسرى الفلسطينيين، سيؤدي إلى تقويض شامل لواقع معيشي، نجحت الحركة الأسيرة الفلسطينية بتحقيقه وبتثبيته عبر مسيرة كفاح طويلة وصارمة، لامست في بعض محطاتها حدود المعجزات. كان حديثه نابعاً من قلب مناضل يعي أهمية الانتظار والصبر، ويعرف كيف أفشلت تضحيات آباء الحركة الأسيرة مخططات الاحتلال، وكيف نجحوا، بعد أن خاضوا أشرس المعارك ضد قمع السجانين، بقلب المعادلة رأساً على عقب؛ ففي حين حاول السجان الإسرائيلي تدجين المقاوم الفلسطيني ومعاملته كمجرم وكإرهابي يعيش في ظل القانون الاسرائيلي ومننه، أصرّ هؤلاء المناضلون على أنهم أسرى لحرية شعبهم وجنود في سبيل الاستقلال وبناء دولتهم، أسوة بباقي شعوب الأرض.

لحمة الجماعة هي الضمانة الأكيدة لحماية أفرادها، وهي الوسيلة الأنجح لصد سياسات القامعين

إنه يعرف، مثل من بنوا صروح العزّة في البدايات، هكذا أفهمني، أن لحمة الجماعة هي الضمانة الأكيدة لحماية أفرادها، وهي الوسيلة الأنجح لصد سياسات القامعين؛ فأشدّ ما يحتاجه المحتل اليوم هو ظفره بأرواح المناضلين الفلسطينيين والتحكم فيها وراء القضبان، وابقاؤها تائهة كفرائس للخيبة وللهزيمة ولفقدان الأمل. ما زالت سجون الاحتلال تستقبل أعداد المقاومين ببرودة الموت، فهل سيدخلونها اليوم كما دخلتها قوافل الآباء، وهم يسيرون على دروب النور والمجد والعزة؟ لقد كانوا يُلقَون في البئر فرادى وفي الجب»خلايا» فكانوا يأتلفون زرافاتٍ ويكبرون أجيالًا ويمضون أشدّاء؛ فشيّدت أرواحُهم، على طريق الشوك وانفاس الندى، ما صار يعرف في تاريخ الكرامة البشرية باسم «الحركة الأسيرة الفلسطينية».
لم أتركه إلا بعد أن أحسست بقلبه ينبض إصراراً، ومن عينيه ينثال شلال نور؛ فهو وأسرى كثيرون مثله على قناعة بأن محاولات القائمين على مخطط سحق «الحركة الاسيرة الفلسطينية» تأتي بعد أن استشعر هؤلاء حصول عدد من المتغيّرات على حياة الفلسطينيين، وبروز عدد من المحفزات التي وظفوها واستغلوها في سبيل تسهيل مهمتهم المذكورة. لن أعدد جميع تلك العوامل، التي جئنا على ذكرها، لكننا، حتماً، سنجد في مقدمة أخطرها وأقواها «استيراد» قيادات فصيلي النزاع الاساسيين، حركة «فتح» وحركة «حماس» مضامين ذلك الانقسام، وتذويتها كواقع يحدد هوامش معيشتهم داخل الأسر في السجون وضوابط علاقاتهم اليومية. ودّعته بعد أن اتفقنا على لقاء جديد، سأذهب اليه بمشاعر الرهبة والتوجس نفسها، من أن شيئاً على واقع الأسرى لن يتغيّر للأحسن؛ فقد صادفت زيارتي للسجن مع مرور الذكرى العاشرة لانعقاد مؤتمر نصرة الأسرى الفلسطينيين في دولة المغرب. تذكرت تفاصيل تلك الأيام المجيدة، وأنا في طريق عودتي، وأحزنني كيف طُويت الذكرى ولم يلتفت إليها أحد. كان الحدث لافتاً بامتياز، فمحاور المؤتمر كانت غنية ومخرجاته مبشرة، لا سيما وقد شاركت في أعماله نخبة من الشخصيات الحقوقية، وسياسيون ومناصرون لنضالات أسرى فلسطين، كان في طليعتهم الفنان مرسيل خليفة والشاعران سميح القاسم وزاهي وهبة. مضت الذكرى مثلها مثل غيرها كريشة في مهب الريح ونُسيت، فالنسيان، في تاريخ فلسطين، محبرة والدموع حبرها الأثير.
أخبار لقاء الفصائل في القاهرة تملأ، في هذه الأيام، نشرات الأخبار، وتبشر الفلسطينيين بالأجواء الاخوية، التي سادت جلسات النقاش، وبالتوصل إلى تفاهمات مبدئية، ستتلوها حوارات قريبة للخوض في التفاصيل التي من شأنها أن تضمن إجراء الانتخابات، كما اعلن الرئيس محمود عباس في مرسومه الأخير. كل شيء في شرقنا جائز، ولكن الأيام تمضي والأسرى الفلسطينيون يعيشون في حالة من انتظار الفرج الفلسطيني الموعود، والترقب المتعب، ويعرفون حقيقة واحدة مؤكدة مفادها أن الحكومة الإسرائيلية الجديدة سوف تستأنف ما بدأته حكومة نتنياهو السابقة، وقد يكون ذلك، كما كان، في أجواء فلسطينية ضبابية وحالة عربية بائسة.
كاتب فلسطيني

 

 

قرانا ومدننا تبكي

 فلا تصدقوا وعودهم

جواد بولس

 

تصدرت تفاصيل مأساة مقتل الشاب أحمد موسى حجازي، ابن مدينة طمرة الجليلية، نشرات الأخبار، وأشغلت تداعياتها صفحات المتعاطين بوسائل التواصل الإلكترونية؛ حيث تولّد مشهد قد يوحي وكأننا أمام حدث مفصلي هز أركان مجتمعنا العربي، ولن يكون مصيره مثل مصير سائر عمليات القتل التي حصدت، في السنوات الأخيرة، أرواح مئات الأبرياء من أبناء مجتمعنا.
ذاكرة الناس قصيرة، وغريزة الحياة عندهم، كانت وستبقى، أقوى من الألم وأثبت من الغضب؛ وإن أقسم أجدادنا الميامين بأن تبقى آمالنا وذاكرتنا «أقوى من النسيان» فعلينا، كما فعلوا، أن نحرس بيادرنا، وأن نحمي دماء ورداتنا كي يبقى الفجر في قلوبنا باسماً وأحمر. لا أعرف من سيكفل ذاك الغد الأزهر والآمن ولا كيف؛ فنحن، كما قلت مراراً، نعيش في زمن المحنة الكبرى، حيث يكون الخوف فيه سيّداً في المواقع، وتكون المداهنة والتقية من الأشرار ضمانات ومآوي آمنة؛ فأيامنا سوداء مثل ليالينا وجميعها حلقات من شر وعجز وعدم.
ربما ساعد توقيت هذه الحادثة في إبراز بشاعتها، وجعلها تبدو كأنها مميزة ومختلفة عن سابقاتها؛ فقد وقعت في أجواء مشحونة بأخبار الانتخابات المقبلة، وباستعار الخلافات بين رئيس الحركة الإسلامية منصور عباس، وباقي شركائه في القائمة المشتركة؛ بينما كانت تحاول، في الوقت نفسه، معظم الأحزاب الصهيونية اليمينية تأمين حصص لها من أصوات الناخبين العرب. دار أحد محاور الخلاف بين منصور عباس وحركته الإسلامية من جهة، وباقي مركبات القائمة المشتركة من جهة ثانية، حول شرعنة التعامل، التي دعا إليها في حينه النائب عباس، مع بنيامين نتنياهو، وإلى أي مدى يمكن الاعتماد عليه، وعلى وعوده التي طفق يوزعها بإسهال واضح في إطلالاته الصحافية، بالعمل مع حكومته المقبلة على مواجهة العنف المستشري داخل مجتمعاتنا العربية، والقضاء على منظمات الإجرام والتصدي لظواهر القتل والاعتداءات بمختلف أنواعها؛ علماً أنه كان يرأس الحكومة الإسرائيلية، بصلاحيات شبه مطلقة، لعقدين من الزمن، ولم يفعل شيئاً خلالها في هذا المضمار، ولم يمنعه أحد من ذلك. وبينما كانت وتائر هذا الخلاف تتصاعد داخل المعسكرات العربية، كان نتنياهو يسجل أهدافه في الشِباك العربية المخروقة، حتى أنه قام بتدشين موقع إلكتروني باللغة العربية، لتمكينه من التواصل مباشرة مع الناخبين العرب.
لم يتوقع نتنياهو تفجّر المواجهة المسلحة في شوارع مدينة طمرة، كما وثقتها الكاميرات، ونقل تفاصيلها المواطنون الذين كانوا شهوداً عليها؛ لكنه يعلم اليوم من دون شك، أن الرصاص الذي شق أزيزه صمت المدينة، عرّى، في مفارقة غريبة، كل أكاذيبه، وكشف عن واقع لا تعيشه طمرة فحسب، بل يعاني منه كل مواطن عربي صار يدرك أنه حين يغادر بيته فإنه قد يعود إليه في كفن.
ولكن مشكلتنا ليست في ما يعرفه نتنياهو وقادة إسرائيل، أو يدّعون بأنهم لا يعرفونه، بل مشكلتنا في ما نعرفه نحن ونتصرف وكأننا نجهله؛ فكثيرون منا على يقين بأن نتنياهو وجميع من سبقوه في حكومات إسرائيل وأجهزتها الأمنية، خاصة في وزارة الأمن الداخلي، يعرفون كل الحقائق بتفاصيلها الحساسة والدقيقة، لاسيما ما يتعلق بمصادر السلاح الذي يصل لمخازن منظمات الإجرام، أو الموجود في بيوت الناس العاديين؛ وكثيرون مقتنعون أنه لو نوى نتنياهو وأجهزته الأمنية القضاء فعلًا على ظواهر القتل والعنف داخل المجتمع العربي، للاحقوا المسؤولين، زعماءَ وجنوداً، ولطاردوا ونظفوا شوارعنا ممن يعيثون فيها فسادًا ويملأونها بالموبقات وبالمخدرات، ولأعادوا لحياة أهلها السلم والأمن والطمأنينة؛ لكنهم لا يفعلون ذلك عن قصد، بهدف تحويلنا إلى مجتمع يعيش في غابة وحشية تحكمها فوضى السلاح وتسيطر على سكانها حالة من القلق السديمي العقيم، فيقتل أفرادها أو يغتصبون بعضهم بعضاً، على طريقة «دعوهم ينزفون» واتركونا نبني ممالكنا وعروسها: الدولة اليهودية. فلنتفق إذن على أن مؤسسات الدولة التي يجب أن تكون، في الوضع السليم، كفيلة بمحاربة الجريمة وبملاحقة المجرمين، وبالتصدي لظواهر العنف على أشكاله، وبضمانة سلامة المواطنين وأمنهم المجتمعي والفردي، ليست معنية، في حالتنا، نحن المواطنين العرب، بالقيام بمسؤولياتها الطبيعية؛ بل على العكس، فوفقاً لعدة شواهد وبراهين، قد تكون معنية بإذكاء نيران الجرائم، أو ببعضها وبعدم العمل على محاصرة أو إيقاف ألسنتنا الحارقة والقاتلة. ولنتفق أيضاً على أن الأوضاع الإجتماعية بيننا آخذة بالتدهور، وعلى أن آفات العنف والقتل تتفاقم، ليس بسبب سوء تشخيصنا لمسبباتها، ولا لأننا لا نعرف من هم المسؤولون عن حدوثها ومن يغذيها، بل على الرغم مما نعرفه. ولنتفق أيضاً على أن المسؤولية المباشرة عن جرائم القتل وأعمال العنف المستشري في أوساطنا، لا تقع كلها على ما يسمى بعصابات الاجرام المنظم، فبعضها يتغذى من «موروثنا» الاجتماعي البالي، وبعضها يستفحل بسبب ضمور منظومة القيم الواقية، وضياع ما كان يشكل كوابح هوياتية وطنية وأخلاقية ناظمة لسلوكيات الأفراد، التي كانت أمامهم روادع صارمة لا يجوز تخطيها. واذا اتفقنا على أن هذه المسلّمات صحيحة، وأجمعنا عليها، وإذا بقينا ملتزمين بمطلبنا الذي لا يمكن التنازل عنه: «لا للعنف ولا للقتل بيننا» من جهة، وبموقفنا المبرر سياسياً «لا للشرطة الإسرائيلية» غير المعنية بالقضاء على الجريمة عندنا، من جهة ثانية، فسيبقى السؤال/ المعضلة مجلجلًا: من قادر على إيجاد الحل وإنقاذنا من هذه الهاوية؟ وما هو هذا الحل المأثرة؟

مؤسسات الدولة الكفيلة بمحاربة الجريمة وبملاحقة المجرمين، ليست معنية، بالنسبة للمواطنين العرب، بالقيام بمسؤولياتها الطبيعية

لقد تطرقت في الماضي لهذه الإشكالية في محاولة مني إلى استدراج نقاش يتعدّى مهمة توصيف الحالة، أو الاكتفاء بإطلاق المواقف العامة والتوقف عند تأثيم الشرطة الاسرائيلية، والمطالبة بعدم التعاون معها، فسجلّها، هكذا كتبت «حافل بالفشل وسلوكها خبيث وتاريخها ينضح قمعاً ورصاصاً، ومفاهيم تعاملها مع الجماهير العربية معطوبة ومبنية على عداوة متأصلة؛ وكل ذلك واضح ومثبت، لكنه غير كاف لتبرير قصور وعزوف القيادات العربية ومؤسسات المجتمع السياسية والمدنية، وفشلهم باجتراح وسائل لكسر هذه القلائد الخانقة؛ فمن واجب القيادات المسؤولة ايجاد الحلول الضامنة للعيش السليم وللمواجهة والخروج الآمن من الجوائح والآفات التي يرزح تحت أعبائها المجتمع». ومضت السنون وقد ازدادت الأوضاع سوءاً؛ فمعظم المواطنين، مثل الشرطة، يعرفون الحقيقة، وأمسى جميع الفرقاء كأنهم يعيشون مع بعضهم في حالة من «الهدنة الخبيثة»؛ فالدولة تشعر بنوع من «الراحة» وهي تتعامل مع مواطنيها العرب بهذه الرعونة والأذى؛ وبالمقابل، تزداد الأصوات العربية الداعية إلى عدم التعاون مع الحكومات الإسرائيلية، وتستند في نداءاتها هذه إلى ممارسات الشرطة الوحشية والعنصرية ضد المواطنين العرب؛ ويبقى المستفيدون، على جميع الأحوال من الوضع القائم، سادة عالم الإجرام وآباء التخلف وأصحاب الخناجر وسيافو الزهر.
العيش في مجتمع تتنازعه حالتان عبثيتان تدفعان أفراده للانخراط في واقعهم الدموي، حتى أنهم يتحولون تلقائياً، بوعي أو بغيره، إلى عناصر منتجة لذلك الواقع من خلال صمتهم أو نأيهم عنه أو باستظلالهم داخل حناياه، أو بالاستفادة من «قبْضاته» أو «قبَضاته». وينادي بعض الغيورين من بيننا إلى التخلي عن الحلول المكرورة والتقليدية، والبدء في بناء مجتمع جديد، بالاعتماد على قوانا الذاتية ومن دون التعويل أو التوجه إلى الدولة ومؤسساتها؛ قد يكون في هذه الفكرة، علاوة على حسن النية، قطرة من دواء، لكنها لن تكون شافية، فمن قادرٌ على رسم أول الخطى وأين هم البنّاؤون الأكفاء الحقيقيون بيننا؟ هو السؤال المعضلة الباقي؛ فبناء مجتمع جديد في حين يعشّش الخوف في عظام وصدور معظم افراده، وهم يهرولون وراء هدير دعاء واعد ويرقصون على إيقاع هتاف نابض، سيكون أمرًا أعز من رسم حلم ناموسة؛ ومهمة هندسة مجتمع كي يصير حصينًا، في واقع يقوده كثرة من هواة من السياسيين وبعض من وعاظ الرؤساء والسلاطين ستكون أصعب من إدخال جمل في خرم إبرة.
انا لا أعرف كيف يبنى مجتمع جديد في بدايات تكوّن عصر انحطاط شامل؛ لكنني أعرف كيف ستكون، بعد أيام مدينة طمرة وباقي أخواتها الثاكلات: ستعود كما كانت قبل سقوط أحمد، مدينة جريحة وحزينة وحائرة، أو ربما أسوأ. وأما الناس في مواقعنا فسيلوذون إلى مخادعهم وقواقعهم، تماماً كما تملي عليهم غريزة البقاء، وسيبقون، بمشيئة الخوف والحرص والمنفعة، أفراداً ينتجون همومهم وأفراحهم ويبنون/يهدمون مجتمعهم.
كاتب فلسطيني

 

 

ما كانت الحركة الإسلامية

تُقدم لو كان في هذه الأحزاب حياة؟

جواد بولس

لم ينجح أقطاب القائمة المشتركة في تذليل الخلافات التي برزت مؤخراً بينهم، خاصة تلك التي أثارتها مواقف وممارسات الحركة الإسلامية، والتي اتخذها وعبر عنها النائب منصور عباس وألحقها موجزاً، قبل أيام، بمنشور ألصقه على صفحته، قال فيه بوضوح: «إنّ القائمة العربية الموحدة مستعدة لقبول الشرط الذي وضعه شركاؤها، أن نتنياهو خط أحمر ولا يمكن التعامل معه..» واضعًا في الوقت نفسه، مقابل هذا «التنازل» شرطين، بدون الاستجابة لهما لن تستمر القائمة بمركباتها الأربعة: تسمية المرشح لرئاسة الحكومة الذي ستدعمه المشتركة، خلاف نتنياهو، والتعهد بعدم التصويت إلى جانب قوانين تخالف تقاليد مجتمعنا المحافظ.
لقد رافقت عملية تشكيل القائمة المشتركة عدة تصورات وتوقعات، تنبأ بعضها منذ البدايات المبكرة بوصولها إلى طريق مسدود وتفككها الحتمي، إلا إذا اهتم مقيموها بتحييد تلك العوامل والعثرات التي كان وجودها واضحاً وتأثيرها السلبي مؤكداً، خاصة أن السحر المفترض في مقولة «الشعب يريد الوحدة» لم يشكل ضماناً واقعياً وحقيقيا لاستمراريتها، لكونه وهماً تجرّعه، منذ البداية، هذا الشعب بإرادة مغلوب على أمرها ونتيجة لشيوع حالة من البلبة الصارخة.
لا نعرف كيف ستنتهي تداعيات هذه الأزمة في الأيام المقبلة، ولا كيف سيقرر مجلس شورى الحركة الإسلامية، الذي ستوكل إليه مهمة اتخاذ القرار والإعلان عن الانفصال النهائي، وخوض المعركة من خارج إطار معسكر الوحدة، أو رغم فشل المفاوضات الأخيرة، تكرار محاولة جسر الهوات وتذليل الصعوبات والعودة إلى حضن المشتركة؛ فهي صرح جميع القادة حتى في آخر اللحظات، التعبير الأصدق عن إرادة الشعب. وبعيدًا عما ستفرزه عمليات التفاوض من تحالفات وأطر سياسية ستخوض الانتخابات في آذار/مارس المقبل، لا بد لنا اليوم قبل الغد، من إدراك رزمة التعقيدات السياسية والاجتماعية، التي عكستها هذه الأزمة، والبدء بالتالي، في تشخيص معالمها الحقيقية ومسبباتها التي كانت واضحة، وأصبحت مستفزة وبارزة؛ على أمل أن تكون بيننا «عناوين» معنية بالقيام بهذه المهمة، وقادرة على التوصل إلى خلاصات حاسمة، وفي طليعتها الإقرار بأن المشهد الذي نواجهه هو آخر البراهين على انتهاء حقبة سياسية اجتماعية، بدأت بناها تتداعى أمام أعيننا منذ سنوات، حتى أفضت بعد مخاضات، كما نشاهد في هذه الأيام، إلى تشكّل حالة سياسية اجتماعية جديدة مليئة بالتحديات وبالأسئلة الوجودية، لاسيّما حول هوية مجتمعنا السياسية المتغيّرة، وقيمه الاجتماعية المرغوبة والحقيقية، وركائزه الثقافية المتهالكة، وتلك الجديدة والمتوالدة .

حقوقنا الأساسية لن تعطى كمنّة من سيّد، لضيوف على طاولته، وتحصيل الميزانيات لن تكون مجرد مكرمات سلطانية

لا أقول ذلك عن حدس مجرد، أو نتيجة لتحليل أكاديمي مجازف؛ فمن يقرأ شرطي الحركة الإسلامية، كما أعلنا للناس، يعرف أننا إزاء واقع سياسي جديد، قررت فيه المرجعيات الدينية في الحركة الإسلامية تغيير أصول العمل السياسي الذي كانت القوى السياسية الوطنية، على اختلاف مشاربها منذ قيام الدولة، مجمعة عليه؛ وتبديلها بأنماط عمل تثير القلق وتستوجب المناقشة والمعارضة. لقد طالبت الحركة الإسلامية، في اشتراطها الأول، سائر شركائها بضرورة إعلان أسماء رؤساء الأحزاب اليهودية الذين سيكونون مستعدين للتعامل معهم، كبديل عن نتنياهو؛ ولم يخفَ باعتقادي على أعضاء مجلس الشورى المعنى الحقيقي لهذا المطلب، وتسببه الفعلي بتقويض واحد من التابوهات، وأركان الاشتباك السياسي المتبع منذ أجيال في نضالاتنا مع القائمين على رسم السياسات الإسرائيلية العنصرية بحقنا، نحن المواطنين العرب. لقد كان بديهياً ألا تتأثر مبدئيات وقواعد النضال الأساسية ضد سياسات القمع بشخص الحاكم أو بهوية حزبه، لأنها كانت ومازالت، سياسات تبنتها ومارستها جميع تيارات الحركة الصهيونية، سواء كانوا في الحكومة أو في المعارضة. وإن كان ذلك المطلب تعجيزياً، فاستعداد الحركة الإسلامية لاتباع سياسة مقايضة المواقف بالمنافع، ومن موقع لا نحن مع اليمين ولا نحن مع اليسار، يعتبر انحرافاً سياسياً لا قاع له؛ فحقوقنا الأساسية لن تعطى كمنّة من سيّد، لضيوف على طاولته، وتحصيل الميزانيات التي نستحقها كمواطنين لن تكون مجرد مكرمات سلطانية.
قد يعتبر البعض هذا المطلب شرعياً، أو ذا أهمية هامشية، لكننا إذا تعمقنا بكنهه وبما يعكسه من مسلمات سياسية وشرعية، سنجده مرتبطًا بموقف الحركات الإسلامية السياسية، بمفهوم الدولة المدنية وعلاقتهم مع حاكمها، وتفسيرهم لمعنى المواطنة وحدودها، ومتعلقا أيضاً بشروط المقاومة، وقواعد التقية في ظروف الاستحالة، مقابل تأمين سلطة الشريعة ونفاذها كمحرك وحيد ومهيمن على علاقات وسلوكيات الأفراد داخل المجتمع الضيق. فعلى هذه الخلفية وبسببها سنجد أن الاشتراط الثاني الذي طالبت به الحركة الإسلامية شركاءها، يقضي بضرورة إعلانهم وبشكل واضح أنهم لن يصوتوا إلى جانب قوانين تخالف عقيدة مجتمعنا المحافظ؛ أي بضرورة تقديم ما يعتبرونه بالثوابت العقائدية، كما يعرفونها وإعلائها كمساطر ملزمة تحدد حقوق جميع أبناء المجتمع وواجباتهم، وترسم لهم مساحات المسموح والمحظور، حتى لو أدت هذه الهيمنة إلى صراعات داخل المجتمع، وإلى انقسامات عرفت مجتمعاتنا كيف تتجنبها طيلة عقود من العمل على بناء هويتهم الجامعة. لا أعرف إذا كان هناك من توقع أن تتصرف الحركة الإسلامية في إسرائيل بشكل مختلف عن تصرفاتها في كل المواقع والمجتمعات التي تنشط في داخلها؛ ولا أعرف إذا راهن قادة الأحزاب والحركات السياسية والمؤسسات المدنية الموجودة بيننا، على إمكانية اكتفاء وقناعة الحركة الإسلامية بما لديها من قوة ودعم بين الجماهير، وعلى قبولها بألا تسعى لإحكام سيطرتها على جميع مرافق المجتمع، وإخضاع سلوك أفراده إلى أحكام قوانينها؛ فلجميع هؤلاء تقول اليوم الحركة الإسلامية كلمتها الواضحة، وتعلن أنها لن تتنازل عن أهدافها وأنها ستعمل لإتمام رسالتها كما تؤمن بها، خاصة بعد أن استوعبت ضعف غرمائها السياسيين، واستشعرت عجزهم عن لملمة بقايا أنفاسهم.
إنها بداية حقبة سياسية اجتماعية جديدة تدخلها الحركة الإسلامية وهي بكامل استعدادها وعتادها وتأهبها، ولها في الستر حلفاء، بينما تقف إزاءها سائر الأحزاب والحركات السياسية وهي ضعيفة، وغير مستعدة للمواجهة، لا بأجسادها المتهالكة، ولا بإمكانياتها المتواضعة، ولا بطروحاتها المتآكله والبعيدة عن المستجدات التي طرأت على إسرائيل وعلى مواطنيها اليهود والعرب، على حد سواء.
كم كتبت عن أزمة الهوية التي تعصف بلحمة أبناء مجتمعنا، وتساءلت من يصنع في مواقعنا هويات الأجيال الشابة؟ غضب من غضب من القادة المتنفذين، وبقيت الحقيقة عارية في عظام ما قلته قبل سنوات، وأصررت على «أن ما كان مسلّمًا به قد تصدّع، فاليوم قد تراجع «الفلسطيني» عن مكانته كمركب محسوم بارز في هويتنا الباهتة، أمام الإسلامي الداهم الطاغي، وأمام الإسرائيلي الملتبس المدفوع بكل خبائثه بيننا»؛ ومن سيمعن التمحيص في واقعنا سيجد، هكذا قلت «إن أقوى عاملين يؤثران في تكوين هوية أفراد مجتمعاتنا هما: الحركات الإسلامية على تفرعاتها وتشكيلاتها المعلنة والسرية ووعاظها المتزمتين والعصريين من جهة، والمفاعيل الإسرائيلية الموجَّهة علينا ومن بيننا، المباشرة منها والمخفية، من جهة أخرى». ومرت السنين وكبرت الحقيقة حتى صارت مارداً لا يهادن ولا يساوم ولا يصالح.. ما يجري هو بمثابة الصفعة الأخيرة، أو قل نداء الليل الأخير؛ فقد كشفت هذه المواجهة مع الحركة الإسلامية، وما سبقها من تهجمات على مركبات القائمة المشتركة، بعض معالم الواقع وتفاعلاته الحقيقية؛ وكشفت أيضاً بشكل سافر ومؤلم حقيقة انحسار قوة الأحزاب والحركات السياسية التقليدية، وأكدت على عدم وجود قيادة علمانية وطنية حاسمة وقادرة على استباق ومنع حدوث الأزمات، ومواجهتها بحكمة وبصلابة، إذا وقعت؛ وعرّت أيضاً كذبة وجود مجتمع مدني أصيل تؤدي مؤسساته دورها في ساعات المحنة، وتذود عن حقوق المواطنين وتحمي، بقوة وبتفان، حيّزاتهم وحرياتهم الأساسية؛ وكشفت، مرة اخرى، عن ضعف لجنة المتابعة واللجنة القطرية للرؤساء، اللتين خسرتا كثيراً من رصيديهما ومكانتيهما الأصليتين.
سيدعي البعض أن نتنياهو نجح بتفتيت القائمة المشتركة، بعد نجاحه بتفتيت معظم معسكرات أعدائه؛ لكنه لم يكن لينجح لولا استقرائه لجميع بواطن الضعف المستشرية بيننا؛ وسيدعي آخرون أن الحركة الإسلامية هي من فكك المشتركة وضرب وحدتها؛ لكنني أجزم، وفي بعض الادعاء صحة، أنهم ما كانوا لينجحوا لو وقف أمامهم خصم يحسب له الحساب، ولو لم تكتس المنابت، خلال السنين الماضية، في الشوارع وفي الحارات، بالأخضر، بعد أن بهتت سائر ألوان قوس قزح.
كاتب فلسطيني

 

ليس بالقائمة

المشتركة وحدها يحيا الكفاح

جواد بولس

تتوقع معظم استطلاعات الرأي مؤخراً، تراجع شعبية القائمة المشتركة وخسارتها لثلث عدد مقاعدها الحالية، البالغة خمسة عشر مقعدًا. ستكون هذه النتيجة حتمية، خاصةً اذا لم يصحُ قادة القائمة، اليوم قبل غد، ويقنعوا الناس، بالأفعال وبالبراهين، على أنهم جديرون، هذه المرة أيضاً، بثقة الناخبين وبدعمهم في الصناديق. ويبقى الغد لناظره قريب.
لقد جاء تشكيل القائمة المشتركة منذ البداية كمخرج وحيد وكفرصة نادرة، أتاحتها لهم بقايا واقع سياسي هرم، كان على حافة الاندثار؛ فجاء، تشكيلها، كضربة استباقية لموجبات، أفرزتها سياسات القمع الحكومية الرسمية الجديدة، وكاستجابة لغريزة البقاء، التي يتقنها السياسيون بعفوية وبانتهازية فطريتين.
لم تخفَ عيوب المولود الجديد عن الكثيرين من المتابعين والمراقبين والناشطين السياسيين؛ وبعضهم كان يتمنى أن تتصرّف الأحزاب بنضوج وبمسؤولية لتصبح القائمة أداة سياسية عصرية، قادرة على تصميم وهندسة مفاهيم وجودية جديدة، وتتلاءم مع جميع المتغيّرات، التي طرأت على مجتمعي الدولة الأساسيين، اليهودي والعربي؛ وأن تكون معنية بالعمل، برفقة سائر المؤسسات السياسية والمدنية الناشطة بيننا، وأن تتحرك، بواسطة وقود جديد، من خلال اجتراح آليات النضال المستقبلي، وأن تتحول إلى عنوان يستنهض طاقات مجتمعاتنا ويضخّها في قوالب حديثة، ووفق أولويات وأهداف متفق عليها تحت درع هويتنا الوطنية الجامعة. لم يحصل هذا، وأعتقد أنه لن يحصل؛ فالقائمة ولدت وبقيت في غرفة الإنعاش؛ ولا يعكس تردّد أزماتها الداخلية، رغم قصر حياتها، حقيقة كونها وعاءً سياسيًا غير ملائم لواقعنا المستجد، أو وسيلة تنظيمية، غير كافية لمواجهة سياسات الدولة من جهة، وأمراضنا الاجتماعية الذاتية، من جهة أخرى، فحسب، بل هو مؤشر جديد قديم، ودليل صارخ على بؤس وعقم الحالة السياسية التي يعيشها المواطنون العرب في إسرائيل؛ وهو ناقوس يدعونا إلى ضرورة إعادة النظر في مجموعة المسلّمات والافتراضات والسياسات، التي حكمت وتحكم أداء معظم الأحزاب والحركات السياسية والدينية والمؤسسات المدنية، التي مازالت تهتدي بقوالب الأولين وتعتمر مفاهيم صارت مُنبتّة عن الواقع الجديد.

بدون مناقشة ما آلت إليه أوضاع واقعنا السياسي والاجتماعي بشفافية ومسؤولية؛ سنبقى عرضة للريح وللضياع

يعرف الكثيرون أن أزمة القائمة المشتركة هي من علامات إفلاس الحالة السياسية الحزبية وتأثيرها السلبي في قناعات ونوازع المواطنين العرب؛ وهي دليل على اختراق الأسافين لمبنى هويتهم الجامعة؛ فمن المؤسف ألا يشعر بعض قادتها بما سببته وتسببه مناكفاتهم الكيدية من نشر لأجواء العدمية، وخلقهم لمحفزات خطيرة وسامة، ساعدت على تنامي مظاهر التطاول والتحدي، التي بتنا نراها وهي تعبث بأمن مواقعنا وسلامة قلاعنا، وتفسد ما كنا نعتبره محرمًا سياسياً ومرفوضاً اجتماعيا. كثيرون يعرفون، كذلك، أن أزمة القائمة المشتركة هي أحد أعراض الأمراض الخبيثة، التي تتغلغل في جسد مجتمعاتنا، ومثلها سنجد أعراضا أخرى؛ فغياب «مؤسسة القيادة» الوازنة، الراجحة الرأي، صاحبة التجربة والأثر، المستوثقة من قبل الناس، والمتفانية في تقديم المصلحة العامة على المصالح الشخصية والفئوية، هي من أخطر ما يؤثر في حياتنا؛ وهي الحالة التي أدّت، في نهاية المطاف، إلى تقزيم مكانة «لجنة المتابعة العليا» وإلى تشويه وتحييد دور «اللجنة القطرية لرؤساء البلديات والمجالس العربية». لن يختلف اثنان على أن السياسات العنصرية الاسرائيلية حاربت منذ البدايات جميع محاولات إنشاء المؤسسات القيادية العربية الوطنية؛ وسعى أصحاب تلك السياسات بالتالي، إلى إفشال تلك المؤسسات، أو لنزع الشرعية عنها، أو لخلخلتها من الداخل؛ ورغم ما استثمروه عبر التاريخ من مجهود ومغريات، فقد فشلوا؛ ونجح القادة الآباء، في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، في إنشاء «لجنة المتابعة العليا» و»اللجنة القطرية لرؤساء البلديات والمجالس العربية» اللتين تحوّلتا، إلى جانب الاحزاب والحركات الوطنية الأخرى، إلى بوصلات هادية وسقوف يحتكم الجميع تحت راياتها، ويلتزمون بحدودها. لقد خلقت تلك القيادات فضاءات وطنية صحية ومطعّمة بمضادات قوية، كانت تصدّ كل جسم غريب وتوقفه عند حده. واليوم، كما نرى، فقد خسرنا هذه الفضاءات وأضعنا اليواطر، حتى أمست لجنة المتابعة العليا مجرد جسم يحاول أن يقاتل بآخر أنفاسه، ويقف، وهو شبه مشلول، عاجزًا في هذه الغابة الهائجة. لقد حصل ذلك نتيجة لعبث بعض الجهات التي تستغل وجودها في اللجنة، وتستظل تحت شرعيتها لتنفيذ مآرب فئوية تخص الأطر التي انتدبتها هناك، ولا تخص المصالح العامة، ولا القضايا التي لا خلاف عليها بين المواطنين؛ فنجد، مثلًا، من يسحج، غير آبه بموقعه في اللجنة، للسلطان أردوغان، ويصفق منتشيًا عندما يلاقي تسعون جنديا روسيا حتفهم في حادثة طائرة مؤسف، ولا ينام قبل أن يذكرنا بفظائع الطاغية بشار؛ بينما يجلس إلى جانبه من يُقسم بطلّة البطل بوتين وبسلاح جنوده الذين يذودون عن سوريا بشار، صانع المعجزات. ويبقى هذا بالطبع عيّنة صغيرة لما يجري تحت ذلك السقف الضعيف.
قد يكون من الجدير تخصيص مقال أو أكثر لرصد كمية الصراعات الداخلية التي تجند لها أطراف لجنة المتابعة، كل في موقعه ومن خندقه؛ ومن المفيد أن تُرصد المواضيع التي اختلفوا حولها وعليها، واستنزفت من دهشة الناس ساعات؛ لكننا، قبل ذلك ومن دونه، رأينا نتائج تلك المعارك؛ فعندما أتت ساعات الامتحان والمواجهات الحقيقية مع أعداء أهلنا، الخارجيين والمحليين، كانت الساحات خالية إلّا ممن يجيدون إطلاق الرصاص، أو من حماتهم، وكان أكثرية الناس يفتشون عن خيمة وقبيلة وعصا ليحتموا، أو عن قوقعة يأكلون في بطنها ويصلون.
لقد بدأت أوائل الانهيارت الكبرى في ساحات المعارك على رئاسة ومجالس السلطات البلدية والمحلية؛ فحينها حذرنا من نشوء ظاهرة أذناب الأحزاب «الكبرى» وراء المنافسين المحليين، من دون الاكتراث لما يمثله بعض هؤلاء من قيم اجتماعية ساقطة، أو من ولاءات سياسية مهزوزة، في مشهد قلب جميع المسلَّمات التي عرفناها، منذ أن أطاحت جبهة الناصرة الديمقراطية بعصر كامل، هيمنت فيه الحمائل، وتسيّدت فيه بعض عكاكيز الحكومات الإسرائيلية، فتصدّرت الجاهات والواجهات. كانت الأحزاب أضعف من أن تقف في وجه هذه الظاهره الخطيرة وتمنعها، بل رأينا كيف أرغمها عجزها على التعايش مع ذلك الواقع المستفز، وتجنيده، بانتهازية مقيتة وبديماغوجية خبيثة «لصالحها» حين اضطرت مؤسساتها القطرية والمحلية، إلى دعم بعض هؤلاء المرشحين بهدف احتسابهم، إذا نجحوا، قيادات في صفوف أحزابهم، أو من أجل إسقاط المرشح الآخر الذي يدعمه الحزب الغريم.
لن نسترسل في تاريخ هذه الفاجعة، فقد وصلنا اليوم إلى وضع حصلت فيه اللجنة القطرية للرؤساء على «استقلالها» الإسرائيلي، وتحررت من تبعيتها للسقف الذي أعلاه، فوق الجميع، نضالُ الكادحين في ساحات أيار وكفاح الثائرين في يوم الأرض وغيره، فنحن نرى اليوم كيف صار كل رئيس سيّد بيدره ومفتيًا بما يفيد بلده، ويخدم مصلحتهم.. والآتيات أفظع. وعلى ضفة أخرى، بدأنا نسمع عن ترشح عدة رؤساء مجالس وبلديات سابقين في قوائم لأحزاب صهيونية جديدة أو قديمة، على الرغم من كونهم أعضاء في أحزاب عربية وطنية، أو كانوا مرشحين من قبل تلك الأحزاب في حينه، وأعضاء في مؤسساتها القيادية. هؤلاء لا يعنونا اليوم إذا ما اختاروا مواقعهم الجديدة؛ لكنني أتساءل، ونحن نقف على قارعة التيه السياسي، هل سنسمع يومًا موقف الأحزاب إزاء تلك الظاهرة التي كانوا جزءاً منها؟ وهل سيعترفون بالخطأ وبأضراره، إذا فعلًا يعتبرون اليوم ما اقترفت أيمانهم خطأً؟ بعيدا عما ستفضي إليه المحاولات لإعادة القائمة المشتركة، ومن أجل مستقبل آمن وواضح، علينا مناقشة هذه المسائل بشفافية وبمسؤولية، ونناقش أيضًا دور الجمعيات الأهلية، وما يسمّى بمؤسسات المجتمع المدني في ما آلت إليه أوضاع واقعنا السياسي والاجتماعي؛ فبدون ذلك النقاش سنبقى عرضة للريح وللضياع.
كاتب فلسطيني

 

 

لنصنع ربيعنا في آذار المقبل

جواد بولس

 

لا يستطيع أحد أن يتكهّن كيف ستكون خريطة الأحزاب العربية، التي ستطلب دعم المواطنين العرب في الجولة المقبلة لانتخابات الكنيست، خاصة أننا لا نعرف كيف سيكون مصير القائمة المشتركة؛ فاحتمالات نجاح مركباتها الأربعة بإعادة بناء جسور الثقة بينها تساوي عمليًا، في هذه الايام، احتمالات فراقها وإعادة تشكيل جسمين رئيسيين منفصلين ومتنافسين على الأصوات العربية في الدولة.
لست بصدد العودة إلى بدايات تشكيل هذه القائمة، ولا ما شاب عملها من إخفاقات كنت قد أشرت إليها مرارًا في السنوات الماضية، ومثلي فعل الكثيرون؛ ولولا تسارع الأحداث السياسية والضرورة لمواجهة معركة انتخابية رابعة حاسمة ومفصلية، لكان من الواجب إجراء جردة حساب شاملة، عساها تفضي إلى خلاصات تفيد، برأيي، عملنا السياسي في المستقبل؛ سيان كان ذلك على مستوى المضامين السياسية الناظمة لتحركاتنا كمجتمع أقلية في دولة ابرتهايد ونظامها الفائق العنصرية، أو في ما يتعلق بآليات العمل، وأشكال الأطر والتحالفات التي يتوجب علينا إقامتها على مختلف الجبهات.
لقد حاولت متابعة معظم ما كتب في هذه المسألة خلال العامين المنصرمين، وقد شدّت انتباهي بعض المحاولات الأكاديمية اللافتة، التي رصد فيها أصحابها بعض التغيّرات الاقتصادية، التي طرأت على مجتمعاتنا العربية، وأدّت إلى نشوء طبقات اجتماعية جديدة بدأ افرادها بالانخراط في مفاصل الدولة والتفاعل داخل ومع مؤسساتها، بمناهج ودوافع مستحدثة لم نشهدها ولم نشعر بزخمها من قبل، ولا بتأثيرها في هويتنا الجمعية وبنى مجتمعاتنا التقليدية، كما يحصل لنا في هذه الايام.

وجود النواب العرب في الكنيست، ضرورة بديهية تمارسها ومارستها معظم الأقليات التي تناضل من أجل بقائها في وطنها، وحصولها على حقوقها المدنية

إلى جانب تلك الآراء، لاحظنا تأكيد أصحاب الخطابين التقليديين على موقفيهما المعهودين؛ فمن يتمسّك بخطاب «المواطنين الأصلانيين» عاد ليستظل بما يستوجبه هذا من مواقف سياسية، ومن أشكال العلاقة مع الدولة ومؤسساتها، بما فيها مسألة المشاركة في الانتخابات وشروطها؛ بينما بقي أتباع الحركة الإسلامية على مواقفهم المعلنة، بما فيها دعوتهم إلى مقاطعة الانتخابات. هنالك حاجة للتعمّق في ظاهرة نشوء شرائح وطبقات جديدة بين المواطنين العرب، وعدم التوقف عند عتبات التشخيص وحسب؛ فالبحث عن كيفية احتواء هذه المتغيّرات، وتجييرها لصالح المجتمع وهويته الجامعة، سيبقى هو المهمة الأولى التي على النخب والقيادات المسؤولة والواعية تولّيها بعد انتهاء المعركة الانتخابية المقبلة.
لقد ناديت في الماضي بشكل واضح وصريح إلى ضرورة المشاركة والتصويت في الانتخابات؛ وأعود اليوم وأكرر مبكّرا موقفي الآنف، فأدعو الجميع إلى المشاركة في التصويت في المعركة المقبلة؛ رغم شعوري، مثل الكثيرين ممن صوتوا للقائمة المشتركة، بالخذلان، ورغم عدم الرضا من بعض تصرفاتهم، أو مواقفهم في محطات عديدة؛ لاسيما بعد انتشار مشاهد المناكفات الأخيرة، التي انعكست تحديدًا في الخلافات حول مواقف وتصريحات الدكتور منصور عباس وحركته الإسلامية.
سأعود بطبيعة الحال إلى هذه المسألة وسأحاول تفكيكها بناء على تجارب الماضي، فالاكتفاء بإطلاق هذا النداء لا يكفي بطبيعة الحال، لكنه ضروري في هذه المرحلة، خاصة ونحن نشهد تنامي الأصوات الداعية إلى مقاطعة الانتخابات، وإلى جانبها محاولات عدة مجموعات للنيل من القائمة، والتهجّم على مركباتها بانتهازية خطيرة، بخلاف انتقادها بشكل بناء؛ علمًا أن بعضهم يستغلّ وضعها لتبرير قفزته إلى حضن الأحزاب الصهيونية اليمينية، أو دعوتهم إلى تأسيس أحزاب عربية على طريقة «الانستانت» السريعة الذوبان.
فتحت المنصات الإعلامية العبرية والعربية، على حد سواء، أثيرها للعديدين من المعقّبين العرب، أو أولئك الذين وصفوا بالخبراء أو المستشارين أو المثقفين أو مجرد «مواطنين بسطاء» فطفق معظمهم ينظّرون لفشل القائمة المشتركة وسلاحهم الأمضى كان سؤالهم: ماذا فعل لنا أعضاء الكنيست العرب؟ وبعضهم كان يسترسل بعدّ ما نواجهه، كمواطنين عرب، من آفات ومظالم، بدءًا من تنامي مظاهر العنف وحالات القتل المستشرية بيننا، ومرورا بضيق الأحوال الاقتصادية، ورداءة البنى التحتية في قرانا ومدننا، وما إلى ذلك من شواهد ومآسي، أعفوا من مسؤوليتها الدولة ووزارتها وعلقوها نواقيس خيبة في رقبة القائمة المشتركة.
عن هذه الظاهرة المستفزّة سأحصر كتابتي اليوم، وسأكرّر روح ما قلته في الماضي؛ فلن يختلف اثنان حول دوافع معظم هؤلاء؛ ولكننا في الوقت نفسه سنجد من ينادي إلى مقاطعة الانتخابات، لإيمانهم غير المبدئي وغير الواعي، بعدم أهمية التمثيل النيابي العربي في الكنيست، فيتخذون في ظل هذه المغالطة، موقفًا عدميًا يبقيهم يوم الانتخابات في البيوت أو يخرجهم للاستجمام في أحد الشطآن، أو في رحلة شواء، مستغلين يوم العطلة، بصحبة اليأس والنرجيلة، أو التصويت لصالح الأحزاب الصهيونية اليمينية. لن أعدّد كل الأسباب التي ساعدت على انتشار هذه المقولة، وتحوّلها إلى أحد أهم العوامل في تبني قطاعات متعددة من المواطنين العرب لموقف مقاطعة الانتخابات بعد أن مارسوها لدورات عديدة. فقد عملت أجهزة الدولة الموكلة على نشر هذه الفرية بذكاء، ونجحت بترسيخها في جيوب سكانية عديدة فتبنتها قطاعات واسعة، ليس عن عقيدة أو مبدأ، حتى ضاعت «طاسة» الحقيقة بين داع للمقاطعة لمصلحة شخصية وإغراض، ومضلَّل أو مؤمن بها عن جهالة، أو عن يأس أو عن «مجاكرة» أو عن احتجاج ساذج؛ وعلى جميع الأحوال فقد ربحت ماكنة الدعاية الصهيونية، من جراء ذلك، معركة مهمة؛ وسجّلنا، نحن المواطنين العرب، بالمقابل، هزيمة جديدة في سجل هزائمنا الطويل.
لقد ساهمَت قيادات الأحزاب والحركات السياسية والدينية، بصورة غير مباشرة وغير مقصودة، في رواج ذلك الشعار بين تلك الاوساط؛ ففي حين كانت ماكنات الإعلام الحكومية الاسرائيلية وأبواقها المحلية، تراكم تأثيرها شعبيًا، كانت القيادات العربية غارقة في صراعاتها الداخلية، أو تلهث، مستنزَفة، في سباقاتها على مسارات الولاءات الملتبسة، في مشهد ساعد على إبعاد الناس عن تلك الحلبات المزعجة.
لن أكتب، ونحن نقف مرة اخرى أمام فوهة البركان، عن أسباب ذلك الترهل والضعف، لأن مقصدي، ونحن أمام مرحلة مفصلية، هو إقناع هذا الفريق من المقاطعين بضرورة مشاركتهم في التصويت المقبل، ولأنني أرى بوجود النواب العرب في الكنيست، رغم عرجهم أحيانًا أو زلاتهم أحياناً أخرى، ومعهم من يدعم قضايانا الأساسية وحقوق الشعب الفلسطيني، ضرورة بديهية تمارسها ومارستها معظم الأقليات التي تناضل من أجل بقائها في وطنها، وحصولها على حقوقها المدنية؛ ويكفينا أن نرى، كبرهان على صحة ما قلت، كيف تسعى أحزاب اليمين بكل طاقاتها وخدعها، وتحاول إقصاء الأحزاب والحركات السياسية العربية عن الكنيست، وكذلك تحاول تخفيض نسبة المصوتين العرب، أو سرقة ضعاف النفوس والمنتفعين لصالحها. وحتى نتنياهو اشتمّ «رائحة الزفر» وشمّر عن ساعديه محاولًا اصطياد فرائسه بطعوم معسولة، هذه المرة، وبشباك من صناعات محلية.
لقد فشلت الأحزاب العربية في السنوات السابقة، بصدّ تلك الدعاية الخبيثة وبصدّ غيرها من الدعايات التي أثّرت سلبا في روح الجماهير، وأدّت إلى عزوفها والى تنامي نداءات المقاطعة بشكل طردي ومقلق؛ أما اليوم فيجب، في ما تبقى من وقت، العمل المبرمج والصارم على محاورة أوسع القطاعات المتكاسلة، وإقناعها بأن اهمية مشاركتها لا تتوقف فقط على أهمية وجود أكبر عدد من النواب العرب وحلفائهم الحقيقيين، بل لأنها أيضًا تعدّ فعلًا ضروريًا من واجب الإنسان الحرّ والواعي ممارسته؛ وهي كذلك تعتبر استجابة لحاجة وجودية يمليها العقل، من أجل تحقيق ذات كل فرد فاعل في تحديد صورة وشكل المجتمع الذي سيعيش فيه.
كاتب فلسطيني

 

 

عندما سألني مرسيل:

كيف استقبلت فلسطين عامها الجديد؟

جواد بولس

 

 كان كالغريب يصحو من ليل جزيرة بعيدة يستقبل عامًا جديدًا بفرح فجر أنيق يذكره بوطن ظل لديه، كما كان، شهوة وحشية وعبيرا منثورا في جنون النايات وفي خضرة الأناشيد؛ بادرني، بلكنته العمشيتية، وسأل، وهو ما زال في فراشه، وشعره المتمرد يشي بتباريح قلقه المزمن: «كيف استقبلت فلسطين عامها الجديد.. وكيف كانت ليلتكم؟».
فاجأني صوت مرسيل خليفة وصعقني بسؤاله؛ فسكتُّ، عساني ألملم أصداء العتمة عن أهدابها، وأعيدها شموسًا لمن «غنى فقرة حب لعينيها.. وأحبها حب القوافل، واحة عشب وماء». حاولت أن أجد وردته في بطن السراب، لكن السماء فوقنا كانت رصاصية، وروائح التيه والغبار تملأ الفضاء وتسد رئتينا. ظلّ هادئا وبسمة مطمئنة نبتت على حافة شفتيه؛ فالموسيقيون الكبار، كالشعراء الكبار، حاذقون بإخفاء مشاعرهم الخاصة عن الناس، وببذرها أشعارا وألحانا على وجه الأرض، التي لولاها، لولا هسيس الحرف وغنج الكمنجات، لبقيت الأرض مجرد تراب وطين، ولما أصبحت عروسًا يحنّ جميع الناس إلى دفء حضنها.
لم ينتظر إجابتي، فهو يعرف كيف يستفز صداقتنا، وكيف لا يحرجها حتى التعب. بدأ يصف كيف قضى ليلة رأس السنة في مدينة «سيدني» الاسترالية، فقال: «أضأنا الشموع، وملأنا البيت بأصص أزهار بديعة. كانت الأبواب مشرّعة على الريح وكانت ليلة حميمة بكل الأصوات والشموع والأزهار الباهرة، وكأننا جئنا من كوكب آخر بالأسود والأبيض، مع نظرات طفولية مشرقة وملونة توزع إشعاعها علينا». حاول أن يكون معي واقعيًا؛ فالخيال ضروري في الفن، لكنه يفسد دور الأمل في الحياة، خاصة إذا تمادى فإنه قد يوصل حامله إلى الجنون. أصغيت إلى حنايا صدره وسمعت في صوته تمرد الحنين، والتوق إلى الخلاص من الحياة على ظهر عود يحمل صاحبه من رصيف ميناء قديم إلى شتاء منفى لا ينتهي.

العتمة بدأت تلفنا، فنحن، وبعد أن نجونا من لعنة تهجير قسري، نعيش واقعًا هو المنفى بعينه

نحن في فلسطين لم نجد عيدنا بعد، ولا حتى صورته في المنافي؛ فالبهجة تصير وفق قوانين الهزيمة ترفًا؛ والغدر، إذا هام القطيع في زمن القهر، صار علامة من علامات «الرجال»؛ والوفاء، في زمن التذلل والرياء، صار نثارًا يفرَّق في أسواق النخاسة والخيانة. كيف تسألني، يا رفيقي، عن عام فلسطين الجديد، وأنت ابن حلمها الزائغ، وذاك الغجري الذي لم ييأس، فحمل فلسطينه فراشة ملونة، وصوته محراثًا من ماس، وأمسك بأثداء الدنيا ولم يبكِ إلا عندما غرقت نجمته وسقط من فوقه القمر.
هل تتذكر، ونحن على مشارف مقام جبران، صاحب النبي، في ضيعة بشرّي، ما قلته لك عن فلسطين، التي أضعناها على قرني مذبح، وخذلناها عندما تنازلت فصائلنا عن «بيض صنائعنا» وتمترسوا، كلا وراء بندقية وخندق؟ وهل تتذكر كيف قلت لك إننا صرنا مثلكم في لبنان، قبائل ونحلاً وأقوامًا تطفئ أحلام أقوام وينهشون أجسادهم؛ فلا بطل يوحّد شعبنا كله، ولا أناشيد تجمعنا، ولا لغة تلمنا، و»شاعرنا» وإن عُدّ علمًا في سماء الكون كله، ترفضه بعض القبائل وتحاربه بالدعاء وبالسيوف؛ والفنون جميعها، وإن لا يهزمها الموت، هي في عرف البعض بضاعة غربية نجسة لا يمارسها سوى الفسَقة والموتورين. لا أريد أن أكون قاسيًا على حلمك، لكنك تعرف كيف إذا صار الوطن مصيدة، والبشر أفاعي، والاصدقاء خناجر تُدق في الظهور، وكيف إذا تحوّلت حواكير طفولتك إلى ميادين لحروب العصابات الخسيسة، وكيف إذا صارت «هياكلك» مراتع للسماسرة ولبائعي الحمام. أعرف كم تحبوننا، نحن الفلسطينيين، بشكل عام، وعرب الجليل والمثلث والنقب على الخصوص، وتُكبرون مسيرة بقائنا في الوطن، رغم أنه بدا مستحيلًا بعد حلول النكبة؛ وأعرف أننا اكتشفنا بعضنا عندما التقينا مرارًا على أرصفة الصداقة الخالصة في بلاد الله الواسعة، واجتمعنا حول قنديل درويش أعطاك روحًا فطيّرتَها موسيقى ونشوة على أجنحة الملائكة؛ ومرّة أخرى حين زرنا لبنانكم قبل بضعة أعوام، فتأكدنا أنكم الأقرب إلى جليلنا، ظهرِ جنوبكم الأصفر؛ وعندما وقفنا في بعلبك على مسرح «باخوس» عرفنا متى وكيف زرع الحب في صدوركم ونبتت البهجة في عروقكم يا أهل لبنان، وعندما زرنا غابة «أرز الرب» فهمنا ما قصده الشاعر يونس الابن حين قال: «مين بيقول السما بعيدة؟ بمدّ إيدي بطالها بإيدي».
ما زلت أذكر حين حضرت في ذلك الصباح باكرًا واصطحبتني لنمضي معًا يومًا كله مرسيل والحنين. بدأنا في زيارة لميناء جبيل ولسوقها، وأخبرتك، ونحن نشرب القهوة مع صديقك الأب جان جبور، عازف العود البارع بشهادتك، أنها تشبه «عكانا» تمامًا؛ فضحكت، وكأنك لا تصدقني، لأنه، كما أفهمتني، لجبيل لا يوجد مثيل! ثم وصلنا إلى عمشيت فأدخلتني إلى حاراتها وشوارعها، وحدثتني عن بداياتك وعن أول الحب وأول الأسئلة الكبيرة، وأول الغصات، وآخر الفرح؛ ثم توجهنا إلى بيتك، وهو بيت العائلة القديم، فرويت لي كيف رحل والدك وأنت منفيّ، فحُرمت من وداعه ومن حضور جنازته. كنا نقف على شرفة البيت التي تطل على التاريخ وعلى حديقتكم الخضراء الجميلة، ووراءها في الأفق البعيد شاطئ عمشيت الأزرق الصافي، وفجأة توقفتَ عن الكلام وبقيتْ الأغصان وحدها تهمس، فنظرتُ إلى وجهك، فلم أجد أي تعبير عليه، إلا بقايا ألم عتيق وعميق وشوق إلى تناهيد الجرود العاشقة. سمعتك تقول بصوت خفيت لطالما عبّرت فيه عن وجعك: «يا خيي لقد قتلوا فينا القدرة على الفرح.. لقد شوّهوا فينا سر الطفولة وأطفأوا بهاء العمر».
اليوم وأنت تسألني عن عام فلسطين الجديد، وعن ليلتنا في رأس السنة، تذكرتك واستحضرت نتفًا من حديثنا عن كيف سرقوا منا ايضًا في فلسطين تلألؤ البهجة وفيض النور، وعندما قرأت ما كتبتَ على صفحتك في نهاية العام المنصرم، أحسستُ بأنني مثلك مسافر في غربة دائمة، وبأنني أشعر مثلك أيضًا بالعطش، فتمنيت لو استطيع أن اخترع لنفسي «لقاء ما في قلب الذاكرة القريبة» ولكن..
الزيت في قناديلنا ينفد، والعتمة بدأت تلفنا، فنحن، وبعد أن نجونا من لعنة تهجير قسري، نعيش واقعًا هو المنفى بعينه، ونحاول مثلك أن نخترع الذكرى كيلا نقف على عتبات اليأس والمستحيل. أعرف كم هو صعب هذا الكلام عليك، هناك في تلك الجزيرة النائية، وأنت تحاول بناء عرائش الأمل من خيوط حرير فجر ناعس، وسلالم موسيقاك، وتقيم للنور مقامات من الحب والجلنار؛ ولكنك، وأنت صاحب الغيم، تعرف أيضا أن «الحياة هي الأشهى لولا طنين النهاية» وأن «الفرح ومضة تبدّد دامسًا غميسًا وتمضي» كما كتبت بحدسك موخرًا رغم إغواءات رمل تلك الجزيرة، وهو ينفذ هناك على الضفاف البعيدة، من أصابع الزمن. صدقني أن الناس في بداية هذا العام في فلسطين فعلوا ما يفعله العرب، اجترّوا حشائش مرابعهم القديمة، وجلسوا يربتون على أكتاف تمائمهم وينتظرون من سينشلهم من بئرهم السحيقة. أما نحن، عرب الداخل، كما تحبون أن تُسمّونا، لم نتمرّد إلا قليلًا، فهنالك بيننا من يريدنا أن نصير مثل كلّ العرب تمامًا، حداة وراء القوافل وأذنابًا على القوافي.. فاهدأ حيث أنت وأهنأ وبجانبك براعم الوعد ونواره، واشعل معهم ليلك حتى تمتلئ صحراؤك نجومًا وواحات من نخيل وعسل؛ وانتظر فلسطينك، مثلنا، بصبر السنابل؛ وشق وحشتك واطلع منها «كما ينبت العشب بين مفاصل صخرة»؛ فأنت عاشق الحرية، وأنت الغجري الذي من سلالات «باخوس» وسيد النشوة، وأنت أجمل الذكرى وقاهر الندم.
كاتب فلسطيني

 

 

عن زمن اليأس

والعدل بطعم الخل

جواد بولس

كي تكتب ما لا تعيشه يجب أن تكون شاعرًا، أو بائع أساطير في زمن صارت فيه الرصاصة ابنة الواقع الكبرى، واخت المجازات البعيدة. أعتذر من القراء لأنني سأكتب من وحي اليأس، كما تجلّى في ثنايا عام ولّى، وكما أحسه عائدًا في نبض عام يهلّ؛ وللحالمين أترك ما سيقوله قوس قزح لأسوار عكا، وما سيرويه النبيذ للعاصفة.
من قال إننا في غاب، ونحن لا نعيش وفق قوانين الغاب المعروفة، وبدون حكمة الدم في صراعات بقاء نزلائه الضرورية لاستمرار حياتهم، وللمحافظة على توازناتها التراتبية في ذلك العالم اللافوضوي؟ ومن بشّرنا بالفرج القريب، وكل مساء ننام على نوح الحمام في صدورنا ونصحو على زغاريد الخناجر في ساحاتنا وعلى تعب الرايات البيض، وهي تلتف على رقاب عصيّ مرفوعة نحو العبث، ولا تفقه تراتيل المغفرة. عام من عمر الرصاص مضى وأمانينا ما زالت تذبح كل يوم وتكدّس كوابيس في خوابي اليأس والعتمة.
لقد أدمنّا الخوف وألفنا برودة الوحدة والراحة في حضن العجز، فحوّلنا بيوتنا إلى قلاع عافها الدوري الجميل، ورحل عن أبراجها ليفتش عن وطن يحرس زغب صغاره ولا يحترف أهله بقر خواصر الورد، ومطاردة الفرح إذا جنّ على عتبات التاريخ المقدسة.
عام من الخيبات طوي ولا أحد يتذكر وعود سواقيه المنهكة، ولا مَن حاد عن دربه وباع مجنّه من أجل عيون «قبّرة». رحل الشعراء والراقصات بكين، وبقي كل ناج من «قوس آخيله» بطلًا صغيرًا في ملحمة تتداعى فصولها على أنغام رعودنا حين «تفقس» راجفة بعد ومضة برق ساهرة، ثم تخبو في حضن دعاء ومسبحة. عام مضى وما زالت نصاله تتكسر في أجسادنا على النصال؛ ونحن، العرب، لا نجيد إلا السير على دروب الملح والعطش، ونشتري، بعد كل كبوة وفاجعة، تمائم الصمود من «كهاننا وشيوخنا»، ونردّد، بعد كل مذبحة، أحاديثهم عن عزة ضائعة وعن فريضة القتال ذودًا عن شرف القبيلة وعن المقبرة. عام مضى كالسيف وآمالنا كانت للهفة شفارته غمدًا ووسائدنا شظايا من وجع ونثار أحلام بائدة. عام مضى وكأنه راجع إلينا، ونحن لا نسير في النفق ولا نفتش عن نور في نهايته، لأننا نعيش نحن، المواطنين العرب في إسرائيل، في تيه وكأننا على أطراف صحراء رهيبة، يفرقنا سرابها وتعمينا صفرتها الذابلة.
نسير على منحدر خطير، وأنا لا أعرف كيف سننجو من السقوط الكبير في بطن الهاوية؛ لكنني أراهن على أن تكرار التجارب والعودة على ما فعلناه في السنوات الأخيرة، لن يقدّمنا ولا حتى خطوة واحدة صوب واحات الأمان، أو نحو الصارية.
لقد نجح العديد من المتابعين والمعنيين الغيورين بتشخيص معالم أزماتنا العاثرة واقترحوا سبلًا لمواجهتها، حيث أكد بعضهم، وأنا منهم، على ضرورة اجتراح وسائل عمل جديدة وأفكار ثورية تتلاءم وواقعنا المتغيّر، شريطة أن يوازيها، في الوقت نفسه، بناء مؤسسات وأطر تنظيمية حديثة، يجب ان تختلف جوهريًا عن جميع القوالب الحزبية والحركية القديمة المهترئة، أو أن يتم نسف مباني تلك الأطر وتحديثها بشكل جذري وخلاق. مضى العام وبقي كل القديم على رثه فتفاقمت أحوالنا وزادت خسائر مجتمعاتنا، الفردية والجمعيّة، وقد تبيّن اليوم أن كل من تعهدوا أمام الناس على مواجهة المخاطر بأساليب وبأفكار جديدة، لم يبعهم هؤلاء إلا أوهامًا كانوا قد زرعوها ليبنوا عليها جسورًا كي توصلهم إلى مراكزهم ومواقعهم «القيادية» الحالية. سنواجه العام المقبل ونحن نعاني من حالة اللهاث المزمن نفسها، وسنستنزف طاقاتنا بمحاولاتنا إطفاء الحرائق بقليل مما نملك من تراتيل ومن مياه آسنة؛ بينما سيستمر العابثون بأمن حاراتنا وبيوتنا وبسلامة أولادنا في إذكاء أعمال العنف والقتل والعبث، بكل ما بناه أباؤنا وبإحكام أنشوطات المشانق على رقبات هويتنا ووحدتنا ومستقبلنا. وبكلام بسيط آخر، سنستقبل عامًا جديدًا لا يختلف عن الذي ولّى، وسيكون هو أيضًا من نار وخوف وهزائم، وسيستمر فيه قادة مجتمعنا ومؤسساته السياسية والمدنية باجترار قرارتهم التي لن تتعدى كونها ردود أفعال باهتة لا ترقى إلى جسامة المخاطر، ولن تخرج عن المألوف الذي بسببه، هكذا يعتقد هؤلاء، تضمن سلامة مواقعهم وبقاء مؤسساتهم.

خاض المواطنون العرب معاركهم ضد سياسات حكومات إسرائيل المتعاقبة بثبات، وهم مصرون على البقاء في وطنهم

لم ننجح بإيجاد خيارات مواجهة جديدة، فمضينا على الطرقات نفسها، نفتش عن إنصافنا في دولة ما زال أبناؤها، ورثة هارون، ينبشون عظام الحقيقة ويتقاتلون على إرث قايين، ورأس الحكمة المزروعة على أنف خنجره؛ ونسعى وراء عدالة وكأننا أضعناها في حواكيرنا. لم نقتنع، رغم سجل الخسائر الطويل، بأننا نقيم في أرض لم يعرف ترابها معنى واحدًا لعدالة واحدة؛ فمنذ أورثت السماء هذه الأرض للبشر سادت فيها قوانين العدم، وصار القوي هو صاحب الهياكل ومذابحها وصانع العدل في قصورها.
لقد خاض المواطنون العرب معاركهم ضد سياسات حكومات إسرائيل المتعاقبة بثبات، وهم مصرون على البقاء في وطنهم؛ وقاوموا «محفزات» تهجيرهم أو تدجينهم بنجاح لافِت، لامَس، في بعض محطاته، تحقيق المعجزة. لم تستسلم إسرائيل بعد هذه السنوات من المواجهات المتتالية؛ فكانت كل مرة تجرب أساليب قمع جديدة وتستهدف، من ورائها، محو إنجازاتنا وتشويه معالم هويتنا، وتفتيت أواصر وحدتنا وضرب إجماعنا على تعريف ماهية مصلحتنا الفوقية الجامعة؛ ويبدو أنها استهدت مؤخرًا إلى نجاعة وسيلتين جديدتين فتبنتهما وبدأت بتوظيفهما بشراسة غير معهودة من قبل. لم تختلق إسرائيل مصادر توليد العنف داخل مجتمعاتنا؛ لكنها استوعبت أهمية الاستفادة من نشوء بؤر الصراعات الداخلية، وتوالد «الكتائب الضاربة»، على جميع صنوفها ودوافعها، داخل قلاعنا، وفهمت أن استغلال هذا المستجد وتشجيع سطوة عناصره هي أفضل الأسلحة لضرب المجتمع الفلسطيني في إسرائيل ولضعضعته، من خلال افتعال احترابات أهلية نراها في معظم بلداتنا. ومع جنوح مجتمع الأكثرية اليهودية نحو حكم فاشي، بدأت رموز هذا النظام بعملية مسح شامل لمخلّفات النظام السابق، حيث توّجت عملية المسح هذه بإصدار «قانون أساس: إسرائيل الدولة القومية  للشعب اليهودي»، أو ما يسمى على الشيوع «قانون القومية»، ليشكل هذا القانون في المستقبل حاضنة حصينة وشرعية، في عرف مشرّعيه ومنتخبيهم، لسياسات القمع والتفرقة العنصرية، ووسيلة «قانونية» لضمان أفضلية اليهود على باقي المواطنين العرب، وحرمانهم من المطالبة بالمساواة في حقوقهم الجمعية والفردية، والاكتفاء بالفتات الذي سيحصل عليه كل مواطن عربي «بذكائه» وبقدرته على الانصهار أو التدجّن في هذا الجحيم المستعر. لقد انتهى العام المنصرم بمشاهدتنا لأحداث مسرحية محزنة جرت داخل ما يسمى «قصر العدل»، هي المحكمة العليا الاسرائيلية، فشاهدنا كيف أصغى وناقش أحد عشر قاضيًا، عددًا من الالتماسات التي قدّمتها جهات مختلفة ضد «قانون القومية»، كان من أبرزها، بالنسبة لنا، الالتماس الذي قدمته جمعية «عدالة» باسم المؤسسات القيادية للجماهير العربية.
أتطرق إلى هذه المسألة لأنني على قناعة بأن الناس ستنسى تفاصيلها مع قدوم العام الجديد، وما سيحمله لنا من مآس ودموع؛ وقد نعود إليها فقط عندما سيصدر قرار القضاة الذي لن يختلف، برأيي، عن قرارتهم المجحفة التي صدرت منذ عقود وكانت في مجملها ضد مصالح وحقوق المواطنين العرب.
لقد بدأت مقالتي وكتبت من وحي اليأس وسأنهيها على عتبات «هيكل» ديست في دهاليزه أضلاع العدالة، التي فتش عنها المواطنون العرب، حين كان يحكم الدولة نظام عنصري، ولم يجدوها ؛ فهل سيخرج اليوم من أنيابها العسل، ونحن أمام تشكل نظام مختلف بجوهره عن سابقيه؟ وهل كان قرار القيادات بالتوجه إلى محكمة العدل العليا الاسرائيلية في هذه الظروف صائبًا؟ أم أنه، مثل باقي القرارات، كان مجرد خربشة أخرى على صفحتي اليأس والتيه في صحراء قاحلة نعيش في سرابها؟ وهل سيبقى قرارهم، مثل ما سبقه، «إنجازًا « محفوظًا في سجلات من كانوا صانعيه؟
كاتب فلسطيني

 

 

كان اسمه عيد الميلاد

فلماذا صار اسمه الكريسماس؟

جواد بولس

 

 

من الصعب أن تكتب في أي مسألة عامة، مهما كانت ملحّة ومهمة، وأنت تعيش تباريح ذلك الفرح المبهم، وتداهمك ذكريات صارت في خيالك بلون الغبار. فإن قلت: اليوم عيد ميلاد المسيح، قلت ناصرة الجليل ومهد بيت لحم والقدس، موئل الرجاء والبركة؛ وتخيلت، بشكل تلقائي، كيف يجتمع الناس في ملايين بيوت المعمورة حول مغارة فلسطينية، وفوقهم تتلألأ نجمتها وتغمرهم بالفرح وبالأمل والمحبة.
لم أعِ، قبل ستين شتاءً، معنى أوجاع الانتماء لهوية مركبة من طين ومن ماء ومن نار؛ وقد ولدت في عائلة عشق كبارها تناهيد البنفسج وبحة النايات وتقليب الكستناء في خواصر جمر لا ينام. أذكر زيارتي الأولى للناصرة عندما صحوت في فجر نديّ على أصداء الدهشة، وهي تفرّ من دموع عذراء. لم أفهم وقتها لماذا يولد ثائر كي يثقب سقف السماء ويزرع في صدور الناس معنى جديد للخلاص. بدأت الأسئلة تكبر وأنا كطفل شقي ألعب داخل كهف كان فيه مذود وضيع وأحلام من نور وقش. ثم ضعت، وأنا يافع، على كتف صخرة منحوتة من أرض الخيال، صارت دليل المؤمنين الأصم، على قيامة يعيشون من أجلها، وعلى رجائها يرقدون، مثلما علّمهم «فاديهم» قبل أن يصير ضحية إحدى أشهر مؤامرات التاريخ التي حيكت، منذ ألفي عام، بين أرباب المال وسماسرة الإيمان والسلطان.

هوية فلسطين المسيحية الأصيلة وانتماء بعض أهلها لها، ليس بمعناها الديني الإيماني الضيق، معطيان تاريخيان وضرورة المحافظة عليهما مصلحة وطنية عليا

حُسدت فلسطين وأهلها على هذه النعمة «السماوية» وزوحمت عليها عبر التاريخ؛ لكنني لن أسرد في هذه المقالة ما توالى على أرضها من جيوش وممالك، حتى استقرت أحوالها، في أيامنا، على سلطة فلسطينية لها ما لها من سيادة منقوصة، ونوافذ على العالم كله، وفوقها دولة تمارس احتلالا باطشا يمعن في نبش هياكلها ونسف جغرافيتها، وتحريف وقائع تاريخها، كما عرفته الأمم وآمن به أهلها منذ ألفي عام. كان أهل هذه البلاد أوائل بناة واتباع هذه الديانة، وكان من المفروض أن تصير أجيال المولودين في عائلات من صاروا المسيحيين الشرقيين، وارثي هذه الديانة الشرعيين وأصحاب كنائسها وأوقافها؛ لكنهم أُفشلوا وهزموا حتى وصلت أحوالهم اليوم إلى حالة اللاعودة، حيث مصير بقائهم في دول المشرق العربي، لاسيما في فلسطين الكبيرة، بات محسومًا. لن نخوض في أسباب تلك المأساة – وهي مأساة فلسطينية وطنية بالتحديد – التي ما زالت شرايينها تنزف، وأعداد الفلسطينيين المسيحيين تتناقص بشكل يومي، حتى خلَت منهم كثير من البلدات بشكل كامل، وستلحقها، كما أقدّر، مواقع اخرى قد يبقى فيها ما سميته مرة «محميات طبيعية» سيحافظ عليها كأطلال تدل على ماضي البلاد الدارس.
كانت الحرب على قلب فلسطين شرسة، ومحاولات سرقة «مسيحها» لم تتوقف؛ فكم حاول المستعمرون ذبحها كي تنتعش روما حينًا، أو القسطنطينية احيانًا، وتوالت عليها الحملات المسعورة حتى وصلنا إلى ما فعله الانتدابان، البريطاني والفرنسي، من تمزيق لجغرافيا المنطقة وتطييف لأهلها وتأليبهم على بعض. كان دور إسرائيل حاسمًا في التأثير في مكانة الكنائس المحلية، وترسيم خريطة صلاحياتها، فعملت، بدهاء، على إبقاء جميعها مللاً مستقلة ومتفرقة، وساندت رعاتها الأجانب في سيطرتهم على مقدّراتها، خاصة اليونانيين الذين تلقوا دعمها المطلق، وتسيّدوا بسببها على أكبر كنيسة ورعية عربية أصيلة وعريقة، فتحكموا بعنجهية مستعمر في رقاب عبادها المسالمين، وبحرية تامة في أوقافهم، كما شهدنا خلال السنين. لم تعمل إسرائيل، لأسباب دينية وسياسية واضحة، على تطوير المواقع المسيحية الكثيرة الموجودة داخل حدودها، ولا على تسويقها كمراكز سياحية عصرية، واكتفت بدعم ما يتناسق وسياسات بعض الكنائس الغربية التي تدعم إسرائيل وممارساتها العنصرية؛ وقد نرى بإهمال الناصرة، مدينة البشارة، المتعمد، أكبر دليل على هذا الإجحاف وهذه العنصرية. لم تنفرد إسرائيل بمخططاتها، بل تساوقت معها معظم رئاسات الكنائس المحلية، وشاركتها في لعبة استهدفت المحافظة على مكانة الإكليروسات الأجنبية الحاكمة، وما حصلت عليها من امتيازات؛ وفي الوقت نفسه تهميش مكانة الرعايا العرب وكهنتهم، وإخضاعهم لحالة من الاغتراب والانتماء المشوّه.
لم تقتصر معاناة الفلسطينيين المسيحيين تاريخيًا على مواجهة ذينك العدوّين، الخارجي الاستعماري والإسرائيلي العنصري، بل بدأوا يعيشون، منذ أربعة عقود، تداعيات هواجس وجودية مستجدة، وإرهاصات حالة من التناقضات الحقيقية داخل مجتمعاتهم، بعد تنامي قوة بعض الحركات الإسلامية السياسية، وتغلغل أفكارها الدينية الإقصائية في مفاصل الحياة اليومية، ما دفع بابناء الأقلية المسيحية الأصلانية إلى فقدان الثقة بمستقبل كانت ستحميه وتؤمنه العباءة الفلسطينية الجامعة. وكي لا أُفهم خطأ، فقد بدأت مشكلة المسيحية المشرقية قبل نشوء هذه الحركات الإسلامية، لكنها تفاقمت مع زيادة قوتها، وبسط سيادتها في بعض الدول العربية، وفي قطاع غزة، ونتيجة لتصرفات بعض أجنحتها، وفق مفاهيم عقائدية دلت على رفض قادتها لاحترام مبدأ تكاملية أنساغ المجتمع الواحد، وإصرارها على فرض قوانين الشريعة الإسلامية، وفق تفسيراتها الأصولية، على جميع المواطنين. الشواهد على ما يحدث داخل مجتمعاتنا، سواء كان في الأراضي الفلسطينية المحتلة، أو داخل إسرائيل، كثيرة وموجعة ومقلقة؛ ولعل آخرها كان تعميم وزارة الأوقاف والشؤون الدينية الصادر عن حكومة غزة قبل بضعة أيام، وموضوعه، كما جاء في عنوانه: «فعاليات الإدارة العامة للوعظ والإرشاد للحد من التفاعل مع الكريسماس».
قد يكون ما يميز هذا التعميم أنه صادر عن حكومة من المفروض أن تمثل جميع مواطني القطاع، بمن فيهم كمشة المسيحيين الباقية هناك؛ لكنه يبقى في الواقع، من حيث المضامين والرسالة، تعميمًا شائعًا ومألوفًا، فقد سمعنا عن نشر مثله في مواقعنا مرارًا وتكرارًا، ومع قدوم كل عيد ميلاد. لم يبق في غزة إلا اقل من ألف مواطن فلسطيني مسيحي، وهم كعناوين طبيعية لمثل هذه الممارسات والتعميمات، ليسوا بحاجة إلى هذا «التشجيع» كي يهاجروا منها، اذا ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا؛ أما إذا لم يكونوا هم العنوان، كما حاولت وزارة الأوقاف إقناعنا في تأكيد لها نشر في منشور تبريري، صدر بعد قيام زوبعة الاحتجاجات على التعميم المذكور، فعندها سيكون عذرهم أقبح من ذنب. على جميع الأحوال، لم يكن نأي كاتبي ذلك التعميم عن استعمال كلمة «الميلاد» واستبدالها في العنوان بكلمة «الكريسماس» مجرد سهوة عابرة، لأنهم يعرفون بالتأكيد ما يعنيه «الميلاد» لأهل فلسطين وما تشكله المناسبة في هويتها التاريخية والحاضرة والمستقبلية؛ وبما أنهم يفقهون تلك الحقيقة جيدًا فسيكون من الصعب عدم فهم موقفهم كمحاولة لتضييق الهوامش في الحيزات العامةـ وتقييد حريات الأفراد ومحاولة لتشويش معالم تلك الهوية، وذلك تمامًا كما فعلت جهات أجنبية واسرائيلية من قبلهم، وما زالوا يحاولون. لا يمكن إخراج نص التعميم المذكور عن سياقات الخطاب الشائع في أدبيات وفتاوى بعض تلك الحركات، فانتقاء اسم «الكريسماس» وليس «الميلاد» يقصد منه أيضًا إفهام عامة الناس على أن المحتفلين بهذه المناسبة ليسوا «منّا» وهي اصلًا مناسبة غربية دخيلة؛ وهذا في الواقع يضاف إلى تمنع الكثيرين من توظيف مصطلح المسيحيين، أو العرب المسيحيين، وتعمدهم اللجوء إلى تسميات مقصودة مثل الفرنجة أو الصليبيين، أو إلى نعتهم بالنصارى، وهي تسمية لها تفسيراتها العقائدية الملتبسة.
كم تمنينا على جميع قياديينا، في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وفي الداخل الإسرائيلي، أن يتنبهوا لهذه المخاطر وأن يقفوا في وجهها بشدة وبوضوح؛ فهوية فلسطين المسيحية الأصيلة وانتماء بعض اهلها لتلك الهوية، ليس بمعناها الديني الإيماني الضيق، هما معطيان تاريخيان راسخان وضرورة المحافظة عليهما هي مصلحة وطنية عليا. وإن قلنا الميلاد قلنا الناصرة والقدس وبيت لحم وجميع أرجاء فلسطين، فلغزة سيبقى أهلها وبحرها وفجرها الأخضر، ولسائر فلسطين الأمل وميلادها ومهدها، ولنا جرعات الخل وأسئلة القلق والشوك، وعبق البدايات وسحر البشارة ومدينتها، التي يجب أن تكون أكبر من عاصمة لجليل مارد، لأنها من أهم مدن العالم، بعد القدس وبيت لحم، تمامًا كما صرح ويصرح بإصرار رئيس بلديتها الحالي، علي سلام، في موقف لافت يحسب له.
كاتب فلسطيني

 

 

سقوط المحكمة

العليا الإسرائيلية الوشيك

جواد بولس

ما يجري داخل المجتمع الإسرائيلي شبيه بمعركة ضارية على ترسيم آخر مناطق النفوذ في غابة جبّارة، وحسم قضية من سيضع ومن سيتحكم بقوانينها. وإن كان الصدام السياسي هو الأبرز في هذه المعركة، فإن هذا لن ينجَز إلا إذا حسمت معه أو قبله، بعض المعارك الأخرى، وأهمها تلك الجارية في أروقة الجهاز القضائي وعلى مصيره، وكذلك تلك الحملات من ملاحقة وإقصاء مفاصل الجهاز البيروقراطي المهني، واستبدالهم بإمّعات ستحني ظهورها لتمكين أسيادها من الركوب على أنفاس المواطنين. ومن لا يوافقني فليقرأ حصاد الدمع والعبث الذي أنجز في أسبوع واحد فقط.
صادقت، يوم الأربعاء الماضي، محكمة عسكرية تختص بمقاضاة جنود الاحتلال، على صفقة كانت قد أبرمت قبل ثلاثة شهور بين النيابة العسكرية الإسرائيلية ومحاميي الجندي، قاتل الشاب أحمد جمال مناصرة، حيث اكتفى قضاة هذه المحكمة الثلاثة بالحكم على الجاني بثلاثة شهور سجن، تستبدل بالعمل لصالح الجمهور، وبثلاثة شهور سجن إضافية مع وقف التنفيذ. لم يسمع القرّاء، على الارجح ، بتفاصيل تلك الجريمة ولا كيف تابعَتها أذرع الأمن وأخرجتها طاحونة «العدل» الإسرائيلية؛ وعلى الأغلب سوف تطوى الحادثة مثل كثيرات سبقتها، وستحفظ في سجلات العهر البشري، بينما ستستمر أنهر الحسرة الفلسطينية بالنضح.
يوم 20/9/2019 ، قرابة الساعة التاسعة مساءً، كان المواطن علاء غياضة، وهو من سكان قرية نحالين الواقعة غرب مدينة بيت لحم، عائدًا بسيارته برفقة زوجته وابنتيهما الصغيرتين من زيارة لأهلها في قرية أرطاس المجاورة؛ وعند وصول العائلة إلى مفرق «النشاش» توقف محرك سيارتهم فجأة، فركنها علاء إلى جانب الطريق، وترجل منها في محاولة لإعادة تشغيلها. ولسوء الحظ، يوجد بالقرب من ذلك الموقع برج مراقبة لجيش الاحتلال؛ فما أن نزل علاء من سيارته، حتى قام أحد الجنود المتمركزين فيه بإطلاق عيار ناري نحوه فأصابه في بطنه، ما أحدث أذى كبيرًا لاعضائه الداخلية.
على اثر إصابة زوجها طلبت ميساء غياضة المساعدة من مجموعة شبان كانوا عائدين، إلى قريتهم، وادي فوكين، من حفل زفاف لصديقهم، ومروا من هناك في تلك اللحظات بسيارتهم الخاصة. توجه الشبان الثلاثة نحو علاء المصاب ونقلوه إلى المستشفى؛ في حين بقي أحمد مناصرة بجانب الزوجة والطفلتين. حاول أحمد تشغيل المحرك إلا أن الجنود استأنفوا إطلاق النار صوب المركبة فاضطر النزول منها لتفادي رصاصهم، لكنهم استمروا بإطلاق النار حتى أصيب في صدره بعدة عيارات أدت إلى موته في مستشفى بيت جالاً بعيد نقله إلى هناك. حاولت عائلة مناصرة أبطال الصفقة التي اعترف بموجبها الجندي بالقتل بالإهمال، وبدون ذكر محاولة قتله لعلاء غياضة. لم تسمع منهم النيابة العسكرية فتوجهوا إلى محكمة العدل العليا وطالبوها بالتدخل للإعلان عن بطلان الصفقة، وتعديل لائحة الاتهام، فوفقًا لجميع الشهادات والمعطيات، فقد نفذ الجنود محاولة قتل وعملية قتل واضحتين. رفضت المحكمة العليا بتاريخ 23/11 الماضي التدخل، بحجة أن التماس العائلة قدم في وقت متأخر، اي بعد تقديم لائحة الاتهام واعتراف الجندي بها وأضافوا: «لا شك أننا بصدد حادثة صعبة كانت نتيجتها تراجيدية، ولا يوجد من يعترض اليوم على أنه تبين، بأثر رجعي، أننا لسنا بصدد عمل إرهابي، انما بصدد غلطة ارتكبها الجندي، حينما فهم انه يواجه محاولة تنفيذ عملية إرهابية».

ما يجري داخل المجتمع الإسرائيلي شبيه بمعركة ضارية على ترسيم آخر مناطق النفوذ وحسم قضية من سيضع ومن سيتحكم بقوانينها

اذن، هكذا أقرت هيئة المحكمة التي تشكلت من قاضيين مستوطنين، نوعم سولبرغ، وياعل فلنر، والقاضي ماني مزوز، بأن ما «جرى» كان مجرد غلطة ليس إلا.
قبل يومين من إصدار المحكمة العسكرية لحكمها المهزلة على الجندي القاتل بمقتضى الصفقة، وربما بتزامن عبثي يختزل كل إحداثيات المأساة التي تتداعى فصولها أمامنا، أعلن القاضي ماني مزوز، عن قراره ترك منصبه في نهاية العام الجاري؛ قبل أربعة أعوام من موعد تقاعده القانوني. فاجأ توقيت إعلان القاضي مزوز الكثيرين، لاسيما وأنه كان القاضي الرابع الذي يعلن عن استقالته المبكرة في أقل من أربعة اعوام؛ فقد سبقه في عام 2016 القاضي تسفي زيلبرطال، ثم تلاه في عام 2018 القاضي يورام دانتسيغر، وقبل مزوز كان قد أعلن نائب رئيسة المحكمة القاضي حنان ملتسر عن استقالته هو ايضًا؛ وجميعهم لا يُعدّون، في القاموس الاسرائيلي، على قضاة المحكمة «المحافظين». لم يعرف تاريخ هذه المحكمة منذ تأسيسها عام 1948 مثل هذه الظاهرة، التي بدأت تراكماتها تقلق بعض الغيورين على شكل نظام الحكم في اسرائيل، وعلى مستقبل الدولة؛ فمكانة المحكمة العليا الإسرائيلية وقضاتها كانت، داخل المجتمع اليهودي برمته، فوق كل الاعتبارات، والمحكمة نفسها سُوّقت في العالم منذ البدايات ككاتدرائية، تخصّبت بين جدرانها قواعد التنوير الصهيوني المدّعَى، وكمعقل حصين يشهد على إصرار قادة إسرائيل على بناء دولة عصرية، يكون فيها القانون وحراسه فوق كل الصراعات السياسية ومنافسات أصحاب المصالح ومراكز القوى على تفرعاتها.
لن نغوص هنا بكيف ومتى ولماذا بدأت معركة اليمين الجديد وانقضاضه على بنى الجهاز القضائي كله، لكنها اشتدت بعد سيطرة ذلك اليمين على البرلمان وعلى الحكومة ومؤسسات الحكم الرئيسية؛ فعندها رأينا بوضوح كيف شرعت قيادات هذا اليمين المنفلت والمتطرف بالعمل على اختراق واحتلال معظم المواقع المؤثرة في مراكز اتخاذ القرارات القضائية، وفي داخل المحاكم. وخير من عبرت عن هذا التحول وقادته كانت وزيرة القضاء السابقة اييليت شاكيد، حين أعلنت، بدون مواربة وبشكل حاسم، على أنها تسعى إلى تغيير الوضع القائم في جهاز القضاء، لاسيما داخل المحكمة العليا التي يجب أن يملأها قضاة «محافظون» يعرفون كيف يدافعون عن الدولة اليهودية وعن مبادئ الصهيونية الأصيلة. لقد قرأنا قبل إعلان القاضي مزوز عن استقالته، عن اجتماع لجنة تعيين القضاة الذي انعقد في الاسبوع الماضي، وعن قراراتها بتعيين واحد وستين قاضية وقاضيا، كان من بينهم ستة مواطنين عرب. هاجمت ممثلتا الكنيست في اللجنة، عضوتا حزب الليكود، أوسنات مارك والوزيرة ميري ريغف، مخرجات الاجتماع المذكور، ولم تعترفا بقانونية قراراته؛ علمًا بأنهما قاطعتاه لأنهما عرفتا بنية أعضاء اللجنة ترقية قاضي محكمة صلح القدس عباس عاصي، وتعيينه قاضيًا في المحكمة المركزية في المدينة، رغم ما يعرف عن شخصيته المعادية للشرطة وللجيش وللمستوطنين، وموقفه «ضد الصهيونية» حسبما جاء على لسانيهما في الصحافة. لن نعرف إذا كانت هنالك علاقة بين استقالة القاضي مزوز وما جرى ويجري في لجنة انتخاب القضاة، أو وراء كواليس المحكمة العليا، التي بدأت تُسمّن بقضاة أيديولوجيين، لا يأتمرون إلا بوصية أربابهم ولا يعنيهم إلا إرضاء ملوكهم وتحقيق مآربهم؛ وهم من أجل ذلك لن يبقوا لمزوز ولأمثاله من القضاة الصهاينة «التقليديين» أي هامش ليبرالي، أو قاعدة قيمية لا تتناسب وعقائدهم الدينية والقومية؛ فكل كنوز «الهيكل الأكبر» ستسخر، باسم القانون والتوراة وعدلها، وستقدم على مذابح «الرب والملك والوطن»؛ وقد يكون القاضي مزوز قد شعر بهزيمة «حلمه» وقرر كمن سبقوه الانسحاب.
سوف نشهد، في المستقبل القريب، استعار المعارك داخل المجتمع الاسرائيلي، حين سيتصارع فلول النظام القديم مع جحافل المملكة الجديدة. إن المواجهة في أوجها ولا يجوز لنا، كمواطنين وكضحايا، أن نبقى على الرصيف من دون أي موقف وعمل؛ فتعيين عشرات القضاة، وفي طليعتهم اربعة قضاة للمحكمة العليا، هي حرب اليمين الاسرائيلي المقبلة، وعليهم أن يظفروا بها ليتمموا مراسيم دفن «الرخاوة الليبرالية الحمقاء» وليُحكموا سلطانهم على البلاد وعلى العباد بدون تأتأة ولا تردد ولا مداهنة. علينا كاقلية، هي أول وأكبر الخاسرين من سقوط جهاز القضاء نهائيًا في ايدي اليمين الجديد، أن نسعى لوضع خطة في مواجهة «النظام الجديد»؛ فهو سيكون مختلفًا بشكل جذري عما سبقه، على الرغم من أن النظام القضائي القديم عاملنا بعنصرية مقيتة ولم ينصفنا بالمطلق.
ما العمل؟ أنا لا أملك حلولًا واضحة للخطر الذي استشعره، ولا أعرف بالتحديد ماذا يجب أن نفعل؛ لكننا لو بادرنا، واخصّ تلك المؤسسات والجمعيات المدنية التي تعمل في هذا القطاع، إلى وضع تصورات مهنية تكون اساسا للحوار وللنقاشات الجدية، فقد نجد بداية الطريق؛ أو ربما نتفق على تشكيل جسم مصغر تناط به مهمة الإعداد ليوم أو أيام دراسية يتفق على محاورها ويشارك فيها فقهاء القانون العرب واليهود والناشطون في هذه القضايا، والمتوافقون على تشخيص المخاطر المحدقة والأكيدة، وعلى ضرورة مجابهتها بالافعال وبالبرامج الحقيقية، حتى لو اختلفت الحوافز أو المخاوف أو الاهداف.
كاتب فلسطيني

 

 

ما المشترك بين عايدة ومنصور؟

جواد بولس

 

لا نستطيع التكهن إذا سيؤدي تصويت البرلمان الإسرائيلي على قانون لحل نفسه، كما جرى يوم الاربعاء الماضي، إلى نجاح التصويت عليه بقراءتين إضافيتين ضروريتين، كي يصبح قانونًا نافذًا وبابًا للذهاب إلى عملية انتخابات جديدة؛ فهنالك احتمال بأن يكون غانتس وحزبه في خضم مناورة سياسية خبيثة، تستهدف الضغط على نتنياهو وحزبه وإجبارهما على تحسين مواقع كاحول – لافان الحزبية، وتعزيز مصالح قادته الشخصية، والبقاء، بعدها، في هذه الحكومة؛ أو أن يتمكن أحد الحزبين من تركيب حكومة جديدة، من ضمن نواب هذه الكنيست؛ فعندها، وفي حالة نجاح أحد هذين الاحتمالين، لن يضطر المواطنون إلى خوض غمار معركة انتخابية والذهاب إلى صناديق الاقتراع للمرة الرابعة في غضون السنتين الأخيرتين .
وحتى نصل إلى نهاية المسرحية، أقترح أن نلتفت إلى بعض ما كشفته أحداثها في الاسابيع الاخيرة، خاصة في ما يتعلق بأداء القائمة المشتركة، التي بدت كالسمكة العالقة في شباك صياد ماكر وماهر؛ وليس أقل، الالتفات إلى أداء مؤسسات الأحزاب والحركات التي تتركب منها القائمة، وفي طليعتها الحركة الإسلامية ونجمها، النائب الدكتور منصور عباس.
من الواضح، وهذا ما قلته في الماضي، إن مواقف النائب عباس تنم عن نهج مدروس ومتكامل؛ ورغم أن البعض قد يحسب مناوراته ظاهرة جديدة، لكنها في الواقع ليست كذلك، فنحن إزاء فكر أيّدته في الماضي وتؤيده الآن مؤسسات الحركة الإسلامية، وتعلنه أمام جمهور ناخبيها وتدافع عنه أمام جميع المواطنين العرب، وتحاول استثماره بين المواطنين اليهود، وفي داخل المؤسسة الحاكمة، وعلى رأسها مكتب رئيس الوزراء نتنياهو. ولولا أن شعار القائمة المشتركة الانتخابي الأبرز والأهم سياسيًا، دعا جميع المواطنين إلى التصويت «من أجل إسقاط نتنياهو» ومنعه من إقامة الحكومة، فسيكون من الصعب لمن ليسوا من أتباع الحركة، مساءلتها على قرارها الأخير الذي ألزم نوابها بالتغيّب، ساعة التصويت، وبالامتناع عن دعم اقتراح إسقاط حكومة نتنياهو، الذي حظي، رغم تغيب النواب الإسلاميين الأربعة، على أكثرية واحد وستين صوتًا .ولأن الحركة الإسلامية نكثت ما أعلنته أمام ناخبي القائمة، فابقاؤها شريكة كاملة، بدون مساءلتها أو ضبط مسار تحركها المستقبلي، سيضر بمصداقية القائمة، كوسيلة نضالية جديرة بالاحترام، وبضرورة هذه الشراكة
وكي لا يساء فهمي، فأنا مع انتقاد قرارات النائب منصور عباس ومواقف حركته، لكنني ارفض التهجم عليهم وتخوينهم، فما يفعلونه سيبقى محسوبًا لهم وعليهم؛ وأدعو، بالمقابل، جميع من حاولوا المس بمصداقيتهم السياسية وتجريحهم، إلى مناقشة مواقفهم المعلنة وإلى العمل، في الوقت نفسه، على تغيير موازين القوى السياسية داخل مجتمعاتنا، وتعزيز أطرها الحزبية والحركية، وإكسابها القوة الكافية لتقف، بندّية متكافئة، مقابل الحركة الإسلامية، أو حتى التفوق عليها، اجتماعيًا وسياسيًا واقتصاديًا. وبكلام آخر فقد كشفت تداعيات الأحداث الأخيرة مدى الثقة الذاتية التي تتصرف بها الحركة الإسلامية وقناعتها برواج خطابها البراغماتي /الذرائعي المكشوف، ليس لكونه انعكاسًا حقيقيًا لمضامين ما تسميه الحركة، بتعميم مقصود، في أدبياتها التوعوية ونشراتها السياسية الحركية ودعاياتها الشعبية، بالثوابت الوطنية وحسب، إنما لتيقنها من ضعف مباني شركائها الفكرية والتنظيمية، نتيجة لما تعانيه أطرهم من ضمور تنظيمي، مثل الحركة العربية للتغيير، أو الاغتراب عن الواقع الحقيقي للمواطنين، مثل حزب التجمع، أو الهرم والتكلس التنظيميين داخل مؤسسات الحزب الشيوعي وتوأمه، الجبهة الديمقراطية للسلام، وما نعرفه من تفشّ للنزاعات الشخصية والمناكفات التي تملأ الجسدين جروحًا، وتنهكهما.
لا تنحصر علامات أزمة الأطر الحزبية والمؤسساتية القيادية الفاعلة بين المواطنين العرب على كيفية إدارة الأزمات المتوالدة بين مركبات القائمة المشتركة، وما اقتضته وتقتضيه هذه التجاذبات المكتومة أو الظاهرة من مراوحة بين صدامات معلنة، كما يحصل الان في قضية التصويت على إسقاط نتنياهو، أو بلجوء بعضهم إلى «نعمة الصمت» أو المسايرة الصاغرة، في مسائل خلافية، سياسية أو اجتماعية، لم ينجحوا بتجسيرها؛ مع أننا شهدنا أن هذا الخيار لم يكن مقبولًا على الحركة الإسلامية ولن يكون مقبولًا إذا كان الموقف المطلوب منها يندرج تحت ما يعتبرونه من الثوابت العقائدية، كما حصل في قضية التصويت على قانون منع إخضاع المثليين للعلاجات القسرية، الذي بسببه تحاسب النائبة توما، أو في معظم القضايا النسوية، أو في قضايا مهمة اخرى.

من الصعب التوقع بأن تبقى القائمة المشتركة ببنيتها الضعيفة، وبتحديات الحركة الإسلامية لطريقة أدائها، خيار الناخبين التقدميين الوحيد

لقد دُعيت النائب عايدة توما سليمان إلى مدينة قلنسوة لإلقاء محاضرة عن العنف ضد النساء، حيث كان من المقرر أن تحل ضيفة على المركز الجماهيري في المدينة يوم الأحد المنصرم. ومع انتشار خبر الدعوة في قلنسوة خرجت عدة فعاليات دينية بمناشدة علنية لحظر دخول النائبة الشيوعية عايدة توما إلى المدينة، مع تأكيد هؤلاء على ضرورة منعها من مخاطبة الأهل في المدينة، وإفساد عقولهم، لأنها دعمت وتدعم حقوق المثليين. لن اتطرق هنا إلى مسألة الإكراه والاعتداء على حريات الغير/ المختلف، وهي من الظواهر المتنامية والمتسيّدة في معظم قرانا ومدننا العربية؛ ولن أسرد، في هذا المقام، كم من النشاطات الاجتماعية، الفنية، المسرحية، الرياضية والأدبية، حوربت وقمعت في قرانا ومدننا، وأهملتها القائمة المشتركة كنوافل هامشية؛ لكنني على قناعة بأن خنوع فعاليات مجتمعنا التقدمية المختلفة ومعظم قياداته السياسية في تلك الحالات، وتراجعهم أمام القوى الرجعية، أدى اليوم لأن تدفع النائبة عايدة سليمان وغيرها فواتير تلك الهزائم . لقد وقف في الماضي قادة الحزب الشيوعي والجبهويون مع قادة القوى الوطنية والتقدمية، وقاوموا الممارسات العنصرية الصهيونية وقمع الدولة بصلابة وبجدارة، لكنهم حافضوا، في الوقت نفسه، على قلاعهم من أي عبث أو تنمر أو فساد أو جنوح داخليين، فحافظوا على قيم مجتمعنا الموحدة، واحترموا حريات وحقوق كل الشرائح والفئات الأصيلة، حتى حفلت كل قرية ومدينة بقصص هؤلاء وبنوادرهم في تحصين الهوية الجامعة، وصيانة الانتماء الوطني والإنساني الحقيقي، ولكن.. بعد رحيل تلك الكوكبة العنيدة والواضحة، صارت المواقف الحزبية تفصّل على مقاسات البعض بانتهازية موجعة، وتنتقى بنخبوية مقيتة وتقر بشللية هدامة، وتمارس بتزمت بغيض، حتى عشنا وشفنا اليوم كيف يصبح منع ناشطة نسوية بارزة، فلسطينية شيوعية ومناضلة ميدانية مثابرة، ممكنًا من قبل ابناء جلدتها، ومتاحًا في مدينة عربية أنجبت الأحرار والشريفات والمناضلين.
لم تتخذ القائمة المشتركة موقفًا ازاء ما واجهته النائبة عايدة توما، لكننا، رغم ذلك، لمسنا في حالتها، بخلاف حالات سبقت، حراكًا لافتًا ضد محاولة قمعها، وقرأنا بيانات حازمة وشاجبة، كانت قد أصدرتها مؤسسات الحزب الشيوعي والجبهة وحزب التجمع وإدارات عدة جمعيات مدنية، حيث عبّر فيها جميعهم وبما لا يقبل الشك، عن معارضتهم للموقف الداعي إلى منع دخول عايدة توما والتحريض عليها بسبب مواقفها وانتماءاتها المعروفة. لم تستسلم قلنسوة، كما حصل في حالات سابقة في مواقع عديدة في البلاد، ومع أن المركز الجماهيري بقي موصدًا، كانت بعض بيوتها الدافئة مفتوحة؛ فاستقبلت الضيفة بحفاوة ومعها عشرات الناشطات والناشطين والقت محاضرتها في بيت الدكتور ثابت أبو راس، وهو الناشط والمناضل من أجل حقوق أبناء شعبه منذ اكثر من أربعين عامًا، والمعروف بمواقفه التقدمية والإنسانية الشجاعة من قبل ولادة عدة حركات وتنظيمات يدعي اليوم بعض ناشطيها اليافعين أنهم يريدون تعليمه وتعليم رفيقاته ورفاقه في الدرب، كيف تكون الثوابت الوطنية.
لقد كشفت الأزمة داخل المشتركة عن بواطن الخلافات الأساسية داخل مجتمعنا، وليس بين جدران القائمة وحسب، وهذا في حد ذاته وجه القضية الحسن، لكنها، وهذا وجه القناع الثاني، أوقفتنا أمام مرايانا الذكية، حيث ظهر في أعاليها سؤال المرحلة الصعب وهو: هل تستطيع هذه الاحزاب والحركات، ببناها الفكرية والتنظيمية القديمة الجديدة، أن تشكل الأداة الصحيحة وتعطي الرد المتوازن لمشكلة وجودنا في دولة ما زالت مؤسساتها لا تعرف إلا أن تعاملنا كغرباء، أو اعداء، أو مستأجرين غير محميين؟ وهل يستطيع قادة تلك الاحزاب والحركات أن يستدلوا على الوصفة الصحيحة، لوقف زحف شركائهم، النائب منصور وحركته، نحو تلك الحقول البعيدة والملغومة؟
من الصعب التكهن حول مستقبل الحكومة الحالية وحول نتائج الانتخابات المقبلة، إذا حصلت؛ ولكن، ليس من الصعب التوقع بان القائمة المشتركة ببنيتها الحالية الضعيفة، وبسبب تحديات الحركة الاسلامية لطريقة أدائها اليوم وفي المستقبل، لن تبقى خيار الناخبين التقدميين، العرب واليهود، الوحيد؛ فأنا وكثيرون مثلي نطالب بمعرفة ماذا يجمع بين فكر عايدة توما المرأة المتحررة والشيوعية، ونصيرة حقوق المستضعفين والمستضعفات، والمسيحية المولد، وابنة الثقافة العالمية، وشريكة في المنصات الشعبية والمظاهرات الكفاحية، وثوابت الحركة الإسلامية العقائدية المعروفة والوطنية الغامضة؟ ونطالب أن نعرف ماذا يجمعها مع من يرفض، بسبب هويتها ومواقفها ومبادئها، أن يدخلها آمنة إلى بلده والى بيته؟ وهل سيحميها زملاؤها وأحزابهم عندما تُعلن حرب عليها؟ فما لم يحمها ويحمي غيرها بيت «المشتركة» فما الداعي لمثل هذه القائمة؟
كاتب فلسطيني

 

 

النائب عن الحركة الإسلامية

منصور عباس ولافتة قف

جواد بولس

 

ما زال مصير القائمة المشتركة غامضًا؛ ولا نستطيع التكهن بما ستفضي إليه المناكفات التي اندلعت، وما زالت تتداعى، بين النائب عن الحركة الإسلامية منصور عباس، وزملائه في الجبهة الديمقراطية وحزب التجمع الوطني.
لم أتفاجأ شخصيًا من هذه المواجهة، خاصة بعد أن شهدنا مقدمات لها حصلت في الأشهر الماضية؛ فحذرت، في حينه، من خطورتها ومن عواقب الاستكانة إلى فرضية وهمية أفادت بأن الوحدة بين الحلفاء الأربعة هي قدَر، وأنها خيارهم الوحيد الممكن، الذي يضمن لجميعهم البقاء في الكنيست والمحافظة على القائمة، التي وصفها الكثيرون، بمجازية شرقية مبالغ بها، على أنها الابنة الشرعية لإرادة الجماهير سننتظر لنرى نهاية الحكاية التي سيؤثر فيها، تمامًا كما أثر في بدايتها، فرمان «السلطان»، وموقفه إزاء مسألة «نسبة الحسم»، فإذا أبقاها عالية، كما هي اليوم، سيضطر الأربعة إلى الاعتدال والعودة إلى «البراغماتية»، وهي في عالم تاهت فيه التعريفات وديست القيم، رشد سياسة العاجزين وترياق الضعفاء المنقذ؛ أما إذا أنزلها، فستفتح أبواب سوق الاحتمالات؛ وقد نرى حينها الحركة الاسلامية منافسة لشركائها، علاوة على شتى أصناف البسطات «الحزبية»، حامضها ومرها، وسنسمع، أيضًا، تغاريد العجب.

«لهم أسلوبهم ولي أسلوبي»

هكذا صرّح الدكتور منصور عباس في إحدى تغريداته الأخيرة، محاولًا الدفاع عن بعض مواقفه الخلافية وتبرير سلوكه، الذي أقر بأنه «تجاوز خطوطًا اعتاد النواب العرب على وضعها في الزاوية»، وسأل، في تلك التغريدة، على سبيل توضيح الفارق بين الأسلوبين: «عندما ينعَتُ أحد الاعضاء رئيس الحكومة بالكذاب، أو يقوم بشتمه، هل يتوقع بعدها أن يوافق رئيس الحكومة على طلباتنا؟ وهل هذا التصرف سيعود على مجتمعنا بشي؟» لم ينتظر النائب عباس ردًا من أحد، بل أردف في الموقع نفسه قائلا: «ذاهب للعمل لخدمة وتعزيز مكانة مجتمعي بشكل فعلي، وليس لتسجيل المواقف، وأنا اعتمد أسلوبًا حضاريًا بالحوار وموضوعيًا بالطرح يخلو من الشعبوية».
لم يكلفني أحد بالدفاع عن «القائمة المشتركة» لكنني كمواطن منحها صوته، وأنجح القائمة والنائب عباس، يحق لي ولغيري أن نسأل: هل هذا هو أسلوبه الحضاري؟ هل يحسب أنه إذا اتهم حلفاءه بالتخلف وبعدم الموضوعية وبالشعبوية، وهكذا يفهم من كلامه، سينجح بتبرير علاقته الملتبسة مع بنيامين نتنياهو؟ وهل بالسلوك المؤدب والخلق الحسن، سيحقق إنجازات لم نحققها خلال مسيرة عقود من الصمود والكفاح البرلماني والميداني؟ على النائب عباس أن يراجع مواقفه الغريبة والمستفزة لقطاعات واسعة من ناخبي القائمة المشتركة، التي توالت في مناسبات عديدة، مثل تصرفه عندما كان يرأس جلسة الكنيست وموافقته على إلغاء التصويت الذي دعا إلى إقامة لجنة تحقيق ضد نتنياهو في قضية الغواصات؛ مرورًا بمخاطبته الحريرية لضباط الشرطة، الذين حضروا جلسة لجنة مكافحة العنف في المجتمع العربي، وموقفه الخطير من قضية انتشار السلاح غير المرخص بين المواطنين العرب وتبريره، غير المباشر، لحيازة النسبة الكبيرة من تلك القطع، إذا لم تكن مخزنة لأغراض إجرامية مباشرة، وبعدها تكرار مواقفه الودودة من بنيامين نتنياهو وتمنّعه من وصف نتنياهو بالعنصري، خاصة عندما سئل عن ذلك مباشرة في لقاء متلفز على قناة «واينت»، أذيع يوم الاربعاء الفائت، فاجاب: «قراري قرار شجاع، ولن أصف أي شخص بالعنصري، لا ضد نتنياهو ولا ضد أي احد آخر، فأنا ملتصق بالحقائق هل توجد عنصرية في اسرائيل؟ توجد هل توجد فجوات بين اليهود والعرب؟ توجد حتى بين اليهود واليهود توجد فجوات، أنا استعرض الامور بصورة موضوعية وأريد أن أعالجها» هكذا بكل بساطة وحزم أجاب ممثل «الحركة الإسلامية» حين سألته مذيعة يهودية: ألا تعتقد أن نتنياهو عنصري؟ ألا يحرض ضد الجماهير العربية؟ فإن كانت هذه شجاعة سياسية فكيف يكون «مسح الجوخ» في السياسة؟

إذا استمر النائب عباس في نهجه، فسيترتب على الشركاء في القائمة المشتركة إيجاد «اللافتات» التي ستقنعنا بالتوجه إلى صناديق الاقتراع وانتخابهم مرة أخرى

لقد صرح النائب عباس، في أكثر من مناسبة، بأنه يمثل، بنهجه وبمواقفه حركته الأم الحركة الإسلامية؛ التي بدورها أعلنت ببيان نشرته بعد اجتماع ضم أعضاء مجلس شورتها وقيادييها، أنها «تثمن عاليًا جهود جميع نوابها في البرلمان لخدمة وتعزيز مكانة مجتمعنا، وعلى رأسهم ابنها البار النائب الدكتور منصور عباس رئيس القائمة العربية الموحدة، وبالذات جهوده في الإصلاح ومكافحة الجريمة والعنف في مجتمعنا العربي، وجهوده البارزة لدفع الحكومة لإقرار خطة حكومية شاملة لمكافحة العنف والجريمة»، لم أخلص إلى نتيجة واضحة من لغة البيان، ففي مطلعه، كما قرأنا، أشادوا بجهود النائب منصور عباس، ثم تعمدوا، بعد ذلك، اللجوء إلى صياغات فضفاضة لا غبار عليها سوى أنها عامة وتحمل في طياتها معاني كثيرة وتجيز السير في اتجاهات متناقضة؛ رغم تأكيد الحركة على أنها كما سعت «في السابق وضحّت من اجل تعزيز وحدة القائمة المشتركة، فإنها ستبقى حريصة على الحفاظ على هذا المشروع الوطني»؛ لكنها تشترط لقاءها مع الشركاء، في الوطن والمسيرة والكفاح وفي العمل السياسي عمومًا، بعدم الخلاف «في ثوابتنا الدينية والوطنية»، وما أدرانا ماذا يقصدون بالثوابت الوطنية، خاصة أن النائب منصور يؤكد أن نهجه هو النهج العملي الناجع والوطني القويم!
لم ينه بيان الحركة الإسلامية هذه الأزمة؛ ولم يحقق ذلك إبراهيم صرصور النائب السابق عن الحركة في الكنيست ورئيسها حتى عام 2010، عندما أضاف توضيحه الشخصي لما جرى في اجتماع القيادة المذكور، وكتب يوم الجمعة الفائت: «من أجل أن يكون موقفي واضحًا، هكذا أفهم، موقف الحركة الإسلامية من التطورات السياسية الأخيرة والجدل حولها»، فان الحركة «تحتضن الدكتور منصور عباس تمامًا كما احتضنت قيادات من أبنائها سبقوه في الموقع الحالي، إلا أنها رفعت أمامه «لافتة قف» كما لن تتردد في رفع مثلها أمام أي قيادة من قياداتها، إذا دعت الضرورة لذلك مع التأكيد على أنها لا تشك لحظة في حسن نية الدكتور منصور عباس، لكنها تطمح إلى أن يكون حسن التصرف في كل الأحوال هو الترجمة الصادقة لحسن النية وصدق العزيمة ومضاء الإرادة».

كلام في منتهى الأهمية ولكن..

يبقى الفصل والحقيقة، اذن، عند «حسن التصرف، وصدق العزيمة، ومضاء الإرادة»، فقد استبعد ابراهيم صرصور، كما كتب، أن يعود الدكتور منصور عباس لمثل تصريحاته في الفترة الأخيرة، خصوصًا لأنه «واحد من أكثر القيادات فهمًا لمبادئ الحركة وخطوطها الحمر، وتنفيذًا لتوجهات قيادته»، ورغم ذلك، فما فعله النائب منصور لاحقًا كان معاكسًا لما توقعه، أو ربما تمناه، القيادي الإسلامي المجرب ابراهيم صرور، وذلك حين سئل النائب منصور في لقائه المذكور مع «واينت» ، في ما اذا كان يعتقد بان نتنياهو يعمل لصالح المجتمع العربي، أو لصالح العرب في اسرائيل؟ اجاب، وفقًا لمنهجه المعهود وبأسلوبه الملتوي، قائلًا: «كل حكومة اتخذت قرارات كان بعضها لصالح المجتمع العربي، لكنني أريد لهذه القرارات والمشاريع التي يعلنوها أن تكون حقيقية، وأن تجيب على مشاكل المجتمع العربي؛ هذه وظيفتي»، هكذا، وبعكس ما كانوا وكنا نتوقع منه، نراه مرّة أخرى يدافع بشكل غير مباشر، لكنه مكشوف، عن نتنياهو، ويتمنع عن انتقاد ممارساته العنصرية وهجومه الدائم على المواطنين العرب، وعلى ممثليهم في الكنيست، ولا يواجه محاولاته لنزع شرعية وجودنا والنضال من أجل حقوقنا وانتخاب مؤسساتنا السياسية والمدنية. لم يتراجع النائب منصور عن طريقه الصدامي مع زملائه في القائمة المشتركة؛ ولئن ظهر في البدايات وكأنه يسعى للإطاحة برئيس القائمة المشتركة، أيمن عودة وحسب، تبين لاحقًا أن «جبهته» القتالية مفتوحة على عرض القائمة كلها، ففي لقائه الأخير، قبل أيام مع القناة 20 اليمينية المقربة من نتنياهو، أعلن، بما يشبه الابتزاز لشركائه، بأن استمرار القائمة المشتركة مشروط «باتباع النهج الذي يمثله وانها ستفقد مبررات وجودها، إذا ما كررت الأخطاء والمواقف نفسها»، وهذا ما دفع زميله في القائمة النائب عن حزب التجمع الديمقراطي، الدكتور امطانس شحادة، اتهامه بالانشقاق عن القائمة، والتأكيد على أن نهج النائب عباس ليس هو نهج شعبنا الذي يريد حقوقه بكرامة وعنفوان أصحاب البلاد.
كل التوقعات جائزة، لكنني لا أعرف ماذا قصد ابراهيم صرصور عندما كشف أن الحركة الاسلامية رفعت في وجه النائب عباس منصور «لافتة قف»؟ ولا أعرف أي لافتة قد ترفع في وجه من لا يتوقف عند خطوط «حركته الحمر، أو لا ينفذ توجهات قيادته»؟ لكنني على قناعة أنه إذا استمر النائب عباس في نهجه، وهذا ربما كان حقه وحق حركته، فسيترتب على الشركاء في القائمة المشتركة إيجاد «اللافتات» الصحيحة التي ستقنعنا، نحن المصوتين، بالتوجه إلى صناديق الاقتراع وانتخابهم مرة اخرى .
*كاتب فلسطيني

 

 

المواطنة… الهوية…

قتل النساء والأمل المفقود

جواد بولس

سأتطرق اليوم لحدثين محليين شغلا بال الناس، وتصدرا عندنا واجهات المواقع الإخبارية والثرثرات الاجتماعية. ورغم كونهما منفصلين تماما، أشعر بوجود رابط وثيق بينهما، وأرى أنهما يعبران، كلٌ بمكوناته، عن وجود الأزمة الخطيرة نفسها التي تعبث في قسمات هويتنا، وتؤثر فينا وعلينا كمواطنين في إسرائيل.
كان الشارع الرئيسي في مدينة عرابة الجليلية مسرحًا لجريمة قتل امرأة عربية جديدة تدعى وفاء عباهرة، طعنت في وضح النهار حتى فارقت الحياة، وتركت على صفحة النسيان خمسة تذكارات صغار سيكبرون على أهداب الحسرة ودروب الضياع.
وقعت الحادثة يوم الاثنين الفائت؛ فبدأت المواقع الاخبارية وصفحات التواصل الاجتماعي بنشر تفاصيلها، ومعلومات عن الضحية وعن المشتبه في قتلها، الذي كان على ما يبدو طليقها؛ وتوالى الشرح عن فصول في حياتهما، وعن محطات في مسيرة زواجهما وعثراته، حتى الوصول إلى مشهد موتها التراجيدي.
سوف ينشغل الإعلام بعد أيام قليلة بمأساة جديدة، وسينسى الناس اسم وفاء كما نسوا اسماء الأربع عشرة ضحية اللواتي كن قد سقطن قبلها منذ مطلع العام الحالي، أو أسماء عشرات القتلى الرجال الذين أعدموا في شوارع قرانا ومدننا، بعمليات إجرامية تُمارس يوميًا، وبدون روادع على الإطلاق؛ سوف ننسى!
من منا، نحن أحفاد الرمل، بحاجة إلى مسارح الخوف، وإلى قصص الخيال، ومن يريد أن يتذكر سجلات «الوفاء» المستحيل وصور الخواصر المبقورة ؟ وكما في كل مرة ذبحت فيها امرأة عربية على خلفية ما يسمى «شرف العائلة» أو لكونها ذلك «الشيء/المتاع» الذي يملكه بعلها، أو أفراد عائلتها وقبيلتها، تَدافَعَ، هذه المرة أيضًا، عشرات من السياسيين والناشطين/ات الاجتماعيين/ات ومعهم فَراشُ الإلكترونيات الدائم الحومان؛ وأطلق الجميع سهامهم نحو قلب العبث، وأسهبوا في تحليل أسباب وقوع هذه الجريمة، وعددوا قوائم المتهمين بها وبغيرها، بينما حاول بعضهم اقتراح بعض الحلول لمواجهة الظاهرة أو سبلًا للحد من تفشيها.
لم يُتفق، كما في المرات السابقة، على تشخيص أسباب انتشار ظاهرة قتل النساء، ولم يُتوافق على كيف يجب أن تصنف تلك الأسباب، حسب أهميتها وتأثيرها؛ وبقيت المسألة رهينة بين نظريات المؤامرة الصهيونية، واستبداد هوية الصحراء، أو تداعيات مجتمعات الحداثة والاستهلاك. لم أقرأ بيانًا باسم القائمة المشتركة في أعقاب حدوث الجريمة، مع أن أخبار القائمة كانت تملأ الفضاءات، لاسيما بعد انتشار الانتقادات العنيفة بحق النائب منصور عباس، وبعد أن اتهمه شركاؤه في القائمة عن حزب التجمع الوطني، وعن الجبهة الديمقراطية، بالتفرد في اتخاذ قرارات لا يوافقون عليها سياسيًا، وبإطلاقه بعض المواقف الخلافية التي عكست فهمه لطبيعة التواصل مع الحكومة ورئيسها نتنياهو، وموقفه ازاء وسائل التعاون مع مختلف الوزارات، وبالاخص مع وزارة الشرطة ورؤيته الودودة الخاصة لدورهم في مواجهة الجريمة والعنف المستشري في مجتمعاتنا.
لا يمكن ولا يجوز أن نرى بما حصل في قضية النائب منصور عباس، كتعبير عن نزوة شخصية، ولا أرى بما فعله تجليًا لنجومية يسعى وراءها، كما حاول البعض أن يدعي؛ ففي هذه الحالة، وبخلاف لتصرفات نجومية مارسها في الماضي، أو قد يمارسها مستقبلًا، هو أو بعض زملائه، كان تصرفه نابعًا عن إيمان مطلق بصحة طريقه السياسي، الذي يعبر عن طريق حركته الاسلامية، وعن قناعتهم المذهبية الخاصة بمفهوم المواطنة، وبحدود الوسائل المجازة لممارستها. فالنائب منصور عباس يؤمن بضرورة التصرف «الذرائعي» البراغماتي حتى النهاية، لأن تأمين المنافع لابناء المجتمع هو غاية الغايات وهدفه من وراء دعوة رئيس الحكومة وضباط الشرطة لجلسة لجنة مكافحة العنف في الوسط العربي، التي يرأسها باسم القائمة المشتركة، كان كما صرح «تحصيل قرار بخطة حكومية لمكافحة العنف والجريمة، وليس لتسجيل موقف ضد الحكومة أو الشرطة.. فأنا» هكذا أجاب جميع منتقديه «أعي جيدًا الفرق بين التواجد في مظاهرة رفع شعارات، والتواجد في جلسة رسمية لاتخاذ قرار».

لن نعبر إلى ضفة مستقبلنا الآمنة الأخرى إذا لم نتعاط مع الأسئلة الصعبة، ونضع لها الإجابات الصحيحة

لقد رفض النائب منصور جميع التهم والانتقادات الموجه إليه من شركائه، الشيوعيين والقوميين، واتهمهم، بالمقابل، باحتكار سياسة التخوين، التي حسب رأيه لم تبدأ ولن تنتهي بمنصور عباس؛ فالوحدة السياسية عنده وعند حركته لا تعني بالضرورة ما تعنيه لدى سائر مركبات القائمة، وهو لم يخفِ ذلك، حين كتب على صفحته بوضوح، وأكد على أن «ثوابتنا العقائدية والوطنية واضحة، ولم ولن نقدم بها أي تنازلات ولن نساوم عليها» فجميع حركات الإسلام السياسي لا تساوم بأمور الثوابت العقائدية، خاصة في مواجهة حركات معادية لها سياسيًا وعقائديًا. وهذا أيضًا ما يجعل مفهوم «الوطنية» لديهم سائلًا ومتحركًا، ولا يمكن صبه في قالب ثابت. وكما نرى فهو يعرف الوطنية «بان تعمل من اجل شعبك ومجتمعك والا تقوم بتصرفات قد تضر بمصالحه» ولا يقر بكون هذا التعريف فضفاضًا وتضليليًا إلى حد بعيد، وخاليًا من العمق السياسي ويبقي حدود العمل الوطني غير معرفة، بل يمكن مطها حتى تصل إلى حضن «السلطان» أو إلى مسايرة سياساته أو مقايضتها، باسم البراغماتية، خاصة إذا مكنتك تلك «القيادة» العملية من تحصيل بعض المكاسب المنفعية لصالح «شعبك» ومجتمعك . لا يمكن التجسير على هذه الهوة التي حفرت، ولن يسعى النائب منصور إلى ردمها بسهولة؛ فالمواطنة، كما يحاول هو أن يمارسها، ليست هي المواطنة نفسها التي ينادي بها إخوانه في القائمة المشتركة؛ والوطنية التي يعمل هو بهديها، لا تشبه وطنية شركائه على الإطلاق، علاوة على أن هوية النائب منصور تختلف بالتأكيد عن هوية زملائه في القائمة؛ فهو وإخوانه في الحركة الاسلامية سيعرفون انفسهم أولًا وثانيًا وثالثًا كمسلمين لا يساومون، وحقهم طبعًا، ولا يتنازلون عن ثوابتهم ويجاهدون من أجل وطن مشتهى هو دولة الخلافة التي يسعون لإقامتها بدون هوادة أم مهادنة.
كما ستبقى ثوابته الاجتماعية حواجز تبعده عن زملائه في القائمة في عدة قضايا مثلما حصل في مسائل حقوق بعض الجماعات والأفراد والنساء، لاسيما من تعتبرهن العقيدة العاصيات أو الزانيات أو الناشزات أو المتحررات أو الفاجرات أو المتبرجات؛ وما يعد لهن من قصاص وعقاب وحدود. فمكانة النساء وحقوقهن كانت وستبقى محور صدام وارد بين مركبات القائمة، فلا الوطنية تسعفهن، ولا المواطنة تنجيهن ولا الثوابت الهوياتية تشفع لهن. ستبقى جرائم قتلهن باسم ذلك «الشرف المخاطي» في المجتمعات العربية شائعة، كما كانت من أيام العرب الاوائل، وسهلة الممارسة ما بقيت حاضناتها تمتح من عمق آبار ثقافتنا الموروثة منذ قرون، وتتأثر من عناصر هويتنا الاجتماعية المحنطة، وتعشش في عرى حكام خضعوا لسطوة القبائل ولقوة العقائد، ورفضوا تحريم هذا النوع من القتل، وابقوا في قوانين دولهم (ما عدا تونس ولبنان وفلسطين) بنودًا تعفي القاتل باسم «الشرف» من العقاب بشكل تام أو تخفف حكمه بشكل كبير. لقد قتلت وفاء في وسط شارع رئيسي وأمام اعين المارة، وستتحول قريبًا إلى رقم يضاف إلى قوائم الإحصاء، وفي نشرات مؤسسات المجتمع المدني، وسيمضي النائب منصور وحركته برسم معالمهم على طريق مواطنة منقوصة، وستبقى شوارعنا ممالك للعرابيد، وبيوتنا حيّزات هشة ومستباحة، وسينام الناس وهم يلعقون عجزهم مثل القطط، ويدفن بعضهم موتاهم بصمت ويعودون إلى «كهوفهم» بقلوب يدميها الجزع.
لن نعبر إلى ضفة مستقبلنا الآمنة الاخرى إذا لم نتعاط مع الأسئلة الصعبة، ونضع لها الاجابات الصحيحة: فمن نحن؟ هو سؤال الأسئلة، وماذا نريد؟ هو السؤال التالي، وكيف سنصمد وننتصر؟ ثم يأتي بعده، ومن يقود، ومن يقرر في ماذا، هما المحك لانتقاء الطريق والحلفاء وللحذر من المنزلقات والاعداء.
كاتب فلسطيني

 

 

الأسرلة

والتأسرل والعالم المقلوب!

جواد بولس

 

رأينا في المقالة السابقة كيف تعمّدت جميع أجنحة الحركة الصهيونية، وبضمنها نظام إسرائيل القضائي، بمختلف درجات محاكمه، إجهاض إمكانية تشكّل «هوية إسرائيلية» واحدة، لو قيّض لها النمو لصهرت بداخلها، مع مرور السنين، كل المواطنين، اليهود والعرب وغيرهم، الذين عاشوا ويعيشون في الدولة، ولاحتوتهم كأفراد وكمجموعات، وجعلتهم يمارسون حياتهم بشكل طبيعي، وفق ما تمليه عليهم منظومة القوانين، وتخطه حدودها من حقوق وواجبات، على اختلاف منابعها وأصولها ومرجعياتها، كما هو الحال في معظم الدول الحديثة.
لم تولد تلك الهوية المدنية الجامعة لسبب أساسي وهو، موقف وعنصرية الحركة الصهيونية، التي خططت منذ البدايات لإقامة دولة يهودية خالية من العرب، رغم كونهم سكان البلاد الأصليين.
فشلت الصهيونية بتحقيق مرادها، فقامت إسرائيل وبداخلها بضع عشرات الآلاف من الفلسطينيين، الذين رفضوا ابتلاع «الطُعم» فنجوا وبقوا، في بيوتهم/حصونهم، تذكاراتٍ نازفة لعمق الفاجعة من جهة، وتحدياتٍ صارخة لقمع وممارسات حكومات صهيونية عنصرية، شرع قادتها، منذ اليوم الاول لإعلان نصرهم، بالتفتيش عن بدائل أشرس، بعد فشل مخطط حركتهم الأم. حُسم مصير الأسرلة؛ مع أنها كحالة متخيّلة، هي عدوة الدولة اليهودية ونقيضها؛ ورغم ذلك، تحوّلت «الأسرلة» على ألسن بعض المواطنين العرب إلى مسبة شعبوية تطلق في جميع الاتجاهات، من دون رقابة حقيقية، أو تكال كمزايدات أو كتعبير عن جهل متسيّد في مجتمعاتنا؛ وكانت تختلط أحيانًا مع تهمة «التأسرل» رغم وجود اختلافات جوهرية بين الحالتين، أو هكذا يجب أن يكون. قد يكون أول من رفع شعار «الأسرلة» بمعنى المساواة المواطنية التامة، هو الحزب الشيوعي الإسرائيلي، فرفاقه الأوائل وضعوا اللبنة الاولى لما أصبح فيما بعد مطلب الجماهير العريضة: «دولة لجميع مواطنيها».
«التأسرل» في المقابل، ورغم استحالة تشكل الأسرلة، هو ممارسة جائزة ، لكنها لا تأخذ في حياتنا شكلًا واحدًا، بل قد تنعكس في عدّة سلوكيات ويعبّر عنها بعدة مضامين ليست جميعها، بالضرورة، سلبية ومرفوضة، كما يحاول البعض إيهامنا.
هنالك خلط بين الحالات التي يسمّونها، هكذا على وجه التعويم والتعميم، بالتأسرل المشبوه؛ وأجزم أن هذا الخلط مقصود، ففي ثناياه يضيع العميل الحقيقي والمُخبر والمفسد والمثبط للعزائم؛ وتختلط حدود الاندماج وممارسات المواطنة وما إلى ذلك من حلقات يصرّ البعض على ضبطها في الحزمة نفسها تحت اسم «التأسرل» ومساواتها بشكل مغرض. صار العميل في لغة العامة مثله مثل من يربح مناقصة لرئاسة مستشفى، أو من أصبح عميدًا في جامعة إسرائيلية، أو رئيسًا لمجلس إدارة شركة كبيرة، أو مديرًا لعيادات صندوق مرضى «مكابي» أو «مئوحيدت» أو مفتش معارف، أو قاضيًا أو قائدًا لكتيبة في جيش الاحتلال، أو مشاركا في مظاهرة عربية يهودية ضد الفاشية، وضد الاحتلال، أو رئيس بلدية متعاونا، أو كابتن منتخب إسرائيل، أو مضيء شعلة «المجد» الإسرائيلي، أو عاملًا يبني جدار الفصل العنصري، أو مهندسًا في شركة إسرائيلية، تستغل المناجم في نيجيريا؛ ومثلها من حالات لا عد لها ولا حصر، قد يعتبرها البعض وفق قاموس «الفوضى الوطنية» كلها تأسرلًا ؛ والبقية عند من غابوا ونسوا أن يضعوا الحدود ويصححوا الخرائط ويصلحوا البوصلات ويلقوا اليواطر. فهل كل ما ينعت بالتأسرل هو حقًا خروج عن «الصف الوطني» أو وفق بعض «القضاة « يعدّ عمالة أو كفراً؟

الهوية، كما قال محمود درويش: «دفاع عن الذات، إن الهوية بنت الولادة، لكنها في النهاية إبداع صاحبها، لا وراثة ماض.»

لن نعالج لماذا ومتى شاعت هذه السهولة في إطلاق الاتهامات للغير المختلف، ومتى ضاع قاموس الكفاح الشعبي ومفرداته؛ لكنني أعرف أن حكومات إسرائيل وأعوانها كانوا من أوائل المستفيدين من هذه البلبلة، وهم من ساهموا في زرع مناخات الالتباس ودق الأسافين، ووسعوا الشروخات وأقاموا، في سبيل تعزيزها «هوائيات» التشويش البشرية، الحركية والحزبية. ليس كل ما يُذمّ كتأسرل يجب أن يكون محظورًا! فبعض حالاته قد تعني الإصرار على ممارسة حقوق المواطنة الإسرائيلية، التي ننادي بها ونناضل من أجل فرضها على الدولة وعلى مؤسساتها، وهو في هذه الحالات فعل محمود؛ وبعضه قد يعني السعي وراء الاندماج في عروق الدولة، ورفض إصرار ساستها العنصريين على إقصائنا واعتبارنا مشاريع تهجير مخزّنة في ادراجهم. والتأسرل، وليس العمالة مثلًا، قد يطلق بالقصد على من يخدم في جيش الاحتلال، أو على من يتبنى الرواية الصهيونية ويقبل بنشرها في وجه رواية شعبه، و«المتأسرل» قد يكون صحافيًا يعمل في تلفزيون «مكان» أو في منصة إعلامية صهيونية أخرى مع أنه ينشر، بإصرار وبجرأة، مواقفه الإنسانية والتقدمية؛ بينما، لا يكون متأسرلًا، بالمقابل، من يعمل في فضائيات العرب، التي تتغنى بإسرائيل، وتخدم حكام تلك الدول المستبدين، ولا تنشر إلا الفتنة والفرقة والعصبية. والتأسرل يمكن أن يكون قبول صانع أفلام فلسطيني، أو فنان محلي لدعم مادي من صندوق إسرائيلي معدّ لدعم مواطني الدولة، ولا يكون منكراً إذا كان المال قطريًا أو تركيًا أو فرنسيًا أو أمريكياً.
إننا نعيش اليوم في عالم مقلوب، حيث يهاجم فيه، مثلًا، النائب منصور عباس، رئيس الحركة الإسلامية الجنوبية، من قبل إخوانه في الحركة الإسلامية الشمالية ومن الشيوعيين والقوميين في الوقت نفسه، وينعت من قبل جميعهم بالمتأسرل والمتصهين، وأنا لا أفهم كيف ومتى توحّدت مصالح تياراتهم على هذه الجبهة؟ وفي الوقت نفسه تطرد اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الإسرائيلي من صفوفها عضوين يهوديين فاعلين بتهمة مشاركتهما في نشاط لمجموعة اسمها «نقف معًا» علمًا بأن آلاف منتسبيها يناضلون ضد الاحتلال الإسرائيلي، ومن أجل العدالة الاجتماعية والمساواة التامة للمواطنين العرب. إنه عالم مقلوب، لاننا نرى فيه قيادات الحزب الشيوعي الإسرائيلي، الذين دعوا في أنظمة حزبهم «إلى إنشاء جبهة يسار يهودية عربية تكون قادرة على أن تقترح لشعبينا برنامجًا مقنعًا من أجل الخروج من الأزمة الراهنة والسير على طريق السلام والمساواة. الحزب الشيوعي الإسرائيلي يسعى إلى عمل مشترك واسع يقوم على قاعدة متفق عليها، مع أحزاب وأوساط وشخصيات ذوي رؤى مختلفة» – يجهضون محاولات توسيع الصفوف من أجل مصلحة «شعبيهم» ويتسابقون، مثل الاخرين، بإطلاق شتائم التأسرل والتصهين والعمالة بحق رفاقهم وقادة من حزبهم وجبهتهم. إنه عالم مقلوب حيث نرى فيه قادة اسلاميين فاخروا مرة بقربهم من خيمة ملك العربية السعودية، لكنهم هجروها ولجأوا إلى عباءة السلطان أردوغان، وفي كلتا الحالتين لم يترددوا بالصاق تهم «التأسرل» والتهكم على قادة القائمة المشتركة المنتخبين من أبناء شعبهم. إنه عالم مقلوب حين نرى رفاقًا شيوعيين بعد أن تخرّجوا من الجامعات الأممية، وعادوا منائر علم إلى اسرائيل، واستوعبوا في شرايينها الصهيونية ودخلوها آمنين وغانمين بنعمة المواطنة، وهم غير متأسرلين، لكنهم يحاربون رفاقهم بتهم المتأسرلين والمتصهينيين والامبرياليين.
ما الأسرلة إذن وما التأسرل ؟
لن نتوصل إلى تعريف واحد تجمع عليه الاحزاب والحركات السياسية بيننا؛ لكنني لم أفهم، كما قلت، كيف يتوحد الشيوعيون الاسرائيليون، عربًا ويهودًا، مع الإسلاميين ومع القوميين على تعريف بعض حالات التأسرل؛ وقد كنت أتخيّل أن هذه الامكانيات مستحيلة؛ وذلك ببساطة لأن الحزب الشيوعي الاسرائيلي آمن ويؤمن، لا عن طريق التكتيك السياسي، بحل الدولتين للشعبين، وبخلاف ما يؤمن به الإسلاميون، مثلًا، الذين لا يقرّون بحق اليهود في إقامة دولة على أي جزء من أرض فلسطين، التي يعتبرونها وقفًا إسلاميًا معدّاً لاستقبال دولة الخلافة الإسلامية عن قريب؛ وكذلك لأن خلاف الشيوعيين مع القوميين، ما زال كما كان قائمًا حول شرعية إسرائيل وكونها تجسيدًا لحق اليهود بتقرير مصيرهم، وما يترتب على هذا الخلاف من شعارات سياسية ووسائل كفاحية. لا أنكر وجود قواسم مشتركة بين هذه التيارات الثلاثة، لكنني أخصّ هنا قضية «التأسرل» ومضامينها كما نواجهها في حياتنا اليومية؛ فهنالك فروق جوهرية ازاءها، إن لم تحدّدها قيادات الحزب الشيوعي والجبهة الديمقراطية، فستبقى «الفوضى الهوياتية» طاغية، والتيه السياسي مستمراً، وسيبقى كل هاو أو حاو أو مغرض قادرًا على سحب «جوكره» وإطلاق تعريفه لفعل «التأسرل» وكأننا في لعبة ورق عبثية !
لا فراغ في السياسة؛ فإن غبتَ عن موقع سيزرع غيرك فيه؛ وإسرائيل لا تغفو ومثلها من يؤمن أن مشروعه صار قاب قوس وأدنى، وأنّ الفرج يقهقه على أدراج القدر؛ والهوية، إن نسيتم يا رفاق، هي كما قال الدرويش في طباقه: «دفاع عن الذات، ن الهوية بنت الولادة، لكنها في النهاية إبداع صاحبها، لا وراثة ماض ..»
كاتب فلسطيني

 

الأسرلة

جواد بولس

 

 «الأسرلة» وصف شاع في السنوات الأخيرة كمذمّة يطلقها البعض في وصف فعل، أو دعوة، أو مبادرة اجتماعية أو سياسية أو اقتصادية أو ثقافية، بهدف تشويه سمعة الفاعل/الداعي/ المبادر ومهاجمته، ووأد فعله لكونه «غير وطني» ولا يخدم مصالح المواطنين العرب في إسرائيل، كما يراها ويعرّفها ويؤمن بها أولئك المهاجمون والمنتقدون. فما الأسرلة إذن؟
يغيب عن بال معظم المنشغلين في هذه القضية، موقف قادة الحركة الصهيونية والمؤسسة الحاكمة بكل أجنحتها، الذين حسموا هذه المسألة منذ البدايات وأجهضوا إمكانية نشوء حالة «الأسرلة» الرسمية، حين قمعوا كل محاولة فردية أو جمعية للمطالبة بها. قد يكون قضاة المحكمة العليا في ستينيات وسبعينيات القرن المنصرم هم السباقون، و»أبطال» هذه المهمة، فقراراتهم المبكرة والمثابرة حالت عمليًا دون امكانية نشوء «هوية مدنية إسرائيلية» لجميع مواطني الدولة، تشمل بداخلها مركبات ثانوية أخرى مثل الديانة وغيرها.
جاءت قرارات المحاكم الإسرائيلية قبل تشريع قانون القومية بخمسين عامًا، في عدة قضايا، حاول من خلالها بعض المواطنين اليهود وغير اليهود تسجيل أنفسهم في هوياتهم كـ»إسرائيليين» وليس يهودا، إلا أن صهيونية القضاء وعنصريته وتحيّزه، منع قوننة «الأسرلة» لإبقاء اليهود، حسب هذه القرارات، أسياد البلاد، والآخرين ضيوفًا يجلسون على الريح. لقد ثبّت القضاة عبر تلك السنين «إسرائيل» اسماً لدولة كانت وستبقى دولة يهودية لا يسكنها «إسرائيليون» بل يهود، لأنها كما كتبوا في قراراتهم، كيان قام «كدولة يهودية في أرض اسرائيل، وكحق طبيعي للشعب اليهودي، كي يعيش مثل باقي الشعوب في دولته اليهودية السيادية». فلا يوجد انفصام بين اليهود والإسرائيليين، ولن يكون. إذن، ما بين أسرلة مستحيلة وغيرها من الحالات، بعضها مستكره وبعضها طبيعي، تضيع الطاسة وتذوب الفوارق وتنتعش الفطريات.
يساورني شعور بأنّ الغالبية العظمى من المواطنين العرب لا تولي هذه الحالة اهتمامًا جدّيًا، ولا تتوقف عند ما يعنيه حقيقةً مُطلق التقريع؛ فأكثرية الناس تسمع هذه «المسبة» بحق فلان، أو تلك المجموعة المتهمة بذلك الفعل المدان، ويمضون إلى مواقع عملهم، وإلى مصادر أرزاقهم المرتبطة بطبيعة الحال بأسواق الإنتاج والعمل والاستهلاك الإسرائيلية. لا يمكن أن تغطي مقالة أسبوعية واحدة كل جوانب هذه القضية الملتبسة؛ ولذلك سأكتفي اليوم بالتطرق إلى مهاجمة بعض الأفكار السياسية الخارجة عن نطاق المألوف، والانتقاص من محاولات بعض الأشخاص أو المجموعات اقتحام المستقبل بأدوات وبطروحات سياسية جديدة؛ وقد شهدنا الموجة الاخيرة من هذه الهجمات ضد مجموعات من الأشخاص البارزين، والمشهود لهم بانتمائهم الحقيقي لقضايا شعبهم ولمصالح مجتمعاتهم، كان بضمنهم النائب أيمن عودة. بعض من الذاكرة لن يضر.. فعندما كنا طلابًا جامعيين في أواسط سبعينيات القرن الماضي، عشنا مخاضات سياسية ثلاثية الأضلاع؛ كطلاب عرب وقفنا معًا في وجه القوى اليمينية التي كان يقودها في حينه من أصبحوا اليوم وزراء في الدولة كيسرائيل كاتس وتساحي هنجبي وأيفيت ليبرمان وغيرهم، ممن يتحكمون في أجهزة الدولة وسياساتها؛ أما داخليًا فكانت المواجهة محتدمة بين «جبهة الطلاب العرب» وفي طليعتهم وقف رفاق الحزب الشيوعي الإسرائيلي، و»حركة أبناء البلد» التي دأبت على رفع شعارات قومية، وعلى نعت الحزب الشيوعي بالأداة الإسرائيلية وعلى مهاجمة تاريخ نشاطاته قبل إقامة اسرائيل وبعدها.

أحداث يوم الأرض كانت عتبة مهمة لتجذير مفهوم المواطنة الكاملة ووضوحها كرافد للبقاء السليم، وكونها استحقاقًا طبيعيًا لنا

لا أعرف من يذكر اليوم تفاصيل تلك الصدامات، فالمواجهات تعدت رفض «حركة ابناء البلد» لشعارات «الحزب الشيوعي» السياسية ورؤيته للحل، من خلال إنهاء الاحتلال الإسرائيلي، وإقامة دولتين لشعبين، بل وصلت إلى حالات من التخوين السافر، والاشتباكات الجسدية العنيفة، إذ أن شعار القوميين في تلك السنوات أكد على أن تحرير القدس سيمر أولا بتحرير جزيرتي «سبتة ومليلة» المغربيتين من براثن الاحتلال الإسباني، وعلى أن حل القضية الفلسطينية لا يكون إلا بالمقاومة، وإقامة دولة ديمقراطية واحدة على جميع أرض فلسطين؛ ومن لا يؤمن بذلك فهو خائن ومفرّط. كانت الأسرلة، إذن، وقتئذ «الوصمة» الكبرى التي ألصقها ناشطون قوميون، أو بعضهم ادّعى القومية، بأهم تنظيم سياسي عمل على بعث روح البقاء والصمود بين الأقلية الفلسطينية، الناجية من مزايدات القوميين، وبعد أن هندس قياديّوه، برؤى حكيمة وكفاحية واقعية، ضفتي نجاتها في الوطن: هوية فلسطينية جامعة، ومواطنة إسرائيلية متساوية بالحقوق. في تلك السنوات لم يكن مصطلح «الأسرلة» شائعًا كمسبة، كما في أيامنا هذه، وقد يكون جديرًا دراسة أسباب ذلك؛ لكنني أجزم أن من بين تفسيرات تلك الحالة، سنجد وضوح تعريف «العمالة» ومضامينها والإجماع شبه البديهي على من يكون العميل أو «الذنب» كما درجت العامة على تسميتهم.
وإلى جانب ذلك سنجد، كذلك، أن عدم نضوج فكرة المواطنة داخل مجتمعاتنا التي واجهت حتى عام 1966 قمع الحكم العسكري الإسرائيلي، لم يدفع المواطنين إلى الاهتمام بماهية «الأسرلة» لاسيما وقد عاش معظمهم تحت رهبة ونفسية النكبة، التي لم يخرجوا منها، إلا إبان أحداث يوم الأرض، الذي من دون شك كان عتبة مهمة لتجذير مفهوم المواطنة الكاملة ووضوحها كرافد للبقاء السليم، علاوة عن كونها استحقاقًا طبيعيًا لنا.
لقد رافق تلك التطورات وعي قيادات ذلك الزمن بضرورة إنشاء شبكة من الأطر المساندة والكفيلة برسم السياسات المرغوبة والضرورية من جهة، وبمواجهة ممارسات الدولة العنصرية من جهة أخرى، فكانت ولادة «اللجنة القطرية لرؤساء المجالس المحلية والبلديه العربية» ومعها مجموعة من الجمعيات الأهلية والشعبية والنقابية، عناوين مكلفة بمتابعة البعد المدني واستحقاقاته المواطنية، أما «اللجنة العليا لمتابعة شؤون الجماهير العربية» فجاءت لتداري الرافد القومي، وما يتفرع عنه من ضرورات وموجبات ومهام؛ وبقيت الأحزاب والحركات السياسية المشاركة في الكنيست عناوين لإدارة المعركتين، وفق ما يراه كل حزب وحسب عقائده وأولوياته.
من دون أن نستعرض جميع المحطات السياسية والتحولات الاجتماعية التي مرت بها مجتمعاتنا المحلية بعد تلك المرحلة، من المهم أن نلحظ أن أهم المتغيرات التي طرأت عليها، لم تكن بالزيادة العددية وحسب، بل بنشوء شرائح جديدة وطبقات اجتماعية حديثة، أفضت ولادتها إلى نمو شبكة من المصالح، الفردية والجمعية، مع الدولة، وفرضت، بالتالي، أنماط اشتباك واندماج مع مؤسساتها لم نعهدها من قبل.
استمرت المحاولات لخلق التوازن داخل المعادلة الثنائية، حيث بقيت الجبهة الديمقراطية وأدواتها المجرّبة والعريقة رأس الحربة في هذه المهمة، إلا أنها، لأسباب كثيرة، لم تعد قادرة على أداء هذا الدور، ودخلت مؤسساتها في حالة من التكلس والجمود، وراح بعض قادتها ينافسون زملاءهم من الأحزاب الاخرى في الجري والتودّد لزعماء العرب ولطغاتهم، والتراخي أمام تنامي مدّ حركات الإسلام السياسي، حتى ضاعت بوصلة الجماهير المجرَّبة، واختلّ قاموس المعاني، فلم يعد للعميل تعريف يجمع عليه، ولا كل وطني مأمول، واستحضر كل حاو «إسرائيله» حتى غدت «الأسرلة» هوى وموالا يغنيه كل «ثائر» على هواه.
في ظل «فوضى القيادة» ومع جنوح المجتمع الإسرائيلي إلى يمينيّة عنصرية وفاشية سافرة، وبسبب عوامل خارجية ومحلية أخرى، ازدادت قوة الأصوات المطالبة بعملية الإقصاء الذاتي، ومقاطعة مؤسسات الدولة، فسادت حالة من العدمية الخطيرة، التي أوصلت مجتمعاتنا إلى حالة من «السيلان الهوياتي» والتدحرج نحو قاع الهاوية، وإلى عبثية لم تعد محتملة؛ فصار أهون على بعض المتعاطين بالسياسة، والخائفين على مواقعهم الحزبية، مهاجمة الأنقياء والمجتهدين ورميهم بتهمة الأسرلة حينًا والصهينة أحيانًا، بينما نراهم يصمتون ويخنعون امام العابثين في خيرات بلداتهم والمفتنين والمتطاولين والفاسدين والبلطجيين.
ما الأسرلة إذن، ومن يقرر ما هي وما بينها وبين أحكام المنفعة أو «العثمنة» أو «البلشفة» أو «القطرنة» أو «البوتنة» أو «السعدنة» أو «البشرنة»؟ ومتى تكون مذمومة ومرفوضة، حتى يستحق من يمارسها تهمة الخروج عن الصف الوطني أو المتصهين أو الجاسوس؟
يتبع ..
كاتب فلسطيني

 

صائب… مفارقات

غريبة ومسيرة طويلة

جواد بولس

 

ما زال أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير صائب عريقات، يرقد في مستشفى «هداسا» الإسرائيلي بوضع صحي حرج، لكنه مستقر، حسبما أفادت عائلته مؤخرًا.
وقد أصيب الدكتور صائب عريقات بفيروس كورونا، وبقي تحت المراقبة الطبية المحلية في بيته الكائن في مدينة أريحا، إلى أن تدهورت حالته الصحية بشكل مقلق، ما استوجب نقله إلى مركز طبي فيه ما يلزم من طواقم مؤهلة، ومعدّات ملائمة لتأمين الرعاية الطبية المثلى، لمن خضع مثله قبل ثلاثة أعوام لعملية زرع رئتين في أحد مستشفيات أمريكا.
لم تمرّ هذه الحادثة من دون أن يتناولها بعض الفلسطينيين بانتقاداتهم الشديدة، أو بالتهكم أحياناً أو بالتشفي، أو بالتعبير عن رفضهم لاختيار عائلة عريقات نقل مريضهم إلى مستشفى إسرائيلي، فقد كان أولى بهم، حسب أولئك المعقبين، إبقاءه تحت إشراف أطباء فلسطينيين، أو نقله إلى إحدى الدول العربية، مثل الأردن
في بداية تسعينيات القرن المنصرم، أصيب والدي، وهو في منتصف خمسينه، بسرطان الكبد، كنا نحبه كثيرًا، كأب وكمعلم لنا في المدرسة، وكصديق صدوق عندما كبرنا. خفنا أن نفقده وهو مازال في قمة تألقه وعطائه، فحاولنا أن نجترح المعجزات لننقذه، وتعلقنا بكل تميمة ودعاء، وسعينا وراء كل بارقة أمل وفرصة للنجاة. بعد جهود واستئناس برأي الخبراء، الذين يعملون مع أخينا الطبيب، فهمنا أن أهم قسم لعلاج هذا النوع من السرطان موجود في مستشفى مدينة هانوفر الألمانية؛ تواصل أخونا منذر مع زميله الطبيب الجراح المتخصص هناك، واتفقا على نقل والدنا ليجري العملية عندهم. لن أحدثكم عما عانيناه قبل اتخاذ القرار، ولا كيف تخطينا جميع العثرات؛ فقد قررنا أن نبذل كل ما نستطيع لتأمين الفرصة، مهما كانت ضئيلة، من أجل انقاذ «بطلنا». كانت عمليته معقدة، لكنها تمت بنجاح؛ فاستؤصل الورم وعدنا لنحيا في ظله بضعة أعوام قليلة، قبل أن ينتصر عليه المرض مجدداً ويرحل عنا بسلام.
لقد تعرفت إلى صائب عريقات في مطلع ثمانينيات القرن المنصرم، وكان يعمل محاضراً للعلوم السياسية في جامعة النجاح في مدينة نابلس، ويكتب كلمة تحرير جريدة «القدس» التي ما زالت تملكها اليوم عائلة صاحبها الراحل الصحافي العريق محمود أبو الزلف. كان الاحتلال يرصد جميع ما ينشر باقلام فلسطينية، خاصة إذا كانت مقالات تخاطب عقول النخب الليبرالية في الجامعات الغربية، وفي سائر المحافل والمعاهد الدولية، لاسيما إذا كان يعتمد كتّابها على السردية الفلسطينية الناضجة، واللغة العلمية الحازمة، وتلك التي كانت توثق جرائم الاحتلال وممارساته اليومية بطريقة مهنية. طلب صائب أن يقابلني ذات مساء، وأوضح أنه يريد مني استشارة قانونية؛ واقترح أن نلتقي في مكاتب جريدة «القدس» في شارع علي بن أبي طالب قبل انتقالها إلى مقرها الجديد بجانب مطار القدس في منطقة قلنديا. دخلت غرفة أبي مروان، محمود أبو الزلف، حيث كان يستقبل فيها في الأمسيات الأصدقاء وبعض أعلام القدس، في جلسات كانت تتناثر فيها الطرائف والنوادر الممتعة، وكان عبق التجارب يتطاير من جنباتها؛ وكنا، أنا وصائب حينها، أصغر الحضور سنًا.

لم انتظر طويلًا لافهم سبب استدعائي، فقد كان موضوع حديث لمة ذلك المساء هو، لائحة اتهام قدمتها نيابة الاحتلال الاسرائيلي ضد صائب عريقات لدى المحكمة العسكرية في نابلس بتهمة التحريض والإخلال بالنظام العام. كانت محكمة نابلس العسكرية واحدة من عدة محاكم نشرها الاحتلال في عدة مدن فلسطينية محتلة؛ وكانت تعمل من داخل مبنى قديم أقامه البريطانيون، واستغله جيش الاحتلال مقر حكمهم على تلك المنطقة، وسجنا ومحكمة عسكرية. قرأ القاضي التهمة، فأنكرتُها باسم صائب، محاولا أن أشرح أن المقال، الذي يعتبرونه تحريضاً، هو محض موقف سياسي لأكاديمي، يندرج ضمن حرية التعبير عن الرأي، وعليه يجب إغلاق الملف بحق موكلي.
كانت سياسة ترهيب المثقفين في أواسط الثمانينيات في أوجها، كجزء من مخطط شامل للاحتلال، استهدف وجود الحركة الوطنية بشكل عام، وبناء بدائل محلية لها.
دخلنا المحكمة ونحن على قناعة أن نجاحنا في المعركة القانونية سيكون شبه مستحيل؛ فدور المحاكم العسكرية كان قد أعد منذ البدايات، ليضفي على ممارسات الاحتلال شرعية كاذبة، وليسوّغ، بوسائل «قانونية» شبه عسكرية، سياسات الاحتلال وقمعه ضد جميع الفلسطينيين. وكما توقعنا حصل؛ فقد قبل القاضي، بعد سماع الادعاءات ومرافعات الطرفين، طلب ممثل النيابة العسكرية، فأدان صائب بتهمة التحريض، وانتقلنا إلى مرحلة تحديد العقوبة، التي لم تشغل بالنا في البداية، لأن معظم الإدانات المشابهة بقضايا التحريض كانت تنتهي بالحكم بعقوبة السجن لبضعة شهور معدودة، مع وقف التنفيذ على المدان، وبفرض غرامة مالية خفيفة عليه. إلا أن المدعي طلب بشكل مفاجئ تعليق الجلسة لمدة نصف ساعة، كي يجري اتصالاً ضرورياً، حسب ما أدلى به لمحضر الجلسة. استؤنفت المداولات بعدها؛ فوقف المدعي وألقى خطبة قصيرة أكد فيها على سياسة العقوبات المعروفة في مثل هذه القضايا، لكنه اضاف أنهم قرروا في هذه القضية أن يحيدوا عن تلك السياسة ويطالبوا المحكمة بإلقاء عقوبة السجن الفعلي لمدة ستة أشهر بسبب مكانة المتهم وعمله كمحاضر.
لم أصبر حتى نهاية مداخلته، فقاطعته بغضب واضح، وحاولت أن أطلب من القاضي تأجيل الجلسة لموعد آخر، كي نعد مرافعتنا الدفاعية، ونفند ما تحاول النيابة ادعاءه؛ فلم يعطني القاضي فرصة للكلام، وكان يسكتني بعناد مقزز، وبطريقة مستفزة، وأنا، من جانبي، أصر على تسجيل طلبي في المحضر. صارت أجواء القاعة مشحونة فنظرت صوب صائب، الذي بدت على وجهه علامات الدهشة، وعدم استيعاب ما يجري حوله. وفجأة أعلن القاضي أنني متهم بتحقير المحكمة وقام في الثانية نفسها بإدانتي وبفرض غرامة مقدارها ألف وخمسمائة شاقل على أن أدفعها فورًا. أجبته، بدون انتظار، أنني أرفض قراره، ولن ادفع الغرامة بالمطلق. تدخل المدعي العسكري وطلب تأجيل الجلسة بعد أن شعر بأن الامور قد تخطت ما تصوره.
في أحد الفحوصات الدورية التي أجريت في منتصف عام 2000 لرئيس دولة إسرائيل عيزرا فايتسمان في مستشفى رامبام الحيفاوي، تبين أنه بحاجة لتركيب جهاز حديث ومعقد يقوم بتنظيم عمل قلبه، عن طريق إجراء عملية جراحية حساسة ومستعجلة. أُخبر فايتسمان أن من يستطيع إجراء هذه العملية في المستشفى هو طبيب عربي متخصص في هذا المجال؛ لكنه منح، في الوقت نفسه، إمكانية اختيار طبيب بديل من خارج البلاد لو رغب. «أحضروا الطبيب العربي»؛ قال فايتسمان لطاقم مستشاريه، ففي هذه الأمور يجب أن يعود الإنسان إلى أصله الأول ويتصرف بإرادة نقية خالية من كل شائبة، زيدت عليها خلال مسيرة حياته طويلة كانت أم قصيرة.
كان ذلك الطبيب هو أخي منذر، الذي اختار مع زملائه من المستشفى نفسه، مدينة هانوفر الألمانية ملجأ لنجاة والدنا. نجحت عملية فايتسمان؛ فكتبت الصحف أن طبيباً عربيا أنقذ قلب رئيس الدولة؛ وذلك في مفارقة قد أغلقت دائرة عبثية وأبقت للتاريخ مشهداً انسانياً خالياً من أي زوائد أو شوائب.
أعلن قبل عشرة أيام عن وفاة نائب رئيس جهاز المخابرات العامة السابق يتسحاك إيلان عن عمر ناهز الأربعة والستين عامًا، بعد إصابته بفيروس كورونا. هاجر يتسحاك ايلان إلى اسرائيل من جورجيا وتجند عام 1982 لجهاز «الشابك» وتقدم في صفوفه، حتى شغل في منتصف الثمانينيات منصبًا رفيعًا ومسؤولًا في منطقة «يهودا والسامرة»؛ وهي الفترة ذاتها التي اتهم وأدين فيها صائب عريقات بالتحريض والإخلال بالنظام العام. خضع إيلان قبل عام لعملية زراعة رئة، ونقل بعد إصابته بالفيروس إلى مستشفى بيلينسون، حيث فشل الأطباء بإنقاذ حياته. اعتاد صائب أن يروي تفاصيل ما جرى معنا في محكمته كشهادة على عبثية القضاء العسكري، وكان يعيد الحكاية مراراً وتكرارا من باب الدعابة والشهادة على تاريخ علاقتنا الشخصية؛ خاصة بعد أن ترك عالم الأكاديميا ومضى على دروب السياسة الشائكة والمضنية؛ وهي ليست حكايتنا اليوم.
لا أعرف كم ممن تعرضوا لحالته اليوم يعرفون سيرته على حقيقتها؛ لكنني أعرف أن من حقه أن يحيا، وأن إنقاذه واجب حتى لو حصل بأيادي أطباء إسرائيليين؛ وأعرف، أيضا، أن إقحام صائب السياسي من قبل معارضيه في هذه المرحلة هو تجن، فالحياة لمن لا يعرف هي سلسلة مفارقات يهندسها الحظ ويغذيها العطاء ويثبتها الوفاء وتهدمها الشماتة ويحبطها الفشل.
كاتب فلسطيني

 

من يسمع صرخة هذا

«الأخرس» من أجل الحرية

جواد بولس

 

ردت المحكمة العليا الإسرائيلية يوم الثلاثاء المنصرم التماس الأسير الفلسطيني ماهر الأخرس، ابن قرية سيلة الظهر التابعة لمحافظة جنين، ورفض قضاتها الثلاثة طلب محاميته الإفراج عنه، بسبب تردّي حالته الصحية ووصولها إلى مرحلة تنذر باحتمال موته الفجائي في كل لحظة؛ حسب إفادات الأطباء، الذين يتابعون مسيرة إضرابه عن الطعام، التي بدأها في يوم اعتقاله في السابع والعشرين من تموز/يوليو الماضي، والإعلان عن حبسه إداريًا لمدة أربعة أشهر، من المفروض أن تنتهي في السادس والعشرين من تشرين الثاني/نوفمبر المقبل.
لم يفاجئ القرار كل من يعمل في الدفاع عن الأسرى الفلسطينيين، لاسيما من دافعوا عمن خضعوا لتجربة الاعتقال الإداري، وحاولوا طيلة خمسة عقود، الاستجارة بعدل محكمة فُوّضت، عن خبث، بصلاحية استقبال التماسات المتظلمين الفلسطينيين ضد سياسات الاحتلال، وسلّمت عن تخطيط مسبق، مهمة لتسويغ ممارسات الاحتلال ولفها بأوراق من عدل زائف وتسويقها، في رحاب العالم المتحمس لإجارة إسرائيل «الضحية» كبيّنة لكونها دولة منصفة بحق الجميع، حتى بحق ألدّ أعدائها الذين يقاومونها ويعتدون على سلامة شعبها بالكلمة وبالسكين وبالمولوتوف.
كانت هذه في الواقع جولة الأسير الأخرس الثالثة، التي حاول فيها، في أقل من شهر، أن يقنع المحكمة بضرورة الإفراج عنه لأسباب صحية، لكنه لم يحصد في جميعها مبتغاه؛ بل واجه ما واجهه في الماضي إخوانه ممن خاضوا مثله إضرابات طاحنة عن الطعام، ووصلوا، مثله أيضًا إلى حلق القدر، ولم تسعفهم نزاهة المحكمة؛ بل أكد تصرف جميع قضاتها وفاءهم للدور، الذي كان مرسوما لهم، وإنهم فعلًا ذراع الاحتلال الطولى وجنوده «الحكماء» الذين يعرفون كيف يبيعون ظلم احتلالهم للشعب الفلسطيني، حتى لو كان عاريًا، في أسواق «ضمائر الأمم» الفاسدة، ويقلبون الحقائق في مسارح العبث، وينالون إعجاب النخب وفقهاء الشعوب «المتحضرة».
لقد شهدت نضالات الحركة الأسيرة الفلسطينية، على طول مسيرتها، إضرابات قاسية عن الطعام، برزت من بينها، في آخر عقدين، ظاهرة الإضرابات الفردية، حيث وصلت حالات بعض المضربين إلى منطقة الخطر الحقيقي، كما هي حالة ماهر الأخرس في هذه الأيام؛ ورغم ما كان يتوقعه كل صاحب ضمير من قضاة يخدمون في محكمة سميت مجازًا «محكمة العدل العليا» فقد تصرف القضاة بدون حرج أو ضيق، وأوجدوا بدهاء لافت وغير مسبوق، مخرجًا قضائيًا هدفه إسعاف قادة جيش الاحتلال وجهاز المخابرات العامة، حين اخترعوا تقنية «تعليق» نفاذ أمر الاعتقال الإداري الذي كان يواجهه الأسير ساعة وصوله إلى لحظة الصفر؛ فعلقوا أمر اعتقاله، لكنهم قضوا بابقاء المضرب في المستشفى نفسه بصفته مريضًا يخضع للعناية الطبية والمراقبة، إلى أن يرتقي نحو سمائه أو يستعيد عافيته، فعندها يحق للقائد العسكري إحياء أمر الاعتقال مرة أخرى. إنها فذلكة جهنمية أفضت عمليًا إلى إبطال منزلة الفلسطيني، المقاوم بخواء معدته، وحوّلته من أسير حرية إلى مجرد مريض وشبه منتحر بإرادته، علمًا بأنه محجوز في قفص «عدلهم» ولا يملك حق اختيار أطبائه ولا مشفاه.

وحدة الحركة الأسيرة شرط لنجاح نضالات أفرادها الجماعية والفردية، واتفاقهم على آليات نضالهم، سيبقى ضرورة مصيرية ومسؤولية وطنية عالية

حاول القضاة إغواء الأسير الأخرس، وإقناعه بإيقاف إضرابه مقابل الالتزام بعدم تمديد أمر اعتقاله بعد السادس والعشرين من نوفمبر المقبل، وعندما رفض الأسير عرضهم قاموا برد التماسه، بعد أن قام القاضي سولبرغ كاتب القرار، باستعراض حيثيات ما جرى قبل تلك الجلسة، مؤكدًا على أن هيئة سابقة من ثلاثة قضاة كانت قد علقت، في الثالث والعشرين من شهر ايلول/سبتمبر المنصرم، أمر الاعتقال الإداري الصادر بحقه، وابقوه في مشفى «كابلان» في مدينة رحوبوت، كمريض بدون أصفاد. كان قرارهم، كما قلت، متوقعًا، فهذه التقنية صارت في حكم السابقة القضائية الملزمة، ولن يشذ عنها أي قاض من قضاة المحكمة، فما بالكم إذا كان اثنان من هيئتها، التي أصدرت حكمها قبل أيام، مستوطنين يعيشان على أرض فلسطينية محتلة، وشغل ثالثهم منصب مستشار الحكومة القضائي زمن وقوع أحداث اكتوبر من عام 2000 الدامية. شهدنا، بعد صدور القرار، ردود فعل متزنة على الساحة الفلسطينية، فقادة السلطة الفلسطينية وبعض المؤسسات الناشطة في الدفاع عن الأسرى الفلسطينيين، وعن حقوق الإنسان شجبت بحرقة قرار المحكمة الإسرائيلية واتهمت القضاة بأنهم يشرّعون عمليًا قتل المواطن الفلسطيني، حتى لو لم يكن متهمًا بأي تهمة، ولم يُدن في محكمة عادية، ونادوا بوجوب وقف سياسة الاعتقالات الإدارية المنافية لجميع المواثيق الدولية؛ بينما ذهب قادة حركة الجهاد الإسلامي، التي ينتمي اليها الأسير ماهر الأخرس، كما جاء في نص أمر الاعتقال الإداري، إلى تهديد اسرائيل بإمطارها بالقذائف، إذا لم تفرج عن الأسير، أو إذا حدث له أي مكروه. وتحرك نواب القائمة المشتركة داخل الساحة الإسرائيلية، وزار بعضهم الأسير في مشفاه متضامنين معه، وشاركوا مع قيادين آخرين، كرئيس لجنة المتابعة، محمد بركة، في وقفة متواضعة دعت إليها اللجنة امام المستشفى، وفي وقفات أخرى شاركت فيها اعداد من الناشطين والمحتجين. بدأ الاسرى الفلسطينيون في السجون الاسرائيلية باتخاذ بعض الخطوات الاحتجاجية وأعلنوا عن نيتهم تصعيد نضالاتهم حتى يتم الإفراج عن الأسير. في المقابل، طغى صمت الشارع الفلسطيني على المشهد العام وغابت تلك الطفرة الشعبية والعالمية التي شهدناها قبل سنوات، مع بداية
نشوء ظاهرة الإضرابات الفردية، كتلك التي رافقت إضراب الشيخ خضر عدنان، ومن أضربوا بعده مباشرة في تلك التجربة المهمة. يسألني البعض، عن خوف ومرارة، عن مصير ماهر الأخرس، وعن موقفي من ظاهرة الإضرابات الفردية، فأجيب، أن إسرائيل، بمؤسساتها الأمنية والقانونية، ستبقى المسؤولة عن حياة ماهر وعن سلامته، وسنعمل أنا وزملائي بإصرار من أجل الإفراج عنه؛ لكنني مازلت لا استوعب متى سيقرر الفلسطينيون إعادة النظر باستمرارهم في طرق «ضمير» المحكمة العليا الاسرائيلية، فأنا لا أفهم ماذا ينتظر مقاوم يصرخ: إما الحياة بكرامة وبحرية وأما اللاحياة، من قضاة يرونه «مخربًا» وحسب، ويعتبرون احتلالهم لأرضه تحريرًا واستعادة لحق رباني أُعطوه منذ الأزل.
لم اكن يومًا من أصحاب المواقف المطلقة، فقد أكدت سابقًا وأوكد اليوم على أن الاضرابات الفردية هي أداة مشروعة من أدوات النضال والاحتجاج ضد الاحتلال، التي لجأ إليها الأسرى في الماضي والحاضر؛ وهي أداة أن أجيد استعمالها تؤدي حتمًا إلى إحراز نجاحات وإلى تحقيق ما وراءها من مطالب، ولهذا فأنا لست من أنصار نفيها بالمطلق، ولا إجازتها بالمطلق. ستبقى منفعة استعمالها مقيدة بتعريف الهدف والمطلب اللذين من أجلهما يعلن الإضراب، بعد الأخذ بجميع الظروف المحيطة بزمن ومكان إعلانه؛ فكلما كان الهدف محددًا وواضحًا وواقعيًا، ومن الممكن تحقيقه، سيحظى الإضراب الفردي بإجماع أوسع وبمساندة أصلب. ومن المهم أن يكون الإضراب الفردي من أجل هدف يتعدى مصلحة معلنه الضيقة، فيجب الانتباه كي يخدم نجاح ذلك الفرد بإضرابه مصالح مجموعة أو فئة أو مجمل الحركة الأسيرة؛ وكذلك من المهم أن ينأى المضرب عن تسخير خطوته من أجل مصالح فصيله أو حزبه، كما على فصيله أو حزبه السياسي، بالمقابل، ألا يركبا على كتف هذا الأسير وترصيد ريع نضاله في حسابات بعيدة عن مصالح وحدة الحركة الاسيرة ككل.
واكبت عذابات الحركة الأسيرة ونضالاتها على مدار أربعين عامًا، وتيقنت أنها إفراز طبيعي لحالة غير طبيعية، فما دام الاحتلال موجودًا سيبقى من يقاومه وسيبقى أسرى للحرية في السجون الاسرائيلية. لقد علمتنا تجربة البنائين الأوائل، بخسائرها وإنجازاتها، أن وحدة الحركة الأسيرة هي شرط مؤسس لنجاحات نضالات أفرادها الجماعية والفردية، وأن اتفاقهم على آليات نضالهم، وبضمنها الإضرابات الفردية، سيبقى ضرورة مصيرية ومسؤولية وطنية عالية. يختلف البعض على صحة الخطوة ويصر آخرون ألا يسمعوا صراخ هذا «الاخرس»؛ ويسعى غيرهم للاستثمار سياسيًا في شقائه أو على النقيض، تقويض تداعياته؛ لكن الحقيقة تبقى، كما كانت، بعيدة عن جميع مصالح أولئك؛ فماهر وأمثاله يجوعون من أجل الحرية والحياة بكرامة.
كاتب فلسطيني

 

من سيدق الأجراس

على باب جهنم؟

جواد بولس

 

نشرت صحيفة «هآرتس» العبرية، يوم الاثنين المنصرم، نبأ أفاد بأن شرطيا اسرائيليا كان يستقل دورية رسمية مع زميل له، صرخ بمكبر الصوت، حين مرّ بجانب من كانوا يتظاهرون ضد بنيامين نتنياهو، وأعلن بما يشبه التهديد والتحذير: «فقط بيبي». كُشف عن هذه الحادثة بعد أن تم تسجيلها وتصوير سيارة الدورية من قبل أحد المشاركين في المظاهرة، التي دعت إليها منظمة «الأعلام السوداء» وأقيمت في منطقة «كفار فيتكين».
قد تبدو هذه الحادثة للبعض مجرد مزحة عابرة هامشية؛ بينما هي، برأيي، عكس ذلك؛ فسياقها يجب أن يُموضع ويُقرأ على خلفية المشاهد التي تصدّرت نشرات الفضائيات، واستعرضت أخبار اعتداءات قوات الشرطة الإسرائيلية على المتظاهرين المتدينين اليهود، حيث أكّدت مناظر عنف عناصر الشرطة المنفلتين، مرة أخرى، أننا ازاء ظاهرة خطيرة تستوجب التوقف عندها، لأنها تعكس حقيقة وطبيعة النظام السياسي الذي سيحكم الدولة في السنوات المقبلة.
معظم المواطنين العرب لا يعيرون هذه الأخبار «الصغيرة» والمشاهد المستفزة أي اهتمام، كما لم يعيروا، اعتداء هذه الشرطة نفسها، قبل شهر، على المتظاهرين اليهود أمام بيت رئيس الوزراء نتنياهو في شارع بلفور، وكان بينهم العديد من الشخصيات المعروفة بتاريخها الصهيوني البارز مثل، رئيس جهاز الشاباك السابق كرمي جيلون الذي جرح هو وغيره في تلك المظاهرة. لا أعرف متى ستستوعب نخبنا الواعية وقياديونا، أننا نقف على «عتبة جهنم»؛ ولا نملك ذلك الترف، مهما كانت مسبباته، لإغفال ما يحصل، أو لتأجيل مواجهته، أو للشماتة بسببه؛ كما تشعر بعض القطاعات الواسعة بيننا، ولسان حالهم يلهج ويقول: إنهم يأكلون بعضهم، فدعوهم يسيرون نحو حتفهم بأرجلهم. هنالك هوة كبيرة بين ما يجري من تفاعلات سياسية داخل المجتمع اليهودي، وما يوازيها من ركود مقلق يتحكم في فضاءات مجتمعاتنا العربية السياسية وانهيارات في السلوكيات الاجتماعية؛ فبين الأكثرية اليهودية تتنامى وتكتمل مظاهر الفاشية، وفي مواجهتها تتسع حلقات المعارضين، الذين بدأوا يستشعرون بحتمية ذلك التطور الذي سيفضي إلى تشكل نظام ديكتاتوري شبيه بجميع الأنظمة الفاشية السوداء التي عرفها التاريخ، لاسيما في الفترة الواقعة بين الحربين العالميتين.

مناظر عنف عناصر الشرطة الإسرائيلية المنفلتين، تعكس حقيقة وطبيعة النظام السياسي الذي سيحكم الدولة في السنوات المقبلة

أما في المقابل، وعلى الرغم من اقتناع معظم طلائعي النخب العربية، المزودة بأدوات علمية، والمنكشفة على تجارب الشعوب الأخرى، بأن ممارسات النظام الفاشي الجديد، على الصعيدين العام والخاص بنا، ستختلف جوهريا، عمّا عاشه المجتمع الإسرائيلي وعشناه نحن في العقود السبعة الماضية، إلا أن هذه النخب وعلى الرغم من ذلك لم تبادر إلى أي محاولة لمنع وقوع الأسوأ المتوقع، أو للبحث عن وسائل لمقاومته.
سيدّعي الكثيرون، كما أتوقع، أن لا جديد في المشهد الإسرائيلي؛ فهذه الشرطة هي شرطتها القديمة الجديدة، ولطالما شاهدنا عصيها وهي تهوي على رؤوس وأجساد المتظاهرين العرب، وبنادقها تطلق عليهم قنابل الغاز المسيل للدموع، أو حتى الرصاص المطاطي والحي، كما جرى في أحداث يوم الأرض الخالد، أو خلال احتجاجات أكتوبر عام 2000، وفي غيرها من الانفلاتات الشرطية العنصرية القمعية، التي خلّفت وراءها، بين المواطنين العرب، الضحايا والمصابين والأحزان.
لكنني وإن كنت أوافق على صحة هذا الادعاء بمنظوره التاريخي، أؤكد هنا، مرة أخرى، على أن ممارسات عناصر الشرطة الأخيرة، ستبقى علامات فارقة وتاريخية لأنها حملت دلالات خطيرة على طبيعة التحولات التي مرّ بها نظام الحكم في إسرائيل، وبراهين على انتقاله من نظام عنصري يقمع ويضطهد مواطني الدولة العرب، إلى نظام مستبد لا ديمقراطي وفاشي، لا يقبل بأي نوع من المعارضة السياسية حتى لو كانت آتية من داخل المجتمع اليهودي، وتمارسها قطاعات يهودية متدينة – يدعم كبارها عمليا حكومة نتنياهو – أو أجسام وجهات وشخصيات صهيونية بارزة، وصاحبة تاريخ مشهود لها بتضحياتها من أجل بناء «إسرائيل القوية».
من الضروري أن نلاحظ الازدياد في أعداد المعارضين اليهود، وتنوع خلفيات شرائحهم الاجتماعية ومؤهلاتهم العلمية وانتماءاتهم الأيديولوجية، كما كانت معلنة ومعروفة. ومن المفيد أن نسمع أصواتهم وهم يحاولون اختراق جدران السلطة الفولاذية؛ وان نلحظ ما بدأت ترفعه هذه المجموعات من شعارات مناهضة لنظام الحكم، وأي لغة سياسية جديدة اختاروها وجندوها في سبيل ذلك، رغم صهيونيتهم.
سيلجأ الكثيرون من المعلقين والناشطين السياسيين والاجتماعيين العرب، إلى تقزيم تلك الظواهر، من خلال تنقيبهم عن مواضي أولئك الأشخاص، وتسجيل ما اقترفت أيمانهم بحق الفلسطينيين، وبحقنا نحن المواطنين العرب، وهذا أمر طبيعي ومنتظر، ولئن ستبقى تلك التفاصيل والممارسات وصمات عار في سيَرهم الشخصية، فلا يصح سياسيا ومن غير المعقول أن نرفض التوقف عند «توباتهم» كما يصرون على إعلانها والقتال من أجلها، وإصرارهم على إجهاض الزحف الفاشي، ومنع انتصاره النهائي، حتى لو جاءت «صحوتهم» مجزوءة، أو متأخرة، أو ليست وفق طقوسنا؛ ولنا في تجربة الجنرال ماتي بيلد مع «القائمة التقدمية» عبرة وسابقة، وهي ليست الحالة الوحيدة.
من مصلحتنا، نحن المواطنين العرب، متابعة ما يجري في هذه «الجبهة» ومن واجبنا أن نحاول الاستفادة من هذه التفاعلات، وذلك لن يتم ما دامت كل الأطر السياسية والحزبية والحركية المدنية والاسلامية الناشطة بيننا، سواء في الكنيست أو خارجها، متمسكة بتزمت عصبي بأنماط عملها، وببرامجها السياسية، التي كانت نقطة انطلاقها عند حدوث النكبة، ويوم إعلان دولة إسرائيل، وهي غير مستعدة لإجراء أي ليونة سياسية، ولو تكتيكية، تفرضها ظروف الساعة والمخاطر الوجودية المحدقة بمستقبلنا وبمستقبل أولادنا. يساورني شعور بأن هنالك تغييرا جدّيا في مواقف مجموعات يهودية عديدة من المعارضين لسياسات اليمين الفاشي؛ وأشعر بأن دوافع معارضتهم اليوم تختلف عما ألفناه من مواقف ومنطلقات الكثيرين من الصهاينة اليساريين وغيرهم، حين كانت معارضتهم لسياسات القمع بحق الفلسطينيين تحت الاحتلال، وبحقنا كمواطنين مضطهدين، مجرد صرخات «أخلاقية» عابرة صادرة عن انتماء صهيوني ليبرالي هش لابن شعب محتل متجبّر، أو نتيجة لخوفهم الصهيوني على مصير دولتهم. قد أكون مخطئا، لكنني أدعو إلى التوقف عند ما يحصل ودراسته بتمعن جدي ومسؤول، والإصغاء لما يقال من خلال بعض المنابر والمواقع المعارضة؛ فشعار «شرطة نتنياهو تقمع الشعب» أو «سرقوا الدولة» أو تشبيه بعض الممارسات الحكومية، وتعاظم مظاهر الفساد بحكم عائلات الاجرام المنظم، وغيرها من الشعارات المستحدثة، كلها قد تكون بوادر لتغييرات جذرية عند من بدأوا يطلقون تلك الشعارات، ويفتشون عن حلول خارج أطر معتقداتهم الصهيونية التقليدية؛ خاصة بعد أن تحققوا مما أفضت إليه مواقفهم السابقة.
قد تكون هذه مجرد تمنيات أو إرهاصات حقيقية لحالات يجب أن تتابع وترصد وتدرس وتوظف، في سبيل توسيع جبهات مواجهة خطر الفاشية؛ فمن لا يوافقني، عليه أن يعلن عن برنامجه لصد الفاشية والانتصار عليها، وليس بالدعاء وحسب وبالايمان بحتمية المسار التصحيحي للتاريخ، وبشعارات مثل لا يصح إلا الصحيح وما إلى ذلك..
كلنا نعرف خريطة القوى السياسية الناشطة بين المواطنين العرب، ورغم ذلك لا أرى من سيرفع الصارية ومن سيعلق الأشرعة، لكنني على يقين اننا نقف على «باب جهنم» واعرف انه ما لم نتحرك فورا فسيسبقنا «الشيطان»؛ فمشاهد عربدات الشرطة ضد كبار رجال الامن السابقين بسبب معارضتهم لسياسات النظام المستبد، وصور العنف الممارس ضد النساء والشيوخ والشباب والشخصيات اليهودية التي شاركت في تلك الاحتجاجات، ستبقى شواهد على كيف تحوّلت مؤسسات الدولة، وشرطتها في المقدمة، من أجهزة موكلة بخدمة الدولة وحماية مواطنيها اليهود – وتمارس بشكل منهجي سياسة القمع العنصري ضد مواطنيها العرب- إلى أدوات مقادة من قبل مسوخ بشرية، وإلى أذرع مسيّسة تلاحق وتضرب، باسم الحاكم الأوحد، كل معارض وكل محتج على شرعية سلطته وعلى سياساته. لسنا وحيدين هنا، فمن سيدق الأجراس على باب جهنم؟
كاتب فلسطيني

 

 

جمال عبد الناصر…

غصة وذكرى وضريح

جواد بولس

 

كان أيلول/سبتمبر قبل خمسين عامًا شهر البكاء والندم، ففيه دفع الفلسطينيون ثمن دخولهم في إغواءات المغامرة الأولى، وفيه بكت الأمة رحيل من أشعل حلم الوحدة المستحيلة. خمسون عامًا مرّت على وفاة جمال عبد الناصر، والعرب ما زالوا يعيشون على أنوف رماحهم، التي ورثوها من عصور الرمل، وفي فيء عباءاتهم الرثة؛ فما يرضي زيدهم يغضب عمرهم، تماما كما نشهد ونقرأ في هذه الأيام، وكلما كانت تستحضر ذكرى وفاة جمال «حبيب الملايين».
كنا طلابًا في السنة الأولى في مدرسة «يني الثانوية» عندما شاع نبأ موت جمال عبد الناصر. معظم تفاصيل تلك الأيام صارت نثارا في عالم النسيان؛ لكنني مازلت أتذكر كيف تحوّل لون السماء فوق قريتي إلى كحلي، أو أقرب إلى دكنة وجه من مات خنقًا. في الجو ساد صمت رهيب، مازلت أسمع صداه حتى هذه اللحظات. وقفت مع أترابي وأذكر كيف أحسست، ولم أعرف وقتها لماذا، بدهشة مَن انشقت الأرض تحت قدميه فصارت هاويته كالقدر المحتوم.
لم أكن مسيّساً ولا من بيت ناشطين حزبيين؛ فوالداي كانا معلمين ينتميان لجيل آمن بمهنة التعليم ،واعتبروها رسالة مقدسة، فمارسوها لينشئوا أجيالًا حصينة ونقية، ولكي ينقذوا الناجين من لعنة النكبة والتهجير، ويخلصوهم من مشاعر الذل والهزيمة؛ زرعوا فينا، بحنكة الحكماء والصبورين، بذور الكرامة والشغف الكبير للمعرفة وكنز القناعة والاكتفاء، إلا من كل ما يسلب حرياتنا ويجوّف أرواحنا ويعطل عقولنا. علّمونا كيف نكره الظلم والظالمين، وكيف نحب الخير والغير والصالحين؛ ففي ذلك الزمن ذي اللونين عشنا في عالمين وحسب: واحد أسود، يلفه ظلام لعين ويحكمه الأشرار والعابثون، وآخر أبيض من نور مبين ويديره الطيبون والخيرون. لم أكن منظمًا في أي حزب، لكنني كنت ابن والديّ، وفرخًا لجيل احتضنته قرية كانت تزودنا بأشرعة من طيب وريح؛ فكبرنا في حضنها وعلّمتنا، كفر ياسيف الجليلية، كما علّمت من قبلنا مَن جاوروا النسور والقمر، نعمة التمرد على السائد الآسن وعلى طقوس الخنوع؛ ودرّبتنا كما تدرّب الأم صغارها على فنون العيش والبقاء، وعلى الفوارق بين علم البيان وفنون الخطابة، وبين تشييد البنيان وأصول الزرع والحصاد والحطابة. انطلقنا من صفوفنا الخشبية نحو ساحة القرية القريبة، وسرنا، طلابًا وكادحين وفلاحين، وراء «كبارنا» في جنازة لم نكن نعرف وقتها، أن المشيّع فيها ليس «أناناتنا» الفردية والجمعية الثاكلة وحسب، بل، هكذا تبين بعد انجلاء الغيم والغبار، أننا دفنّا، ومعنا معظم العرب «عنقاءنا»، رغم اقتناع البعض بأن ليس كل الأساطير محض خيال!

ضريح عبدالناصر صار شهادة على قساوة القدر الذي أراد ناصر أن يقدمه لأبناء شعبه ضمانة لحريتهم ولكرامتهم، فرفضوه

مازالت الذكرى تثير في نفسي ونفوس الكثيرين حنينًا وطربًا دفينين، فبدونهما تصبح الخيبات قواقع لليأس، ويفقد الإنسان «نونه»، ولا يبقى منه إلّا «الأسى» لعنة. ولكن بين تنفس الذكرى كنسمة في حرير الحنين، ومحاولات البعض إقناعنا بأن الناصرية مشروع حي ونابض ومتقدم على خطى ذلك المارد العربي، الذي نمنا على حفاف جفونه الثائرة، يوجد فرق كبير وخلاف يتوجب علينا التوقف عنده، إذا ما أردنا أن نبقى ابناء الحياة، ونعبّد من اجلها السبيلا مهما كان عسيرا. قرأت ما كتبه «الناصريون» وشعرت بجمراتهم المتقدة في صدورهم، وقرأت ايضا لمن يمضغون الناصرية كالقات، ادعاءً ووهماً ومزايدات، وأثارني بعض من يهاجمون الرجل وزمانه، وكأنهم على ميعاد ثأر معه. لجميع من كتب وسيكتب الحق بإبداء رأيه حرًا، ولكن من بين ما قرأت، لفت نظري اعتراف النائب أيمن عودة، كما نشره على صفحته وقال: «لم يؤثر بمشاعري أحد مثل جمال عبد الناصر حتى هذا اليوم، فخمسون عامًا على وفاته وما زال الأكثر حياةً». حاولت أن أفهم قصده من وراء هذا الاعتراف المثير، لكنني تهت في ثناياه، ولم يعفني عبء الالتباس؛ ورغم اقتناعي بان كلام النائب عودة، رغم تأويله المحتمل وأبعاده السياسية الكبيرة، يندرج في باب الحنين، واستذكار موجع لحلم كان قد وئد، سيتيح، كلامه، فرصًا لمن يعارض طروحاته الواردة في سلسلة مقالاته الأخيرة، التي حملت عنوان» نحو منهجية مثابرة لشراكة يهودية عربية مؤثرة»، خاصة إذا ذكرّوه بأهم ما بقي عالقًا في عقول العامة من موروث ناصري، تختزله مقولته المجلجلة «ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة». نحن بحاجة إلى وضوح في رؤى القيادات المحلية السياسية، خاصة وفضاءاتنا العامة وشاشات حواسيبنا وهواتفنا، تعج بما يغرق الناس في متاهات وترهات ومزايدات وترددات من كل الجهات والمنابر؛ فمن يقرأ ما كتب عن جمال عبدالناصر، معه وضده، يستنتج أن هنالك بلبلة كبيرة بين المعلقين والمعقبين، وهنالك أيضا قطيعة واضحة بين هذه الأجيال وزمن الناصرية الذهبي؛ ويستنتج أيضًا أن معظم من عبّروا عن مواقفهم، كانوا قد لقنوها أو هندسوها بتأثير تنظيماتهم الحزبية وحركاتهم الدينية والسياسية، ومن دون محاولة ربط مواقفهم بواقعنا الحالي، نحن المواطنين العرب في إسرائيل، أو إجابتهم على السؤال الأهم: ما دور «الناصرية» اليوم وعلاقتها ببرامجنا السياسية وبوسائل نضالنا؟ وكيف يمكن تجنيدها في مواجهة المخططات التي ترسمها حكومة إسرائيل وتنوي تنفيذها بحقنا؟ جميع هذه الأسئلة بالنسبة لي هي أسئلة استنكارية، أما من يحسبها غير ذلك، فعليه رسم الإجابة.
مازلت أذكر كيف بكيت في أول زيارة لي إلى مصر؛ فعندما بدأت مباني القاهرة تضحك أمامنا كلما اقترب التاكسي من مشارفها، شعرت بأنني أدخل الجنة.. أضعت قلبي، كما أضاعه «عزيزها»، وكدت مثله «من بهجة اللقيا ونشوتها، أرى الدُنا أيكةً والدهر بستانا». وأذكر أيضًا أننا طلبنا، قبل الوصول إلى الفندق، أن نزور ضريح الزعيم جمال عبد الناصر. تسمّرت في حضن الهيية المدفونة. حضرتني مشاهد الجنازة التي أقمناها في كفر ياسيف، والأغاني التي حفظناها في «صاحب الصورة» ورددناها في شبابنا، أسوة باغاني العشاق وتباريحهم من حب وجوى؛ وسمعنا صوت نزار قباني يتمتم: «قتلناك يا آخر الانبياء قتلناك».
أكلتنا الحسرة ونحن أمام القبر، الذي يشهد على جهل أمة وعلى ضياع أحلامها، ويبكي على رجل كاد بإيمانه وبعزيمته أن يقبض على شرايين القدر، ويقدم دماءه أزاهير لشعوب أحبها حرة، لكنها نخت تحت أوزار جهلها وعطلها الخنوع، حتى باتت لا تفرق بين أطواق تدمي رقابها ومعاصمها، وأطواق النجاة والنرجس.
أحببنا ناصرنا بعيدًا عن التفاصيل الخاصة في سنوات حكمه، التي بسببها اختلف ويختلف الفرقاء عليه ومعه؛ وسنبقى نحبه كعطر لوردة خالدة، فهو القائد الشجاع الذي أراد أن يصهر المعجزات كي يقهر الأعداء، ويزرع في بلده المستقبل الآمن؛ ولأنه ابن الحتة، المؤنس الأسمر، الذي جاء مؤمنًا بالإنسان العربي وبعزيمته، ومصممًا على بناء دولة عصرية يحكمها القانون وبأدواته، أو كما قال فيه أحمد فؤاد نجم «فلاح قليل الحيا، إذا الكلاب سابت، ولا يطاطيش للعدا، إذا السهام صابت، عمل حاجات معجزة، وحاجات كتير خابت، وعاش ومات وسطنا، على طبعنا ثابت».
زرت بعدها مصر عدة مرات، ولم أعد لزيارة ضريح عبد الناصر؛ فمصر التي زرناها بعد المرة الأولى لم تعد «تلك التي في خاطري»، والضريح صار معلمًا سياحيًا وشهادة على قساوة القدر الذي أراد ناصر أن يقدمه لأبناء شعبه ضمانة لحريتهم ولكرامتهم، فرفضوه وبقوا كما كانوا من ايام «مينا لأيام عمرو» ومن أيام عمرو إلى أيام سلطان.. وتبقى الناصرية غصة وبرقة وسرابًا..
كاتب فلسطيني

 

 

 

حاج في دبي ، نعمة ام نقمة

جواد بولس

 

ستبقى زيارة وفد بنك لئومي الاسرائيلي، الى دولة الامارات العربية المتحدة، علامة فارقة وحاضرة في اذهاننا، نحن المواطنين العرب في اسرائيل، كلما جيء على ذكر توقيع اتفاق التطبيع الامارتي؛ وذلك ببساطة لأن من ترأس وفد كبار رجال الاعمال الاسرائيليين كان الفلسطيني/الاسرائيلي الدكتور سامر حاج يحيى، ابن مدينة الطيبة التي في منطقة المثلث، وبصفته الرئيس المنتخب لمجلس ادارة هذه المؤسسة المصرفية الصهيونية العريقة.

 لقد أثار انتخاب الدكتور سامر لمنصبه الهام، قبل أكثر من عام، نقاشًا متواضعًا، سرعان ما انطفأ وطويت صفحته في مشهد يؤكد، مرة أخرى، على أن "المجتمع العربي في اسرائيل" يعيش حالة من "فوضى الهويات" والتيه، حتى لم يعد صعبًا، على من يدقق في واقع الناس وتحرّكاتهم، أن يرى كيف يقفون وقد مسهم اللبس، على ناصيات عدد من المفارق، وبينها طبعًا "المفرق 48"؛ لكنه ليس وحيدًا.

لن تنتهي مناكفاتنا الداخلية عند تخوم دبي ولا في مياه البحرين؛ فهي لم تبدأ أصلًا مع توقيع هذين الاتفاقين ولا بسببهما؛ ولكن رب ضارة نافعة، فقد تقربنا تداعياتهما الى ما طالبتُ به منذ سنوات، وتجبر أولي الامر في مجتمعنا على اعادة حساباتهم بواقعية وبجرأة وبوطنية صادقة، فعساهم يتفقون على مجموعة مساطر  واضحة ومقبولة، سيكون من شأنها أن تهدي المواطن الحائر، اذا ما اشتبك "الفردي" لديه "بالعام"، الى بر الأمان ؛ أو أن تحثهم من أجل وضع خارطة تحدد للمواطنين الأنقياء والعصاميين "حدود الاندماج" في أروقة الدولة، فنحن نعيش في واقع سياسي واجتماعي واقتصادي متحرك بشكل دائم.

لقد كان واضحًا أن إصرارنا المحقّ على نيل كامل حقوقنا المدنية من الدولة، سيفضي تلقائيًا الى نشوء خلافات حادة، خاصة بين من يمارسون مواطنتهم بشكل طبيعي ويومي وعصامي، وبين أولئك الذين يخفون مواقفهم الحقيقية ازاء مكانة الدولة وازاء مؤسساتها، أو من بقوا أسرى لقوالب عقائدهم السياسية التي بنيت على انقاض النكبة؛ فحياتنا، بعد سبعين عامًا من المواجهات والبقاء، أصبحت أكثر تعقيدًا وتشابكًا مع مؤسسات الدولة؛ وزيادة عددنا الى ما يقارب المليونين، لم يمد أحفاد المستعمرين الأوائل بمزيد من "الحطابين وسقاة الماء" بل على العكس تمامًا ؛ فقد كبرنا وكبرت انجازاتنا ولم نعد مجرد حفنات من رخويات تخشى لسعة الشمس وغرزة المخرز، ولا عكاكيز تُغمز  بأرجل مخاتير من خشب باعوا ضمائرهم على وليمة منسف. 

لم تغب حتمية حدوث هذا التصادم عن بال قيادات مجتمعنا في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، فقادة الحزب الشيوعي والجبهة الديمقراطية، فيما بعد، ومعهم عدة قياديين وطنيين وشخصيات مستقلة وازنة، كانوا يناضلون من أجل نيل حقوق المواطنين العرب ومن اجل مساواتهم التامة في دولة طالبوا أن تكون لكل مواطنيها؛ وبالمقابل كانوا يديرون الصراع على حقوقهم القومية بوسائل لم تفرغ نصف المعادلة المدنية من مضامينها ولم تلغ نجاعتها؛ فهم، من خلال انتقاء الشعارات والبرامج السياسية المناسبة من جهة، وبناء الاطر الحزبية والحركية الملائمة من جهة أخرى، نجحوا باقامة التوازن القيادي الضروري والسليم، فكانت مبادرة بناء "الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة" ومعها "لجنة رؤساء السلطات المحلية العربية" و"لجنة متابعة شؤون الجماهير العربية" وغيرها من اطر نقابية وحرفية وطلابية ونسائية - كانت تجارب رائدة وقفت في وجه سياسات اسرائيل واضطرتها الى تغيير بعض ممارساتها العنصرية نحو المواطنين العرب، خاصة فيما يتعلق بسياسة التعليم والتوظيف والاقصاء الجمعي والعشوائي، واستبداله، في بعض القطاعات، بسياسة ايجابية انتقائية استهدفت رعاية بعض الشرائح والنخب ودعم تطورها مدنيًا واقتصاديًا،كما جرى ويجري أمام أعيننا. 

لم يفاجئني صديقي محمد عندما سألني: يعني أما زلت متحمسًا ومباركًا لتبوأ د. سامر حاج يحيى لهذا المنصب؟ وذكّرني بمقالة كتبتها بعد انتخابه رئيسًا للبنك، تناولت فيها بعض تعقيدات حياتنا في اسرائيل وقلت: "يرمينا واقعنا الاسرائيلي في كل يوم بمعضلات هي افرازات طبيعية لحياتنا المركبة؛ وقد تكون رئاسة مواطن عربي لادارة "البنك القومي الاسرائيلي" واحدة من تلك المعضلات". ثم أردفت قائلًا: "انا شخصيًا لا أراها كذلك، ولن اتردد بتهنئة د. حاج يحيى على جميع منجزاته وتفوقه، وآخرها فوزه بالمنصب، وهو منصب رفيع وحساس ومؤثر ولا يشبه ما سبقه من تعيينات."  لم أندم على تهنئتي للدكتور سامر حاج يحيى، فأنا لم اعتبر فوزه "انجازًا تاريخيًا لمجتمعنا العربي"، لكنني، رغم ذلك، اعتبرت أن فوزه بالمنصب "يعدّ تاريخًا، صنعه فرد مميز يستحق أن نبارك له انجازه الشخصي الكبير". لكنني، مع ذلك، اعي وجود اشكال في تصرف الدكتور حاج يحيى الفردي، فاستعماله لحقه الشخصي قد يتناقض وواجبه تجاه مجتمعه، خاصة بعد ان صرح انه عاد الى الطيبة من الغربة كي يضمن مستقبلا افضل لاولاده، ولا أظنه قصد مستقبل اولاده دون مستقبل الآخرين من أولاد مجتمعه.         

لنترك قضية الدكتور حاج يحيى، ولنفكر بعقلية مواطن صالح كدح لسنين طويلة حتى يؤمّن لابنته، وضحى، فرصة لتتعلم الطبابة. أرسلها وراح ينتظر بحرقة لمدة ثمانية أعوام، فعادت اليه طبيبة ناجحة بامتياز ؛ فحلم، وهو يحتضنها، بأن تصبح نطاسية يشار اليها بالبنان، فصارت؛ فطمح بأن ترأس القسم الذي تخصصت، فرأسته؛ فصلى.. فاصبحت علمًا تتسابق عليها المنصات العالمية ، وعضوة في ارقى المنتديات العلمية وسطع نجمها بين الامم؛ فهل نؤنبها ونخوّنها لأنها قبلت أن تجلس على مقعد وأمامها علم دولتها اسرائيل؟ وهل نوبخ أباها لانه لم يحسن تربية ابنته فاسمها العربي يضيء الشاشات ولكن بعده يكتب: عالمة من اسرائيل؟

استطيع أن أغرق القراء بكم هائل من هذه الامثلة، فالمتفوقون من أكاديميين وحرفيين ورياضيين وتقنيين يملأون قرانا والمدن وقد تم استيعاب بعضهم في عدة وزارات ومؤسسات وشركات رائدة، وتبوأوا فيها أعلى المناصب وذلك رغمًا عن كونهم عربًا. فلماذا لم نواجه هذه الحالة في الماضي؟

لم ننتبه في الماضي لوجود هذه الحالة لأنها لم تكن موجودة فعلًا، وذلك بسبب عنصرية الدولة؛ فاسرائيل ومنذ قيامها لم تحتمل أن يمثلها مواطن عربي حتى لو كان فذًا في مجاله وفريد عصره، وقد تحكمت اجهزتها، خاصة جهاز الشاباك، بسياسة قبول الطلاب العرب للجامعات، لا سيما في كليات الطب والهندسة والقانون، فكانت اعداد الطلبة العرب المقبوله في تلك الكليات قليلة ومحدودة وفرص انخراط الخريجين منها في مؤسسات الدولة ضعيفة أو معدومة؛ هذا علاوة على اغلاق عدة كليات جامعية او معاهد تدريسية عليا ونخبوية، مثل معهد فايتسمان، في وجه المواطنين العرب.

اذن "للحقيقة وجهان" واحد نستطيع نحن المواطنين العرب رسم ملامحه والآخر يبقى تحت "رحمة" الدولة، فعندما كانت علاقتنا بالدولة وعلاقتها بنا تراوح بين احتمالين، كانت خياراتنا بسيطة وواضحة، ولكن عندما تعددت الفرص وفتحت الدولة، كما طالبنا، بعض مساماتها أمامنا، صارت الامور اعقد والمعضلات كثيرة؛ وفي غياب حلول لها، اصطدم بها الافراد بانفسهم.

من تفاجأ أو استفز من زيارة الدكتور حاج يحيى لدبي ستميته المفاجاءت القادمة أو سترهقه؛ فقضيتنا لم تولد مع فوز "الحاج" بمنصبه في "بنك لئومي" ولن تنتهي اذا استقال منه او اذا لم يذهب للزيارة أو لم يشارك في غيرها؛ مشكلتنا كبيرة ولا تنحصر في سلوك فرد قيّض له النجاح الشخصي بسبب تفوّقه وتميّزه؛ فنحن نواجه حالة شاذة، تعريها احيانا نجاحات أولئك الاشخاص، وهي قد ولدت من رحم المواطنة نفسها، وكبرت منذ طالبنا باسم المواطنين بتخصيص وظائف تساوي نسبتنا من تعداد سكان الدولة، فحينها استشعرت وجود مشكلة وكتبت: "ماذا نريد ومن يملك تحديد المساطر وتوزيع المماحي والبيكارات؟ اين حدود المسموح وما الممنوع؟ أتريدون حقًا وظائف تساوي نسبة عددنا من سكان الدولة في كل وزارة ودائرة وشركة وجهاز ومحفل ؟ وهل يجب أن نناضل من أجل استعادة كراسينا المسلوبة في شركات الدولة أو في هيئة موانيء اسرائيل ومصلحة الضرائب والجمارك وهيئة البترول والغاز والبورصة وبنوك اسرائيل ؟".

صرخت وضاعت صرختي في واد. لم يرِث أحدٌ جيلَ الكبار وتعاقبت الاجيال من دون رعاة وقادة، وبقيت الاسئلة القديمة عالقة تنتظر الخلاص، فمن يقرر ماذا ؟ ومن يضع قواعد الاشتباك بين الفردي والعام ؟ ومن يرسم حدود الاندماج ؟ 

قد لا يأتينا الفرج قريبًا، ولكن ذلك لا يعفي قامة مثل د. سامر حاج يحيى من ان يبادر كقدوة ويرسي سابقة، فيعمل من اجل مؤسسته باخلاص، ويمثل، في نفس الوقت، قضايا مجتمعه ويدافع عنه من على كل منصة ومنبر.  عليه ان يجد الوسيلة، فاذا فعل هو ذلك وفعل مثله الآخرون فقد تصبح ريوع المواطنة بركة لعامة الناس والمجتمع، لا أرصدة شخصية في حساباتهم الشخصية وحسب.      

 

 


"طوبى لصانعي السلام"

أريد مسيحًا يسعفني

جواد بولس

 

شاهد العالم، مساء الثلاثاء المنصرم، حفل توقيع اتفاقيتي تطبيع العلاقات بين اسرائيل ودويلتي الامارات العربية المتحدة والبحرين، بتدبير ورعاية أمريكية كاملة وصمت داعم، أو همس خفي متواطىء، من قبل معظم حكام الدول العربية الاسلامية، وفي مقدمتها النظامان السعودي والمصري.

يتبارى المعقبون والمحللون في كشف تاريخ العلاقات بين حكام هاتين الدويلتين وبين قادة اسرائيل، وكذلك في شرح الدوافع التي اجازت حصول  هذا الاختراق الحقيقي والمكشوف في جدار التنابذ العربي والاسلامي المعلن منذ بداية الصراع مع "الكيان الصهيوني المارق". ويحاول بعض المتابعين استشراف التطورات السياسية المحتمل حصولها في منطقة الشرق الاوسط، خاصة فيما يتعلّق بمكانة اسرائيل، التي ستصبح، كما هو مخطط، بعد عملية التوقيع في حديقة البيت الأمريكي الأبيض، بمثابة الفخذ الشرعي في قبيلة كبيرة تستعد لمواجهة مطامع وغزوات القبائل الاخرى، لا سيما تلك التي تآلفت مع الفرس، أو، على النقيض، مع ذلك السلطان العثماني الجديد ، أردوغان، وحلفائه من المسلمين.  

يشدد بعض الفلسطينيين على ضعف التواجد الدولي في حفل التوقيع وعلى غياب معظم رؤساء أو مندوبي الدول الوازنه في العالم عنه، ويؤكدون مثلًا على عدم مشاركة الرئيس الروسي بوتين أو من ينوب عنه وكذا الصين واليابان ودول الاتحاد الاوروبي وغيرها من الدول العربية والافريقية والاسيوية. ولئن استُحضرت هذه الاشارة من باب التفاؤل الضروري، فهي ليست برهانًا على "تفاهة ما انجز" ولا مثلبة كبيرة في حقه؛ ذاك لأننا نعرف أن غياب هؤلاء القادة جاء من باب التكتيك المحسوب، أو التصرف وفقًا لقواعد "التقية" الدبلوماسية المحمودة واتّباع "حدس" بوصلات مصالح دولهم الخاصة في لعبة الامم الكبرى.

يندرج معظم ما كتب في اعقاب توقيع الإتفاقين في باب الوصف، ومحاولة القلّة باسقاط تبعاته على مصير العلاقات العربية - الاسرائيلية، ومستقبل القضية الفلسطينية؛ فوصفه كاتفاق يضمن لاسرائيل"سلامًا"مع دول لم تحاربها هو حقيقة ناجزة؛ بيد ان هذه الحقيقة لا تتعارض مع اعتبار الاتفاق، مع كيانين عربيين مسلمين، نصرًا اسرائيليًا هامًا أدّى عمليًا إلى تصدع كبير في "محفظة" المفاهيم الاساسية التي شكّلت، حتى بعد توقيع اتفاقتي كامب ديفيد ووادي عربة، ولأكثر من قرن، مساطر تعريف قواعد الاشتباك بين "العرب والمسلمين" هكذا بالمعنى المطلق والمعوّم، وبين الحركة الصهيونية وابنتها  "اللقيطة اسرائيل". 

ويحاول البعض التخفيف من اهمية هذا الاحدوداب القاتل الذي أصاب ظهر العروبة المكشوف، فيحيلنا الى "نعمة" الانتروبولوجيا الحديثة ويؤكد أن الشعوب، في عصرنا، هي الضمانات لانقاذ الأمّة من هوانها، وهي التي ستثأر ممن خانوها وسترمي بهم الى مزابل التاريخ .. انها مجرد أمنيات بلا رصيد، فمعظم تلك الشعوب التي يعوّل عليها الفقهاء وينتخيها المنظرون ويتغنى بسحرها الشعراء والحالمون، عاشت جل تاريخها تحت قمع المحتلين؛ وتعيشه، منذ جلا عن أوطانها آخر المستعمرين، وهي مسلوبة الحرية، فتنام راضية بكسرة خبز وتفيق خائفة من جزمات حكام مستبدين لم يعرفوا يومًا معنى احترام المواطن ولا قيمة الإنسان وعشقه لأطواق الياسمين.

فعلى أية دولة عربية او إسلامية سنراهن وأمامنا تتوالد في معظمها مجتمعات من صدأ وطين ترهن اراداتها عند جلاوزة وسلاطين، وتطيع، وهي عمياء، أولي الأمر وتتمسح بوعّاظهم اذ سيضمنون لهم قبورًا باردة وجنة حمراء وخمرًا ينساب من بلور الاجاجين؛ فكيف يستطيع من يخشى أن يفقد عبوديته، بناء وطن ؟  

أكتب بلغة اليأس، رغم انني احاول قراءة واقعنا بموضوعية متأنية، بعيدًا عن العواطف، ومنقبًا عن الايجابي في ثنايا ما يحدث حولنا ولنا، نحن الفلسطينيين بشكل عام، وبيننا نحن المواطنين العرب في اسرائيل؛ فعندما سألتني ابنتي عن شعوري وكانت تشاهد، في بيتها من عزلتها الكورونية، وقائع حفل توقيع الاتفاقيتين في البيت الابيض، ارسلت لها صورة رغيف خبز عربي، وحبة بندورا حمراء ضاحكة وصحن مليء بكرات اللبنة المغموسة في زيت الزيتون الجليلي.                 

ضحكت حين فهمت انني لا أشاهد مثلها ما يعرض مباشرة؛ ولكنها ارغمتني بسؤالها على أن أتابع تفاصيل الحدث. 

لم اخطط لمتابعة البث المباشر تحاشيًا لمشاعر القهر والحسرة التي لم تنتابني بشدة، كما توقعت.

كانت لغة جسد ترامب مستفزة كالعادة، وكانت نبرته مستخفة بالجميع ومفرداته تدفعني نحو التفتيش مجددًا عن الحكمة في وصية المسيح حين قال "طوبى لصانعي السلام، لأنهم أبناء الله يدعون"؛  ثم جاء بنيامين نتياهو وأدى دوره كممثل بارع على مسرح "العبث" بخيلاء طاووس؛ فتلاه حليفاه الجديدان واستنكرا سبب خلاف الأحفاد من قرون، فلا فرق إن كان اسماعيل هو وريث هذه الارض وكانت أمّته خير أمّة اخرجت للناس، أم كان ذلك إسحق وأمّته وريثتها؛ فالكل، في النهاية، أبناء ابراهام وستحميهم طبعًا طائرات الاف 35 وصواريخ التوماهوك.

لم انزعج كما كنت اتوقع مما شاهدت وسمعت، فكتبت لابنتي مجيبًا على سؤالها: "أحاول أن أستوعب الحدث بأدوات تفكير سياسية.. فعاطفيًا ، شعوري بالطبع مثل شعوركم وأساسه مشاعر انسان حر ومهزوم" !

ما ازعجني اكثر من مشاهدة وقائع الحفل كانت ردود فعل كثير من الفلسطينيين ومحاولات بعضهم تحميل القيادات الفلسطينية مسؤولية ما يحدث من انهيارات في الموقفين التاريخيين، العربي والاسلامي، ازاء اسرائيل وما مارسته بحق الفلسطينيين؛ فهذه الاتهامات الفلسطينية هي طعنات في الجسد الفلسطيني وخدمة يقدمها هؤلاء، عن قصد او بدونه، لأعداء فلسطين.

لا أنكر بالطبع حق كل فرد بأن ينتقد أو أن يعارض أو أن يبدي رأيًا مغايرًا بشكل كامل وحر؛ ولكن أن يتخذ الفلسطيني واحدًا من هذه المواقف ويقف عنده فقط ويعفي قادة العرب والمسلمين من تغيير مواقفهم تجاه قضية فلسطين ومن قمع شعوبهم وما يجري في اوطانهم، فهذه ممارسات لحريات تصب ريوعها، في نهاية الطريق، بصالح من يحاولون القضاء على الحلم الفلسطيني ومسح منجزات الشعب وتضحياته التي قدمت منذ مائة عام حتى يومنا هذا. 

لن ادخل في تفاصيل ما سيق من ادعاءات واتهامات ضد القيادات الفلسطينية،  وقد أوافق على بعضها طبعًا، لكنني أؤكد على أننا سنشهد في السنوات القليلة القادمة خارطة عالم جديد؛ وكل من لم يلحظ كيف ومتى بدأت الانهيارات الحقيقية من جهة، والاصطفافات المتشكلة، من جهة أخرى، ولا يعي الآن كيف تغوّل النظام الأمريكي ولا يتورع عن اغتصاب عملائه علنًا، سيبقى خارج حدود الجغرافيا وملقى على أرصفة التاريخ أو في زرائبه.

لن تأتي النجاة للفلسطينيين من جهة أنظمة العرب ولا من جهة الانظمة الاسلامية، ولن تستطيع شعوب هذه الدول، رغم مواقفها الفطرية المساندة لقضية وشعب فلسطين، أن تسعف الفلسطينيين الرازحين تحت الاحتلال الاسرائيلي، فهؤلاء هم اصحاب قدرهم وصناع نجاتهم؛ وكي يضمنوا استمرار صمودهم في وجه الاحتلال ومن يحالفونه علنًا، عليهم ان يتوحدوا، وأن يتفقوا على أولويات التقاطع والاستعداء والتحالفات. فبدون تذويتهم لهذه الفريضة سيفقدون اغلى ما عندهم، وهي حفنة الامل الباقية؛ وإن فقدوها سيصبح اتفاق "كوشنر نتنياهو ابو ظبي المنامة"، كما خطط له، حجر الأساس الذي لن يتردد بعض الأشقاء والأخوة، في الدم والدين، أن يبنوا فوقه شاهدا كبيرا ويحفرون  عليه: "هنا دفنت قضية فلسطين".

أعرف أن الكثيرين سيصرخون فورًا : لن يحصل هذا .. وأنا ساصرخ طبعًا مثلهم ولكن.. 

شعور الهزيمة الذي رافقني، هكذا كتبت لابنتي: "جعلني افكر لماذا يصيبني وكيف استطيع تغييره، ليس كفرد بل كواحد من مجموعة تشعر مثلي وتعيش في اسرائيل؟ فبدون إلحاح السؤال وباستمرارنا العيش كمهزومين سنتحول الى عبيد" .

لم يتفق معي الأولاد تمامًا ؛ فهم ينتمون الى جيل يعطي لمصطلحاتنا معاني ومضامين مختلفة؛ فالهزائم عندهم ليست بالضرورة هزائمنا.

مع ذلك وجدتهم يوافقوني عندما كتبت لهم : "فلو فكرنا مليًا بماذا كان يجمعنا قبل ابرام هذا الاتفاق، نحن المواطنين العرب في اسرائيل، مع البحرينيين والاماراتيين، وماذا تغير علينا اليوم، سنجد اننا ورثنا أوهامًا مقوْلبة وعشنا بظل فرضيات لم تكن موجودة اصلًا. فكروا معي فقد يتحسن عندها شعورنا ونعود الى واقعنا بعقلانية خالية من فائض عواطف قبلية، ونستطيع، من مواقعنا هنا، استشراف مستقبلنا الأفضل" . قلت ووعدتهم أن اكتب في ذلك أكثر.   

 

Attachments area

 

 

ويبقى السؤال كم مرة

ومن قتل يعقوب أبو القيعان؟

جواد بولس

 

 قد تجدون فيها  علاقة بما كتبت وقد لا! ففي كتابه "الفاشية، مقدمة قصيرة جدًا" كتب مؤلفه، كيفن باسمور، ان الفيلسوف والكاتب الاسباني خوسيه أورتيجا جاسيت كان قد عرف الفاشية في العام 1927 هكذا: 

للفاشية ملامح غامضة لانها تحوي أكثر المضامين تضادًا ؛ فهي تؤكد على السلطوية وتؤسس للثورة، تحارب الديمقراطية المعاصرة، ومن ناحية أخرى لا تؤمن بالعودة لأي حكم سابق، ويبدو أنها تقدم نفسها باعتبارها صورة للدولة القوية بينما تستخدم أكثر الوسائل قدرة على تفكيكها؛ وكأن الفاشية فصيل هدام أو جماعة سرية؛ وأيا كانت طريقة تناولنا للفاشية فسنجد أنها تمثل الشيء ونقيضه في الوقت نفسه! 

وبعد ..

ما يجري على الساحة السياسية الداخلية الإسرائيلية يصح كمادة لاعداد واحد من مسلسلات الإثارة التي تنتجها شركة "نيتفلكس" العالمية؛ وتدمج في حلقاتها كثيرًا من وقائع الحياة وبعض الخيال، حيث تبقى خواتيمها، دائمًا، محكومة بما يختاره المؤلف والمخرج وشركة الإنتاج، أي رأس المال المستفيد، وجمهور المتلقين في واقعنا الآدمي "السائل" .

لا يلاحظ الإنسان العادي كمية المعلومات التي تُطيّر في فضاءاته، بل يتلقاها بإدمان ويمتص لحاءاتها على مهل وبخبل احيانًا؛ ولا يُسأل، في هذه الزحمة، مَن وراء هذه الأخبار أو النظريات أو الكشوفات، وما الغاية منها؟ أو من المستفيد ومن المتضرر من نشرها في تلك اللحظة؟ وما الى ذلك من أسئلة تخبيء الاجابات عليها أسرار تفجيرها وتداعياته، لا سيما ما يعتبر منها كسبق اخباري صاخب ولافت، عرف مُورده كيف "يخرجه"بعناية وبدقة وبمهنية كافية لتصطاد فرائسها من الناس وتحقق ما رمت الحبكة "النتفلكسية " إنجازه.

اختار رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو أن يزور بلدة بيت شيمش القريبة من أورشليم ليعلن منها، مساء يوم الاثنين المنصرم، في مؤتمر صحفي، يذاع في ساعة ذهبية وفق قاموس الاعلان العصري، تفاصيل قرار الحكومة الاسرائيلية القاضي بإغلاق بعض البلدات المصنفة "بالحمراء" وذلك في معرض الحرب على ازدياد أعداد المصابين بفايروس كورونا وما حصده من أرواح بين المواطنين. 

شاهدنا في ذلك المساء مسرحية أداها ممثل بارع واحد؛ لكنها كانت متكاملة العناصر ومحكمة الأهداف؛ وهي بدون شك ستصبح بعد الكشف عما حصل وراء كواليسها، حدثًا مفصليًا قد يحسم  بواسطته نتنياهو شكل نظام الحكم في الدولة، خاصة إذا مكّنته توابعها، كما يريد هو ويخطط، من التخلص من " اعدائه" في جهازي النيابة العامة والشرطة، وطي صفحة العلاقة التاريخية التي رسمت حدود صلاحيات ذينك الجهازين  مع مؤسسة الحكومة ومع رئيسها في اسرائيل. 

كان نتنياهو يعلم ان عملية كنس جميع "المتمردين" على سلطانه من تلك الاجهزة، لن تكون سهلة، إلا إذا نجح بتقديم الدليل على صحة ما ادعاه، منذ بدأت إجراءات التحقيق معه بشبهات الفساد والرشوة، واصراره على انه ضحية مستهدفة من قبل بعض القوى التي تعارض حكمه ومن وكلاء تلك القوى المزروعة في بعض أجهزة الدولة، وعلى رأسهم المستشار القضائي للحكومة، اڤيحاي مندلبليط، والنائب العام، شاي نيتسان، وقائد الشرطة العام روني الشيخ، والى جانبهم بعض المحققين والاعلاميين المغرضين.

لقد حاول نتنياهو ورجالاته طيلة السنوات الاخيرة ان يزعزعوا مصداقية المحققين، وادعوا أن أولئك يفبركون البيّنات ويحاولون، بالترغيب وبالتهديد، استمالة الشهود ضده؛ ورغم ما بذله، شخصيًا وبمساعدة طواقم كبيرة من الخبراء والمستشارين والإعلاميين والسياسيين، لم ينجح بمسعاه، بل وجد نفسه متهما بعدة تهم جنائية خطيرة في ثلاث لوائح اتهام ما زالت تنتظره في أروقة المحاكم.

لم ولن ييأس نتنياهو من محاولاته التملص من مواجهة القضاء، او مواجهته في ظروف مريحة تؤمّن له النجاة والبقاء على رأس الحكم؛  فهو، السياسي المحنك وابن المؤرخ والتجارب، يعرف ويحس ان "الدولة" صارت قاب لقمة بين فكيه، ولذلك نجده يجند، في سبيل تذليل ما بقي من عقبات في طريق التهامها، ادعاءً يعلن بموجبه انه يحترم القضاء ولا يخشى محاكم اسرائيل؛ لكنه يؤكد، في نفس الوقت، على كونه ضحية مؤامرة حاكتها  نفس المؤسسة ونفس الأشخاص الذين ظلموا "مواطنًا اسرائيليًا" بريئًا وحولوه من ضحية الى إرهابي؛ فيعقوب أبو القيعان ، هكذا يعترف نتنياهو بسهولة، لم يقم بعملية دهس ارهابية كما ادعى ضده قائد الشرطة العام روني الشيخ، ووافقه في ذلك الادعاء المفبرك المدعي العام نيتسان وغيرهما من قادة في تينك المؤسستين. 

لم ينس نتنياهو موضوع مؤتمره الصحفي، لكنه تعمّد، كديماغوغي محترف في اقتناص الفرص وفي استضباع عامة الناس، تحويل المشهد الى منصة قرأ منها لائحة اتهام خطيرة كان قد اعدها ضد اعدائه في نيابة الدولة ووزارة الشرطة فاتهمهم بالتآمر عليه، مؤكدًا على ان التحقيقات ضده كانت "تحقيقات سياسية، وكانت ملوثة منذ بداياتها، واستهدفت حياكة ملفات، حيث كان الهدف من وراءها إسقاط رئيس حكومة من منصبه" ؛ فلقد شاهدنا أمس، هكذا اعلن نتنياهو امام مواطني الدولة، " انهم يفبركون التحقيقات ويقبرون التحقيقات ويتصارعون مع بعضهم من اجل اهداف  سياسية". كم كان الكلام من فمه نزقًا وغريبًا ومستفزًا وكان خاليًا من اي صدق إنساني؛ فما قاله كحقيقة اكتشفها " أمس" فقط، قلناه عن وجع، نحن المواطنين العرب، باسم عشرات الضحايا الذين سقطوا بنيران شرطته هدرًا، وفُبركت بعدها ملفات قاتليهم، وأُغلقت؛ ورفض، هو ومن قبله من ساسة الدولة ومسؤوليها الامنيين، سماع انين دمائهم ونحيب أيتامهم وأمهاتهم وزوجاتهم الثكالى.                     

عن أي أمس تحدث نتنياهو في مؤتمره الصحفي ؟

صانع أمس/مستقبل نتنياهو، في هذه الجولة، كان الصحفي عميت سيغال الذي نشر، في القناة 12 العبرية، يومًا قبل انعقاد مؤتمر نتنياهو الصحفي خبرًا - قنبلة كما وصفه نتنياهو في تغريدة نشرها تعقيبًا مباشرًا على الخبر - ومفاده ان النيابة العامة ومحققين في شرطة اسرائيل قاموا بفبركة ملفات ضد نتنياهو، واسكتوا، فيما بعد، من سعى، من داخل تلك الاجهزة، الى فضح الوقائع على حقيقتها؛  ثم أضاف، سيغال، بذكاء وفي سبيل تعزيز ادعائه المذكور، ان هذه الفبركة لم تكن الأولى، فلقد سبقتها أخريات، كتلك التي رتبتها، نفس العناصر المتورطة ضد نتنياهو، في حادثة قتل المربي يعقوب ابو القيعان، ابن القرية البدوية المهدومة، في مطلع العام 2017، ام الحيران؛ حيث كان لدى الشرطة بينات كافية تثبت ان المربي ابو القيعان وقع ضحية لألاعيب عناصر شرطة اسرائيل، ولم يكن مخربًا ومنفذًا لعملية دهس ارهابية، كما ادعى عليه  قائد الشرطة، روني الشيح، في نفس الليلة، وساند كذبته مباشرة المدعي العام، شاي نيتسان، وذلك بهدف تغطيتهما على جريمة نفذها بعض عناصر الشرطة حين شاركوا في عملية قتل أبو القيعان ولم يسعفوه في الموقع، بل تركوه ينزف حتى فارق الحياة؛ ثم فبركوا البينات كي لا يُكتشفوا وكي لا يوفروا، من خلال اعترافهم بالذنب، مادة للهجوم عليهم من قبل نتنياهو الذي كان في حالة حرب معهم.

لا اعرف كم منكم يعرف من هو الصحفي عميت سيغال، ولا اعرف لماذا قرر  تفجير قنبلته في هذا التوقيت بالذات ؟  لكنه عمليًا زوّد نتنياهو في هذه الفترة الحرجة بمادة سرعان ما حوّلها نتنياهو الى سلاح ما فتيء يستعمله بكل مناسبة ويطالب، بناءً على ما اكتشفه بالأمس فقط، باقامة لجنة تحقيق رسمية تناط بها مهمة اظهار "الحقيقة" والتحقيق مع روني الشيخ وغيره من المسؤولين الكبار.

ويلاحظ ان نتنياهو، الضحية، كان قد كتب مباشرة في تعقيبه على " قنبلة" سيغال:  " مفزع ، الليلة القى سيغال  قنبلة نووية وبرهن  من خلال مراسلات داخلية بين مسؤولين من الشرطة ومسؤولين من النيابة كيف حاكوا لرئيس الحكومة ملفات" . ثم أضاف صورة وكتب عليها "ليحقق مع المحققين، فالليلة أثبت للجميع بأن جميع الملفات ضد رئيس الحكومة نتنياهو مفبركة". 

 لم يذكر نتنياهو  في هذا التعقيب قضية ام الحيران ومقتل المربي يعقوب ابو القيعان بينما حولها  في اليوم التالي الى الحدث الدرامي الاساسي  فاعلن في مؤتمره الصحفي، أنه قد سأل الشيخ ثلاث مرات ليتأكد من طبيعة الحادث وفي جميعها اكد له الشيخ ان عملية الدهس كانت إرهابية.

لقد توقف نتنياهو بعد هذا الكشف هنيهة، وطلب، بحركة ممثل حذق وقبل ان يفصح عن باقي وجعه كضحية، الاعتذار باسمه "على مقتل والد عائلة ابو القيعان، وعلى أنهم قالوا عنه مخربًا. فأمس تبين أنه ليس مخربًا، وامس تبين أن مسؤولين كبار في النيابة العامة والشرطة قد حوّلوه الى مخرب وذلك كي يحموا أنفسهم ويؤذوني .. ".  اقرأوا جيدًا ..فلقد تآمر روني الشيخ وشاي نيتسان وأعلنا عن يعقوب أبو القيعان، قبل ثلاثة أعوام، مخربًا كي يوذيا بنيامين نتنياهو.. فهو أيضا ضحيّتهما تمامًا كما كان ذلك البدوي النبيل ضحية !

هل من عاقل سوي يقبل هذه الحكاية؟  

كل التفاصيل التي كشفت عن ممارسات من فبركوا ملف مقتل ابي القيعان، ومن أخفوا تقارير "الشاباك" التي نفى معدّوها ان ابا القيعان قام بتنفيذ عملية ارهابية، وشهادات من اطلق النار  وغيرها، كلّها تؤكد ما عرفناه وما حاول في تلك الليلة الحمراء ان يصرخ به كثيرون كانوا هناك وبينهم من كاد أن يصبح الضحية الثانية في تلك الليلة، النائب أيمن عودة، الذي اصيب بعيار في رأسه. فما جرى هناك كانت عربدة عصابة مجرمة، غطت على موبقاتها عصابة أخرى مجرمة وجميعهم عملوا وسيعملون في إمرة عصابة أخرى .

فالى من أكبر بنتنياهو اعتذاره، والى من قدّر مهنية الصحفي سيغال، اقول لا تفتشوا عن بارقة أمل لديهم، فالقادم منهم سيكون أفظع .

ويبقى السؤال من قتل يعقوب أبو القيعان؟    


 

عندما يصيب “كوفيد 15”

رئتي القائمة المشتركة

جواد بولس

أين القائمة المشتركة؟ وأين لجنة المتابعة من قضية كورونا؟ سألني صديقي وأخبار  تزايد أعداد المصابين في المدن والقرى العربية تصعقنا من ساعة الى ساعة. لم ينتظر إجابتي، وأردف، هل ستصوت للقائمة المشتركة لو أعادوا انتخابات الكنيست وبقيت القائمة على حالتها اليوم؟
صحونا قبل أيام قليلة على حرب بيانات، لم نشهد مثلها منذ تعرفت فضاءاتنا السياسية على لغة المودة بين الأنداد، وعلى مفردات الشراكة والنضال الموحد بين الأحزاب والحركات السياسية والدينية المتنافسة، التي تؤمن بضرورة الدفاع عن حقوقها السياسية والمدنية بكل الوسائل القانونية، وفي طليعتها خوض الانتخابات للبرلمان الإسرائيلي، كحق وواجب واستحقاق تتيحه حالة مواطنتنا في الدولة؛ فيما تنكره، لأسباب سياسية ودينية بعض القوى العربية؛ وتحارب معظم الأحزاب اليمينية والدينية العنصرية الصهيونية، كونه حقًا دستوريًا لمواطني الدولة العرب، على الضفة الثانية.
لقد تفاقمت الأزمة الحالية عندما لم يكتف النائب عن الحركة الإسلامية الجنوبية، منصور عباس، بالرد على مقابلة أدلى بها القيادي البارز في الحزب الشيوعي الإسرائيلي عصام مخول إلى قناة “مساواة”، بل أقحم، مستهزئًا، في معرض رده، اسم الحزب الشيوعي وتاريخه.
لقد اتهم القيادي الشيوعي عصام مخول النائب الإسلامي منصور عباس “بمقايضة الحقوق بالمصالح واعتماد الصفقات وفتح قنوات سرية مع قيادة الليكود ونتنياهو ومساعديه”، فقام عباس بنفي التهمة ووصف المقابلة  “بالاستعلائية” وأضاف أن مخول “في نهاية المطاف هو عضو في “الحزب الشيوعي الإسرائيلي” ونحن أبناء لحزب اسمه “الحركة الاسلامية” والفرق واضح..”.
لم تكن تلك مجرد مساجلة عابرة بين حليفين في الإطار السياسي نفسه يصارعان ضد العدو نفسه ومن اجل الهدف نفسه؛ ولا أظن أن هذه “المناطحة” قد انتهت، خاصة بعد أن قرأنا كيف انبرى سكرتير عام الحزب الشيوعي، عادل عامر، للدفاع عن حزبه وعن رفيقه عصام مخول، منتقدًا عضو الكنيست منصور عباس وحركته على اختياره مهاجمة مخول بسبب انتمائه السياسي إلى الحزب الشيوعي وهو يعلم علم اليقين “أن هذا هو التيار المركزي بين جماهيرنا وهو التيار الذي أرسى قواعد العمل السياسي الوطني المبني على النضال والكفاح وليس على المقايضة والمتاجرة..”، وتحداه، بعد ذلك، بشكل مباشر “أن يفند الكثير من التسريبات الإعلامية التي تطرقت في السابق إلى هذا الموضوع وعلاقته بنتان أيشيل وغيره من قادة الليكود”. إنها معركة بين نقيضين لا يجمع بينهما إلا عجز اللحظة والسراب.
لم نخطئ، على ما يبدو، حين قلنا إن أفراحنا، كمواطنين عرب في اسرائيل، هي أفراح صغيرة؛ وهذه كما يعرف المجرّبون تمرّ كنسمة هاربة وتترك على الجبين لهفة وفي الخواصر نارا؛ فبعد نجاح القائمة المشتركة في انتخابات الكنيست الأخيرة وحصولها على خمسة عشر مقعدًا، توسمنا منها خيرًا، ورأينا بفوزها انعكاسًا لنضوج سياسي لافت كانت قد بَلَغته الجماهير العربية في إسرائيل، قابله “اختمار قيادي” أبدته الأحزاب والحركات السياسية التي تآلفت تحت سقفها وخاضت المعركة بروح نضالية عالية، وبشراكة حقيقية استحقتا منا كل الدعم والإعجاب.
لقد كتبنا في حينه وقلنا: يوجد للقائمة المشتركة قوة سياسية ومعنوية كبيرة، وتوازيها، بطبيعة الحال، مسؤولية عظمى؛ فهل سيعرف أعضاؤها صونها كما يتوقع منهم؟ لم يملك أحد القدرة على الإجابة على هذا التساؤل؛ ولكننا أكدنا، على ضوء تجربة القائمة الفاشلة السابقة، أن شرط بقاء القائمة موحدة يكمن، علاوة على توفر الارادة، بعدم تراجع أي مركّب عن مواقفه التي قدمها عربونا للوحدة وعودته للعمل المنفرد بوحي مصالح حزبه، أو حركته الضيقة، أو بهدي عقيدته ومبادئه. لقد أعطى الناخبون مئات آلاف أصواتهم للقائمة المشتركة، على أمل أن يحافظ قادتها على العهدة وعلى الوعد، وليبقوا قوة موحدة في وجه حمم اليمين التي سقطت وستسقط على رؤوس جميعنا في المستقبل القريب؛ فالرهان على نوايا قطعان قوى اليمين السائبة يعادل انتحارًا، والمراوغات من أجل مكاسب وضيعة جراء حملة دعم لاخواننا، في سوريا أو في اليمن أو في لبنان، ينفرد بها حزب هنا، أو حركة هناك، مثلها مثل محاولات الإقلاع بمناطيد من غبار.
لقد تخطى إنجاز المشتركة تحصيلها العددي، فما حصل على أرض الواقع، كما كتبنا بعد إعلان النتيجة، هو أن الجماهير العربية أجبرت عمليًا جميع الأحزاب والحركات المنضوية تحت خيمة القائمة المشتركة أن تنأى بنفسها وترتقي وتتغيّر مفاهيميًا وأداءً لتكون جديرة بمكانتها المشتهاة وبتكليفها كممثلة لمصالح تلك الجماهير ولتطلعاتها. فكان على تلك القيادات إما أن تنتقل من مرحلة المراهقة السياسية والمغامرات، إلى مرحلة البلوغ والوعي بتحديات حياتنا ومواجهة الالتباس حول مستقبلنا، وأما ان ترتطم نزواتها على خشب الكراسي البرلمانية البالية. لقد ساهم كل مركّب بقسطه من أجل ضمان نجاح التجربة، لكنهم لم يستمروا؛ فعاد بعضهم الى “جلده القديم” وقرّبونا مجددًا من حالة الخيبة والالتباس.
كان على الجبهة الديمقراطية والحزب الشيوعي أن يعترفا ويقبلا بقيادة النائب أيمن عودة لتنظيمهما العريق والأبرز؛ فبدون تلك النقلة، الاتفاق على وجود قائد، لن تكون الجبهة جديرة بقيادتها لصدارة القافلة، ولا أن تستعيد ثقة الناس في عدة مواقع ابتعدت عنها قصاصًا وامتعاضًا من تشتت مواقفها السابقة. لقد خطت الجبهة خطوات جدية على هذا الطريق، إلا ان وجود بعض جيوب المقاومة من بقايا الحرس القديم يضعف الجبهة داخل المشتركة، ويعرقل اكتمال المهمة وينتقص من احتمال إعادة تأهيل تنظيم الجبهة وتمكينه لاستعادة دوره المعد لها تاريخيًا. وكانت مرونة الحركة الاسلامية الجنوبية تجاه شركائها، حتى في المسائل الخلافية، دَينًا في حرج النائب منصور عباس وإخوانه؛ ولكنها كانت مهمة مستحيلة؛ فكما صرّح شيوخ الحركة في أكثر من قضية وموقف، لن يستطيع ممثلوها الخروج عن ثوابتها العقائدية، حتى لو كان ثمن تمسكهم تصدع وحدة القائمة المشتركة، مثلما حصل في عدة مواجهات أدت عمليًا الى بعث لغة المناكفات مع الشركاء، وآخرها ما جرى مع رفاق وقادة الحزب الشيوعي.

الجبهة الديمقراطية والحركة الإسلامية التنظيمان الأساسيان بين الناخبين العرب، والخلل في أدائيهما كاف لإفشال تجربة القائمة المشتركة

تعتبر الجبهة الديمقراطية والحركة الاسلامية التنظيمين الأساسيين بين الناخبين العرب، والخلل في أدائيهما كاف لافشال تجربة القائمة المشتركة؛ مع ذلك فقد نضيف اليهما ضعف حزب التجمع، وغياب مؤسساته وانحسار وجوده الشعبي، وعدم نجاح “الحركة العربية للتغير” باستكمال محاولات بناء مؤسساتها الحزبية الجدية والمحافظة عليها.
تصل اسرائيل، في هذه الأيام، إلى آخر محطات تشكل نظامها السياسي الفاشي الجديد؛ فبعد تقويض أسس الدولة الأصلية، وبعد السيطرة على معظم مؤسسات ومرافق الدولة الأساسية، وبعد اكتمال جاهزية انتفاضة الغوغاء النهمة، نشهد كيف تنقض كتائب “القائد الأوحد”، المهوّشة والجائعة، على كبار الموظفين الإداريين وتطاردهم أو تطردهم من معظم الوزارات والوكالات الحكومية، وذلك من أجل إزالة آخر العقبات وتأمين سيطرة الجهاز الجديد على عروق الدولة ومساماتها بالكامل. فمن سيقف في وجه تلك الكتائب؟ ومن سيفشل سياسات الاقتلاع والتهجير والقمع؟ ومن سينظم مجتمعاتنا العربية من جديد؟
لقد آمنا أن نجاح القائمة المشتركة كان علامة واضحة لنضوج شعبي وطني جديد وتجاوب سليم لمجسات مجتمع، استشعرت الخطر وشخصته بدقة، وتهيأت لمواجهته بمسؤولية وجهوزية عاليتين. وكانت ـيضًا انعكاسات مهمة لتذويت واع لمعنى الشراكة الجوهرية الحقة أجراه بشكل معمق كل مركب من مركبات القائمة فاستعادوا بعده وبسببه ثقة الناس التي فقدوها، فهل مازال تشخيصنا صحيحًا؟
اخشى أننا نضيّع الفرصة مرة أخرى؛ وأخشى أن هذه القائمة قد حملت بذور انشقاقها منذ ولادتها، وسيكون علينا، قريبًا، أن نفتش عن وحدة أعمق، وعن وسائل نضالية بديلة ومستحدثة، لكي تتواءم مع طبيعة المتغيرات الحاصلة في الدولة وفي داخل مجتمعنا. وحدة تستشرف احتمالات التجانس الاوسع والممكن في مواقف الشركاء إزاء قضية المساواة على تفرعاتها وجميع منظومات الحقوق، القومية والمدنية، التي نناضل من أجل الحصول عليها أو عدم المساس بها.
يتبع..
كاتب فلسطيني

 

 

عندما اعتدت شرطة

نتنياهو على رئيس الشاباك

 

جواد بولس

اعتدت قوات الشرطة الاسرائيلية، في العشرين من شهر آب الجاري، على المتظاهرين والمعتصمين أمام بيت رئيس الوزراء الإسرائيلي في شارع بلفور في القدس الغربية، الذين توافدوا محتجين على تولي بنيامين نتنياهو رئاسة الحكومة رغم كونه متهمًا في ثلاثة لوائح اتهام جنائية خطيرة ؛ وقامت بعض عناصر الشرطة وضباطها بشحط وضرب بعض المعتصمين، مثل رئيس الشاباك السابق كرمي چيلون وعدد من ضباط جيش الاحتلال، وفرّقتهم بعنف كي تخلي المكان لصالح مظاهرة أخرى، دعا اليها مؤيدو ننتياهو ونشطاء حزب الليكود، في المكان نفسه.   

قد يبدو الخبر للكثيرين عاديًا، فلطالما شاهدنا عصيّ هذه الشرطة وهي تهوي على رؤوس وأجساد المتظاهرين العرب، وبنادقها تطلق عليهم قنابل الغاز المسيل للدموع او حتى الرصاص المطاطي والحي، كما جرى في احداث يوم الارض الخالد او خلال احتجاجات اكتوبر في العام 2000 وفي غيرها من الانفلاتات الشرطية العنصرية القمعية التي خلّفت وراءها، بين المواطنين العرب، الضحايا والمصابين والأحزان.

وإن كان ذلك الاعتقاد صحيحًا بالمطلق، ستبقى مشاهد واحداث ذلك المساء فريدة وتاريخية، لانها حملت دلالات خطيرة على طبيعة التحولات التي مر بها نظام الحكم في اسرئيل، وبراهين على انتقاله من نظام عنصري يقمع ويضطهد مواطني الدولة العرب، الى نظام مستبد وغير ديمقراطي وفاشي لا يقبل بأي نوع من المعارضة السياسية حتى لو كانت آتية من داخل المجتمع اليهودي وتمارسها اجسام وجهات وشخصيات صهيونية بارزة وصاحبة تاريخ مشهود في تضحياتها من اجل بناء إسرائيل القوية.

ستبقى مشاهد ضرب الشرطة للرئيس السابق لجهاز المخابرات العامة، الشاباك، كرمي چيلون واصابته بجروح طفيفة، وصور العنف الممارس على عدد من النساء والشخصيات اليهودية البارزة التي شاركت في تلك الاحتجاجات، ومنظر العقيد بجيش الاحتلال، أمير هاسكل، وهو يجرّ على قارعة الطريق العام أمام أعين العالم، شواهد على كيف تحوّلت شرطة إسرائيل من جهاز موكل بخدمة الدولة وحماية مواطنيها اليهود - ويمارس بشكل منهجي سياسة القمع العنصري ضد مواطنيها العرب - الى مسوخ بشرية والى ذراع مسيّسة تلاحق وتضرب، باسم رئيس الحكومة وحلفائه، كل معارض ومحتج على شرعية سلطته وعلى سياساته التحريضية.

إنها آخر الأقنعة؛ سقطت وتعرّى النظام وظهر بكامل قبحه وشراسته؛ فبعد اليوم سيواجه المواطنون في اسرائيل واقعًا مختلفًا وكيانًا يُقاد من قبل ثلة تؤمن أن غاياتها تجيز لها تسخير جميع الوسائل والاحابيل، ونسف كل القيم الانسانية وتعطيل كل الموجبات القانونية وإلغائها؛ إنها مجموعة عابثة تؤمن أنها والدولة والشعب ثلاثة أقانيم متجسدة في شخص زعيم واحد مفدّى. 

 لم يحدث هذا الانهيار الشامل فجأة؛ فلقد زحفنا على ذلك المنزلق منذ سنوات، وحذرنا منه حين كنا نصفع ونلعق ذلّنا مكابرين، ونصيح: كلنا نفدي الوطن؛ وحين كنا نُنْكَب ولا نرعوي بل نفتش ونغني للملايين، أو لبغدادَ قلعة اسودنا؛ وحين كنا ننتكس فنشكر السماء على لطفها ونمطرها بدعاءاتنا، ونعلن اننا راجعون بقوة السلاح.

ان الاقلية العربية في اسرائيل بحاجة،  الآن أكثر مما مضى، الى اعادة نظر في اساليب نضالاتها ووسائل تنظيمها؛ فبعض الفئات الحزبية والحركات السياسية ما زالت ترفض اعادة حساباتها ورؤية أهم المتغيّرات التي حصلت خلال القرن الماضي، وخلال العقد الأخير، ويصرّ هؤلاء على التمسك بعقائدهم وبمواقفهم الأيديولوجية ورؤاهم السياسية التقليدية؛ فلا يعني مثلًا انهيار الاتحاد السوفياتي أي شيء لبعض الشيوعيين القدامى، ولا تبخر ما كان يسمى "حلف وارسو" ؛ بل يحافظ هؤلاء على ترديد نفس الديباجات الموروثة من العصر الذهبي ويعظّمون شأن قيصر الكرملين الحالي، بوتين، وكأنه رئيس "البوليتبيرو" الذي يقف على رأس"امبراطورية الشمس" التي كانت الصديقة الجبارة لمعظم الشعوب المقهورة.

كان انهيار الحلم الاحمر من أبرز وأهم احداث القرن المنصرم، لكنه لم يكن الخيبة  الوحيدة التي غيّرت مجرى التاريخ، ساعة بدا هذا لصنّاعه الثائرين، كل من اجل حلمه، واعدًا وزاهرًا؛ فسقوط مشروع القومية العربية بمفهومه الناصري، وتعثر المشروع الاسلامي الاخواني، كانا، من دون شك، حدثين اضافيين بارزين ما زالت تذبذباتهما تخض أواصر وخواصر المنطقة وتعبث في استقرار شعوبها.

لا وقت لخداع انفسنا ولا هوامش للمقامرات أو للتحليق بنشوة على روائح الماضي وأحلامه؛ فلن ينجو من أنياب هذه الوحوش الا الشجاع والحكيم واليقظ؛  وشرط هذه النجاة الاول هو اعترافنا بأن اسرائيل الجديدة والقوية والمارقة هي  ليست اسرائيل التي تمسّك مؤسسوها بيهوديتها المقرونة بديمقراطية عرجاء للعرب وكاملة ليهودها؛ فهي اليوم ابنة الظلام واخت للذين أطفأوا الصباح  ورقصوا على جثته وعلى وجع النايات.

يدل كل ما يدور في فلكنا على ان محنتنا سوف تشتد، واننا سنعاني، كمواطنين عرب، في المستقبل القريب، أضعاف ما واجهناه في سبعة عقود عجاف. وحدنا سنبقى؛ لن يبكينا دجلة الغارق في صدى عراقه، وشوقنا لبردى مؤجل الى ان يسترد شامه وتتوحد الاوطان ! وحدنا كنا، فلا الصحراء اسعفتنا ولا سيوف العربان؛ ووحدنا سلمنا ووحدنا سننام كي نحمل عمرنا ونبدده فوق ربوع جليلنا ونغني "ما اجمله بددا" مع "عقل" لبنان.

الرمل في ساعاتنا ينفد، فعلينا ان نحسم أمورنا ونقرر كيف ستكون المواجهة واين  مطارقنا ومن هو السندان ؟ 

من يتعقب عناوين مؤسساتنا القيادية، الموجود بعضها اسميًا وبعضها فعليًا، لن يخطئ في تشخيص قصورها المزمن ومحدودية وسائل نضالاتها ونجاعتها؛ فالقائمة المشتركة، رغم هفوات بعض مركباتها، تجتهد وتعطي ما في وسعها وذلك ضمن ما تتيحه لها الكنيست كمنصة للعمل البرلماني، الذي مهما كان زخمًا ومؤثرًا، يبقى محدودًا وقاصرًا على انتاج مردود سياسي وحراك شعبي كفيل بمواجهة القوى الشعبية اليمينية وغزواتها في الشوارع وعلى جميع الجبهات.

وعلى المدارات المحلية سنجد رؤساء البلديات والمجالس العربية يغرقون في معاركهم اليومية وينهكون في محاولاتهم لتحصيل حقوق بلداتهم من خزينة الدولة، وذلك دون ان تعفيهم مجتمعاتهم من سداد فواتير حملاتهم الانتخابية وصفقاتها التي ضمنت لبعضهم الجلوس على كراسي الرئاسة.

أما عما تعانيه " اللجنة العليا لمتابعة شوون الجماهير العربية"، فلقد كتبنا مرارًا ونوّهنا الى ضرورة إحيائها على اسس جديده ووفق رؤى سياسية مستحدثة تتواءم وطبيعة التغييرات التي عصفت بالمجتمع الاسرائيلي وبمجتمعاتنا المحلية وعلى نطاقات أوسع في منطقتنا والعالم؛ إلا أن الأمر لم يحصل.

وقبل ان استرسل في هذه الجزئية، والوَّم عن غير وجه حق،  سأستعير ما كتبه الشيح كمال خطيب، رئيس "لجنة الحريات" المنبثقة عن اللجنة العليا - وهو بلا شك رجلها الثاني، بعد رئيسها محمد بركة - وذلك في معرض ردّه السجالي على اعلان كان قد نشره الاعلامي المعروف وليد العمري، فأجابه الشيخ على صفحته جازمًا وقال: "إن لجنة الحريات هي واحدة من عشر لجان تتشكل منها لجنة المتابعة التي يراسها السيد محمد بركة، حيث يرأس كل مركب من مركبات المتابعة واحدة من هذه اللجان. هل سمع وليد العمري عن لجنة التخطيط الاستراتيجي وعن لجنة الارض والمسكن؟ وعن لجنة القدس واللجنة الاعلامية؟ لا شك انه لم يسمع والسبب انها معطلة ولم يتم تفعيلها والقيام بدورها.. "

هل يبقى بعد هذا الاعتراف الصريح والخطير كلام؟ فاللجنة، للاسباب التي ذكرها خطيب، ولغيرها، لم تعد عنوانًا جاذبًا للجماهير العريضة، ولا مؤسسة تمثل القواسم المشتركة لمواقف أكثرية الناس؛ ولقد برز ضمور دورها بوضوح بعد ان انحسرت معظم نشاطاتها وبقيت "لجنة الحريات" هي الجسم الوحيد الفاعل باسمها في ميادين ضيقة، في حين اهملت هذه اللجنة دعم سائر الحريات او عارضها رئيسها لاسباب فئوية أو عقائدية لا يخفيها الشيخ بل يعلنها تساوقًا مع مبادئه الشرعية وايمانه الديني.

من سيقود مراكبنا في هذا البحر الهائج ؟ 

سينبري البعض وسيدعون بأن كرمي چيلون والآلاف ممن شاركوا في الاحتجاجات على حكم نتنياهو وضد تحريضه الارعن، يفعلون ذلك لخوفهم على مستقبل دولتهم ولحرصهم على سلامة اسرائيل؛ وبالتالي لا تعني صور عناصر الشرطة وهي تضرب بعنف المتظاهرين اليهود، لهؤلاء شيئًا ولا تعنيهم كذلك حقيقة الاعتداء على رئيس جهاز المخابرات الاسرائيلي وغيره واصابتهم بجراح واهانتهم على الملأ، بل سيمضي بعضهم وسيهزأون بالحدث وسيواجهونه بشعاراتهم المقاتلة وقناعاتهم الثابتة!

سيدّعي آخرون بأنّ ما جرى لم يكن سوى مسرحية صهيونية خبيثة علينا الحذر منها وفضحها؛ في حين سيلجأ رهط آخر الى تفكيك عناصر المشهد بمساعدة شيفرة المؤامرة وسحر المزايدة وفي حساباتهم الضارب والمضروب سيان وجميعهم "بطيخ صهيوني" ، فليكسر بيبي رأس كرمي، ولنبقى نحن راضين على رصيف العروبة ننتظر الزمن أو نرفع صلواتنا داخل كهوفنا، لأن نصرنا، هكذا تبشر السماء، قريب وزاحف.

لست من أنصار جميع هؤلاء؛ فانا على قناعة بان بما جرى في العشرين من أب هو اعلان عن ولادة حقبة ومعسكرات جديدة، فاما ان نكون، نحن المواطنين العرب، مع ومن حاصدي جناها، أو ان نصير من جناها المحصود.   

 

اتفاقية إسرائيل – أبو ظبي

ونهاية حلم الأمة الواحدة

جواد بولس

 

ما زالت تداعيات خبر الاتفاق الإسرائيلي الإماراتي تشغل فضاءات الإعلام المحلي والعالمي، وتخلق بغزارتها بلبلة، من المستحيل تحديد معالمها أو رصد مصادرها ومن يقف وراءها أو يشحذها بآرائه المغرضة أو بجهله، اللذين تسمح منصات التواصل الاجتماعي بانتشارهما بتساو «فكري» مستفز ومغلوط.
لقد قيل في الماضي إن اختراع الرصاصة والمسدس ساوى بين الجبان، أو الخسيس، والشجاع. واليوم نقول إن التقدم العلمي والتكنولوجي وما أتاحاه من سهولة باستعمال معظم المنتوجات العصرية الالكترونية وغيرها، ساوى بين «كل عالم وجهول» حتى صار الناس ينامون على سيول من «المعارف» والتحاليل والخلاصات والنصائح «العلمية» ويفيقون، في الصباح، على نقيضها تمامًا.

لقد استهدف قباطنة العالم الجديد تدمير الكيانات العربية بشكل تام وإعادتها إلى تشكلاتها القبلية الأصلية والتحكم بها وبمقدرات البلاد الطبيعية. كما لم يخفوا مخططاتهم، بل طلبوا مساعدة عملائهم من بين قادة العرب فلم يتخلف هؤلاء وتحالفوا على تنفيذ تلك المخططات التي أوصلت، كما نرى، الدول العربية – وبعضها لا يعدّ دولًا بالمعنى الصحيح للكلمة – إلى حالة من «العمى الأبيض» حيث تفوق أوضاع مجتمعاتها البائسة، وانحطاطات قادتها واستبدادهم، أوضاع المدينة الرهيبة التي وصفها الأديب الكبير خوسيه ساراماغو في روايته المثيرة واللافتة «العمى».
كان شرقنا، قبل الاعلان عن اتفاقية الإمارات، غارقًا في جهل وبحر من ظلمة فاحمة، وسيبقى بعدها تائهًا ومهزومًا لزمن طويل آت.
إنها حالة من الفوضى العارمة التي لا يعرف فيها المواطن العربي المسحوق من «يمتح» في بئره الماءَ ومن في أسفلها «يميحه» كي يكون زلالا!

عندما ظهر بنيامين نتنياهو على شاشة التلفزيون وأعلن، بفرح عظيم، نبأ توصله مع صديقه الأمير الإماراتي إلى اتفاقية سلام شاملة، تهافت أصحاب الأقلام والمنابر على وصف الحدث فاعتبر بعضهم أن إعلان الاتفاق حدث هامشي وليس إلا كشفًا عمّا كان قائمًا بينهما في الستر بينما تفهم آخرون المشهد، فالإمارة، بالنسبة لهم، أصغر من «قُمع» وهي لذلك لن تؤثر على مستقبل المنطقة العربية والإسلامية، المشرفة على أحداث جسام سيتوّجها، وفق تكهنات هؤلاء، شتاء عربي زاحف سيغسل قاذورات عصر الخيانات والسقوط.
لا يعنيني جميع ما كتب هؤلاء حول هواجس الأمة العربية أو الإسلامية على الإطلاق فمعظم ما قالوه هو شعارات فضفاضة وكتابات ملتبسة وهشة، كانت إسرائيل قد استفادت منها لعقود طويلة وسخّرتها بحكمة وتسخرها بخبث من أجل إحكام نفوذها في المنطقة وتسويغ قمعها للفلسطينيين، وهم ضحايا ممارساتها واحتلالها المباشرين والوحيدين.
ستبقى القضية الفلسطينية هدف هذه المخططات المباشر والأهم فما قامت به الإمارات يُعدّ خطوة خطيرة لا يجوز الاستهزاء من احتمالات تأثيراتها الممكنة على مستقبل المنطقة، وكل المحاولات لتقزيم الحدث ووسمه بالعادي وبالعابر ستخدم مآرب القيمين عليه، ولذلك سيبقى وجع الفلسطينيين حقيقيًا، وشعورهم بخطورة المؤامرة الرامية إلى تصفية قضيتهم، مبررًا، وخوفهم من محاولات تقويض مشروع تحررهم الوطني وإقامة دولتهم المستقلة، في إطار حل الدولتين المتفق عليه دوليًا – مشروعًا وصحيحًا.

ما قامت به الإمارات يُعدّ خطوة خطيرة لا يجوز الاستهزاء من احتمالات تأثيراتها الممكنة على مستقبل المنطقة

ما زالت محاولات احتواء تداعيات هذه الصفقة أو إجهاض مخرجاتها المبرمجة جارية، ومن سيتصدى لها بشكل صارم وواضح وسيقف في مواجهتها هم قيادات وفصائل منظمة التحرير وأبناء الشعب الفلسطيني الذين عرفوا في الماضي كيف يسقطون المؤامرات ضد حقوقهم ويفشلونها، وإلى جانبهم كمشة من الحلفاء الحقيقيين.
ومن المؤسف حقًا في مثل هذه الظروف العصيبة عدم اصطفاف كل القوى السياسية والمجتمعية الفلسطينية إلى جانب قياداتهم، فالمرحلة حرجة، ومحاصرة منجزات الشعب الفلسطيني تتصاعد من يوم إلى يوم، مما يستدعي التخلي عن جميع مسببات الخلافات الفلسطينية الداخلية وإعادة بناء القلعة الواحدة المتينة، كي نستطيع، بمن في داخلها، مجابهة موجات الضغوطات المتوقعة.
لا أعرف من أين يأتي المتفائلون بصبرهم، ولا لماذا يبشّر من يبشّر العربَ بالفرج القريب، فكل من «يفتي» بالنصر الأكيد يمدّ يديه للسماء نفسها وهي، كما علّمونا، فوق الجميع زرقاء ودودة وجميلة، خاصة ونحن نرى كيف لم يبق للفلسطيني سلاحًا إلا «ذراع» شاعرهم محمود درويش وقطران الوحدة والصمود.
سمعنا في مجمل ما سمعنا من محاولات البعض لتفهم موجبات توقيع الاتفاقية الإماراتية أو تبريرها، رزمة من الادعاءات الواهية وفي طليعتها نجاح إمارة أبو ظبي بإيقاف ضم المناطق الفلسطينية للسيادة الإسرائيلية. لم تنطلِ هذه الحجج على الناس لا سيما على الواعين منهم والشرفاء. ولكن من أخبث ما سيق كتبرير للخطوة الإماراتية كان ادعاء من لجأوا إلى استحضار الاتفاقيات الفلسطينية التي وقعتها منظمة التحرير مع الحكومة الإسرائيلية، وإثباتها كسوابق تجيز لباقي الدول العربية محاكاتها أو تكريرها. ولقد تصرّف من جنّد هذه الذريعة بديماغوجية خطيرة، وهو يعرف عدم صحة المقارنة وضرورة سقوط المقاربة.

لقد أجاب القائد الكبير الراحل فيصل الحسيني على جميع هؤلاء منذ سنوات طويلة، وحذر من الوقوع في هذه المغالطة وهو الذي كان يشعر كيف كان بعض قادة العرب يحلم بالنوم في حضن إسرائيل أو على صدرها، فصرّح، قبل وفاته، حاسمًا: «نحن نقول للدول العربية التي تريد أن تحقق سلمًا أنه من المحظور عليكم أن تعقدوا اتصالًا مع إسرائيل ولا تستخدمونا كمظلة أذا جلسنا نحن مع الإسرائيليين، وتقولوا: الفلسطينيون جلسوا مع إسرائيل فلماذا لا نجلس؟ نحن نجلس مع الإسرائيليين لفك الارتباط ولا نجلس معهم لتمكين هذا الارتباط».
رحل الفيصل ورحلت معه أحلام فلسطينية عديدة فهل ما زال التوقع اليوم أن يتصرف العرب كما طالبهم فيصل قبل عشرين عامًا ممكنًا وللأسباب نفسها التي بررته حينها؟
إنه تساؤل مشروع وضروري، وهو واجب على كل فلسطيني يفتش عن مستقبله الآمن في هذا العالم المتغيّر وضوابطه السائلة، فحتمية التضامن العربي، الذي كان في حكم البداهة المتوقعة، صارت مسألة فيها وجهة نظر وهي في حاجة إلى فحص معمق وتفكيك شامل.
لقد كانت نكسة يونيو/حزيران 1967 أكبر وأقسى الضربات التي أنزلت على دعاة وحدة الأمة العربية، وتلتها هزات عديدة أدت مع السنين إلى زعزعة شروط حالة التضامن المتوقعة بشكل طبيعي ومفهوم.
سيكون اليوم من الصعب، إنْ لم يكن من المستحيل، على من يعتنق العروبة، كفكرة وكفكر، التنكر لانكسار الحلم أو مواجهة واقع بعث القبلية العربية واستعادة القبائل لعصبياتها القديمة واستئنافها لممارسة حروبها الوجودية في معظم «الدول» التي كانت ذات يوم موئل الحلم العروبي وموعدها لإقامة الوطن الواحد الكبير، كما أطلقه جمال عبد الناصر ومن نادوا مثله وغنوا: أمجاد يا عرب امجاد!

إنها قضية أساسية وذات علاقة وثقى بما يجري من تطورات وأحداث أمامنا، فالسؤال: لماذا يتوقع الفلسطينيون اليوم من إمارة أبو ظبي، أو من أي دولة عربية أخرى، تضامن حكامها التلقائي الفوري مع قضيتهم ودعمًا مطلقًا على جميع الجبهات؟ هو سؤال مطروح بشدة وله ما يبرره. فهل عروبة هؤلاء القادة هي الجواب، مثلًا أم كونهم مسلمين، أم بدواعي قيمهم الإنسانية وأخلاقهم المثلى؟
وهل غياب ردة فعل شعوب تلك الدول على مواقف قاداتهم واستنكافهم عن دعم فلسطين يشكل مؤشرًا على حدوث تغيّرات جذرية في تلك الساحات؟ وهل يتوجب على الفلسطينيين، قيادةً ومؤسساتٍ وشعبًا، الانتباه لجميع هذه المؤشرات وإعادة حساباتهم من أجل إنقاذ مستقبل قضيتهم؟
للإجابة على هذه التساؤلات أهمية في تحديد سياسات الفلسطينيين المستقبلية؛ وعندما أقول ذلك لا أستثني مواقف قادة فلسطينيي الداخل الذين آثروا، رغم جسامة الحدث، التزام الحذر والاكتفاء بتعقيبات متواضعة وخجولة، حيث غابت عنها مواقف واضحة وموحدة «للقائمة المشتركة» و»للجنة المتابعة العليا لقضايا الجماهير العربية» وغيرهما.
إنه صمت غير مبرر، ويدلّ على عمق أزمة هذه القيادات وعلى عجزها في مواجهة الواقع الذي ينادي بضرورة إيجاد الحلول والبدائل.
كاتب فلسطيني

 

 

كيف سرق قاضيا المحكمة

العليا دولتهما إسرائيل؟

جواد بولس

أثار قرار المحكمة العليا الإسرائيلية الصادر في العاشر من الشهر الجاري، والقاضي بإلغاء أمر قائد جيش الاحتلال بهدم بيت الأسير الفلسطيني نظمي أبو بكر، زوبعة عنيفة في الأوساط اليمينية الرسمية والشعبية، حيث شارك في تأجيجها عدد من أعضاء الكنيست الاسرائيلي، الذين هاجموا بصورة غير مسبوقة، قضاة المحكمة العليا، وحرّضوا عليهم بشكل مباشر وصريح.
برز في هذا المشهد تصريح رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، الذي وصف فيه قرار المحكمة «بالبائس» وطالب، بما يشكل تدخلا خطيرا غير مسبوق في عمل الجهات القضائية، «بضرورة إعادة بحث القضية أمام هيئة موسعة من قضاة المحكمة» وأكد بعد أن اتهم المحكمة بشكل مبطن على أنها تشجع الإرهاب، أنه ما زال يتبنى، كما تبنى في الماضي، سياسة هدم بيوت «الإرهابيين» وأنه لن يتراجع عن ذلك أبدًا.
تواجه المحكمة العليا الإسرائيلية، منذ سنوات، حملة يمينية مسعورة أشرفت على نهايتها أو تكاد؛ وسقوط هذه المؤسسة في براثن النظام السياسي الجديد، الذي تمكنت عناصره من السيطرة على معظم مقاود السلطة، ولم يتبق عليها إلا الاستيلاء على بعض «الثغور» الناشزة، وأهمها مؤسسة المستشار القضائي للحكومة وجهاز المحاكم، وفي طليعته المحكمة العليا، التي كانت رمز ديمقراطية إسرائيل ونزاهتها المدّعتين.
لم أنوِ التطرق مجددًا لمكانة المحكمة العليا الإسرائيلية، ولا لتاريخها الملتبس إزاء حقوق المواطنين العرب في إسرائيل، أو لدورها العنصري في تسويغ سياسات الاحتلال وممارساته ضد الفلسطينيين المنتكسين منذ عام 1967، لكثرة ما كتبت في هذا المضمار، ولصراحتي حين أطلقت قبل سنوات ندائي للأخوة القابعين تحت الاحتلال، بضرورة مقاطعتهم لهذه المحكمة، ومع ذلك ولفداحة الأمر قررت العودة إلى هذه المسألة.
بدأت عملي، في بداية ثمانينيات القرن المنصرم، كمتدرب في مكتب حنا نقارة، «أبو طوني» شيخ المحامين وأغزرهم ثقافة وصلابة وتمرّدا. رافقته في أواخر غزواته القانونية، وكنت شاهدًا على قناعاته بسقوط الأقنعة وتشخيصه المبكر لفساد منظومة «العدل» الإسرائيلية؛ وهو الذي كمنافح عن الإنسانية في جميع تجلياتها، خبر معنى مقارعة القمع بدون هوادة، وآمن بحتمية انتصار الخشب على المشانق.
وصلنا إلى قاعة المحكمة العليا التي كانت تعمل في الطابق الثالث من عمارة «المسكوبية» في مركز القدس الغربية، قبل انتقالها إلى مقرها الحالي «قصر العدل» الذي تبرعت ببنائه عائلة روتشيلد المعروفة. كان القاضي يوئيل زوسمان هو رئيس هيئة القضاة، فرحب بأبي طوني مبديًا، بشكل واضح، احترامًا له وودًا عتيقًا.

 لا يخفي اليمين الإسرائيلي عزمه السيطرة على المحاكم وملأها بقضاة يمينيين؛ وبدأت الوزيرة السابقة أييلت شاكيد مشروعها المعلن

استعرض أبو طوني تفاصيل قضيته، وأصر على أن استيلاء سلطة أراضي إسرائيل على قطع الأراضي، التي يطالب هو باسم أصحابها بتحريرها وإرجاعها لهم، باطل وغير عادل.
لا اتذكر اليوم تفاصيل تلك القضية بدقة، لكنني لن أنسى كيف وقف مثل السيف، وأصر على حق أولئك الفلاحين باستعادة أراضيهم. حاول القاضي زوسمان أن يقاطعه ليشرح له عن التغييرات التي ادخلها قانون الأراضي الاسرائيلي الجديد، لكن أبا طوني، الذي كان يعرف ذلك ويرفضه، تابع مرافعته بصلابة وبعبرية مَن ولد حينما كانت الارض تتكلم العربية. تبسم القضاة؛ وفي لحظة كان يلتقط فيها أبو طوني انفاسه نجح القاضي زوسمان بأن يقول: «القانون يا ابا طوني، القانون.. فحسب قانون الدولة هذه الأرض ليست لأولئك الفلاحين». ساد الصمت في القاعة. لاحظت أن أبا طوني يحاول ابتلاع كلمات زوسمان، ولا ينتظر أي توضيح. كانت نظارته قد سقطت حتى وقفت عند ارنبة أنفه، أرجع كتفيه إلى الوراء، كمن يريد أن يرمي قرصًا من حديد، وبيده الغاضبة رفع بنطاله حين كانت سبابته الاخرى تشق هواء الغرفة البارد. نظر نحو القضاة بعينيه الجاحظتين وصرخ بعبريته العربية «اذن، هحوق شيلخيم، أفال هصيدك ايتانو» أي القانون لكم ولكن العدل معنا. كررها عدة مرات حتى التصقت حروفها على جدران القاعة.. كان المشهد مستفزًا وحزينًا. كنت أجلس بهدوء مصطنع وانتظر أن يأمرني لأفعل أي شيء. أحسست بكفه تحط على كتفي ويضغط بأصابعه برفق أب. سرت في جسدي حرارة ساحرة ففهمت، عندها، كيف تنقل وصايا الأحرار من جيل إلى جيل، أعلن القاضي عن رفع الجلسة وطلب من ابي طوني أن يدخل عنده إلى الديوان.
لم يهدأ أبو طوني أمام زوسمان، الذي حاول أن يكون لطيفًا، رفض أن يستسلم لقوة القانون الجديد ومنطقه، فدافع عن الحق بشراسة وانهى حديثه بما معناه: اذا كنتم كقضاة ستدافعون عن هذا الظلم، وهذا القمع وعن هذه السرقات، فلن يدوم لكم عرش ولن تستقر سفينتكم بسلام، باطلكم سينسف باطنكم ويدمره. غادر الغرفة وكان مضطربًا وفوّارًا. نظر نحونا، أنا وموكلاه، وقال: «هزُلَتْ.. لم تعد هذه محكمة؛ أسموها ما شئتم، فلسوف تصير مقصلة أو مشنقة».
دخلَت بتاريخ 12/5/2020 قوة من جيش الاحتلال الإسرائيلي إلى قرية يعبد القريبة من مدينة جنين في شمال الضفة الغربية المحتلة، بهدف اعتقال بعض المواطنين في ساعات الليل المتأخرة، بعد سماعه لضجة غريبة في محيط بيته صعد المواطن نظمي أبو بكر إلى سطح بيتهم العائلي المكون من ثلاث طبقات، وقام بإلقاء طوبة من فوق، سقطت على رأس جندي إسرائيلي وقتلته. أصدر قائد جيش الاحتلال الإسرائيلي، على إثر مقتل الجندي، أمراً يقضي بهدم بيت الأسير نظمي الكائن في الطابق الثالث من بناية تسكن في طابقيها السفليين عائلتا أخويه، بينما يسكن هو وزوجته واولادهما الثمانية، ومنهم سبعة قاصرين، في الطابق المعد للهدم.
التمست العائلات، الزوجة والأولاد والإخوة، أمر منع ضد أمر الهدم المذكور، وادّعت أن القرار سيعاقب عائلات كاملة وسيرمي بأفرادها إلى الشوارع، بدون أن يكون لهم ضلع أو سابق معرفة أو أي مسؤولية عمّا يتّهم به نظمي.
وحين قبلت المحكمة الالتماس، اعتبر البعض قرارها جريئا؛ وسيجنده آخرون كمثال لعدل القضاء الاسرائيلي، أو كذريعة لاستمرار لجوء الفلسطينيين لهذه المحكمة؛ أما أنا، وإن كنت سعيدًا لإنقاذ بيت العائلة من الهدم، لست مطمئنًا، فهذا القرار هو استثناء عن القاعدة الراجحة، التي تثبتها ركامات مئات البيوت التي صادقت على هدمها هذه المحكمة خلال عشرات السنوات الماضية؛ ولست مطمئنا، كذلك، لان مصير هذه المؤسسة، ربما بسبب هذه الاستثناءات ايضًا، قد حسم ويوم سقوطها النهائي بات وشيكًا ومؤكدًا.
لا يخفي اليمين الاسرائيلي عزمه السيطرة على المحاكم وملأها بقضاة يمينيين؛ فقد شرعت الوزيرة السابقة أييلت شاكيد بمشروعها المعلن، وأدخلت عددًا من القضاة الأيديولوجيين إلى أجهزة القضاء، وفي مقدمتها إلى المحكمة العليا. لقد تشكلت هيئة المحكمة في قضية عائلة ابو بكر من ثلاثة قضاة، فقبل اثنان منهم، القاضي جورج قرا، والقاضي ماني مزوز، الالتماس، بفوارق بين مسوغات كل واحد منهما، ورفضا الموافقة على هدم البيت؛ بينما وافقت القاضية يعيل فيلنر على هدمه. وكانت هذه القاضية قد عينت ضمن سياسة التعيينات الجديدة، وتاريخها الشخصي يخبرنا انها كانت من أوائل من شاركوا مع حركة «غوش ايمونيم» مسيرة الاستيطان ومحاولات الاستيلاء على أراضي الفلسطينيين في منطقة سبسطيا وغيرها، في منتصف السبعينيات؛ وهي ليست وحيدة هناك.
لم يعش أبو طوني ليرى كيف تتحقق نبوءته؛ وكان قد مات قبله القاضي زوسمان، بدون أن يستوعب معنى نصيحة ضحية الحاضر لمن يتجبرون بها، بعد أن كانوا يومًا ضحايا في أرض بعيدة.
لقد حذرنا مرارًا، ونحن أولاد أبي طوني، من أن محكمة بررت لعقود سلب حقوق مواطني الدولة العرب وتبرر قمع الفلسطينيين بذرائع كاذبة، ستسقط فريسة بين انياب الذئاب الجائعة. لم يعش ابو طوني ليرى كيف كان حدسه صائبًا؛ فاليوم صرنا أقرب إلى أعواد المشانق التي يهدد بنصبها بعض الساسة لكل من يعارضهم، حتى لو كان مستشارًا قانونيًا سابقًا، وقاضيًا مثل ماني مزوز؛ فهو لم يسلم، وزميله جورج قرا، من تحريض النائب سموطريتش، الذي هدر عمليًا دمهما عندما كتب بصراحة: « يخطّر مزوز وقرا حياة كل واحد وواحدة منكم. حقوق ملكية المخربين وعائلاتهم أهم لديهما من حياتنا جميعا. هذا وضع مريض ومستفز بدرجات عليا، ويستدعي علاجًا جذريًا بمنأى عن القيم المشوهة التي تحاول مجموعة صغيرة غير منتخبة أن تفرضها علينا بالقوة. ببساطة، لقد سرقوا منا الدولة». هكذا عندما يستوحش الباطل. إنها الدولة التي خدمها القاضي زوسمان وزملاؤه وحذر منها حنا نقاره ورفاقه.
كاتب فلسطيني

 

 

عندما تذكر

 الشاعر بيروته

جواد بولس

وتبقى بيروت ذاكرة للوجع؛ وآب، شهر الرماد السماوي، يعود فتنقر اسراب جراده على عتباتنا، ويصحّينا من نسياننا العقيم، كي نبحر، على موج دموعنا، نحو ذلك "المنسيّ بين فراشتين" ونغرق من جديد في "السؤال عن الحقيقة".

صدمتنا بيروت مرّة أخرى، وكذّبت، برعونة ربّة لا ترحم، سراب السذّج وليلك المتفائلين؛ وعرّت، للمرة الألف، شمم الشقائق على سفوح صنين. لقد أعادت "خيمتنا"، في ليلها الأحمر الدامي، للشرق معناه التليد، وذكّرَتنا كيف يولد الغفاة من خراب وكيف الى خراب يعودون.

قد لا يصحّ، ونحن نقف على فوّهات شهقاتنا، إلا الصمت والدعاء في محاريب العجز، وألا نفقد عقولنا أو ايماننا بمن على كل شيء قدير، كما كان يؤمن الراكعون بخشوع في المعابد القريبة من مرفأ الدم، قبل انشطار القمر فوق سماء بيروت الشقية.     

ولكن بعض الحقيقة لا يضير؛ فلبنان لم يولد ولم يعش ككيان سيادي سليم؛ ولم يكن ذات يوم دولة طبيعية، ولا كان يشبه باقي دول العالم الفاشلة. لقد هندسه رعاة العالم في القرن المنصرم، كما يعرف جميع أهله، ليكون مجرد "قوقعة" تشارك معظم طوائفه الدينية في بناء فسيفساء درعها الخارجي، ويعيش في داخلها "مواطفون" ** ، لا مواطنون، كما ينبغي في عصر الدول الحديثة.

لا أعدّ نفسي خبيرًا بتاريخ لبنان، لكنني لا اعتقد انّ تشخيص مأساته بحاجة الى دربة خبراء أو الى دراسات علماء في السياسة وأخواتها.

لم تُتَح لنا، نحن فلسطينيي الداخل، زيارة لبنان إلا مؤخرًا وفي حالات استثنائية جدًّا، لم تعُد متاحة الآن، كتلك التي سنحت لنا قبل ثلاثة اعوام، حين سُمحت لبعض المجموعات الصغيرة زيارته، ومنها مجموعتنا المؤلفة من سبعة أزواج أصدقاء، وذلك تحت عنوان الحجيج أو السياحة الدينية !

لم نصدّق أننا في مطار بيروت. ما زلت أشعر كيف زجرت قلبي وهو يحاول أن يطل من بين أضلعي. كنت أسمع دقاته ولا أنظر نحو هدف محدد، ولا حتى صوب وجوه رفاقي، فعشت في لحظة سرمدية، عطّلت فيها حواسي خوفًا من أن أكتشف انني أعيش حلمًا زهريًا. إنتصف ليل بيروت ونحن على شرفتها؛ فأنهينا معاملات الدخول وركبنا الحافلة وصمت المجموعة ما انفك طاغيًا، وأعيننا تحتضن ليلها بهدوء يليق "بست الدنيا" ؛ وكل منا يستحضر لبنانه؛ فخاصتي كان من أرز ووعد وأماني خبأتُها لعقود في خوابينا وكدّستها في أناشيدنا عقودًا من جلنار، واسراب يمام.

لا أعرف متى سيسمح لي قلبي أن أنبش أمامكم أحلى وشوشات بشرّي/ جبران، أو بحة نايات "أرز الرب"، أو غنجات "زحلة" وهمهمات المجد في "بعلبك".

سأعود، ربما،  بعد استيعاب الغصة الحالية، كي انثر على أرصفة ما تبقى من عمر ، نجومًا كنا قطفناها من "شخروب" بسكنتا، وكي أضوع أزكى العطور من "بساتين الجون" ومن "دير القمر".

لكنني، والمقام اليوم مقام الدهشة والحسرة، ساحدثكم كيف كانت خاصرتي تنزف كلما انتقلنا من حاضرة لبنانية الى حاضرة ثانية ؛ فكل طائفة أو حزب سياسي حصّن مناطق نفوذه وحاصرها بأعلامه وبصور قادته وشهدائه، حتى بات لبنان الذي جئناه ليس اكثر من "هدايا بالعلب" أو آهات تندفها مواويل ابن ضيعة "نيحا" فتطير لتصير "قطعة من سما"، أو تستريح أهازيج فيروزية "تحت جفنات العنب".

لن يخطيء الزائر، مهما كان مدنفا بحب لبنان، ومسحورًا بطبيعته وبجمال بقاعه و"شوفه"، ذلك الواقع المر المستفز ؛ فكل منطقة جغرافية ما زالت تخضع لوال أو لزعيم، وهذا عنده وعند عائلته وطائفته ميليشيا جاهزة للدفاع عنه وعن حاضرته؛ بينما يتواجد جيش لبنان بكسل على بعض الحواجز العسكرية المقامة على مفارق الطرقات الرئيسية، وفي مواقع تفصل عمليًا بين منطقتي نفوذ تابعتين لجهتين مختلفتين أو أكثر.

لم أنس ما شاهدناه في زياراتنا وخوفي من الآتي على لبنان؛ فشعب يحكمه الخوف - هكذا كنت أحدّث أصدقائي - من مآسي حروبه الأهلية، لن يصمد أمام مطامع ومؤمرات الاخسّاء ؛ فبالخوف وحده لا يصان سلم أهلي ولا تبنى الاوطان.

لم نرتوِ من هذه الزيارة، وحرصنا على أن نُبقيَ من كل موقع رشفة في الريق للذكرى وللانتعاش؛ وكانت حصة بيروت هي الاكبر والابقى؛ بيروت التي وجدناها ساهمة، موطن التناقضات والمجازات المستحيلة.

لم نصغِ إلى تنهيداتها، بل تنفسناها جرعًا كاملة، بهدير بحرها المتعب وبقلقها المزمن، فنمنا على زندها الوردي وصحونا على فجرها المتردد. ودّعناها في حافلة من غيم وصلّينا من أجل سلامتها؛ فقد كان الموت، هكذا أحسسنا عندما ابتعدنا عنها، يتربص بقلبها من كل الجنبات.

فاجأتنا قوة الانفجار الذي حصل يوم الثلاثاء في مرفأ بيروت، وافجعتنا اعداد الضحايا البشرية وقيمة الخسائر المادية، حتى ذهب البعض بمقارنة هذا الانفجار بالقنبلة الامريكية اللتي ألقيت على مدينة هيروشيما  اليابانية.

انها مقاربة لافتة تذكرنا عمليًا بأيام الدمار الذي عرفته بيروت في بدايات شهر آب قبل أقل من  أربعة عقود. كم كان واخزا أن نقرأ مجددًا، وفي شهر آب تحديدا، وصف تلك الايام الجهنمية التي رصدها شاعرنا الدرويش في كتابه "ذاكرة للنسيان".

قد يكون من المستحيل ان نتطرق الى المأساة البيروتية من دون ان نستذكر، ونحن في حضرة ذكرى رحيل صاحب قصائد "بيروت" و"مديح الظل العالي "و"احمد الزعتر"، علاقة درويش ببيروت، وذلك لما لها من دلالات ذات علاقة وصواب في ايامنا هذه.

الحقيقة أنني خططت للكتابة عن محمود في ذكرى رحيله التي تصادف غدًا،  لكنّ صراخ العدم الآتي من أشلاء "بيروت التفاحة" لم يترك مجالًا "للقلب ان يضحك.. في عالم يهلك".

نحن نحب بيروت مثلما احبها الدرويش، وليس اكثر؛ فعندما سئل ذات مرة اذا احبها اجاب: " لم انتبه، فنادرا ما تحتاج الى التاكيد من انك في بيروت لانك موجود فيها بلا دليل وهي موجودة فيك بلا برهان. صوت الرصاص هو الذي يدل على بيروت ، صوت الرصاص أو صراخ الشعارات على الجدران" .

لم نسمع حين زرناها صوت الرصاص، لكننا استشعرنا، من صراخ الأعلام الحزبية في ربوع لبنان، والشعارات على الجدران، ان المدينة في خطر.    

يحاول الكثيرون ان يبحثوا عمّن كان وراء الخراب الحاصل في لبنان وما سبب الانفجار الدامي الاخير !

لا جدوى من التفتيش، فمن مثل شعب  لبنان، ببسطائه وبشرفائه، يعرف الحقيقة.

كل العناوين بقيت محفورة على جدران بيروت منذ العام 1982؛ وامراء الحرب اللبنانية الاهلية ما زالوا يئدون كل بارقة لنجاة بلادهم؛ وما زالت هياكل انظمة الاشقاء العرب قصبًا "وعروشهم قصبُ  .. في كل زاوية حاوٍ ومغتصبُ، يدعو لاندلس إن حوصرت حلبُ " ..

لقد القيت القنبلة الذرية على هيروشيما كي تستسلم اليابان نهائيًا وكي تُطبق دول الحلفاء ملازمها على رقبة النظام العالمي الذي هندسوا ابان الحرب العالمية الثانية.

واليوم، وبعد مرور سبعة عقود، يعكف مهندسو النظام العالمي على هندسة شرق اوسط جديد، حيث على اشلاء بيروت ان تتناثر ليأخذ لبنان الطوائف مكانه على خارطة الدم الجديدة؛ وذلك مثلما حصل مع سائر اشباه الدول، او اذا اردنا، والشيء بالشيء يذكر، كما كتب الشاعر قبل حوالي الأربعة عقود في مجازية هيروشيما العرب: "ستكون سماء بيروت قبة كبيرة من صفيح داكن، الظهيرة المطبقة تنشر رخاوتها في العظام. الافق لوح من الرمادي العادي لا يلونه سوى عبث الطائرات. سماء من هيروشيما.  في وسعي ان اتناول طبشورة واكتب على اللوح ما اشاء من اسماء وتعليقات. اجتذبتني الخاطرة. ماذا اكتب لو صعدت الى سطح بناية عالية: لن يمروا ? كتبوها. نموت ليحيا الوطن ؟ كتبوها. هيروشيما ؟ كتبوها. طاشت الحروف كلها من ذاكرتي ومن اصابعي. نسيت الابجدية.لم اتذكر غير حروف خمسة: ب ي ر و ت" .

ونحن اليوم مثل شاعرنا نتذكر بيروت ونخشى عليها ونتذكر ايضًا حروفًا خمسة اخرى:

م ح م و د ..

** (الرصيد لنصري الصايغ ناحت مصطلح "المواطفون").      

 

في القدس…

في يبوس لا ينام الزمن

جواد بولس

 

نفّذت قوات الأمن الإسرائيلي صباح يوم الأربعاء الفائت حملة تفتيش «لمركز يبوس الثقافي» الكائن في القدس الشرقية، بعد أن اقتحمت في موعد سابق من ذلك الصباح بيت مديرته رانيا الياس، واعتقلوها برفقة زوجها سهيل خوري أحد مؤسسي المركز الأوائل ومدير المعهد الوطني للموسيقى في المدينة. وقد أفرجت الشرطة عنهما بعد فترة تحقيق دامت اثنتي عشرة ساعة، تمحورت، حسب ادعاء الناطقة بلسان شرطة إسرائيل، حول مخالفات إدارية!
سبقت هذا الاعتداء على «مركز يبوس» عدة حملات ضد مؤسسات فلسطينية، لم تكتفِ إسرائيل بتفتيشها وبمصادرة بعض محتوياتها فحسب، بل أمرت بإغلاقها وبتعطيل خدماتها للمواطنين. كان «بيت الشرق» الذي وقف على رأسه الراحل فيصل الحسيني، أهم تلك المؤسسات وقلعتها التي أنذر سقوطُها، في حينه، بالانهيارات المقبلة، وهو ما حصل فعلًا.
لن تتوقف إسرائيل عن ممارسة سياساتها بحق القدس، وبحق مؤسساتها الفلسطينية وبحق مجتمعها، فقد خطط قادتها، مباشرة بعد توقيع اتفاقية «أوسلو» من أجل تقويض»هياكل» المدينة، وهدم بناها السياسية والاجتماعية، وهندسة «قدس» أخرى، خاصة بعد أن شعرت إسرائيل كيف ينشأ في القدس مجتمع مدني سليم، بمنظومة مؤسساته الأهلية والشعبية والنقابية، ويعيش بهوية سياسية جامعة وواضحة، وبعد أن شاهدت كيف أصبحت القدس الشرقية في أعين العالم عنوانًا سياسيًا حقيقيًا، وعاصمة فلسطينية يقصدها سفراء الدول، مساوين بينها وبين القدس الغربية.
شرّعت «الكنيست» في منتصف تسعينيات القرن الماضي «قانون تطبيق اتفاقيات أوسلو» ، حرّمت بموجبه نشاط أي مؤسسة يكون لها أي نوع من العلاقة، مهما كانت تقنية أو رمزية، مع السلطة الوطنية الفلسطينية، أو مع منظمة التحرير، وحظرت بموجبه، أيضًا، عمل أي مقدسي/ة في المؤسسة الأمنية الفلسطينية، فغدا هذا القانون «شمّاعتها» لملاحقة وإغلاق عشرات المؤسسات، وفي مطاردة واعتقال عشرات الناشطين والقياديين المقدسيين، بتهمة ارتباطهم مع السلطة وخدمتها من داخل حدود المدينة.
نجحت سياسة ضرب المؤسسات الفلسطينية وملاحقة الناشطين والكوادر التنظيمية بخلق حالة «سبات وطني» أفضى بدوره، مع مرور السنين، إلى انتشار حالة من العزوف عن الهاجس الوطني العام، وفتح المجال في الوقت نفسه، لنشوء شرائح اجتماعية شعبية جديدة، بدأت مصالحها ترتبط بعناوين اقتصادية مقدسية حديثة الولادة، وبمراكز قوى محلية مؤثرة، وقد ساعدت إسرائيل بهدوء، الغائبة الحاضرة، على بلورة هذه العناوين وعلى تسمينها اقتصاديًا، كي تبرز بقدراتها وكونها بدائل تشغيلية وخدماتية مقبولة ومؤهلة لتصريف شؤون الناس الحياتية اليومية. لن نستطيع شرح جميع تفاصيل تلك التحولات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي طرأت على المجتمع المقدسي خلال العقدين الفائتين، مع إنه ليس من الصعب على المتتبعين تشخيص معالم المشهد المقدسي الجديد، فإسرائيل صارت حاضرة أكثر في شرايين حياة الناس، الذين طوّروا تلقائيًا علاقات متبادلة مع النخب الاجتماعية والسياسية والاقتصادية الجديدة، فالناس يراهنون وبعضهم يأخذون، وأصحاب النفوذ يعطون ويدعمون، وكأنهم بذلك يدافعون عن «قدسهم» بأشكال نضال لا تتطلب بالضرورة دفع ضريبة الصدام المباشر مع الاحتلال، ومع رموزه الفاعلة، ولا إغضاب مؤسساته الناشطة في المدينة بشكل علني، أو من وراء السواتر.
لا أقول إن اللعبة انتهت، ومصير المدينة حسم، لكننا سنخطئ إذا لم نقرّ بأننا أمام عملية تشكل هوية/حالة من الانتماء «الإسراطيني» الملتبس، حيث تتراجع فيه أولوية المركب الفلسطيني، وكونه الحاسم بلا منازع، وتنتصب إلى جانبه شخصية «مقدسية جديدة» ما لم تواجَه فقد تولّد، بعد مخاض عسير، جيلًا من «مقادسة الـ1967».

لا بأس أن نستصرخ ضمير العالم لكننا نعرف يقيناً من خان قضيتنا وعلينا حماية ظهورنا من خناجر أشقائنا ومنهم عرب ومسلمون

لم تعتمد إسرائيل على ضرب المؤسسات، وعلى منع النشاطات وملاحقة الناشطين، كوسائل وحيدة في حربها على المدينة، بل كانت سياسة محاصرتها وإبعادها عن سائر المناطق الفلسطينية، وقطع صلات الفلسطينيين، عبارة عن خطوات متكاملة في خطة خلق القدس الجديدة. كما وظفت إسرائيل رحيل فيصل الحسيني، واستفادت من فشل القيادة الفلسطينية وأهل القدس أنفسهم في إيجاد بديل له، فعاشت المدينة مع بداية هذا القرن ومازالت، حالة من الفراغ القيادي الحقيقي، الذي ولّد انقسامات عامودية وأفقية في المجتمع المقدسي، وإلى تشتت في الرؤية الوطنية السياسية، التي كانت كفيلة بحماية مستقبل المدينة.
استوقفني خلال الايام الماضية تصريحان أصدرتهما عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية الدكتورة حنان عشراوي، على خلفية اعتقال محافظ القدس والاعتداء على مركز يبوس، حيث أدانت في كليهما ممارسات إسرائيل الإجرامية وانتهاكاتها المتعددة في القدس المحتلة، ودعت المجتمع الدولي بهيئاته وبمؤسساته ومنظمة «اليونسكو للتدخل من أجل ردع إسرائيل ووضع حدّ لجرائمها المتواصلة ومساءلتها وفرض عقوبات عليها» وأكدت أن «هذه الخطوات تأتي في سياق العدوان على القدس، وتنفيذا ممنهجا لسياسة دولة الاحتلال، القائمة على تصفية الوجود الفلسطيني في العاصمة المحتلة، وتهويدها وطمس الهوية والرواية الفلسطينية» إنه توصيف صحيح وتشخيص دقيق لوضع القدس الحالي، ولكن يبقى السؤال إذن، ما الحل؟
قد يثير الاعتداء على «مركز يبوس» انتباه بعض الجهات الخارجية والمؤسسات الأوروبية، ويدفعهم لاتخاذ موقف شاجب ومندّد بالاعتداء على واحدة من المؤسسات الثقافية، التي من الصعب، حتى على من اعتادوا الصمت، وغضّ أنظارهم عما تمارسه إسرائيل بحق القدس ومؤسساتها وسكانها، تفهّمها أو تبريرها، فيبوس تعمل على إنتاج وتنظيم الفعاليات الثقافية المختلفة وتخاطب احتياجات المجتمع المقدسي الفلسطيني، بمن فيه الفئات المهمشة. لكننا نعرف أن مثل هذا الشجب، حتى إن حصل، فلن يسعف القدس ومستقبلها، ونعرف، كذلك، أن النداءات للمجتمع الدولي، وإن كانت مهمة وضرورية، فستبقى مجرد خرمشة قطة على لوح زجاج، فقبل اقتحام مركز يبوس، قامت إسرائيل يوم الاثنين الفائت، وللمرة السابعة عشرة، بسجن محافظ القدس عدنان غيث، ومعه مسؤول فلسطيني ابن قرية قطنة هو جهاد الفقيه. ورغم هذه الهجمات والاعتداءات والاعتقالات المستمرة، على الأرض والحجر والشجر والبشر، لم نسمع صوت ذلك المجتمع الدولي ولا حتى «تخبيطه» المؤدب على باب التاريخ السخيف.
أصدرت الدكتورة حنان عشراوي قبل ثمانية أعوام بالضبط، بيانًا ثمّنت فيه الموقف الأوروبي، في اعقاب تقرير أوروبي رسمي عدّد حينها خروقات إسرائيل الخطيرة في القدس، وطالبت في بيانها الدولَ الأوروبية بتبنّي خطط ملموسة لمساءلة إسرائيل ومعالجة الخروقات والتصدي لها بوسائل عملية على الأرض.. مضت ثمانية أعوام ولم يسائل أحد إسرائيل، ولم يتصدَ لها بوسائل عملية على الأرض، بل مازالت الخروقات الإسرائيلية مستمرة بوتائر متصاعدة لا تتوقف. لا بأس أن نستصرخ ضمير العالم، وأن نهيب بأوروبا، لكننا سنبقى ابناء الهزيمة ونعرف يقيناً من خان قضيتنا وباعنا بثلاثين من نفط وفضة، فقبل نقر أكتاف اوروبا، علينا حماية ظهورنا من خناجر أشقائنا، ومنهم بعض المسلمين والعرب.
فلماذا نستصرخ أوروبا، هكذا كتبتُ وقتها، وكل يوم تتمايل نجمة داوود من على شرفة أمير أو سلطان مستخلف، وتبكي في القدس عذارى يبوس زمن الخيانة وصمت القبائل العاهر؟ ولماذا ستتصدى أوروبا لإسرائيل ولم تشهد منذ عشرين عامًا حشدًا حقيقيًا واحدًا لسواعد سمراء تطال الغيم كي تحلبه وتقدم لحفاتها دموعاً ومطرا؟ لماذا تتصدى أوروبا لإسرائيل والقدس تعاني ممن تركوها صيدًا خفيفًا ووقفوا يتشدقون في قلب عدسة حمقاء، أو في حلق دعاء مقاتل، أو ناموا على صدر صلاة بعد أن رقصوا في الولائم؟ لا تحسبوا أن القدس/يبوس قد دجّنت ايها العرب، فيبوس، إن شئتم أو لا، هي الاسم الأول الذي اعطي لمدينة القدس نسبة إلى اليبوسيين، وهم قبيلة كنعانية بنت مدينة يبوس الأولى في موقع القدس الحالية.. هكذا كتب من أسسوا «مركز يبوس» بعد أكثر من 5000 سنة، وأضافوا: هنا حيث لا ينام الزمن «ما زال أحفاد اليبوسيين الأوائل يقيمون في القدس الشرقية، ويواصلون إحياء المدينة ثقافيًا وفنيًا». فهم ، رغم أنف الخيبة، ينامون كي يصحوا على وطن.
كاتب فلسطيني

 

 

حروب الطحينة أولًا

وبعدها حروبنا مع كورونا

 

جواد بولس

لم يشفق علينا تموز، ولم يتركنا واقفين على الريح، نعصر قلقنا ونشقى في عتمةٍ أرخاها على أرواحنا مخلوق ميكروسكوبي لعين، فشل جهابذة البشرية بمواجهته ونجحوا فقط بايجاد اسم له؛ فراح «كوفيدهم التاسع عشر» يسخر من جهلنا، ويضرب بموجه الغاضب شواطئنا ويحصد ضحاياه.
لم تتأثر القرى والمدن العربية المحلية بهذا الفيروس مثلما تأثرت به تجمعات سكانية أخرى، مع بدايات انتشاره في العالم وفي إسرائيل، وحافظت معظمها على نسب إصابات هامشية دفعت بعض المتفائلين منا أو المدّعين، إلى الاعتداد بجاهزية مجتمعاتنا الوقائية اللافتة، أو حتى إلى الزعم بأننا نتمتع ببنى جينية فريدة وحصينة؛ في حين بعث الكثيرون نظرية المؤامرة من جديد، فكذّبوا وجود الفيروس وتأثيره القاتل؛ بينما اختلف غيرهم في ما إذا كانت أمريكا هي أم جائحة كورونا أو كانت هي الصين.
سقطت كل تلك الرهانات في أقل من شهرين؛ فمع بداية الموجة الثانية، تكشفت عوراتنا الإنسانية أمام هذا الفيروس، وصرنا مثل باقي البشر هدفًا من أهدافه، حتى سبقت، أحيانًا، بعض قرانا ومدننا سائر المواقع، واحتلت بعدد إصاباتها رأس الهرم الأحمر داخل إسرائيل. واليوم، وبعد أن ثبت بالدليل القاطع أن الخطر الذي نواجهه أكبر من المقامرة على حقيقة وجوده، يُنتظر منا أن نتصرف بمسؤولية كبرى تجاه انفسنا وتجاه المجتمع بأسره. فكل الدلائل تشير إلى إننا على أعتاب حقبة تاريخية عالمية جديدة، لا نعرف كثيرًا عن معالمها الجديدة؛ لكننا، رغم ذلك، بدأنا نشعر كيف يحاول رموز وأركان النظام الجديد في إسرائيل، توظيف تداعيات هذه الجائحة لصالح مشروعهم السياسي، الذي يتطلب نسف أواصر الدولة الحالية، وهدم مؤسساتها، ومن ثم التفرد في حكم سيقف على رأسه ديكتاتور مستبد، محاطًا بأعوان لا يمارسون إلا العنصرية والقمع والفساد، ويطيعون سيّدهم، الحاكم القوي الجبار، بشكل مطلق. نحن مجتمع هش وضعيف ومجزّأ. مصيرنا كمواطنين كان، قبل حلول الجائحة، على كف «كوفيد» وفي مهب الريح، وبحضورها صارت أوضاعنا أخطر وأوعر؛ ورغم ذلك تسير قوافلنا نحو الهاوية، وجمالنا محملة بالعجز وبالجهل وبالانتهازية.

لن يختلف اثنان على توصيف فداحة واقعنا، فالشعب أعزل وقادته إما يحرضون على بعضهم وإما يتأتئون في ساعات المحن

 لن يختلف اثنان على توصيف فداحة واقعنا، فالشعب أعزل إلا من تمائمه وأمله الأعمى، وقادته إما يحرضون على بعضهم، وإما يتأتئون في ساعات المحن، أو يراوحون في بقع الغبار، أو يغفون على زند أمل أجرب، وفي عين دعاء نحاسي.
كثيرون منهم يمالقون عند اشتعال الحروب الصغيرة، التي لا تزرع بيننا إلا البغضاء والفتن، مثل تلك التي دارت رحاها، قبل أيام، على أرض شركة لم تتوقع صاحبتها ماذا سيحصل، حين تبرعت من مالها الخاص لجمعية تدعم المثليين، فقامت الدنيا ولم تهدأ؛ أو تلك الحرب التي أيقظها فرمان عثماني قضى بتحويل كنيسة «أيا صوفيا» إلى جامع، فعدّ هذا الفرمان رمزًا لهزيمة البعض، أو انتصار خليفة هذا الزمن على قيصر، عند آخرين.

حرب الطحينة الخضراء

لا أعرف أصحاب «شركة الأرز» النصراوية، ولا محطات مسيرتهم المهنية، ولا قصة نجاحهم التجارية؛ لكنني انكشفت، مثل الكثيرين، على بعض تفاصيل سيرتهم، بعد أن ثارت الزوبعة حولهم، في أعقاب نشر صحيفة عبرية لخبر أفاد ناقله، بأن أصحاب شركة «طحينة الأرز» قرروا التبرع لإحدى الجمعيات التي تدافع عن حقوق المثليين في إسرائيل، وهو عمل يجعلها أول شركة عربية تجاهر بدعم يخصص لتمويل خط هاتفي، ستستخدمه الجمعية من أجل تلقي شكاوى أفراد هذه الشريحة من المواطنين العرب واليهود. تحولت هذه الواقعة إلى واحدة من أكثر القضايا التي أشعلت بيننا، في زمن كورونا الحالي، معظم المواقع الإخبارية والترفيهية و»صفحات التراشق» الاجتماعي وأحاديث المقاهي والمقاثي؛ حتى تشكّل أمامنا مشهد عبثي أوحى باندلاع حرب أهلية، تجندت فيها كل فيالق «الفسابكة» وكتائب «التواترة» ولعلعت بيارق الأحرار والليبراليين وتُليت الفتاوى والعظات، ودكت حصون الخليعات والفاسقين، فسالت أنهار من «الطحينة الخضراء» وأمطرت الغيوم قيحًا وجرادًا، ورقصت أمامنا الخيبة وغنت على شرفاتنا القروح.
لن أسكب أي قطرة حبر اضافية على جسد هذه المأساة؛ فطريقة تناول الحادثة كانت مفجعة، والمطالبة بمقاطعة «طحينة الأرز» هي شهادة على واقعنا المهزوم والمتشظي، وعلى حقيقة هويتنا الجمعية المشروخة والملتبسة، وانتمائنا المبعثر بين هياكل الجماعات، التي أعلنت موقفها حيال ما قامت به الشركة، ومنه حيال قضية المثليين والحريات بشكل عام. لقد تعرفنا في الماضي إلى معظم المواقف المعلنة في مسألة المثليين، وجميع أصحاب تلك المواقف كرروها هذه المرة ايضًا، ولن يغيّروها في المستقبل، لا من أجل شركة طحينة، يراها البعض مفخرة لمجتمعه، وإنجازًا لأصحابها، ولا من أجل وحدة أقلية مضطهدة، ولا كرمى لشرع يؤمن به غيرهم؛ فمن يؤمن بحرية الأفراد وبممارسة حقوقهم بسلام، سيبقى في موقعه ولن يتزحزح؛ ومن يؤمن، بالمقابل، بأن شرع الرب حرّم المثلية، وحدّ من ممارسة الحقوق الفردية، لن يقنع ولن يبحث في ما اذا كانت هذه حالة جسدية مخلوقة في صاحبها مع نطفته الأولى. فالقضية، اذن، ليست على صحة هذه المواقف المتباينة، التي ستبقى كما هي؛ بل على الحق والواجب باتخاذها من قبل كل فرد أو جماعة أو عدمه، كما لاحظنا هذه المرة ايضًا عندما غابت عن المشهد مواقف بعض المؤسسات المدنية وقادة الأحزاب والحركات السياسية، الذين آثروا بلع ألسنتهم وصمتوا تملقًا وجبنًا وانتهازيةً، أتمنى أن يحاسبوا عليها في محطاتهم العامة المقبلة.
في المقابل عبّر أيمن عوده رئيس «القائمة المشتركة» على صفحته، بدماثة سياسية، عن موقفه من نداءات مقاطعة «طحينة الارز» التي أطلقتها عشرات المواقع والصفحات، وشرعنتها شخصيات اعتبارية كثيرة، فقال، ولم يتطرق إلى حقوق المثليين: «كم من النفاق بمقاطعة طحينة الارز مقابل إبقاء كل الشركات الإسرائيلية من المعتزين بدعم الاستيطان والجيش؟ وكم من العبث اختلاق صراعات، ونحن على شفا وصول شرائح واسعة إلى المرض، أو حتى الموت جراء جائحة كورونا.. أمامنا قضايا مرعبة يجب أن نكون موحدين وقادرين على مواجهتها».
كم كان كلامه دقيقًا وصحيحًا.. ولكن.. لم يشفع لأيمن كلامه المتزن والمتبصر، بل وجد نفسه مهاجمًا بدون رحمة ولا هوادة؛ ومطالبًا، بعد تخطئته، من قبل زميله في القائمة الدكتور منصور عباس بالاعتذار، لأن موقف الحركة الإسلامية واضح من مثليي الجنس، وهو مستمد من الشريعة الإسلامية التي ترفضه. لقد اعلن الدكتور عباس في معرض تعقيبه، أن «القائمة المشتركة هي مشروع وحدوي وطني هدفه زيادة قوتنا وحضورنا السياسي، وهو اجتماع على القواسم المشتركة بين الأحزاب التي تحافظ على خصوصيتها الفكرية داخل المشتركة، ولذلك ففي المواضيع الخلافية كموضوع المثليين، يكون القرار لكل حزب وما يختاره من مبادئه وثوابته وتوجهاته السياسية والاجتماعية والثقافية».
كلام لا غبار عليه، إلا أنني لم أفهم لماذا طالب عباس زميله بالاعتذار ما دام يعترف بأن في «المواضيع الخلافية كموضوع المثليين يكون القرار لكل حزب وما يختاره»؟ ربما بسبب غياب أصوات رفاق النائب أيمن عودة، في الجبهة والحزب، وبسبب انتهازية القيادات اليسارية والعلمانية المنفتحة، التي تؤثر، رغم إيمانها بصحة موقفه السياسي، أن تكبر أرصدتها في بنوك الانتهازية والتملق؛ وربما بسبب إعراض زملاء النائب أيمن في القائمة المشتركة، وتمنعهم عن إبداء رأيهم، لا في قضية المثلية الجنسية، رغم أهميتها، فحسب، ولكن في قضية مكانة الحريات الفردية بشكل عام وحرية المرأة وفي مسألة احترام الرأي الآخر والمحافظة على سلامة الحيزات العامة. يسكت جميع هؤلاء فيضعف صوت أيمن وأمثاله؛ وبالمقابل لا يصمت في كل هذه الحالات من يدين المثلية شرعًا ولن يهادن من يحرّمها، فأولئك لن يعتبروا الرأي المختلف عنهم، في هذه المسألة وفي غيرها، حقًا للآخرين، بل هو ببساطة اعتداء منهم على الدين وحرب على الاسلام؛ تمامًا مثلما عبّر الشيخ كمال الخطيب، الذي يرأس لجنة الحريات المنبثقة عن لجنة المتابعة العليا التي يرأسها محمد بركة، عن هذه الحقيقة، حين شرح على صفحته قصة المثل الشعبي «مش على رمانة ولكن على قلوب مليانة» الذي ينطبق برأيه على هذه الواقعة؛ وقد انهى ملصقه مؤكدًا أن المثل يقال» في كل من يفجُر في الخصومة ويستغل كل فرصة لنفث سمومه وتصويب سهام حقده»؛ وأضاف: «مش على طحينه ولا طحين، ولكن على الاسلام والدين». هكذا بكل حزم ووضوح.
فما دامت القضية ليست على طحينة وعلى طحين، فمن سيكون بحاجة، والحرب هي على الإسلام، لصوت أيمن عودة وأمثاله حتى إذا كان يحذر من «عبث اختلاق صراعات، ونحن على شفا وصول شرائح واسعة إلى المرض، أو حتى الموت، أو الجوع جراء جائحة كورونا»؟ وإذا كانت الحرب على الدين فمن سيهمّه إذا كانت «أمامنا قضايا مرعبة يجب أن نكون موحدين وقادرين على مواجهتها»؟
يتبع..

كاتب فلسطيني

 


 

مبروك عليكم «الستاتيكو»

… وكفكم على الضيعة

جواد بولس

 

طالعتنا المواقع الإخبارية قبل بضعة أيام بنصّ بيان صادر عمّن يسمّون «بطاركة ورؤساء الكنائس في مدينة القدس» حول عقارات باب الخليل، يعلنون في مستهله أنهم يقفون «متّحدين لحماية الوضع القائم «الستاتيكو» التاريخي المتعلق بالأماكن المقدسة وحقوق الكنائس المتعارف عليها دوليًا.. «وينظرون إلى قضية عقارات باب الخليل في القدس» على أنها تهديد حقيقي لتفاهمات الوضع القائم «الستاتيكو».
سأعترف، ربما للمرة الألف، بأنني أشعر بغضب شديد، كلما أقرأ مثل هذه البيانات، التي لا تعني على أرض الواقع شيئًا، وتُثبت، المرة تلو الأخرى، كمية الاستهتار التي يضمرها الموقعون عليها، بعقول الناس السوية. فهي، علاوة على كونها مجرد تسجيل لمواقف متأخرة وباهتة، لا تأثير لها، تساهم عمليًا بتشكيل حالة إعلامية ضبابية، تخفي تفاصيل الحقائق الصحيحة، وتعتم على من كانوا وراء تلك الصفقات وغيرها، كالتي كشفت وثائقها الدقيقة على مدار عشرة أعوام، وتطرقت إلى مجموعة صفقات بيع عقارات وتحكيرات طويلة الأمد، نفذت في عهد البطريرك «ثيوفيلوس» بمساعدة زمرة من المحامين وأعوانهم، وبعض المنتفعين العرب وغيرهم، في مواقع استراتيجية مهمة مثل طبريا ويافا والقدس وغيرها.
قد يكون التعويل على قصر الذاكرة الشعبية، خاصة داخل مجتمعات ترزح تحت ضغوطات سياسية واجتماعية واقتصادية استثنائية، عنصرًا يعتمد عليه البطاركة ورؤساء الكنائس المذكورين، ويدفعهم من حين إلى آخر إلى إصدار مثل هذه البيانات شبه المنسوخة، بتكرار مستفز ومن دون حرج أو تحسس.

لسنا في حاجة لمن يثبت لنا عنصرية القضاء الإسرائيلي تجاه المواطنين العرب الفلسطينيين وحقوقهم في أراضيهم وممتلكاتهم

لقد لجأ هذا الجسم المسمى «البطاركة ورؤساء الكنائس في القدس» قبل ثلاثة أعوام، إلى إصدار بيان تطرقوا فيه إلى قضية صفقات باب الخليل، واستهلوه حينها بحكمة من سفر «أشعياء» تقول: «تعلموا فعل الخير، أطلبوا الحق، أنصفوا المظلوم» ثم تابعوا، بنص يشبه ما جاء في بيانهم الحالي، فأعلنوا حينها: «نحن رؤساء الكنائس في القدس نلجأ اليوم إلى إصدار بيان عام، يعبر عن قلقنا بشأن انتهاكات الوضع الراهن (الستاتيكو) الذي يحكم المواقع المقدسة، ويضمن حقوق الكنائس وامتيازاتها». إنني على يقين من أن الموقعين على البيان الحالي، لم ينسوا ما جاء في بيانهم الصادر قبل ثلاثة أعوام، لكنهم، للأسف، يفترضون أو يراهنون على أننا ننسى..
لقد جاء نشر بيانيهما، السابق والحالي، بعد إصدار قرار المحكمة المركزية في القدس، وتثبيتها، في الاثنين، «حقوق» ملكية جمعية «عطيرت كوهنيم» الاستيطانية لعقاري باب الخليل، فندق الامبريال وفندق البترا، ومعهما مبنى «الأعظمية» القائم في منطقة حساسة من «باب حطة». وقد تغاضوا، في المناسبتين، عن معالجة المسوّغات القانونية التي اعتمدتها المحكمة في قراريها، واكتفوا، بدل التطرق إليها، بالتعبير عن «قلقهم» من الإخلال بما سموه، بشكل ملتبس وبتعميم مقصود، «الستاتيكو» أو الوضع القائم، علمًا بأن هذا الوضع، وهم يعرفون ذلك طبعًا، يتطرق إلى مكانة الأماكن المقدسة، ولا يتطرق إلى أوضاع الأوقاف والعقارات، خاصة إذا ما بيعت بصفقات تجارية بحتة، كما حصل في هذه الحالة. لا أعرف مَن مِن هؤلاء السادة قرأ أوراق هذه القضية منذ بداياتها عام 2005 وتداعياتها لغاية صدور القرار الاخير يوم 2020/6/24، فلو فعلوا لاكتشفوا خيوط المؤامرة الحقيقية، ولعرفوا من هم المتآمرون على عقارات هذه الكنيسة العريقة وعلى وجود المسيحيين العرب في هذه المنطقة، وعندها ربما كانوا سيرفضون التوقيع على مثل هذه البيانات ويعارضون التقاط صورهم الجماعية مع من كان في موقع المسؤولية عمّا جرى.
لقد تمنيت قبل ثلاثة أعوام، لو لم يوقع بعض رؤساء الكنائس على ذلك البيان، وقصدت تحديدًا من يهمهم مستقبل الوجود المسيحي العربي، والمحافظة على أوقاف الوطن، وأشرت حينها إلى أن ما يفعلونه، في مثل هذه الظروف والمعطيات، يعتبر تمويهاً خطيرًا، سواء كان مقصودًا أو غير مقصود، وحرفًا للأنظار عن المؤامرة الحقيقية وعن معاناة أبناء الكنيسة المشرقية العرب، خلال قرون من استعمار أكليروس يوناني مستبد، ويعتبر، كذلك، تسترًا على ممارسات رؤساء هذه الكنيسة الذين تورطوا وما زالوا في عمليات تسريب وبيع عقارات وأوقاف كثيرة وثمينة في عدة مدن ومواقع من شمالي البلاد حتى جنوبها.
مضت ثلاثة أعوام فقط، وها هم يطالعوننا مجددًا ببيان، ألمحوا فيه، كما فعلوا في البيان السابق، إلى عدم نزاهة المحكمة الإسرائيلية، وإلى افتقارها إلى مواصفات العدل. أشعر بأن هذا الادعاء، في هذه القضية تحديدًا، مثل من يقول كلمة حق ويريد بها باطلًا، فأنا ومثلي زملاء كثر، لسنا في حاجة لمن يثبت لنا عنصرية القضاء الإسرائيلي تجاه المواطنين العرب بشكل عام، خاصة عندما ينظر قضاته في تظلمات الفلسطينيين، أو في نزاعاتهم مع الدولة، أو مع وكلائها من جمعيات استيطانية وغيرها، حول حقوقهم في أراضيهم وممتلكاتهم. نحن نعرف ان هذه المحاكم لن تنصف عربيًا يذود عن بقائه في وطنه ويناضل ضد من يخططون لاقتلاعه ولتهجيره، لكن من لا يعرف ذلك، أيها السادة الموقعين على بيان «الستاتيكو» هو، على ما يبدو، زميلكم ثيوفيلوس، الذي تغنّى قبيل الاحتفال بقداس الميلاد- قداس منتصف الليل- في السادس من كانون الثاني/يناير المنصرم وأمام قادة فلسطين وممثلين عن دول أجنبية كثيرة، بانتصاراته القانونية التي يحققها أمام المحاكم الإسرائيلية، وفي معارك لم يشكُ فيها من ظلم القضاة ومن عنصريتهم، بل أكد، أمام من سمعوه في تلك الليلة، على أن عيد الميلاد «يحل هذا العام في الأراضي المقدسة تزامنًا مع النصر القانوني الذي حققته بطريركية الروم الارثوذكس المقدسية في معركة الدفاع عن عقارات باب الخليل في القدس، في إطار معارك متتالية تخوضها «أم الكنائس» للحفاظ على مقدراتها وعلى الوجود المسيحي الأصيل في الاراضي المقدسة وخاصة مدينة القدس التي باركها الله». عن أي انتصارات تحدث وبأي وجود مسيحي أصيل تغنّى؟
يشكل بيان رؤساء كنائس القدس الحالي صفعة للحقيقة، وغطاءً لمن لا يستحق الصفح والمسامحة، ورغم ما فعلوه، سأتوجه إليهم، عسى أن يكون بعضهم معنيًا بالوقوف مع أهل الحق، وفضح أهل الباطل، وأطلب منهم التوجه إلى البطريرك ثيوفيلوس ومطالبته بتزويدهم بقائمة الأملاك التي كانت مسجلة على اسم الكنيسة الارثوذكسية المقدسية عام 1948 ومقابلها قائمة بما بقي منها في سجلات عام 2020، وإذا كان ذلك عسيرًا، لأي سبب، فيكفي أن يزوّدهم بقائمة الأملاك التي كانت على اسم البطركية عام 2005 ومقابلها قائمة الأملاك التي بقيت على اسم البطريركية في هذا العام. لن يعطيكم ذلك، فحاولوا على الأقل أن يكشف لكم أسماء أصحاب الشركات التي سجلت باسمهم بعض هذه الاملاك في الجزر البريطانية، عساكم تطمئنوا وتطمئنونا على أن اوقاف فلسطين ما زالت موجودة بأياد امينة.
وأخيرًا، لقد كتبت الكثير في هذه المسألة، ولن أكرر تفاصيل ما قلنا حول المؤامرة على أملاك الكنيسة وحول الضالعين فيها، فقبل ثلاثة أعوام استقبل النائب العام الفلسطيني شكوى بهذا الخصوص، وفتح في أعقابها ملف تحقيق لم يغلق بعد. لقد استمع النائب العام إلى شهادات عديدة، واستلم وثائق كثيرة، وأبدى اهتمامًا لافتًا بتفاصيلها، خاصة بعد أن تبنت فلسطين بقيادتها وبمؤسساتها الوطنية وباسم جميع فصائلها موقفًا يقر بأن قضية أملاك الكنيسة الارثوذكسية المقدسية هي قضية وطنية تقتضي متابعتها بشكل رسمي ومحاسبة المسؤولين على تسريبها والتفريط بها.
ما زال المتورطون أحرارا وطلقاء ويتصرفون بمقدرات هذه الكنيسة العريقة، وهذه بدون شك، حقيقة مؤلمة وموجعة، لكنني، رغم ذلك، أود باسم الوجع والامل، أن استذكر مرة اخرى موقف نقابة محامي فلسطين، الذي اكد بالتوازي مع فتح الشكوى لدى النائب العام، على انهم يقفون «اليوم امام معركة وطنية بامتياز تتمثل بحماية أرض الوقف الارثوذكسي، واننا في نقابة المحامين نقف صفًا واحدًا مع كل المدافعين عن عروبة فلسطين بأوقافها ومقدساتها وممتلكاتها في وجه المفرطين بها». هذا هو الصوت الحق، وليس صوت من يستجدي حماية شرف «الستاتيكو» الوهمي.
كاتب فلسطيني

 

صوت التاريخ

يجب ان يسمع

 

جواد بولس

 

هاجم بنيامين نتنياهو والمقربون منه، في حملة شرسة غير مسبوقة، المستشار القضائي للحكومة، افيحاي مندلبليط، واتهموه بمحاولة "إلغاء القرار الديمقراطي الذي اتخذه ملايين المواطنين الذين اختاروا نتنياهو في الانتخابات الأخيره". وجاءت هذه الهجمة بعد تسريب اخبار أفادت بأن المستشار القضائي لن يسمح لنتنياهو تسلّم مبلغ عشرة ملايين شاقل، كان سيقدمها صديق له للمساهمة في تمويل اتعاب المحامين الذين سيمثلونه في الملفات الجنائية المفتوحة ضده أمام المحاكم.

شهد صراع نتنياهو ومقربيه وحربهم ضد المستشار القضائي جولات عديدة في الآونة الأخيرة؛ إلا أننا نلاحظ في هذه المواجهة زخمًا تصعيديًا واضحًا، من شأنه أن يفضي الى تداعيات خطيرة، خاصة بعد ان نشر نتنياهو، قبل أيام، تغريدة في حسابه الشخصي صرّح فيها ان "مؤامرة مندلبليط الانقلابية على السلطة قد انكشفت بكل قبحها". انها تهمة مباشرة وواضحة بأن المستشار القضائي للحكومة متورط بتدبير مؤامرة للإطاحة بالنظام القائم. 

قد تكون هذه المواجهة أبرز انعكاسات ما يخطط له، باسم الشعب، نتنياهو واحزاب اليمين الجديد؛ لكنها هي حتمًا علامة حمراء قانية على مؤشر الفاشية ومدى استفحالها شعبيًا داخل المجتمع الاسرائيلي.

فقبل ايام نظمت قوى يمينية مظاهرة ضد الجهاز القضائي في اسرائيل في ساحة متحف تل-ابيب، شارك فيها نشطاء يمينيون وبرلمانيون من حزب الليكود وكان شعارهم المركزي : "الشعب فقط يقرر ، الشعب ضد دكتاتورية القضاء". وتصادف أن تواجد في المكان الصحفي المعروف أمنون أبراموفيتش ومعه طاقم من اخبار القناة 12 الاسرائيلية، جاءوا لتغطية الحدث؛ فحاصرتهم جموع المتظاهرين وحاول البعض الاعتداء عليهم جسديًا، مما استدعى تدخل الشرطة لاخراجهم من هناك تحت حراسة مشددة، ساعة كان "الشعب" يصرخ ويتوعده "ككلب وعدو لاسرائيل".

كما وشاركت في المظاهرة "أسنات مارك" التي كانت نائباً في الكنيست واليها ستعود قريبًا كي تكون مندوبة حزب الليكود في لجنة تعيين القضاة في اسرائيل.

لم تلتفت مارك للحادثة مع ابراموفيتش، ولم تتأثر ، مثلها مثل جميع من تواجدوا هناك، بالاعتداء في ساحة عامة على أحد ابرز الاعلاميين اليهود في اسرائيل، بل آثرت التعليق على مهمتها القادمة فقالت: "الجهاز القضائي بحاجة الى تغيير، واصلاحه يبدأ بانتخاب القضاة؛ لذا فأنا ساهتم بان تقوم اللجنة بتعيينات ملائمة ومهنية من شأنها أن تعيد ثقة الجماهير  بالقضاء".

فمن غير "الشعب" يريد قضاة مدجّنين ؟                      

تمر هذه الحوادث على أرصفة الناس المتعبة دون أن تعني لهم شيئا، وتختمر معظم التحوّلات الاجتماعية والسياسية المفصلية في الدهاليز السلطوية العليا؛ ويجري كل ذلك من دون أن يقلق أو يثور المواطن العادي، الذي تشغله، علاوة على هواجس فايروس الكورونا الضاغطة، متاعب حياته اليومية وجريه وراء لقمة عيشه وتحصين افراد عائلته من آفة العنف المستشري في مواقعنا، خاصة في هذه الايام.    

يعرف قادة اسرائيل هذه الحقيقة ويحاولون، رغم ما نشاهده من حالات دمار وفوضى عندنا وفي منطقتنا، أن يتصرفوا بهدوء وبروتين زاحف نحو تكريس واقع اسرائيلي يخططون، بخبث وبامعان، لتفصيله من معسكرين: الشعب اليهودي وقادته من اليمين النتنياهوتي وحلفائه في جهة، ومقابلهم المواطنون العرب، اعداء الدولة، وكل من يجرؤ على الشكوى أو الاعتراض او الانتقاد او حتى مجرد المساءلة.

رغم النكوص العام، يوجد بيننا من يعرفون أن ما يحدث في الدولة سينتهي قريبًا بولادة حالة سياسية اسرائيلية جديدة لن يستوعب أربابها مسألة وجودنا، نحن المواطنين العرب، بنفس الشروط الحالية ولا وفقًا لمقتضيات منظومة القوانين والقيم النافذة اليوم، رغم عنصريتها وقساوتها. 

كل يوم يمضي من دون محاولة جادّة لصد هؤلاء يقربهم من تحقيق أهدافهم؛ فمن سيهز انفاس السكينة المعششة في كهوفنا، ومن سيضيء عتمة قبونا قبل ما تنتصر "الراءات" على "واواتنا"؟  وما العمل ؟

لقد طرحت هذه الأسئلة مرارًا في الماضي، وأكدت، مثلًا، بعد انتخابات الكنيست الاخيرة، على أن نجاح القائمة المشتركة هو أول الغيث؛ فشراكة مركباتها وأداؤهم الجماعي أعاد لأكثرية المواطنين العرب الثقة بقيادات كانت معاقبة ببطاقات حمراء قانية؛ واعاد للناس ايمانهم بضرورة وأهمية النضال البرلماني.

وأكدت كذلك على أن هذا التغيير لم يحصل الا بعد ان استعاد مفهوم المواطنة وضرورة العمل تحت سقوفه مكانتهما بين قيادات تلك الاحزاب ومصوتيهم.

وأشرت، في نفس الوقت، على وجود إجماع يفيد بأنّ العمل البرلماني، مهما كان موفقًا أو بارزًا، لن يكفي للوقوف في وجه ما سيمضي بتنفيذه النظام الاسرائيلي الجديد؛ فقد تؤدي بعض الاختلافات السياسية الداخلية الاسرائيلية الى تأجيل تنفيذ ضم المناطق الفلسطينية، لكن قضية ابتلاع الارض ستبقى عنوان الاحتلال الاسرائيلي الأول والاخير؛ بينما لا يوجد اختلاف، بالمقابل، داخل هذا اليمين، حول ضرورة الابقاء على جميع القوانين العنصرية، مثل قانون القومية وامثاله. لذا فعلينا ان نفكر كيف نستطيع بث الروح في شعار "لا للاحتلال" وتحديث صياغته باسلوب قادر على تشبيك "السياسي" "بالمواطني" وباسلوب كفيل لتجنيد المواطنين العرب اولًا ، وبالتوازي استهداف المواطنين اليهود، ومنهم الصهيونيين، أصحاب نفس الهواجس والقلق. 

لقد اشرت حينها الى ضرورة التطرق بشكل جدي الى قضية "لجنة المتابعة العليا" وما تواجهه من مشاكل لن تحلّها، برأيي، عملية اجراء انتخابات عامة لهيئاتها او لرئيسها، كما تقترح بعض الجهات؛ ولن ينقذها، كذلك، رصد الميزانيات التشغيلية التي كانت بكل تأكيد ستسعفها، ولكن لن تبرئها بشكل تام .

لقد انشأت اللجنة قبل أربعة عقود في ظروف سياسية محلية وخارجية استثنائية وشكّلت بوجود أطر وقيادات صار بعضها طي التاريخ وبعض من بقي منها لم يعد يحمل نفس المعاني ولا يتبوأ نفس المكانة. لقد ضعضعت هذ التغييرات جسدها  فاختلت بداخله موازين القوى مما أدى إلى حدوث تراجع في مكانتها رغم محاولات رئيسها، محمد بركة، انعاشها.

اتمنى أن ينجحوا ببعث "لجنة متابعة عليا" جديدة، وذلك على امل ان تتحول الى عنوان سياسي شرعي ومؤثر ومقبول كبوصلة يسير على هديها الناس، لكنني أعرف ان ذلك لن يتم الا اذا توافقت مركباتها على مضامينها السياسية وعلى القيم الاجتماعية الجامعة الاساسية، وعلى معنى المواطنة ومستحقاتها علينا اولا ..

وعلى مسار آخر، توفي قبل ايام البروفيسور  زئيف شطيرنهال، وهو أكاديمي اسرائيلي ذو مكانة عالمية، برز في كتاباته عن أصول الفاشية ونشوئها، وله في هذا المضمار  نظريات مازالت محط دراسة وسجال. اشتهر شطيرنهال في العقدين الاخيرين كأحد الاصوات الصهيونية البارزة ضد الاحتلال الاسرائيلي وعنصرية نظام الحكم وممارساته القمعية، وعرف في توصيفاته الدقيقة وقراءاته الصائبة لطبيعة التحولات الاجتماعية والسياسية في اسرائيل، وحذّر من جنوح القوى اليمينية المهيمنة نحو الفاشية.

كان صوت شطيرنهال واضحًا وحازمًا في هذه المسائل، وحتى عندما حاولوا اغتياله في العام ٢٠٠٨، بوضع عبوة ناسفة على باب بيته، لم يخف ولم يتراجع بل تمسك بمواقفه أكثر واستمر في صراخه الانساني عاليًا. 

لقد ناديت بضرورة التواصل مع هذه الشخصيات ومحاولة تنظيمها في جسم غير حزبي يكون له تأثير ما على الرأي العام المحلي والخارجي؛ولتسهم في عملية التشخيص الصحيح للوضع السياسي القائم وتسخّر خبراتها في إسداء النصائح العملية والعلمية للسياسيين ولجميع من سيقف في وجه العنصرية والابرتهايد والفاشيين.

لم يفت الأوان، فليقم من بيننا من هم أهل للشروع بهذه المبادرة؛ فصوت من درسوا التاريخ  عندنا ووقفوا على موبقات الفاشيين يجب أن يسمع، ودور من تبحروا في علوم السياسة والفلسفة والاجتماع يجب ان يظهر، وهم حتما سيكونون أقوى اذا ضموا اليهم زملاءهم من الأكاديميين الإسرائيليين الذين يقفون ضد الاحتلال ويحاربون الفاشية ويعرفون بأنه اذا لم ينل الشعب الفلسطيني دولته ولم يحظَ المواطنون العرب بحقوقهم، لن يعيش يهود الدولة برغد ولا بسلام.   

صفقة بيع أم خطوة

على طريق التصفية الكبرى؟

 

جواد بولس

 

 

تمنى البعض أن تتحول قضية صفقة بيع مئات الدونمات من أراضي الكنيسة اللاتينية في مدينة الناصرة، إلى ملف يشغل الرأي العام العربي المحلي، وإلى شاغل يستقطب اهتمامًا جماهيريًا واسعًا، أو على الأقل نخبويًا وقياديًا لافتًا، إلا أن ذلك لم يحدث على الاطلاق، فباستثناء فورة احتجاجية عارضة وضامرة أثارها بضع عشرات من رعايا هذه الكنيسة العرب، لم يقترب منها أحد ولم تسترع تفاصيلها غيرة الناس، لاسيما المسيحيون منهم، ولا حتى فضولهم.
تاريخ صفقات بيع أوقاف الكنائس، على اختلاف تسمياتها، في بلادنا طويل ومستفز، وسيبقى نزف هذه «الأرض المقدسة» فوّارًا ومرهقًا، خاصة وجميعنا يعرف من كانوا المتورطين في هذه التسريبات، وهذا التفريط المذهل، سواء من رجالات أكليروس، أو من منتفعين وسماسرة مدنيين ورجالات إدارة تنفذوا في ظلام أروقة تلك الكنائس، ونعرف كذلك من كان المستفيد من هذه البيوعات وفي حسابات من أودعت ريوعها.
لقد حاولت، في الماضي، بعض الجهات والمؤسسات والشخصيات الغيورة، من رعايا معظم الكنائس الكبيرة في البلاد، التصدّي لأولئك العابثين برقبات الأوقاف، وفضح فسادهم، وكشف معاصيهم، لكنهم رغم ما نشروه من حقائق مثبتة وبيّنات دامغة، بحق من كانوا شركاء في تلك الصفقات، فشلوا مرة تلو الأخرى، بإقناع أولي المكانة والقدرة بملاحقة الجناة وبمحاكمتهم. فشلوا وبقوا مع ملفاتهم، أسرى لليأس وللحسرة، وشهودًا على كيف تولد في مطارحنا الهزائم، وكيف يبقر أمام أعينهم الحق ويتسيّد الباطل.
لا أستدعي هذه الغصة إلا لأستنفر مرة أخرى ذلك السؤال الذي يؤرق كل متابع لتفاصيل هذه الملحمة، فلماذا وكيف نجح الجناة ومعاونوهم بالبقاء في مناصبهم، وبالنجاة من المحاسبة ومن العقاب؟
لقد تطرقنا في الماضي لجملة من المسببات التي أفضت إلى تلك الخيبات والكوارث، فمن يتحكم في أملاك معظم هذه الكنائس هم على الغالب أكليروسات غريبة عن البلاد وعن أهلها، ومعظمهم يتصرفون باستعلاء استعماري قبيح تجاه الكهنة العرب أنفسهم، وتجاه أبناء الكنائس «المحليين». يفدون إلينا من دولهم، خدّامًا لمشاريعها ولا تربطهم مع تراب بلادنا وشرقنا أي مشاعر انتماء حقيقية، فلا يعنيهم كونه وطنًا لنا، بل هو عندهم مجرد مكان يؤسسون عليه رواياتهم الدينية الضيقة وحسب. بعضهم يستغل مشاعر المؤمنين البسطاء الصادقين، الذين يرفضون تصديق أي تهمة توجه لرسل الكنيسة «الأطهار»، ويعارضون مساءلتهم بإصرار؛ وآخرون يتحالفون مع عملاء محليين فيشترون ذممهم بالمال أو باقتسام المنافع. لقد أدّت هذه العلاقة المرضيّة إلى ولادة حالة من التنافر والاغتراب المزمنين، بين الكنائس ومن يحميها وبين اتباعها، خاصة بعد أن عزّزها عاملان محليان، لم يكونا أقل خطورة منها، فاعتبار قضية الأوقاف المسيحية، من قبل حكومات الدول العربية، مسألة كنسية خالصة سوّغ، عن جهل أو عن قصد، لأرباب تلك الكنائس إمكانية التصرف المطلق بها، وأجاز لهم فرص تسريبها المعلن، حتى لو تعارضت تلك البيوعات مع مصالح الدول الحقيقية، أو مع مصالح المؤمنين العرب، ومشاعرهم الوطنية؛ ثم تضافرت في العقود الأخيرة تداعيات هذه الحالة، مع تزايد مشاعر الخوف بين السكان المسيحيين العرب، خاصة عندما اعتبرتهم بعض الحركات الإسلامية السياسية المتزمتة الناشئة مثلهم مثل «أعداء الأمة الصليبيين»، فعُدّ كل المسيحيين في الشرق والغرب همّاً، وجميعهم، عند هؤلاء أبناء جزية صاغرون، وللإسلام أعداء.
خوف العرب المسيحيين، المبرر أحيانا وغير المبرر، أو المصنّع في أحايين أخرى، دفع الكثيرين منهم إما إلى الهجرة، أو إلى اللجوء لتلك الكنائس وللاحتماء باثواب كهنتها، الذين انبروا بدورهم يغذّون هذه الظواهر بخبث وبنهج متعمد ومدروس، وفي كلتا الحالتين، الهجرة أو التذلل، لم تعد أملاك الكنائس وأوقافها تعنيهم، ولا الدفاع عنها واجبهم.
لقد قرأنا بيان البطريركية اللاتينية، حول ما دفعها لبيع ثلاثمئة دونم من أراضي مدينة الناصرة، لمستثمر عربي من الجليل، وكان تبريرها المعلن يشبه إلى حد بعيد ما ورد في بيانات معظم الكنائس الأخرى حين استعان رؤساؤها بذريعة وجود ديون كبيرة على كنائسهم، تضطرها لبيع بعض ممتلكاتها لسداد تلك الديون. إنها أعذار تفوق بقبحها ذنوبهم؛ لكنني، رغم ذلك، تساءلت من كان مفترضًا وقادرًا على أن يلاحق رجالات الكنيسة اللاتينية، كهنة أو موظفين إداريين، ومن هم المعنيون بالكشف عن خلفيات هذه الصفقة أو غيرها، ولأجل أي هدف؟ لم يقف في العقود الماضية سوى قلة ضد بيوعات أملاك الكنائس في مواقع أهم من موقع هذه الصفقة، ولن يقفوا اليوم ولا غدًا، فقيادات أحزابنا السياسية والمؤسسات المدنية والحركات الدينية تخلت تاريخيًا عن دورها في هذه القضية الحارقة، ولم تتحرك حين ضاعت الأملاك في مواقع استراتيجية في القدس ويافا وعكا وقيساريا وحيفا وطبريا والناصرة وغيرها. لقد شجعت مواقف هؤلاء القادة رؤساء تلك الكنائس وعملاءهم المحليين على الاستمرار في تسريب العقارات وبيعها، كما نشر مرارا وتكرارا.

جلاء المسيحية العربية عن الشرق قد حسم وحتى لو بقيت بعض آلافهم في فلسطين الكبرى، إلا أنهم لن يشكلوا وزنا اجتماعي ومعنى

بالمقابل لم يستطع العرب المسيحيون، ولن يستطيعوا لوحدهم، أن يمنعوا التفريط بالأوقاف والتصدي للتآمر الخطير عليها، فاذا ما حيّدنا أسباب خوفهم وخيبتهم ودوافع عزوفهم عن الانخراط في مقاومة هذه البيوعات، سنجد أنهم غير قادرين موضوعيًا للقيام بهذه المهمة، وذلك بسبب قلة أعدادهم وتشتت انتماءاتهم الكنسية، فعددهم في إسرائيل لا يتعدى المئة وثلاثين ألف نسمة (وفي فلسطين الخمسين ألف نسمة)؛ وهم موزعون على حوالي خمس عشرة كنيسة، ويسكنون في حوالي عشرين مدينة وقرية، يقع معظمها في شمال إسرائيل، فعلى الرغم مما يقال في صالح التسامح بين الديانات، ومصير الإخوة المشترك تبقى هذه مجرد فقاعات وهمية وزركشات عابرة، فالحقيقة هي، أن العرب المسيحيين في فلسطين، تحولوا إلى مجموعة سكانية هامشية، أو أن شئتم لمجرد حمل زائد على مسرح البلاد المضطرب.
لم تبدأ القضية مع صفقة الناصرة الحالية ولن تنتهي بها، فما يجري في هذه الساحة وقضية تناقص أعداد العرب المسيحيين في منطقتنا هي في الواقع عوارض تشي بوجود حالة مستعصية وخطيرة، عنوانها كان وسيبقى: مصير الوجود المسيحي العربي في فلسطين تحديدًا وفي الشرق عمومًا.
لقد وصلني بالتزامن مع اندلاع قضية بيع الأراضي في الناصرة نداء أطلقه كل من غبطة البطريرك ميشيل صباح، الكنيسة الكاثوليكية/ اللاتينية، ونيافة المطرانين منيب يونان، الكنيسة اللوثرية، ورياح أبو العسل، الكنيسة الإنجيلية؛ يعلنون فيه موقفًا واضحًا من ضرورة التزام إسرائيل بقرارات هيئة الأمم المتحدة، وإنهاء الاحتلال الاسرائيلي واستعمارها للاراضي الفلسطينية، ويعبّرون عن قلقهم من استمرار معاناة أبناء شعبهم الفلسطيني، ومن الظلم الواقع وغياب العدل عن أرض السلام، ويناشدون العالم بضرورة العمل من أجل إقامة دولة فلسطين المستقلة. إنه نداء مهم ولافت وواضح أطلقه ثلاثة من رجالات الدين الفلسطينيين المسيحيين الأجلاء. وبمقدار كونه مهمًا بما حمل، فهو كذلك لافت بما غاب عنه؛ إذ لم يتطرق البيان إلى قضية بيع الأراضي ولا إلى ما أوردته الكنيسة كذريعة لإبرام الصفقة.
نعرف البطريرك صبّاح إنسانا جريئا ومستقيما وواضحا، واعتقد أن عدم تطرقه في ذلك البيان أو في بيان غيره لقضية الصفقة، ولما سبقها من مظاهر فساد في مشروع البناء في كنيسة عمان، وفي صفقات أخرى، لم يكن إلا من باب حرجه ومشاعره تجاه إدارة كنيسته في روما. إنها مفارقة وقد تكون هامشية، لكنها حتمًا هزة تذكرنا مجددًا، أننا قاب غفوة أو أقرب من النهاية، فجلاء المسيحية العربية عن الشرق قد حسم وحتى لو بقيت بعض آلافهم في فلسطين الكبرى، إلا أن هؤلاء لن يشكلوا أي مركب سكاني ذا وزن اجتماعي ومعنى، بل سيكون بقاؤهم كما قلنا مرة، «كمحميات بشرية طبيعية» ستشهد على جزء من تاريخ المكان الدارس، أو بقاء أفراد ومجموعات صغيرة منهم تستعرض في المستقبل كأحفورات تنطق باسم ما ومن كان هنا.
كاتب فلسطيني

 

 

العنف باق في مجتمعاتنا

جواد بولس

 

اجتمع يوم الأحد الفائت وفد من ممثلي المواطنين العرب مع المستشار القضائي لحكومة اسرائيل، أفيحاي مندلبليت، وذلك لبحث عدة قضايا تتعلق بتقصير الشرطة الاسرائيلية ونيابات الدولة في معالجة ومواجهة ظواهر العنف وحالات القتل المتزايدة في القرى والمدن العربية.

بادر إلى الاجتماع رئيس اللجنة البرلمانية الخاصة لمكافحة العنف في المجتمع العربي النائب منصور عباس، وشارك معه رئيس القائمة المشتركة النائب ايمن عودة، والنائب اسامه السعدي، وثلة من رؤساء البلديات ومجالس القرى العربية، والشيخ كامل ريان رئيس "مركز أمان".

وحث المشاركون المستشار  القضائي وطالبوه بأن يدفع الحكومة باتجاه اقرار خطة عمل واضحة وشاملة وملزمة، على أن يشارك في وضعها نواب من المشتركة ورؤساء مجالس محلية وقيادات أخرى؛ كما واتفقوا  على ضرورة عقد جلسات عمل مستقبلية مع ممثلين عن النيابة العامة للدولة وعن وزارة الامن الداخلي ومع باقي الجهات الحكومية التي لها علاقة بهذه القضية الحارقة وعليها واجب مواجهة الجريمة على تنوّع مصادرها. 

قد لا يراهن الكثيرون على فائدة هذا الاجتماع وبعضهم سيتفّهونه وسينتقدون من بادر اليه ومن شاركوا فيه؛ لكنني، على عكسهم، أراه، رغم مجيئه متأخرًا، خطوة ايجابية في الاتجاه الصحيح وبادرة لنهج عمل سليم؛ فلطالما ناديت منذ سنوات طويلة بضرورة التواصل منهجيًا مع جميع العناوين الحكومية والقضائية، لا سيما مع من يرسم منهم وينفذ الخطط والسياسات تجاه المواطنين العرب وتجاه مؤسساتهم الرسمية والمدنية، مثل المستشار القضائي ووزير الامن الداخلي ورئيس المحكمة العليا وغيرهم من أصحاب هذه المواقع والتأثير .

ليس أمامنا، كمواطنين في اسرائيل، مفرّ؛ فنضالنا من اجل حقوقنا المدنية، بكل الوسائل المتاحة ومن على المنابر وفي جميع الميادين، فرض وواجب؛ بينما تقع، بالتوازي، على عاتق القيادات الجادة، مهمة حماية الناس والذود عن سلامتهم الفردية وضمان الأمان في بلداتهم. ولا يكفي أن نلغي هذه الفرص ونرفض تجريبها، مرارًا، فقط بسبب قناعتنا بان جميع هذه المؤسسات الاسرائيلية عنصرية بشهادات وبامتياز، ولن تسعفنا أو تتعاطى مع مشاكلنا بشكل ايجابي وحقيقي.

 لا للشرطة، لا للعنف، فما الحل؟

 لا يوجد حل لقضية العنف وحالات القتل في واقعنا الحالي؛ فأنا لا أرى من وكيف سيفعل ذلك ! ولذا سننام وسنصحو في حضن حالة "اجتماعية" مستديمة، كالتعلم والزواج أو كالترمل والمرض، وسيبقى القتل رفيق شوارعنا والعنف شرطي مدارسنا ومجالسنا وفراشنا، إلى أن نتغير نحن وتتغير الأحوال. 

قد ينتقد البعض هذا التشاؤم وهذا اليأس، لكنني مقتنع باننا اذا لم نقر بعجز مجتمعنا وقصور مفاعيله السياسية والاجتماعية والدينية والتربوية، وفشلهم في مواجهة هذه الآفة، ستستمر ارواحنا بالتنفس في بقع الضوء الشاحبة، وسيُحكم من يسمون، مجازًا وخطأ، بخفافيش الظلام قبضاتهم على حناجرنا المرتجفة ويمضون في تسيّدهم على حاراتنا الخائفة.    

لا نقاش حول واجب الدولة ومؤسساتها في محاربة الجريمة المستفحلة بيننا، ولا حول دورها في معاقبة الجناة وضرورة ردعهم، ومسؤوليتها عن معالجة مسببات هذه الظاهرة الخطيرة، ولا جدال انها لم تفعل ذلك عن قصد وتنفيذًا لسياسات عنصرية تستهدف حصانة مجتمعنا وأمن مواطنيه واستقرارهم السلمي؛ بيد أن ذلك، رغم صحته، لا يبرر فشلنا الداخلي في مواجهة ظواهر العنف كما تتداعى في عدة اشكال وفي مواقع تخضع لسيطرتنا بشكل مطلق؛ ولا يبرر ايضًا فشلنا في ايقاف نزيف الدم وتحجيم عدد عمليات القتل التي تحصل مثلًا على خلفية ما يسمى بشرف العائلة، أو بسبب عادات الثأر القبلي البغيضة وما شابهها. 

ستبقى الحكومة الاسرائيلية المسؤولة الأولى والأخيرة، عن كل الجرائم عندنا وخاصة عما تقترفه عصابات الجريمة المنظمة؛ ولكن سيبقى، في نفس الوقت، التساؤل حول دور مؤسساتنا المحلية، مثل المجالس  والبلديات، ضروريًا ومبررًا؛ والتساؤل حول مساهمة ودور المؤسسة التربوية موجعًا؛ والتساؤل حول تأثير المؤسسة الدينية مقلقًا ومستوجبًا.  فاذا فتشنا عن دور هذه المؤسسات سنجده، في أحسن الأحوال، هامشيًا، وفي بعضها سنجد انها تساعد، اما بصمتها واما بفعلها في ترسيخ ظواهر العنف وفي استفحالها.

 لا يكفي مقال لتغطية هذه المسائل بكل تفرعاتها؛ وعليه فسأتناول هنا قضية قتل النساء، على أن نعالج غيرها في مقالات قادمة.  

معهن الحياة اشرف

سيستمر قتل النساء ما دامت معظم عقول الرجال مريضة ومعظم عقول النساء أسيرة؛ فهنيئًا لك يا نهر الشرف الزائف. ها هم الحفّارون يهيّئون لك جداول الدم وطين الهوية البائسة.. وهنيئًا لك يا أيها الموت العاهر، فلك ما لنا ولك الكتائب والمجاهدون: بناة العزة/الوهم وحماة الشرف المخبأ في شقوق أكعابهم/حوافرهم، أسياد التخلف والرياء، كهنة بابل والربع الخالي. أضرب أيها السياف الشرقي حتى البطر أو، يا ليت، حتى التعب!

عن أي شرف تتحدثون ايها القتلة ؟ فكلما ذبحتم زهرة وبقر "مأمور العفة" بطنها، لأنها رفضت تعاليم القبيلة وما عادت تحتمل خرافات الهزيمة، أبكي على ماضٍ مات في الرواية لكنه بقي حيّا في خيام صدوركم؛ وأندب حاضرًا يحمي ذكورًا دسّوا عقولهم بين أرجلهم فسكرت رجولتهم على حافة شواربهم المنتصبة، وصارت اراقة دماء الحرائر عندهم أرخص من "عفطة عنز".

لن نعفي شرطة اسرائيل من مسؤولياتها عن الجرائم بحق النساء، لكننا نعرف أن هذه الفظائع المقترفة في بلداتنا، بمعظمها، هي وليدة ثقافة مجتمعاتنا وميراثها من زمن "هند وليلى". فلا يكفي لوأدها تنديد الرجال بها ولا صراخ بعض النساء ضدها ولا شجب المؤسسات الخجول. علينا أن نقف على مسبباتها الحقيقية ونكشف بجرأة عن مصادرها ومن يغذيها أو يتواطأ من اجل تخثيرها؛ فاذا أردنا أن نصير شعبًا يمقت القتل الرخيص في المفارق، لنبدأ بتعليم أولادنا كيف عليهم أن يحموا  "الغانية والزانية من الضرب المبرح في الشوارع" أو كيف  "يؤذن للمغني أن يرتل آية من {سورة الرحمن} في حفل الزواج المختلط"   

فمن منا لا يعرف أن القصة تبدأ في البيوت وحين تفرح القبيلة بمولودها الذكر وتندب حظ الأنثيين؟ ومن منكم لم يشارك باشعال شمعة الاحتفاء بذكاء طفله وهو يستعرض عاريًا وبحفاوة، نزولًا عند الحاح العائلة، "رجولته الصغيرة" لأنها ضمانة مستقبلهم والشهادة على نقاء الجنس؟

ومن منا، بالمقابل، ينسى زخات الارشاد والتنبيه والتعنيفات إذا ما قفزت بنية، في عمر حبة الطل، وبان، لا سمح الله، طرف فخذها، أو إذا تحركت ولم تحافظ كالكبيرات العفيفات على التصاق الساق بالساق؟ أتتذكرون كيف أصبتم بمشاعر الحرج والعوج وكأن هذه الطفلة المسكينة الغضة كانت على حافة ارتكاب جريمة أو رذيلة.

انه مجتمع مريض حتى التعب، ولا يعرف كباره معنى البراءة ولا الخير في تدليل الطفولة الانثى، فكيف إذا تقمرت خدودهن أو إذا تكعّبت صدورهن أو علت النهود؟ 

المشكلة، بنظري، ليست فقط في ذكورية هذا المجتمع، بل بكون عقول أكثرية ذكوره سقيمة بلوثة تدعهم يحسبون ان الاناث عالات على الحياة وانهن مناجم للقلق، فيجب التخلص منهن اما بالتزويج وإما بالخنجر.

فمهما كابرنا وانكرنا، تبقى الحقيقة مدفونة في بطون المعاجم الضاجة بالمعاني التي تقرّع المرأة وتعيبها؛ فهي عورة وناقصة العقل حتى لو أبلت في دفاعها عن الوطن وذلك لأن الحسناوات، عند العرب، لا يرفعن أحجبتهن إلا إذا غابت الفحول. 

ستبقى اسرائيل ذريعة سهلة ومشجباً يعلق عليه مجتمع عنين متخلف  قصوره وعجزه ورياءه، وستبقى السكاكين مخبأة في صدور ابناء القبيلة وفي دفاتر المدرسة وفي مواعظ المساجد وفي تعاليم الكنيسة.

الداء داؤنا، وهو عربي وشرقي أصيل، حتى اذا أسميناه بخبث وحشي، الشرف؛ وسيبقى وضعنا بائسًا إلى أن يصير شرفنا معلقًا على "كافات" كرامتنا الانسانية وعند اقدام حرّيتنا، وليس، كما يعتبره العرب اليوم، جرحًا في خواصر الحرائر، أو سرًا دفينًا بين سيقانهن.

 

 

بيرني ساندرز نجم مظاهرة

تل أبيب ضد الاحتلال

جواد بولس

 

شهدت ساحة «رابين» في مدينة تل أبيب مساء السبت الماضي، مظاهرة شارك فيها آلاف المواطنين اليهود والعرب، الذين استجابوا لدعوة بادرت إليها الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة، والحزب الشيوعي الإسرائيلي، ومعهما حزب ميرتس وعشرات الحركات والجمعيات اليهودية والعربية اليسارية.
ستبقى هذه المظاهرة علامة فارقة ومبشرة في زمن، نجحت فيه عربدة اليمين الإسرائيلي وأعوانه، من مختلف المواقع، بإيهام العالم، ومعه معظم المواطنين اليهود والعرب، بأن جميع المخارج نحو مستقبل مختلف قد سدّت، ولم يبق أمام الفلسطينيين الحالمين إلا قبول واقعهم الأسود ونسيان حل الدولتين، واكتفاء المواطنين العرب في إسرائيل، بالمقابل، بما سيمن عليهم به السلطان وهم صاغرون.
لم يكن حضور آلاف المواطنين اليهود في المظاهرة أمرًا متوقعًا ومفروغًا منه، وهو لذلك يشكّل مؤشرًا مهمًا، ودليلًا على اختمار قناعات جديدة بين أوساط يهودية واسعة، بدأت تفتش عن مستقبل آمن وتسعى للولادة من جديد في عالم نظيف من الاحتلال ومن قاذوراته، وبدون القمع واستعباد الغير وقهره. ما قاله رئيس القائمة المشتركة النائب أيمن عوده، في خطابه الذي تلاه أمام الجموع من خلال شاشة العرض، بسبب تواجده في حجر صحي، وما أضافه زميله النائب الشيوعي عوفر كسيف، يستدعي اهتمام وتوقف الذين ما زالوا، مثلي، مصابين بداء التجدد والشك والأمل، ولا يرون بقوالب عوالمهم السياسية «ألواحًا قدسية» ورثوها من زمن «مينا إلى عصر عمرو، ومن عصر عمرو لعصر جمال». فنحن على مفترق طرق وقد نختار «جادة الأمل» لتأخذنا نحو النجاة، أو نختار «طريق السراب» المطلية بغبار الحق، والمرصوفة بالنوايا الحسنة، فستحملنا نحو الهاوية ولعذاباتها الكاوية.
أعرف أن بعض الجماعات بيننا ستستمر في انتقاد هذا «التمني الساذج» ودليلهم، طبعًا، هو طبيعة الصهيونية العقربية، ومشاهد الساحات الإسرائيلية وهي تفيض عنصرية وجشعًا ودماء، لكنهم، مع ذلك، يتغاضون عن حقيقة واحدة وهي أنهم لا يقدمون للناس حلولا وبدائل. وعندما تسألهم عن ذلك يلوذون بخيمة الصبر وبعدل الزمن، أو يجيبونك أنهم، كمواطنين بسطاء، ليسوا في موقع تقديم النصائح ولا المخارج، فهذه وظيفة القادة ومسؤوليتهم. بعضهم يعارض العمل العربي اليهودي المشترك، بسبب عقيدته الثابتة وإيمانه بأن الحرب المقبلة هي حرب دينية، وفيها سيتولى المجاهدون وجنود السماء مهمة القضاء على إسرائيل، كيان الكفر، وسيتم تنصيب أمير جديد للمؤمنين الذي سيحكم المعمورة، وأن ذلك الفرج قريب، بل بات قاب قوس ودعاء.

السياسي الحاذق هو من يوسع جبهة نضاله ويعززها بالحلفاء المستعدين لمواجهة العدو المشترك

وعلى الضفة الثانية سنجد جماعات ما انفكت تنتظر، بلا يأس ولا كلل، عودة «غودو الشرق» فهو حتمًا سيأتي من جهات «بلاد العرب» قاطبة وينقض على أركان دولة الباطل ويدمرها، ويشيّد للحق دولة لا تغيب الشمس عن جنباتها. أحترم إيمان كل شخص ورأيه، بيد أنني لا أوافقهم، فمن الطبيعي أن يكون في مجتمع عانى ما عاناه الشعب الفلسطيني مثل هذه الاختلافات الفقهية والسياسية، وفي بعض حالاتها قد تثري وتفيد، لكنني لا أرى، في حالتنا، أنه من الطبيعي والمقبول أن تتحول تباينات المواقف السياسية إلى خناجر تستل بسهولة في وجه من دعا إلى هذه المظاهرة، كي يمضي ويناضل بطريقته من أجل حقوقه وإنهاء الاحتلال، الذي يراه شرطًا لنقل المواطنين العرب إلى مرحلة جديدة في صراعهم على مكانتهم وحقوقهم المدنية والقومية داخل إسرائيل. لقد أعادت هذه المظاهرة قضية وجود الاحتلال وممارساته ضد الفلسطينيين من جهة، وتأثيره على إمكانية بقاء المجتمع الإسرائيلي ضمن العائلة الإنسانية من جهة أخرى، إلى فضاءات إسرائيل وإلى شاشات العالم، بعد محاولات ساستها وإمعانهم في تغييبه، والتقدم نحو سيطرة خبيثة على الأرض المحتلة، وإبقاء الفلسطينيين كرعايا في خدمة الأسياد. من المؤسف أن نرى أن إسرائيل ليست الجهة الوحيدة التي تحاول تغييب وجود الاحتلال وموبقاته، فإلى جانبها تعمل حكومات كثيرة في العالم، وفي منطقتنا، وبعضهم يدعي القربى للفلسطينيين والصداقة، ولبعضهم وكلاء محليون.
ليس من المنصف للتاريخ ولا أخلاقيًا أن نغفل ما قيل على منصة تلك المظاهرة وتقزيمه، لمجرد تعريف بعض من قالوه بالصهاينة. فالسياسي الحاذق هو من يوسع جبهة نضاله ويعززها بالحلفاء المستعدين لمواجهة العدو المشترك، وانضمام شخصيات كهوروفيتش رئيس حزب ميرتس، وزميلته في الحزب زاندبرغ، والنائب عن حزب العمل ميراف ميخائيلي، وغيرهم من المتحدثين والمشاركين، إلى صرخة الآلاف ضد الاحتلال، وضد سياسة الضم والأبرتهايد، تعد خطوة بالاتجاه الصحيح وهي جديرة بالمتابعة وبالاستثمار، لأنها قد تصبح بداية لمسيرة جديدة نحو مستقبل مختلف وعادل وآمن. لقد توقعت في الماضي حدوث تغيير داخل بعض جيوب المجتمع الإسرائيلي، وناديت بضرورة السعي وراءهم واستقطابهم لصالح نضالنا وضد الاحتلال الإسرائيلي، حتى لو استمروا بتعريف أنفسهم بالصهاينة، لكنني لم أتوقع أن ينضم إلى منصة عليها تلك الشعارات، مرشح لرئاسة الولايات المتحدة بقامة السناتور الأمريكي، عضو الحزب الديمقراطي بيرني ساندرز، فمشاركته كانت حدثًا استثنائيًا إيجابيًا ومشجعًا وتعد سابقةً. إنه مشهد مميز، سجل فيه هذا الصديق الأمريكي موقفًا على مسمع العالم، وقال بلغة واضحة ومباشرة لم نألفها من الساسة الأمريكيين: «يُثلج الصدر أن أرى الكثير منكم، عربًا ويهودا، تقفون معًا هذا المساء من اجل السلام والعدالة والديمقراطية، وأريدكم أن تعرفوا أنكم لستم وحدكم فهناك الملايين من الناس في الولايات المتحدة، وفي العالم يدعمون هذه القيم الإنسانية والأساسية».
ليس من الصعب أن يتخيل العاقل كيف شعر قادة إسرائيل وهم يسمعون هذا الكلام من سناتور كاد يدق أبواب البيت الأبيض بقبضتيه الحريريتين، وليس من السهل ولا المنطق أن يتغاضى عاقل وغيور فلسطيني عن أقوال ساندرز، وهو يؤكد على أن «مسؤوليتنا أن نقف ضد القادة المستبدين، وأن نبني مستقبل سلام لكل فلسطيني وكل إسرائيلي»، ويتابع بنون الجماعة «اعتقد أن مستقبل الفلسطينيين والإسرائيليين متشابك، وان جميع أطفالكم يستحقون العيش في أمن وحرية ومساواة، ولكي يكون ذلك ممكنا، يجب وقف خطة ضم أجزاء من الضفة الغربية، ويجب أن ينتهي الاحتلال.» من له مصلحة في الاعتراض على هذا الكلام؟ وكيف ممكن أن يخدم مثل هذا الكلام حكام إسرائيل؟ ولماذا وكيف يعتبر البعض أن نهج هذا العمل هو مجرد «أسرلة» مرفوضة تخدم سياسة إسرائيل وأهداف قادتها؟ وكيف ولماذا يجزم البعض أن من يصرخ، أو يتمتم في سره، ويطالب بضرورة القضاء على إسرائيل، يخيف قادتها أكثر ممن يطالبون بدولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل وبتحقيق العدالة والمساواة والأمن للعرب أسوة باليهود؟ لا يوجد منطق في ذلك، بل قد تكون الحقيقة معكوسة. لقد أنهى السناتور ساندرز كلامه قائلًا: «أعلم أنه في اليوم الذي نحتفل فيه بإقامة دولة فلسطينية إلى جانب دولة إسرائيل، سيكون ذلك بفضل أمثالكم، المستقبل الوحيد هو مستقبل مشترك».
أنا على يقين بان مثل هذه النشاطات ضرورية، وأن الكلام الذي قيل في المظاهرة على العموم هو الكلام الذي يستفز ويخيف حكام إسرائيل، لأنهم يرون فيه الخطر الأساسي والحقيقي على أحلامهم وعلى مآربهم؛ والأمل يبقى، طبعًا، بأن تكون هذه بداية لبناء جبهة عمل واسعة تناضل لكنس الاحتلال وضد الفاشية داخل إسرائيل.
كاتب فلسطيني

 

 

أهل فلسطين

 بحاجة إلى الأمل

جواد بولس

 

في ذكرى رحيل مقاوم عنيد، زارع الأمل، الصادق الصدوق فيصل الحسيني.
بخلاف من يكتب عن أزمة السلطة الفلسطينية الحالية من مقعد المشاهد البعيد، أو من مدرجات المحللين والمفكرين، يعرف كل مواطن فلسطيني ما طعم المرارة واختلافها، في جميع البدائل التي تطرح عليهم، أو ينصحون بها من قبل أولئك الأصدقاء أو ربما الأخوة الأعداء. وإن كنت لاختار أخطر ما يواجهه الفلسطينيون في هذه المرحلة من مسيرتهم العاثرة، لاخترت فقدانهم لمجسّات «غريزتهم الفطرية الأولى» التي كانت تقودهم، في ساعات المحن المصيرية، بإرادة سليمة غير مكلومة، نحو الدرب نفسه، مهما كان صعبًا وقاسيًا، وفي مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، عدوهم اللدود وربما الوحيد. ومن أخطر أعراض فقدان هذه الغريزة هو استمرار الانقسام بين غزة والضفة الغربية المحتلة بين حركة حماس، ومنظمة التحرير الفلسطينية، خاصة تنظيمها الأكبر، حركة فتح.
تعيش فلسطين في هذه السنوات محنتها الكبرى؛ فيدّعي الجميع أنهم يفتشون عمّن يقف وراء المأساة وعن أسبابها؛ ويجتهد كلٌّ من موقعه بتصويب سهامه نحو هذا الفريق أو الآخر؛ مع أنني ألحظ أن الكثيرين يستسيغون اتهام السلطة الفلسطينية، أو قيادات منظمة التحرير، لاسيما قادة ومؤسسات حركة فتح؛ ويغفلون، عمدًا أو نسيانًا، دور حركة حماس ومشاريعها المستقبلية، كعنصر فاعل في تداعيات المنطقة السياسية وعنوان لمخرجاتها المحتملة والمخطط لها.
لن أدافع ولن أتهم أحدا؛ لكنني على قناعة بأن خطاب التيئيس، من جهة، لن ينقذ الشعب من أزمته، وأن لغة التخوين من جهة أخرى، لن تسعف؛ وأن الكيل بمكيالين، على جميع الأحوال، هو شيمة الطغاة والمتجبرين، أو مهنة العابثين والمزايدين.
وفدت إلى القدس الشرقية طالبا في الجامعة العبرية بعد سبع سنين من احتلالها؛ تخرجت بعدها ورحت أعمل محاميا يدافع عن الفلسطينيين، ضحايا ذلك الاحتلال وموبقاته. كنت شاهدًا على أربعة عقود ونصف العقد من تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية، ومحاميًا مدافعًا عن معظم قادتها وناشطي فصائلها. تشرفت بالدفاع عن آلاف الأسرى الفلسطينيين؛ فكل من زج به وراء القضبان صار لي أخًا وحليفًا؛ ولم يستثنني أي حزب أو حركة أو فصيل مقاوم، ولم يفسد اختلاف الرؤى السياسية بيننا، صداقتنا وعلاقتنا المهنية إطلاقًا.
إنها مسيرة جديرة بالتدوين؛ لكنني هنا سأكتب نتفة عن الحقيقة والأمل؛ فأنا ابن الخسائر الذي لم يتوقع عدلًا من محاكم القمع والاحتلال. خسرنا ولم نهزم، بل زرعنا في صدور المناضلين بساتين فجر ووعود، حتى نمنا وناموا على وسائد من رضى وسلام. عشت خيبات كبيرة في مسيرتي المهنية؛ لكنني، هكذا استذكرت وجزمت، قبل أيام في رام الله حين جمعني لقاء عارض مع كمشة رفاق عتق، أن أوجع تلك الخيبات كانت ما تفجر وتداعى من جراء مناكفات الأخوة وصراعاتهم، أمام أعين المحتلين والعملاء. تذكرنا محطات تلو محطات وفرصًا ضاعت، لو تحققت لكانت فلسطين الدولة قاب قطرة ندى وغنجة نرجسة. استعدنا من الحوادث جملة؛ سأحدثكم عن واحدة ما انفكت رغم حدوثها قبل سنوات عديدة تدقني في خاصرتي. لا أفعل ذلك من باب نكش الوجع، إنما بوحي الأماني والعبرة والأمل.
دعاني، بسام الصالحي أمين عام حزب الشعب الفلسطيني، إلى مكاتب الحزب في رام الله. كان بسام صديقي مثله مثل كثيرين من رموز الحركة الطلابية الجامعية الفلسطينية في سنوات السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي؛ فمعهم ناضلنا وعنهم دافعت لاحقًا في محاكم الاحتلال. أخبرني أن بعض القيادات الفلسطينية قد أعدّت مبادرة، تضمنت مقترحًا، تقدم به حزب الشعب الفلسطيني، يقضي بتشكيل «مجلس تأسيسي لدولة فلسطين»، حيث سيتشكل من أعضاء المجلسين، المركزي لمنظمة التحرير والمجلس التشريعي، بهدف تخطي العقبات التي وقفت في وجه المساعي لإعادة بناء منظمة التحرير، وإشراك جميع الفصائل فيها، وبضمنها طبعًا حركة حماس. عرض بسام عليّ ورقة مطبوعة شملت، علاوة على ما ذكر، أفكارًا تستهدف تعزيز استراتيجية سياسية، تستند إلى فرضية وواقع استقلال دولة فلسطين، وإنهاء الاحتلال، إضافة إلى حق العودة، وغيرها من النقاط التي أجمع على صياغتها معظم الفرقاء، ولم يبق إلا عرضها على قادة حماس، وفي طليعتهم نواب الحركة في المجلس التشريعي، الذين كان معظمهم في ذلك الوقت داخل سجون الاحتلال. طلب مني أن ارتب زيارة لنواب حماس في السجن، وأن أعرض واستعرض مع رئيس المجلس التشريعي، الدكتور عزيز دويك، مضمون الورقة، وسماع موقفه منها.
رتبت تلك الزيارة، وأذكر أنها كانت في سجن مجدو. بعد انتهائنا من طقوس السلام والترحاب والاطمئنان، عرضت على الدكتور عزيز مضمون الورقة. قرأناها بروية، فأبدى إيجابية واضحة، أزاء الفكرة والمضمون، لكنه طلب أن يعود بها إلى أخوته النواب ليناقشها معهم، ثم استفسر في ما إذا عرضت الورقة على الرئيس ابو مازن، وإذا كان موافقًا على فكرتها ومضامينها، أخبرته بأن الورقة معدة بموافقة الرئيس.
عدت اليه بعد يومين وأكدت له موافقة الرئيس على الورقة، وانتظرت رده، فجاءني مختلفًا عن موقفه الأول. لم يرفض الدكتور ورفاقه فكرة المبادرة، ولا مضمون الورقة، لكنهم أفادوني بأنهم ليسوا العنوان المخوّل لمناقشتها، بل غزة هي العنوان فعلى المبادرين أن يتوجهوا إليها، حيث سيصدر عنها الموقف. عدت إلى رام الله واخبرت بساماً بما جرى، ففهم أن مصير هذه المبادرة قد قضي، وهكذا حصل. إنها مجرد فرصة واحدة من كثيرات، لكنها تبقى مثالًا يثبت أن المحنة التي يعيش في ثناياها الشعب الفلسطيني، وتبدو غير قابلة للحل هي في الواقع أزمة من صناعة محلية؛ فاذا أراد صنّاعها فكفكتها لاستطاعوا ولأعادوا الأمور إلى شعابها، التي مهما تفرقت يجب أن تؤدي جميعها إلى صدام مع المحتل.

المحنة التي يعيش في ثناياها الشعب الفلسطيني، وتبدو غير قابلة للحل هي في الواقع أزمة من صناعة محلية

لا اكتب كي أفتش عن قتلة الحلم الفلسطيني في بقع الضوء العليلة، ولا عن الخناجر المدفونة في قنابيز العشيرة؛ لكنني أتمنى على جميع من يحترفون الصراخ وتخوين القيادات، خاصة «قيادات رام الله»، ومطالبتهم بحل السلطة وبالرحيل، أن يتروّوا قليلا وأن يعدلوا ويترأفوا بمصير شعب صامد كالسمرة في صفحة تاريخ المحتل الأبيض. للفلسطينيين عمومًا وفي رام الله وغزة، ولأصدقائهم حق الانتقاد والمحاسبة والتساؤل وأكثر؛ بيد أن احتراسهم من المغرضين واجب، وفطنتهم ضرورة وسلاح، وسبرهم لمقاصد ناصحيهم بكلمات حق يراد بها باطل، أو منتقديهم بغيرة مغشوشة، فرض عليهم، وجب عدم أغفاله.
قد يكون من الأسهل، في زمن هذا التيه العربي المقيت، أن تُهاجَم منظمة التحرير الفلسطينية، مع انها ستبقى طبعًا مسؤولة عن مآلات القضية الفلسطينية ومصيرها؛ وقد تصير حفلات التقريع بقيادات «فتح ابو مازن» هي الأطرب ونحن نشهد مواسم الهجرة إلى الصحراء، من دون اعفائهم من حصتهم من المسؤولية عن هذه الحالة؛ وقد يبدو، عند البعض، نداء حل السلطة هو الاوجب، لاسيما وهي سلطة عرجاء ببعض من يعبث بها، ومحاصرة من احتلال بغيض مدلل، رغم جرائمه، من أباطرة العالم «الحر»، ويربت على اكتافه، رغم ادعائهم عكس ذلك، حكام عرب وترك وعجم، فرغم كل ذلك ما هي بدائلكم؟
أعيش في القدس وفي رام الله وأعرف، مثل الكثيرين غيري، مَن سيذود عن عذرائه، فلسطين، مهما غلت التضحيات، ومَن يستعدّ لحماية مهجتها من كل مجرم وعابث وغاصب؛ ونتابع ما يتداعى في مواقعنا وحولنا، وندرك أي بدل مسمومة يخيطونها لأهل البلاد وللصابرين فيها ممن كانوا بحاجة إلى جرعات نور ووعود وعسل. لن أكتب خطبة اليأس ولا كلمات الوداع والتخوين، ولا أفعل ذلك ككهل يستعذب رومانسية مخاتلة أحبها يافعًا فبادلته التحية؛ ولا لأنني لا أصغي لأنين الأزقة في فلسطين المحتلة، وهي تفيض بدماء أبنائها المراقة برصاص مسوخ آدمية، سقى أرواحها الاحتلال بحبر شرائعه القرمزية؛ فأنا، كأبن لجيل تعمد بالخسارة وقهرها، لن أكون مرآة لواقع أخضر وصدئ، ولا ببغاء تردد ما تقوله الريح الصفراء للرمل الذي علمني أن كل من يسكب في الهواء جرعة يأس يطيل عمر الغبار والاحتلال، وكل من يزرع، مثلما فعل المناضلون البناة، البسمة في حلق الظلام ويرش على القباب ظلًا وارفًا، يرث الجنة والحياة.
كاتب فلسطيني

 

 

كما كان يجب أن

 يكون والأسرى أولًا

 

جواد بولس

 

عادت قضية الأسرى الأمنيين الفلسطينيين إلى صدارة الأخبار مجددًا، وذلك في أعقاب دخول تشريع عسكري إسرائيلي جديد إلى حيز التنفيذ في التاسع من أيار الجاري. فوفقًا لتعديل الأمر بشأن تعليمات امن (تعديل رقم 67 )، وسّعت سلطات الاحتلال الإسرائيلية صلاحياتها في حقها بوضع يدها على ما تسميه " أموال وعوائد الارهاب" التي يتقاضاها أسرى الحرية الفلسطينية من السلطة الفلسطينية؛ واستحدثت، وفقًا لهذا القانون، حالة قد توفّر، وفق تفسيرات إسرائيلية قضائية مغرضة، لبعض الجهات والمنظمات اليمينية التي ما انفكت تلاحق الأسرى والسلطة الفلسطينية منذ سنوات، فرصة ملاحقة ومقاضاة من يعطي ومن يمسك هذه الأموال والعوائد كالبنوك العاملة داخل أراضي السلطة؛ وهي ليست الجهة المهددة الوحيدة بالطبع.

 في كل مرّة ينبش الاحتلال ووكلاؤه هذه المسألة، تتجدد المناكفات داخل المجتمع الفلسطيني ويحتدم النقاش بوتائر مقلقة، في مشهد سجل ويسجل فيه الإسرائيلي انتصاراته خاصة عندما ينجح في تأليب الفلسطينيين على بعضهم أو عندما تشرع فئات منهم بالتهجم على السلطة، أو بالاعتداء على مباني البنوك كما جرى في هذه الجولة الأخيرة. 

لم يبدأ هذا النمط من ملاحقة الأسرى الأمنيين مع إصدار هذا القانون ولن ينتهي به وعنده؛ ولقد قلنا ذلك في الماضي مرارًا وأكدناه مع تشكيل "لجنة أردان" (وزير الأمن الداخلي الأسبق)، وهي التي أقيمت أصلًا من أجل نسف مكتسبات الحركة الأسيرة الفلسطينية وتقويض واقعها المعيشي وضعضعة ما تبقى من قوامها الجامع وتماسكها كجسم منيع يقف بصلابة في وجه سجانها وسياساته القمعية.

لم يكن قرار الحكومة الإسرائيلية، في حينه، مجرد نزوة عابرة؛ ورغم ما اتخذته اللجنة من خطوات في حق الأسرى علينا أن نستوعب أن الحكومة الإسرائيلية الجديدة سوف تمضي بخطى إضافية لإتمام مهمتها التي ما زالت قيد التنفيذ.

لقد عملت حكومات إسرائيل في السنوات الأخيرة على تجزئة الضفة المحتلة إلى كانتونات يتعايش سكانها مع واقعهم المستجد بسكينة مهيضة، وباكتفاء العاجزين؛ في حين تمضي غزة، بخطى ملتبسة وبالدعاء، نحو حلمها الذي ينام في عيون بحرها المتعب؛ أما منظمة التحرير فلقد أرهقها أبناؤها فشاخت وهي تجاهد كي تحمي من بقوا يعتاشون على أثدائها. 

لا يختلف واقع الحركة الأسيرة الفلسطينية اليوم، موضوعيًا، عن واقعها في زمن البدايات، لكن آباء تلك الحركة استوعبوا، بفطرة المقاومين الأنقياء، أن بناء الجماعة هو الضمانة الأكيدة لحماية أفرادها من خبث سجانيهم، ولبقائهم رمزًا وطنيًا يجسد معنى التحرر ومقاومة الاحتلال؛ فحين قاوموا، برؤية وطنية طليعية وسبّاقة سياسات المحتل واضطهاده، كانوا على يقين أنهم يشكلون عمليًا السد الأول والأخير الذي يجب أن يقف في وجه من كان يسعى بنهم، وهو ما زال منتشيًا بسكرات نصره المظفر، إلى التحكم بأرواحهم وراء القضبان، ولإبقائهم كهلاميات تائهة وكفرائس تحيا بلا أمل بين فكي الخيبة والهزيمة. وفي حين حاول السجان الإسرائيلي تدجينهم ومعاملتهم كمجرمين وكارهابين يعيشون في ظل القانون الاسرائيلي ومننه، تمامًا كما يحاول اليوم، أصروا وتصرفوا على أنهم مناضلون أحرار وأسرى يضحون في سبيل شعبهم وحقه في الاستقلال وبناء دولته المستقلة. 

والاهم في هذه الملحمة المشرفة أنهم فعلوا ذلك بظروف معيشية قاسية وبدون دعم مادي أُسري ولا بوجود سلطة وطنية تضخ أموالًا في حسابات "كانتينا" شهرية وغيرها. لقد قاوموا بجوارحهم وبوحدتهم وكرامتهم وهزموا سجانهم شر هزيمة. 

فلماذا اذن تستقوي حكومات اسرائيل ولا تكف عن محاولاتها للاجهاز على الحركة الاسيرة داخل سجونها وملاحقة اعضائها من الاسرى المحررين؟ 

لقد استشعر القائمون على إعداد المخطط الخاص بضرب مكانة الأسرى الفلسطينيين التاريخية والحالية بروز عدد من المحفزات والمعطيات المستجدة داخل صفوف الأسرى، فعملوا على توظيفها واستغلالها كأسلحة تسهل إتمام مهمتهم المذكورة.

لن أعدد تلك العوامل، فلقد تناولتها مرارًا في السابق، لكنني سأعود وأؤكد على أن الانقسام بين غزة والضفة، بين فتح وبين حماس، كان أخطر هذه العوامل وأقواها على الإطلاق، خاصة بعد أن "استوردت" قيادات الحركة الأسيرة مضامين ذلك الانقسام وقبلت به واقعًا يحدد هوامش معيشتها داخل السجون.

 لقد غيّر هذا الانقسام، وهو ليس الوحيد القائم داخل صفوف الحركة الأسيرة، أبجديات الصمود الفلسطيني ونسف عمليًا ميراثًا نضاليًا ذهبيًا ما زال نثاره يتطاير على جهات الريح ونحن نرقبه بحسرة وبوجع وبخيبة. 

ما زلت أرى أن هذه المسألة بحاجة إلى حل وطني واضح ومتفق عليه، وذلك وفق الثوابت الخاصة بمكانة الحركة الأسيرة وما تعنيه في سياق عملية التحرر الوطني؛ لكنني لست هنا في صدد كتابة تحليل لهذا القانون أو غيره، ولا لأبحث عن حلول على الهواء، فلكل مقام مقال؛ ولكن لا بد من إنصاف الحقيقة والتاريخ، فالجميع يعرف أن السلطة الفلسطينية ملاحقة منذ سنوات من قبل حكومات إسرائيل ودول كثيرة أخرى، وذلك بحجة أنها تدعم الإرهاب وتحتضن الأسرى، وهذا واجبها طبعًا، وتقدم لهم بسخاء وبحق؛ وهي ملاحقة قضائيًا في المحاكم الأجنبية والإسرائيلية حيث "يتجبر" بحقوقها قضاة عنصريون، بعضهم مستوطنون، يقفون ضدها وهم مدفوعون بهواجس عنصرية وبعيدة عن القانون والعدل والنزاهة؛ ورغم هذا وذاك رفضت وترفض جميع القيادات الفلسطينية، رئاسة، وحكومات، ومنظمة، أن تنصاع لتلك التهديدات والابتزازات.

لم يكن موقف القادة مجرد مناورة إنسانية عابرة أو مكابدة ومكايدة، فهم أكثر من يفهم، بقناعة وطنية متجذرة، بان المعركة على موقع الحركة الأسيرة الفلسطينية وما ترمز إليه في تاريخ الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي هي معركة على آخر القلاع التي يجب الدفاع عنها وإنقاذها.

من المنتظر أن تستأنف الحكومة الجديدة ما بدأته حكومة نتنياهو وأردان السابقة، ولن يمضي وقت كبير حتى نشهد حملات غير مسبوقة ستستهدف، كما نعرف، السلطة من جهة وضرب الحركة الأسيرة من جهة أخرى . 

وقد يكون الأسهل على الجميع توجيه جميع السهام إلى السلطة الفلسطينية والى قيادة منظمة التحرير وتحميلهما كعنوانين وحيدين وزر هذه الهجمة الشرسة. لن يكون ذلك كافيًا لرد الهجمة وإفشالها، فبدون تكاتف جميع مفاعيل المجتمع الفلسطيني وفي مقدمتهم الأسرى، وإلى جانبهم جميع الفصائل ومؤسسات القطاع الخاص والمجتمع المدني والأهلي، ووقوفهم إلى جانب السلطة والتفتيش عن حل وطني مقبول، ستبقى الأزمة قائمة ومتفاقمة.  

لقد تمنيت عليكم قبل حين وقلت لكم: أنتم أبناء "الحركة الأسيرة" فلا تتحولوا إلى ضحايا "حركة كسيرة". لقد كُتب سفر خروجكم على جدران الزنازين بالدم وبالدموع، فعلى ماذا تراهنون في هذا الزمن الذي من دخان وشموع؟

اهدموا أسوار الفرقة وغادروا "مواكير" التعصب واستعدوا لمعركة الكرامة والجذور؛ فقريبًا سيلسعكم جمر الحكومة الجديدة. وستبقى زنازينكم أوطانكم فلا ترضوا أن تصير فلسطين وطنًا من سراب. من مثلكم يعرف قراءة أبجديات الندم  وتفكيك شيفرات العدم، لا تجازفوا بذبح الصباح . حطّموا مراياكم، ولا تكونوا كأولئك الجنود الذين قضوا، فتناثر عطرهم على المفارق وحفلت  الشاشات بالأهازيج وبالفرح الأسود.

ستكون الهجمة على كل فلسطين قريبًا شرسة وساحقة؛، وانتم، في هذه الأزمة، رهاننا الأجمل وأصحاب حق ومسؤولية . واجبكم أن تبادروا كي يصير الحل وطنيًا، فخيطوا من مواقعكم خيوط الشمس والزنبق؛ لا تكتفوا بالقعقعة وبالهتاف، فقد تصير كل اليواطر قاصرة؛ قفوا في أول الليل كوقفة عاشق ينتظر الفجر في الخندق، وعيشوا كأبناء البن والقمح ، وكما عاش الذين لم تطعمهم أوسلو حريرًا وندم، وصادقوا الأمل ملفوفًا بالعمل ومغموسًا بالخبز وبالعزة والماء والصبر، فعندها فقط سينثال عليكم وعلى سيدة الأرض ضوء القمر.  

 

 

 

 

تطبيع وفوضى ومكان

جواد بولس

 

أشعلت مسألة مشاركة المواطنين العرب في إسرائيل، وعمل بعضهم في عدد من وسائل الإعلام الإسرائيلية، لاسيما في راديو وتلفزيون «مكان»، نقاشًا لافتًا، دارت رحاه، بالأساس، على صفحات «التراشق الاجتماعي»؛ فشهدنا، على مدى الاسبوعين الفائتين، حالة من فوضى الضياع وتحليق جيوش «الفيسبوكيين والتواترة»، في عوالم مختلقة أخفى غبارها، الأصفر المثار، حدود المنطق ومعالم المحظور والمتاح.
ستنتهي هذه الجولة؛ وسيعود كل فريق إلى رصيفه العاجي وإلى ندمائه، وسيبقى الجرحى محملقين، بأسى، في ذلك المدى العصي، وعين الصقر رانية، برضى، على جميعهم من فوق ذلك المكان.
بدأت هذه الجولة، مثل سابقاتها، حين أصدرت المجموعة نفسها، التي تطلق على نفسها اسم «اللجنة الفلسطينية لمقاطعة إسرائيل من الداخل» (
bds 48) بيانًا طويلًا دعت فيه، كما جاء في صفحتها، إلى «مقاطعة تلفزيون مكان – البوق الدعائي للحكومة الإسرائيلية»، في أعقاب شروعه ببث حلقات ترفيهية ساخرة، استهلها معدوها بأغنية عنوانها «البلد بخير» وهو اسم البرنامج كذلك. هنالك خلط واضح بين مقاطعة مستحيلة، كما ينادوننا إليها، والتدقيق في مسألة حرية العمل كموظفين في «المكان»، أو كمشاركين فيه من وراء الميكروفونات أو الكاميرات.
لن أسهب في تاريخ علاقاتنا كمواطنين في إسرائيل مع راديو وتلفزيون «مكان»؛ ولا حاجة للتأكيد على أننا في رحاب من كانوا دومًا «صوت إسرائيل من أورشليم القدس»، أو على أن هذه المنصة قد خلقت أصلًا لتكون بوقًا إعلاميًا رئيسيًا، يروّج لسياسات ولدعاية إسرائيل بين المواطنين العرب، وفي الدول العربية، على حد سواء؛ ولن اختلف مع من يصم هذه الوسيلة بأنها أعدت لتعمل على «كي» ذهنية الإنسان العربي وتشويشها، ولضعضعة بنيته الهوياتية، والعمل على زرع الشكوك في فوائد انتماء ذلك الفرد إلى أمة هلامية كبيرة، أو إلى قادة يفتقدون للشرعية، وغير جديرين بثقة الناس. فكل ذلك كان وما زال بعناوينه الكبيرة صحيحًا؛ ومع هذا وذاك، ففاقد الحواس فقط لن يلاحظ كيف خضعت هذه المؤسسة إلى بضعة تغييرات، أفضت إلى تحول إيجابي طفيف، لكنه مهم، في تعاملها مع بعض قضايا المواطنين العرب.

هنالك خلط واضح بين مقاطعة مستحيلة، وحرية العمل كموظفين أو كمشاركين من وراء الميكروفونات أو الكاميرات

لقد انعكس هذا التحول من خلال استيعاب «المكان» لعدد من المذيعين/ات ومعدّي برامج مؤهلين مهنيًا، وأصحاب معارف مضامينية، ويمتلكون شخصيات مستقلة، إلى حد بعيد، ويتحركون في هوامش واسعة نسبيًا، تتيح لهم فرص التعبير الحر أزاء سياسات الدولة وممارساتها، وبمعاجم أبناء شعبهم نفسها. كما نستطيع أيضًا ملاحظة بعض هذه التغيرات في تنوع البرامج، وما يذاع منها على الهواء مباشرة، وإفساحها المجال لمشاركة شخصيات عربية منوعة وقيادية، كان وجودها على أثير صوت اسرائيل يعدّ من المحاذير المطلقة.
لا أسوق ذلك من باب المديح المفرط أو المغالاة؛ لكنني خبرت هذه الحالة قبل سنوات قليلة، عندما كنت ضيفًا على برنامج «لمن يجرؤ» الذي كانت تقدمه، على الهواء مباشرة الإعلامية سوزان حجار- نجار.
فأذكر كيف جلست أمامها في الاستوديو لمدة ساعة، وتطرقنا لأربعة محاور تناولت مسائل سياسية كانت ملتهبة في حينه؛ أذكر منها قضية تجنيد العرب، خاصة المسيحيين منهم، في جيش الاحتلال، وغيرها من القضايا التي أجبت على جميعها براحة قصوى، وبلغتي نفسها، التي كنت أعتمدها في جميع مقابلاتي مع وسائل الإعلام العربي والعالمي. لقد دُهشتُ بعد انتهاء المقابلة من التأكيد في الاستديو على أننا كنا على الهواء، وأنهم لم يقتطعوا من اللقاء شيئًا؛ فاستوعبت عندها، أن الأثير بقي صوت إسرائيل، لكن إسرائيل صارت، بعد هذه السنين، في مكان ووضع مختلفين، ولم تعد ذلك الكيان «المزعوم» الخائف من كل طير ونسمة، بل دولة كاملة القوام والثقة بالنفس وواعية لحجم قدراتها، فلا تتردد باستيعاب حتى قادة عرب معارضين مهما صرخوا من على أثيرها، وعيّروها بالاحتلال وبعنصريتها؛ فقد تكون «مكان» اليوم منصة نحن بحاجة إليها.
كم أقصينا في الماضي من «المكان» ، فتحول إلى واقع من الصعب مقاطعته وحتى العمل فيه ليس محظورًا، ما دام صاحبه واعياً لانتمائه الصحيح، ويرفض إن يتحول إلى بوق رخيص وذليل، أو إلى عبد يرقص على إيقاع سوط سيده.

فوضى تطبيعنا الثقافي كمواطنين مع إسرائيل

حيّت اللجنة لمقاطعة إسرائيل من الداخل «الرد المبدئي والغاضب» لمجتمعنا الفلسطيني ضد أغنية «البلد بخير»، فالبلد ليست بخير؛ ثم مضت، بعد مطالبتها بمقاطعة التلفزيون في الهجوم على شركة الإنتاج العربية «الأرز» وتخوينها لأنها ساهمت في إنتاج عمل «هابط»، ولأن مشاركتها في الحرب الإسرائيلية على حركة المقاطعة، تتجاوز عمليًا «التطبيع لتصل إلى خدمة المشروع الصهيوني ضد شعبنا» وناشدوا، بسبب ذلك، المجتمع بإدانة هذا العمل. لقد استغل معدو البيان، كلمات بيت واحد من أغنية «البلد بخير»، رغم تأديته غناءً بالروح الساخرة نفسها، التي رافقت غناء جميع الأبيات، واعتبروه حربًا عليهم، وعلى مصير قضية فلسطين. تقول الأغنية، بلغة عامية وبتهكم واضح على حالة الناس، عن حملة المقاطعة: «لما تسمع بي- دي- أس بتصير تنوي متل البس، وبيصحا فيك الوطني حس». وهو نص غير جدير بإشعال حرب ولا حتى مشادة صغيرة.
لن آتي على تفاصيل البيان المليء بديباجات نارية وتخوينية، فلقد تطرق كاتبوه إلى عدة مسائل مبدئية وعالجوها بسطحية وبشعاراتية قد تخدما، بالنهاية وبشكل غير مباشر، سياسات إسرائيل، ومحاولاتها لتوسيع الخلافات بين شرائح الجماهير العربية المختلفة.
خص معدو البيان في هجومهم بعض الممثلين العرب، الذين شاركوا في مسلسل «فوضى» الإسرائيلي الشهير، مع العلم بأن عرضه بدأ، محليًا وعالميًا، منذ عام 2015. لم أكن انا شخصيًا بحاجة لمشاهدة مسلسل «فوضى» كي أتعرف على دور ونشاطات فرق مستعربي جيش الاحتلال في الحرب على الفلسطينيين، ولا كي أتعرف على ظاهرة العملاء الفلسطينيين وعوالمهم. فأنا أعمل، منذ أربعين عامًا، في الدفاع عن أسرى الحرية الفلسطينيين، وعن ضحايا فرق الموت الناشطة في فلسطين المحتلة، وأعرف ما تؤديه لهم جماعات العملاء من خدمات.
ما يهمني هنا هو قضية «تطبيعنا الثقافي» مع إسرائيل، ورغم أننا عالجناها مرارا في الماضي، لكنها، هكذا يبدو، باقية بيننا كأحد جروحنا المفتوحة. فمسلسل «فوضى» ليس إلا حدثًا «ثقافيًا» عابرًا، سينسى بدون أن يترك ندبة جدية على صفحة هويتنا الجمعية؛ والبعض يرى في مشاركة فنان أو اثنين فيه نتاجًا لأزمة هوية جدية يعيشها المواطنون العرب في إسرائيل، أو على الأقل أحد تجلياتها.
ولذلك سأقترح، ونحن نواجه حالات من الفراغ القيادي في عالم تتشكل فيه «الهويات السائلة»، إبقاء قضية مشاركة الفنان، أو المذيع العربي المحلي بعمل اخباري أو ترويجي، عبر إذاعة أو تلفزيون محلي أو قطري أو تركي أو أمريكي، كقضية فردية يتحمل هو مسؤوليتها وعواقبها، مع الإقرار وحفظ حق من ينتقدون أولئك الذين يشاركون في عمليات «التلميع» تلك «البطولات» الاحتلالية، أو ترويج «المآسي» العمالاتية، أو ما يشبهها في حالات أخرى.
كم رجونا أن يحررونا من لعنة التطبيع ومن هذه الهرطقات ومن خيباتها؛ وكتبنا في الماضي القريب عن هذه اللجنة، وقلنا إننا لا نعرف عنها كثيرًا، ولا عن ظروف تأسيسها ومن ينشط في صفوفها، وما هي خلفياتهم، أو حدود تجاربهم، أو من يقف وراءهم؛ ولكن وعلى جميع الأحوال، لا يستطيع أحد أن ينكر حق أعضائها بالتعبير، وحقهم في انتقاء التعابير، حتى لو أساءت للأجواء الأهلية العامة، وللمعايير بالشكل الذي يفعلونه؛ بيد أن صمت وتقاعس وكسل ورياء معظم التيارات السياسية، والمؤسسات والجمعيات واللجان والنخب السياسية والثقافية القائمة، والناشطة بين المواطنين العرب في إسرائيل، تبقى هي المشكلة الحارقة والمستفزة؛ فلولا هذا الصمت/ العجز، لما تركت نداءات «اللجنة الفلسطينية لمقاطعة إسرائيل من الداخل» هي العصا الغليظة الوحيدة المرفوعة في وجه من لا يتساوق، صاغرًا، مع مواقفهم؛ أو من لا يقبل تفسيرهم/تقييمهم لأي نشاط ثقافي قرروا معارضته لأنه لا يتوافق، على الأغلب، مع مبادئهم السياسية الفئوية؛ أو من يرفض ذرائعهم الأيديولوجية الكيديّة، في بعض الأحيان، أو المدفوعة بوقود «ألترا- راديكالي « في أحيان أخرى.
نادينا هي فوضى ولا حياة لمن تنادي.
كاتب فلسطيني

 

 

 

الدروز في إسرائيل…

خطاب جديد

جواد بولس

 

في ظل التداعيات السياسية المتفاعلة على الساحة الإسرائيلية العامة، وبعيدًا عن تأثيراتها الخطيرة في مستقبلنا، نحن الجماهير العربية في إسرائيل، لفت انتباهي انشغال منصات التواصل العربية المحلية بموضوعين هامشيّين نسبيًا، إذا ما قورنا بجلالة الحدث الرئيسي، المتمثل برفض محكمة العدل العليا الإسرائيلية، مساء يوم الأربعاء الماضي، جميع الالتماسات التي قدمت ضد تكليف بنيامين نتنياهو بتشكيل الحكومة الإسرائيلية، وضد اتفاقية ائتلاف حزبي الليكود وكاحول لافان.
تطرق الحدث الأول إلى مشاركة رئيس مجلس قرية «المغار» المحلي، المحامي فريد غانم، بمظاهرة غير عربية وحدوية، دعا إليها رؤساء سلطات محلية درزية وشركسية احتجاجًا على سياسة الحكومة العنصرية ضد بلداتهم؛ ففريد غانم شخصية معروفة للجميع، بانتمائها السياسي الواضح، وبماضيه النضالي، مذ كان طالبًا جامعيًا ناشطًا في صفوف «الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة»، ومن ثم محرّرًا في جريدة «الاتحاد» الحيفاوية العريقة.
أما قضية تطبيع المواطنين العرب مع وسائل الإعلام الإسرائيلية، لاسيما راديو وتلفزيون «مكان»، والمشاركة في برامجهما، فهو الموضوع الثاني الذي ألهب مجموعات «الفيسبوكيين والتواترة» وخلق حالة من فوضى الحواس والمصطلحات، حتى باتت حدود المحظور والمتاح في هذه المسألة المرَضية خليطًا عجيبًا، يفتي بشأنه كل «فتى» معجب بحاله، وتوزع بخصوصه صكوك الغفران الوطنية يمينا والتخوين يسارا. لقد أثار الصحافي سليم سلامة بتعليق كتبه على صفحته، جانبًا مهمًا مما سميته أنا مرّة «المسألة الدرزية»، حين سأل صديقه فريد غانم، الذي عمل معه لسنوت طويلة في هيئة تحرير «الاتحاد»، بشكل علني عن مشاركته «في مظاهرة خاصة لرؤساء السلطات المحلية الدرزية والشركسية، مساهمًا في تكريس الانقسام الانعزالي عن «اللجنة القطرية لرؤساء السلطات المحلية العربية»، ولماذا يقبل المشاركة في مظاهرة تظللها تلك الكمية من الأعلام الزرقاء والبيضاء، في عرض نفاق وتملق وتذلل معيب.
لم ينتظر السائل إجابة صديقه على هذين السؤالين؛ فهو مثل الكثيرين يعلم أن أصول هذه القضية تعود عمليًّا إلى زمن قيام إسرائيل؛ ورغم تعقيداتها المزمنة، وبسبب ما طرأ عليها من تغيّرات اجتماعية وسياسية وما تشهده المجتمعات الدرزية من حراكات توعوية، هنالك ضرورة لمواجهتها بجدية بهدف إعادة اللحمة بين أفراد الشعب الواحد. هنا في هذه المهمة، كما يأمل سليم وغيره، يوجد لفريد غانم ولأمثاله من الشخصيات التقدمية الواعية دور ريادي ومسؤول، ومعهم، بالطبع، يجب أن تقف وتبادر، على الضفة الأخرى، قيادات الجماهير العربية ومؤسّساتها التمثيلية. يختلف شعوري تجاه هذه المظاهرات الاحتجاجية عن شعور من ينتقدها لعدم وحدويتها العربية، ولما قد تكرّسه، شكلًا، من تبعية طائفية أو مظاهر عرقية، وذلك من باب الأمل، ولأنني أنظر إليها كنشاطات غير تقليدية مكمّلة للمظاهرة الكبيرة، التي أقامها المعروفيون في مطلع أغسطس/آب 2018 عندما تظاهر عشرات الآلاف منهم في تل ابيب، لأول مرة في تاريخ الدولة، ضد قانون القومية.
توقّعت في حينه وتمنّيت أن تترك أصداء مقاومة العرب الدروز، لقانون القومية أثرًا لن تمحوه الأيام المقبلة، وشرخًا لن تدمله ترضيات الحكومة وألاعيبها، ولا تمويهات بعض قادتهم ووعودهم الخلّب. مع هذا وذاك، ورغم وضوح معالم الهوّة بين «الحلم» الدرزي وطبيعة الدولة، كما كانت قبل قانون القومية وتأكدت بعده، رأينا أن معظم غير الدروز، الذين تطرقوا لردود فعلهم ظلوا أسرى لمساطر تقييماتهم التقليدية وتعاطيهم النمطي، المبني على ممارسات بعض جيوب الطائفة السلبية، تجاه محن أبناء شعبهم وقضاياه المصيرية، والمعادية لهم، خصوصا تلك التي تجلّت من خلال مواقعهم في الجيش وفي أجهزة الأمن الإسرائيلية.
مازلت مؤمنًا بأن الفرصة لم تفُت بعد، فمعالم «المسألة الدرزية» في إسرائيل باتت أشد وضوحًا، ومحاورها بدأت تتكشف أمام أبناء الطائفة، من يوم إلى يوم، حتى أضحت فرص إرجاعهم إلى حضن شعبهم ناجزة وملحّة، وهي دَينٌ لا في أعناق أبناء الطائفة ونخبها الغيورة فحسب، بل على مؤسسات المجتمع العربي وقياداته النافذة أيضًا.

لابد من رصد مسيرة التغييرات الحاصلة داخل المجتمعات الدرزية في البلاد، ففي طياتها تكمن البشرى

لم تكن «الموسيقى الدرزية» متناغمة وموحّدة، خاصة بعد صدور قانون القومية؛ فرغم طغيان نشوز من نادوا، بانتهازية مستفزة، بضرورة إلغاء القانون، لأنه يميز بين «أخوة السلاح»، أرى أنّ الأكثرية الصامتة، باتت تشعر أكثر بأن المؤسّسة الإسرائيلية الرسمية تعاملهم مثل أخوتهم العرب، وليسوا فئة مدللة صاحبة امتيازات، وأخوة في السلاح، وشركاء في الدم حسب تلك الفرية التي روّجت عقودا طوال. وبخلاف وقفاتهم المطلبية في قضايا عينية ومحددة، مثل هدم بيوت هنا أو هناك، أو مصادرة هذه الأرض أو تلك، برزت ملامح صرخاتهم الوجودية، حتى إن حاول بعضهم إخفاءها أو مغمغمتها وطمسها.
كرّر الكثيرون شماتتهم على ردة فعل أبناء الطائفة العربية الدرزية، لما أبدته الدولة من «جحود» بحق من خدموها طيلة سبعة عقود؛ وتبع آخرون حدسهم فراهنوا على أن قيادات الدولة ستنجح في احتواء الأزمة، وتمرّر بمساعدة بعض القيادات الدرزية التقليدية، صفقة مقايضة جديدة ليبقى القديم على قِدَمه. قد تكون مشاعر جميع المنتقدين مبرّرة، فمواقف قادة الطائفة العربية الدرزية، بعد إقامة إسرائيل أنتجت أسباب ذلك التنابذ، وشكلت أرضًا خصبة لمشاعر عدم الثقة؛ ومع هذا لابد من رصد مسيرة التغييرات الحاصلة داخل المجتمعات الدرزية في البلاد، ففي طياتها تكمن البشرى.
كان الجيش ومصلحة السجون الإسرائيلية، في البدايات، المشغّلَين الرئيسيين لابناء الطائفة، التي تشكلت بالأساس من مجتمعات فقيرة تقليدية ومحافظة. لم يعد الواقع مشابهًا، فنحن نرى كيف تأثر العرب الدروز، كغيرهم من المواطنين العرب بوتائر التطورات الاجتماعية والاقتصادية الحاصلة في الدولة، التي أدّت بطبيعة الحال إلى نموّ نخب جديدة، وشرائح وازنة من المثقفين والأكاديميين، ورجال الأعمال، والمهنيين الناشطين في مجتمعات أصبحت أكثر انفتاحًا على مصارع العالم، وأكثر جاهزية للتعاطي مع تحديات العصر، واستعدادًا لمواجهة مخلّفات الماضي، وإصرارًا من أجل السعي وراء أحلام بمستقبل آمن يظلل أبناءه بهوية جامعة واضحة، وغير متشظية أو مشوّهة أو هشّة. فمع احترامي لمبررات مساءلة فريد غانم على وقفته، في ظل ذلك العدد الكبير من الأعلام البيضاء الزرقاء، اقترح، من باب التفاؤل السليم، أن نرى بلون فريد الأحمر، الذي نعرفه، إضافة نوعية على تلك النشاطات وبشرى لمستقبل نسعى وراءه، وعاملاً مستجدّاً على تلك المظاهرات التي ندَر أن رأيناها في الماضي، وإن حصلت لم يكن فيها مكان لفريد غانم ومن مثله.
ما زلتُ أراهن على أن مظاهرة المعروفيين الكبيرة، التي جرت في تل أبيب، كانت بداية لشرخ عميق بين الدولة ومواطنيها الدروز؛ وعسانا نجد تعزيزًا لرهاني، ما نشره فريد غانم على صفحته قبل يومين ودعا فيه، مع زميله رئيس مجلس قرية كفر كما الشركسية، مواطني القريتين للمشاركة الفعالة في تظاهرة على مفترق جولاني»مسكنة» (جرت أمس الخميس) مؤكدًا على أن «هذه التظاهرة وغيرها هي حلقات في سلسلة النشاطات الاحتجاجية التصاعدية ضد سياسة الحكومة، في ما يتعلق بعدم تحويل الأموال وتقليص الميزانيات.. وللمطالبة بتجميد/ إلغاء قانون كامينتس، وقانون القومية والمطالبة بالمساواة في كل المجالات». إنها لغة جديدة في خطاب الطائفة؛ لغة أجيال تزورها الحقيقة في المخادع، ولن يقدر أحد في هذا العصر على تزويرها أو حجبها.
لقد صرخت في الماضي مجموعات صغيرة عربية درزية مؤكدةً: نحن عرب يا عرب، فصدقتهم قلة من العرب ووافقتهم قلة أقل من الدروز؛ أما اليوم فما زال أولئك يصرخون بتلك الصرخة ومعهم تصرخ، من مواقعها، مجموعات جديدة من المثقفين والأكاديميين بصوت مَن أفاقوا على هول الخديعة، ووقع الحقيقة بأنهم ليسوا أكثر من عرب ولا أقل من دروز. أشم رائحة التغيير وأرى قاموسًا جديدًا يعِد ويحرّر، وقناعتي بأنّ صديقنا فريد غانم وأمثاله كثيرون سيرفعون الراية نفسها التي يرفعها ابناء شعبهم.
كاتب فلسطيني

 

 

قضية بين جائحتين:

جهل ونكبة

جواد بولس

 

مرّت الذكرى الثانية والسبعون لنكبة الفلسطينيين في ظروف محلية وعالمية استثنائية، فعلى مستوى المعمورة ما زالت الحكومات والشعوب تتخبط في تداعيات جائحة كورونا وآثارها المحتملة على النظام العالمي، المتشكّل في زمن العولمة، وعلى قوانينها التي كانت، في حسبة الكثيرين، راسخة كوشم على صدر مستقبل الشعوب ومصائرها المحتومة. بينما في إسرائيل ما فتئ الصراع السياسي الداخلي على طبيعة نظام الحكم فيها متأجّجًا، وسيبلغ أوجه، في مطلع الاسبوع المقبل، داخل أروقة المحكمة العليا الإسرائيلية، التي سيحسم أحد عشر قاضيًا من قضاتها مصير حكومة الفساد، المتفق على إقامتها بين بنيامين نتنياهو وبيني غانتس وما سيفضي إليه قرارهم.
لم تفت المناسبة على الفلسطينيين، رغم ذينك الهاجسين المركزيين، من دون استذكار للوجع وإحياء للأمل، فالجرح، رغم مرور السنين، ما زال مفتوحًا، والحلم يأبى إلا أن ينام فوق جبهات الريح: أخضر، ملتبسًا بين الخيام البعيدة، وأبيض باردًا، في شتات ملهوف، وأسود مهيضًا، في عتمة احتلال بغيض، وأحمر حائرًا، يتقلى كالندم، على مفارق الـ 48.
حملت الذكرى، هذه السنة، طعم ورائحة الوباء، ليس بسبب فيروس كورونا وحسب، بل لأن فلسطين، التي في القصائد والدعاء، تواجه عالمًا جديدًا من زبد، يضج بالرياء السياسي، وبالتفاهة وبالعمى. فمأساتها، بعد سبعة عقود من عناق النكبة والمدى، أكبر من قضية عرض مسلسلات هجينة على شاشات العرب والمسلمين، مثل مسلسل «أم هارون»، وأعقد من احتضان محرك غوغل العالمي لعلم إسرائيل، فهذه وغيرها، عوارض جسيمة لما تعاني منه فلسطين داخليًا، وشواهد منذرة للخلل الحاصل في ما كان يسمى، ببداهة مواربة ومغالطة، «مصالح الأمة»، وفي طليعتها القضية الفلسطينية. لا أعرف، في الواقع، ماذا تعني اليوم «النكبة» بالنسبة لزعماء العرب، أو بالنسبة لمواطنيهم البسطاء والمسحوقين، ولا ما هو موقعها في هوية أجيال «الكنتاكي» المتزايده أعدادهم، وكيف تؤثر على جاهزيتهم النفسية «النضالية» الداعمة للصمود الفلسطيني المطلوب. ولكن الأخطر، من ذلك، برأيي، أننا لا نعرف في ما إذا كانت معاني النكبة وتأثيرها، كمحرك للمشروع الوطني الفلسطيني، ستفضي إلى مضامين سياسية، متطابقة بين فئات الشعب الفلسطيني، في جميع مواقع تواجده، وقياداتهم، وما يهمني هنا بالدرجة الأولى، علاقة المواطنين العرب في إسرائيل بهذه الذكرى وما تعنيه لهم، وما هي المؤثرات التي تحدد مواقفهم وتبلور مفاهيمهم ازاءها؟
لم يغب هذا السؤال عن النقاشات المتفاعلة داخل مجتمعاتنا المحلية، بل يشغل منصاتنا ونقاشاتنا، إما من خلال بروز ظاهرة جديدة، أو بسبب تكرار حدث ما، كما حصل هذا العام عندما قبل مواطنان عربيّان مدنيان، كما كان قبل غيرهم في الماضي، المشاركة في إضاءة شعلة «التمجيد والكرامة الإسرائيلية» في الاحتفالات بذكرى إقامة الدولة. فبعد نشر النبأ كتب لي صديق استفزته موافقة هذين الشخصين وتساءل بغضب مبرر «لماذا كان مدى إقبالهما على هذه الفعلة مساويًا لمدى سرعة التغاضي العام (لدى الناس) عن ارتكاب هذه الحماقة، وكأن الأمر عادي؟» ما أصوب السؤال وما أهون وأحرج الإجابة عليه. لم نعد كما كنا، ولا بقيت اسرائيل على حالها. فقد طرأت تحوّلات كبيرة داخل المجتمع العربي في اسرائيل- لن أتطرق هنا لشرحها أو للوقوف على مسبباتها – طالت معظم البنى الاجتماعية والسياسية التي نجت من جائحة النكبة، وبقيت صامدة في وطنها، فنحن نعيش، اليوم، في واقع مغاير ومضطرب وقد يكون من أبرز ملامحه، التي بدأت تظهر في أواخر القرن الماضي، ضياع البوصلة السياسية وتيه الناس في شعاب ووهاد كثيرة، وبالزحف، احيانًا، وراء قادة لا يجمعون على رؤية ولا على رشاد.
فالجواب، إذن، على لماذا «تساوت سرعة تغاضي الناس مع سرعة موافقة الشخصين في يوم النكبة»، يكمن في ثنايا هويات أولئك الناس، وداخل جيوب مصالحهم، وعند أقدام قناعاتهم السياسية والاجتماعية، التي تبلورت، منذ جيلين، بأيدي قادة تحدثوا بألسن مستوردة، وبنوايا غامضة وملتبسة، وساسوا، باسم اجندات غريبة، وعن طريق ردات فعل اعتباطية وجيَشان العواطف واندفاعها.
وقد كتبت في هذا الشان كلامًا ما زال يناسب هذه الذكرى.. فأكثرية المواطنين العرب في إسرائيل لا تعيش في حالة تشكّلُ فيها النكبة عنصرًا حياتيًا ملموسًا، أو هاجسًا ملحًا، يرافقهم خلال مسيرتهم المعيشية ويؤثر على خياراتهم السياسية، فباستثناء من حسبوا كلاجئين أو مهجرين في أوطانهم وذريتهم، سنجد قلة قليلة من المواطنين الذين يعيشون «حالة الانتكاب» ويذوّتون معانيها وتأثيراتها، ويترجمون ذلك إلى مواقف قيمية أو سلوكية أو نفسية أو سياسية.
لا غرابة في ذلك، فبين الجماهير العربية في إسرائيل وأحزابهم وحركاتهم السياسية والدينية، لن نجد إجماعاً على معنى النكبة، وعلى مكانتها، وما كانت مسبباتها، وما ترتب ويترتب على حدوثها من تبعات ومن حقوق. قد يعتبر معظم المواطنين العرب، البالغين والناضجين، أن النكبة، هكذا بمعناها البديهي والمطلق، هي مصدر للحزن وللتشرد وللقهر وللظلم وللخيانة، لكنهم لا «ينتمون» إليها، ولا يعيشونها كعامل مؤثر في مدارات حياتهم، وهي بهذه الحالة، ليست مركبًا حاسمًا في مبنى هوياتهم السياسية، مع إنها قد تكون عاملًا في تأليف نفسيات بعضهم المهزومة. سنجد، إلى جانب هاتين الفئتين بين العرب في إسرائيل من لا يعرف عن النكبة شيئا، أو قد يعرف القليل والسطحي عنها، أو إنهم سمعوا عنها، من مصادر معادية، حقائق مشوهة دفعت بهؤلاء إلى اتخاذ مواقف سلبية ومستفزة ومرفوضة منها، مثلما فعل هذان الشخصان اللذان شاركا في إضاءة الشعلة.

تاريخنا لا يتوقف عن دورانه، ومجتمعاتنا متغيّرة وحيّة، وأصوات ترتفع معبّرة عن مقتها لواقعنا

تاريخنا لا يتوقف عن دورانه، ومجتمعاتنا متغيّرة وحيّة، فكلنا نلاحظ كيف بدأت ترتفع في الآونة الأخيرة أصوات تعبّر عن مقتها لواقعنا وتصرخ من حناجر تائهة وتوّاقة لحليب الغيم، لقد اصطلحوا على تسميتهم بناشطي «الحراكات الشعبية» أو بجنود شبكات التواصل الاجتماعي، ومهما كانت المسميات، يبقى جميع هؤلاء أبناء حالة من»الإفاقة الشبابية» التي ما انفكت تأخذهم بعيدًا وتعيدهم إلى جوف مربعات «الهزيمة الأولى» حيث وضعت النكبة نطفتها فكبرت حتى تكوّنت شخصية العربي الذليلة الكسيرة المنكوبة. إنهم «طفرات» حديثة العهد وشرائح مجتمعية، جديدة وهامشية نسبيًا، ما زالت تبحث عن مراسيها في شوارع المدينة الإسرائيلية، وعلى أرصفة موانئ بعيدة. قد نعتبرهم أبناء التفاهة، أو على النقيض، أبناء الغضب المأزوم وسعاة البرق الماضين نحو الشفق، ولن ينتظروا نصائح الحكماء ولا مواعظ الشيوخ والفقهاء، بعضهم سيمضي في تيهه صوب تلك النيران، والآخرون، وبعد أن اكتشفوا حطام قصص الأجداد وعنّات اللجوء وسكرات الذلّ وعربدات السلطان، سيتمرّدون على الرماد، وسيضيئون مصابيحهم في مسعى لإزاحة العتمة والالتباس، فالفرح، عند العاشقين، يسكن، هكذا علمتهم الوسائد، في غبار السرو وبين نثار النيازك.
لا أعرف من سيجيب «ما النكبة» وكيف جاءت وإلى اين تمضي، لكنني أشعر بأنها كروح السماء في الأرض باقية، ومرآة الملائكة وهم في طريقهم إلى قلوب البشر القاسية. النكبة لعنة من لا يتّعظ من عويل قلبه الدامي والمفطور عند أقدام السيوف المعربدة، وهي للجهلاء مقبرة الضمير وللودعاء الصابرين أم حانية.
كان واضحًا لصديقي أن إسرائيل، وعلى امتداد سنين طويلة، نجحت في تجنيد أشخاص مثل هذين المذكورين، لأهداف سياسية مضرة ومسيئة معروفة للجميع، لكنهم كانوا يشاركون ويتعذرون ولا يجاهرون بفعلتهم، كما يفعلون في هذه الايام. هذا هو «الفرق بين الماضي والحاضر، وهو أبلغ إجمالا لحالنا، فهيبة الوطنيين تتمرغ بالتراب، ولم تعد قادرة على رد من يسيء لشعبه» هكذا كتب الصديق وتأسى!
لن يختلف اثنان على هذا التشخيص الدقيق والصحيح والموجع، ولكننا، هكذا أجبته، يجب أن نتفق أولًا، من يحدد من هم الوطنيون، ووفقًا لأي مساطر ومعايير، وبعدها سيعرف الناس أو غالبيتهم، كيف تصان هيبتهم وكيف لا يضام حق شعبهم.. فالمشكلة أكبر بكثير من سقطة جاهلين أضاعا بوصلتيهما في مقابر الضمائر الغائبة.
كاتب فلسطيني

 

 

 

إسرائيل الجديدة، وتحدياتنا

مع  حكومة الرأسين

جواد بولس

قامت في اسرائيل حكومة جديدة؛ وهي، على النقيض مما تبدو عليه، ستقاد برأس مدبّر واحد، هو بنيامين نتنياهو، ووراءه سيتحرك بيني جانتس، وزملاؤه من حزب كاحول لافان، كمسوخ تنفّذ أدوارها المعدّة في رحلة تحطيم المنارات و"اصنام المعابد" التي هندسها وبناها وحافظ عليها أباء الحركة الصهيونية المؤسسون لدولة تشاوف قادتها، لعقود، بكونها دولة مؤسسات تدار بنظام حكم يقوم على مبدأ الفصل بين السلطات، التنفيذيه، التشريعية، القضائية، وعلى قيم العدالة الاجتماعية والمساواة امام سلطة القانون واحترام حريات المواطنين الجمعية والفردية.            

لن يصحّ، بعد الآن، أن نكرّر ما كنا نقول، على مدار سنوات عديدة، حين كنا نتهجّم على الديمقراطية الاسرائيلية ونبحر في تعداد مثالبها أو نشكو مما كنا نعاني من سياسات قمع وموبقات عنصرية نقيضة في جوهرها لمغازي الديمقراطية، كما كانت تدّعيها تلك الحكومات، ولا تتوافق مع مضامين المواطنة السليمة ووشائجها المتبادلة الضرورية بين الأفراد والجماعات وبين سلطة الدولة الحديثة.

وقبل أن يقفز من امنوا ومارسوا شعائرهم السياسية والعقائدية وكأنهم يعيشون خارج املاءات وحدود المواطنة الاسرائيلية، ليؤكدوا لنا انهم  أفهمونا دوماً ان لا ديمقراطية في اسرائيل، أودّ أن أؤكد بأنني أكتب هنا للمواطنين العرب الذين أقاموا عقدهم مع اسرائيل على أساسين: المواطنة الكاملة، وهويتهم القومية الى جانبها؛ على الرغم من اختلاف رؤى هذه الحركات أو الاحزاب أو الأفراد حول طريقة مزج ذينك العنصرين في حالتنا الفريدة، أو حول نسبة الجُرع الضرورية للمحافظة على بقائنا في البلاد وتقدّمنا نحو مستقبل آمن.

وقبل أن أوضح أكثر ما الفرق بين اسرائيل التي مارست حكوماتها ضدنا، نحن العرب، سياسات القهر والتمييز العنصري، وبين اسرائيل التي نراها تولد بعد  الانتخابات الاخيرة، يجب ان نراجع شروط ما اتفق عليه الخصمان اللذان، كما ظهر، لم يختلفا قبل الانتخابات الا مجازًا ولم يأتلفا بعدها الا مجازًا؛ فالثعلب سيبقى ثعلبًا لكنه أقوى وأخطر والخراف ستكون نحن أولًا، وبعدنا سيلحق كل من لن يركع أمام ما "يريده الشعب"؛ ومن مثل نتنياهو وفي جيبه الخلفي الجوكر/ جانتس يعرفان ما يريد الشعب؟

لن آتي على ذكر تفاصيل الاتفاق بالكامل وذلك رغم اهميتها مجتمعة، ولكن يكفي ان نعرف انهما توصلا الى اتفاق يحظر على الكنيست ان تبحث خلال ستة شهور أي مشروع قانون لن تكون له علاقة بمواجهة جائحة الكورونا؛ وان يحتفظ كل حزب من حزبيهما، بعد الشهور الستة، بحق النقض "الفيتو" على كل مشروع قانون سيعرض على الكنيست من أي جهة كانت، بحيث لم يعُد من صلاحيات الكنيست الطبيعية شيء يذكر. ثم اتفقا على اصدار قانون يحظر على كليهما ترأس الحكومة اذا سقطت حكومة الآخر نتيجة تصويت لحجب الثقة. لقد "فرمل" نتنياهو، بعد هذه الموافقة، قدرة جانتس وحزبه، وسحب من تحتهم أحد أهم اسلحتهم المستقبلية؛ علاوة الى ابطال مفعول حق استعمال "حجب الثقة" كوسيلة نيابية ديمقراطية كانت تشكل عتبة رادعة للحكومات، وتعطي المعارضة حق استعراضها لمواقف سياسية مغايرة ومتحدّيه في ظروف معينة.

لم يقتصر الاتفاق على محاصرة الكنيست وافراغها من دورها الدستوري فحسب، بل سعى نتنياهو الى تمكين حزبه من مضاعفة تأثيره على الجهاز القضائي، خاصة بعد ان اقنع جانتس بعدم اشراك ممثل عن احزاب المعارضة في لجنة تعيين القضاة وتبنّي قرار يقضي بانتخاب اعضاء اللجنة على اساس شخصي، وليس كما كان قائمًا حتى اليوم؛ وذلك بخطوة ستضمن لنتنياهو امكانية التأثير على انتخاب قضاة موالين لسياسته، خاصة في هذه الفترة الحرجة التي  يواجه فيها هو وعدد من زملائه لوائح اتهام خطيرة ستتأثر مصائرها بهويات القضاة وبمن كانوا أولياء نعمهم. 

لن ارهق القراء بتفاصيل اضافية، فهذه الاتفاقية هي بدون شك الشاهد الأبرز الذي ساهم جانتس بعملية دقه فوق قبر نظام الحكم السابق في اسرائيل، وهي كذلك شهادة ميلاد حكم ديكتاتوري يميني عنصري، سيتمتع بصلاحيات مطلقة غير مسبوقة وسيتقدّم نحو اهدافه بدون أي كوابح تشريعية او قضائية أو شعبية قد تعيقه. 

ما العمل ؟

لقد جاءت القائمة المشتركة علينا كأول الغيث؛ فقرار جميع مركباتها للمضيّ معًا بأداء أراح توقعات الناس، أعاد لاكثرية المواطنين العرب الثقة بقيادات كانت معاقبة ببطاقات حمراء قانية؛ وأعاد للناس ايمانهم بضرورة وأهمية النضال البرلماني. لم يحصل هذا التغيير الا بعد ان استعاد مفهوم المواطنة وضرورة العمل تحت سقوفه مكانته بين قيادات تلك الاحزاب ومصوتيهم.

من جهة اخرى، ثمة اجماع بان العمل البرلماني، مهما كان موفقًا أو بارزًا، لن يكفي للوقوف في وجه ما سيباشر بتنفيذه النظام الجديد.  ففي حين يؤكد الاتفاق، بين نتنياهو وجانتس، على حق اسرائيل بضم اراض فلسطينية محتلة الى سيادتها، يتوجب علينا ان نفكر كيف نستطيع بث الروح في شعار "لا للاحتلال" وتحديث صياغته باسلوب قادر على تشبيك "السياسي" "بالمدني" وباسلوب كفيل بتجنيد المواطنين العرب اولًا واستهداف المواطنين اليهود في نفس الوقت وعلى نفس درجة الاهمية، ثانياً.

لقد أكد الاتفاق بين الاثنين، فيما اكّد، على عدم المساس "بقانون القومية" مما يضع مجددًا جميع المواطنين العرب بلا استثناء امام تحدّ جدّي، ومعهم جميع اليهود الذين يعارضون هذا القانون على اختلاف دوافعهم. 

يجب استئناف النضال ضد هذا القانون وضد مخططات هذه الحكومة؛ ولكن لا يمكن ان نفعل ذلك ونحن نسير بهدي نفس المفاهيم السياسية القديمة؛ ولا يمكن ان "نقاوم" سياسة النظام الجديد وأساليبه بنفس الوسائل والشعارات القديمة.

فمع ضرورة المحافظة على القائمة المشتركة وتطوير عملها كنموذج لجسم سياسي يعكس فهمًا مبتكرًا ومتطوّرًا، ونضوجًا سياسيًا متمايزًا ووحدويًا لافتًا، يجب أن نتطرق بشكل مسؤول الى "لجنة المتابعة العليا" وما تواجه من مشاكل، لن يحلّها، برأيي، اجراء انتخابات عامة لهيئاتها او لرئيسها، (وهو منصب سيشغر  في اكتوبر القادم)، كما تقترح بعض الجهات، ولن ينقذها، كذلك، رصد الميزانيات التشغيلية التي كانت بكل تأكيد ستسعفها ولكن لن تبرئها بشكل تام.

لقد حظيت اللجنة في السنوات الأخيرة برئاسة محمد بركة، وهو احد ابرز قادة الجماهير العربية في العقود الاخيرة وأغناهم تجربة فكرية ونضالية، وبرغم محاولاته للاقلاع بها بعيدًا، وما احرزه، في هذا المسعى، من انجازات وذلك من خلال نشاطاته ونجاحه بعقد مؤتمر القدرات البشرية وما افرزه من تفاعلات عديدة هامة أخرى ، بقي تأثير هذه اللجنة محدودًا.

لقد انشأت اللجنة قبل أربعة عقود في ظروف سياسية محلية وخارجية استثنائية، وشُكّلت بوجود أطر وقيادات صار بعضها طي التاريخ وبعض من بقي منها لم يعد يحمل نفس المعاني ولا يتبوأ نفس المكانة. لقد ضعضعت هذ التغييرات جسدها  فاختلت بداخله موازين القوى حتى شهدنا، رغم محاولات رئيسها لانعاشها، تراجعًا في مكانتها. 

إننا في أمس الحاجة الى وجود "لجنة متابعة عليا" أو أي جسم مواز من هذا القبيل، على ان تضم داخل "خبائها" أكبر عدد من الأطر الناشطة بين المواطنين العرب في اسرائيل؛ وذلك على امل ان تتحول الى عنوان سياسي شرعي ومؤثر ومقبول كبوصلة يسير على هديها الناس.

أعير لعدد الأطر المنضوية تحت هذه الخيمة أهمية كبيرة، لكنني مؤمن بأن المضامين السياسية والقيم الاجتماعية المتفق عليها بينهم ستبقى هي العوامل الأهم والضمانات الأكيدة لنجاحها.

لقد مضت على إسرائيل سبعون سنة، وما زال البعض بيننا "يقاومها" من باب كونها باطلًا سيزول؛ ويصرّ، الى جانب ذلك، على ان المواطنة فيها مجرد ترف يمكنهم التفّ عليه، وأهلًا، بعدها، بأي مصير!

من حقهم ان يؤمنوا بما يشاءون ولكن يجب أن يأخذوا بالحسبان امكانية عدم قدرتهم/ملاءمتهم على دخول هذه الخيمة، لانها يجب ان تقوم حتماً على عامودين: أولهما المواطنة وثانيهما هويتنا القومية.

 يتبع .. 

Attachments area

 

 

يوم الجمعة العظيمة…

يوم الأسير الفلسطيني

 

جواد بولس

 

خصّصت فلسطين السابع عشر من نيسان/إبريل مناسبة لتجديد عهدها لأبنائها أسرى الحرية، ولاحتفائها بهم ومعهم بانبعاث الأمل من رحم الذكرى والوجع. إنه «يوم الأسير الفلسطيني»، فيه يُستحضر الثابت في واقع شعب تطغى على لياليه العتمة والالتباس؛ فتستعاد الرؤى، وترفأ من جديد خيوط العلاقة الطبيعية بين الأم الحبيسة وأبنائها الأماجد الأبرار.
في هذا اليوم من كل عام، يؤكد الفلسطينيون، ومعهم جميع أحرار العالم، على أهمية ومكانة «الحركة الأسيرة الفلسطينية»، التي ما زالت ماضية في طريق آلامها الطويل، وصدور أبنائها مدفوعة صوب رماح السجانين، حيث ساحة الاشتباك اليومي الدائم، في أهم موقع من إفرازات الاحتلال الإسرائيلي وابرزها في ممارسة القمع والقهر والظلم: في غرف التحقيق وفي السجون.
تحلّ اليوم هذه الذكرى والمسيحيّون الشرقيون يحتفلون بيوم «الجمعة العظيمة»، يوم دقّت مسامير الحاكم الروماني في راحتيّ أشهر أسير فلسطيني، هو المسيح ابن الناصرة، وهو يدافع عن حقه في التعبير وفي العبادة وفي الحياة. قد نجد حكمة في هذه المصادفة، أو درسًا في مجازها؛ فما زال أبناء فلسطين اليوم يتجرعون خَلّ الطغاة، كما تجرّعه ابنها، وذلك بعد أن اتهموه بالكفر والتمرد، فسجنوه وعذّبوه وحاكموه، وقُتل مصلوبًا لتروي دماؤه قحل الزمن، ولتبقى كلماته نورًا في الأرض وغرسًا في قلوب الضعفاء الفقراء.

«الحركة الأسيرة الفلسطينية» ما زالت ماضية في طريق آلامها الطويل، وصدور أبنائها مدفوعة صوب رماح السجانين

وقف أسير فلسطين الأول، ولم يعترف بشرعية محكمته، ولا بقضاتها اليهود، وقد اتهموه بجناية «التجديف»، فاضطروا إلى نقله إلى بلاط الوالي الروماني ليشرع في مقاضاته بتهمة التمرّد على سلطة قيصر؛ بعد أن تبين للكهنة اليهود أعضاء السنهدرين، أن روما لن تقبل اتهامه بجناية التجديف، لكونها تهمة تخص المفاهيم الشرعية الخاصة بتلك الطائفة اليهودية. لم يعترف يسوع التلحمي بالتهمة ولا بشرعية الوالي الروماني، ورفض، رغم تعذيبه، التعاطي مع «المحكمة».
لن استرسل في سرد تفاصيل أسبوع الآلام ونهايته بعيد الفصح المجيد، فالمسيح خرج عن طاعة الكهنة اليهود، وقاتل من أجل آرائه حتى النهاية، وكان مقتنعًا بأنّ الإجراءات بحقه، كانت مجرد مؤامرة مدبرة من مجموعة كهنة خافوا على مواقعهم فلفقوا ضده قضية؛ في مفارقة طريفة قد تذكّرنا اليوم، وبعد مضي ألفي عام، بمشاهد عاشها أسرى فلسطين، حين واجهوا تهمًا ملفقة، وحوكموا أمام محاكم صورية لا تعرف النزاهة ولا تقوم على أسس العدل والحق الإنسانيين.
اليوم يوم عظيم؛ وهو يوم الأسير الفلسطيني، ففيه وضعوا على هامته إكليلًا من شوك، ليسخروا منه وليتفّهوا مواقفه، ويذلّوه أمام شعبهم وشعبه؛ لكنه وهو المؤمن بحقه وبقضيته، لم يقبل الظلم ولم يركع. نحن في شهر نيسان عريس الأرض في فلسطين، وعندما يحل فيها ينضح الجرح، وفي جوفه تكبر الحرية، ويتداعى المشهد الكبير فيبقى «الأسير» وحده حقيقةً، ويتناثر كل الظلم كالزبد، وتصبح جولة الظالم خربشة على جناح التاريخ. لم يكن بناء الحركة الأسيرة الفلسطينية، ككيان متكامل صلب يحمي أبناءه، ويحتمي بوعيهم وبصمودهم داخل السجون، أمرًا مفروغًا منه، أو حدثًا عرضيًا أو مهمة سهلة، أنجزت ببراعة تحت أعين الاحتلال الإسرائيلي. فالأسرى الفلسطينيون الأوائل تنبهوا، لما كان الاحتلال يخطط لنيله ويتمناه؛ ونجحوا، بعد أن خاضوا أشرس المعارك، بقلب المعادلة رأسًا على عقب؛ ففي حين حاول السجان الإسرائيلي تدجين المقاومين الفلسطينيين ومعاملتهم كمجرمين وإرهابيين، وإجبارهم على قبول سلطة القانون الإسرائيلي، والعيش في نطاق حدودها، أفراداً ضعفاء، أصرّ هؤلاء المناضلون على أنهم «كلّ»، لا مجرد أرقام، وعلى أنهم أسرى حرية وجنود مستعدّون للتضحية في سبيل كنس الاحتلال وبناء دولتهم.
يعيش الأسرى الفلسطينيون هذه الايام ظروفًا مأساوية استثنائية، نتيجة لمخاطر تفشي فيروس كورونا، ويخضعون لإجراءات احترازية قاسية مثل، منعهم من زيارة أهاليهم، ومنعنا، نحن المحامين، أيضًا من زيارتهم، علاوة على تأجيل معظم جلسات محاكمهم، بعد أن قلصت المحاكم العسكرية نشاطاتها إلى الحد الأدنى. في المقابل، وكما لاحظنا، فإنّ قوات الأمن الاسرائيلية مستمرة بتنفيذ الاعتقالات بشكل يومي تقريبًا. قريبًا ستنتهي الأزمة السياسية الحالية، وستباشر حكومة إسرائيلية جديدة أعمالها، وستستأنف، كما نتوقع، جميع الجهات اليمينية التي كانت تطالب بملاحقة الأسرى الفلسطينيين وبمعاملتهم كأرهابيين، بسحب مستحقاتهم والتضييق عليهم وتطبيق سياسة قمعية جديدة في جميع السجون. وستعيد هذه الإجراءات السجون إلى حالة الاحتقان التي عاشتها عشية نشوء الأزمة السياسية وبعدها، مع انتشار جائحة كورونا، وسيواجه الاسرى حالة مستبدّة غير مسبوقة بقساوتها.
لن استبق الأحداث، لكنني على هامش هذه المقالة، في هذه المناسبة العظيمة، أود أن أذكّر قادة الحركة الأسيرة بضرورة العمل الفوري على رأب الصدع، الذي ما زال مستفحلًا في صفوفهم، وبضرورة استعادة لحمتهم ووحدتهم، اللتين سيصعب بدونهما مواجهة السياسات والقرارات الجديدة المتوقعة، كما يستشعرونها هم قبلنا.
ما زالت «أورشليم» حزينة وعذاراها يبكين «عريسها» والحزانى يندبن من بشّرهن بالعزاء؛ وما زال العشارون فيها طغاة وجنودهم يطردون «الأنبياء» ويأسرون أصحاب الحق، ويلاحقون الشرفاء؛ فعيد أهلها اليوم كعيد من عاشوا زمن تلك المحنة وبكوا تحت قبابها، وفرح الناس فيها متواضع ومستقحم، أو مجرد أمنية مؤجلة، أما الأسرى فباقون، رغم ليلهم الذي من شوك، ملح أرض فلسطين وغار تاجها الأعلى.
لن نحتفل هذه السنة بيوم الأسير الفلسطيني على الطريقة التقليدية، فسيّد الموقف فيروس»كورونا» الخبيث، جنّ حتى طغى وحكم واستبدّ. لن تنصب المسارح في ساحات المدن، ولن تتلى الأناشيد في الميادين، ولن تتوالى التراتيل والخطابات من الحناجر، بل ستسكت الطبول وسيغيب البخور ؛ لكنه الفصح سيبقى، رغم الشدائد، عيد الحياة والفداء والتضحية، وعيد الحب المخزّن في القلوب والصفح النبيل، كما أوصى المعلم من على الجبل: «أحبوا أعداءكم وباركوا لاعينكم وأحسنوا لمبغضيكم». قال ذلك ومشى إلى «أورشليم» حيث أكمل رسالته وشرّع الطريق، فما أروعها من طريق، وما أصعبها من وصية وما أعصاها على فهم بني آدم، أبناء الخطيئة والغريزة والغرور.
كان نيسان وسيبقى موعد فلسطين مع الحب ومع الفرح، مهما تأخر القطاف ونامت النواطير؛ وسيظل فيه يوم «الأسير» يومًا عظيمًا حتى لو بقيت السماء رمادية والنجوم عابسة؛ فالمناسبة أكبر من الوقت وأرحب من الأماني؛ والصبر، وإن شاخ، هكذا علمنا الخلّ، سيبقى صليب المؤمنين وغمد الأسى.
فلسطين في الفصح هي بحة المدى وصاحبة فجره الدامي وقطرة الندى؛ وإن غفا على جفونها القصب، حتمًا ستصحو ناياتها ذات نيسان وسيحتضن أبناؤها «قاف» القمر ليندلق من خواصرها نور الأزل. لقد بكت عذارى أورشليم، وبكت معهن من «اصطفيت وطهرت واصطفيت على نساء العالمين» فسالت دموعهن في درب الآلام الذي ما زال الدرب الحزين نفسه، ومأوى للشرفاء والأحرار والفقراء والمساكين؛ فهم الذين سيفرحون ويتهللون بكل يوم أسير وبالحرية وبالخلاص، مهما تحايلت أو طالت السنون.
كاتب فلسطيني

 

 

 

كلمة حق

لفلسطين في زمن المحنة

جواد بولس

 

نقلت المواقع الإخبارية الإسرائيلية، قبل أيام، خبرًا مفاده أن يونتان بن أرتسي، وهو حفيد رئيس الحكومة الأسبق يتسحاك رابين، أثار عاصفة سياسية، بعد أن أطلق تغريدة على «تويتر» تمنى فيها أن يصاب بنيامين نتنياهو بفيروس كورونا، وأن ينهي حياته مريضًا في السجن.
ولم يتأخر ناشطو حزب الليكود بالردّ على تلك التغريدة، حيث اعتبروها تحريضًا أرعن على قتل رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، فطالبوا بضرورة التحقيق الجنائي مع بن أرتسي.
بعد انتشار النبأ، وقبل تفاقم تداعياته قام بن أرتسي بنشر توضيح جاء فيه أن «من يستغل كارثة إنسانية، مثل وباء كورونا، لأغراضه السياسية يستحق الإصابة بكورونا… إبقَ سليمًا شريطة أن تمتنع عن الكذب، وتتوقف عن اللعب؛ فأنا لا أتمنى أن يمرض أي شخص بكورونا حتى ولا نتنياهو.. أعتذر عن الموضوع».
لقد اخترت أن أبدأ مقالتي بهذه الحادثة لأنها، بالمقاربة، ذات علاقة بالحالة الفلسطينية؛ ولأنها تختزن، رغم هامشيتها في المشهد العام، معالم عدة أزمات/معضلات، تكشّفت عناصرها، بعد أن صُدمت البشرية من هشاشة واقعها المعيش، برتابة روبوتوية، ووفق مسلمات وفرضيات كانت تتحكم بسلوكيات الناس اليومية، فظهرت، بعد وضوح معالم الجائحة الكونية، أنها حالات خاطئة أو ملتبسة.
راحت منصات التواصل الاجتماعي تعج بالنقاشات النظرية، والمناكفات السياسية، وتشكو من مظاهر الإسهال الفيسبوكي؛ ونشط دعاة الأديان، واستحضر أصحاب الأقلام المواقف إزاء دور الدولة وأحكام السلطان؛ كما تطرق الفلاسفة وفقهاء العلوم الاجتماعية والسياسية، منذ ايام افلاطون حتى جهابذة الفكر في هذه الأيام؛ وطفا الجدال حول الثواب والعقاب، وحول الرحمة وأهمية السماء، والفرق بين أصحاب القصور والفقراء.
لم يتفق «أولي الأمر» على رأي واحد بخصوص أساليب مواجهة الفيروس، وكيفية القضاء عليه أو مواجهته بنجاعة؛ فاكتفى بعضهم بمطالبة مواطنيهم بتوخي الحذر، واتباع أساليب وقاية شخصية صارمة، بينما قررت حكومات دول أخرى إعلان حالات الطوارئ، وتحديد حرية حركة المواطنين، إلى جانب إخضاعهم لإجراءات احترازية متشدّدة أخرى. وقد سببت هذه القرارات بلبلة وقلقًا بين الناس، وفجّرت، في جميع انحاء العالم، حوارات ساخنة، تناولت مفهوم الحرية الفردية ومكانتها في زمن الآفات، مقابل الحاجة إلى التكافل العام، والتضامن المجتمعي، والانصياع إلى الأنظمة والقوانين الجديدة؛ وعالجت، كذلك، دور الخوف والعجز البشريين وتأثيرهما، كعنصرين رادعين وناظمين، على ممارسة الحريات داخل الحيز العام، أو استغلالهما، أحيانًا، من قبل بعض الزعماء السياسيين، كوسائل لتعزيز مواقعهم، وخدمة لمآربهم الحزبية والخاصة؛ كما اتهمت تلك التغريدة نتنياهو.

تصرفت القيادة الفلسطينية في أزمة كورونا بمسؤولية وطنية، وكما يليق برغبات شعب ضحى بأرواحه ويصر على التحرر وإقامة دولته المستقلة

أعلنت القيادة الفلسطينية فرض حالة الطوارئ، في المناطق الخاضعة لنفوذ السلطة الفلسطينية، مباشرة مع بداية نشوء الأزمة، وقبل أن تفعل ذلك معظم الدول الأخرى. وانتقدت جماعات عديدة مبررات القرار الفلسطيني المذكور، وشكك البعض بدوافعه، بينما عزته طائفة إلى ضعف الحيلة الفلسطينية، لكونه أسهل القرارات على قيادة عاجزة لا تريد أن تجتهد ولا أن تتعب. من المستحيل، ونحن في ذروة الأزمة، أن نجري تقييمًا شاملًا لفحص صحة القرارات التي اتخذتها مختلف الحكومات في العالم؛ مع أننا نرى بشكل واضح كيف أخفقت حكومات دول «عظيمة» في مواجهة «جنون» الفيروس ونتائجه الكارثية، في حين لم تكبُ الحكومة الفلسطينية، كما تمنى لها اعداؤها أو توقع منها منتقدوها التقليديون.
لم تكن وقفة القيادة الفلسطينية، رئاسة وحكومة، وأداؤهما مفهومين ضمنا؛ فسيادة السلطة الفلسطينية محاصرة بسطوة جيش الاحتلال ونزق الحكومة الاسرائيلية وعنجهيتها، كما لا تملك فلسطين جيشاً نظامياً، وليست لديها قدرات تكنولوجية كافية، كسائر الدول المتقدمة؛ وتعاني ميزانيتها، فوق كل ذلك، من عسر مالي موجع؛ وهو إن كان في الأيام العادية بثقل «إبّالة» فقد زادته هذا الظروف العصيبة «أضغاثًا على أضغاث». وعلى الرغم من جميع تلك المعطيات المعيقة، علينا، ونحن في خضم هذه التجربة الخطيرة، أن ننصف الحكومة الفلسطينية، ونثمّن طريقة أدائها في متابعة واحتواء الأزمة؛ ونجاحها، حتى اليوم، بمنع انتشار الفيروس داخل المناطق الفلسطينية، وبالسيطرة على تداعيات الأمور وضبط سلوك المواطنين في معظم القرى والبلدات والمدن الفلسطينية. لم يكن هذا النجاح ليتحقق لولا التئام عدة مكونات، وتضافر عدة مقومات كان في طليعتها وأهمها اكتساب الحكومة ثقة الأغلبية الساحقة بين الجماهير الفلسطينية؛ ففي استطلاع أجراه معهد (
j m cc ) الموثوق، لصالح مؤسسة «جذور للإنماء الصحي والاجتماعي» تبين أن الناس يدعمون طريقة تعامل الحكومة مع تفشي الوباء، إذ أن نسبة 96% منهم يثقون بطريقة استجابة الحكومة، ونسبة 88% يثقون في نتائج الفحوصات المخبرية للفيروس، بينما تؤيد نسبة 96% قرار الحكومة الفلسطينية فرض حظر تجوال كلي على الضفة الغربية وقطاع غزة. من يحظ بمثل هذه الشعبية والتأييد، لن يخشى دعوة كتلك التي اطلقها حفيد رابين، وتمنى فيها ما تمناه لرئيس حكومته؛ فنتنياهو حاول أن يستثمر الشاشات لأهدافه الخاصة، السياسية والشخصية، وهو لذلك تعمّد، في عدة إطلالات تلفزيونية، تهليع المواطنين، وأصر على استعراض علاقاته الشخصية، كملك لا ينازع، ومن خلال تغييب دور الدولة ومؤسساتها. لقد أفضى هذا التصرف الأرعن إلى إشاعة اجواء سلبية في الإعلام ضده وضد حكومته، والى اشمئزاز قطاعات واسعة من المواطنين وفقدانهم للثقة فيه وفي ما يقرره .وحظيت، بالمقابل، الحكومة الفلسطينية بثقة شعبية عريضة، لتصرفها المتزن وأدائها، رئيسًا ووزراء، كطاقم مهني، يحاول تقديم كل إمكاناته من أجل سلامة جميع المواطنين، بعيدًا عن أي مكاسب سياسية فئوية، أو أهداف شخصية، فكسبوا جراء ذلك مصداقية ودعمًا لدى الناس.
لم تستأثر الحكومة أو رئيسها بصدارة العمل، بل سعوا إلى إنشاء طواقم دعم فنية، وجندوا، مستفيدين من خبراتهم التنظيمية، جميع القطاعات الإدارية والأجهزة الأمنية ومكاتب المحافظين، وكبار موظفي الوزارات، وعملوا على تشبيك جميع هذه الدوائر وربطها تراتبيًا مع خلية طوارئ دائمة الانعقاد والتواصل، مع أصغر المواقع حتى أكبرها. لقد تصرفت القيادة في هذه الأزمة بمسؤولية وطنية عليا، كما يليق برغبات شعب ضحى بأرواحه ويصر على التحرر وعلى إقامة دولته المستقلة؛ ودحضت بذلك مرّة أخرى ادعاءات بعض المفترين، الذين درجوا على اجترار الاتهام المستفز بأن فلسطين خالية من قيادة قادرة على إدارة دولة مستقلة. لن يكتمل المشهد الفلسطيني المشرّف، بدون تسجيل ذلك التكامل بين الحكومة وأذرعها، والقيادات السياسية الفصائلية والميدانية – وبرزت بينهم أطر الشبيبة الفتحاوية – وإلى جانبها مؤسسات المجتمع المدني، وعناوين كثيرة من القطاع الخاص؛ فإنشاء جميع هذه المفاعيل ومعها لجان الطوارئ المحلية يشهد، مرة أخرى، على أن فلسطين ما زالت حبلى بطاقات لا تعرف لليأس محلا ولا تستكين لخوف أو لمذلة.
مرت على الفلسطينيين سنوات عجاف، وما فتئوا يعيشون، في الواقع، على أهدابها؛ وكان من السهل عليّ أن أحصي اليوم مثالبها وخسائرها، لكنني آثرت وأنا ازاء جائحة تواجهها الإنسانية، أن استذكر فلسطين المعطاءة والجميلة، بدون أن أنسى غصة غزة المؤلمة؛ فمن يسمع عن قصص أهل النخوة في الريف، وفي مدن العز الفلسطينية، ويعرف كيف لا يرضى الفلسطيني أن ينام وجاره خائف أو جائع، لن يفتش عن عيوب ذاك القوم ولا عن سقطات قياداته. فلكل مقام مقال، وشعب فلسطين صمد في الماضي حصارات مقيتة، ولم يخرج منها إلا وهو أصلب وأوعى، أو كما قال محمودها، على لسان جميع أبنائها وهم في حالة حصارهم الأسبق: «لم يبق بي موطئ للخسارة، حر أنا قرب حريتي وغدي في يدي.. سوف أدخل عما قليل حياتي، وأولد حرًا بلا أبوين، واختار لاسمي حروفًا من اللازورد..»
كاتب فلسطيني

 

 

 


مستقبلنا في ظل

خارطة سياسية جديدة

جواد بولس

وصفت شخصيات يهودية عديدة قرار  بيني چانتس بشق حزب "كاحول لافان" وبالانضمام، مع حليفة جابي اشكنازي، الى معسكر بنيامين نتنياهو، بالخيانة العظمى؛ وذلك في لحظة تاريخية فريدة فرّط فيها جانتس بجبهة مكونّة من واحد وستين نائبًا في الكنيست الجديدة، كاد تماسكها، لو بقي رغم هشاشته التي نعرفها، أن يفضي إلى فتح كوّة ضيقة في جبهة الفاشية الزاحفة بجنون نحو جميع مراكز السلطة ومؤسسات الدولة جمعاء.

لم يشعر قادة القائمة المشتركة ومصوتوها، بطبيعة الحال، بنفس مشاعر الخيانة نحوهم، فلقد أوصوا على جانتس، عند رئيس الدولة، رغم كونه اختيارًا سيئًا ولعلمهم بأن امتناعهم عن التوصية عليه يعادل فعليًا دعمهم، عند رئيس الدولة، لترشيح نتنياهو؛ وهو، في حالتنا، كان الامكانية المستحيلة والاختيار الأسوأ. 

من أراد التخلص من معسكر نتنياهو وسعى يفتش عن غانتس وحزبه كبديل سياسي جديد، شعر بالخيانة؛ ومن اختار، كالقائمة المشتركة، غانتس وكاحول لافان، كجسر من قش، لم يشعر بالخيانه، بل بالصدمة وبخيية لآماله التي بنيت من خلال علاقات حتمتها الظروف السياسية القائمة ومصالح الطرفين الحزبية؛ وصاغها، الى جانب غانتس، شركاؤه في الحزب الذين طُعنوا في ظهورهم، كما صرحوا بانفسهم.  

بين مشاعر الخيانة والشعور بالخيبة  فوارق شاسعة لا تعكس تباين التوقعات بين مركبات تلك التحالفات الملتبسة وحسب؛ بل تكشف، وهو الاهم، عن وجود طاقات ايجابية دفينة قد يكون لها تبعات سياسية في المستقبل، اذا احسنّا فهمها والوصول اليها واستقطابها نحونا.

كثيرون من المواطنين اليهود شعروا بخيانة غانتس لاحلامهم لأنهم كانوا يتمنون، في الواقع، اسقاط معسكر نتنياهو؛ وفتشوا، من خلال تصويتهم للمعسكر الآخر، الذي اشتمل على القائمة المشتركة، عن بديل سياسي جديد وجدي.

كانت هذه لحظة تلاقت فيها المقاصد، وتشابكت، عن قصد أو بدون قصد، بشكل عملي، أماني من رغبوا في نجاح معسكر من اليهود نادى: "فقط ليس نتنياهو"، وبين شعارنا، نحن المواطنين العرب، وسعينا من اجل اسقاط حكم اليمين.

فنتائج الانتخابات الاسرائيلية الأخيرة كشفت عن حدوث تغييرات جذرية مقلقة داخل المجتمع اليهودي، وعن وجود طاقات مبشرة داخل المجتمع العربي، لن نخطيء اذا اعتبرنا تلك التغييرات شهادة وفاة لعهد سياسي حزبي بدأ مع قيام الدولة وتطور عبر محطات عديدة، كانت اهمها احداث عام 1977؛ التي عرفت بسنة الانقلاب؛ حين استولى فيها مناحيم بيغين وحزبه، الليكود، لأول مرة منذ ١٩٤٨، على مقاليد الحكم، فوضع عربة النار على سكتها فانطلقت واحرقت ما احرقت في طريقها حتى وصلت الى محطتها الحالية.

لم اوافق ولا اوافق اليوم مع من فرحوا بسبب القضاء الفعلي على بقايا اليسار الصهيوني، كما كان يسمي نفسه، ولا مع من يذكرونا، بنشوة، بأننا كنا نفتش عن قوى يهودية سرابية غير موجودة بالاصل؛ فخلوّ الخارطة الحزبية الاسرائيلية من قوى سياسية تدّعي اليسارية، حتى لو انها لم تجسّد، في أغلب الأحيان، مفاهيم ذلك اليسار السياسي الحقيقي، ينذرنا بالوصول الى خط النهاية وبولادة مجتمع يخزن في داخله قوة تدمير وبطش لا تعرف الحدود ولا الروادع.

لم تكن جميع نتائج الانتخابات سلبية كما ذكرنا؛ فردة فعل المجتمعات العربية كشفت عن نضوجها السياسي، وبرهنت على تحلّيها بمسؤولية عالية وجاهزية لمواجهة المخاطر الجسيمة المحدثة بمصيرنا.

بالمقابل، شكّلت "هذه" القائمة المشتركة عنوانًا سياسيًا لاولئك المواطنين، وتحوّلت، في نفس الوقت،الى ملجأ شرعي وآمن لآلاف من المصوتين اليهود الذين رأوا فيها، لأول مرة، موئلًا لتطلعاتهم السياسية وبيتًا اجتماعيًا مقبولا.

نحن نشهد، اذن، على بدايات تحولات في بعض المفاهيم التقليدية وفي البنيان العاطفي الذي نشأت عليه الاجيال المتعاقبة داخل المجتمع الصهيوني. ومن يلاحق أولئك الذين صوتوا للقائمة المشتركة ويسمع قصصهم سيكتشف انهم تغيروا نفسيًا؛ وذلك بعد اسقاطهم لبعض الموانع التي صقلت مفاهيمهم الصهيونية نحو العرب المُخرجين لديهم من نطاقات الانسانية والشرعية؛ حيث كان مجرد التفكير في التصويت لقوائمهم محرّمًا، والاصطفاف معهم في نفس الخندق السياسي يعتبر خيانة لا يقدم عليها يهودي صهيوني يحب شعبه ودولته وعائلته.

فمن صوّت للقائمة المشتركة أعلن معارضته الفعلية لمظاهر التغوّل السياسي الحاصل عند معظم الحركات والاحزاب السياسية الدينية والصهيونية الحاكمة وفرضهم لقوانينهم الدينية والابرتهادية على المجتمع برمته؛ واعلن كذلك رفضه لمظاهر الفساد السلطوي الذي وصل الى درك خطير ورفضه لممارسات الحكومة القعمية، وليس ضد العرب وحسب.

لقد تنبه قادة القائمة المشتركة الى ضرورة تحوّلهم الى حاضنة سياسية تستوعب مصوتيها العرب، وتستقطب كذلك جموع التائهين اليهود بالرغم من تعريفهم لانفسهم كصهاينة وديموقراطيين.  ومن سبيل ذلك تبنت القائمة خطابًا سياسيًا جديدًا - وضح بشكل خاص في حالة النائب ايمن عودة - كان مبنيًا على الصدق وعلى الواقعية ومستشرفًا للأمل ولا يهادن في الحق، لكنه لا يصنّع الخوف والتخويف ولا يحترف العبثية؛ خطابا كان كفيلًا باقناع آلاف اليهود التائهين بان مستقبلهم مع هذه القائمة، وبأنها محط ثقة لآمالهم ووسيلة لانقاذهم من اليأس ومن الضياع؛ وقد نكون في حضرة واقع جديد في اسرائيل حيث لا يسار فيه ولا يمين ولا وفاق يهودي حول معنى واحد للصهيونية.

قرار آلاف اليهود الصهاينة بدعم القائمة المشتركة من جهة ودعم مئات الآلاف لحزب كاحول لافان، على الرغم من تفاهماته مع القائمة المشتركة، من جهة ثانية، يثبتان ان نواة التغيير موجودة داخل المجتمع الصهيوني اليهودي وان كثيرين منهم مستعدون أن ينضموا الى "حزبي" وان يقفوا  "معي" ضد الاحتلال الاسرائيلي وان يدعموا مطالبي في المساواة الكاملة داخل دولة تحترم جميع مواطنيها وتؤمن بالشراكة الحقيقية بين أكثرية لا يجوز لها ان تمارس قمعها ضد اقلية لا تقبل ان تبقى الضحية.

رغم خشيتي من المستقبل، أشعر بوجود فرصة مؤاتية للعمل السياسي المختلف والذي يجب ان يطرق أبوابًا جديدة ويعتمد خطابا جديدا ويستشرف عتبات عالية لكنها ضرورية.

لن يحصل هذا الا اذا اقررنا بحدوث انقلاب ايجابي خطير في الخارطة السياسية الحزبية في بعض البنى النفسية والاجتماعية اليهودية. 

اعرف ان هنالك فوارق كبيرة في مواقف الفرقاء حول مسألة التعاون السياسي مع القوى اليهودية التي تعرّف نفسها كصهيونية؛ فمنعًا من تحول هذه الجزئية الى عامل في تصديع بناء القائمة، سيكون من الطبيعي ان تتولى الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواه مهمة بناء تصور سياسي جديد قد يفضي الى اقامة اطر اجتماعية وسياسية تجمع تحت سقوفها النشطاء الجبهوين والوافدين اليهود الجدد الذين بدأوا بتذويت اهمية وجود هذا النمط من العمل كوسيلة للوصول الى مستقبلهم المشترك الآمن.

ان المهمات المنوطة بالقائمة المشتركة جسيمة والمسؤولية الملقاة على عاتق الجبهة الديمقراطية، في مسألة تطوير العلاقات السياسية داخل المجتمع اليهودي، مصيرية، وجميع هذه المهام لن تتحقق الا اذا تكاملت الرؤى بين الكل/ القائمة المشتركة، وبين مركباتها من الأحزاب والحركات.

سيترك ما سيحدث لنا في الاشهر القريبة آثاره علينا وعلى اولادنا؛ ولن يكون ذلك مقصورًا على تحركات القائمة المشتركة وعلى ادائها فحسب، بل سيتعلق ايضًا بما سيجري داخل سائر مؤسساتنا القيادية، وخاصة داخل لجنة المتابعة العليا؛ لا سيما بعد ان اعلن رئيسها، محمد بركة، انه لن يترشح لمنصبه بعد انتهاء مدة ولايته الحالية في شهر اكتوبر القادم.

يتبع .. 

 

يا قضاة إسرائيل:

لقد أكلتم يوم أطعمتمونا للذئب

جواد بولس

 

تشكك قطاعات إسرائيلية واسعة في مصداقية البيانات التي خاطب فيها بنيامين نتنياهو، ويخاطب مواطني الدولة، حيث دأب ويدأب من خلالها على استعراض تفاصيل أزمة كورونا وتداعياتها محليًا وعالميًا، وإعلانه عن رزمة من التعليمات والنصائح والمحاذير يسديها للناس ويأمرهم بضرورة الالتزام باتّباعها وتنفيذها.
ورغم التشكيك في مصداقية ما يقوله نتنياهو، والقناعة من أن دوافعه في تخويف الناس مصطنعة ومغرضة، مردّها إلى محاولته إنقاذ نفسه من مواجهة القضاء، بعد تقديم ثلاث لوائح اتهام خطيرة بحقه، إلا أنه على الرغم من ذلك، يبقى مؤشر أعداد المصابين بالفيروس البغيض عاملًا حقيقيًا ومفهومًا في إذكاء مشاعر الهلع بين المواطنين، وانصياعهم الذاعن لمعظم تعليمات أنظمة الطوارئ، التي تعلن عنها حكومته، خاصة بعد إقرانها بأعداد المصابين الجدد بيننا، وبزيادة أعداد الضحايا في دول مثل إيطاليا وإسبانيا وغيرها.
على جميع الأحوال، لا يمكن، بسبب حسن حظ نتنياهو السماوي أو المصنّع، وبسبب حنكته في استغلال الكوارث والمحن، أن نغامر في مواجهتنا لمخاطر الفيروس، أو أن نستخفّ بضرورة التصرف أزاءها بكامل المسؤولية الاجتماعية، وبمنتهى الانضباط الأخلاقي، مهما طالت أيام عزلتنا الثقيلة.
لا نعرف متى وكيف ستقضي الدول على هذه الجائحة، ولا كم من الأرواح ستحصد، أو من الدمار المادي ستخلّف وراءها، لكنها ستبقى، من دون ريب، نُدبة على جبين البشرية جمعاء، وستتحول آثارها في إسرائيل، علاوة على ذلك، إلى محطة لا نعرف ما سيأتي بعدها والى أين ستأخذنا؟ فحسبما نشهده في هذه الايام، تمر على الدولة أزمة حكم خطيرة ومصيرية، قد تفضي إلى قيام نظام حكم ديكتاتوري مستبد، والى إسرائيل أخرى، كتلك التي جاء وصفها في الأسفار، تعشق دخان المذابح والنفخ في الأبواق، ويشكر شعبها، في صلاة كل فجر، رب إسرائيل، ملك المعمورة، لأنه خلقهم يهودًا، لا عبيدًا ولا أغيارا. سنواجه قريبًا، نحن المواطنين العرب، بعد سقوط ستائر كورونا، مجتمعًا يهوديًا خائفًا متوحشًا مأزومًا، وسنكون بالنسبة لأكثريته مجرد أحمال زائدة يجب التخلص منها بكل وسيلة وبأي ثمن. إننا نشاهد فصل الرواية الأخير، فالمعركة الجارية على عتبات المحكمة العليا الإسرائيلية هي آخر ما تبقى من مواقع، يحاول أصحاب نظام الدولة القديمة الدفاع عنها والاحتفاظ بها. لكنهم سوف يهزمون في نهاية المطاف، رغم صمودهم يوم الاثنين الماضي، ووقوف خمسة منهم في وجه التنين، وإصدارهم قرارا يلزم المتمرّدين، على بقايا ديمقراطية عرجاء، بضرورة دعوة الكنيست إلى الاجتماع وانتخاب رئيس جديد لها.
لقد صحوا على أنفسهم متأخرين، فقد كانوا، مثل من سبقوهم، شركاء في تصنيع الكارثة واستجلابها إلى مهاجعهم، بعد أن خانوا، لعقود طويلة، تعاليم العدالة الحقة، وجنحوا، مثل سائر العنصريين، فكانوا جنودًا للظلمة وسياطًا بيد القامعين والمضطهِدين. إنهم قضاة المحكمة العليا الذين أغفلوا صراخي، وصراخ زملائي، حين كنا نتوجع ونشكوا أمامهم ونحاول تعليمهم حكمة الضحية الحالية، وهي تذكّر من كانوا ضحية في الماضي وتحذرهم، إن لم يصحوا ويقفوا إلى جانب «الثور الأبيض» فإنهم حتمًا سيؤكلون

رسالة مفتوحة، ثالثة، إلى قضاة المحكمة العليا السابقين والحاليين

لقد وجهت إليكم رسالتي المفتوحة الأولى قبل عشرة أعوام، عبر رئيسة المحكمة العليا القاضية دوريت بينش، وأتبعتها، بعد ستة أعوام، برسالة مفتوحة ثانية، وجهتها لرئيسة المحكمة في حينه القاضية مريام ناؤور. أعمل، كما تعلمون، أمام محكمتكم منذ أربعة عقود، كنت فيها شاهدًا على انحداركم نحو الهاوية. تربعتم على عروشكم الوهمية ونظرتم إلينا بتشاوف السيد على عبيده، وحسبتمونا ثلة من مشاغبين. لم تسمعوني وأنا أنبهكم إلى أننا «الأولون وأنتم اللاحقون» ولم تصدقوني، حين كتبت لكم مؤكدًا: إنني أخاف عليكم، فأنا كإنسان أريدكم، أنتم القضاة، أقوياء وسدنة لصفاء القانون، الذي يحمي الضعيف من سلطان الحاكم المستبد والعاسف. وأكدت أنني كمواطن في الدولة، أريدكم أقوياء، لأحتمي بقوتكم عندما يسلب حقي جورًا.. وأنني، كابن لأقلية قومية في هذه الدولة، أريدكم ترسًا يصدّ عني مخالب تدميني وأنيابًا تجيد القبض على كل مقتل في جسدي. لم أتخلّ طيلة تلك العقود عن محاولاتي لإقناعكم بأنكم تسيرون إلى منزلق خطير، وتوقعت أمامكم بأن المنقلب سينقلب عليكم وعلى كل يهودي سيتجرأ على رفع صوته يومًا، بما لا ينسجم وهتافات «القطيع»، وضجيج تلك الجوقات اليمينية العنصرية الناعقة، وفرقها الضاربة، وكنت أردد على مسامعكم، رغم امتعاضكم من وضوحي، أنهم كالعلقات الطفيلية التي لا تكتفي ولا تشبع. كم مرة عُنّفت، يا سادتي، بسبب «وقاحتي» لأنني طالبت بمساواة حكم المواطن العربي مع حكم اليهودي، فوُصفت من قبلكم بالوقح والمتمادي. وكم مرة رددتم تظلمات شيخ أو امرأة أو فلاح فلسطيني، أتوكم شاكين إرهاب جيشكم أو بطش ميليشيات المستوطنين السائبة، فلم يلقوا إلا إعراضكم، ولم نسمعكم إلا مردّدين فرية الجبناء المداهنين، وتعليلهم بأن أولئك ليسوا سوى كمشة من «الأعشاب الضارة» التي تنمو على هوامش الحياة.

جهاز قضائي لا يميّز بين الضحية الحقيقية وقاتلها، لن يحمي حتى جلده، مهما تراجع أعضاؤه وانحنوا وطأطأوا رؤوسهم

قصتنا، نحن العرب في هذه الديار، مع جهازكم القضائي طويلة وجديرة بأن تستقصى من بداياتها، التي ولدت قبل ولادتي بسنين قليلة، فقد سقطتم عندما تبنّيتم مفاهيم نظرية «الأمن»، تمامًا كما هندسها ووضعها أمامكم جنرالات المؤسسة العسكرية والأمنية، وتجنّدتم من أجل تطبيقها العملي، فطوّعتم كل القيم الإنسانية في خدمتها، ورتقتم بمسلات صدئه تضاريس علاقة دولتكم مع مواطنيها العرب، الذين كانوا في أعينكم، كما في أعين الجنرالات، لا أكثر من أجسام مشبوهة أو ألغام مزروعة على طريق الدولة وبين سكانها اليهود. كنا نصرخ أمامكم، كما صرخ السابقون منا، ونؤكد لكم أن ليس هكذا يقام العدل، ولا هكذا يبنى المستقبل، لكنكم مضيتم في هدي وطنيتكم العمياء وقدّمتم، كما قدم معلموكم، الذرائع الواهية، وجمّلتم الواقع بمساحيق من بارود، فظلمتم سكان البلاد الأصليين المنكوبين، وساهمتم، بعدها، في ترسيخ موبقات احتلالكم ضد الفلسطينيين المنتكسين.
لم تسعفنا، يا سادتي، النداءات ونبوءات الغضب.. فلا نجاة مضمونة لأحد ما دام صوت المسدسات والبساطير يجلجل في ساحاتكم منذرًا: إما خنوعكم واستسلامكم وإما «أعواد المشانق»، أو كما قلت لكم قبل عشرة أعوام: إن قضاة يحتمون بحراس يرافقونهم حتى أبواب غرف نومهم، لن يقووا على مواجهة قتلة عصاة، وجهاز قضائي لا يميّز بين الضحية الحقيقية وقاتلها، لن يحمي حتى جلده، مهما تراجع أعضاؤه وانحنوا وطأطأوا رؤوسهم…
«لقد أُكلت يوم أُكل الثور الأبيض»، التي قصصتها عليكم في مرافعاتي، ولم تذوتوا مغازيها – ستبقى حكمة الضحية الناجزة المقدَّمة لضحية تنتظر على خط التماس.
لقد أخافني شعور زميلتكم رئيسة المحكمة السابقة مريام ناؤور، حين احتجّت قبل أربعة أعوام في بيت رئيس الدولة، على موقف وزيرة القضاء السابقة شاكيد، ووصفت تصرف الوزيرة تجاهكم كمثل واحد يضع مسدسه على طاولة تفاوض بين طرفين غير أعداء، لقد كنتم أنتم القضاة هذا الطرف الآخر في ذلك المجاز المخيف.
وأخيرا جاء تمرد رئيس الكنيست ادلشتاين، وهو مدعوم من معسكره، على قرار المحكمة العليا، ورفضه دعوة الكنيست وانتخاب بديل له – فاصدرت المحكمة، يوم الأربعاء الماضي، قرارًا جديدًا يخوّل النائب عمير بيرتس إكمال مهمة رئيس الكنيست، ووصفت تصرفات ادلشتاين بأنها «مساس غير مسبوق بسلطة القانون».
لقد كان لجوء القاضية مريام ناؤور، في حينه، إلى استعارة المسدس من باب تطويع البيان، في خطاب حذّر من غضب الايام المقبلة. لكنني أشعر اليوم، ككثيرين في الدولة، بأن هذه المسدسات باتت حقيقية ومحشوة وجاهزة لتقضي على بقايا نظام ينازع أمامنا، فهل لدينا، نحن المواطنين العرب ، فكرة كيف ننجو من ذلك الرصاص؟
كاتب فلسطيني

 

 

شركاء في

القلق حلفاء في العمل

جواد بولس

 

أخرجتني محادثة صديقي حچاي أول أمس من رمادية أجواء العزلة القسرية التي أعيشها في البيت، وأدخلَت إلى قلبي جرعة فرح شفيف.
تعرّفت إلى حچاي قبل خمسة وأربعين عامًا، عندما تزاملنا طالبين في كلية الحقوق في الجامعة العبرية في القدس. قصتي معه طويلة وفيها من التفاصيل ما يثبت كيف يمكن أن يحوّل عدوّان تعاليم الدم الموروثة عن “توراة ملوكهم” إلى بذور أمل واعدة، وإلى قناعة بأنّ مستقبلنا على هذه الأرض ليس سوى احتمالين مقلقين؛ لكننا، إذا أردنا، فنحن قادرون على أن نعيش حياة أقل وجعًا وأكثر سعادة واستقرارًا.
“لقد صوّت يوڤال للقائمة المشتركة، وأعرف أن آخرين من أبناء جيله فعلوا الأمر نفسه”. هكذا أخبرني حچاي بعفوية عن تصويت ابنه في الانتخابات الأخيرة؛ وكنا نتحدث عن محاولات نتنياهو الأخيرة في البقاء ملكًا على شعب من المسوخ البشرية؛ فكان يصف لي خوفه من المستقبل، ويأسه من وجود فرص للتغيير.
لن أسترسل في تفاصيل المحادثة، لكنني سأعود إلى قصتي مع هذه العائلة وإلى محطات علاقتنا الطويلة، التي كشفت لكلينا أن “للحقيقة وجهين”، وأننا نستطيع أن نصبح أصدقاء حقيقيين، حتى يغيّر شاب، سليل عائلة يهودية صهيونية عريقة فخورة، قناعاته السياسية التقليدية، ويختار أن يصبح شريكي وحليفي، ويسعى مثلي وراء مستقبلنا الإنساني المشترك.
يحاول بنيامين نتنياهو استغلال تداعيات أزمة فيروس كورونا ليبقى، في نهاية المطاف، حرًا ورئيس حكومة إسرائيل؛ أو على الأقل شريكًا كاملًا في هذا المنصب، وفي قيادة الدولة في الحقبة التي ستلي هذا الزمن الأصفر البغيض.
لم تنقذ نتائج الانتخابات الأخيرة معسكر بنيامين نتنياهو، كما كان تمنّى وخطط، مستشعرًا بحدسه المتطور، أن المواطنين العرب قد يحرزون إنجازًا انتخابيًا غير مسبوق، سرعان ما سيتحول إلى عثرة كأداء أمام تحقيق أحلامه السوداء، وإلى كاسر أمواج نزواته الأخير. ستبقى مواقف نتنياهو العنصرية تجاهنا، عنصرًا يهمنا بكل تأكيد؛ بيد أن الأخطر منها، في هذه الأيام، هو شغفه المرَضيّ بالتفرّد بالحكم والسلطة، وبإصراره على البقاء واقفًا على رأسها. لقد لاحظ العديدون من أصحاب الرأي والممسكين بالقلم، خلال السنوات القليلة الماضية، مقدار الخطورة الكامنة في تصرفات، وفي شخصية نتنياهو وزبانيته؛ وحذّر بعض هؤلاء من مغبة ما يمكن أن يفعله، وإلى أي وجهة قد يأخذ الدولة، والى أي هاوية سيقود شعبها.

كثيرون من خارج قطيع نتنياهو، بدأوا يستوعبون، أن ما تقوم به الحكومة الانتقالية هو أقرب إلى كونه انقلابًا ومحاولة لسرقة الدولة

جاءت تحذيرات هؤلاء متأخرة؛ فمعظم المتنبهين للخطر “النتنياهوي” كانوا، عمليًا، جزءًا من الإجماع الصهيوني “الحميد”، كما اصطلحت على تسميته الأكثرية اليهودية في الدولة وخارجها. لقد شكّل هذا الإجماع دفيئة لنتنياهو ولحلفائه الحاليين، وسهّل عليهم مهمة التقدم نحو أهدافهم، التي لم تتغير مذ رضعوا، في بيوتهم ونواديهم الحزبية وكنسهم، معنى أن تكون صهيونيًا، وصاحب الأرض التي تنافسك عليها مجموعة من “الأغراب” الأعداء المعتدين، يُدعون عرباً فلسطينيين .يستطيع من يرغب أن يقتفي بيسر طريق هذه الجماعات، كأفراد أو أحزاب أو حركات، نحو “قمم الهاوية”؛ ومن يتعمق قليلًا في تاريخ إسرائيل الحديثة سيهتدي إلى كيفية نجاح هذه القوى الظلامية، باكتساح الساحات ومعظم مرافق الدولة، بعد أن كانت تعتبرها قطاعات واسعة من ذلك الإجماع الوطني الصهيوني، مجرد “طفح خفيف عابر” على صفحة الليل، ولا أكثر من بضعة “أشواك ضارة” تنمو بعشوائية على هضاب السامرة، وداخل هياكل يهودا البعيدة.
لا أعرف إذا كانت أزمة كورونا ستفضي إلى كشف حجم الورم المنتشر في عروق هذه الدولة؛ فكثيرون، من خارج قطيع نتنياهو، بدأوا، في الأيام الاخيرة، يستوعبون، أن ما تقوم به الحكومة الانتقالية هو في الحقيقة أقرب إلى كونه انقلابًا على الحكم ومحاولة لسرقة الدولة. لم تبدأ هذه العملية بعد الانتخابات الاخيرة، فمعسكر نتنياهو يستعدّ الآن لقطف ثمار ما زرع في السنوات الماضية، ولإنزال ضربته القاضية بواسطة شل عمل الكنيست، بشتى الحجج والأحابيل، وبتعطيل دور السلطة القضائية، إلى جانب تخويل أعضاء الحكومة الحالية، باسم محاربة الوباء- الجائحة، تصريف شؤون الناس، بواسطة مجموعة من القوانين وأنظمة الطوارئ، التي ستقوّض مكانة القانون السائد، وتحدّ من حريات الأفراد وتكبل حقوقهم الاساسية. برز رئيس جهاز الشاباك السابق كرمي جيلون كواحد من أشد المنتقدين لسياسات بنيامين نتنياهو، وأوضحهم معارضة لفكر التيار القومي الديني الصهيوني وللمخاطر القاتلة الكامنة في مبادئهم وتعليماتهم. لم يخفِ كرمي جيلون امتعاضه من سياسات نتنياهو، ولا تخوّفه من إمكانية تنفيذ سيناريوهات “ابوكليبسية” كارثية، ستدفع باتجاهها مجموعة التيارات العقائدية الحاكمة.
لقد سمعناه يحذر المرة تلو المرة من هذه الاحتمالات. وجاء آخر تصريحاته في الثاني من مارس الجاري، عندما قابلته صحيفة “هآرتس” ليعبّر مجددًا عن تخوّفه من قدرة هذه الجماعات على جرّ المنطقة إلى حمامات دم مرعبة، لأنها كما أكد، ليست “هوامش، ولا أعشابًا ضارة”؛ وأضاف معترفًا: “لقد أخطأنا حين سميناهم هكذا. فعندما اكتشفت العصابة الإرهابية اليهودية في الضفة كان تعداد هؤلاء 12 الفًا، أما اليوم فعددهم أكثر من نصف مليون. إنهم ينمون على أرضية أيديولوجية واضحة وصارمة وشعبوية.. لا يوجد أحد منهم لم يقرأ كتاب “توراة الملك”*، ولم يجرؤ اي مستشار قانوني على التحقيق مع حاخاماتهم المتطرفين، وبالتالي لم يحاكَم أحد منهم. لقد اخطأنا بذلك أيضًا”.
ورغم أهمية مواقف جيلون المعلنة منذ أكثر من عقدين، لم تولها المؤسسات القيادية العربية والقيّمون عليها اهتمامًا يذكر، بل أغفلوها كما حصل مع مواقف عشرات الشخصيات الاعتبارية والأكاديمية الصهيونية، التي كانت أو مازالت، تتبوّأ مناصب رفيعة وحساسة، في ترسيم سياسات الدولة، أو في إنتاج المعرفة السلطوية والتأثير على الرأي العام فيها. “كل السياسيين عندنا انشغلوا وما انفكوا منشغلين ببقائهم في مراكزهم، لذا فأمامنا الآن خياران: واحد سيئ والثاني أسوأ”! هكذا بصراحة أكد من كان رئيس جهاز المخابرات العامة الإسرائيلية. وعندما سألته الصحيفة، ما إذا كان علينا أن نرفع أيادينا وأن نستسلم، أجابها: “أنا لا أستطيع. ما زلت مؤمنًا بهذه الفكرة الكبيرة، بدولة إسرائيل، وبقدرتها وحاجتها أن تعود إلى “سلامة العقل” وإلى العودة إلى حدود عام 1967، والعمل على بناء مجتمع مختلف وأفضل”.
كان كرمي جيلون من أتراب بنيامين نتنياهو، وجاره في حي رحافيا في القدس الغربية. وهو حين يتذكر تلك الأيام، يستعيد التفاصيل المتعلقة بشخصية نتنياهو، والبيئة التي نشأ فيها، ويستذكر طرفة لافتة حدثت معهما في معسكر عمل للشبيبة، شاركا فيه وهما يافعان، في إحدى إجازاتهما الصيفية؛ فحين جلسا في إحدى الليالي وسأل كل واحد منهما عما سيصيره عندما يكبر، لم يعرف كرمي جيلون أن يختار مهنته، بينما أجاب نتنياهو بحزم وإصرار المؤمنين الدنفين: “سأصير رئيس حكومة” على ما تُضمره هذه الإجابة من معان. بعيدًا عن عواطفنا المفهومة تجاه أفراد تلك الفئة، أو عن ضرورة محاسبتهم، الأخلاقية أو حتى الجنائية، عما جنت أياديهم، ستبقى الحاجة الآنية لاستمالتهم إلى معسكرنا حية وضرورية؛ ولستُ بحاجة لأحد أن يذكرني من كان كرمي جيلون، وماذا فعل خلال حياته المهنية، ولا أن يعرّفني إلى سيرة رئيس الموساد السابق تمير بيدرو، وكثيرين من أمثالهما؛ لكنني أنصح، رغم مواضيهم، أو ربما بسببها، من يفتّشون مثلي عن خلاص ويلهثون وراء مستقبل آمن، أن يقرأوا ما يكتبه هؤلاء وما يفعلونه الآن، فقد نجِدُ بينهم حلفاء أو شركاء في الدرب أو في القلق.
ستبقى هذه إحدى مهام القائمة المشتركة، التي تتحمل اليوم مسؤوليات جسام، خاصة بعد أن فرضت نفسها، على المشهد الإسرائيلي، كعامل سياسي لا يمكن تجاوزه؛ فشعار إسقاط نتنياهو يتعدّى حدود تعريفات اليمين واليسار والوسط، إذ أنه ترجمة لأُمنية كل من يخشى أن يواجه أحفاد ذلك “الملك” الذي توصي “توراته” بضرورة التخلص من جميع الأغيار، إلا إذا هم رضوا أن يبقوا عبيدًا خانعين لعَصاته ولنزواته.
كان صديقي حچاي، مثل كرمي جيلون وإسرائيليين كثر، متشائما في محادثته الاخيرة معي، لكنه غير مستسلم على الإطلاق. لقد اتفقنا أن ننتظر حتى ينتصر العقل على جنون كورونا، لنعود ونلتقي على موائد الفرح والقلق، ونتبع بوصلتنا الصحيحة وحدسنا الأبويّ الطاهر، كما يليق بشركاء في القلق وحلفاء في الأمل وفي العمل.
كاتب فلسطيني

 

 

أيها البرق أوضح ليلنا قليلا

جواد بولس

حاولت أن أهرب إلى دفء الحنين، وإلى حلاوة الذكرى لأنجو، على طريق الفراشات، من قساوة هذه الأيام التي تمر علينا، وتحوّلنا إلى مجرد أجساد قلقة وشبه عاجزة، وهي تحاول عبثًا، احتضان النهارات بشوق الزنابق للهواء.
ليلنا أفحم من ليل الخائفين من نقمة فيروس لعين؛ فنحن، العرب المواطنين في إسرائيل، ننام على نعيق غربان تحلم بأن تجدنا في الصباح جيفًا، وبعضنا يلزم في هذه الأيام بيوته، ليحتمي مثلي، من شر «كورونا» وليحمي غيره من ضعف رئتين شاختا قبل سائر أعضاء الجسد.
ما كان أجمل أن أكتب اليوم، في هذه الذكرى المحمودة، عمن قال، قبل سقوط القمر: «نحب الحياة إذا ما استطعنا إليها سبيلا..» لكنني سأرجئ ميعادي معه ومع ذلك الفرح، إلى أن تصفو فضاءاتنا، وتستأنف الحساسين رقصها بين كروم زيتوننا والعنب، وحتى يفيض الخير على الناس وتمتلئ خوابيهم زيتًا وأجاجينهم خمرًا وهدأة بال.
نأمل أن تنتهي أزمة «كورونا» قريبًا، ودعاؤنا أن تمضي خفيفة، وألا تترك وراءها ندبًا وجبالًا من الحسرة والوجع؛ وإلى أن تُزف إلينا تلك البشرى سنقاوم العتمة واليأس «وننفخ في الناي لون البعيد البعيد، ونرسم فوق تراب الممر صهيلا».
فتزامنًا مع تزايد أعداد المصابين بفيروس كورونا، في جميع أنحاء إسرائيل، ما زالت أزمتها السياسية متفاقمة، حيث تبدو جميع الاحتمالات للخروج منها واردة وبضمنها إمكانية الذهاب إلى جولة انتخابات رابعة.

نالت القائمة المشتركة ثقة جماهيرية واسعة، وهذه تخولها، سياسيًا وأخلاقيًا، رغم أصوات بعض المعارضين

ما يهمنا في هذه العجالة هو تفاعل المواطنين العرب وتصرفهم، ومعهم بضعة آلاف من اليهود الديمقراطيين، الذين اختاروا، هذه المرة، أن يصطفوا مع من سيبقون، على جميع الأحوال، معارضة برلمانية، ستقف ضد سياسات المعسكرين الكبيريين؛ وإن كان أحدهما الليكود وحلفاؤه، مفضوح الرعونة ضد العرب وضد حلفائهم، والآخر كاحول لافان وحلفاؤه، يقترب منهم متوجسًا، بلعثمة وعلى مضض، أو كما قالت العرب من خلال «قصر ذيل يا أزعر». أظهر نتنياهو ومعه بعض المنتفعين المحليين وعكاكيزه، توددًا هزيلًا للناخبين العرب؛ وحاول في غزوة جليلية فاشلة واحدة، أن ينثر في قاعة كانت شبه خالية من الجمهور، وعودهَ الصفراء، وأن يؤلب الناس على القائمة المشتركة.
لقد فشل حزبه ولم يحقق أي إنجاز يذكر بين العرب، وفشلت مثله معظم الأحزاب الصهيونية، التي كنست تقريبًا أو تراجعت قوتها بشكل ملحوظ في معظم التجمعات السكنية العربية، وبين الناخبين العرب في المدن المختلطة. لم يتأخر رد فعل نتنياهو على تلك النتائج المخيّبة، فلبس مباشرة جلده القديم، وأعلن بكل وقاحة وغطرسة، أن لاشرعية لمشاركة نواب القائمة المشتركة في المفاوضات لتركيب الحكومة؛ بعد أن وصفهم وزير خارجيته يسرائيل كاتس «بمخربين في بذلات رسمية». قد تكون صرخة نتنياهو المعهودة، هذه المرة، على قدر وجعه وخسارته الشخصية؛ فهو يعلم أن ارتفاع نسبة التصويت بين العرب، وأنّ ازدياد قوة المشتركة بنائبين، كان الحائل بينه وبين حصول معسكره على أكثرية واضحه في الصناديق. بينما هاجم، على الضفة الأخرى، بعض المواطنين المعارضين العرب، والمقاطعين للانتخابات، أعضاء القائمة المشتركة وطعنوا بأهليتهم وبشرعيتهم في المشاركة بتبعات المشهد السياسي الذي أفضت إليه نتائجها. حق هؤلاء المعارضين بمناقشة ممارسات القائمة، وبرفض مواقف أعضائها محفوظ، ولكنني لا أفهم من أين ينبع مصدر شرعيتهم في تخوينها والتهكم على أعضائها وتقريع بعضهم.
لقد نالت القائمة المشتركة ثقة جماهيرية واسعة، وهذه تخولها، سياسيًا وأخلاقيًا، رغم أصوات بعض المعارضين، متابعة مسؤولياتها التي حمّلها أياها ذلك العقد السياسي/الاجتماعي المبرم بينها وبين ناخبيها، الذين يحتفظون، بالتالي، بحقهم في انتقادها وفي محاسبة أعضائها مستقبلًا في الصناديق. سيكتب على القائمة المشتركة أن تتصدر مهمة المعارضة السياسية للحكومة المقبلة، وسيكون دورها مهمًا وصعبًا؛ لكنه سيفسح لها، في الوقت نفسه، فرصتين قد تصبحان تاريخيتين: الأولى، أن ترسّخ بين الجماهير العربية طراز عمل سياسي وحدوي جديد وناضج، يعتمد على عامل المواطنة كصمغ موحّد بين عدة أطياف سياسية متمايزة، من دون أن يفرط الشركاء بمفاهيمهم الخاصة أزاء مكانة الهوية الجامعة وأهمية المحافظة على الكرامة الوطنية العامة؛ والثاني، أن تأخذ دورها وتتحول إلى عنوان سياسي ديمقراطي بديل، سيلجأ إليه، علاوة على أكثرية المواطنين العرب، جميع المواطنين اليهود الذين يفتشون عن مستقبل لدولتهم، غير مبنيّ على استعمار شعب آخر واضطهاده، وعلى إقصاء خُمس مواطني الدولة، واعتبارهم إما «مخربين أو صراصير»، كما تفكر أكثرية أعضاء هذه الكنيست الحالية.
يبعث إنجاز المشتركة وتأثيره الفعلي القائم على الساحة السياسية الإسرائيلية نسمة من أمل في نفوس الكثيرين من عرب ويهود؛ ورغم مهاجمتها من أكثرية القوى الصهيونية، نجحت في استقطاب آلاف المصوتين اليهود، وباهتمام غير مسبوق في وسائل الإعلام المحلية والعالمية. لقد سمعنا بعض الأصوات اليهودية التي عارضت موقف نتنياهو أزاء شرعية وحق الناخبين العرب، وقد يكون موقف رئيس الدولة، رؤوبن ريفلين، من أبرزها، فهو قد رفض تلك التصريحات وانتقدها على الملأ، بشدة حيث أكد على «عدم وجود أنصاف مواطنين في إسرائيل». لم يكن الرئيس ريفلين وحيدًا بموقفه هذا؛ ففي مقابلة لافتة لصحيفة «معاريف» الإسرائيلية، أجرتها مع رئيس الموساد السابق، تمير بيدرو، بتاريخ 27/2/2020، قال، بشكل واضح وحازم: «لقد وصلنا إلى حالة يعتبر فيها كل من لا يوافق على أمر ما سياسي خائنًا. هذا أمر رهيب وخطير. فمن غير اللائق اعتماد دعاية اليمين ضد رئيس أركان سابق ومنعه من الجلوس مع العرب لمجرد تصويرهم أعداء للدولة. فأنا أترقب مجيء اليوم الذي ستكون فيه الأقلية العربية جزءًا من الحكم، ولا أريد أن يقول أحد لليهود الأمريكيين، أنتم لا تستطيعون أن تكونوا جزءًا من الإدارة والحكم».
تحمل هذه التصريحات مؤشرات مهمة لا يمكن إغفالها أو التهكم عليها، ليس لمكانة وهوية قائلها فحسب؛ بل لأنها تكمّل، إذا ما وضعت في سياقات ملائمة، مفهوم قضية المواطنة ومعنى المشاركة السياسية في العملية الانتخابية البرلمانية وأهدافها المرجوة في نظام حكم مبني على مبدأ الفصل بين السلطات وسيادة القانون ومساواة جميع المواطنين أمامه.
أعرف أن إسرائيل اليوم تبتعد عن هذه التعريفات، وتنحو نحو نظام حكم عنصري ذي نزعات فاشية؛ ولأننا نعرف ذلك، علينا تلمس الخيارات المواطنية الديمقراطية الاخرى، والإصرار على إيجادها وتطويرها، وهذا كما يبدو لي دور القائمة المشتركة، بتركيبتها الحالية أو بغيرها، إذا اقتضت الظروف، ومعها سائر المؤسسات المدنية والأهلية، وعلى رأسها اللجنة القطرية لرؤساء السلطات المحلية، ولجنة المتابعة العليا التي، كما قلنا مرارًا، تحتاج إلى إعادة بنائها بما يتلاءم مع هذه الرؤية وهذه الاهداف.
نواجه في هذه الايام محنتين صعبتين، فلنصلِ لنقهر الوباء بما سيؤمّنه العلماء من أمصال ودواء؛ ولنعقل كي نبقى أحياء «داخل القطار»، ولنكتب «أسماءنا حجرًا، أيها البرق، أوضح لنا الليل، أوضح قليلا». فنحن قوم نحب الحياة وسنجد إليها السبيلا.
كاتب فلسطيني

 

 

أفراحنا «المشتركة» كبيرة

جواد بولس

 

ما زالت إسرائيل تواجه أزمتها السياسية بعصبية وفوضى خطيرة، حيث لم تسعفها ثلاث جولات انتخابية خاضها المواطنون في غضون أقل من عام واحد. وقد عبّر بعض المعقبين العرب عن فرحهم بهذه «الجلطة»، وتمنى آخرون ألا تنحلّ العقدة، لأنه هكذا يؤمن هؤلاء، كلما احلولكت السماء فوق تل ابيب، تخضوضر مروج ابن عامر والشاغور، وتضحك الزنابق في تلاع البطوف وفي شعاب الجرمق؛ أما أنا فلا أعرف كيف سيفيدنا، نحن المواطنين العرب، تفاقم هذه الأزمة. إنها قد تفضي، ببعض تداعياتها، إلى تفكك منظومة الحكم التقليدية في الدولة، لتحلّ بدلها مراكز سلطة «عشوائية»، وأدوات إدارة شبه مؤسساتية؛ كتلك التي عرفتها أنظمة حكم ديكتاتورية قمعية، نجح قادتها باستغلال حالة «اللامخرج» ليقفزوا عنها، ويتربعوا على رأس السلطة المطلقة ويتحكموا في رقاب «أعداء دولتهم»؛ وهو ما نراه يتشكّل أمامنا، وقد ينجز نهائيًا في المستقبل القريب.
لا أنوي مناقشة من دعوا إلى مقاطعة الانتخابات، أفرادًا كانوا أم حركات أم مجموعات، ولا أن استدرجهم هنا إلى لعبة السفسطائيين وأسألهم مثلًا، تصوروا لو فعلتم/فعلنا كذا وكذا.. أو تصوروا لو لم تفعلوا/نفعل كذا وكذا.. فالانتخابات صارت من خلفنا ونتائجها معلنة؛ وإسرائيل، شعبًا وأحزابًا ومؤسسات، ماضية رغمًا عن مقاطعتهم، أو ربما بسببها، نحو مواسم الحصاد، ولن يوقفها دعاء العاجزين بأن يصيبها الجذام، ولا تمني الحالمين بأن تضربها أسراب الجراد، ولا اشتعال صدور «الثائرين» بالنبيذ وبالوعيد وبالتصفيق، الذي على قول الحكاية السوداء، لن يرزق القبيلة بالأولاد، ولا بسعاة القدر الفالحين.
لقد كشفت نتائج ثلاث جولات انتخابية متتالية حقيقة واحدة أكيدة بوجهيها؛ أن يهود الدولة ما زالوا يتصارعون داخل «قطار الزمن» كأعداء لا يوحدهم مصير؛ ونحن العرب الناجين من لعنة الغفلة القديمة، بقينا وجه تلك الحقيقة الآخر، كما كنا «ملح الزمن» ودخلنا عنوة بطن القطار، نغني ونزرع ونقاتل على حقنا بالريح والخبز والبقاء؛ ولكن، رغم صدى التجارب، ما فتئت قلة منا تحاول القفز في الهواء وانتظار «جيوش إنقاذ» جديدة على أرصفة الرمل والغبار. لهم ما شاؤوا، ولنا ما تقوله العصافير الباكيات على شرفاتنا، وشفرات المقاصل في صناديق الاقتراع، وفي هسيس الليل البارد، فلا يمكن الاستخفاف بردة فعل الجماهير العربية، كما تجلت بارتفاع نسبة التصويت في معظم تجمعاتها السكنية، وزيادة بارزة بدعمها للقائمة المشتركة؛ وفي الوقت نفسه عزوفها الواضح عن دعم الاحزاب الصهيونية وكنسها في بعض البلدات. لقد تخطى إنجاز المشتركة في هذه الجولة مجرّد تحصيلها العددي وحصولها على خمسة عشر مقعدًا؛ فما حصل على أرض الواقع هو أن الجماهير العربية أجبرت عمليًا جميع الأحزاب والحركات المنضوية تحت خيمة القائمة المشتركة أن تنأى بأنفسها، وترتقي وتتغير مفاهيميًا وأداءً لتكون جديرة بمكانتها المشتهاة، وبتكليفها كممثلة لمصالح تلك الجماهير وتطلعاتها. كان على تلك القيادات إما أن تنتقل من مرحلة المراهقة السياسية والمغامرات إلى مرحلة البلوغ، ووعي تحديات حياتنا ومواجهة الالتباس حول مستقبلنا؛ وإما أن ترتطم نزواتها بخشب الكراسي البرلمانية البالية. إنها علامات واضحة لنضوج وطني جديد، وتجاوب سليم لمجسات مجتمع، استشعرت الخطر وشخّصته بدقة، وتهيأت لمواجهته بمسؤولية وجهوزية عاليتين. وهي أيضًا انعكاسات مهمة لتذويت واع لمعنى الشراكة الجوهرية الحقة، أجراه بشكل معمق كل مركّب من مركبات القائمة، فاستعادوا بعده وبسببه ثقة الناس التي فقدوها.

إنجاز المواطنين العرب في الانتخابات محطة جديدة على طريق منجزاتهم الكبرى التي بدأوها في ملحمة البقاء، وأكملوها بما يلامس المعجزة

فالجبهة الديمقراطية والحزب الشيوعي اعترفا ممارسةً، رغم التردد الذي ما زال قائمًا في بعض الجيوب وبين بعض المحافظين، بقيادة النائب أيمن عودة لتنظيمهم العريق والأبرز؛ وبدون تلك النقلة، الاتفاق على وجود قائد، لما استطاعت الجبهة أن تثبّت قيادتها لصدارة القافلة، ولا أن تستعيد ثقة الناس في عدة مواقع ابتعدت عنها، قصاصًا وامتعاضًا، من تشتت مواقفها السابقة. أما مرونة الحركة الإسلامية، كما نجح النائب منصور عباس أن يترجمها ويفرضها في عدة مسائل خلافية، فقد أدّت إلى إقناع العديدين من معارضي هذه الحركة إلى قبولها شريكة كاملة والعمل من أجل إنجاح مرشحيها المتأخرين في القائمة. وعلى الضفة الأخرى، كان «التحجيم الذاتي» الذي مارسته قيادات في حزب التجمع، عاملًا مهمًا في استقرار معادلة التوازنات الصريحة والصحيحة بين الشركاء، تمامًا كما جرى في صفوف «الحركة العربية للتغيير»، بعد أن كانت تجربتها الصعبة، وتصريحات زعيمها النائب أحمد الطيبي في الجولة الأولى، سببًا للأزمة والانقسام ولغضب الشارع على جميع القيادات.
للقائمة المشتركة قوة سياسية ومعنوية كبيرة، ومعها، بطبيعة الحال، مسؤولية عظمى؛ فهل سيعرف أعضاؤها صونها كما يتوقع منهم؟ لا أحد يملك القدرة على إعطاء الإجابة على هذا السؤال، فشرط ذلك الأول ألا يتراجع كل مركب عن مواقفه التي قدمها عربونا للوحدة؛ خاصة على ضوء تجربة القائمة في الماضي ووجود عدة أعضاء بدون أرصدة سياسية ناضجة، ما قد يشكل عثرة في وجه التناغم المطلوب والتنسيق الناجح؛ علاوة على أن الايام المقبلة ستضع أمام الأحزاب المشكلة للقائمة عراقيل كأداء لن يتخطاها الفرقاء، إذا واجهوها بالروح والمنافسة ومناكفات الماضي نفسها. ويطالب البعض بضرورة وضع أسس فكرية وسياسية للقائمة، إكمالًا لنجاحها الانتخابي وكضمانة لعملها مستقبلًا؛ وأتمنى أن يفعلوا ذلك، لكنني أخشى فشلهم، ولذلك، وكيلا نشهد كيف «ستكسر عصاتهم في أول غزواتهم» اقترح أن يفتشوا عن أحزمة أمان استثنائية، تضمن ألا يصطدموا ببعض عند أول منعطف أو في أول امتحان، وهذه كثيرة وقريبة.
لقد برز دور معظم رؤساء البلديات والمجالس المحلية العربية في دعم القائمة المشتركة وبنداءاتهم العلنية والحاسمة لدعوة الناس ولإخراجهم إلى الصناديق. كانت هذه برأيي من أهم التطورات التي شهدتها هذه المرحلة، وهي لعدة اعتبارات، ظاهرة يتوجب رعايتها ومتابعتها، وتأطير خلاصاتها بهدف تحويلها إلى مفاعيل اجتماعية وسياسية، تنتج ما هو مرجو وطنيًا ومحليًا من هذه المواقع ومن قياداتها. ومن اللافت، في هذه الجزئية، أن نلاحظ وجود بداية لصحوة في بعض البلدات الدرزية والمجالس البدوية، حيث شهدنا زيادة في عدد المصوتين، وبروز بعض الرؤساء والشخصيات الذين دعوا أهالي بلداتهم للتصويت للقائمة المشتركة. كانت نسب التصويت للقائمة المشتركة في معظم البلدات العربية مدعاة للفخر والاعتزاز، وهي في الوقت نفسه، تعبير صادق عن إصرار الناس على العيش بكرامة وعلى استعدادهم لمواجهة ما يحيق بهم من مخاطر، لم تعد مجرد أفكار على ورق أو فذلكات استفزازية يمارسها بعض رموز العنصرية، من أجل أن يكسبوا قطعان المصوتين اليمينيين. ما قام به رؤساء المجالس والبلديات العربية يستوجب العمل على إيجاد الوسائل لضمان استمرار عملية تشبيك مستمر بين قيادات القائمة المشتركة واللجنة القطرية للرؤساء؛ فمن الضروري، برأيي، أن يتم ذلك من خلال إقامة جسم ثنائي يجمع الإطارين، ويعكف على إبقاء حالة تنسيق دائم بينهما، ويضع آليّة للعمل المتكامل المشترك؛ لأن هذا سيخدم مصالح مجتمعنا بشكل عام.
لا يتعارض مقترحي المذكور مع وجود «اللجنة العليا لمتابعة شؤون الجماهير العربية في إسرائيل»؛ فلهذه دور مختلف، وإن كان أداؤها، في الآونة الأخيرة، ملتبسًا، إلى حد ما، أو غير مقنع. يُعدّ إنجاز المواطنين العرب في هذه الانتخابات محطة جديدة على طريق منجزاتهم الكبرى التي بدأوها في ملحمة البقاء، واكملوها، بما يلامس المعجزة، حين استعادوا قوام أقلية كانت مجرد بقايا لهياكل واهنة لتصير جسدًا شامخًا وجسرًا وطيدًا في شرق يائس وهش. رغم من بخّس أهمية هذه المعركة، ورغم نظرات بعض من وقفوا على السياج وهم ينتظرون وقوع «المقاتلين»، سيبقى آذارنا سفيرًا للشوق وبستانًا للفجر؛ لاننا، كأبائنا، نؤمن بأنه «حين تبدو السماء رمادية، ونرى وردة نتأت فجأة من شقوق جدار، لا نقول: السماء رمادية بل نطيل التفرّس في وردة ونقول لها: يا له من نهار».
كاتب فلسطيني

 

 


نداء آذار : صوتوا

ولا تتركوا قائمتكم وحيدة

جواد بولس

 

لا نعرف ما يخبيء لنا أذار القادم مثقلًا بالتردد وبالنعاس؛ ففيه، كما أخبرنا وليده الشاعر المحمود: "مرّت أمام البنفسج والبندقية خمس بنات. وقفن على باب مدرسة ابتدائية، واشتعلن مع الورد والزعتر البلديّ. افتتحن نشيد التراب".

لم يحسم الاسرائيليون، بعد جولتين انتخابيتين طاحنتين، خياراتهم ولم تقع قرعتُهم على أي "متياس"؛ فهل سيفعلون ذلك في الثاني من أذار المقبل ؟

يتوقع المحللون ألا يحدث تغيير لافت على نتائج الانتخابات المقبلة وأن يحافظ الحزبان الكبيران على التوازن في قوتيهما؛ ولذا نرى  كيف تطارد جميع الأحزاب جموع الناخبين كصيادين يلهثون وراء "فرائسهم" الثمينة، ويعرفون أن المعركة قد تحسم  بفوارق أصوات بسيطة جدا.

لا أعرف ماذا يجب أن يحصل، بيننا ولنا، نحن المواطنين العرب في اسرائيل، كي يتخلى البعض، ولو من باب فائدة التجريب المسؤول، او بدافع "غريزة البقاء"، عن نداءاتهم النمطية الهرمة الداعية الى مقاطعة الانتخابات.

لقد تطرقنا في الماضي الى هذه المسألة من جميع جوانبها، وسنعود اليوم الى اثارتها مجددًا؛ لا سيما ومنطقتنا تقف على أعتاب مرحلة سياسية جديدة، سيتم فيها قريبًا الشروع بصرف "صكوك" الادراة الامريكية المعطاة لحكام اسرائيل.

لا أختلف على حق الممتنعين عن التصويت؛ لكنني مقتنع ان ما يمارسونه يضر ، بسبب واقعنا السياسي، بمصالح أهلنا، ويخدم، في المحصلة السياسية العملية، قوة أحزاب اليمين الصهيوني، على جميع أطيافها الايديولوجية والسياسية.

نسمعهم، قبل كل جولة انتخابية، يرددون بيقين ويتلون علينا أيات الأمل المفقود، ويؤكدون، بثقة العاجزين، على أننا لن نصحو، نحن المصوتين العرب، على فجر جديد، بل سيبقى غدنا، بمنأى عن نتائج الانتخابات، كأمسنا، بارداً كالموت ولا يحمل ذرة من بشرى ولا بسمة من ندى للحالمين.

انها لغة الغبار ، يحدثنا بها أصحابها من دوافع عقائدية ويصرّون على أن مشاركة العرب في الانتخابات تعدّ خطيئة، أو، وليس أقل خطورة، اعترافًا بشرعية كيان ما زال في عرفهم، رغم بكاء البيارات في بيسان، باطلًا ومزعومًا.

لا يوجد مسح علمي دقيق لدوافع الجهات الداعية الى مقاطة الانتخابات، لكننا نستطيع، من باب التكهن الحذر، ان نفترض ان الفئة الأولى تلتزم بموقف "الحركة الاسلامية الشمالية" والثانية تنتمي لمجموعات غير المبالين ومعهم، في نفس الخيمة، ضحايا الخيبة من العمل السياسي والعازفين عنه، وبعدهم سنجد أتباع "حركة ابناء البلد"، على تفرعاتها القومية الاخرى، والى جانبهم مجموعات من"الزعلانين" والمحتجين ومدمني الرفض والمزايدين.

تتصرف أعداد كبيرة من الناس، التي تتفاعل مع نداءات المقاطعة، بتبعية ولائية أوتوماتيكية، فتُحجب عنهم فرصة التدقيق بنتائج "اختيارهم".

ولو سبرنا جوهر ندائهم "لا للتصويت" لوجدنا انهم ينشدون معاقبة "القائمة المشتركة" ولا يقاطعون، فعليًا، العملية الانتخابية للكنيست الاسرائيلي، كما يصرحون؛ فعدم المشاركة بالتصويت، ولو بورقة بيضاء ، يصبّ، وفق قانون احتساب الأصوات على الطريقة الاسرائيلية، في صالح الاحزاب الكبيرة التي تفوز بالمراتب الاولى؛ أي أنها، في المحصلة، مقاطعة ذات وجهين: وجه يرضي "أنا" صاحبها؛ ووجه ثان، سنجد له اسمًا في الثالث من أذار ! 

لن افند جميع ادعاءات المقاطعين، لانني، كما قلت، أرى في المقاطعة مضرة مؤكدة؛ لكنني أود التأكيد على أنني لا أصوّت بسبب ايماني الساذج "بكرم" الديمقراطية، ولا لأنني مفتون بمحاسن أعضاء القائمة المشتركة، ولا كي اسقط اليمين بضربتي القاضية، بل ببساطة، سأصوّت، كي اغرس، كما قلت من قبل: "حبتي في صدر القدر مؤمنًا أن قليلًا من الاصرار والعمل خير من نهر تنظير وأجدى من قناطير رومانسية طاهرة ؛ سأزرعها وأنا أردد نصيحة السلف الحكيم، بأضافة "ورقة" من القطران فعساها تسعف الجمل!   

وسأصوّت للقائمة المشتركة لأنني لست كآلاف العرب "المقاطعين" وهم يعيشون في فيء مواطنة اسرائيلية وينأون بأنفسهم طواعية، عن ممارسة حقهم الإنساني والأساسي في التأثير على شكل النظام الذي سيحكمهم، وعلى صورته وقوته.

أنا لن اقاطع الانتخابات لأنني لا أريد أن أؤذي نفسي؛ وأدعو الجميع الى التصويت للقائمة المشتركة؛ فكلما زادت قوتها كقائمة سيكون حجمها اكبر بكثير من حاصل مركباتها وستنقص،بالتالي، قوة أحزاب اليمين الفاشي، وستتراجع امكانياتهم بتحقيق برامجهم السياسية والاجتماعية التي يعلنونها بشكل سافر حازم.

لا ضير إن كررت مرة اخرى بأن من يصر على أن اعتبار جميع اليهود صهاينة مخطيء، ومخطيء كذلك من يؤكد على أن جميع الصهاينة سواسية؛ فهذه التعميمات مرفوضة من الناحية الاخلاقية والسياسية، وهي توازي تمامًا تعميمات العنصريين اليهود ضد العرب او المسلمين او الشيوعين وغيرهم؛ ومرفوضة لأنها تخلق بلبلة كبيرة بين الناخبين العرب وتساعد على اقناع المترددين والمتأرجحين والتائهين منهم بتبني موقف المقاطعة؛ فما دامت كل الأحزاب اليهودية متشابهة اذن، فما الفائدة من التصويت لإحداها  أو من سقوط نظام نتنياهو وحلفائه من غلاة اليمينيين والمتزمتين الدينيين؟ 

يقاطع البعض، هذه المرة، بسبب خشيتهم من موقف القائمة المشتركة ومن امكانية دعمها، بعد الانتخابات، لحزب "كاحول لافان"، في مساعيه لاقامة حكومة اذا كلفه رئيس الدولة بهذه المهمة. انه محض وهم وخيال فيّاض.

لا ضرورة  لاجراء مفاضلة بين حزب كاحول لافان وحزب الليكود كي نستنج ان المشتركة بعيدة عن كليهما؛ فيكفي ان نقرأ ما أعلنه قبل يومين في الاعلام العبري، الجنرال بوغي يعلون، وهو الرجل الثالث في الحزب، كي نعرف كم كان ظن المشككين بموقف المشتركة إثمًا؛ وأن نتيقن بأن التزاوج بين الحزبين مستحيل وحتى الخطبة غير واردة بالحسبان اطلاقًا.

ففي معرض نفيه للاشاعات التي يطلقها بنيامين نتنياهو ضد حزب "كاحول لافان" حول وجود علاقة مع القائمة المشتركة، قال يعلون بالحرف : "تنتشر بيننا ثقافة الكذب؛ فالناس تؤمن أن ثلاثة قادة أركان سيأتلفون/يتفقون مع المشتركة، وهي تدعو الى محاكمتهم كمجرمي حرب". ألم يقطع "بوغي" كلام كل غيور خائف أو مشكك أو مزايد ؟  

كثيرون راجعوا مواقفهم ازاء المقاطعة وغيّروها؛ ولقد لفتت انتباهي، بهذا الخصوص، نصوص الصديق، الأسير السابق امير مخول، التي وصف فيها، بشجاعة وبنبل وبمسؤولية، كيف ولماذا قرر التصويت ودعم القائمة المشتركة  بعد ان كان لسنين عديدة من دعاة مقاطعة الانتخابات.

لقد امضى أمير فترة تسعة أعوام في سجون اسرائيل بسبب ادانته بتهم  امنية؛  ولقد افرج عنه مؤخرًا، فكتب عن تجربته وعن خلاصاتها التي يمكن ان تحتذى،  لأنها أوصلته الى قناعة "ألا ننتظر من سينقذنا من العنصرية الفاشية الزاحفة، بل يجب أن نسعى الى أن نكون أقوياء لدرجة لا يمكن المس بحقوقنا وبوجودنا .. فقوة المشتركة هي جزء ومركب هام في تعزيز حضورنا فوق عنصريتهم.." .

أمير ليس وحيدًا، فانتظار العجائب ترفٌ أجازته الاساطير للحالمين فقط؛ ونحن، كي ننجو، لا نملك "خيط الأميرة أريان" ولا أحد منا يقبض وحيدًا، على ناصية اليقين؛ فعلينا ان نعرف متى وكيف نغفو على خصر زهرة ياسمين، ومتى نصحو قبل قدوم قايين. 

لا نعرف ماذا يخبيء لنا أذار القادم على السنة الرماح؛ فلندعه بسلام، من دون أن تجفله حماقاتنا لأن فيه " تأتي الظلال حريرية، والغزاة بدون ظلال، وتأتي العصافير غامضةً كاعتراف البنات وواضحة كالحقول.."  ولنترك حساباتنا مع قادة غفلوا ، اذا غفلوا،  الى ما بعد ركود الغبار وقبل هبوب العاصفة ونزول أول المطر.    

إسراطينيات

جواد بولس

 

«عنزتان» الصفقة والمثلث

شاركتُ قبل ثلاثة ايام في ندوة عن «صفقة القرن» دعا إليها معهد «فان لير» الذي يعمل في القدس الغربية كمركز للدراسات المتقدمة والحوار الفكري العام؛ أبدى فيها كل واحد من المشاركين رأيه حول محورين أساسيين اقترحهما المنظمون كأطار عام لحصر النقاش ولنجاعته.
فكيف يجب أن تصنف الصفقة، وهل ستضاف قريبًا إلى ما سبقها من وثائق طواها الزمان؟ ورغم رفضها فلسطينيًا، هل ما زالت هنالك فرص لاستخراج ما هو جيّد منها؟ وهل تعكس هذه الوثيقة ميزان القوى العالمي بشكل حقيقي؟ ثم، ما هي السيناريوهات المتوقعة، إذا ما افترضنا أن الوثيقة أرست قواعد لعب جديدة؛ أهمها نسف إمكانية الحل على أساس الدولتين، وفق جميع القرارات الدولية المعترف بها عالميًا؟
لا مجال للتطرق بالتفصيل إلى جميع محاور النقاش، الذي امتد طوال ثلاث ساعات، ولا إلى مادته الغنية؛ لكنني أرغب بمشاركة القراء العرب ببعض ملاحظاتي العامة عن كيف تناول المشاركون، وهم جزء من نخب المثقفين الاسرائيليين، هذه المسألة ومن أي منطلقات وهواجس؛ مع التأكيد على أن المنصة كانت مفتوحة لأي رأي وتحليل، بدون أية ضوابط على حرية التعبير.
انشغل معظم المشاركين اليهود بتفكيك مضامين الوثيقة، وبمحاولات لتفسير دوافعها وأهدافها، وتأكيدهم على متانة العلاقات بين الرئيس ترامب ورئيس الحكومة نتنياهو، وما يمثلانه سياسيًا؛ ومع انهم اختلفوا حول بعض التفاصيل والمفاهيم غير الجوهرية، تبين انهم يتعايشون، بدرجات متفاوتة، مع مضامين الوثيقة، ويعتبرونها بمثابة «الحدث المؤسس» في منطقتنا. وقد تقبلها بعضهم عن رضا وعن قناعة دفينة بجدواها، رغم ما أبدوه من «أسف» صوري على ما سببته من وجع للفلسطينيين؛ وبعضهم عبروا عن استيعابها، على طريقة «المثقفين النخبويين» الذين يهادنون الريح إذا ما حركتها أمامهم آلهة لا ترحم ولا تسامح. لم اتوقع غير ذلك، فإسرائيل اليوم تعيش في قوقعة مُحكمة تصهر جميع من في داخلها؛ تمامًا كما اتضح من أجواء هذه الندوة، التي كان من الممكن أن تكون مختلفة. لقد تبين أن الأكثرية الساحقة من المشاركين ومن الجمهور لا يعترضون مبدئيًا على ما سمي مغالطةً «بالصفقة»، ولم يعبروا عن أي تخوف من تبعاتها في المستقبل؛ حتى عندما حاول أحدهم أن يبدو موضوعيًا وجدناه يمارس «أكاديميته» وفق دور «المستعمر المتنور»، الذي يحترف إسداء المشورة، من عليائه للفلسطينيين، وينصحهم كيف يجب أن يتعاملوا مع الحدث «بحكمة»، إذ قد يستفيدون منه «بشيء ما» في المستقبل!
كنت مشاغبًا على نحو ما ومستفزًا بقدر أكبر؛ فحاولت أن أقلب «عملتهم» إلى وجهها الإسرائيلي حين قلت: إننا نعرف لماذا على الفلسطينيين معارضة هذه الوثيقة/الصفقة، ولماذا عليهم مقاطعة جميع تفاعلاتها وتداعيتها؛ لكنني، تساءلت، لا أعرف ما هو موقفكم الواضح ازاءها؟ أو لماذا سيعارضها المواطن الاسرائيلي المستفيد من دولته القوية، ومما توفره له من رخاء ومن مستوى معيشة مريح؟
الوثيقة هي تتويج لعمليات تتداعى في منطقتنا منذ سنين، والاتفاق على إخراجها، في الوقت والمكان المحددين، جاء لأسباب فنية تخدم نجميها، ترامب ونتنياهو. كانت تفاصيلها مختمرة منذ زمن، فبعد أن تفككت بنى معظم الدول العربية، ودخلت أنظمتها في حيزات منظومات الحراسة الأمنية الاسرائيلية والامريكية، وتحت رحمتها؛ وبعد أن تناثرت المنظومة الإسلامية وتشظت شعوبها إلى ملل ونحل؛ وبعد أن استفحل الفراق بين الفلسطينين وعظمت البغضاء، وثبت نظام الإمارات وطلاق غزة وابتعادها عن حضن رام الله والقدس؛ وبعد أن راهنت القيادات الوطنية، لأكثر من عقدين، على دور أمريكا فقط، وعلى نواياها، لم تعد هنالك موانع من تقطيع ما تبقى من الجسد الفلسطيني وسحقه تمامًا؛ فهذا ما تحاول هذه الوثيقة إنجازه، وهي، بهذا المعنى، ليست أقل من صك استسلام يحاول «امبراطور هذا العصر» املاءه على الفلسطينيين المهزومين، تماما كما تعلمنا من تاريخ الهزائم والانتصارات في حروب الامم.
سيبقى جديد هذه الوثيقة، إذا ما استبعدنا تفاصيلها المتعلقة بالحل الكراكوزي المقترح للفلسطينيين، في أنها أرست مبدأين خطيرين قد يفضيان قريبًا أو لاحقًا، إلى نتائج وخيمة على المنطقة، بما في ذلك على إسرائيل وعلى مواطنيها العرب واليهود.
فاعتراف الإدارة الامريكية بأن مرجعية الحق اليهودي في أرض اسرائيل تعود إلى وعد السماء، كما جاء في التوراة، يقود عمليًا إلى تحويل الصراع في منطقتنا إلى صراع ديني فحسب، وكلنا نعرف ما هي مقاسات الصراعات الدينية، وكيف مقيّض لها أن تنتهي أو ألا تنتهي. وإصرار الإدارة الأمريكية على تحييد دور المواثيق والمنظمات الدولية، وشطب مكانة المجتمع الدولي، وما أرسته الأمم من حقوق للشعوب، وقواعد تحترم القيم الإنسانية العالمية، والانزلاق إلى اعتماد قاعدة واحدة تقر بحق القوة فقط، سيعيد، بشكل طبيعي وتلقائي، أصول الصراع إلى مربعها الأول، ولن يترك للفلسطينيين وللعرب إلا الانسحاب من جميع الاتفاقات، وإلغاء ما كان مقبولا عليهم منذ عام 1948 وحتى يومنا هذا، وغير ذلك يعني قبولهم بالاستسلام. تشير كل التوقعات إلى سيناريوهات مقلقة جدًا، خاصة في ما يتعلق بمصيرنا، نحن، المواطنين العرب في إسرائيل. فمن المؤكد اننا سنكون من ضمن من سيدفعون فاتورة هذه الرؤى الجهنمية قريبًا، وليس فقط لأننا حظينا «بلفتة» خبيثة في الوثيقة، التي تبنت سياسة إبعادنا بداية من منطقة المثلث، بل لأن وجودنا يشكل لدعاة إسرائيل الكبرى أكبر عائق ملموس في وجه مشروعهم النهائي، وهذا سيستدعي، وفق سياساتهم الاقتلاعية، التخلص وتطهير الأرض منا.
سمعت تصفيقًا خافتًا في القاعة، عندما حضضتهم على أن يصحوا من سكرة عنجهيتهم، وأن يعودوا إلى رشدهم. سألني أحد الحاضرين إن كنت لا اعتقد بأن إدخال فقرة المثلث لم تكن على طريقة تلك «العنزة» التي أدخلت إلى البيت كي تشغل بال أهله الفقراء عن مصائبهم الأخرى. قلت له ربما تكون فكرته مسلية وجائزة، ولكن ليس ونحن، هذه المرة، العنزة، فاليمين لن يتنازل عن أرض المثلث، ولا عن أي أرض غيرها، ولذلك نحن نفهم أن المشروع برمته هو عملية طرد مقنّع بأحبولة مكشوفة تبناها نظام عابث بقيم الإنسان والوطن، وحكومة تعتبرنا في أحسن الأحوال «إسراطينيين».

عندما أراد الشاعر فرنسيس أن يحرق المغني فرنسيس

استمعنا بصوت الشاعر الغنائي اللبناني، نزار فرنسيس، وقرأنا على صفحته، كلامًا هابطًا لا يليق بمن يحترف صناعة الفرح، ويحاول نحت الحروف تماثيل للجمال.
لا أعرف من غرر به ودفعه إلى ذلك المنزلق؛ ولولا ما نكأه هجومه الحاقد من جروح عميقة في جسد قوم يقاومون من أجل بقائهم بكرامة على أرض أجدادهم ويدفعون عنهم، في الوقت نفسه، مظالم «الأشقاء» وخناجر «أقرباء» يتعمدون معاملتهم «كإسراطينيين» – لما تطرقت إلى هذا الموضوع ولا أعرته أدنى اهتمام؛ ولا تناولت الجانب القانوني لمثل هذا التطاول، ولا بأيّ حق يدّعى.
ستبقى الأبعاد الشخصية للأزمة ثانوية وعابرة؛ فالتطاول على الفنان المغني زهير فرنسيس لم ينل من مكانته اللافتة، ولا من تقدير محبيه في البلاد وأبعد، ولن يضيره لو رضي عنه نزار أم لم يرضَ؛ ولكن أغاظني استسهال التهجم على فلسطيني «أسير» لا يستطيع مواجهة القذع بندّية متكافئة ومنصفة، ولا أن يرد على من يهدده بالحرق ويغرقه بأوصاف يندى لها الجبين. لقد شعر كثيرون مثلي بالإهانة من هذا الأسلوب المتعالي والمستفز فأحسسنا، مرة أخرى، كم أنتم، في بلد الطوائف، بعيدون عن عروبتنا الأصيلة والحقة، ومبتذلون في مشاعركم المغناة.
سيبقى زهير فرنسيس وجميع فنانينا ومبدعينا، أحفاد «أبي سلمى»، نقوش وشم على جبال الجليل، وستبقى أصواتهم خضرة على سفوح الكرمل لن تستطيع، مهما حاولت، أن «تعد وأن تحرق اوراقها».
كاتب فلسطيني

 

 

عندما بكت «عدالة»

في المحكمة العليا الإسرائيلية

جواد بولس

 

أجازت «محكمة العدل العليا» الإسرائيلية في التاسع من الشهر الجاري ترشيح النائبة هبة يزبك ضمن لائحة «القائمة المشتركة» الانتخابية، في الانتخابات المقبلة للكنيست الإسرائيلي، في قرار صاخب ولافت، شارك في صياغته تسعة من أعضائها، حيث اصطف خمسة قضاة منهم لصالحها، في حين عارضهم أربعة، برزت من بينهم رئيسة المحكمة استر حايوت.
تستحق تداعيات هذه القضية مراجعة شاملة ومستفيضة؛ فهي، بنظري، تثير جملة من التساؤلات الخطيرة حول سلوكيات معظم القادة السياسيين الناشطين بيننا، ومعهم عدد من مؤسسات المجتمع المدني وجمعياته «غير الحكومية»؛ وتكشف، في الوقت نفسه، عمق الهوة القائمة بين «الحقيقة الفوقية» الزائغة، وما يستهلكه الناس من بضاعات سياسية تلقّم لهم بنمطية مدجِّنة.
يقدم «عدالة – المركز القانوني لحقوق الأقلية العربية في إسرائيل» خدمات قانونية جليلة للمجتمع العربي في الدولة؛ وهو يقوم بمهماته وفق استراتيجيات عمل متوافق عليها مع موكليه؛ لكنه يبقى، كما يتضح من اسمه، ذا مكانة عامة مميزة، تمنحه قوة تأثير كبيرة يجب إخضاعها، من حين إلى آخر، للمناقشة الواسعة والتقييم، بمسؤولية ومهنية وموضوعية. قام المركز بتمثيل النائبة هبة يزبك أمام محكمة العدل الإسرائيلية، بعد أن قررت لجنة الانتخابات العامة شطب ترشيحها، بتهم مستفزة مثل دعمها للكفاح المسلح ضد دولة إسرائيل. أرفق المركز بالالتماس تصريحا مشفوعا بقسم النائبة، حاولت فيه دحض التهم الموجهة إليها، بعد أن طالبها المستشار القانوني للدولة بتوضيح مواقفها أزاء مسألة استعمال العنف، والحق في استعمال الكفاح المسلح، وموقفها من قضية قتل الجنود الإسرائيليين. رفض المستشار القانوني للحكومة، بعد اقتناعه بتوضيحات النائبة وتبريراتها، تأييد شطبها من الترشح ضمن القائمة المشتركة، وعبّر عن موقفه الداعم لترشيحها، أمام المحكمة العليا.
استعرض التماس «عدالة» رزمة من الادّعاءت القانونية العامة، ودعّمها بمواقف النائبة التي أوردتها في تصريحها، وأتت فيه على تفنيد «التهم» التي وجهها لها أعضاء الأحزاب اليمينية.
رغم أهمية مناقشة تداعيات القضية وانعكاساتها على حياتنا اليومية، لاسيما على علاقتنا بجهاز القضاء الإسرائيلي، وما يتعلق بأخلاقيات العمل السياسي بيننا، قررت ألا أتعرض لها بالتفصيل في هذه المقالة؛ لأنني، ببساطة، أخشى من تأثير مناقشتها السلبي على»شهية» الناخبين العرب، الضعيفة أصلًا، على الاقتراع، رغم أننا على مسافة عشرين يومًا فقط من موعد الانتخابات. لن يختلف اثنان على أن الجهاز القضائي في إسرائيل، وعلى رأسه المحكمة العليا، عملوا بشكل واضح كأدوات تخدم بمنهجية سياسات الدولة القمعية ضدنا، نحن المواطنين العرب في إسرائيل. ولئن مارست تلك المحاكم، في الماضي، عنصريتها ضدنا بنوع من الخبث والحذر، نجدها، منذ سنوات، تفعل ذلك بسفور وبدون أقنعة، وبلا مساحيق تجميل.
لم أكن أنا شخصيًا بحاجة لقراءة قرار المحكمة، المكون من ثمانين صفحة، كي أخلص إلى أننا نلهث على خطوط النهاية المدوّية؛ أو أننا نختنق، عمليًا، في بطن الحوت، وليس كما جاء في تعقيب «مركز عدالة»، المكتوب بأدب ودبلوماسية حريرية، فحسب؛ إذ صرحوا، بأنه رغم «المصادقة على ترشح النائبة يزبك، بفارق صوت واحد، فإن رأي أقلية القضاة في الحكم القضائي يثير قلقًا شديدًا، إذ أنه لا يكترث بالأسس التي تم تحديدها في سوابق قضائية منذ 20 عامًا، ويضع مستقبل التمثيل السياسي للمواطنين العرب في خطر»!

لمركز «عدالة» مكانة مميزة، تمنحه قوة تأثير كبيرة يجب إخضاعها للمناقشة الواسعة والتقييم، بمسؤولية ومهنية وموضوعية

وكانت لجنة الانتخابات المركزية قد اعتمدت، في قرار شطبها، على مجموعة «بوستات» كانت قد ألصقتها النائبة يزبك، خلال سنوات سابقة، في مناسبات مختلفة على صفحتها الخاصة؛ ومنها مثلًا ما نشرته بعد اغتيال الأسير المحرر سمير قنطار، وآخر استذكرت فيه روح الشهيدة دلال المغربي. واعتمدت اللجنة كذلك على بعض تصريحاتها الاعلامية التي جرى توظيفها، بوقاحة من قبل اليمين، لتظهر وكأنها تدعم فيها قتل الجنود الاسرائيليين – فتبنتها اللجنة. لن أتطرق إلى حيثيات القضية، كما تقدّم في البداية، لكنني أود أن أؤكد على أن الوضع أخطر بكثير مما تحاول «عدالة» أن تصفه؛ فقرار المحكمة برمته ينذر بالأخطر، وهو يعرّي على الملأ آخر درجات هاويتنا الوشيكة، وليس فقط «مستقبل تمثيلنا السياسي»، كما جاء في بيان مركز عدالة. فالقضية، برأيي، لا تقف عند ما كتبه «قضاة الأقلية»؛ والمصيبة لا تختصر «بمشاعر القلق» التي تحدثوا عنها؛ فمن مثل»عدالة» تعرف الحقيقة، ومن مثل محاميها يستطيع تقدير حجم القرابين التي قدمتها النائبة يزبك، أمام القضاة، على مذابح المبدئية والحق؛ كي لا تنزع الشرعية «عن وجودنا وتاريخنا وسياقاتنا وتجريمها» وذلك كما صرحت هي، بوجع، بعد أن «انصفها» عدل مقصلة إسرائيل المخاتل.
لا أكتب كي أزايد على أحد؛ فقد قلت قبل ثمانية أعوام، عندما شطبوا ترشيح النائبة حنين زعبي، زميلة هبة في حزب التجمع، ثم «أنصفها» «سيف صهيون»، أننا نعيش في حالة « أنوماليا» رهيبة، نكون فيها مجبرين على التماس العدل من «ظبية» الجلاد، وعلى دفع أثمان العاجزين الذين تكون أحلامهم «ورطات» وتصير أصباحهم أكوام سراب. لقد أهبت، منذ سنوات، بفلسطينيي الأراضي المحتلة، أن يقاطعوا المحكمة العليا الإسرائيلية؛ فهم، كشعب يرزح تحت الاحتلال، غير مجبرين إلى اللجوء اليها مثلنا؛ أما نحن، المواطنين في الدولة، فمن حقنا أن نطالبها بالعدالة وبالمساواة وبالعيش بكرامة وبأمان.
تضيق الهوامش أمامنا وتوصد جميع المنافذ؛ ولا يشذ عن ذلك جهاز القضاء وعلى رأسه المحكمة العليا، التي هاجمتها وسكنتها قوى الظلام؛ فيكفي أن نقرأ سير قضاتها الحاليين، لنتنبأ بأحكامهم الأكيدة، تمامًا كما حصل في قضية النائبة يزبك. لن اتطرق إلى تناهيد الوجع، كما نطقت بها الكلمات وتلقفها كل واحد من القضاة التسعة؛ لكنني أعرف أن ما كان صحيحًا قبل 20 عامًا لم يعد صالحًا في زمن الجراد؛ واعرف، كذلك، بعد أن قرأت قرار القضاة، انه لولا اللجوء إلى سحر «الحيلة» ولبسها، لما ابتلع «قضاة الأكثرية»، طوعاً، حبة الوهم، ولما قبلوا أن تتحول دلال المغربي من عروسة الشهيدات، ورمز المقاومة الفلسطينية إلى وسيلة ايضاح استحضرها ذلك «البوست» كرمز مجازي لدور المرأة في يوم عيدها العالمي؛ ولولا الاحتماء في إشراقات التبرير وعبثه، لما قبل حكماء «الاوليمب» أن يُجدل وعد سمير قنطار محرمة بيضاء على عصا رفعت على صفحاتنا الفيسبوكية احتجاجًا ضد الاغتيالات السياسية.
هذا القرار أكثر من مقلق فهو موجع ومستفز. لكن لتيه العرب في اسرائيل أثمان، ولدخولهم إلى «قصر المواطنة» شعاب وحيَل؛ فنحن، هكذا تكلمت ابنة الحكمة الفلسطينية باسم «التقية» في معابد بني صهيون، نؤمن بحق الشعوب أن تعمل من أجل حريتها، ونؤمن أيضًا أن لكل شعب حقه في تقرير مصيره؛ لكننا نفرق، صدقوها أو لا تصدقوها، بين هذا الحق ودعواتنا لتحقيقه عن طريق القتل والعنف الذي لا نرضاه بحق أي شخص، كان من كان؛ سواء كان جنديا ببدلته العسكرية أو بدونها، أو كان مجرد مدني. لقد صدقها خمسة قضاة، وأربعة، لا يحبون السحر، سينتظرون العدل مثلنا في آذار.
كاتب فلسطيني

 

 

بين ترامب وفيلم: "الباباوان"

جواد بولس

 

لم أتوقع عندما اخترت مشاهدة فيلم "البابوان" كم سيكون تأثيره شديدًا علي.

 لست ناقد أفلام ولن أكون؛ لكنني أنصح مَن ما زالوا يعشقون هذا الفن أن يذهبوا لمشاهدته، وأن يصغوا جيدًا للحوارات التي دارت بين بطليه، الممثّلين القديرين: انتوني هوبكنز وجوناثان برايس.

تستعرض أحداث الفيلم، بشفافية لافتة، جملة من السجالات والجدالات التي عصفت بالكنيسة الكاثوليكية بعد وفاة البابا يوحنا بولس الثاني عام 2005 ، وبعد انتخاب الكاردينال المحافظ والمتزمت كنسيًا، جوزف راتسينجر ، خلفًا له، ليصبح فيما يلي البابا بنيديكتوس السادس عشر.

كان فوز البابا بنيديكتوس على منافسه، الكاردينال الارجنتيني خورخي برغوليو، المعروف ببساطته وباعتداله وبابتعاده عن الطقسية المتزمتة، بفارق صوتين فقط؛ حيث كشفت هذه النتيجة، عمليًا، عن وجود أزمة جدية داخل أروقة الفاتيكان، واثبتت لمن لم يقرّ بذلك على أنّ مفهوم المسيحية، كنسيًا وايمانيًا، حتى بين قادة تلك الكنيسة وبين أتباعها ، متفاوت بدرجات كبيرة، قد تصل أحيانًا حد النقيض إلى النقيض.

تستحضر احداث الفيلم محطات هامة من التاريخ ودور "بطلي" الفيلم فيها ؛  ففي السبعينيات من القرن المنصرم حكمت الأرجنتين طغمة عسكرية فاشية، لاحق قادتها الرهبنة اليسوعية التي كان يقف على رأسها الكاردينال برغوليو، والذي فشل، كما يعترف هو أمامنا، بالدفاع عن الشعب وعن زملائه الكهنة، فعاش نادمًا على قصوره ومعذبًا من ضميره الذي لم يغفر له ، ولذا فقد التقى البابا بنديكتوس ليقدّم له استقالته.

ولقد تناقش الرجلان حول مفهوم الخطيئة والغفران، وحول مكانة الكنيسة وعلاقاتها مع الناس والحكام والبسطاء؛ وتحاورا حول معنى السعادة وجدارة افناء الذات، وحول الموسيقى والرقص والحب والغناء.

كان الحوار شيقًا لكن البابا بنديكتوس رفض في نهايته طلب استقالة زميله.

لم يقدّر ابن الارجنتين ما كان وقع تلك المحاورات على قلب وعقل رئيسه؛ الى أن فاجأه هذا الأخير حين أخبره بقرار اعتزاله البابوية وبتصميمه على دعم ترشيحه هو ليصبح البابا الارجنتيني الأول.

تنتهي القصة باستقالة البابا بنديكتوس في بداية العام 2013 - وهو حدث لم يسبق له مثيل إلا قبل ستمائة عام - وبانتخاب مطران البساطة والعفوية والتواضع، الارجنتيني خورخي برغوليو، ليصبح فيما يلي البابا فرنسيس.

لم يحدث هذا إلا بعد ان سمعنا البابا بنديكتوس وهو يعترف بأنه أخطأ فعلاً حين غطى على أفعال زمرة من الكهنة الذين تورطوا في عمليات فساد وفي ممارسة اعمال الفسق الجنسي خاصة مع الاطفال؛ وبعد أن عاد، كبابا مستقيل، الى ممارسة حياته اليومية بانسانية طبيعية في الفاتيكان، كما ترينا نهاية الفيلم.

لا غرابة على الاطلاق بأن أستعير رسائل فيلم سينمائي، شبه وثائقي، وأن ألجأ إلى مَجازاته وأنا أكتب عن هموم فلسطين، خاصة بعد نشر وثيقة ترامب التي اعتبرها بعض المغرضين انها نطقت باسم المسيحية، وهذه من ذلك كله براء؛ فانا لا أكتب هنا دفاعًا عن المسيحية بل من أجل فلسطين ومستقبلها.    

لا مجال في هذه المقالة لوضع قائمة باسماء جميع الكنائس في العالم التي تدعم حقوق الفلسطينيين ويصلي كهنتها واتباعها من أجل ازالة الاحتلال الاسرائيلي؛ ويكفي ان يتابع القراء بهذا الخصوص تاريخ حاضرة الفاتيكان، وهي المؤسسة المسيحية الكبرى في العالم، كي يعرفوا الحقيقة ويعترفوا كما أتمنى، بأهمية تجنيد هذه الجهات لصالح القضية الفلسطينية.

قد تكون زيارة وفد المطارنة الكاثوليك المكوّن من أربعة وثلاثين مطرانًا لفلسطين، بالتزامن تقريبًا مع الاعلان عن وثيقة ترامب، مفارقة حصلت "بترتيب الهي" لتبعث في نفوس الفلسطينيين بعضًا من الأمل ولتظهر لهم آفاقًا يجب الاستثمار فيها؛ ليس فقط كتعويض عما خسرته فلسطين من مواقف تبناها ذوو القربى، بل لتنبيههم أيضًا بوجود عالم آخر  لم يعطَ حقه ولم نستفِد، نحن في فلسطين، من تأثيره الايجابي والعملي كما يجب.

أصدر الوفد بعد زيارته بيانًا سياسيًا هامًا، أشار فيه الى ما شاهده اعضاؤه بأعينهم من ظلم ضد الفلسطينين الذين يعيشون في بؤس صارخ؛فحذروا من خطورة ضياع الأمل الفلسطيني وما قد يفضي اليه هذا الضياع من مآسٍ وحروبات؛ ودعوا حكومات بلادهم وشعوبهم الى العمل من أجل تطبيق القانون الدولي وإلى السير على خطى الكرسي الرسولي في الاعتراف بدولة فلسطين ورفض الدعم المادي والسياسي للمستوطنات الاسرائيلية.

 ومن الجدير في هذا السياق الإشارة الى انه في العالم اليوم يوجد عدد كبير من الكنائس التي أعلنت عن مواقف متقدمة جدًا تجاه القضية الفلسطينية، فعلاوة على تضامن إكليروساتها ورعاياها مع المطالب الفلسطينية بالاستقلال وببناء الدولة، نادوا، كذلك، بضرورة الحجيج الى فلسطين وزيارة الاراضي المحتلة ومشاهدة الظلم عينيًا، لا بل سنجد أن بعض تلك الكنائس قد بادرت الى سحب استثماراتها الماليه من صناديق شركات أو من مشاريع ثبُتت علاقاتها مع المستوطنات.

 

لقد تضمّنت وثيقة ترامب عدة محاور ومواقف منحازة بشكل واضح وكامل لصالح اسرائيل؛ فلم يقبلها الفلسطينيون، لا جملة ولا تفصيلا، وتحفظت منها دول عربية وانتقدتها جهات دولية عديدة وبعضها عارضها بشكل لافت.  

مواقف هذه الادارة كانت معروفة للجميع ودوافعها كذلك؛ فعلاوة على تطابق المصالح السياسية والاقتصادية بين النظامين الأمريكي والاسرائيلي، كانت المفاهيم الايمانية الدينية السائدة بين الاوساط الداعمة لترامب ومجموعته عنصرًا هامًا في تجيير القرارات السياسية الأمريكية، بشكل غير مسبوق، لصالح الرؤى الاسرائيلية الدينية الغيبية والقومية المتطرفة، خاصة في كل ما يتعلق بمسألة الحق الالهي المعطى للشعب اليهودي وسيادته الأبدية على ارض فلسطين.       

قد تكون هذه الجزئية من أبرز ما نضح من خطبة ترامب، فتأكيد الوثيقة على أسبقية الحق اليهودي يعود لمرجعية ذلك الحق التوراتية أو الالهية وبهذا المعنى تكون الوثيقة، في الواقع، قد نقلتنا الى مرحلة جديدة أخضعت فيها الصراع الفلسطيني الاسرائيلي لقوانين الصراعات الدينية واستبعدت كونه صراعًا سياسيًا، قد يكون أحد أبعاده ذا أنساغ دينية وايمانية. 

لم يتأخر رد المنابر العربية الاسلامية على موقف الادارة الامريكية المذكور، فما أن  انجز ترامب "صفعته" حتى انبرى الخطباء في عواصم العرب بالتأكيد على ان أرض فلسطين هي وقفية اسلامية لا يفرّط فيها، ولا يتنازل عنها لأي كان؛ وهي، بهذا المعنى، حق اسلامي الهي لا يجاريه أي حق آخر .

لقد تطرقنا في الماضي الى الخطورة الكامنة في تبني هذا المنحى وحذرنا مرارًا ان اصرار  بعض العرب على حصر النزاع ببعده الديني فقط وبكونه صراعًا بين حقين الهيّين مدَّعَين، سيضرّ بالمصلحة الوطنية الفلسطينية لأنه يعطي المتطرفين اليهود وحلفاءهم ذريعة لتحقيق مآربهم، خاصة في زمن تميل فيه موازين القوى العالمية لصالحهم، كما هو حال واقعنا في هذه الأيام.

ولقد انتبهت القيادات الوطنية الفلسطينية لهذه المسألة وأصرت، وما زالت تصرّ، على ان الصراع الفلسطيني الاسرائيلي هو صراع سياسي يقف فيه المعتدون والظالمون من جميع الديانات في خندق واحد، بينما يقف احرار العالم ضدهم في خندق واحد ايضًا. ورفضت وترفض القيادة الوطنية الفلسطينية مواجهة ترامب وحلفائه بسبب مسيحيّته أو لكونه "صليبيًا"، كما ينعته الكثيرون؛ وذلك لان تبرير  عدائيته للفلسطينيين بهويته الدينية هو اجتهاد خاطيء وغير مجدٍ، ولأن المسيحيين في العالم، مثل جميع اتباع الديانات كلها، لهم مواقف سياسية مختلفة؛ ولأنّ الكثيرين منهم يدعمون فلسطين وحق شعبها في العيش بكرامة بدولة حرة مستقلة.

ولنا في حياة الباباوين اعلاه، عبرات وعبر.

يتبع  ..

 

 

مشاهد من

ضياعنا في مثلث ترامب

جواد بولس

 

حاولت ألا أكتب الآن عن صفقة القرن؛ فالصحافة المحلية والعالمية ومعظم المنصات الإعلامية ووسائل التواصل على أنواعها، تفيض، جميعها، بالآراء وتغرق بالتحليلات والتعليقات، التي ترهق القراء والمتابعين.. على قلّتهم المفضوحة.
لم أتمالك نفسي؛ إذ شعرت بحالة من الغضب الإنساني الحقيقي، مثل ملايين المشاهدين، الذين تابعوا إعلان الرئيس الأمريكي واستمعوا إلى لغة جسده وهو يتلو تفاصيل وثيقته بلذة ظاهرة، وبانحياز سافر ومستفز.
لم أصغِ بانتباه في بعض اللحظات إلى المضامين، ولم أدقق في أبعادها السياسية، وفي ما تخفيه الحروف وتلوّنه النوايا؛ فوقع المشهد برمته كان ساحقًا لكل نفس حرّة، ونبر الرئيسين، ترامب ونتنياهو، كان يستحضر رعونة التاريخ الذي كتبته، بمحابر من دم، عنجهيات قادة سطاة لم تعقهم حكمة الندم الخالدة، بأنّ الدهر ذو دول.
أجرى الكثيرون مقاربات لافتة بين هذه الصفقة وبعض المحطات الفارقة في تاريخ القضية الفلسطينية، وصراعها الطويل مع مطامع الحركة الصهيونية؛ فكان أبرزها تلك التي شبّهت وعد «ترامب» الحالي بوعد «بلفور» الشهير، بوصفه الوعد المشؤوم. لا فرق أن كانت هذه المقارنة صحيحة من الناحية التاريخية والعلمية؛ فهي، لمجرد حضورها بهذه القوة في أذهان بعض النخب وعامة الناس، تشكّل برهانًا قويًا على أننا، كفلسطينيين، ما زلنا رهائن للمخاضات العسيرة نفسها، وضحايا أكيدة لانتكاسات محتملة جديدة؛ وأننا رغم جميع انتصاراتنا الصغيرة أو الكبيرة، الصحيحة أو الوهمية، لم نخرج بعدُ من رحم المأساة، بل قد يكون ما يخفيه لنا هذا الزمن الأرعن من ولائم، أفظع وأوخم. سيُكتب عن هذه الأيام الكثير، وسيختلف المؤرخون والسياسيون حولها، تمامًا كما اختلف الذين قبلهم وتقارع مَن كان يقف خلف «المفتي» ومَن ضده؛ وقد لا تعرف أجيال الغد، بعد وفاة الجنود، من هو المنتصر؛ وستبقى الحقيقة حول فلسطين المشتهاة، كما كانت منذ أكثر من قرن، ذات وجهين، أو كسنونوة تائهة تفتش عن وطن.
حدّقت في تعابير وجه ترامب وهو يستشهد بعدل ربّه وبوعود السماء؛ وفتشت عن وداعة المسيح في كلامه وعن تواضعه، وعن ذلك «الراعي» الذي وقف مع المساكين والفقراء ونافح الطغاة، فلم اجد إلا «بيلاطس»، وأصغيت لكلامه، فلم أجد «ابن الإنسان» هناك، وتيقنت، مجددًا، من أن دين الظالمين واحد، وكذلك ربهم.
لوهلة تمنيت لو كنت أمامه لأتلو على مسامعه ومسامع من حضروا تراتيل الناصرة والقدس وبيت لحم، ولأذكره بما كتب، قبل ألفي عام «لوقا الأنجيلي» عن الفرق بين أنين دمعة قلب كسير، وبريق دموع «العشّارين»؛ فعندما اقترب يسوع الفلسطيني ورأى أورشليم/القدس، بكى عليها وقال: «ليتك اليوم تعرفين مصدر سلامك، لكن ذلك مخفي عن عينيك الآن. ستأتي عليك أيام يبني فيها أعداؤك الحواجز حولك. سيحاصرونك ويضغطون عليك من كل الجهات. سيدمرونك أنت وأهلك، ولن يتركوا حجرًا على حجر داخل أسوارك..».
كانت تلك مجرد أمنية رمادية سكنتني في حالة قهر عبثية؛ فأنا أعرف أن «مسيح» ترامب لا يشبه ذلك «الفادي»، الذي جاء من أجل خلاص البشر، ولوحق وتعذب وبكى، كما أفادنا «لوقا» بنصه الجميل، الذي سيبقى الشاهد على أن «الحجارة» والدول قد تسقط مرّة بعد مرّة؛ ولكنْ «ذو الحق يبقى ويبقى حقه أبدًا.. لا، لست يا ظلم أقوى منهما أبدا»، كما أنشدنا أبو الحكم، شاعر قانا الجليل جريس دبيات.

مشهد التشاؤم

رغم الغضب الذي أظهره الكثيرون ازاء ما شاهدوا في مسرحية البيت الأبيض، وما سمعوه مثلي، اكتفى بعضهم بتتفيه مبسّط للحدث، وبإسداء النصيحة لنا، ألا نعير مضمون الوثيقة أي اهتمام؛ فمصيرها، هكذا أكد لنا «أنبياء السراب»، سيكون حتما «مزبلة التاريخ». في المقابل عبّر غيرهم عن قلقهم الكبير ازاء ما قد تفضي إليه هذه المقترحات، لاسيما وقد استحضرت تفاصيلها، كما قلنا، تداعيات وعد بلفور، الذي أفضى إلى أقامة دولة اسرائيل بعد أقل من ثلاثة عقود على اعلانه؛ هذا علاوة على أن هذه الوثيقة قد أُعدّت، على الطريقة الأمريكية، وحيكت بخبث وبدراية في ظل ترحيب ودعم وتفهم وصمت وتواطؤ دول كثيرة، وبضمنها معظم الدول العربية والإسلامية، وبعض الدول التي كانت تعد حليفة لفلسطين.
حاولت أن أتصرف بنضوج، وألا أظهر غضبي الشديد؛ لكنني لم أنجح بإخفاء قلقي بعدما أحسست بحزن ابنتي، وثورة صاحباتها؛ فقد نشأن في حضن حلم بشّرهن بمستقبل وردي فصحون على «صفعة» أعادتهن إلى عوالم التيه واليأس. اتسمت نقاشاتهن بوعي مطمئن، وحملت كثيرًا من الوجع. أصغيت إليهن ولفت انتباهي إجماعهن على أن من أخطر ما ورد في الوثيقة بالنسبة لنا، نحن المواطنين العرب في اسرائيل، هي تلك الفقرة التي تحدثت عن إمكانية التبادل الجغرافي، وتطرقها بوضوح وبالتفصيل إلى إمكانية إتباع مناطق واسعة من «المثلث» إلى سيطرة السيادة الفلسطينية، ما سيعني، على أرض الواقع، سلخ أكثر من ثلاثمئة ألف مواطن عربي عن أشقائهم في الجليل والنقب.
وقد وافقتهن؛ فتضمين هذا الموقف في وثيقة دولية رسمية يحمل مؤشرًا خطيرًا على حصول تغيير جوهري في نظرة «العالم» إلى مكانتنا، وإلى حقنا في البقاء كمواطنين في إسرائيل. فعلى الرغم من أن المقترح لا يؤدي، كما أكد ترامب، وقبله صاحب الاقتراح الاصلي ايفيت ليبرمان، إلى اقتلاع السكان من أراضيهم، يبقى قبول الفكرة، بصورة مبدئية، مؤشرًا مقلقًا على مستقبلنا وعلى مصيرنا. لقد استخف القادة العرب بيننا بايفيت ليبرمان عندما عرض، قبل سنوات قليلة، خطته أزاء منطقة المثلث ومعظمهم أغفلوها؛ وقامت مجموعات واسعة بتقزيمها والاستهزاء منها؛ في حين توعدتها قطاعات كثيرة الضجيج في مواقعنا، ووصفتها بالترّهات التي لا حاجة للحديث عنها. مرّ أقل من عقد على طرح الفكرة في أسواق السياسة العنصرية الاسرائيلية فتحولت، على حين غفلة، إلى جزء مهم من برنامج دولي متكامل، لن تكف امريكا وحلفاؤها عن محاولات تنفيذه كخطوة من مخطط شامل، لترسيم حدود شرق أوسط جديد، ستكون درّته مملكة إسرائيل الكبرى.

علينا، كمواطنين في دولة تستعدينا حكوماتها، أن نبدأ، بجدية وحزم، في تحديث صياغة معادلات وجودنا وعلاقتنا بها بجرأة وإصرار واع

لا أعرف، في ظل هذه المعطيات، وفي كنف نظام دولي يمتهن المقايضات والخاوات، على ماذا يعوّل مبشرونا بالفرج القريب؟ ولا أفهم كيف سنواجه هذه المخاطر المصيرية، التي لم تعد مجرد فذلكات أو هلوسات يطلقها بعض غلاة اليمينيين الإسرائيليين العنصريين؟ فأمريكا اليوم هي الدولة الأقوى في العالم وتتحكم، بالتوافق مع دول قوية أخرى مثل روسيا والصين والهند وأوروبا، وبالعربدة وبالتآمر أيضًا، في مصائر معظم الدول الضعيفة وأشباه الدول؛ ولا استثني من ذلك غالبية الدول العربية والاسلامية والافريقية وغيرها. نعم، فهي تتصرف برعونة الامبراطوريات التي داست على أنف التاريخ قبل أن تصبح رماده، ولأنها كذلك علينا أن نسأل انفسنا، نحن المواطنين في اسرائيل، من سينقذنا وسيفيدنا، وقد أصبحنا هدفًا على رقعة رمايتها؟ وكيف سنواجه حكومة إسرائيلية يجمع الكل على أنها ستكون آية في اليمينية والعنصرية، مدعومة من امريكا ويرقص في احضانها «أشقاؤنا» العرب و»حلفاؤنا» من أتراك وصرب وغجر؟  كم تهكمنا على «شيطنة» ليبرمان حين اقترح على أبناء المثلث الفلسطينيين، أن ينعموا بالسيادة الفلسطينية، مؤكدًا على انهم سيبقون في أرضهم وإسرائيل هي التي ستنقلع عنهم وتنقشع!
سبّب عرض ليبرمان إحراجًا صارخًا لكثير من المواطنين العرب، ولقياداتهم التي تلعثمت، لأنها كانت تتكئ على معادلة مواطنة عاقرة؛ واليوم، بعد هذا الحشد الأمريكي للفكرة، صار إحراجهم عاريًا وقد يصبح قاتلًا؛ فالاكتفاء، كما فعل البعض، بإهمال الفكرة أو برفضها بحجة أن الناس ليست سلعًا يُتلاعب بمصائرها، يعكس وجود أزمة سياسية جدية بينهم، ويكشف عن عورة هؤلاء السياسية وعن قصور حججهم غير المقنعة.
قليل من التشاؤم لن يضر وهو أفيد من تفاؤل كذاب، خاصة إذا كنا في ذروة العاصفة. علينا، كمواطنين في دولة تستعدينا حكوماتها، أن نبدأ، بجدية وبحزم، في تحديث صياغة معادلات وجودنا وعلاقتنا بها؛ شريطة أن نفعل ذلك بجرأة وبإصرار واع، على أن «مواطنتنا» هي سقفنا الحامي والأضمن وهي الكفالة لبقائنا هنا.
فإما أن نصحو من أحلامنا الواهمة، وإما سيكون ما قاله ليبرمان بداية نهايتنا؛ والبقية ستأتي من عند السيّد «بلفور الجديد» ومعه من كنا نسميهم الإمبرياليين والرجعيات العربية وعتاولة الصهاينة الساعين نحو وطن يهودي خال من العرب.. ومن الاغيار.
كاتب فلسطيني

 

 

ماذا بعد

سقطة حزب ميرتس؟

جواد بولس

 

سيتوجه اسرائيليون، في الثاني من آذار/مارس المقبل، إلى صناديق الاقتراع لينتخبوا ممثليهم في الكنيست، وذلك على أمل أن تُمكّن النتائج، هذه المرة، أحد الحزبين الكبيرين، حزب الليكود برئاسة بنيامين نتنياهو، أو حزب كاحول لافان برئاسة بيني غانتس، من تشكيل الحكومة المقبلة، وهي المهمة التي لم تنجز بعد معركتين انتخابيتين متتاليتين.
من المؤكد أننا سنواجه، نحن المواطنين العرب في إسرائيل، خلال الفترة التي ستسبق يوم المعركة، القضايا نفسها التي أشغلت منصاتنا، وسنتعرض مجددًا إلى معظم المشاهد التي رافقت تداعيات الجولتين السابقتين.
ستمارس قطاعات معروفة بيننا عاداتها العلنية في تكرار آيات اليأس الموروث بثقة «نبوية» لا تكلّ، وفي المقابل، سيسير إخوتهم نحو ذلك الكرمل «الذي فينا» ليحاولوا، مرة أخرى، رغم رحلتهم الصعبة، أن يمسكوا بضفائره الخضراء ويربّوا، من أجل أبنائنا، على سفوحه المتعبة، بعض الأمل.
كلنا نلاحظ سرعة وخطورة التغييرات الحاصلة داخل المجتمع اليهودي، لكن الكثيرين، رغم ذلك، يتصرفون، للأسف، وكأنهم، وحدهم، ورثة وعد السماء الذي لا يقهر، أو الممسكين، من عهد عاد، برماح الدهر التي لا تكسر. لم يتغيّر الكثير على الخرائط السياسية في هذا العام، بل حافظت المعسكرات الناشطة بيننا، على مواقعها وعلى جنودها، فالداعون للمشاركة في الانتخابات، سيحاولون إقناع الناس بصحة نداءاتهم وسلامة رؤاهم، وسيكون برهانهم على ذلك أنهم أفشلوا، في الواقع، محاولات نتنياهو لبناء واحدة من أخطر الحكومات التي كنا سنواجه نيرانها الحارقة، بينما سيدّعي، في المقابل، المنادون بمقاطعة الانتخابات، بعدم وجود فرق بين يمين ويمين، وبينهم وبين ما يسمى باليسار، فكلهم في الصهيونية همّ وبلاء. لقد شهدنا، رغم المراوحة السياسية في الوسطين اليهودي والعربي بشكل عام، تطورين خطيرين، يصحّ اعتبارهما مؤشرين قاطعين مقلقين على حقيقة وصولنا إلى نهاية المنزلق الخطير، الذي وصفنا ملامحه خلال تكوّنها في السنوات الماضية:
أولهما مطالبة حزب الليكود بشطب ترشيح النائبة العربية من حزب التجمع، هبة يزبك ، بحجة دعمها للإرهاب، وهي وإن لا تعتبر سابقة، إلا أن احتمالات نجاحها هذه المرة تبقى مفتوحة على جميع الجهات، وثانيهما اندماج حزب «ميرتس» مع حزبي «العمل وجيشر» في قائمة واحدة، بعد أن تآمروا على «دفش» ترشيح أبرز ناشطيه، النائب العربي عيساوي فريج، إلى مقعد مهزوز في العشرة الثانية، مما شكّل صفعة مدويًة لجميع من راهن مثلي، رغم مواقف هذا الحزب السلبية في الماضي، على احتمالات ضمه كحليف لبعض نضالاتنا المستقبلية.

في السياسة فرق بين خيبة الأمل الحقيقية والضرورية ، فسياسة بدون بصيص أمل تعادل سياقة قطيع، قد يكون من الغزلان نحو العدم

رغم الغضب على هذه الخطوة، إلا أنني لم أفهم أين المنطق عند من فرحوا لانحراف حزب «ميرتس» وزغردوا بعد جنوحه يميناً؟ ما الفائدة السياسية من وراء ادعاء وتباهي هؤلاء بصحة «نبوءتهم» وتحققها، حسب رأيهم، وثبوت استحالة وجود أي جسم صهيوني «إيجابي» وحليف لنضالاتنا ومطالبنا نحن العرب في إسرائيل؟
يوجد في السياسة فرق بين خيبة الأمل الحقيقية والضرورية والمبررة أحيانًا، وبين الاعتداد بديمومة حالة العجز، والتنبوء بحتمية الفشل، فسياسة بدون بصيص أمل تعادل، في حالتنا، سياقة قطيع، قد يكون من الغزلان، نحو العدم. إيماننا بضرورة خلق حلفاء من بين اليهود لنضالاتنا المحقة، هو واجب ومسؤولية نضالية كبرى، وعلينا ألا نتخلى عنه، حتى إذا ذقنا طعم الخيبة وراء الخيبة، وشعرنا بأن هذه المهمة، بسبب الواقع السياسي المستفز داخل المجتمع اليهودي، صارت عسيرة وأعز «من بيض الأنوق».
قد لا تؤمّن لنا الانتخابات المقبلة إنجازًا وازنًا، وقد نعدم وسائل التصدي الكامل لسياسات الحكومة المقبلة، لكنّ ذلك لن يجرنا لنرضى بإغواءات المستحيل، فعلى من يصفق لاشتداد الظلمة في فضاءاتنا، أن يهدينا إلى دروب النجاة، وعلى من يفرح لانسداد فسحات الأمل أمامنا، أن يأخذنا نحو طاقات الياسمين، لأن الإيمان وحده، بأن الغد قد يكون أحلى، شيء جميل، لكنه سيبقى مجرد شطحات جدة ساذجة وضرب من العبث. لقد رفضت في الماضي نداءات مقاطعة الانتخابات، وأرفض اليوم، بعد خطوة حزب ميرتس، تعليلات من ينادي بها، فاستكانة أي مجموعة سكانية تناضل من أجل بقائها ونيل حقوقها، لحاضر عاقر لا يطرح حلولًا، وقبولهم ذلك الحاضر كواقع أجازته تجارب الشعوب، هو بمثابة استسلام المهزوم لضحكة النرد، أو اللهو على موسيقى هتافات ثوري ساهِمٍ عن مقصلة تسقط بصمت على عنقه.
قد نفشل، بالانتخابات فقط، في مواجهة فرق الذئاب الجائعة، لكننا، من المؤكد، لن ننجو من أنيابها، بالصراخ ولا بانتظار «ظهر الغيب»، أو بالتمني وبالدعاء فحسب، فالأيام، مذ وعت الخليقة، دول، «والدهر قلّب والليالي حبلى» ولكل دولة سماء ولكل دهر فارس وحاكم وجنود.
لم أفرح لأن حزب ميرتس قد تعرّى تمامًا وأظهر للعالم كامل قبحه،، بل زادتني سقطته همًا وهِمّة، فأنا عندما أشعر بالنيران تأكل أحضاني، أحاول أن أطفئها واخوتي، وإذا لم ننجح أسعى لأجد من يساعدنا قبل أن نهلك. لا تخفي أحزاب اليمين برامجها السامة تجاهنا، نحن المواطنين العرب في إسرائيل، وهي بذلك لا تبقي أمامنا هوامش للمزايدات والمناورات، ولذلك أدعو كل من يسترسل بوصف وحشية هذه الاحزاب ومآربها، أن يُفهمنا من سيمنع كتائبها/دواسرها من تنفيذ ما جاء في برامجهم الانتخابية المعلنة؟ وكيف يمكن، إذا تخلينا عن ساحة البرلمان، وما تتيحه لنا من هوامش نضالية مواطنية ضيقة، أن نواجه، ونحن على ألف ملة ورأي، مخلوقات نهمة وهي قريبة من إحكام سيطرتها المطلقة على الغابة وفرض قوانينها؟ لقد صرخنا، قبل خمسة عقود بأن «الفاشية لن تمر» فمرّت ولم يبق في حناجرنا سوى الرماد و»بنات الجبال» والأسى.
كبرنا على حلم أبائنا بعرى «الناصر والبنا وعفلق» فكذبت وعودهم وصدق ابن الشام، نزار، لأننا هنا، في الشرق «نبيع الشعارات للاغبياء، ونحشو الجماهير تينًا وقشًا ، ونتركهم يلوكون الهواء». نُكبنا وانتكسنا فتعلّمنا تراتيل السياط فصرنا إلى انفسنا أقرب. صمدنا واشتد عودنا فخافت إسرائيل ودسّت أسافينها في عظامنا حتى بنَت الفاشية أعشاشها على خرائب أحلامنا، وجثمت كالطود على صدورنا المقروحة.
ستبقى مهمة ايجاد الحلفاء بين اليهود صعبة، لكن سيكون صمودنا بدونهم أصعب.
مع ذلك، فانا لا انكر حق من رفع شعاراته، قبل سبعين عامًا، أن يرفعها، رغم تقلب الحقب، اليوم، ولا أنكر عليه إيمانه بأن ما حصل لنا كان مجرد غفوة دهر عابرة، وما إسرائيل إلا كمثل غمامة صيف عابرة، ولا انكر على من يؤمن وينتظر أن ترسل السماء، في ليلة قمراء، حجارتها، لتغدو بعدها «تل أبيب تلة من رماد» وليصير شعبها رذاذًا للعدم، كما جاء في النشيد!
أقول عجبي! فلهم ما شاؤوا ولإسرائيل الرعونة وشهوة البطش، ويبقى واجبنا، نحن ابناء الخوف على مستقبل ملتبس، أن نؤمّن حياة أولادنا، كما أمّن أباؤنا بقاءنا في الوطن، فمن يعجز عن تدبير شؤونه في الغابة لن يسمع ضجيج الوحش ولا بكاء سقوط الشجر. لسنا بحاجة إلى مراجعة تاريخ سبعة عقود، بل يكفي أن نرى ما حصل خلال عقدين من الزمن، لندرك كيف تحولت زمر المأفونين العنصريين، وغلاة الدعاة اليمينيين من شخصيات غير مرغوب بها، على المستويين الرسمي والشعبي، والمرفوضة بعرف القانون وتعريفاته، إلى قادة يتصدرون واجهات الأحزاب وزعماء تتحكم في رقاب السلطة وتنتظر لحظة سقوط القمر.
عندما طالبوا شطب ترشيح النائبة السابقة حنين زعبي، راهنت، في حينه، على أن المحكمة العليا الاسرائيلية ستمنع شطبها، وكتبت «عندما يكون العدل ورطة» في إشارة إلى التناقض العميق بين شعارات حزب التجمع، ولجوء قادته إلى المحكمة الاسرائيلية لطلب عدلها، أما اليوم، فأنا لا أستطيع، في حالة النائبة هبة يزيك، أن أراهن على النتيجة نفسها، ففي هذه السنوات القليلة صار العدل في القدس أقرب إلى حكمة الدم، ذلك الذي شهدته اوروبا بعد سقوط برلين في أنياب برلمان متوحش احتلته قطعان من الشياطين العابثة في انتخابات برلمانية «حرة».
كاتب فلسطيني

 

 

الحرية للأحمدين

قطامش وزهران

جواد بولس

 

وصلت إلى بوابة سجن «عوفر» الإسرائيلي في تمام الساعة الثانية عشرة والنصف؛ ولم أنتظر في الخارج طويلًا، فاسمي كان مدرجاً أمام السجان الذي أدخلني واستلم بطاقتي مستدعيًا، على الفور، زميلًا له آخر ليصحبني إلى غرفة زيارات الأسرى.
سلمت هاتفي ومفاتيحي ووقفت انتظر في ذلك البهو الصغير الباهت. شعر السجان، مستقبِلي، بحرجي، فحاول أن يكون لطيفًا معي وراح يطرح عليّ بعض الأسئلة العابرة في محاولة منه لتخفيف عبء الوقت. كانت لفتته بسيطة وعفوية؛ فهو يعرف أن المكان منفّر للزائرين مثلي، وأن البقاء فيه، حتى ولو لبضع دقائق، قد يشوّش قدراتهم على التركيز ويعطّل عمل معظم حواسهم.
في الجو برودة خبيثة وصدى ضجيج أبواب الحديد، وهي تفتح وتغلق بشكل هستيري، يغور في الصدر كخنجر، ويسكن زنّ الصافرات الذي يرافقه في الأذنين فتعتاد، بتلقائية مرضيّة، على إزعاجه؛ والأنف يفقد قدرته على تشخيص روائح القهر المكّدسة في زوايا المكان، لأن الهواء هناك أسير ينام بلا ذاكرة ويفيق بلا روح.
كان السجان واقفا وراء الزجاج يفتعل انهماكًا، يوفر عليه تبعات محادثة غير متكافئة. نظر إليّ، فبدا وجهه مألوفًا، وسأل كيف حالك يا سيّد بولس؟
لم ينتظر الرد، بل أردف متسائلًا، مع بعض المزاح الخفيف «ما زهقتش هذا الشغل يا رجل؟ صار لي بسمع اسمك شي عشرين سنة وبعدك رايح جاي على هالسجون».
حاولت أن أصحح «عشرينه» بأربعيني؛ لكنه خرج من «قفصه» وطلب أن أتقدم نحو جهاز التفتيش الكهربائي، فعليّ أن أعبر بين ساقيه بدون أن يصفر. أنهينا هذه المرحلة بسلام؛ فحيّاني وأخبرني أنه يسكن في إحدى القرى المجاورة لقريتي الجليلية، كفر ياسيف. حمّلني سلام الجار للجار، وسلمني إلى سجان شاب، ما زالت آثار المراهقة بادية على جبينه الخجل.
أُحبُّ زياراتي لأسرى الحرية في سجون الاحتلال؛ ولا أتخيّل نفسي محاميا بدونها؛ فهي لي كالأوكسجين وقبلات النخيل للندى، أفتح للأسرى، من خلالها، طاقات صغيرة على دروب الفل والأمل، وأمسح عن ليلهم أنفاس السأم وريق الوجع. في هذه الزيارات، وأنا أجلس وراء الزجاج، قبالة أحمد أو سلامة أو هدى أو عدنان، أمتحن صبا قلبي؛ وأحتضن بعد كل تنهيدة ودمعة، نهد فجر فلسطيني يقطر حبًا ويبشر بالجنى.

أُحبُّ زياراتي لأسرى الحرية في سجون الاحتلال؛ ولا أتخيّل نفسي محاميا بدونها؛ أفتح للأسرى من خلالها، طاقات صغيرة على دروب الفل والأمل

 نسير في الساحة فتظهر لنا أعمال بناء أقسام جديدة في جميع جنباتها. أحاول أن أجهّز نفسي للقاء الأسير أحمد قطامش؛ فلقاء من شارف على السبعين من عمر بلوري، يحتاج إلى صبر فريد وإلى دربة ناضجة وإلى حنان واسع.
أحمد صديق عتيق، تعرّفت إليه في سجن الدامون في منتصف تسعينيات القرن المنصرم، حين اعتقلته قوات الأمن الإسرائيلي للاشتباه بكونه ناشطًا خطيرًا في تنظيم «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين». اكتفوا بالشبهة، فسجنوه إداريًا لمدة ناهزت ستة أعوام متواصلة، من دون تقديم لائحة اتهام بحقه، أو مواجهته بما لديهم من بيّنات أو إعطائه الفرصة للدفاع عن نفسه امام المحكمة. شاغلت نفسي، وأنا انتظره، بمراجعة تفاصيل ليلتي السابقة: ففي حدود الساعة التاسعة ليلًا، توجهت إلى مستشفى «كاپلان» القريب من مدينة «رحوڤوت»، حيث كان يرقد الأسير أحمد زهران، ابن قرية «دير أبو مشعل»، المضرب عن الطعام منذ شهر أيلول/سبتمبر المنصرم.
يناديه رفاقه «بأبي رسيلة»، هي ابنته الكبرى، وهو معتقل إدارياً منذ عشرة شهور بدون تهمة، بل للاشتباه بأنه ينشط في صفوف تنظيم «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» فحسب. أعلن أحمد الاضراب عن الطعام في آذار/ مارس المنصرم، وأوقفه بعد أن وعده سجانوه  بالحرية؛ وحين نكثوا وعدهم، عاد فأضرب مصممًا هذه المرة على نيل حريته أو الموت على صليبها الاحمر.
وصلت برفقة صديق إلى قسم الأمراض الباطنية في المستشفى، كان الصمت يخيّم كالمرض على الممرات المظلمة المشبعة برائحة النوم، فتوجهت مباشرة إلى غرفة، وقف على مدخلها حرّاس من سجون الاحتلال، حيث كان أحمد زهران ينتظرني يقظا كنمر. رآني فتبسم. التقطت نبضه من بعيد وشعرت كيف ولماذا لا تشيخ القلوب المحبّة. جلست بجانبه، على الفرشة، ولاحظت كيف سرق الجوع من وجهه النضرة، فبدا كابن ستين، أي أكبر من عمره بعقدين. فهمت أن مجموع ما أمضاه في سجون الاحتلال يصل إلى خمسة عشر عامًا. كان جسمه ضعيفًا كالرمح وفيه انحناءة جليلة؛ قعد امامي وقبّل جبيني فضممته وانطلقنا إلى حيث كان يشتهي، ومضينا معًا نحو النجوم.. أفقت من الذكريات حين أحضروا أحمد قطامش من قسمه، فصافحته قبل أن يجلسوه خلف الزجاج. نظر إليّ بشموخ لم يغب عن وجهه رغم التعب، ورغم علامات المرارة والمرض. شعرت بغضب يفرّ من صدري وخفت أن يشعر به صديقي فاخفيته بعناء شديد.
ماذا يريد الاحتلال من أحمد قطامش بعد هذه السنين الطويلة من الملاحقات والمضايقات، وبعد ثلاثة عشر عامًا من الاعتقالات الإدارية المتقطعة. كنت أهدس بصمت، ففاجأني، وكأنه كان يسمع تمتمتي، وتساءل، بصوته الهادئ المعهود: ماذا يريدون مني بعد هذا العمر؟ فأنا اليوم ابن سبعين عامًا وقد خبرت كيف يكتب الطغاة تاريخ الدم وعذابات الأمم، وكيف تخدع الأساطير صنّاعها؛ فأمثالي ينامون كي ينسوا وخزات الخيبة والسهر، ويفيقون كي يحلموا بغد بعيد قبل سقوط القمر. ماذا يريدون مني وقد صرت مثل عامود من الغمام، فلا فأسهم ستنفع ولا يأسي سيسكت في صدري هديل الحمام. سمعته بفرح حزين. تحرشت بوجعه وطلبت أن أسمع منه المزيد. وضع أصبعه على صدغه للحظة ثم بدأ يرسم لي، بكفه، خريطة مشاعره وحدود آرائه؛ ففهمت انه يتقبل، بواقعية عاقلة، أوضاع الحركة الأسيرة كما يعيشها الأسرى هذه الأيام، فهي عمليًّا مرآة حقيقية لحياة الشعب الفلسطيني في جميع أماكن تواجده. وأضاف أنه يعي أننا نعيش في مرحلة تاريخية جديدة، وأن كثيرًا مما بنينا عليه في سنوات المطر قد سقط واندثر؛ فلكل زمان عبيده ورجاله. كان متفائلًا وواقعيًا ويعرف أن العسل الأسود قد يكون أحيانًا مرّا.
لم يخفِ شوقه لمن ترك وراءه في الدار وفي شوارع رام الله المتعبة التي يحبها. حدثني عن ذلك، فبرقت عيناه كعيني طفل وصار صوته كناي يملؤه الحنين والجوى. تحاورنا كما يليق باثنين جمعتهما الأيام على ضفتين، مرة من ورد ومرة من سراب. واتفقنا على أنهم يريدونه، حتى في سبعينه، وراء القضبان، لأنهم، كطغاة، لا يحتملون من يرشّون، مثله، الزهر «أفواهًا على الطرقات» كي تقبّل أقدام الأحرار والمناضلات. وافقني لكنه استطرد متحفظًا وقال: «لكنها الحرية.. تبقى أنفس القيم الانسانية» ثم أضاف، كي لا أسيء فهمه، أنه يربيها بين ضلوعه، كما دأب أن يفعل في كل سجناته السابقة؛ لكنها، هذه المرة، تشاكسه وترفض، في هذا العمر، أن تبقى حبيسة، لأنها كانت وبقيت كنز الشعوب المقهورة، «والطفلة الوحشية» التي لا يخيفها ظلام ولا يقلم أظافرها سجان.
ضحكنا معًا؛ ثم سألني عن زيارتي لمستشفى «كابلان»، وقد سمع عنها في الأخبار؛ فأخبرته أن أحمد زهران قد أوقف إضرابه خلال زيارتي له، وذلك بعد أن وافقت النيابة على أن تقوم أجهزة الاحتلال الاسرائيلي بالتحقيق العادي معه، بعد استعادته لصحته؛ فاذا لم يفضِ ذلك التحقيق إلى أي تهمة ضده فسيتوجب عليهم الإفراج عنه؛ علمًا بأن أمر الاعتقال الاداري الحالي ضده ينتهي في السادس والعشرين من شباط/فبراير المقبل، فارتاح لسماع التفاصيل. ودّعته، بعد أن اتفقنا على أن اعتقاله الحالي لا يختلف عما سبقه، ومثل تلك الاعتقالات، حتمًا سينتهي، ليعود «الأحمدان» ويفرشا الورد أفواهًا على الطرقات كي تقبّل أقدام الأحبة والأحرار.
كاتب فلسطيني

 

 

 

العرب في إسرائيل

والمقاطعة المستحيلة

جواد بولس

 

في أعقاب الهجوم الذي تعرّض له الفنان الأردني/الفلسطيني عزيز مرقة، بعد تقديم عرضه الفني في قرية كفر ياسيف الجليلية في السادس عشر من كانون الأول/ ديسمبر المنصرم، وبعد اضطراره للاعتذار أمام مهاجميه من ناشطي ما يسمى «اللجنة الفلسطينية لمقاطعة إسرائيل من الداخل» (BDS 48) وغيرهم من أعضاء حركات المقاطعة – نشرت ابنة كفر ياسيف، الفنانة اللافتة أمل مرقص، على صفحتها تعقيبًا صاخبًا، أنهته بفقرة غاضبة ومغضبة فكتبت: «بكفي قرفتونا! مش هيك بتتحرر فلسطين! ما حدا علّم أبوي وإمي وستي من قبلهم كيف يكونوا وطنيين داخل وطنهم، ولا احتجناكم تشرحوا لنا معنى الصمود بالوطن، لأننا صمدنا أكثر منكم.. ولا احتجنا مشورتكم ليكتب ويبدع توفيق زياد وإميل حبيبي ومحمود درويش وسميح القاسم وليرسم عبد عابدي وليبدع المخرج رياض مصاروة والآلاف غيرهم».
أحدثت صرخة هذا «الأمل/الوجع» تفاعلًا لافتًا على وسائل التواصل الاجتماعي، فأيّدها الكثيرون وهاجمها آخرون؛ ولكن مناكفات أكثرية مهاجمي ذلك الإعلان بقيت أسيرة لخلفيات المشاركين الحزبية والسياسية الضيقة، وبعيدة عن سبر روح ذلك الوجع ومناقشة أسبابه.
لا أنوي هنا طرح قضية «صراع الأيديولوجيات» المحلي، رغم أهميتها وتأثيرها على حجب إمكانيات خوض نقاش موضوعي ومثمر بين الفرقاء، لاسيما في قضايا خلافية مهمة. فالمؤسف، في حالتنا، هو كيف تتناول مفاعيل مجتمعنا القيادية والنخبوية قضية حارقة، اختار لها بعضهم اسمًا مغالطًا حين أطلقوا عليها اسم الحركة «لمقاطعة اسرائيل من الداخل». ورغم الأضرار التي تُسبّبها بعض أنشطة هذه المجموعات، التي تدعو إلى المقاطعة على أنواعها، ما زالت مواجهتها أو مناقشتها أو تقييمها يجري بإهمال واضح أو باستخفاف مستفز أو بمزايدات معهودة؛ فحملات مقاطعة الأدباء والمبدعين والفنانين العرب والعالميين، للنشاطات الثقافية بيننا، نحن المواطنين العرب في اسرائيل، تعدّت كل الحدود وتجاوزت المنطق؛ وباتت، في بعض تجلياتها، كالسيل.. ما أغشمه وما أضر منه!
على جميع الأحوال، فإنّ عزيز مرقة لم يأت إلى كفرياسيف مطبّعًا، بل على العكس تماما؛ فهو حين وقف على المسرح قرب ساحة السوق الكفرساوية الشهيرة وحيّا فلسطين، وهو يضم كوفيتها بعفوية ساحرة، روّى حناجر الشباب بحماس وأسقاها حبًا أعاد إلى ربوع الجليل وعد أبائنا الصادق. كان المشهد مؤثرًا ولن تنافسه نداءات المقاطعة ولا ضجيجها؛ فهناك، في بقعة الضوء الجليلية العصية على النسيان، وقفنا، طيلة أربع ليال عامرة، على أهداب النشيد، وتذكرنا سمرة الشاعر راشد حسين، حين رفع قبضته/الجمرة، في أواخر خمسينيات القرن الماضي، ودفعها نحو صدر الحاكم العسكري الاسرائيلي ورمى بعدها، على الملأ، وعد الأحرار وقال: «اليوم جئت وكلنا سجناء، فمتى أعود وكلنا طلقاء؟».
لست متأكدًا كم من الحاضرين يعرفون مثلنا، نحن أبناء ذلك القلق، ماذا يعني فيض الفرح في ساحات البلد؟ ولست متأكدًا كم تعرف أجيال اليوم، مثلنا ومثل ما يعرفه كل من غنّى صغيرًا، كأمل مرقص وأترابها، على بيادر الحرية الحمراء وشرب العزة من عيون ماء تلك القرى الأبيّة، بأن بعض السواعد قد تلاطم المخارز؛ لكنني رغم قطيعة البعض مع ذلك الماضي، على قناعة بأن حضور عزيز مرقة وغناءه بين أهله في الجليل، بخلاف لو غنى في احتفال ترويجي لمؤسسة صهيونية مثلًا، لم يكن تطبيعًا مع الاحتلال؛ وبأنّ صوته بقي نقشًا على صفحة هوية جيل لا تخشى الهرطقات المستوردة ولا السفسطائية المراهقة. اعتذر عزيز مرقة أمام من هاجموه فأحزننا وأبكى النجوم في السماء؛ لأنها، ربما هو لا يعرف، شاهدة على مسيرة جيل يصحو ليقفو أثر جيل «عزيز»، وليغني كما غنى «السالم» «والسميح» «والمحمود» «والراشد»؛ ولتردد معهم الناس «يا كفرياسيف أردتِ لقاءنا، فتوافدت للقائك الشعراءُ».. والمغنّون والفنانات والأدباء. القضية لم تبدأ بزيارة عزيز مرقة ولن تنتهي عندها؛ وكما قلنا في السابق، فقد أدرك، فيما يبدو، من بادر إلى إقامة لجنة المقاطعة المذكورة والناشطة تحديدًا داخل إسرائيل، وجود تعقيدات في خطابها ستمنع حتمًا ترجمته على أرض الواقع. فبعد أن أجازوا للناس العمل في ثلاثة ميادين ملتبسة، كما أوضحنا في مقالتنا السابقة، ورسموا لها حدودًا مائية، تساءلوا كيف يمكن إذن الإسهام في حملة المقاطعة داخل اسرائيل؟

إخضاع المجتمع داخل اسرائيل لمفاهيم المقاطعة الثقافية محاولة عاقر لا تؤدي إلى إنجازات تصب في صالحنا

أنصح القراء أن يراجعوا مجموعة المعايير التي نشرتها اللجنة، وطالبت الناس الالتزام بها؛ فجميع ما ذكروا يثير، برأيي، ما لا يمكن حصره من التساؤلات والأسئلة، في مقالة ولا في عشر مقالات، ويستدعي، بالتالي، رفضه بشكل قاطع؛ ببساطة، لأن محاولة إخضاع مجتمعنا في داخل اسرائيل لمفاهيم المقاطعة الثقافية هي محاولة عاقر لا يمكن أن تلد مخارج واقعية مقبولة، ولا أن تؤدي إلى إنجازات تصب في صالحنا، والى خسائر بحق إسرائيل. لا يكفي أن يحظروا علينا كمواطنين في اسرائيل أن «نمثّل الدولة أو مؤسساتها الخاضعة للمقاطعة في المحافل الإقليمية والدولية»، بل عليهم أن يشرحوا لنا كيف يتّسق هذا الحظر ونضالنا للحصول على جميع حقوقنا المدنية، وعلى نصيبنا من الوظائف في جميع مرافق الدولة ومؤسساتها، وعلى حصصنا المتساوية في مقدرات الدولة ومصادر الدخل فيها؟ إن مجتمعنا يفاخر بتحصيل أبنائه العلمية، ويطالب، بحق، بأن تستوعب مؤسسات الدولة وأسواقها التشغيلية هؤلاء الرواد بأهلية كاملة، وبما يليق مع كفاءاتهم العلمية والمهنية. لقد بلغت نسبة الأكاديميين، بين المليون والنصف مليون عربي في اسرائيل 12.1%، حسب التقرير السنوي الصادر، في نهاية العام المنصرم عن «جمعية الجليل». واذا توقفنا مليًا عند هذا المعطى، سنجد أن آلافًا من بين هؤلاء الأكاديميين يتبوّأون مناصب عليا في عشرات الشركات الكبرى والمعاهد العلمية العليا والمستشفيات والمصانع والمحاكم والمصارف. وعليه، كيف يتوقع واضعو قواعد المقاطعة أن يتصرف العربي رئيس بنك لئومي – «البنك القومي الإسرائيلي» – الأكبر من بين مصارف اسرائيل، إزاء منصبه، خاصة وقد فاز به مؤخرا بعد منافسة شرسة مع عدة مرشحين يهود زاحموه على هذا المنصب؟ وكيف سيمتنع البروفيسور حسام حايك أن يمثّل المعهد التطبيقي للعلوم (التخنيون) في المحافل الدولية، وألا يستعرض إنجازات هذا الصرح العلمي الذي يقف بين طلائعيّيه بعض الاساتذة العرب البارعين؟ خاصة إذا عرفنا أن حسام حايك قد انتخب قبل أيام، بجدارة لا بواسطة تدخل مختار أو عقيد أو وزير أو أمير، من قبل مجلس عام المعهد، كعميد عام لدراسات التأهيل (اللقب الاول) وهو منصب يتضمن المسؤولية على عشرة آلاف طالب وعلى 1500 محاضر.
وكيف كان المواطن العربي، ابن كفر ياسيف، البروفيسور ميخائيل كرينّي، الذي شغل منصب عميد كلية الحقوق في الجامعة العبرية مثلا، سيقاطع تمثيل جامعته الصهيونية في «أنشطة تنظمها وترعاها المؤسسات الصهيونية الدولية في إسرائيل أو في الخارج»؟ وهو لم يكن العميد الوحيد في جامعات الدولة، أو هل يوفر، في رأي لجنة المقاطعة، القضاة العرب العاملون في سلك القضاء الإسرائيلي «غطاءً فلسطينيًا، أي «ورقة توت»، لمن يخالف معايير المقاطعة»؛ وهل ستطالبهم اللجنة بالاستقالة؟ أم أن على اللجنة ملاحقتهم ومطالبتهم بأن يقسموا يمين الولاء لفلسطين أو لآل عثمان أو للشام أو لقطر؟ وكيف سيرفض عشرات رؤساء أقسام التطبيب العرب في مستشفيات الدولة، أن يرأسوا أو «يشاركوا في وفود اسرائيلية (رسمية أو برعاية منظمات صهيونية عالمية) في زيارات دولية» وألا يستعرضوا منجزاتهم العلمية الرائدة في العالم؟ لن استرسل في إعداد هذه القوائم، ففي كل مجال وميدان نضع إصبعنا عليه، سنجد أن الحديث عن «المقاطعة الثقافية» هو ضرب من باب التعجيز وممارسة رومانسية ستغرقنا بشعارات لا طائل تحتها وستخلق بيننا البلبلة وتزرع الفرقة.
وبحسب «جمعية الجليل»، فقد عبّر 82.5% من الأفراد المقيمين في البلدات العربية غير المختلطة عن درجة أعلى من الرضا عن حياتهم في الدولة! وأعتقد أن التمعن فيما يحمله هذا المعطى من مؤشرات، سيمكّن القيادات والمسؤولين من رسم خرائط علاقاتنا المرجوّة، نحن المواطنين العرب في اسرائيل، مع الدولة؛ وفي المقابل، مع حلفائنا ومع أعدائنا على حد سواء. وإلى أن نصل ذلك الجسر بأمان، لن أقبل بوصلة إلا ما علمتنا اياه كفر ياسيف، التي آوى إلى حضنها، قبل عزيز مرقة، بعقود، العشاق والكادحون والمناضلون والشعراء، بعد أن أحسوا، كما عبّر بالنيابة عنهم حبيبها الدرويش في كتابه «حيرة العايد»، انها «البيت والطريق» وبعد أن دلّتهم في تلك الأيام: « على بوصلة الشمال، على أوّل الوعي، وعلى أوّل الطريق وعلى أوّل الخطوات؛ على السجن الأوّل، وعلى حرياتنا الصغرى، وعلى طموحاتنا الأولى وعلى خياراتنا الصعبة، وعلى أوّل الكتابة، وعلى ما يدلّنا على أننا جزء من جماعة قومية، أيام كان انتماؤنا لمصلحة الشعب العامة، لا للعائلة أو القبيلة أو الطائفة».
فلا خوف، إذن، على ضياع من يدخلها آمنًا، لأنه سيبقى محصنًا وعصيًّا على أي «تطبيع».
كاتب فلسطيني

 

 

العرب في إسرائيل

 ولعنة التطبيع

جواد بولس

 

انتشرت في بعض القرى والمدن العربية في السنوات الأخيرة، ظاهرة إقامة أسواق عيد الميلاد (كريسماس ماركت) قد تكون أبرزها، منذ سنتين، تلك السوق التي بادر إليها ورعاها المجلس المحلي في قرية كفر ياسيف الجليلية.
وقد شهدت مسارح السوق مشاركة عشرات الفنانين والفنانات العرب المحليين، إلى جانب عدة فرق استعراض مسرحية شهيرة، فتنوعت العروض واستهدفت جميع فئات الأعمار من أطفال وشباب وبالغين.
وعاشت البلدة حالة من الفرح الراقي، خاصة بعد أن استقطبت فعاليات سوقها آلافًا من أهلها، ومن أهل القرى المجاورة، على جميع انتماءاتهم الطائفية وشرائحهم الاجتماعية، ومثلهم عشرات آلاف الوافدين إليها من كل حدب وصوب. نجحت هذه الأسواق، رغم حداثتها، بخلق حالة من التفاعل الاجتماعي العريض المحمود، وتحوّلت إلى مشهد ثقافي حضاري جاذب ومعاكس لحالة السبات والنكوص، التي سادت غالبية تلك البلدات؛ كما شكلت روافع اقتصادية مهمة للمشاركين المباشرين فيها، ولكافة مرافق البلدة على حد سواء. مع ذلك ورغم إيجابياتها الواضحة، واجهت هذه الأنشطة، كما كان متوقعًا، تضييقات وتهجّمات مختلفة، وقفت وراءها قوى عديدة، مختلفة الدوافع والمآرب؛ فرفض بعضهم الفكرة من أصلها وهاجمها، لأسباب عقائدية وسياسية مبطنة؛ في حين انتقدها آخرون أو هاجموا بعض محطاتها بحجج واهية، استفزت منظّمي الحدث، ولم تحظَ بقبول الناس. هذا ما حدث، هذا العام، عندما أصدرت لجنة تسمى «اللجنة الفلسطينية لمقاطعة إسرائيل من الداخل» (
BDS 48) بيانًا هاجمت فيه، في الثامن عشر من ديسمبر المنصرم، مشاركة الفنان الأردني/ الفلسطيني عزيز مرقة، لأنه «أصرّ على المشاركة في مهرجان «كريسماس ماركت» الذي أقيم في بلدة كفر ياسيف، الواقعة في أراضي 1948 في الفترة الواقعة بين 12-16 ديسمبر 2019 ، حيث تمثل هذه المشاركة خرقًا لمعايير المقاطعة الثقافية، ومعايير زيارة الفنانين/ات والمثقفين/ات العرب، كون المهرجان ينظم برعاية جهات إسرائيلية رسمية، كوزارة الثقافة والرياضة وشركات وبنوك متورطة في الجرائم الإسرائيلية ضد شعبنا الفلسطيني مثل، بنك «مركنتيل» الإسرائيلي المتورط في بناء المستوطنات ودعمها»، كما جاء في بيانها المعلن. وقد أثار هذا البيان موجة ردود فعل غاضبة، لا سيّما بعد أن تبيّن أن مُصدريه لم يتوخوا الدقة فيما نشروا؛ فقد قام بعضهم بتزوير القرائن التي أرفقوها لدعم موقفهم المذكور، مثل فبركتهم المغرضة لصورة الفنان على ملصق دعاية مزيف ؛ إذ تبيّن لاحقا أن أمسية عزيز مرقة قد نظمت بتمويل حصري من المجلس المحلي في كفر ياسيف، وهو مؤسسة عريقة يقف اليوم على رأسها المحامي شادي شويري، وهو شخصية وطنية مشهود لها، ومن دون دعم رعاة إضافيين؛ فالحفل لم يدرج ضمن البرنامج الأصلي المعلن على الملأ، الذي استمر من 12 إلى 15 ديسمبر، وذلك «مراعاة من المنظمين للوضعية الخاصة للفنان» كما جاء في بيان خاص أصدره رئيس المجلس، ردًّا على بيان لجنة المقاطعة.
على جميع الأحوال، وبدون تفنيد التفاصيل ولا التدقيق بمن يقف وراء تلك الحملة ومدى مصداقيتها، فإننا نواجه، مرة أخرى، فصلًا ملتبسًا من رواية مختلف عليها وحولها، حيث تحاول مجموعة صغيرة فرض أجندتها الخاصة على مجتمع كامل، وتسمح لنفسها، باسم وطنية سائلة، بملاحقة فنانين وأدباء ومثقفين، بحجة محاربة التطبيع الثقافي مع دولة الاحتلال، بوسائل قد تصل في بعض الأحيان، بسبب ظروف معيشة هؤلاء الفنانين في دولهم العربية، إلى حد تخويف هؤلاء الفنانين بأساليب تقترب من الابتزاز.

تحاول مجموعة صغيرة فرض أجندتها الخاصة على مجتمع كامل، وتسمح لنفسها، باسم وطنية سائلة، بملاحقة فنانين وأدباء ومثقفين

وقبل أن أمضي في مناقشة هذه المسألة عينيًا، وجب عليّ التوضيح والتأكيد على أنني أتطرق في هذه المقالة لقضية ما يسمى «محاربة التطبيع الثقافي» الذي يتعلق بنشاطاتنا، نحن المواطنين العرب في إسرائيل فقط؛ ولا شأن لها بحملات المقاطعة العالمية أو بما يجري داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967. وقد ناديت، وكثيرون مثلي في الماضي، كما ندعو اليوم، إلى مناقشة هذه القضية بشكل جذري شامل مسؤول؛ لأن التسليم بها، كواقع واضح المضامين والمآلات، لا يخدم مصالحنا العليا كمواطنين في إسرائيل، ولا يضر بمصالح إسرائيل، كما يدّعي أصحاب هذه الدعوات، بل ينفعها ويصبّ في صالحها وصالح دعايتها في كثير من الحالات. لم تغب تلك الإشكالية عن بال من بادروا إلى الإعلان عن تشكيل تلك اللجنة، بل أشاروا لها في وثيقتهم التأسيسية، حينما طرحوا تساؤلا مفاده أن «أول ما يتبادر إلى الذهن لدى قراءة عنوان هذه الوثيقة، أن تطبيقها في داخل دولة إسرائيل أمر مستحيل، فكيف يستطيع الفلسطينيون/ات مواطنو/ات الدولة أن يقاطعوا/يقاطعن ما يدور حولهم/ن من حياة تجارية واقتصادية وثقافية وحياتية يومية؟» ثم يجيبون على تساؤلهم فيقولون: «ليس الأمر كذلك، لأن معايير المقاطعة الخاصة بفلسطينيي الداخل (48) تختلف عنها في أماكن وجود الأجزاء الأخرى من الشعب الفلسطيني (67 والشتات)». لا أعرف الكثير عن هذه اللجنة ولا عن ظروف تأسيسها، أو عمّن ينشط في صفوفها، وما هي خلفيّاتهم أو حدود تجاربهم؛ ولكن على جميع الأحوال، لا يستطيع أحد أن ينكر حق المبادرين للإعلان عن إقامة لجنتهم، وحقهم في انتقاء المعايير بالشكل الذي فعلوه؛ بيد أن صمت وتقاعس وكسل ورياء معظم التيارات السياسية والمؤسسات والجمعيات، واللجان والنخب السياسية والثقافية القائمة والناشطة بين المواطنين العرب في إسرائيل، تبقى هي المشكلة الحارقة والمستفزة؛ فلولا هذا الصمت/العجز لما تركت نداءات «اللجنة الفلسطينية لمقاطعة إسرائيل من الداخل» العصا الغليظة الوحيدة المرفوعة في وجه من لا يتساوق، صاغرًا، مع مواقفهم؛ أو من لا يقبل تفسيرهم/تقييمهم لأي نشاط ثقافي قرروا معارضته، لأنه لا يتوافق، على الأغلب، مع مبادئهم السياسية الفئوية؛ أو من يرفض ذرائعهم الأيديولوجية، الكيديّة في بعض الأحيان، أو المدفوعة بوقود «أولترا- راديكالي» في أحيان أخرى.
لقد أعلنت اللجنة في وثيقتها المذكورة بأنها «وانطلاقًا من خصوصية وضع فلسطينيي 48، تميّز حركة المقاطعة، على سبيل المثال، بين مفهومي حقوق المواطن/ة والتطبيع». ثم جاءت على ذكر ثلاثة تصاريح فقط، يُحدّد بحسبها عرّابو هذه الوثيقة هوامش عمل المواطنين العرب في إسرائيل؛ فلا مانع مثلا «من الحصول على ميزانيات ثقافية وفنية وصحية وغيرها، من الوزارات الحكومية كحق طبيعي للمواطنين كدافعي ضرائب». ثم نقرأ ما يذكّرنا بنصوص «المطوّعين» القوميين، عن وجود أذون لنا بالإبقاء على علاقاتنا اليومية المعتادة، كفلسطينيين من 48، مع اليهود – الإسرائيليين، شريطة أن تبقى تلك العلاقات محصورة في أماكن العمل والدراسة والمشافي والمؤسسات وغيرها؛ فهذه العلاقات، في هذه الأماكن، لا تشكل تطبيعًا؛ كما لا يشكل النضال المشترك مع القوى الإسرائيلية المعادية للصهيونية ضد الاحتلال والابرتهايد تطبيعًا! تثير قائمة التصاريح الضامرة التي أجازتها هذه الوثيقة جملة من التساؤلات؛ فعلاوة على أسلوبها المدّعي المتعالي، فإنها تبث نوعًا من الاستسخاف بحقوق المواطنين العرب في إسرائيل، وقياداتهم ورموزهم السياسية والثقافية، وعدم احترام إرثهم وهويتهم الوطنية، وتاريخ نضالاتهم وصمودهم، منذ النكبة وحتى يومنا هذا، في وطنهم. علاوة على ذلك، وإذا دققنا في نصوص هذه الوثيقة، سنجد فيها غموضا وتناقضات واضحة، وأنها تتيح فرصا تسمح بتأويلها كيفما اتفق. فعلى سبيل المثال إذا كان استلام الميزانيات الثقافية من الوزارات الحكومية الإسرائيلية مسموحًا، كما جاء في الوثيقة، فلماذا يدعو أصحابها إلى مقاطعة من يشارك في نشاطات ثقافية، سبق و»أجازوا» تمويلها من وزارات حكومية كما تقدّم؛ خاصة إذا لم يكن هنالك خلاف حول فوائد هذه النشاطات الثقافية والاجتماعية والسياسية، بل كانت محط إجماع واسع بين المواطنين العرب وبين مؤسساتهم الرائدة في إسرائيل. ثم إذا كانت العلاقات بين العرب واليهود مسموحة في أماكن العمل والدراسة والمشافي والمؤسسات الإسرائيلية، فما مصير العلاقات في جميع المواقع الأخرى، التي تمليها ظروف الحياة المعيشية والضرورات الطبيعية اليومية في إسرائيل؟ هل سيكون الحل في ثنايا كلمة «وغيرها» التي جاءت بعد أسماء المواقع التي أجيزت فيها تلك العلاقات العربية اليهودية؟
وأخيرًا، إذا أجيز النضال اليهودي العربي المشترك ضد الاحتلال، وكان هدف هذه الإجازة الأول والأخير هو مقاومة الاحتلال وكنسه، فلماذا استثنيت منه تلك القوى اليهودية، التي تعرف نفسها بأنها صهيونية، بينما تعلن، في الوقت ذاته، عن وقوفها بشكل حازم ضد الاحتلال وضد سياسة الابرتهايد؟! لا يمكن اعتبار هذه الوثيقة «ألواح الوصايا العشر» فمن الواضح أن الذين رتقوا تفاصيلها قصدوا تفصيلها على مقاساتهم فقط، وتعمدوا توشيتها بخيوط عقائدية لا تجمع الناس تحت سقف القواسم العريضة المشتركة، بل على العكس من ذلك تماما. تساءل دعاة المقاطعة في وثيقتهم، كيف، إذن، يمكن الإسهام في حملة المقاطعة داخل الدولة؟
لقد حاولوا الإجابة بالغموض والتحيّز نفسيهما، وعن ذلك سأكتب لاحقا، لكنني إلى أن أفعل، الأسبوع المقبل، أجزم منذ اليوم بان مطالبة الفنان عزيز مرقة بمقاطعة احتفالات كفر ياسيف كانت مخطئة ومن غير وجه حق؛ ولو استجاب لها عزيز، لكانت إسرائيل، بلا أدنى شك، الرابح الأوحد؛
وعن ذلك وغيره سيتبع..
كاتب فلسطيني

 

 

خدوش على صفحة

هوية ملتبسة

جواد بولس

لا أكتب هنا مقالة علمية في مسألة الهوية الفلسطينية بكل تعقيداتها وتفرعاتها وما يعتريها من خضّات وتشوّهات محزنة؛ فكل ما في الأمر أنني أضع بعض «الخربشات» على صفحة تعاني، كما نشهد، بعض انكساراتها المؤلمة والمقلقة.

فلسطين تاريخ من الملابسات المزمنة

أشهد منذ سنوات كيف تتغير حياة الفلسطينيين بتسارع أسطوري؛ وأخالهم باتوا يعانون من أعراض فقر دم وطني مزمن، فيهابون، بسببه، سطوة المجهول، ويلجأون بسببه أيضًا، بعد كل هزيمة إلى خيمة الالتباس الوطني، فيحسبونها منقذهم أو قدرهم المحتوم. تجولت خلال أسبوع واحد في عدة مدن وقرى فلسطينية، فأرهقني ما سمعت وأوجعني ما شاهدت فيها. المقلق أن الناس تعيش هذا الواقع بحالة من استسلام طبيعي، ومن دون حيلة أو قدرة على مواجهته. ويعتبر البعض أن الانقسام القائم بين غزة ورام الله هو مصدر الخلل، والمسبب الرئيسي لفقدان التوازن الأهلي ولتمزق الهوية؛ بينما أراه أنا نتيجة حتمية لما سبقه من تطورات، أفقدت معظم الفصائل الوطنية والحركات الدينية أدوارها الطبيعية، وحوّلتها إلى مجرد كائنات هشة تسوّق بضائع منتهية الصلاحيات. يقترب العام من نهايته ولا نعرف، نحن والفلسطينيين أخوتنا، على أي ريح سنقف؛ فالصراعات الداخلية بينهم تحتدم، وتأثيراتها تتداعى ولا تترك أحدًا معافى أو واثقًا بالغد، وتحت أي سقيفة سيكون موعدنا.

يقترب العام من نهايته والصراعات الداخلية تحتدم، وتأثيراتها تتداعى ولا تترك أحدًا معافى أو واثقًا بالغد

 نابلس.. هوية من نار

شهدت جامعة النجاح الفلسطينية، في الحادي عشر من الشهر الجاري، حدثًا أقل ما يقال في تداعياته أنه محرج؛ لكنه أكثر تعقيدًا وعمقًا واستفزازًا. لقد احتضنت الجامعة فعاليات ثقافية متنوعة، دامت ستة عشر يومًا، تحت عنوان، يا للعبث، «مناهضة العنف ضد النساء». من الطبيعي أن تقوم مؤسسة بمكانة وحجم جامعة النجاح بالتحقق من هويات جميع الفرق والفنانين المدعوين للمشاركة في هذا الماراثون الاجتماعي الثقافي، الذي أطلق ربما بلحظة رومانسية، ضد ممارسة العنف بحق النساء في مجتمعنا، ودعمًا لمكانتهن الطبيعية. ولا يعقل أن يبرر عميد كلية الفنون الجميلة الدكتور غاوي غاوي، قرار إدارة الجامعه بإيقاف العرض بالطريقة التي تم بها، لأنه لم «تكن تتوفر لديها المعلومات الكافية عن شكل عرض «عشتار»، ولكل مجتمع خصوصياته وقوانينه وأنظمته التي تتناسب مع عاداته وتقاليده». وحتى لو فوجئت إدارة الجامعة «بشكل العرض»، كما قرأنا، لا تملك هي حق اعتراضه «على الهواء» ولا مخاطبة الحضور بالطريقة المهينة، كما حصل، وذلك حتى لو آمن الدكتور غاوي بأن «هذه الجامعة تحترم نفسها، وهذه الجامعة لها قوانينها… اللي عاجبه عاجبه واللي مش عاجبه ميجيش على الجامعه». رغم ما أثاره هذا الحدث من امتعاضات وانتقادات – شاعت في الأساس ضمن هوامش محصورة، يتابعها ويتأثر بها بعض المعقبّين في وسائل التواصل الاجتماعي – بقيت تفاصيله بعيدة عن هواجس الناس، ولم تستدِر كذلك، مواقف معظم الحركات السياسية الفلسطينية وقيادييها؛ ولم تحرك «دماء» غالبية المؤسسات المدنية المنتشرة في أرجاء فلسطين التاريخية، التي كان من المتوقع ان تتصدر الواجهات وتشجب ما جرى في الجامعة.
فاجأتنا، في المقابل، إدارة الجامعة بإصدارها بيان قالت فيه «إن ما حدث في حفل اختتام فعاليات 16 يومًا لمناهضة العنف القائم على النوع الاجتماعي، لا يمثل سياسة الجامعه»، وأضافت أنها شكلت لجنة تحقيق لتقف على جميع الملابسات التي حدثت خلال الحفل. تبقى إذن قضيتنا في فلسطين المحتلة معلّقة الى أن نتعلم فن الوقوف على أنف الملابسات.

كفرياسيف ومشهد الموت

قبل بضعة أعوام توفي أبو العبد، بعد إصابته بمرض عضال لم يمهله طويلًا. كان أديبًا وسيمًا ودمثًا، أحبه أهل القرية وتنافسوا على منادمته، فقد عاش بقلب مفطوم على حليب حب الناس وعلى طيب معاشرة الفقير قبل الغني. بانتشار نبأ وفاته سكن الحزن شوارع القرية، وتعطلت ساحاتها. دقت أجراس الكنيسة موسيقاها الحزينة معلنة بدء طقوس الجنازة. امتلأ صحن الكنيسة بالمشيّعين، وبعضهم حضر من قرى ومدن قريبة وبعيدة.
مشينا وراء النعش المحمول، بالتناوب، على أكتاف بعض أصدقاء الراحل وعلى أكتافنا، نحن أبناء عائلة الفقيد. في منتصف الطريق همس بأذني ابنه الباكي سائلًا عن بعض أصدقاء والده، الذين توقع مشاركتهم في الجنازة. أجبته بهدوء أننا حتما سنجد العم أبا حسين ورفاقه ينتظرون مع آخرين في محيط المقبرة. تقبل العبد جوابي ولم يستزد؛ فهو، على ما يبدو، لم يكن يعرف ولم يشعر، لبعده عن القرية، أن كفرياسيف التي عشقها والده قد استُهدفت وقد نخرها بعض العطب. أصابها الجهل، كما أصاب أخواتها الفلسطينيات ونخختها العملة، وإدمان الناس رائحتها العفنة، فصارت قرية عاجزة عن حماية أهلها، ومجتمعًا متقوقعا يتنفس بدون مناعة، ويقبل القسمة والتشظي، تمامًا كما حصل مثلًا في «مشهد موت» أبي العبد، الذي عمل على إخراجه صاحب فتوى دينية قضت، بدون التباس، بأن تتحول الجنازات في قرانا إلى طائفية.

كفرياسيف، في مشهد الورد

بتزامن مع حادثة «عشتار» في جامعة النجاح، وبعد مضي سنوات على مشهد الموت الجليلي، احتضان قرية كفرياسيف نشاطا ثقافيًا اجتماعيًا اقتصاديًا كبيرًا يرعاه مجلسها المحلي للمرة الثانية تحت اسم «كريسماس ماركت 2019»؛ في إشارة إلى أن البلدة ستستمر «إذا ما استطاع أهلها إلى ذلك سبيلا»، في تنظيم هذه الفعاليات، كما يليق بمواسم الإبداع والفرح، وبقيمتهم الإنسانية المطلقة».
استمرت الاحتفالات أربعة أيام وليال، شاركت فيها قطاعات واسعة وشرائح عديدة من داخل البلدة، إلى جانب عشرات آلاف الزائرين الذين وفدوا إليها من جميع أنحاء البلاد؛ كما اعتلت مسارحها فرق الرقص والتمثيل وعدد من المغنين والمغنيات، فتحول مركز القرية الى مسرح واحد كبير، تتحرك في جنباته الجموع بسعادة وطمأنينة تخلو منها أسواق أوروبا الميلادية، أو ساحات أمريكا أو حتى «مولات» دبي وبيروت التقليدية. لم يفتش الناس الآتون إلى ليالي كفرياسيف عن آلهة ليقاتلوها ولا عن ربات كعشتار وعناة، بل صنعوا من أحلامهم قبابًا وحلقوا منها، بدون أي التباس، نحو شطآن الأمنيات.

ذكريات هوية
ولدت في كفرياسيف في سنة «العدوان الثلاثي»؛ وعشنا فيها أيامًا جميلة وصعبة. اشتهرت قريتي الصغيرة بمكانتها الثقافية الفريدة، وبحب أهلها للعلم وعشقهم للحرية. فتن الكاتب الكبير أميل حبيبي بالقرية وبمناعة سكانها الوطنية، فصرخ من حرقته، في أواخر خمسينيات القرن الماضي ونادى «تكفرسوا يا عرب» وقصد أن يسير العرب في أثر هذه القرية، ويعتنقوا هويتها التقدمية العربية المنيعة الأصيلة. عشقها «شعراء المقاومة»، كما وصفهم لاحقًا غسان كنفاني، فأطلقوا حناجرهم في سمائها سهامًا ضد الخوف، ورتقوا لنا، في وقت مبكر، عباءتنا الوطنية، ورسموا في صدورنا معالم هويتنا السياسية. كبرت قبل فتاوى الشقاق الطائفي، وعلى هدي تعاليم حكمائها؛ فكان مولانا عقلنا، الذي أفهمنا أن التسامي بالعطاء، وأن الدفاع عن منارتنا واجب، شريطة ألا نحرم الآخرين حقهم في الدفاع عن منارتهم أيضًا.
غادرت القرية في منتصف السبعينيات لألتحق بالجامعة العبرية، وسكنت القدس، فاستقبلتني مثلما تستقبل المدن الجريحة  «غرباءها الآخرين». كانت علاقتنا متوترة في الخفاء، وتشبه كثيرًا علاقة الأب مع ابنه المتبنى، حيث تنقصها دومًا صراحة الروح للروح وتفصل بين وريديهما خاصرة ضامرة تنغزها أنياب ذلك الالتباس الفلسطيني القاهر الفتاك.
كتبت مجرد خربشات، غير مرتبة، من فيض وجع ونحن نستقبل أيام ميلاد الطفل الفلسطيني الأسمر الذي دفع حياته في مشهد ملتبس تاركًا لبعض العالم يقينًا ولآخرين كل أنواع الغضب والملابسات. فكل ميلاد وانتم ونحن فوقها لا في باطنها.
كاتب فلسطيني

 

 

جامعة بيرزيت تبدد الحلم

جواد بولس

 

لا تُبقي أخبار منطقتنا الكبيرة، فرصة لعامة الناس كي يتابعوا تفاصيل الأحداث اليومية المتداعية في مواقعهم؛ حتى لو شكّلت تلك الأحداث عمليًا عوارض لأمراض خطيرة تتفشى في أجساد المجتمعات، أو نذائر على اقتراب التسونامي الهدّام من آخر شواطئهم الآمنة.
يعيش الإسرائيليون منذ شهور تبعات فشل إقامة الحكومة، بعد جولتَي انتخابات مثيرتين؛ ويتأهبون للذهاب، في مطلع مارس/آذار المقبل، إلى جولة انتخابية ثالثة قد تفضي نتائجها إلى تأسيس مرحلة سياسية جديدة لا نعرف إلى أين ستأخذ الدولة، ومعها سائر منطقة الشرق الأوسط؛ ولا كيف ستؤثر علينا، نحن المواطنين العرب في الداخل، أو على مستقبل الفلسطينيين المتواجدين في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 وعلى مصيرهم في ظل حل الدولتين أو باحتمال وأده، كما تشير بعض الدلائل الحالية.
ورغم أن المناطق الفلسطينية المحتلة ستتأثر، بدون شك، بنتائج الانتخابات الإسرائيلية وبهوية الحكومة المقبلة، إلا أن الحياة في هذه المناطق مستمرة بأشكالها المعقدة والمتناقضة والمحيّرة في أغلب الأحيان. يتحدثون، في الأراضي المحتلة، عن احتمال إجراء انتخابات فلسطينية عامة، ويراها البعض قريبة، بينما أراها أنا شبه مستحيلة؛ فمن يتابع ما تفعله حركة حماس في قطاع غزة، ويقرأ عن تفاصيل مفاوضات وفدها المتواجد في مصر، يشعر بأن «أحاديث السرايا» ليست «كأحاديث القرايا»؛ ومن يعش مثلنا، في رام الله وجاراتها، يعرف أن فكرة إجراء الانتخابات ما زالت غير ناضجة داخل صفوف حركة فتح، ويعرف، كذلك، أن الحالة السياسية الفلسطينية غير مختمرة. لا توجد في الواقع جماعات ضغط وازنة معنية بتغيير الواقع، أو مؤهلة لإحداث التأثير الحقيقي والتسبب بإجراء الانتخابات على ما قد تؤدي إليه من عواقب أو تحققه من مكاسب، حسب من سيكون الرابح ومن المهزوم.
لجأتُ إلى هذه المقدمة كي أعالج نبأً فلسطينيًا محليًا نشر، رغم أهميته، بشكل هامشي. ومع أن الخبر لم يشغل إلا مساحة «إنشين» في المواقع الإخبارية الفلسطينية، إلا أنه هزّني وأغضبني وأعادني إلى تاريخ ناصع عاشته فلسطين قبل بضعة عقود. في الماضي، عندما كان للاحتلال الإسرائيلي «رونق» وكان وجوده يشكل تناقضًا أساسيًا وصداميًا مع الوجود الفلسطيني، كان نشر خبر عن إغلاق حرم جامعة بير زيت يسبّب أزمة دولية، ويحرك جوًا من التضامن داخل بعض الجيوب العاقلة الإسرائيلية الصغيرة، ويؤدي بالاساس، إلى ردود فعل شعبية وفصائلية فلسطينية كانت تتطور، كما حصل مرارًا، إلى صدامات مع قوات الاحتلال. لكننا نعيش اليوم في زمن «الخوف العادي» والوهم؛ فننام في رام الله، على أحاديث الهدنة الحماسية؛ وفي غزة يفيقون على قصص التنسيق الأمني الضفوية، حتى صار عالم الفلسطيني مقلوبًا ؛ فيحاول الناس الإقلاع عن أحلامهم، ويمشي الناجون من لعنتَي الانتماء والانحراف ورؤوسهم إلى الوراء، فلا يعرفون اسم بير زيت إلا لأنه يشبه اسم ذلك الإبريق، بطل الحكاية الشعبية الشهيرة، الذي كانت أمهاتنا يملأنه لنا، قبل المنام، زيتًا وعبثًا فلا يشبع ولا يطفح إلا عندما كنا نصاب بالنعاس وننام.
كنت في عملي في رام الله عندما اتصل بي صديق عتيق، وسألني مستهجنا إذا كان ما قرأه في أحد المواقع الفلسطينية صحيحًا. لم أسمع بالخبر الذي أفاد، كما قرأ صديقي، بأن» إدارة جامعة بير زيت تقرر إخلاء الجامعة على وجه السرعة وإغلاقها أمام طلابها». اتصلت مباشرة مع أحد طلاب الجامعة، فأكد لي أن الخبر صحيح وان إغلاق الجامعة، جاء في اعقاب قرار اتخذه مجلس إدارتها في اجتماع طارئ عقد في يوم نشر النبأ، يوم الأربعاء الماضي، بحجة «قيام مجموعة من الطلبة بتحطيم وتكسير مدخل الجامعة الغربي»، كما جاء في الخبر. «ولممارستهم عملا يخالف أنظمة وقوانين الجامعة وقرارات إدارتها، ولما لهذا العمل من تداعيات على سلامة الطلبة والعاملين ومجتمع الجامعة».

قد تصبح بير زيت ضحية الواقع الفلسطيني المأزوم ومزايدات اليساريين وسبات «الثوريين» وأوهام الإسلاميين

شعرت بغربة تصفعني؛ رغم انني عشت، في المدينة، كالدوري، مقيمًا على أهدابها المتعبة. فهمت أن إدارة الجامعة ترفض مظاهر العسكرة، مثل مسيرات الملثمين المدججين، بما يشبه الأسلحة داخل الحرم، بينما تصر بعض الكتل الطلابية على ممارستها، رغم انهم يعرفون أن الاحتلال قد يستغلها لضرب الجامعة وإغلاقها. أحسست بأنني فقدت لغتي، وأن المفردات التي عشت على موسيقاها قد انقرضت. لم تعد رام الله اليوم شبيهة بتلك، صاحبة الأشجار والبيوت الأنيقة؛ التي كنا ندخل قلبها الدفئ لنصل إلى قرية بير زيت الجميلة والواثقة، ولكي نودع، في حضنها، بعضًا من أحلامنا الفتية. لم تكن جامعة بير زيت، بالنسبة لأبناء جيلي مجرد مؤسسة تعليمية فلسطينية، يأتيها الذين لم يحالفهم الحظ بالحصول على فيزا أجنبية ومنحة للدراسة خارج الوطن؛ أو ملجأ لأولئك الذين منع الاحتلال سفرهم فدخلوها من باب الرحمة أو على سبيل «أضعف الإيمان». كنا، في سبعينيات القرن الماضي، طلبة في جامعات إسرائيل، وكانت هي أكثر من معهد عالٍ للتدريس، وأكبر من صرح نقف على «صاريته» لنقارع بها عنجهية الاحتلال، ونعرّي تبجح دولته التي تدّعي أنها مهد للحريات الأكاديمية. أتيناها حجاجًا لنتزود بأطعمة الفراديس، ولنهتدي بنورها وهو ينثال من سمائها الزرقاء، حاملًا على أمواجه عطرها الساحر، فكانت عروقنا تتجرعه وجبات من كرامة ووطنية صافية. كم كنت أرغب أن أُحدثكم عن «بير زيتي» التي تعرفت فيها على أجمل الرفاق، ومعا، في أفيائها، خبرنا كيف يمكن أن تصير الأماني أوتادًا والقصائد رماحًا والقبضات سهامًا من ماس.
قرأت، وأنا أعدّ مقالتي، أن إدارة جامعة بير زيت أعلنت عن استئناف التدريس كالمعتاد في الجامعة، «من أجل منح الفرصة للحوار بين إدارة الجامعة والطلبة». لم أفرح لهذا النبأ، لأنني أشعر وأعرف، مثل كثيرين يتعاطون مرارة الواقع الفلسطيني، بأن المعركة التي وقعت بين إدارة الجامعة وقسم من طلابها كانت بمثابة الطعنة التي سددها بعض «الأخوة الأعداء» في خاصرة أمهم فلسطين. الموجع أن ما حدث يعتبر مشهداً عاديًا سيمر مثلما مرّت مئات المناكفات والمشادات والاحتكاكات والاعتقالات والاعتداءات الفلسطينية الفلسطينية، وسيندمل مع الجراح التي نكأها عميقًا في قلب الأمل الفلسطيني. تسير بير زيت في طريق صعب قد تفقد في نهايته امتيازها كصرح مدّ ويمدّ طلابه بالعلم وبالمناعة الوطنية؛ فالجامعة تواجه الأنواء من كل الجهات ومن داخلها ايضًا، وقد تصبح ضحية الواقع الفلسطيني المأزوم ومزايدات اليساريين وسبات «الثوريين» وأوهام الاسلاميين؛ فمعظم الناس والتنظيمات والفصائل والحركات والمؤسسات يمارسون الرياضة الوطنية في فلسطين المحتلة، وهم يلتقطون الأنفاس بين اللقمة والنقمة.
كانت بير زيت عقل فلسطين الراجح، وهويتها المشتهاة، وسيفها المشهر أبدًا في وجه الاحتلال وعساكره؛ لكنها هي ابنة فلسطين الجريحة التي لا تستطيع أن تصمد وحيدة في عالم «القواقع» المتفطرش، والمنفلشة رموزه ببركة الاحتلال ووفقًا لهندسته. لقد قرأت معظم البيانات الصادرة عن جميع فرقاء الأزمة، وأدركت أن قضية فلسطين تعيش كوابيسها، وتعاني جامعتها الأشهر قصة ذلك الإبريق ولعنة العبث العدمي واختلاط المفاهيم؛ فحتى اللغة التي بات الاطراف يستعملونها في مخاطبة بعضهم، صارت هجينة وغريبة عن ماضيها وعني. وهنت فلسطين حين أعدمت نخبها «العقل»، وحين خاطت لجثمانه كفنًا من ريح ومن سراب؛ وستسقط بير زيت لأن فيها من يعبث بالقدر، ومن لا يستطيع أن يحدد من هو العدو ومن الصديق والحليف.
ينشغل الإسرائيليون بقضاياهم الكبيرة ويتركوننا، نحن المواطنين العرب، نغرق في دمائنا، وفي اقتتالنا على امتلاك السماء؛ وينشغل الفلسطينيون برحيل غزة وبلهاث رام الله، فتمضي البلاد ومعها الجامعة نحو ذلك المجهول.
سأستمر في حبي لرام الله محاولًا ألا يدميني شوكها، وألا تهزمني حواجزها؛ وسأدخل قلبها المتعب كي أعود، كما كنا نفعل، إلى تلك القرية الوادعة، وأنبش فيها مقابر الذكريات، فعساني، مثل من يشتاقون معي إلى طلوع فجر بنفسجي، أجد بقايا مستقبل منسي وعطر عشيقة كان اسمها حرية وأثرًا للفراشات.
كاتب فلسطيني

 

 

التعليم العربي:

بين برجي بابل وبيزا

جواد بولس

 

أُعلنت مؤخرا نتائج الامتحان الدولي لتقييم الطلبة الثانويين، المعروف عالميًا باسم «بيزا»، وظهر، مرة أخرى، تدنّي مستوى التحصيل العلمي للطلاب في المدارس العربية، قياسًا بالمدارس اليهودية؛ كما أثبتت النتائج وجود تراجع في مستوى تحصيلهم، بالمقارنة مع تحصيلهم في السنوات السابقة.
حظي الخبر، كما كان متوقعًا، بردود الأفعال التقليدية نفسها التي نسمعها ونشاهدها في مثل هذه الحالات المحرجة؛ فالمحافل الواسعة والمؤسسات العامة الناشطة بين المواطنين العرب في إسرائيل، عاشت يومها بشكل طبيعي وكأنّ الخبر لا يعنيها ولا يتعلق بمصائر أولادها ومستقبلهم؛ بينما سارعت، في المقابل، بعض الجهات القريبة من موضوع التربية والتعليم إلى ترحيل المشكلة بشكل أوتوماتيكي، وإلى تحميل المسؤولية عنها للحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، التي سعت، بسياساتها العنصرية، لخلق هذه الفجوة، وما زالت تسعى للإبقاء عليها؛ فالتمييز الحكومي المتعمّد في رصد الميزانيات وإهمال قطاع التعليم عند العرب أدّيا إلى هذا التخلف، وإلى تجفيف عقول طلابنا وانحرافاتها. أمّا وزارة التربية الإسرائيلية، ومعها بعض المسؤولين الحكوميين الكبار، فعبّروا بدورهم عن عدم رضاهم من النتائج التي فاجأتهم، كما صرحوا، لأنهم قاموا برصد ميزانيات ضخمة، على حد تعبيرهم، في سبيل تحسين ظروف سلك التعليم العربي، ورفع مستوى التربية في المدارس العربية؛ أو كما أعلن، على سبيل المثال، وزير التربية والتعليم رافي بيرتس حين قال: «بالنسبة للوضع في المجتمع العربي، فإنّ الأمر يلزمنا بإجراء فحص عميق وجذري. لقد استثمرت وزارة التربية الكثير من الموارد والميزانيات في المجتمع العربي، وهذه المعطيات لا تتلاءم مع حجم الاستثمار». لقد خلص الفرقاء، رغم الاختلافات العميقة بينهم، إلى ضرورة تشكيل لجنة فحص/ تحقيق خاصة بهذا الموضوع، كي تدرس الوضع على حقيقته وتقف على أسباب ذلك التخلف والفشل.
لن يختلف اثنان على أن النتائج المعلنة تعكس واقعًا تربويًا محليًا مريضًا؛ فنحن، المواطنين العرب، نعيش تبعات ذلك التقهقر، وندفع أثمانه الباهظة في حياتنا اليومية؛ فمع نشوء أجيال جديدة من الجهلة والمشوهين تربويًا تتضرر هوياتنا الجامعة وتعيش مجتمعاتنا حالة من الانكسارات الذاتية والتشتت، وكذلك تضرب مناعاتنا السياسية والاجتماعية، فيشيع الخوف وتهرم روح الانتماء السليمة، وتقصر الطرق إلى عوالم العنف والجريمة وتنتشر الرذائل والمخدرات. لا اختلف مع من يرون بجميع الحكومات الاسرائيلية عنوانًا لهذه القضية/ المأساة، لكنني، مع ذلك، أرفض أن نكتفي بهذا التشخيص، وأن نبرئ أنفسنا مما يحصل لنا وبيننا؛ فأنا وأترابي تعلمنا، قبل خمسين عامًا، في مدارس متواضعة جدا، لم تعرف ساحاتها إلا الغبار في الصيف والوحل في الشتاء؛ لم نملك سيارات ولا درّاجات ولا هواتف خليوية. كانت غرف تدريسنا عارية من جميع كماليات هذا العصر، لكنها كانت ملآى بأنفاس معلمين آمنوا بقدسية رسالتهم وبمسؤوليتهم لبناء أجيال صُبّت أرواحها في قوالب من الكرامة الوطنية، ودُجّجت بالثقة والتوق للمعرفة وبالرغبة الإنسانية الفطرية لاكتساب العلم، والمضي نحو شق صدور المستقبل والانطلاق حيث لا يوجد مستحيل.
لقد كنا أولاد حاراتنا وحماة بلداتنا، حيث لم يفرقنا جامع ولا خطبة شيخ، ولم تبعدنا كنيسة ولا عظة كاهن. لقد كانت أفراحنا صغيرة وبسيطة لكنها كانت مواسم عز وبهجة، بينما كانت أتراحنا غصات تجمع وتؤلف. كان المال وسيلة ضرورية للحياة وللفرح الطييعي القنوع، لكنه لم يتحول ابداً إلى حالة من «الهوس» أو إلى خناجر تقتل الطيبة وتغتال المروءة في نفوسنا. تعلّمنا ونير الحكم العسكري البغيض جاثم على عقولنا؛ لأن إسرائيل الفتية أتقنت، كما تتقن اليوم، الشراسة وباقي فنون العنصرية. بقي أباؤنا في الوطن فخذلوا حلم الصهاينة الأوائل. خطط قادة إسرائيل لرحيل من عصا أوامر السيف ولم يرضَ الخيانة؛ أما الذين رفضوا وبقوا، فليعيشوا كعبيد في حضن الأسياد أو كسيقان قصب كسيحة وسقاة في مزارع العنجهية والقمع.

مع نشوء أجيال جديدة من الجهلة والمشوهين تربويًا تتضرر هوياتنا الجامعة وتعيش مجتمعاتنا حالة من الانكسارات الذاتية والتشتت

كبرنا كقصائد مزروعة في السماء ونشأنا، رغم الشحة والشقاء وهجر «الأشقاء» ومزايداتهم، أحرارًا نعرف كيف نحمي فراشاتنا من لسعات البرد، وكيف نصلّي للورد كي يزهر أحمر وكيف يذكّرنا بخدود نحلاتنا فنسكر.
لماذا تتذرعون إذن وتحتمون مع كل هزيمة بظل ذلك الشبح البعيد القريب؟ ولماذا تتنصلون من الفشل وتتهربون من عجزكم وتبكون على دم غد وئيد؟ فجميعنا نعرف كم كانت وما زالت إسرائيل ظالمة وعنصرية ومقيتة، لكنها، رغم كل ذلك، فشلت في تبديد إصرارنا، وفي تحويلنا إلى فتات من ريح؛ فكبرنا، أوفياء لوصية الصبر والسرو والطين، وركضنا حفاة نحو الشمس، وقفزنا بين زخات الجراد كعنادل على بيادر الأجداد. لم تحبّنا إسرائيل في يوم من الأيام وحين أبكتنا سقينا كرومنا بالدمع وبتناهيد الأمهات الكادحات. لم نهزم إلا عندما تخلينا عن وصية الأباء الذين تخرجوا من مدارس العزة والقهر وخرجوا نبهاء من شرايين النكبة، وفهموا وأفهمونا أن بالعلم وباحترام العقل يصمد الإنسان ويسعد.
كم تغويني خدعة الاستطراد، لكنني على قناعة أن مشكلتنا لم تبدأ بنشر نتائج امتحانات «بيزا» ولا بدلائلها، ولا بما تنذر منه أو تفضي إليه؛ فمصيبتنا كبيرة ولا أرى لها في الأفق حلاً ولا مخرجاً وشيكاً؛ ولا أعرف، أصلًا، من قادر عندنا ومن معنيّ بفحصها بأمانة وباستقامة وبمهنية لا تدين للجبن ولا للرياء، وبعدها فلنسع إلى الحرب والقتال. لم أكن، في الحقيقة، على دراية بتفاصيل وبتاريخ امتحان «البيزا» المذكور، إلا أن تداعيات نشر نتائجه الأخيرة شدّتني. مع كثير من الحذر، أعلن أنني غير متأكد من كونه وسيلة تقييم بريئة وملائمة لأوضاع طلابنا ومدارسنا ونظام تعليمنا الحالي. لقد بدأت فكرته كمشروع استجلائي بادرت اليه بعض الدول، مثل استراليا، بهدف فحص قضية « تنوّر» الطلاب، ابناء الخامسة عشرة، في ثلاثة مجالات تعليمية: التنوّر القرائي (في لغة الأم) والتنور في موضوع الرياضيات وأخيرًا، التنور في العلوم. كان الهدف من فحص مسألة التنوّر هذه، التي تحتاج بحد ذاتها إلى مزيد من التوضيح والشرح في حالتنا، الكشف عما اكتسبه الطلاب من مهارات معرفية سيحتاجونها في حياتهم عندما يبلغون سن الرشد. لن أسهب فالتفاصيل كثيرة؛ لكنني على قناعة بأن السواد الأعظم من المواطنين العرب لا يعرفون شيئًا عن هذا الامتحان ولا عن تاريخه، منذ أطلق قبل زهاء عقدين، أو من أشرف ويشرف عليه، وما هي أهدافه وكيف ومن يعمل على تطبيق خلاصاته، وما إلى ذلك من أسئلة تضعنا أمام تساؤل جوهري حول غاياته المنشودة ومدى مطابقتها لأجهزتنا التربوية والتعليمية المحلية. فالسؤال المركزي يبقى، برأيي، هل وكيف تفيدنا هذه التجربة، ومن هو المكلف باستقصاء نتائجها ومتابعة مخرجاتها، خاصة ونحن نقرأ عن اتساع الفجوة، من عام إلى عام، بين الطلاب العرب والطلاب اليهود وباقي طلاب الدول المشاركة في التجربة.
لسنا بحاجة إلى روما ولا إلى قيصرها، ولا إلى «كاميرا» جديدة كي تصوّر لنا أوضاع البؤس في مدارسنا، وكي تذكرنا بسقوط الخيمة وبانتحار العقل؛ لأننا ببساطة نحصد ما نزرع، فالعرب الحكيمة حذرت جميع الغارقين في دماء الحياة وفي طيّباتها أنهم «هوسى والزمان أهوس»، وأهل الكهف لم يسمعوا اصلًا ببيزا ولا ببرجها المائل.
كاتب فلسطيني

 

 

سامي أبو دياك

وموت أمنية فلسطينية

جواد بولس

 

بدأنا نراجع تفاصيل الالتماس الذي قدمته الوحدة القانونية في «هيئة شؤون الأسرى والمحررين»، باسم الأسير سامي أبو دياك؛ بعد أن «بشّرتنا» سكرتارية «محكمة العدل العليا» الإسرائيلية، صباح الاثنين الفائت، بقبول الطلب، وتقديم موعد الجلسة وتعيينها في الثاني من ديسمبر/كانون الأول المقبل، بدلا من موعدها الأصلي الذي كان مقررا في السادس من يناير/كانون الثاني المقبل.
قرأنا، مرّة أخرى، تداعيات القضية، وتحققنا من دقة الوقائع التي أوردناها؛ وتمنّينا أن يصمد جسد الأسير أبو دياك أسبوعا إضافيًا، كيما نمضي إلى معركتنا مع طواحين الهواء الإسرائيلية؛ فعسانا ننجح، باسم الوجع، بإقناع هيئة المحكمة بالإفراج عن أسير فلسطيني أكله المرض، ويعيش أيامه الأخيرة على أمل أن «ينعم» بالموت في حضن والدته وفي أرجاء بيته وتراب قريته.
ولد سامي قبل ثمانية وثلاثين عامًا في قرية «سيلة الظهر»، ففتح عينيه على صباح عبوس، لا يعرف طعم اكتمال الفرح. نشأ في بلدة فلسطينية تجيد كسائر أخواتها، لغة الغبار؛ ومشى مثل أترابه، نحو ماض لصيق كظل لشبح غد رمادي كسيح.
هو ابن لجيل تربى، بفطرة الفوضى، على قيم شوّهها الاحتلال، وعلى حالة كل ما فيها «سائل» وملتبس؛ فلا معنى للحب ولا لصفائه إلا إذا واجه نقيضه الدامي، ولا قيمة للحياة إلا إذا تحققت على عتبات الموت.. موتك أو موت نقيضك.
كان في الثانية والعشرين من عمره عندما قرر دفع حصته في الذود عن شرف الوطن؛ فقتل ثلاثة من عرب  «باعوا روحهم وضاعوا»، حسبما جاء في لائحة اتهامه، وحُكم، في أعقاب ذلك، في محكمة الاحتلال العسكرية لثلاثة مؤبدات وأكثر.
كبر في السجن، كما تكبر الأيائل في الأسر؛ عالمهم مدىً من مجازات واخزة، وأيّامهم مجرد انكسارات لأضواء خافتة تبعثها بقايا أرواحهم الحزينة. كان سامي يتغطى بنتف من فجر أبيض، ويتنفس تحتها كما يفعل دود القز، فيفيق كل يوم محلقًا على شيفرة ضوء ساحر وبعيد.
لم يواجه سامي الأسير عبء السؤال وحيرة الشك، ولم تشغله هواجس العدل الآدمي ولا غضب السماء؛ فالتفكير الرويّ، وانت في حلق اليأس، ترفٌ لا يجيده إلا الفلاسفة والشياطين، لاسيّما إذا كنت مثله، تعيش على أهداب ثورة تقاوم النعاس والخبل.
بدأت صحته تتراجع بشكل ملحوظ عام 2015؛ وبعد عدة فحوصات وجد الأطباء انسدادًا في أمعائه فأخضعوه لعملية، أوهمتهم بأن حالته في تحسن؛ لكنهم اكتشفوا بعد الانتهاء من الاجراءات المخبرية انه مصاب بسرطان الأمعاء، وأن القدر قد قرر، هذه المرّة، أن يتدخل وكأن قضاء الاحتلال كان مجرد طعنة في الهواء.
بعد إعلامنا بسوء وضعه الصحي قمنا، طاقم المحامين، بتقديم طلب للإفراج المبكر عنه لأسباب مرضية وخسرنا، كما كنا نتوقع، الجولة الأولى فعاودنا المطالبة بعد عامين. وزودنا اللجنة المتخصصة بمجموعة تقارير أعدّها الاطباء الذين كانوا يعالجونه في المستشفيات الإسرائيلية، وكذلك بعض الاخصائيين الخارجيين الذين توجهنا إليهم، ففحصوه وقرروا أن وضعه قد وصل إلى مرحلة حرجة، وأن مرض السرطان قد انتشر في عدة أعضاء داخلية من جسده.
استمعت اللجنة لادعاءات المحامين وقرأت التقارير الطبية التي قدمت أمامها؛ لكنها، رغم قناعتها بأنه مصاب بالسرطان، وبأن احتمالات علاجه وشفائه معدومة، رفضت الإفراج عنه بتبنّيها ذرائع نصّتها أياديهم المجبولة من جبص وطين.
وهن جسد سامي بشكل ملحوظ حتى بدا لنا في الزيارات الأخيرة كالظل؛ فقررنا تقديم طلب إفراج جديد، إلا ان لجنة الإفراجات رفضت التعاطي معه بالمطلق، بمقتضى تعليمات قانون «مكافحة الإرهاب» الذي كانت الكنيست قد صادقت عليه عام 2018 وحظر بموجبه على لجنة الإفراجات التعاطي مع طلبات إفراج عن الأسرى المحكومين بالسجن المؤبد، على خلفية ضلوعهم في عمليات قتل «إرهابية».

الظلم أعمى والأمل باقٍ كنطفة ستكبر حتمًا هناك عند حفاف الغيب، حيث سأكون شبحًا يقضّ ليل الظالمين

حاولنا التوجه مرة أخرى لتلك اللجنة بادعاء أن ليس للقانون أثر رجعيّ، فقضية الأسير سامي كانت منظورة أمامهم قبل صدور ذلك القانون، إلا ان أعضاءها رفضوا حتى مجرد استلام الطلب. لم يتبقّ أمامنا إلا تقديم طلب عفو من قائد جيش الاحتلال؛ فأمنية الأسير، الذي باتت أيامه معدودة، هي أن يموت في حضن والدته وبين أهله.
قدمنا الطلب وانتظرنا أكثر من شهر؛ إلا أننا لم نتلقّ أي رد أو إشعار عليه، فاضطررنا إلى تقديم التماس لمحكمة «العدل» العليا الاسرائيلية. قدمنا الالتماس في أوسط أكتوبر/تشرين الأول المنصرم، وعلمنا بان سكرتارية المحكمة عينت موعدا للجلسة يوم السادس من يناير 2020 المقبل. شعرنا بمهانة وبخيبة أمل؛ فإرجاء موعد الجلسة لأكثر من شهرين، فيه رسالة واضحة للملأ، مفادها: وما ضر أن يموت الفلسطيني وتموت معه الأماني، ولماذا لا تبكي أمه وهي تدفن في حضنها غصة!
لم نرضَ بقرارهم، فطالبنا بتقديم موعد الجلسة محذرين من أن جميع الشواهد تؤكد أن الملتمس، سامي أبو دياك، يعاني من وضع صحي حرج؛ وأنه، في الواقع، يترنح على شرفة العمر، ويستعدّ لرحلته المقبلة إلى قلب العدم. فرحنا عندما استلمنا قرار تقديم الجلسة وخشينا، في الوقت نفسه، لعنة القدر.
قضيت ليلتي وأنا أتمرن على أوقع وأبلغ المرافعات التي عليّ أن ألقيها، بعد عدة أيام، على مسامع القضاة الثلاثة. حرت في غابة من النصوص والخيارات وجرّبت أمام مرآتي خطبة المحارب: «لم آتيكم لأنني مؤمن بعدلكم»، قلت، «فلطالما كنتم الذراع الطولى التي حملت بطش الاحتلال وأذلّت به شعب المقهورين، وأوقعته على أفئدة الأمهات وعلى مهج اليتامى الفلسطينيين. أنا هنا لأصرخ في آذانكم عساني أستحضر طائر البرق من ركام التاريخ ليأتي ويرقص أمامكم رقصة الموت، فتروا، ساعتها، كيف يذوي الحنين هناك في الغرف الباردة، وتزهر شقائقَ حمراء في قلوب أجيال لم تولد بعد، وينتشر عطره آمالا «سامية» على هضاب جنين. احكموا كما شئتم، فالارض عارية والسماء حبلى والبقية أبدية عند من يحمي الندى من عبث السيافين».
كانت خطبة نارية قاسية، لجأتُ بعدها إلى حيلة المراوغ فأضفت: «جئتكم باسم الأمّهات الباكيات اللائي لا يرجون من الحياة سوى ضمة أخيرة لارواح أبنائهم الذابلة.  لا تحدثوني عن قوانينكم الجائرة ولا عن من نصَّ، في غابر الأزمان، إن العين بالعين وإنّ السن بالسن؛ ولا تأخذوني إلى بستان آدم وجنته العاثرة، ولا إلى حكمة الدم في لحم قايين، فكل ما أريده منكم هو أن تدعوا ساميًا يموت بعيدًا عن عيونكم الضاحكة».
لم أشعر متى أغمضت عينيّ ولا متى نمت على الكنبة. أفقت في ساعة مبكرة من صباح ثلاثاء سوداء قاهرة، فسمعت أن سامي قد سلم الروح ورحل. تملكني حزن شديد؛ وتذكرت مسيرة الهزائم الطويلة التي ما فتئتُ أخطو على دروبها منذ أربعة عقود، ولم ألق عليها إلا قصاصات ورق صفراء وعليها اسماء ناس وماس.
لم أجد ما سأقول للقضاة الذين كانوا سينتظرونني على شوك، سوى وصية شاب أسمر كان قد وُلد في حقول البارود، وعاش وهو يتقلى في قهر ومن غضب؛ فصرخ، قبل الرحيل، وقال: «لا تدعوا الشماتة، يا اخوتي، تذيب صدروكم؛ فالظلم أعمى والأمل باقٍ كنطفة ستكبر حتمًا هناك عند حفاف الغيب، حيث سأكون شبحًا يقضّ ليل الظالمين، ونجمة تضيء لأمي ليل دموعها، وتمسح العتم عن روابي خلاني».
كاتب فلسطيني

 

 

القدس مدينة

 الحجارة الباكية

جواد بولس

 

أغارت عناصر من قوى الأمن الإسرائيلية، قبل أيام، على عدد من المؤسسات المقدسية؛ ثم أعلنت، بعد تفتيشها ومصادرة بعض محتوياتها، عن إغلاقها، وذلك بمقتضى أمر صادر عن وزير الأمن الداخلي، جلعاد أردان، وفقًا لصلاحياته حسب ما يسمى بقانون تطبيق الاتفاق الانتقالي في الضفة الغربية وقطاع غزة (تحديد نشاطات) لعام 1994.
من بين ضحايا هذه «الغارة»، التي لن تكون الأخيرة في المدينة، كان مبنى مستأجر في حي «الصوانة» من قبل شركة «الأرز للإنتاج الفني»، وهي شركة تقدم خدمات تقنية لفضائية تلفزيون فلسطين الرسمية؛ ومكاتب مديرية التربية والتعليم؛ ومدرسة دار الأيتام الإسلامية التي تعمل تحت إدارة ومظلة دائرة أوقاف القدس، التي تم اعتقال مديرها سمير جبريل.
سينسى العالم بعد أيام ما حصل، فهذه الهجمة لن تُحدث ردود فعل مأساوية، محلية أو عالمية؛ كما لن تستثير مشاهدُ الجنود الإسرائيليين، وهم يقتحمون المباني ويعبثون في محتوياتها، هممَ «الثوّار» أو سهام فيالق المنافقين؛ ولن تجِد إسرائيل، بالتالي، نفسها مجبرة على إعادة حساباتها وسياساتها تجاه القدس الشرقية، وتجاه سكانها، رغم ما ستسمعه من بيانات شجب وتنديد قاسية ومن أناشيد الغضب والوعيد. لقد حذرنا، منذ سنوات، من تأثير ممارسات إسرائيل في القدس المحتلة، وقلنا إن المدينة تخضع لعملية اغتصاب بشعة، وإنها تقف على حافة الضياع. قد يقول قائل بأن مطامع وسياسات إسرائيل، أزاء القدس، لم تختلف طيلة العقود الماضية؛ فمنذ لحظة احتلالها الأولى عام 1967، أعلنت حكومة إسرائيل ضمّها كعاصمة أبدية لها؛ لكننا، في الوقت نفسه، نعرف أنها، رغم محاولاتها الدؤوبة لابتلاع المدينة، لم تنجح عمليًا في تحويلها إلى مدينة واحدة؛ وبقيت القدس الشرقية، على الأقل حتى مطلع الألفية الثالثة، فلسطينية النبض بدون رتوش، وعالمية الأبواب والقباب بدون خدوش.
ونعرف، كذلك، أن أهلها ومجتمعها وقفوا وراء قادتهم الأوفياء كالطود متماسكين في وجه العواصف، وواجهوا، وهم موحدون حول هوية وطنية واضحة جامعة، كل هجمات إسرائيل على مدينتهم؛ فصمدوا لأنهم كانوا يتنفسون معًا أنسام الحرية الحمراء، ويعرفون مَن هو العدو ومَن الصديق، ويبحرون صوب شاطئ الأمل، برايات وبيارق موحدين. لم يترك «العالم» القدس تقاتل لوحدها، فأحاطوها بحضن دب جائع. مدّ الأعداء إلى نحرها الرماح فنزفت كالعروس على مهل؛ وغز «الأشقاء» في خواصرها خناجرهم، فبكى على جيدها الياسمين؛ نامت عذراء الشرق، مخدّرة من أدعية بعض وعاظ السلاطين، وأفاقت مذعورة على طرطقة فضة «يهودا» وعلى صراخ باعة الحمام وتعاويذ النخاسين.

عرف القائمون على تنفيذ وإنجاح المشروع الصهيوني الكبير بأن الطريق إلى النصر سيصبح سهلًا بعد تشظية الوجود الجمعي المقدسي الفلسطيني

تلقف قادة إسرائيل هدية السماء بفرح وبخبث عظيمين، وأحسوا وهم أحفاد يوشع وقابيل، أنهم يمسكون بقرون «أطلس» وبأن الزمن صار تحت أقدامهم تبرًا ورمادًا، فبدأوا ينهشون أضراعها ويتقدمون في شرايينها على وقع الحديد والمزامير. لا وقت، في هذه المقالة، لعد المقاصل ولإحصاء الوعود ولتسمية جميع «خضراوات الدمن»؛ فنحن نعيش عصر العجز العربي، ونشاهد، منذ اكتشفت المنابر سحر الكذب والرياء، هزائم العرب؛ ونرى كيف تدفع قدسنا أمامهم «لبيلاطس» جزيتها فيتقاسمها مع جميع خلانه من غيلان المال والدم، وأمراء الشهوة والنار. علمت إسرائيل أن فوزها بالجغرافيا والتراب فقط لن يحوّلها إلى «أميرة» الشرق، ولا الى جارة للقمر، ولا إلى «سيدة» الأحلام والنحاس؛ فسعت بمثابرة ثعلب وبمراوغة ذئبة، إلى تقطيع أوردة أمل المقدسيين، وإلى تشتيت لحمتهم الوطنية والسيطرة على بواطن يأسهم وإلى الدخول عميقًا في جيوبهم والاستيطان في صدورهم.
لم تنجح في مساعيها، رغم البطش والرش، إلا بعد رحيل فارس القدس الوفي فيصل الحسيني، عندما قامت مباشرة بعد وفاته بإنزال ضربتها الماحقة الأولى، حين أعلن وزير أمنها الداخلي في شهر أغسطس/آب من سنة 2001 عن اغلاق «بيت الشرق»، وعدة مؤسسات فلسطينية مؤثرة ومهمة، كان من بينها «الغرفة التجارية الصناعية العربية» و»المجلس الأعلى للسياحة» و»مركز القدس للتخطيط» و»مركز تطوير المشاريع الصغيرة» و»مركز أبحاث الأراضي» و»نادي الأسير الفلسطيني» وغيرها من المؤسسات المدنية التي كانت تقدم خدماتها المتنوعة لأهل القدس وللفلسطينيين عمومًا. لم تقم إسرائيل بإغلاق تلك المؤسسات صدفة، وبدون غاية استراتيجية مدروسة؛ فساساتها أولئك الذين يخططون معاركها، استهدفوا كسر عامودها الفقري، وحدة المجتمع المقدسي، وهويته الفلسطينية الجمعية، التي شكلت في الواقع، العقبة الرئيسية في وجه تمرير مخططات إسرائيل فيها، وأفشلت تفريغ المدينة من سكانها العرب، وتوحيد شطري المدينة وإخفاء حقيقة كونها مدينتين مختلفتين ومشطورتين بحراب الاحتلال. لقد عرف القائمون على تنفيذ وإنجاح المشروع الصهيوني الكبير بأن الطريق الى «نون» النصر سيصبح سهلًا بعد تشظية الوجود الجمعي المقدسي الفلسطيني، وأن هذا لن يتحقق الا إذا استطاعت إسرائيل القضاء على منظومة عمل المجتمع المدني ومؤسساته الناشطة في القدس، بشكل مستقل وتقدم خدماتها للناس بعيدًا عن وزارات الاحتلال وعن بلديته.
كانت هذه الجمعيات والمراكز على أنواعها تفرز ما يشبه الصمغ الوطني داخل المجتمع المقدسي وتمتّن، من خلال نشاطاتها وعلاقاتها المباشرة، أواصر الهوية الفلسطينية الواحدة، وتنمّي روح الانتماء الكلّي والترابط العضوي بين الأفراد، وبعضهم، وبينهم وبين مؤسساتهم؛ فعمليًا لم تتوقف أهمية ما كانت تقدّمه هذه المؤسسات على الدعم المادي والمعنوي، لانها شكّلت مظلة واقية، رسمت تحتها خرائط الأمل الشعبي ونمّت مشاعر الإيمان بالمصير المشترك، فصار للصمود في المدينة معنى، ولحياتهم فيها هدف سامٍ وقناعة بأنهم ماضون على طريق التخلص من الاحتلال والحصول على الاستقلال في دولتهم المستقلة. لم يكن «بيت الشرق» مجرد مؤسسة أهلية اجتماعية مدنية عادية، أو رمزًا سياسيًا فلسطينيًا هامشيًا، بل شكّل طيلة سنوات وجوده «ضدًا» للوجود الإسرائيلي، ودليلًا قاطعًا، أقر به البعيد قبل الداني، على أن القدس الشرقية هي مدينة فلسطينية تستطيع أن تدير جميع شؤونها كعاصمة لدولة فلسطين العتيدة. لقد تحول «البيت» مع السنين، بجهود الفيصل ومعه ثلة من القادة والشخصيات المقدسية الوفية والمنتمية، إلى قبلة القضية الوطنية، وإلى الخيمة الجامعة والمظلة الواقية، التي وفرت للمقدسيين بوصلة للاسترشاد وللنضال الوطني السليم ، وسببًا للانتماء النقي ومثالًا للتضحية والعطاء.
لم يحمِ الفلسطينيون «بيتهم» كما حماه فيصل ورفاقه ومقدسيو ذلك الزمن؛ فبعد نجاح الاحتلال الإسرائيلي بإغلاقه وإغلاق عدد من المؤسسات المؤثرة معه، غدت مهمة القضاء على ما تبقى من جمعيات ومراكز فلسطينية، سياسية واجتماعية مدنية، عملية سهلة، كما رأينا خلال العقدين الأخيرين، وكما شاهدنا في الأسبوع الأخير.
تغلق إسرائيل المؤسسات الفلسطينية بمقتضى قانون شرّعته بعد اتفاقيات أوسلو، وحظرت فيه ممارسة أي نشاط فلسطيني في المدينة ذي علاقة اياً كانت مع السلطة الفلسطينية ووزاراتها، أو مع منظمة التحرير ودوائرها. لا أعتقد أن المشكلة تتوقف عند عتبات هذا القانون، بل المصيبة بمن خنعوا لسياط هذا القانون، فإسرائيل تتصرف بعنجهية فرعونية مفرطة، لأنها تعرف أن المدينة منهكة، ولا يوجد من هو قادر أو معنيّ بشكل حقيقي بصدها. لقد خلق فيصل وجيله ميزان ردع متبادل مع الاسرائيليين، فأجبرهم على احترامه وعلى التصرف وفقًا لقوانينه؛ وعاش مؤمنًا بحق شعبه بدولة مستقلة في حدود يونيو/حزيران 1967 فلم يزايد ولم ينتظر الخلاص المدعوم بالوهم والدولار؛ ولم يكتفِ بالدعاء حتى تهبط طيور الرعد والنار لإنقاذ المدينة، بل خاض جميع معاركه من أجل الكرامة والصمود اليومي، لأنه كان يعرف أن من لن يناضل في سبيل «مدينته» وهو حر كالعواصف والجبال، سيبكيها يومًا وهو عبد…
كاتب فلسطيني

 

 

مواطنون

بين صاروخين

 

جواد بولس

 

تتكرر سيناريوهات العبث في فلسطين وتتشابه مشاهد الفصول الدموية حتى التعب.
تتبدل أسماء الضحايا في شوارعها، وتبقى غزة مفردة رديفة للوجع وللقهر. لم تشِخ ذاكرة الرمل على شواطئها الذهبية، ولم تهزم الريح موجها العنيد. لم يترك القدر لأهلها خيارًا إلا البقاء عند تخوم الأمل الأزرق، فينامون على موسيقى الفجر ورعد القذائف ولا يخافون عزيف الجن.
قبل أيام أفاقت غزة على صوت الموت، وعلى نثار الملح ينقر على خدود الغد. بعد دقائق من انتشار نبأ اغتيال إسرائيل للقائد في حركة الجهاد الإسلامي بهاء أبو العطا، وقتل عدد من أفراد أسرته معه، غرقت فضاءاتها بسيل من أقلام المحللين والمعلّقين والمفكرين، الذين أسهبوا في تحليل الحدث، وفي وصف خلفياته، واقتفاء غايات ودوافع بنيامين نتنياهو الشخصية من ورائه؛ فأجمع معظم هؤلاء على أنه اختار التوقيت الأمثل في محاولة جديدة منه للتملص من مواجهة القضاء ومحاكمته، من خلال تفعيل الضغوطات على جميع الأحزاب الصهيونية، خاصة على حزب «الأزرق والأبيض»، وإجبار رئيسه، الجنرال غانتس، باسم حالة طوارئ مختلقة ووهمية، على قبول خيار حكومة الوحدة الوطنية، وفقًا لما طرحه رئيس الدولة رؤبين ريفلن .
وقد زعم بعض الإعلاميين الإسرائيليين، بأن قرار اغتيال القائد الجهادي أبو العطا كان قد اختمر في عقل نتنياهو ليلة العاشر من سبتمبر/أيلول الماضي؛ بعد أن أجبره حراسه على قطع خطبته الانتخابية التي كان يلقيها أمام مئات من داعميه في مدينة أسدود الجنوبية. لقد تزامنت خطبته مع سقوط عدة رشقات صاروخية أطلقت من جهة غزة نحو مدينتي أسدود وعسقلان المتجاورتين، وأدّت تلك الهجمات إلى فتح الملاجئ وإلى احتماء المواطنين فيها. كانت صور بنيامين نتنياهو التي بثت على جميع شاشات الفضائيات الإسرائيلية، وهو يُدفع ويبتعد بهرولة عن المنصة، ومناظر انفراط الحفل وهروب الحاضرين، مهينة له وجارحة لأناه المنفوخة، ومناقضة لصورة «السوبرمان» التي عمل على ترسيخها منذ سنوات، وحاول تسويقها لعامة الناس ورعاعها. لا شك أن هذه الحادثة أثّرت في قرار نتنياهو أو ربما قد حسمته.

نسمع كل يوم ما تكرره معظم الفصائل الفلسطينية، حين يؤكد قادتها على أن عدوهم واحد، بينما نراهم يتصرفون، وكأنهم عشرون «قبيلة»

في الحقيقة لا تعنيني دوافع نتنياهو فهي كثيرة وموجودة عنده أصلًا. كما لا تهمني المسوغات التي استعرضها قادة الأجهزة الأمنية أمام حكومتهم، وأقنعتهم بضرورة تنفيذ عمليات الاغتيال، واستعدادهم لإدارة جولة من المناوشات الدامية الجديدة على حساب أهل غزة؛ فأنا مستفَزّ بالأساس من مواقف دول «شقيقة» عربية وإسلامية بدأت تتدخل وتتلاعب في شعاب غزة؛ ومن مواقف حكومات وفصائل وتنظيمات محلية وشرق – أوسطية وعالمية، آثرت الصمت أو اكتفت، في أحسن الأحوال، بإصدار بيانات شجب خجولة؛ علمًا بأنها لو أرادت لكانت تستطيع التأثير على إسرائيل، أو مناصرة أهل غزة بشكل حقيقي وفعلي.
نسمع كل يوم ما تكرره معظم الفصائل الفلسطينية، حين يؤكد قادتها على أن عدوهم واحد، بينما نراهم يتصرفون، خاصة في وقت المحن، وكأنهم عشرون «قبيلة» وظل لمستحيل. لن تفيدنا المكابرة ولا الإنكار؛ ففي كل عام يمر، تبتعد غزة عن القدس ورام الله. وقد يستهجن البعض ما أقول، لكنني مقتنع به تماما؛ فرغم تشابه الاعتداءات الإسرائيلية بظواهرها وانعكاساتها، وبلون الدم الغزّي المسفوك، لم تستهدف إسرائيل «العدو» نفسه في جميع غزواتها، ولم توصل الرسائل نفسها، ونراها قد حققت بعد كل «حركشة» إنجازًا مغايرًا ؛ ففي هذه المرّة، مثلًا، تعمّدت إسرائيل، بشكل رئيسي، إيصال رسائلها لمن يقف خلف «حركة الجهاد الإسلامي»، وهذا ما قد يفسّر صمت كثير من الدول الإسلامية، التي ترى إيران الصفوية عدوّها؛ ويفسر ايضًا صمت بعض الحركات والفصائل الإسلامية وشيوخها، التي تستظلّ بعباءة السلطان، وتدعم حلمه باستعادة دولة الخلافة الكبيرة.
لن استرسل في شرح هذه الأبعاد السياسية الكبرى، ولن أراجع ما قال قادة الفصائل بعد كل معركة، وبعد نشر قوائم الشهداء والجرحى، وإحصاء الخسائر، ولن أرهقكم بمن غيّبوا عن «بوستاتهم» قضية غزة، أو شرّحوها وفق اهوائهم الفئوية؛ فأنا أعرف مثلكم بأن هذه الجولة ستنتهي قريبًا، وليس من الصعب التكهن بذلك، وأعرف أن جميع الأطراف والفرقاء سيعلنون مباشرةً، بعد انتهاء «المعركة»، عن انتصارهم فيها وعن سحقهم لآمال ومخططات عدوهم؛ فاسرائيل ستتبجح بأنها نجحت في تلقين كتائب الجهاد ومن وراءها درسًا؛ وبأنها علّمت غزة كيف عليها أن «تتواضع»، وأن تعرّف حدودها، وألا تتحرش بأمن اسرائيل وتعتدي على سلامة مواطنيها؛ وستعلن، في المقابل، جميع الفصائل في غزة وفي طليعتها «حركة الجهاد» على أنها صمدت في وجه العدوان وأفشلت مآرب اسرائيل، بل إن صواريخ الجهاد نجحت بتقويض حالة الاستقرار الداخلية، وخلخلة مشاعر الأمن العام والفردي الإسرائيلي.
أما أنا فسأكرر، بعيدًا عن حسابات الدم المهدور، ما أكده علم السياسة، وما قلناه بعد مواجهات الماضي الموجعة، بأن اسرائيل لم ولن تنتصر في عدوانها المارق على غزة، لأن الطرف القوي عسكريًا، إن لم يقضِ على عدوه الضعيف عسكريًا، لن يُعدَّ منتصرًا؛ وفي المقابل، إذا لم يستسلم الطرف الضعيف عسكريًا ولم يمحق سياسيًا، فهو الذي يُعدّ منتصرًا وفق فقه التاريخ وفي أحلام البسطاء. ويبقى ذلك الانتصار موهومًا أو على الاقل منقوصًا؛ إذ قلنا بعد انتهاء الجولات السابقة، إن «انتصار» الغزّيّين في المعركة، لن يصير حقيقيًا إذا لم يُفضِ إلى إعادة اللحمة والهواء لرئتي فلسطين/ الوطن؛ ولا يصحّ اليوم إلا أن نؤكد مجددًا، آسفين على ذلك، مع فارق مؤلم ومستجد، وهو أن حكام غزة سمحوا خلال الأعوام الماضية بتحويل أرض القطاع إلى ساحة تتنازعها الدول الكبيرة، وبعض الدول الصغيرة الشقيقة الحليفة لتلك الدول؛ وهم بهذه الحالة رهنوا مصائر أهلهم لتلك المصالح الغريبة وأخضعوها لجهات تعمل بدوافع خارجية، وذلك كما ظهر في التحركات الأخيرة التي قادتها، هذه المرة، حركة الجهاد الاسلامي.
ما حدث في غزة يُبعد مساعي الوحدة الفلسطينية، ويجهض فرصة إجراء الانتخابات التي كانت أصلًا محاولة عسيرة ومتعثرة؛ لكنه، فوق كل ذلك، ألحق وسيلحق أضرارا جسيمة فيما حققه المواطنون العرب خلال معركة الانتخابات الاخيرة للكنيست. ورغم قناعتنا بأن حزب الجنرالات، أزرق وأبيض، كان بعيدًا عن تحقيق طموحاتنا السياسية، إلا أن نجاحه في وجه نتنياهو تعدى أهمية كونه جزئية انتخابية هامشية وضيقة، وذلك لأننا اعتبرنا أن فشل نتنياهو ومعسكره قد يتحول إلى بداية مسيرة نحو الافضل، أو على الأقل، انجازًا قد يوقف زحف اليمين والفاشية نحو نظام حكم كارثي على وجودنا وعلى مستقبلنا في الدولة. أما اليوم فنحن نرى كيف جنّد نتنياهو سقوط هذه الصواريخ على المدن الاسرائيلية؛ ونجح، بسبب ذلك، بتمتين موقعه السياسي؛ وبالمضي، بخطى حثيثة، نحو اكتساب شرعيته من جديد وشرعية حكم اليمين المستبد، واستعادة مكانته كقائد لا يستغنى عنه، على ما قد تعنيه عودته إلى رأس هرم السلطة وتبعاتها علينا.
كم قلنا، نحن المواطنين العرب في اسرائيل، إننا نقف مع وجع غزة، ونقول اليوم، رغم إننا بين نيران صاروخين، كما قال ابنها معين بسيسو لعينيها «حينما أرسف بالأسوار في كل مساء، ولَكَم مرّ مساء مساء، ويحوم الليل كطائر في منقاره خيط ضياء، لنجوم لا أراها في السماء، يفرد القلب جناحيه بعيدا ويطير لبساتينك يا غزتي الخضراء في ليل الجحيم».
فنحن مع غزة عندما تتوجع..ولكن، يا ترى، من معنا؟
كاتب فلسطيني

 

 

 

خيمة الإصرار والأمل

جواد بولس

أنهى نوّاب القائمة المشتركة يوم الثلاثاء الفائت إضرابهم عن الطعام، وأزالوا خيمة الاعتصام التي نصبوها لمدة ثلاثة أيام كاملة أمام مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي.
زرت خيمتهم متضامنًا، أسوة بعشرات الوفود والشخصيات التي سافرت على طريق الندى، من شمال البلاد وجنوبها، لتعبّر عن موقفها ضد الجريمة والعنف المتفشّيين في القرى والمدن العربية، أو ربما لتسعف ضمائرها من عذابات الانتظار على «سين» اليأس ومن آهات التيه في دهاليز العجز.
أخطأ كل الذين هاجموا الخيمة وسكّانها؛ وأنا لا أعني من يحترفون التشهير محتمين برداء «وطنية» عذراء عارية وأبدية فحسب، بل أقصد أولئك الذين يدّعون أحقية القيادة ويحاولون اكتسابها عن طريق تقزيم كل خطوة، أو قرار يتخذه قادة القائمة المشتركة، حتى لو انضمت إليه، كما في هذه الحالة، لجنة متابعة شؤون الجماهير العربية في إسرائيل واللجنة القطرية لرؤساء المجالس المحلية والبلدية العربية في البلاد. أمضيت في الخيمة بضع ساعات ذكّرتني كيف كنا ونحن طلّاب جامعيون نتظاهر في ذلك الموقع، ونقطع الطرقات، على موكب رئيس الحكومة مرة، وعلى وزير المالية مرّات، محتجين على قرار حكومي عنصري بحقنا، نحن المواطنين العرب، أو ضد ضريبة مستحدثة كنا، نحن الطلاب وأهلنا الكادحين وإخوتنا فقراء الشعب، ضحاياها.
كل من دخل الخيمة شعر بدفء خفيف ومريح، وأحسّوا مثلي، بأنه ليس القلق وحده يجمعنا بل هنالك شيء ما جميل ينتظرنا على منحدرات الأمل المفقود، وأن هذا «الشيء» قد يقودنا نحو وجهة الخلاص التي ما زالت بعيدة.
كان المضربون عن الطعام يستقبلون الوافدين مثل أصحاب العرس؛ يتحركون بنشاط متثاقل وبطفولة بشوشة وصادقة؛ كان بعضهم يهزأ من جوعه ويستذكر القساوة في إغواء التفاح؛ ورغم قلة الخبرة في ممارسة طقوس النضال المختلط والموحد، حرصوا جميعًا على أن يعايشوا تاريخية اللحظة بعفوية طموحة وبحدس سليم، فأوحوا للضيوف بأنهم، رغم اختلاف منابع الهم والرؤى، يكوّنون رهطًا متجانسًا، وأنهم مصممون، رغم مشاكسات الماضي وحداثة التجربة، على المضيّ برويّة وحذر، في فج الضباب، والسير في طريق عساه يقودهم، رغم المشقة والظلمة، نحو تحقيق ذواتهم وايقاف نزيف الدم السائل من شرايين مجتمعنا.
لم تتحوّل الخيمة إلى مزار شعبي يضج بألوف الزائرين، لكنها أصبحت عنوانًا يصعب اغفاله أو غض النظر عن وجوده، ونجحت، بالتالي، في استقطاب عدد من رؤساء المجالس والبلديات العربية، وممثلين عن مؤسسات المجتمع المدني والى جانبهم، عدد من أعضاء الكنيست اليهود من أحزاب مختلفة، الذين جاءوا، في ما يشكل سابقة لافتة ومرضية، ليعبّروا عن تضامنهم ووقوفهم ضد سياسة الحكومة وفشلها في مواجهة عصابات الإجرام الناشطة داخل مجتمعنا العربي، وضد إهمالها في معالجة ظواهر العنف وملاحقة العابثين بالقانون وبالسلم الأهلي. كان حضور وسائل الإعلام المحلية والعبرية والدولية بارزًا ومهمًا؛ وشكّلت إشارات تضامن السائقين والعابرين اليهود من أمام الخيمة «لفتة» إيجابية مدّت الحاضرين بوجبة من التفاؤل، وعززت قناعتهم بأهمية خطوتهم ونجاحها النسبي في جذب عناصر جديدة من الرأي العام، وتجنيدهم لصالح قضايا المواطنين العرب، وضد السياسات العنصرية الحكومية بحقهم.
قد نسميها «خيمة الإصرار» على الحياة بكرامة وبدون خوف ووجع، وهي رغم صغر حجمها، توسطت وواجهت، بمجازية غير مقصودة، مكتب رئيس الحكومة، ومبنى المحكمة العليا الإسرائيلية، وهما السلطتان المسؤولتان، مع ثالثة الأثافي الكنيست، على تعاسة المواطنين العرب وعلى معاناتهم الطويلة والدائمة. كان مبنى المحكمة وراءنا، لكن أطياف قضاتها سكنت الخيمة فأشغلتنا مواقفهم المستفزة على الاغلب والملتبسة أحيانًا، خاصة عندما عبّر بعض الحاضرين عن ارتياحهم من قرار تلك المحكمة الصادر في أواخر أكتوبر/تشرين الأول المنصرم، والقاضي بإلزام المستشار القانوني للحكومة بتقديم لائحة اتهام ضد الشرطي، الذي قتلت رصاصته الشاب خير الدين حمدان ابن قرية كفركنا الجليلية عام 2014.

«محكمة العدل العليا الإسرائيلية» لم تعد عنوانًا لتظلمات المواطنين العرب، بعد حشوها المتعمّد بقضاة يمينيين معروفين بمواقفهم السياسية المنحازة

لم يقرأ معظم الناس تفاصيل ذلك القرار، ولم يربطوا بينه وبين قرار المحكمة نفسها، الذي أجاز، قبل أيام، ترحيل الناشط الحقوقي عمر شاكر، بذريعة تأييده لمقاطعة جميع إفرازات الاحتلال الإسرائيلي وممارساته غير الشرعية. حاولتُ وبعض الحقوقيين الذين تواجدوا في الخيمة أن اشرح بأن الصدفة فقط أفضت إلى «انتصار» الدم العربي على رعونة السياف ومحكمته العليا، ونصحت السامعين بالانتظار لنرى كيف ومتى سيدفع ذلك الشرطي القاتل جزاءه، فالأمور، هكذا علمنا القهر، تحكمها خواتيمها وتبقى أماني المظلومين منابت للورد أو للخيبات أحيانًا.
«عندما يستعمل شرطي قوة قاتلة يتطلب الصالح العام تحقيقًا قضائيًا»، هكذا كتب قاضيان، أحدهما عربي، من أصل ثلاثة في تبرير قرارهما المذكور. لم يوافقهما القاضي الثالث، نوعم سولبرغ، وهو مستوطن في الأراضي الفلسطينية المحتلة؛ فلو ترك الأمر له لقضى بعدم وجود ضرورة لفتح ملف القضية، بعد أن أغلقها المستشار القانوني للحكومة. إنه قاض يميني وأيديولوجي لا يخفي مواقفه السياسية، بل يلجأ اليها، سرّاً وعلانية، في تبرير قراراته المسيّسة، مثلما فعل، مع زميليه، في قضية عمر شاكر الذي كان يمثل ويعمل من رام الله باسم منظمة «هيومان رايتس ووتش» وهي واحدة من أكبر المنظمات التي تدافع عن حقوق الإنسان في العالم. لقد كتبتُ وأكدتُ في الماضي على أن «محكمة العدل العليا الإسرائيلية» لم تعد عنوانًا لتظلماتنا، نحن المواطنين العرب، ولا ملجأ لضحايا قمع الاحتلال وممارساته الوحشية اليومية؛ فهذه المحكمة/المؤسسة فقدت مصداقيتها منذ سنوات لكنها تعرّت مؤخرًا بشكل سافر وذلك بعد حشوها المتعمّد بقضاة يمينيين معروفين بمواقفهم السياسية المنحازة.
لم تخفِ وزيرة القضاء السابقة اييلت شاكيد، ولا من سبقها، مخططاتها من أجل السيطرة على جهاز المحاكم الإسرائيلي وفي طليعته «المحكمة العليا»؛ فقد صرّحت، في أكثر من مناسبة وعلى الملأ، بأنها تسعى بإمعان لتغيير موازين القوى لصالح اليمين، عن طريق إدخال قضاة موالين، مثل نوعم سولبرغ وشريكته في قرار عمر شاكر، القاضية يعيل فيلنر، وهما ليسا الوحيدين. يسكن القاضي سولبرغ في إحدى مستوطنات «جوش عتصيون»، على ما تستدعيه وتعنيه هذه الحقيقة من تبعات ومفاهيم؛ ولا تسكن زميلته القاضية فيلنر في إحدى المستوطنات، لكنها بدأت حياتها العامة عام 1977 كناشطة في محاولة الاستيطان الأولى التي قادتها وبادرت إليها حركة «غوش ايمونيم» الدينية اليمينية الشهيرة، في منطقة سبسطية القريبة من مدينة نابلس.
أسوق هذه المعلومات كي أقنع من ما زالوا يؤمنون بأن المحكمة العليا الإسرائيلية لم تنه عملية انحرافها الكامل عن طريق العدل النسبي والمنقوص الذي طبقته في تعاملها مع قضايانا وقضايا إخوتنا الفلسطينيين في الأراضي المحتلة عام 1967؛ وكي أوكد على أن القرار بقضية المرحوم خير الدين حمدان لم يكن إلا محض صدفة. كنت واضحًا أمام من سمعوني في الخيمة، فنحن نواجه ظواهر الإجرام والعنف في بلداتنا، لكننا نعيش في واقع دولة معظم مؤسساتها تستعدينا وتهملنا، فمعركتنا كبيرة ومتعددة الجبهات.
كانت الخيمة عنوانًا للأمل وبرقةً في عتمة تزداد فحمتها، إنها البداية، هكذا أجمع القادة المضربون، ودعوة لمن لا يدمنون مهنة اليأس والتيئيس لينضموا بخطى صغيرة وواثقة على درب طويل يجمعنا، فجميعنا يعرف كيف قد تكون نهايته.
كاتب فلسطيني

 

 

لنصلِّ من

أجل لبنان وفلسطين

جواد بولس

 

فاجأت الاحتجاجات الشعبية، التي ما زالت تتفاعل في معظم المناطق اللبنانية، وفاقت توقعات جميع المراقبين والمحللين ومتعاطي «كار» السياسة محليًا وعالميًا. وبعيدًا عمّا ستفضي إليه من نتائج وتبعات، فقد فجّرت مشاهد الميادين الثائرة ينابيع أحلامنا بعد أن وصلنا، نحن العرب أهل الشرق، إلى حافة العطش والضياع في عتمة اليأس وركام الأمل.
قد نختلف حول كثير من التفاصيل التي نشاهدها أو نجهلها، لكننا يجب أن نتفق على أن تلك الحشود قد أطلقت قبضاتها وحناجرها سيوفًا لتهوي وتقطع حبال المشانق التي لفها أرباب الطوائف اللبنانية على أعناق شعب سالت دماء أبنائه على مذابح سياسيين جشعين، قاموا باختطاف الدولة والاحتفاظ بها كرهينة خدمة لمصالحهم ولفسادهم ولكسبهم غير المشروع.
لقد هتفت الجموع ضد الفساد والفاسدين، وضد الطائفية ومن ربّاها لتصبح قوقعتهم السحرية، فيتقاتل في أحشائها ابناء الوطن الواحد، ويعيش على سطحها جميع الساسة المتوحدين على دين الدولار ومنافع الإقطاع البغيض.
كانت الحرية عنوان تلك الميادين، ومحرّكًا لعودة الوعي إلى مكانته الإنسانية ولأخذ دوره في بناء المجتمع المدني السليم، والدولة الوسيطة المنصفة الحامية.
شدّتنا شاشات الفضائيات وتفاعلت معها شرائح الناس، فتفاوتت ردود الفعل بيننا، وتضاربت الأماني، لأننا في النهاية، كسائر العرب نولّي علينا سادة من طينتنا، ونحتكم لأمراء من طوائفنا المحلية ووجهاء من قبائلنا. ففي حين كان عرش الاستبداد في لبنان يترنّح، وكان نور العقل يفج حلكة الجهل والتجهيل، كنا نمارس، نحن المواطنين العرب في اسرائيل، من مواقعنا، طقوس الظلام ذاته، وكانت فئات بيننا تطعن خاصرة حرّيتنا في وضح النهار، وتدوس على زنابقها في «ساحة البلد». لم يمض وقت طويل على قضية منع  ظهور الفنان تامر نفار على مسرح مدينة أم الفحم، حتى تكرر المشهد معه في قرية كابول الجليلية حين أُعلن، قبل أيام، عن إلغاء عرض فني كان سيقدمه تامر ضمن أمسية خيرية مخصصة لصالح جمعية مرضى السرطان.

عندما يحاصر التهديد والنيران مسارح البلد وفنانينها وساحاتها، لا يحق له التذمر من جور سلطان أجنبي، ولا الشكوى من بطش عدو غاشم

مضت القصة من دون أن تستثير أي ردود فعل حقيقية وجدّية؛ فباستثناء ندرة من بيانات الشجب الخجولة، لم نسمع صوت «المجتمع الحر»، ولا خرير الأحزاب أو ضجيج النخب المثقفة أو هزيم الطلائع الفيسبوكية الثائرة، كما سمعناها يوم خرجوا شاهرين بوستاتهم في وجه الوزيرة العنصرية ريغف، بعد أن أصدرت عدة قرارات قمع عنصرية بحق مسارح وفنانين عرب، وألغت عروضهم، أو حجبت عنهم الميزانيات الحكومية بتهمة عدم ولائهم للدولة.
لن نحصل على حقوقنا، نحن العرب في إسرائيل، ما دمنا نتصرف بهذه العقلية الهزيلة والمزيّفة وما دمنا نعيش بفيء ازدواجية معايير معيبة ومشينة؛ فمن يواجه الوزيرة العنصرية ريغف بصلابة ويدافع عن حقه في التعبير الحر، وفي الإبداع وفي الرقص وفي التمثيل، ويصمت، في الوقت نفسه، وهو عاجز أو مداهن أو خائف أو منتفع، عندما تضرب مطرقة الظلّام فنانًا كتامر نفار، أو غيره؛ أو عندما يحاصر التهديد والنيران مسارح البلد وفنانينها وساحاتها، لا يحق له التذمر من جور سلطان أجنبي، ولا الشكوى من بطش عدو غاشم.
كم قلنا ان للحرية سماء فسيحة واحدة وأن لها أرضا تقبّل نعال من يدقها بأرجل من نور وبهامات وضّاءة مكللة بالكرامة، وبألسن حرة ذربة، لا تحيد عن درب الحق ولا تمالق جائر.
لقد عرفنا، في حينه، أن مجلس بلدية أم الفحم كان وراء قرار منع عرض تامر نفار؛ وسمعنا، في حينه أيضًا، حجج البلدية في ذلك ولم نقبلها؛ بيد أنّ القضية تطوّرت بعد تدخل محكمة حيفا المركزية وإصدار قاضيها الاسرائيلي لأمر يلزم، باسم حرية التعبير، بلدية أم الفحم بإتاحة العرض كما كان مقررًا، ولكن رفض تامر نافر أن يظهر تحت «عباءة» هذا القرار الاسرائيلي، فانتهت الحادثة بصورة تجمع الفرقاء المتخاصمين، وهم متصالحون وباسمون.
أما قصتنا في كابول فمختلفة أكثر وأعقد؛ ففي ردّ على إلغاء فقرة الفنان تامر نفار قال رئيس المجلس المحلي: «إن المجلس المحلي لم يتدخل جملة وتفصيلا في أي برنامج ثقافي يقوم بتنظيمه المركز الجماهيري في كابول» وأضاف موضّحًا وآسفًا  لأحد المواقع الاخبارية: «إن الحوار دار بين الأهالي عن طريق شبكة التواصل الاجتماعي، بين مؤيد ومعارض، الامر الذي أدى الى إلغاء الأمسية الفنية الخاصة بتامر نفار». قد لا نعرف حقيقة ما حصل، مثلما عرفنا تفاصيل ما حدث في أم الفحم، ولن نعلم من تدخل وفرض هذه النتيجة، لكننا نعرف بيقين أن الواقع يحمل في طياته «مؤشرًا مقلقًا»، وذلك كما وصف عضو ادارة المركز الجماهيري في كابول، وأكّد على أن: «تكرار مثل هذا المنع يعبر عن عقلية قمعية خطيرة تهدد بإخراس أصوات مختلفة قد يكون لها أثر سلبي على جيل الشباب».
لسنا في لبنان، ولكن ستقتلنا سياسة الإعراض المنتشرة بيننا وسيدمينا إدمان مؤسساتنا القيادية على دفن رؤوسها في صدر الخوف وفي حضن المنفعة؛ وسيقضي إسكات محركات المجتمع المدني وتواطؤ بعضها على منجزاتنا المكتسبة؛ فقد وصلنا اجتماعيًا إلى القعر ولن نخرج منه إلا إذا صرنا أحرارًا.
ولأولئك الذين نسوا طعم الحرية ننصحهم بمتابعة الشاشات اللبنانية، حيث ينتشر الأمل؛ فالحرية، وإن تمظهرت أحيانًا بأقنعة ملتبسة، تعشق دومًا صخب النشيد وتنطلق على أجنحة النغم، فيمشي الى جانبها الاستقرار على أرجل من فرح ومن حب. لقد حملت إلينا الاشرطة مشاهد من وحدة غير مألوفة في تاريخ لبنان الحديث، ونقلت بعض عدسات المصورين لقطات لمجموعات تغني وترقص وتستعرض أجسادها بخلاعة لا تناسب جسامة الحدث.
بعضنا ضحك على ما شاهد، وتندر آخرون على جينات الشعب اللبناني وخصصوصيته في عشق الحياة ومراقصة القمر؛ لكنني، رغم سيل التعقيبات، فتنت وكثيرون عندما شاهدنا شيخا لبنانيا جليلا وسمعناه ، في تسجيل شاع وانتشر، يحذّر من مواقف مَن حاولوا تسخيف ما يحصل في شرايين لبنان بسبب بعض مظاهر الرقص والخلاعة والغناء؛ فتساءل مستهجنًا بحق، أهذا كل ما يهمكم مما تشاهدون؟ ألا تهم مظاهر الوحدة اللبنانية الجبارة التي لم يعرفها لبنان منذ أكثر من ثلاثين سنة؟ لقد تعرفت الناس أخيرًا على بعضها فصار الشيعي قادرًا على دخول طرابلس والخروج منها سالمًا والعكس ايضًا صحيح.
يحاول اللبنانيون الخروج من قطعان أرباب الطوائف، ليحاربوا الطائفية والفساد؛ فحيّى الشيخ الجموع وخص قطاعات الشباب الذين سبقوا «جميع المشايخ ورجال الدين المحزبين إلى حالة الوعي»؛ فبدون هذا الوعي سيكون الدمار وتُفقد الحرية وتداس الكرامات.
سنصلي من أجل لبنان؛ ونتساءل من سيرفع عندنا هذه الراية ويصرخ كما أهاب هذا الشيخ وأكّد: «أنتم يا أركان المجتمع المدني بكل مركباته حتى بملحديكم، أنتم الاحرار. لديكم، كملحدين، مشكلة مع ربكم ولكنكم احرار» .
الحرية يجب أن تمتدح .. فمن يهب بلادنا، فلسطين، عقلا يأخذنا إلى ذلك الشاطئ القريب الآمن، ولسانا لا يسكت في وجه سلطان ظالم ولا يتردد أمام أخ عابث وقامع.
لنصلي من أجل لبنان..
ومن أجل فلسطين.
كاتب فلسطيني

 

 

العظماء لا يموتون

جواد بولس

لا للرثاء أكتب، بل لأتشرف بعطر ذكراه ؛ فالعظماء لا يُرْثَون لأنهم دموع الأزل الباقية.

كان اسم بسام الشكعة، بالنسبة لأبناء جيلي، يعني حرية فلسطين الحمراء؛ وكان صوته صهيل المدى، إن جلجل لا يتركك تائهًا في مساحات الحيرة، وإن قضى لا يبقيك متسكّعًا في حضن ذلك الالتباس الحافي.

عرفته قائدًا عروبيًّا واثقًا بالفجر حتى عندما كان الآخرون يلتحفون العتمة ويخشون حفيف الشجر وهسيس الليل. وعشت، لسنوات، قريبًا منه فوجدته نبعًا صافيًا حرًّا، وانسانًا لا يخشى في قول كلمة الحق سيفًا؛ وفارسًا يرقّ قلبه لكل من قصده شاكيًا من سطوة الأيام والأنام.

كنت ، في أواخر سبعينيات القرن الماضي، نشيطًا في الحركة الطلابية الجامعية وبدأت من موقعي أتعرّف على جيل القيادات الفلسطينية في وقت مبكر ؛ ثم صرت متدربًا فمحاميًا في مكتب المحامية الشيوعية التقدمية فيليتسيا لانجر ، حيث التقيت بكبار قادة فلسطين في ذلك الزمن، وفي طليعتهم صاحب الابتسامة الهادئة والجبين العريض بسام الشكعة.

حاول أعداء فلسطين، وعلى رأسهم الاحتلال الاسرائيلي، أن يضعضعوا مكانته القيادية وأن ينالوا من تأثيره السياسي بجميع الوسائل والأحابيل والطرق؛ فلجأوا بخبث، في البدايات، إلى افتعال وتأجيج الصراعات العائلية النابلسية المحلية، لكنهم فشلوا وبقي بسّام رقمًا صعبًا وعلمًا حاضرًا في كل واقعة وحدث، واسمًا وازنًا على كل منصة ومنبر .

لم يخفِ بسام انتماءه السياسي العروبي القومي الناصع، فاستغلّ الوشاة والمغرضون صدقه وأشاعوا أن ولاءه أولًا لسوريا ولبعثها، على حساب فلسطين وشعبها؛ إلا أنه لم يلتفت إلى تلك السفاهات، ومضى على طريق النضال كما تشهد حياته الزاخرة بالتضحيات الجسيمات.

قالوا عنه أنه ارستقراطي وابن لعائلة مترفة ؛ فلم يكترث لذلك أيضًا، بل وقف في وجه العاصفة وتصدّر الميادين؛  وأقام مع رفاق الدرب  "لجنة التوجيه الوطني" التي شكلت دعامةً لمشروع التحرر الوطني الفلسطيني ووتدًا ثبّت دور منظمة التحرير الفلسطينية وما عنته من وحدانية تمثيل الشعب وأهداف كفاحه الوطنية.

عرف أعداء فلسطين أهمية قائد مثل بسام الشكعة وقوة تأثيره الشعبي، وبعد أن فشلوا في إسكاته وفي ثنيه عن مواصلة الكفاح ضد الاحتلال وضد أعوانه، حاولوا منع الناس من التواصل معه، فنصبوا على باب بيته في نابلس حاجزًا عسكريًا، كانت مسؤولية جنوده التنكيد على من يدخل لزيارته ومن يخرج منها. أرادوا ترهيب الزائرين فكانوا يسجلون أسماءهم وتفاصيلهم الخاصة حتى يلاحقوههم. لقد فشلوا مرة أخرى ولم يحققوا اهدافهم بل على العكس تمامًا، فأعداد الزوّار، رغم التنكيل، كانت تتزايد، وبقيت دار بسام عنوانًا للأحرار وللناس وبقي صاحبها "أبًا للنضال" .

شكّل بسام الشكعة، مع ثلة من القادة الوطنيين الفلسطينيين، حالة متميّزة في تاريخ الكفاح الفلسطيني دامت لسنوات طويلة ؛ كنت أنا شاهدًا على جزء مما كانت تعنيه تلك التجربة الفريدة حين اعتُمدت، في بداية ثمانينيات القرن الماضي، من قبله ومن قبل رفيق دربه، الراحل الكبير وحيد حمد الله، رئيس بلدية عنبتا، لأكون محاميًا للدفاع عن أصحاب الأراضي التي صادرها الاحتلال بحجة أنها "أراضي دولة".

تابعت معهما عشرات القضايا وشاهدت بأم عيني كيف كانا ينتفضان اذا سمعا بأمر مصادرة جديدة أو بخيانة صاحب أرض ضعفت ذمته فسرّب أرضه للمستوطنين. لم تكن الخيانة، في ذلك العصر، عنده وعند أترابه ، القادة الوطنيين، مسألة فيها وجهة نظر .

لقد كانوا قادة أوفياء، فشكّلوا مظلّةً وطنية واقية وحصنًا منيعًا حموا تحت سقفه من كان يلجأ اليهم، وعلّقوا على جدرانه سورًا أفادت كيف تكون التضحية سموًّا والعطاء فريضة والوفاء للوطن عربونًا للخلاص.

لقد عرفته معلّما سياسيًا فذًا يستعين بعقله في الشدائد؛ وخبِرْتُهُ صديقًا وفيًا يعطي من قلبه نبضة ومن عروقه وردة كما فعل عندما تجشم عناء السفر الى بلدتي ليشارك في فرحي.

كان العرق يتصبب من جبين ضيفي العزيز  وهو يمشي ببطء متكئًا على عكازتيه وبرفقته، أم نضال ، شريكته في الكفاح وفي العناء وفي الأمل. عاتبته على المجيء وقد كان عائدًا من جولة العلاج في فرنسا.  ضمّني إلى صدره فشعرت انني أملك الدنيا. 

لا أعرف ماذا تعرف أجيال اليوم عن تلك الملاحم التي سطرها جيل تحدّى، بكبرياء الأحرار ، "جنازير دبابة الفاتحين" وغطرسة الرصاص، فوصل بارودها إلى عتبات بيوتهم.

يبكيني جهل "أجيال اليوم" وقطيعتهم عن ذلك التاريخ الناصع من حياة شعبنا؛ ويقلقني فقدانهم لجهات الريح وليواطر الأمل؛ فلقد ضحّى بسام الشكعة، وأمثاله، من أجل استقلال فلسطين والعيش في ربوعها بكرامة، وقاوم بصلابة لم تلن؛ وحتى عندما قطع بارود الفاشيين ساقيه، مضى ماشيًا نحو الشمس بقامة من نور وبعزم من نار.

لقد عرفته انسانًا وقائدًا وصديقًا، فلسطينيًا روى بدمائه تراب الوطن/ نابلس التي أحبها وعاش فيها وسيبقى؛  فالعظماء يرحلون، لكنّهم لا يموتون لأنهم دموع السماء الزكية الأزلية.

 

Attachments area

 

 

ليل هبة البارد والطويل

جواد بولس

 

لم أحمل لها بشارةً، لكنني وعدتها بزيّارتها قريبًا في سجنها، ووعد المحامي للأسير الأمني أمانة يجب أن توفى مهما كانت الظروف. وصلت بوابة معتقل الجلمة في ساعات الظهيرة ، كانت شمس الجليل قريبة من رأس جبل الكرمل، وكان الحَرّ على الأرض شديدًا. عرّفت عن نفسي فأدخلتني السجّانة إلى غرفة الاستقبال وطلبَت، بأدب، أن أنتظر لأنها أخبرت المسؤولين بوجودي، وهم يفحصون مع الجهات المسؤولة إذا كانت لدي موافقة لزيارة الأسيرة هبة اللبدي.
غرفة الانتظار ضيقة. يوجد فيها كنبتان وجهاز كهربائي يضخ الماء البارد والساخن، لكنني لم أتشجع على استعماله رغم شعوري بالعطش. كنت لوحدي. لم أشعر بالضجر، فشاشة هاتفي الذكي كانت جليستي الظريفة، بينما أبقاني ضجيج أبواب الحديد، وهي تفتح وتغلق بغضب وبوتيرة لافتة، في حالة تأهب مستمر وقلق. توجهت، بعد نصف ساعة من الانتظار، إلى السجانة مستوضحًا عن أي جديد، فأخبرتني بوجود موافقة على زيارتي، ولكنها تنتظر وصول السجان الذي سيرافقني إلى داخل المعتقل لأنه يتناول وجبة غذائه.
أعرف غرفة الزيارة في معتقل الجلمة جيّدًا، فهي تشبه كشك هاتف عمومي قديم يتسع لشخص واحد. يجلس فيها المحامي على كرسي وأمامه فاصل زجاجي سميك متعب للنظر ، ثم يتلوه فراغ ينتهي بشباك مقطع بمربعات حديدية صغيرة ستجلس من ورائها الأسيرة. على يميني هاتف سأتواصل بواسطته مع موكلتي، وورائي باب حديدي يذكرني بأبواب خزنات البنوك القديمة، أو بقصص الأقبية التي قرأنا عنها في روايات الإثارة الشهيرة.
حاولت أن استغل وقت انتظاري بترتيب ما سأقول لهبة، وكيف سأعيد إليها الثقة والأمل، خاصة بعد شعوري عندما قابلتها قبل أيام في قاعة محكمة عوفر، بأنها تائهة ولا تعرف ماذا يحصل معها وكيف ستخرج من هذا النفق المظلم. لم يكن معي سوى بضع أوراق نشرنا فيها شهادتها حول ظروف اعتقالها، كنت أقرأ التفاصيل وأشعر بما عانته بعد أن جاءت تحمل أملًا، فعاشت كابوسًا بشعًا لم ينته بعد. كانت هبة اللبدي في طريقها من عمان إلى فلسطين، برفقة أمها وخالتها، لحضور زفاف قريبتها عندما اعتقلتها قوات الأمن الاسرائيلية، في العشرين من أغسطس الماضي، على نقطة الحدود مع الأردن، حين وصلت جسر الملك حسين في الساعة التاسعة صباحًا، وكانت تحلم بقضاء خمسة أيام من الفرح في أحضان عائلتها. فصلوها عن أمها وأدخلوها إلى غرفة جانبية وقاموا بتفتيشها وهي شبه عارية، بعد أن رفضت إنزال ملابسها الداخلية. عصبوا عينيها وقيّدوا رجليها ويديها ونقلوها إلى معسكر جيش قريب. أبقوها في الشمس لمدة نصف ساعه ثم أدخلوها إلى غرفة فيها مجندتان. فتشوها مرّة أخرى وسألوها عن صحتها. كانت هبة مضطرّة لقضاء حاجة خصوصية، لكن الجندية رفضت إبقاءها وحدها، وأصرّت أن ترافقها، فدخلت معها غرفة المرحاض الضيقة. شعرت هبة بحرج شديد وعانت، وهي تمر بظرف صحي طارئ، من انتهاك بشع لخصوصيتها.

وعدتني أن ترجع إلى زنزانتها لتحلم بالزنابق، ووعدتها أن نبقى معها

نقلوها إلى معتقل المسكوبية ثم إلى معتقل بيتح – تكفا الذي وصلته بحدود الساعة الثامنة مساءً. كانت منهكة جدًا وتعاني من تبعات حالتها الصحية. لم تسترح في زنزانتها سوى نصف ساعة، جاءوا بعدها وأخذوها لجولة التحقيق الأولى، التي استمرت حتى ساعات فجر اليوم التالي. قضت على هذه الحالة مدة ستة عشر يوما من دون أن تقابل محاميها. كانت معظم جلسات التحقيق معها تمتدّ إلى ساعات طويلة وتتمّ وهي مقيّدة ومربوطة إلى كرسي مثبّت في الأرض. كادت تفقد وعيها أكثر من مرة لولا نوبات الآلام في ظهرها وصراخ المحققين الذين كانوا يحيطونها بكراسيهم القريبة ويتعمدون ملامسة رجليها. كانوا يستفزونها بالشتائم ويتفّون عليها ويصفونها بنعوت مهينة ويهددونها باعتقال اختها وامها، وبابقائها في الزنازين حتى تتعفن.
لقد مارسوا ضدها كل ضروب التحقيق، فحتى لعبة المحقق الجيد والمحقق السيئ جربوها، وتركوها، أكثر من مرة، في زنزانة صغيرة قذرة ومليئة بالحشرات، حيث كانت تصحو أحيانًا والصراصير والنمل على ملابسها. كانت حيطان الزنزانة إسمنتية وخشنة والفرشة رقيقة وبدون غطاء ووسادة، والضوء مشتعل طيلة الأربع والعشرين ساعة، والتهوية معدومة والرطوبة غير محتملة. كان الحمّام كالقبر والأكل ليس كأكل البشر، وكل وسائل التعذيب والقهر كانت مجازة في سبيل إكراهها على التوقيع على الاعتراف والإدانة.
لم تعترف رغم قساوة التحقيق، فنقلت من هناك إلى سجن مجدّو وبعده إلى معتقل الجلمة، ثم أعادوها إلى زنازين بيتح – تكفا، حيث أكملت فيها مدة خمسة وثلاثين يومًا من دون أن يحصل محققوها على أي أثبات يورطها في أي جرم كان أو مخالفة أمنية. أصدروا ضدها، في الرابع والعشرين من سبتمبر الماضي، أمر اعتقال إداري لمدة خمسة شهور ، بذريعة أنها تشكل خطرًا على أمن المنطقة وعلى سلامة الجمهور. فوجئت هبة بهذا القرار، فأعلنت بعد يومين منه اضرابًا كاملًا عن الطعام محتجة على استمرار اعتقالها ومطالبة بالافراج عنها وبإعادتها إلى موطنها الاردن.
لم أشعر بأن سجانًا كان يقف ورائي حين كنت أراجع التفاصيل وانتظر قدومها. فجأة سألني، فتوقفت عن متابعة باقي فصول قصة العذاب: هل تتذكرني؟ وأردف، قبل أن يسمع ردي السلبي، بأنه يعرفني منذ أكثر من ربع قرن حين كان يرافق الأسرى الفلسطينيين من وإلى المحاكم العسكرية. أأشفق عليك؟ قلت له بما يشبه الدعابة، فأنت، على ما يبدو، محكوم أكثر من أسراك بالمؤبد، لأنك تنام في بيتك وتحلم بالسجن وبطرطقة أبوابه الحديدية ووقع المفاتيح على الأقفال، بينما ينام الأسرى الفلسطينيون ويحلمون بالحرية، ويشعرون بدفء فراش امهاتهم وبحنان زوجاتهم. رأيت في عينيه وميضًا يشبه نوبة الغضب، أو ربما إشارة النعم. لم يجبني فقد تراجع وأغلق عليّ الباب لأبدأ زيارتي لهبة.
أدخلتها سجّانة شقراء، بدت غير ودودة، وأقعدتها على الكرسي وراء ذلك الشباك الحديدي المقطّع. كانت يداها مقيدتين وفي يمناها زجاجة ماء بلاستيكية. طلبتُ فك قيدها قبل بداية اللقاء، فعادت السجانة وأفهمتني بلهجة عاتبة انها تعرف وظيفتها.. وفكت القيد. باشرتني هبة بابتسامة بعثت في نفسي طمأنينة، واخبرتني انها ما زالت مضربة عن الطعام وترفض أن يفحصها أي طبيب. صار صوتها أخفض وفيه مسحة حزن وغصة، فهي قلقة وتريد أن تعود إلى أحضان عائلتها والوطن. كانت رغم الوجع في صوتها صلبةً وسخرت من معذبيها، فحتى عندما أخبرتني انها لم تستحم منذ حوالي الاسبوعين ضحكت كما تضحك الفراشات.
أخبرتها أننا ما زلنا ننتظر قرار قاضي محكمة عوفر العسكرية في طلب النيابة بتثبيت امر اعتقالها إداريًا لمدة خمسة شهور بحجة انها تشكل خطرًا على أمن المنطقة. لقد حضرت هبة الجلسة التي انعقدت في الاسبوع الماضي وسمعت كيف أحرج محامي الدفاع ممثلَ النيابة حين سأله، إذا كان السبب في استمرار سجنها هو خطورتها على أمن المنطقة، فلماذا لا يطلق سراحها لتعود إلى وطنها الاردن حيث لن تشكل خطرًا عليكم؟ لم يتلقّ القاضي إجابة واضحة، فأمر بضرورة حضور من ينوب عن جهاز المخابرات العامة عساه يزوّد المحكمة بردّ شاف على هذه المسألة.
سمعتني بهدوء. حاولت أن أطمئنها فأعلمتها بأن تفاصيل قصتها نشرت بشكل واسع، وأن الاخبار أفادت بأن الاردن يطالب، بشكل رسمي وحازم، بالافراج عنها، ونحن نتوقع أن يحصل ذلك قريبًا. وعدتني أن ترجع إلى زنزانتها لتحلم بالزنابق، ووعدتها أن نبقى معها وبأنني سأطالب الآن إدارة المعتقل بنقلها كي تستحم في حمام لا يوجد فيه رقابة كاميرات كما يوجد لديها. طبعتُ كفي على الزجاج مودّعًا ففعلت مثلي وتواعدنا أن نلتقي قريبًا. قابلت مدير المعتقل وشكوته سوء حالتها، فأمر، بدون تردد، أن تنقل إلى «حمّام آمن».. وملائم. شعرت بحمامة تحط على كتفي .عدت مسرعًا إلى القدس كي أصل إلى بيتي قبل البدء بإغلاق الطرقات، كما يفعلون في كل يوم غفران فيُذيقون أهل القدس الشرقية طعم العيش في الجيتوات..
وهذه قصة أخرى.
كاتب فلسطيني

 

 

خوف ورياء وقتل

جواد بولس

 

في حادثة دامية بين مجموعتين من سكان قرية مجد الكروم الجليلية، يوم الثلاثاء المنصرم، قتل شقيقان وجرح آخرون ما زالوا يتلقون العلاج في أحد المستشفيات الإسرائيلية. قد تكون هذه الجريمة تدبيرًا ساخرًا من أحابيل القدر، أو نقرة من مهمازه الأزلي على خاصرتنا الضعيفة الدامية، فلقد وقعت الحادثة البشعة بالتزامن مع الفعاليات الشعبية، التي أعلنتها بعض البلدات العربية، احتفاءً بذكرى مرور تسعة عشر عامًا على «هبة أكتوبر» التي قتلت فيها شرطة إسرائيل، في اكتوبر/تشرين الأول عام 2000، ثلاثة عشر مواطنًا عربيًا.
كانت ردود فعل الشرطة على المظاهرات التي انطلقت في عدة مدن وقرى عربية، احتجاجًا على دخول شارون إلى المسجد الأقصى، واستفزازه الذي أدّى إلى تفجير انتفاضة القدس والأقصى، وحشية واجرامية، حتى إنها أجبرت، في حينه، المؤسسة الحاكمة على إقامة لجنة تحقيق رسمية برئاسة قاضي المحكمة العليا ثيودور أور، فصارت اللجنة تعرف باسمه. حظيت توصيات اللجنة بقليل من الاهتمام ومن المتابعة، ثم أهملت رغم أهميتها، شأنها شأن كثير من الوثائق ذات العلاقة بواقعنا، نحن المواطنين العرب في اسرائيل.
وقد كُتب الكثير عن تلك الأيام السوداء، وعن تداعياتها الخطيرة، ثم مرت السنون ولم نعد إليها إلا من باب استحضار الذكرى السنوية والتأكيد فيها مجددًا على ما أجمع عليه معظم المحلّلين والمفكرين والمثقفين بيننا، حين وصفوا، وقتها، ما قامت به قوات الأمن كشارة لإعلان حرب سافرة، تستعدي فيها الدولة عرقيًا خُمس مواطنيها من العرب. لا يختلف عاقلان على صحة هذا التوصيف، الذي كان صحيحًا في حينه ولم يزل، فشرطة إسرائيل نفّذت خلال العقود الماضية ضد الأقلية العربية سياسات الحكومات المتعاقبة العنصرية والقامعة، وطوّرت اتجاههم، من جهتها، مفاهيم منهجية، صارت في السنوات الأخيرة أكثر تطرفًا ودموية، ولكن اكتفاءنا، بالمقابل، بترديد هذا التشخيص من على كل منصة، ومع سقوط كل قتيل بنيران بعضنا، فيه قرينة على عجز مجتمعنا عن مواجهة الأسئلة الصعبة، أو ربما على استسلامه أمام حكم السكين وقضائه، وفي الوقت نفسه فيه دلالة على ضعف القيادات وبعض النخب الفاشلة في تأدية أدوارها الحقيقية، وفي حماية الناس وتأمين سلامتهم وأمنهم الفردي.
لقد احتضن تراب الوطن، منذ أحداث اكتوبر عام 2000، جثامين ما يقارب الألف وأربعمئة رجل وامرأة، كانوا قد ولدوا وتربوا على أحلامه/أوهامه، ولكنهم قتلوا بخناجر ورصاص أشقاء لهم كبروا، مثلهم، في أحشائه. كان سبتمبر/أيلول الأخير من خوفه أشد أصفرارًا، وناحبًا من كمية النزف، ففيه لوحده أردى أبناء مجتمعنا «المعطاء» أرواح ثلاثة عشر من بنيه وبناته الطيبين، في ما قد يعتبر تخاطرًا حزينًا أو مستفزًا يحاكي عدد قتلى ذلك الأكتوبر المجيد.
تقاس الأمور بخواتيمها، أو في قاموس الشقاء بعدد الضحايا المزهقة أرواحها، وهذا ما يدفعني، اليوم، إلى أن أطرح مرّة أخرى، تساؤلي المرهِق والملحّ، من أين وكيف سيأتينا الفرج والنجاة، ما دمنا نعلق على «صدر بيتنا» بقداسة مخدوشة شعارنا «لا للعنف لا للقتل ولا للجريمة» ونكمله «بعجز» وشعار «لا للشرطة اللعينة»؟
عشرون عامًا مرت وأكتوبر ما زال بضحاياه «مجيدًا» كأيلول وباقي فصول الندم.

إذا كان دور الشرطة في الأزمة الحالية وجهًا للهزيمة، فإن فقدان مجتمعاتنا لمعظم مظلاته الاجتماعية والسياسية الذاتية الواقية، يعدّ وجهها الثاني

كان هذا الأسبوع ثقيلًا علينا. غزت أخبار رصاصه القاتل في القرى والمدن العربية المواقع الاخبارية وخلقت جوًا من الرعب المستفز. دعت، في أعقاب موجة القتل الاخيرة، لجنة المتابعة العليا لشؤون المواطنين العرب في إسرائيل، إلى عقد اجتماع طارئ في قرية مجد الكروم المكلومة، وأعلنت في أعقابه الإضراب العام في جميع مرافق الحياة في مواقعنا العربية. أخطأ من انتقد قرار الإضراب هذه المرّة، فنحن بحاجة إلى موقف قيادي صارم، يستجلب حوله التفافًا سياسيا شعبيا واضحا، ويكشف للملأ قوة الوحدة التي بدونها لن ينجح المجتمع بتحجيم ظاهرة العنف ومواجهة حالات القتل المنفلت. من الواضح أن الاكتفاء بخطوة الإضراب لوحدها لن يحقق ما نرجو وما ننتظر، بل سيعيدنا إلى مواجهة الاسئلة الوجودية الحقيقية الصعبة. لقد تطرق الكثيرون في الماضي إلى جذور ظاهرة العنف، وشخّصوا أسباب تفشيها في مجتمعنا، على اختلاف وتنوّع مصادرها، وعلى الرغم من كثرة المؤتمرات التي عقدت، والدراسات التي أنجزت، لم ينجُ المجتمع من مخلفات ظواهر العنف ومن حالات القتل المتزايدة.
إذن، ليست مشكلتنا في تشخيص حالتنا أو في اكتشاف ما أدّى إلى ولادتها وانتشارها، فمجتمعنا صغير وعدد قرانا ومدننا العربية محدود، والكل منا يعرف، كما تعرف الشرطة، ما يجري في كل حارة وشارع وقبو، لكننا مجتمع مأزوم ومشلول لأنه مصاب بداءي الخوف والرياء. لقد دفع غياب الشرطة عن ساحات الجريمة وإهمالها المتعمد وعدم ملاحقتها للجناة، شرائح كثيرة من المجتمع إلى العزوف عن الشؤون العامة، وإلى عدم الاكتراث بما يجري في الحيزات الرحبة ومن ثم إلى التجائهم نحو العيش بفردانية، زودتهم بشعور موهوم من الأمان الفردي.
واذا كان دور الشرطة في الأزمة الحالية وجهًا للهزيمة، فإن فقدان مجتمعاتنا لمعظم مظلاته الاجتماعية والسياسية الذاتية الواقية، يعدّ، بلا شك، وجهها الثاني. وإذا كان الخوف سيّد العجز المستشري بيننا، فالمداهنات الاجتماعية والسياسية لبعض آباء ومولدي مفاعيل العنف ومنابته القاتلة تعدّ، بدورها، مفقسته الدافئة. لن ننجح في الخروج من أزمتنا الخانقة اذا استمررنا في معالجتها بالأساليب الفاشلة نفسها. ولن يكون من الصعب ابتكار وسائل دفاعية وهجومية جديدة، إذا عقدت القيادات الصادقة عزمها على فعل ذلك، أما أنا فسأساهم ههنا بتقديم مقترحين، على أمل أن يساعدا ذوي الشأن على التقدم إلى الامام ولو خطوة واحدة.
*الأول ، تشكيل مجلس طوارئ أعلى، على ألا يكون بين أعضائه سياسيون فاعلون في أحزابهم وفي مواقعهم الفصائلية. يكلف هذا المجلس بوضع خطة للتواصل مع جميع مؤسسات الدولة وفي طليعتها وزارتا الأمن الداخلي والقضاء، بهدف إجبارهم/ إقناعهم على القيام بواجباتهم تجاه حماية أمن المواطن وسلامة المجتمع. كما يجب الاتفاق والتوافق على ضمان طريقة للتواصل الصحي بين هذا المجلس وباقي المؤسسات القيادية في مجتمعنا.
*والثاني ، تشكيل طاقم من الخبراء والفنّيين، بدون الكشف عن أسمائهم، وتكليفهم بوضع خريطة مفصلة لبؤر العنف الناشطة بيننا، ومصادره وارفاقها بمقترحات عملية غير تقليدية لمواجهتها.
لسنا أول مجتمع يواجه هذه الظواهر ويعاني من نتائجها، فقد جربتها قبلنا أمم أخرى واضطرت إلى معالجتها بوسائل استثنائية، أملتها أجواء الخوف السائد واحتمالات الانتقام الفردي، وأملاها كذلك تقيّد الأطر السياسية القيادية التقليدية الفاعلة في أحزمتها الهوياتية المتخثرة، وتخبطها في التناقضات القائمة بين مصلحة المجتمع المدنية الآنية وسلامته وآماله السياسية المستقبلية.
كاتب فلسطيني

 

 

العرب في

 إسرائيل بين نارين

جواد بولس

 

تتوالى الأخبار علينا كزخات الماء في غابات المطر؛ فما أن انتهت القوائم من مقابلة رئيس الدولة، حتى انشغلنا بخروج حزب التجمع عن موقف حلفائه في القائمة المشتركة، وامتناعه عن ترشيح غانتس لتركيب الحكومة المقبلة. دارت النقاشات وتباينت الآراء، فحذّر البعض من إرساء سابقة ستجيز لكل حزب أن يخرج في المستقبل عن إجماع رفاقه، ما سيضعف الوحدة ويضعضع متانتها، وذهب آخرون إلى أن الخطوة كانت محكمة وتمّت بالتنسيق مع حزب كاحول- لافان، ثم أعلنت لجنة الانتخابات العامة النتائج النهائية، فربح حزب الليكود مقعدًا على حساب حزب يهدوات هتوراه.
وفي المقابل بموازاة ذلك كلّه لم تنقطع أخبار سقوط القتلى في قرانا، حتى وصل عددهم إلى ثمانية في أربعة أيام فقط. إننا نعيش في عالمين؛ تبني شاشات التلفزيون والحواسيب أوّلهما بينما نواجه الثاني في جميع لحظات حياتنا وفي كل خطوة نخطوها. لم تنتبه جمانة حينما كانت تفتش مع صديقتها على زاوية آمنة في أحد المقاهي الشهيرة في المركز التجاري الكبير، للرجل الذي كان يجلس إلى الطاولة المجاورة وراءهما. سمعهما تتحدثان بالعربية فقام عن كرسيه واقترب كثيرًا وسألها بلهجة عدائية «هل أنت مع القائمة المشتركة؟». كان رجلًا في الخمسينيات من عمره يلبس بنطالًا قصيرًا لونه أزرق مخططًا بالأبيض وفوقه سترة بلون صدأ النحاس؛ لاحظت، عندما رفع يده في وجهها، أن ساعده مطوّق بساعة رياضية لون حزامها أصفر، وقريبًا منها كان خنصره يختنق بخاتم بارز يشبه خواتم سماسرة القمار والرهانات الكبار.
«هل يزعجك انني مع القائمة المشتركة؟» سألته جمانة. لم يدعها تكمل جملتها وراح يصرخ في وجهها ويشتمها ويطالبها بأن تترك إسرائيل وتعود إلى غزة؛ «عودي إلى هناك على جمل فأنتم لا يليق بكم إلا الجمال». كان شرسًا ومخيفًا وحين استقام ودفع صدره إلى الأمام، بدا لها لون وجهه كالنبيذ الرديء الذي يميل إلى حمرة قانية تخفي سمرة هي لون وجنتيه الشرقيتين الأصلي. بدأت جمانة وصديقتها تتحركان نحو باب المقهى وهو يلحق بهما. ربما كان في عقده السادس، شعره أبيض خفيف يغطي جانبي رأسه وعيناه مدورتان كعيني ذئب جائع. «إذهب أنت من حيث جئت» أجابته بثقة صاحب البيت. غضب حتى صار كلامه أكثر حدة. نظرت جمانة نحو امرأة سألتها عما يحدث فحاول أن يضربها من الخلف ولكن صديقتها مدّت ذراعها وصدته. أنهت جمانة قصتها الموجعة، حين كانت الشاشات تنشر خبرًا عاجلًا عن تكليف رئيس الدولة ريفلن لنتنياهو بتركيب الحكومة.

كان المناخ السياسي مقلقًا وخطيرًا وبسببه اختارت الأحزاب والحركات السياسية أن تتبنى نهجًا نضاليًا وحدويًا

لم يكن الخبر أمرًا مفاجئًا أو قرارًا غريبًا؛ فبعد أن تبيّن أن الناخبين الإسرائيليين لم يحسموا خياراتهم بشكل قاطع، وبعد أن اتضح أن صناديق الاقتراع أنتجت واقعًا سياسيًا معقدًا وملتبسًا، وبعد أن استرجع نتنياهو هوامش واسعة تساعده على المناورة وتتيح له فرصًا لاستعادة مكانته، كالرجل القوي القادر على قيادة معسكر اليمين العنصري والفاشي، بعد كل ذلك فقد صار محتملًا أن نفيق لنجد أنفسنا، نحن المواطنين العرب، واقفين في محطة القطار السريع نفسها التي كنا على رصيفها قبل السابع عشر من سبتمبر/أيلول الجاري. بدأنا نناقش تداعيات الخبر وفي الجو شعور من الخيية أو ربما الخوف؛ لقد أحسست، هكذا قلت لأصدقائنا، ساعة أعلن الفرقاء عن بناء القائمة المشتركة من جديد، أن جميع من سعى في سبيل إنجاح المهمة كان مدفوعا بوازع من ضميره الوطني وبشعوره /خوفه من فداحة الهزيمة الكبرى التي كان سيمنى بها مجتمعنا، لو خضنا الانتخابات ونحن على حالة التشرذم التي كانت سائدة، وفي أجواء الاقتتال الفصائلي التي خاضتها معسكرات حزبية هرمة، وجنود كانوا يبيتون على حافة اليأس والتيه. فهل سيذهب كل ذلك سدى؟
لم يخفِ نتنياهو وحلفاؤه، في السنوات الأخيرة، شروطهم المستفزة لقبولنا كمواطنين في الدولة؛ ولم يتركوا لأي عاقل منا أي فسحة للوقوع في الخطأ أو للمغامرة بنزق؛ ففِرق الموت، التي أنعشها تحريضه وتحريض حلفائه، أنجزت رحلات صيدها جهارة، ولاحقت فرائسها في الشوارع، وفي الحدائق العامة وفي الشطآن، وفي المراكز التجارية؛ ولم توفر، على الجبهات الأخرى، كتائب الأمر بالطاعة وفرض الولاء جهدًا في محاصرتنا في الكنيست وفي الوزارات وفي المحاكم و»قراقيشها» .
كان المناخ السياسي مقلقًا وخطيرًا وبسببه اختارت الأحزاب والحركات السياسية أن تتبنى نهجًا نضاليًا وحدويًا، فاصطفوا جماعةً وراء شعار الحملة الانتخابية الأبرز والأهم وهو، «إسقاط نتنياهو ومعسكره والتصدي لنهجهم»، مؤثرين السير في طريق ضيق يجمعهم بدل أن يتمترسوا آحادا في خنادق الوهم الوسيعة، أو التحليق على أجنحة رعودهم المهيضة. أجمعنا على أن ما أحرزته القائمة المشتركة يعد إنجازًا ، خاصة إذا تخيلنا بدائله وتأثيرها على مستقبلنا. تحاول بعض الجماعات التي قاطعت الانتخابات أو بعض الناقدين والمحللين تحميل القائمة المشتركة المسؤولية عن نتائجها، وفي هذا تجنٍّ وتنكر للمكاسب التي تحققت، حتى لو اعتبرناها متواضعة؛ ويهاجم البعض المشتركة متهكمًا على وحدتها الهشة، أو شامتًا أو مزايدًا على موقفها بعد الانتخابات. أما المؤسف أنهم يفعلون ذلك وهم واقفون على الضفة، ويصفقون للسيل رغم انه يجرف نبتهم ويهد قبابهم؛ فنحن لم نسمع من جميع من تفّه تجربة المشتركة الأخيرة، كيف عساهم أن يسعفونا، إذا تمكن الجراد الفاشي واستوطن على رقبة الدولة، وما إذا جاءت جحافله لتستتوبنا، نحن العرب، أو لتأمرنا بطاعتهم أو بدفع الجزية للدولة اليهودية، إما عن رضا، وإما ونحن صاغرون؛ أو إذا رفضنا، كيف سنقاتلهم وبأي وسائل؟ لم يقل أحد أن إسقاط نتنياهو ونهجه قد يفضي إلى دحر اليمين الإسرائيلي أو اختفائه، ولم يدّع طرف بأن حزب «كاحول- لافان» ورئيسه غانتس هم زهرات من مشاتل اليسار.
كان واجبنا ولم يزل أن نتصدى للطرف الأسوأ وأن نحاول صد الأخطر؛ ومن لا يرى في معسكر نتنياهو انه أخطر الخطرين، فهو إما غاف أو حالم ينظر للواقع بعين من زجاج أو من سراب، ومن يستخفّ بما يُعدّونه لنا فليقرأ كيف نجحت كتائب الموت السوداء، في بناء أمجادها في برلين من جماجم ناس حالمة، ومن نوايا أناس قامروا على طيبة غيب شيمتُه الغدر. لم تكن القضية بالنسبة لنا ولن تكون أي اليمينين حليفنا؛ فأمامنا كل الجهات عدم، والواقع كالسيف مشهر، إما في حلوقنا أو في أيادينا؛ ولا خلاص لنا ولا خُلاصات إلا في تعاليم الندى للعطش أو في رقص الديوك، أو في العشق على طريق النحل والصدى. كان إغواء الصلاة في الشرق مذ سحرت عشتار صدر الفجر وأرقصت مزامير داوود خواصر العذارى، ومذ أغشت عصا موسى عيون المدى.
الأحلام جميلة لكنها لن تحصل بلا نوم، والنوم في مواقعنا عسير بدون هدأة البال والاستقرار؛ والأشجار تموت واقفة لكنها أبرك وأفيد وهي خضراء ماوية؛ فلا وقت لدينا للمزايدات ولا لليأس؛ ومن يرى الفاشية غيمة عابرة، فليقنع ويكتف بلعنها من شرفته ولينتظر حبر القمر؛ ومن يراها نزوة عربيد ثمل، فليحاول إغراقها بالبصاق أو فليدع عليها بالبرص. نحن بين نارين، نار أعدائنا ونارنا، وستكون نجاتنا ممكنة إذا أطعنا عقولنا وتخلينا عن مداعبة القدر.
اتصل مئات الأصدقاء، يهودًا وعربًا، بجمانة وبنا ليعبروا عن تضامنهم وعن شجبهم للاعتداء عليها وعلى صديقتها. بعضهم حثنا على تقديم شكوى لدى الشرطة مع أن معظمهم أكدوا أنها لن تفيد. كان مريحًا أن نشعر بوجود الأصدقاء والحلفاء بين ركام الحطام، وجميلًا أن نسمع إنهم يحبوننا وإنهم يشعرون مثلنا كضحايا يجب أن تنتفض إزاء فكي وحش لاحق جمانة في المقهى، لا لأنها عربية فحسب، بل ولأنها صوتت للقائمة المشتركة.
كاتب فلسطيني

 

 

خلاصات أولية

من معركة لم تحسم

جواد بولس

 

 انتهت المعركة الانتخابية الإسرائيلية وظهرت خريطة الأحزاب الفائزة بها، وكذلك قائمة النواب الذين سيمارسون أدوارهم على مسرح السلطة التشريعية، التي ستتولى، بعد إعلان لجنة الانتخابات المركزية عن النتائج النهائية، تنفيذ مهامها الجسيمة، وفي طليعتها تحديد شكل نظام الحكم في الدولة. كذلك فإنها ستحدد علاقات مؤسساتها السيادية مع جميع المواطنين، وبضمنهم نحن المواطنين العرب، لاسيما بعد أن كنا، لسنوات طوال، حطبًا يُحرق على مذابح عنصرية جشعة خُصبت فيروساتها في دهاليز الكنيست، وأطلقت من على منابرها لتبعث نيرانًا قاتلة في الشوارع وفي فضاءات الدولة.
قد تُعد الكتابة، عن معركة لم يركد غبارها بعد، مغامرة عجِلة أو اندفاعًا يستبق العواقب؛ لكنني سأتطرق في هذه المقالة إلى بعض الخلاصات الأولية التي تكشفت معالمها مباشرة بعد صدور النتائج شبه النهائية. وأرى الحديث عنها ممكنًا لأنه لا يرتكز على دقة الأرقام، وعلى مؤشراتها، وأراه ضروريًا لتفنيد مقولات روجها البعض حين أصروا على إقناعنا بأن مهمة التصدي للفاشيين باتت قضية مستحيلة، وبأن محاولاتنا للدفاع عن حقوقنا ونيلها بهذه الأساليب المستهلكة، يشبه جرينا وراء السراب، أو إدماننا على تعاطي الوهم.
حاول الكثيرون تثبيط عزائم الناخبين العرب بحجة أن معسكر نتنياهو عصي على الكسر وأنه يمثل «حالة سياسية ناجزة» لا فائدة من مواجهتها عن طريق «اللعبة البرلمانية» فاقترحوا علينا مقاطعتها من دون أن يعطونا أي بدائل كفاحية عملية لمواجهة مخاطر تلك الحالة السياسية العضال. وبمنأى عما ستفضي إليه نتائج صناديق الاقتراع النهائية، وعلى من سيلقي رئيس الدولة ريفلن مهمة تركيب الحكومة المقبلة، وما سيحصل بعدها، بوسعنا اليوم أن نعلن أن المواطنين العرب ومعهم بعض القوى اليهودية قادرون على إفشال أو على الأقل إعاقة زحف الأحزاب اليمينية الفاشية التي يقودها بنيامين نتنياهو. لقد توقع نتنياهو وحلفاؤه فوزهم الساحق وحصولهم على أكثرية مطلقة تخولهم تركيب حكومة يمينية خالصة، تقف على ساقيها، الديني المتزمت والقومي العنصري ذي النزعات الفاشية الواضحة؛ لكنهم فشلوا بتحقيق ذلك، ويواجهون صعوبات جمة في استعادة سلطتهم المطلقة على سدة الحكم. ويشعر نتنياهو، في الوقت نفسه، بأن احتمالات مقاضاته وحبسه صارت أقرب إلى الواقع من أي وقت مضى.

المواطنون العرب ومعهم بعض القوى اليهودية قادرون على إفشال أو على الأقل إعاقة زحف الأحزاب اليمينية الفاشية

هذه واحدة من خلاصات ما حدث في السابع عشر من سبتمبر/أيلول الجاري، وهي حقيقة واضحة، حتى لو أنكرها الذين نادوا إلى مقاطعة الانتخابات؛ فالأحزاب والحركات السياسية العربية، ومعها عدة قوى يهودية، قادرة على صد نتنياهو وعلى عرقلة مخططاته العنصرية الجهنمية؛ ولو آمنوا بذلك منذ لحظة الإعلان عن موعد إجراء الانتخابات وذوتوا هذه القدرة وعملوا بهديها، لحصلوا على نتائج مغايرة بشكل أفضل، ولتوفرت إمكانيات أكبر للتأثير على مجريات الأحداث وولادة خريطة حزبية سياسية جديدة داخل إسرائيل. لذا فإن جميع الأحزاب مطالبة بإجراء تقييم لمواقفها ونشرها على الملأ؛ فهذا حق للمواطن وحاجة لضمان سلامة العمل في المستقبل.

هل فعلا لا يمكن اختراق الشارع اليهودي؟

لقد ساد في السنوات الأخيرة شعور بأن «الشارع/المجتمع اليهودي» أغلق جميع الأبواب في وجهنا، نحن المواطنين العرب، ويرفض الاستماع إلى مطالبنا والتعاطي مع شكاوينا مهما كانت أساسية ومحقة. هنالك ضرورة لدراسة هذه الفرضية والتحقق من صحتها والوقوف على أسبابها، وفي مقدمتها بلا شك سياسة التحريض الأرعن التي قادها بنيامين نتنياهو نفسه، ومعه أعضاء حزبه والى جانبهم حلفاؤهم من أحزاب وحركات اليمين الفاشي. رغم اتساع ظاهرة استعداء المواطنين اليهود للمواطنين العرب في اسرائيل، شعرنا خلال معركة الانتخابات الأخيرة بوجود بوادر لصدوع في ذلك الجدار الفولاذي؛ فبعد إعادة تشكيل القائمة المشتركة، وانضباط قادتها وسلوكهم بشكل ناضج ومسؤول، وبعد أن نجحوا باستعادة ثقة قطاعات واسعة من الناس بهم وبها، وتحولها إلى عنوان سياسي مقبول لتمثيلهم في الكنيست، شعرنا بحصول تغيير طفيف تجاه شرعية مطالب المواطنين العرب، وتجاه حقوقهم المسلوبة. لقد خلق الالتفاف الجماهيري حول القائمة المشتركة واقعًا سياسيًا جديدًا سرعان ما فرض نفسه، رغم قصر الوقت، على عدة قطاعات وشرائح يهودية صهيونية، حتى اضطرت بعض الشخصيات القيادية والنخبوية والإعلامية أن تتطرق إلى مسألة الوجود العربي داخل الدولة، بمنطلقات إيجابية غير مسبوقة وأن توليه التفاتة، وصلت احيانًا حد «مجاملتنا» ولو بشكل خجول أو مضطرب، كما جاء على لسان النائب جانتس، رئيس حزب كاحول لافان.
قد يستخف البعض بهذه الأصوات ويقلل من أهميتها أو يسخر من صغر أحجامها وتأثيرها؛ لكنني، على عكسهم، أعلق آمالًا عليهم وأطالب القيادات بضرورة التواصل مع جميعهم؛ فمن يرفض التمترس وراء جدار الكراهية العمياء، ومن يصر على الخروج من حظيرة القطيع، ويتوقف عن ممارسة حرفة شيطنة العرب واستعدائهم، هو حليفي وعليّ أن أستميله إلى جانب قضيتي، إذ قد يصبح رفيق دربي. لقد ساهم خطاب رئيس القائمة المشتركة النائب أيمن عودة في استجلاب كثير من المواقف المساندة، وفي صحوة وتغير جهات كانت معادية لنا؛ وهنالك ترقب لما سيفعله وكيف سيطور مواقفه في هذه القضية المهمة، خاصة بعد أن أثبتت قطاعات واسعة من الجماهير العربية وفاءها، إذا وجدت عنوانًا أهلًا له؛ وأثبتت أنها مع قادة أكفاء وخطاب سياسي جريء وسليم، لا تعرف المستحيل ويمكنها اختراق الفولاذ وهدم جدران القمع والحقد والعنصرية.

لنفرح ولكن..

يحق لنا أن نفرح ولو قليلًا فهذا حقنا؛ على أن نتذكر اننا، رغم ما أنجزناه، ما زلنا نواجه في «غرفة الانعاش» المخاطر والأعداء؛ وسواء عاد نتنياهو إلى الحكومة أو لم يعد، سيبقى طريقنا نحو بر الأمان طويلًا وعسيرًا. لقد كانت معركتنا محلية ودارت رحاها حول من سيحكمنا أو يشاركنا أو يطردنا، ولم يكن شأنها صفقة القرن، كما قالوا، ولا همها أي هاجس دخيل أو علم بعيد؛ تصرفنا كمجتمع عاقل وحكيم فنجحنا، رغم جميع المعوقات والعثرات، باستعادة توازننا؛ الذي لن يدوم طويلًا إذا لم تباشر فورًا قيادات القائمة المشتركة وجميع من ساهم في هذه المعركة، في وضع خطة طوارئ تضمن المحافظة على ما اكتسب. علينا أن نتفق على من هم أعداؤنا كي نصل إلى حلفائنا وإلى أصدقائنا، فبدون استخلاص العبر، سنعود إلى بطن العدم؛ وما أشطرنا في ممارسة الخسارة والندم. ستكون مهمتهم صعبة ومعقدة، ولكن بدون أن يتفقوا على قواسم مشتركة تمنع اقتتالهم على كل صغيرة وكبيرة، سيصطدمون قريبًا بعشرات الحواجز والحفر، وسنشاهد مجددًا فصولًا جديدة من سيرة الخيبة والخسارة.
لن تتغير الدولة في تعاملها معنا بضربة نرد واحدة، وقد يكون ما أحرزناه في هذه الانتخابات نصرًا صغيرًا، كان من الممكن أن نجعله كبيرًا لولا نسبة المقاطعين بيننا.
ليس من الحكمة أن ننتظر حتى قدوم معركة الانتخابات المقبلة لنواجه مرة أخرى نداءات المقاطعة؛ فالعمل وفق برنامج مدروس لمواجهتها والتقليل من تأثيرها هو أمر الساعة؛ لأننا نعلم أن لهذه المسألة تداعيات تتعدى قضية المشاركة في الانتخابات.
يتبع..

 

 

الانتخابات في إسرائيل،

يوم الحسم، نداء الواجب

جواد بولس

 

 في السابع عشر من أيلول الجاري سيحسم ملايين المواطنين الاسرائيليين، يهودًا وعربًا، نتيجة الانتخابات العامة، وسيختارون من سيمثلهم في الكنيست القادمة وكيف ستبدو دولة اسرائيل في العقد القادم. وسنصحو، نحن المواطنين العرب، على فجر جديد، يسعى بعضنا لأن يكون مختلفًا، كي يصحبنا نحو كروم الأمل ؛ بينما ، في المقابل، يرى الكثيرون بيننا على أن نهارنا سيبقى باردًا كالموت، لا يحمل ذرة من بشرى ولا بسمة ندى للحالمين.

انها نبوءة الغضب، ينقلها إلينا أولئك الذين ينادون بمقاطعة الانتخابات عن قناعة عقائدية، ويصرّون على أن المشاركة بها تعدّ خطيئة من الكبائر ؛ ويدعو اليها، عن مبدئية هرمة، من يحسبون المشاركة بها اعترافًا بشرعية كيان ما زال في عرفهم، رغم ضياع الحصان، باطلًا ومزعومًا.

"لا تشاركوا أيّها العرب" يعلو ضجيج من يؤمن ألا فائدة نجنيها من هذه اللعبة الاسرائيلية الداخلية التي لن تغيّر نتائجها، مهما كانت، من مرارة واقعنا ؛ فحتى لو سقط بنيامين نتنياهو وحزبه، فلن ترزقنا الصناديق بأحسن منه، لأنه، وفقًا لجميع هذه المدارس، كل اليهود هم صهاينة وكل الصهاينة أعداء أو "جراثيم"- حسب أحد أوصافهم المُستحدثة - وسواسية في الجريمة. وإن وجدنا بينهم "غزالًا" أحمر يدعى "كسيف"  فهو الاستثناء الدال على رواج وثبات القاعدة.

لا تشاركوا أيها المسلمون وأيها العرب" هكذا يهيب نداء الذين يؤثرون تأبط الأماني وهي ترقص على حد الظبات، أو أولئك الذين ينتظرون تفتح الوردة على شرفة دارهم من دون أن يزرعوها في التراب من قبل.

أنا ساغرس، بعد أيام ، حبتي في صدر القدر مؤمنًا أن قليلًا من الاصرار والعمل خير من نهر تنظير وأجدى من قناطير رومانسية طاهرة ؛ سأزرعها وأنا أردد نصيحة السلف الحكيم، بأضافة "ورقة" من القطران فعساها تسعف الجمل !

كانت تلك مقدمة ضرورية لأوضح موقفي من مقاطعة آلاف من  العرب الذين يعيشون في فيء مواطنة اسرائيلية وينأون بأنفسهم طواعية، مدفوعين بعقيدة او بمبدأ او بقناعة انعدام الجدوى، عن ممارسة حقهم الإنساني والأساسي في التأثير على شكل النظام الذي سيحكمهم، وعلى صورته وقوته ؛ مع ذلك فلقد قلت مرارًا انهم يمارسون حقهم  بالمقاطعة وانني لا أكتب هنا ولم أكتب من قبل كي أقنعهم بضرورة التصويت، وذلك رغم اختلافي معهم ورؤيتي بأن مواقفهم تسهل على القوى الفاشية الاسرائيلية تنفيذ مآربها وموبقاتها، لا ضدنا نحن العرب فحسب، بل بحق كل يهودي وصهيوني لا يقف معهم في نفس خنادق الدم؛ فشاهدوا حجم ما تبذله قوى اليمين المستوحش من أجل ثني الناخبين العرب أو تقليص أعدادهم او ترهيبهم او استمالتهم أو تحييدهم بجميع الوسائل والبدع، وفي نفس الوقت محاربتهم  وتخوينهم "لأعدائهم" من اليهود.

لن اقاطع الانتخابات، وأدعو الجميع الى التصويت للقائمة المشتركة مؤكدًا أن كلما زادت قوتها، تنقص قوة أحزاب اليمين الفاشي، وتتراجع امكانياته بتحقيق برامجه السياسية والاجتماعية التي يعلنها نتنياهو وحلفاؤه بشكل سافر. هؤلاء  يوضحون لنا وللعالم أنهم عازمون على "مط" حدود اسرئيل حتى يزنرها النهر والبحر من الخاصرتين، ثم يسقفون دولتهم بأسفار التوراة حتى تصبح مصدر التشريع والالهام السلطاني الأكبر، على ما سيتبع ذلك من استحقاقات حياتية ويومية شرحها لنا في الآشهر الأخيرة عدد من الحاخامين القياديين، مبيّنين حكم الاغيار الغرباء، مثلنا، في دولة يهودية ومصائرهم المترنحة بين الموت الزؤام أو العبودية الخالصة.

يخطيء من يصر على أن اعتبار جميع اليهود صهاينة، ويخطيء كذلك من يؤكد على أن جميع الصهاينة سواسية؛ فهذه التعميمات مرفوضة من الناحية الاخلاقية والسياسية، وهي توازي تمامًا تعميمات العنصريين اليهود ضد العرب او المسلمين او الشيوعين وغيرهم؛ ومرفوضة لأنها تخلق بلبلة كبيرة  بين الناخبين العرب وتساعد على اقناع المترددين والمتأرجحين والتائهين منهم بتبني موقف المقاطعة؛  فما دامت كل الأحزاب اليهودية متشابهة اذن ما الفائدة من التصويت لأحداها وماذا اذا سقط نظام نتنياهو وحلفاؤه من غلاة اليمينيين والمتزمتين الدينيين ؟

وإذا كان جميع  اليهود صهاينة وكل الصهاينة متشابهين، فما الفرق اذن بين سموطريتش وجانتس وزاندبرغ وكسيف ؟ ولماذا لا نقاطع؟  أو لماذا، على النقيض، لا يصوت عشرات آلاف العرب لحزب "كاحول لافان" أو لليبرمان؟ فكلهم في الصناديق "بلاء".

لم يدحض قادة المشتركة بشكل قاطع تلك الدعايات ولم يتصدوا لها صراحةً،  فباستثناء صوت رئيس القائمة النائب ايمن عودة الجريء والقاطع، كان صمتهم كالرصاص أطلقوه على سيقانهم؛ فبدون مواجهة هذه المسائل بشكل حازم وحاسم ستخسر القائمة آلاف المصوتين، ومثلهم من الممتنعين ، وقد يكتشفون ذلك بعد فوات الأوان.

ستحتاج الجماهير العربية، بعد انتهاء الانتخابات، الى أكبر عدد من الحلفاء اليهود والصهاينة، خاصة اذا نجح غلاة اليمينين والمتزمتين المتدينين باقامة الحكومة؛ أمٌا اذا لم ينجحوا فستتسع آفاق تأثير القائمة المشتركة بشكل كبير وستصبح امكانيات تأثيرها على سيرورة العمل السياسي في الدولة واقعية أكثر من أي وقت مضى.

علينا ان نقر بوجود فوارق سياسية واجتماعية كبيرة بين الأحزاب الصهيونية وحتى بين الشخصيات القيادية في داخلها ؛ فعندما يصرح،  بني بيغن ودان ماريدور ودان تيخون، مثلًا، وهم ثلاثة رموز بارزة في تاريخ حزب الليكود، وأعمدة تاريخية في الحياة العامة الاسرائيلية، عن رفضهم التصويت لنتنياهو ولحزب الليكود، لا يمكننا إغفال هذا المنعطف والاستخفاف بمعانيه، خاصة اذا فهمنا انهم يخشون على مصير نظام الحكم الديمقراطي في دولتهم.

قد يقول قائل ان ديمقراطيتهم ليست ديمقراطيتنا، وأن تاريخهم كقادة يمينيين تقليديين ما زال ينبض، وأنهم كانوا شركاء بما نفذه ذلك اليمين في حقنا وحق ابناء شعبنا الفلسطيني، فكل هذا صحيح لكنني  لن استخف بما قالوا، فاذا خاف هؤلاء من الآتي فما عسانا ان نفعل؟  وكيف نتصرف؟ نفتش عن حلفاء ونوجدهم.

اعرف ان كثيرين لن يوافقوني الرأي وبعضهم قد يشرع بحفلة تطبيل وتزمير لن أعيرها أي اهتمام؛  لأنني أفضل التحديق في واقعنا ومحاولة قراءة حاضر هؤلاء القادة على ان اكتفي بنبش مواضيهم.

الشيء بالشيء يذكر وفي التاريخ لنا عبر ، فقد يفيدنا ان نتذكر قفزة الجنرال ماتي بيلد المثيرة والكبيرة عندما تحول من بطل في حروب اسرائيل الى حليف مؤسس "للحركة التقدمية" وشريك فيها مع اهم الشخصيات القيادية القومية  العربية التي نشطت  بيننا.

لقد دعوت أولًا إلى ضرورة المشاركة في التصويت والى دعم القائمة المشتركة تحديدًا بلا تحفظ ولا تردد ؛ لكنني أعرف أن البعض لن يصوت للقائمة المشتركة بسبب وجود حساسية لها أو لأحد مركباتها، فالامل من هؤلاء ان يصوتوا لحزب ميرتس، الذي يبقى، رغم مواقفه السلبية في بعض المحطات التاريخية، أفضل الأحزاب وأقربها إلى العديد من قضايانا الأساسية وقضايا شعبنا الفلسطيني حيث برز في الدفاع عنها وتبناها نوابه في الكنيست، وكان ابرزهم في السنوات الأخيرة النائب عيساوي فريج. ادعو للتصويت لهم وليس لغيرهم من  الأحزاب العربية الصغيرة لأنها من المؤكد لن تعبر عتبة الحسم.

أعرف ان انضمام الجنرال ايهود باراك لحزب ميرتس سبب خيبة أمل كبيرة في صفوف كثيرين من داعميه العرب واليهود على حد سواء؛ فرغم اعتذاره الشهير من الجماهير العربية ستبقى شخصيته الدموية نازفة في أذهان كل أحرار العالم ومحفورة بالرصاص على شواهد ضحاياه العرب ؛ ولكن ، مع ذلك ورغم المرارة، فأنني اعتقد أن انضمامه، في هذه الظروف السياسية الخطيرة والعاصفة، لحزب ميرتس يعكس حصول تحول ايجابي لافت في مفاهيمه السياسية وأرى في اختياره الطوعي مقدار ربح لما يمثله حزب ميرتس في الخارطة السياسية الإسرائيلية ولجميع القضايا التي يتبناها ويدافع عنها.

ستبقى خطوته خلافية ومحطًا للشك والريبة، وسيبقى هو شخصية مرفوضة، وبحق، من قبل معظم المواطنين العرب؛ بينما قد يعرّف يهود كثر خطوته بالمثيرة ويعتبروها "تنازلًا" جديًا من قبل شخصية يمينية صقرية قررت الهجرة من مواقعها في بقاع الدم والانتقال الى السكن على سفوح الندم. والقول سيبقى قيد الشك والرهان على المجهول فقط .

التصويت للقائمة المشتركة واجب وحصولها على أكبر عدد من المقاعد فيه قوة للناس ومصدر للثقة بمستقبل أفضل سيصير مشرقًا اذا استخلص قادتها العبر ولن يعودوا الى قوالبهم السالفة؛ فنحن لن نغفر لهم ولن ننسى، وحسابنا معهم سيبدأ بعد ركود الغبار وقبل هبوب العاصفة ونزول أول المطر.

 

 

 

 

 

انتخابات

الكنيست، خطاب العقل

 

جواد بولس

 

من المتوقع ألّا يكفّ بنيامين نتنياهو عن محاولاته لتوسيع دوائر الدعم لحزبه، ولا عن إصراره على تذليل جميع العقبات التي يرى أن من شأنها أن تفشل فوز معسكره في الانتخابات المقبلة.

لم تبدأ مسيرة الجنوح اليميني العنصري في اسرائيل ووصولها إلى حالة الاختمار الفيروسي الخطير ، مع بداية طريق بنيامين نتنياهو السياسية؛ لكنه بدون شك أحد أهم وأبرز السياسيين الصهاينة الذين سعوا بإمعان إلى ترسيخ دولة تتماهى حدودها مع ما وعدت به السماء أنبياء بني اسرائيل، وتتحرّك في فضاءاتها، بشهوة وبشوق، أرواح ابنائها اليهود الأمينين. 

لقد كانت دوافع نتنياهو في المعارك الانتخابية السابقة قومية نهمة وعنصرية حتى حدود الدم؛ وكانت تستهدف إحكام سيطرة اليمين الفاشي المنفلت، على جميع مفاصل النظام ونقلها من كيان يدّعي أنه ديمقراطي ويهودي إلى دولة تفاخر بكونها يهودية نقية، لا يتستر قادتها وراء أي حجاب من الديبلوماسية الزائفة ولا تتلوّى مؤسساتها على وقع نايات "مجتمع دولي" افتراضي أضاع بقايا ضميره في صحاري العهر البعيدة. 

ومن المؤكد أن مطامعه، في الانتخابات المقبلة، لن تتغير. فنصر أحزاب اليمين العنصري هو غايته ؛ وإشباع نرجسيته وأناه المنفوختين سيبقى، كما كان ، بمثابة تحصيل الحاصل وانجازه الشخصي المبهر ؛ لكنه، مع ذلك ، يعرف، كما نعرف نحن أيضا، بأن تداعيات المعركة المقبلة، بخلاف سابقاتها، ستحسم مصيره الشخصي بالمعنى الدقيق، وليس مصير مستقبله السياسي فحسب؛ فمسألة فوز حزبه وحلفائه في الانتخابات وتكليفهم له، بعد انتهائها في الثامن عشر من ايلول/سبتمبر الجاري، بمهمة تركيب الحكومة الجديدة ونجاحه في ذلك، سينقذه من مواجهة الاتهامات الجنائية الخطيرة التي إذا ما أدين بها سيسجن وسينهي مسيرته السياسية كمجرم وراء  القضبان.

لن يتورّع نتنياهو من القيام بكل ما يخطر على بالنا وما يغيب عنه؛ فما زلنا نشهد ما يفعله في الأيام الأخيرة وما يعد به وكيف يسعى لاستقطاب القادة اليمينيين وضمان أصوات أتباعهم؛ وكيف يعلن يوميًا، بدون خجل أو وجل، عما سيدفعه لهم من عوائد مادية أو سياسية، آملًا، بسبب ذلك، أن يضمن تربّعه، مرّة أخرى، على كرسي رئاسة الحكومة، وإلّا فبديل ذلك، كما قلنا، سيكون جلوسه، بصحبة الحسرة، على "برش" معدّ لكبار الرؤساء المدانين بالجرائم، حيث لن يجد سيجار ًا ولا شامبانيا، بل نوبات من التنهد وموجات من الوجع.

كان لا بد من هذه المقدمة لتوضيح حجم الخطر الذي سنواجهه، نحن المواطنين العرب، في حالة نجاح معسكر نتنياهو واستئثاره بمقابض السلطة؛  فهو وجميع من معه يعلنون، بلا تأتأة وبشكل لا يقبل التأويل، أن مرحلة تدجيننا، كغرباء عرب في ديارهم، قد انتهت، وعلينا، بعد تشريع قانون القومية وأشقائه، أن نقبل باليهود أسيادًا لنا وأن نحتفي نحن، من أجل مصلحتنا، بدور وبمكانة العبيد.

قد يظنّ البعض أنني أبالغ عندما أكتب عن فظائع النظام المقبلة، أو أنني أشجّع على تهليع وتيئيس الناس؛ لكنني أهيب بمن يجيدون فهم المقروء أن يراجعوا مجددًا جميع تلك القوانين التي شرّعتها الكنيست في السنوات الأخيرة، راجيًا ممن شعروا وتحققوا من خطورتها عدم المراهنة على اعتبارها مجرد نزوات من حبر ستنسى في خزائن الرحمة الاسرائيلية أو داخل ثنايا التاريخ ؛ وأدعو، في نفس الوقت، جميع من أصيبوا بداء التعب واستقراف السياسة، أو بلعنة الكسل والخيبة، أو بعارض فتور المشاعر والأحاسيس، أن يعدلوا عن قرارهم بمقاطعة الانتخابات.

يجب الإصغاء جيّدًا لشراسة مواقف زعماء اليمين وأفعال رسلهم، الحاليين منهم في الحكومة أو القادمين؛ فمن يسمع عظات أبائهم الروحيين وفتاوى كهنتهم المتزمتين، سيتيقن أننا، كمواطنين عرب، لا نملك هوامش للتمنّي الواهم وليس لدينا فرص للمقامرات وللمزايدات وللعبث ؛ فنتياهو جريح نازف وهو بحاجة حرجة ، كي يضمن بقاءه في مقام المواطن الأول، لجميع أولئك الراقصين على الهضاب الساخنة أو يتدافعون في حملات صيد العرب كما نراها في شوارع القدس أو في ساحات العفولة وفي صفد.

سيسمح لهم نتنياهو وحزبه أن يشفوا غليلهم على حساب شراييننا نحن المواطنين العرب، لأنه، إن لم يكن مثلهم، فهو يعرف انه بدونهم وبدون بطشهم، سيصير غبارًا على سفوح الماضي وشظايا ذكرى وطيف ذليل.

 

ماذا فعل  لنا أعضاء الكنيست العرب !

يتذرع بعض مقاطعي الانتخابات بعدم أهمية التمثيل النيابي العربي في الكنيست، فيتخذون بظل هذه المغالطة موقفًا عدميًا يبقيهم يوم الانتخابات في البيوت أو يخرجهم للاستجمام في أحد الشطآن،  أو لرحلة شواء، مستغلين يوم العطلة، بصحبة اليأس والنرجيلة. 

لن أعدّد كل الأسباب التي ساعدت على انتشار  هذه المقولة وتحوّلها الى أحد أهم العوامل في تبني قطاعات واسعة من المواطنين العرب لموقف مقاطعة الانتخابات بعد أن مارسوها لدورات عديدة.

عملت أجهزة الدولة الموكلة على نشر هذه الفرية بذكاء لافت، ونجحت بترسيخها في جيوب سكانية عديدة فتبنتها قطاعات واسعة حتى ضاعت "طاسة"  الحقيقة بين داع للمقاطعة عن عمالة وعن إغراض، وبين مضلَّل أو مؤمن بها عن جهالة أو عن يأس أو عن "مجاكرة" أو عن احتجاج ؛ وعلى جميع الأحوال فلقد ربحت ماكنة الدعاية الصهيونية، من جراء ذلك، معركة هامة؛ وسجلنا، نحن المواطنين العرب، بالمقابل، هزيمة جديدة في سجل هزائمنا الطويل.

لقد ساهمت قيادات الاحزاب والحركات السياسية والدينية في رواج ذلك الشعار؛ ففي حين كانت ماكنات الاعلام الحكومية الاسرائيلية وأبواقها المحلية تراكم تأثيرها شعبيًا، كانت القيادات العربية غارقة في صراعاتها الداخلية أو تلهث، مستنزَفة، في سباقاتها على مسارات الولاءات الملتبسة، في مشهد ساعد على إبعاد الناس عن تلك الحلبات المزعجة.

 لقد عاشت مجتمعاتنا حالة من العجز السياسي ومن عقم القيادات؛ وأما اليوم، وبعد اعادة تركيب القائمة المشتركة وبسبب ظواهر اخرى، كلي أمل أننا في طريقنا للخروج من ذلك المأزق القاتل.

 لن أكتب هنا في اسباب ذلك الترهل والضعف، لأن مقصدي، ونحن أمام مرحلة مفصلية، هو اقناع هذا الفريق من المقاطعين بضرورة مشاركتهم في التصويت المقبل، لأنني ارى بوجود النواب العرب في الكنيست ومعهم من يدعم قضايانا الأساسية وحقوق الشعب الفلسطيني، ضرورة بديهية تمارسها ومارستها معظم الأقليات التي تناضل من أجل بقائها في وطنها وحصولها على حقوقها المدنية؛ ويكفينا أن نرى، كبرهان على صحة ما قلت، كيف تسعى احزاب اليمين بكل طاقاتها وخدعها وتحاول إقصاء الأحزاب والحركات السياسية العربية عن الكنيست، وكذلك تحاول تخفيض نسبة المصوتين العرب او سرقة ضعاف النفوس والمنتفعين لصالحها.

لقد فشلت الاحزاب العربية في السنوات السابقة بصدّ تلك الدعاية الخبيثة وبصدّ غيرها من الدعايات التي أثّرت سلبًا على روح الجماهير وأدّت الى عزوفها والى تنامي نداءات المقاطعة بشكل طردي ومقلق؛ أما اليوم فيجب، فيما تبقى من وقت، العمل المبرمج والصارم على محاورة أوسع القطاعات المتكاسلة واقناعها على أن اهمية مشاركتها لا تتوقف فقط على أهمية وجود أكبر  عدد من النواب العرب وحلفائهم الحقيقيين، بل لأنها أيضًا تعدّ فعلًا ضروريًا من واجب الانسان الحرّ والواعي ممارسته؛  وهي كذلك تعتبر استجابة لحاجة وجودية يمليها العقل من اجل تحقيق ذات كل فرد فاعل في تحديد صورة وشكل المجتمع الذي سيعيش فيه.

أدعو اذن الناس للتصويت واحترم، في نفس الوقت، حق من ينادي بالمقاطعة لأسباب مبدئية او عقائدية. احترم حقهم لكنني لا أوافقهم على نتيجته لانني أشعر بأن مقاطعتهم تسهل على قوى اليمين الفاشية تنفيذ مآربها وموبقاتها.

 حول هذه المسألة وحول موقف من يدّعي بأن كل اليهود صهاينة وبأنّ كل الصهاينة سواسية سوف أكتب لاحقًا، فهل حقًا علينا ان نتعامل مع سموطريتش وأشكاله مثل تعاملنا مع نيتسان هوروفتس، رئيس حزب ميرتس، ورفاقه؟

يتبع .. 

    

 

القائمة المشتركة، خطاب التفاؤل

جواد بولس

 

تتزايد في الآونة الأخيرة الدلائل على خروج القائمة المشتركة من أزمتها القاسية ونجاحها النسبي بتخطي تبعات خسارتها لثقة الناس وعودتها كعنوان شرعيّ مقبول وموحّد جدير بأصوات الناخبين العرب، رغم اختلاف منابتهم السياسية والعقائدية وتباين أطياف أحلامهم المنشودة.

لا طائل اليوم في التدقيق بأسباب تلك الأزمة ولا في سبر أغوار هذه التحوّلات الايجابية، الذاتية أو الموضوعية؛ لكنني أجزم بأن مواقف قيادات القائمة المشتركة، في بعض المحطات المفصلية وتمترس كوادر أحزابهم من خلفها وخوضها لصراعات "قبلية" دامية، كانت من أهم أسباب توليد تلك الأزمة؛ وستكون، إذا تغيّرت وتحسّنت، من أهم أسباب نجاتها من السقوط المدوّي ومن الاندثار الحتمي الوشيك، كما كان متوقعًا لها في الأشهر الماضية.

رغم بوادر الانقلاب الحميد الذي تشهد عليه بعض ساحات بلداتنا، لاحظنا مؤخرًا أن بعض قيّاديي القائمة المشتركة لم يذوّتوا، بعد، خلاصات فشل المحاولة السابقة؛ وما زالوا يجيزون لأنفسهم ، رغم ثبوت حقيقة ضمور أحجامهم الانتخابية، أن يتصرفوا وفق دوافع ذلك الماضي التناحري ومساطره السقيمة، ويخاطرون بإفشال محاولات انقاذ التجربة المنبعثة، وبإعادة الرأي العام إلى مربع الاشمئزاز المعلن وفقدان الثقة. ولقد برزت عوارض هذا النهج، بشكل واضح ومقلق، بعد مقابلة النائب أيمن عودة لصحيفة "يديعوت أحرونوت" الاسرائيلية وردود فعل عدد من القيادات عليها.

سيُفرح استئناف المناكفات بين مركبات القائمة المشتركة جميع الأحزاب اليمينية الصهيونية وسيقوّي، في نفس الوقت، نداءات الداعين الى مقاطعة الانتخابات ؛ بينما، بالمقابل، سيساهم الوفاق الحقيقي بينهم في احياء رغبات من فقدوا شهواتهم السياسية وفي استعادتهم إلى "الأحضان العامة" كعناصر اجتماعية ناشطة ومؤثرة في الاتجاهات الصحيحة.

لا يملك قادة المشتركة متسعًا من الوقت لمزيد من التجارب ومن الرهانات الفارهة، فالانتخابات ستجرى في السابع عشر من أيلول/سبتمبر المقبل، وكي لا يسقطوا في أول امتحان "بسيخو-وطني"، قادم لا محالة، سيكون من الحكمة أن يحصّنوا مبادرتهم الحالية ببرنامج يضمّنوه توافقاتهم الأساسية في ميادين العمل السياسية والاجتماعية والثقافية ؛ خاصة بعد أن خبروا طبيعة الحُفر التي أفشلتهم في تلك المسيرة حين كانوا معًا ولم يكونوا، فتناكفوا، كالديوك السكرى، على حفافها حتى وقعوا وأوقعونا فيها.

لن يتحمّل مؤيدوهم خديعة انتخابية جديدة، ولن يغفروا لهم مجرد اكتفائهم بالتوافق على ترتيب مقاعدهم النيابية، بينما لم يكاشفوا الناس بحقيقة التكتيم على اختلافاتهم على المضامين السياسية الرئيسية وحول برامج عملهم "المشترك" في المستقبل؛ فمن الأجدر والانصاف، في هذه الحاله، ان يعلنوا للملأ، قبل موعد الانتخابات، عن سعة تلك المسافات التي بينهم كيما يعرف كل مصوت لقائمتهم المشتركة انه يدعم، عمليًا، مرشحي حزبه وليتوقع ، بعدها، عودة حروب الألسن في "برج بابل" هذا العصر

وبعيدًا عن تلك الهواجس والنصائح، فإنني سأدعم القائمة المشاركة في التصويت وأرى في نجاحها انجازًا من شأنه أن يخدم مصالح المواطنين العرب في اسرائيل ويتيح لهم منصّات ستساهم في مقارعة نوابها لوكلاء تيارات اليمين الفاشي على أجناسهم، وتمنحهم فرصة استغلال تلك المنابر كروافع لفضح موبقات الحكومة والتصدي لسياستها أو على الاقل تحجيمها وإعاقتها بقدر المستطاع والمتاح.

أنني اعتبر  أن عملية اقناع مقاطعي التصويت يجب أن تتصدر اجندات جميع نشطاء الأحزاب والحركات والمؤسسات الداعمة للقائمة المشتركة، ومهمة ثني المقاطعين يجب أن تبقى طارئة وملحّة، خاصة بين من ابتعدوا وهجروا الصناديق  كتعبير عن امتعاضهم من ممارسات قادة أو أنصاف قادة  الأحزاب والحركات السياسية والدينية، أو احتجاجًا منهم على مواقفهم القطرية وتلك التي مارسوها على المستوى البلدي والمحلي.

لقد استغلت عناصر كثيرة أجواء الغضب الشعبية التي سببتها تلك السلوكيات ونجحت في استثمارها  وتطويرها الى درجات وصلت حد المطالبة بخلع الشرعية عن تلك القيادات وعن أطرها التنظيمية؛ فنجاح المشتركة، في هذا السياق، سيضمن إفشال هذه المحاولات البائسة؛ مع اننا، للتنويه وللتأكيد ، يجب أن نميّز  بين ما خططت له جهات حكومية وصهيونية يمينية معادية ومعروفة، وأعوانهم من بين العرب، وبين مواقف فئات وشرائح عربية رفعت شعارات مناوئة للقائمة ومحرّضة على قياداتها حيث كان بعضها مدفوعًا بمشاعر نقدية سليمة وصادقة أو بحسن النوايا وبالغيرة الشعبية الطيبة.

رؤساء المجالس والبلديات جناح من أثنين

وعلى صعيد آخر فأنني على قناعة بأن دور رؤساء البلديات والمجالس المحلية العربية سيكون، في هذه المعركة، مفصليا وذلك رغم الصدوع التي ضربت هذا القطاع الهام من أبناء شعبنا في العقدين الآخيرين.

فقد عبّر عن هذا الأمل النائب أيمن عوده حين كتب، في الثالث والعشرين من الشهر الجاري، على صفحته وقال  "بعد مهرجان كفر ياسيف أشعر بالتفاؤل. بهذه الانتخابات نحن مليون مصوّت يا نتنياهو. شعبنا سيفعلها "

لقد جاء هذا التصريح بعد نجاح مهرجان افتتاح المعركة الانتخابية في قرية كفر ياسيف الجليلية وهي تستعيد مع المحامي شادي شويري، رئيس مجلسها الجديد، ومع القائمة المشتركة، أيام  تلك القرية / القلعة التي كانت "شوارعها بلا أسماء"، وكانت تظلل شعراء الحرية الحمراء يأتونها  "وهم سجناء" ، كما صدح في ساحتها الشاعر راشد حسين، وتنتظر عودتهم "وهم طلقاء".

وبعد كفر ياسيف شدّت انتباهي زيارة النائب أيمن عوده لمدينة الطيبة؛ فعلاوة على استقباله بحفاوة من قبل أهلها رحب به رئيس بلديتها المحامي شعاع منصور وأعلن على الملأ وبحزم: " كلنا جنود من أجل المشتركة" وأضاف تعهده بالعمل على اخراج الناس للتصويت لها.

انها بشائر تستدعي الرعاية الواعية والملاحقة ؛ فطائر الرعد لن يحلق في سماواتنا من جديد الا بجناحيه الأصيلين: تمثيل سياسي واع ومشرّف في الكنيست، وقيادات محلية تعيش وتعمل بهدي ما زرعه آباء جيل البقاء والنقاء حين علمونا أن لا  "خدمات بدون كرامات ".

وأخيرًا، لا بد من همسة في آذان من أساءوا تقدير مخاطر  ما يتداعى في مواقعنا وأخطأوا قراءة خوارط الدم النافر والغبار المتناثر في شوارعنا؛ فكل عمل وحدوي يتأهب لمواجهة معركة شرسة من نظام حكم لا يخفي مخططاته القمعية والاقتلاعية تجاه مواطني الدولة العرب، يلزمه بوصلة سياسية مسؤولة تتخلص من نزعات المقامره ومن ترهات المزايدة ومن فذلكات الارتجال؛ وكل اصرار على محاربة العنف المتفشي في بلداتنا  والانتصار عليه، بحاجة الى قائد عنيد، ذكي، صارم، ليّن ، لبق، مثقف ، قلق، أديب، مجرب، متواضع وقادر على ركوب الريح وعلى احتضان الورد وعلى اجتراح الوعد وعناق القمر .

يتبع..

 

 

 

تقول الحياة:

يبقى الغناء أدوم وأنبل

جواد بولس

 

ألغت بلدية أم الفحم حفل الفنان تامر نفار، الذي كان مقررًا أمس في المركز الجماهيري على خشبة مسرح وسينماتك المدينة، بعد أن أكتشف رئيس وأغلبية أعضاء المجلس البلدي «أنّ مضامين أغنيات الفنان بعيدة كل البعد عن الجانب الديني والأخلاقي والتربوي والثقافي المتعارف عليه في أم الفحم؛ ولاحتوائها عبارات ومصطلحات وأفكار لا تتلاءم ولا تتناسب مع قاموسنا الثقافي والحضاري والمجتمعي، على أقل تقدير»، حسبما جاء في بيانهم الذي تناقلته الأخبار والمواقع.
كانت شبكات التواصل الاجتماعي أبرز الساحات التي شهدت معارك بين من انتقد وشجب ورفض القرار، ومن دافع عنه؛ وقد اتسمت لغة بعض المعقّبين، كما بات دارجًا «ومألوفًا» في مثل هذه المشاهد، بالعنف والبذاءة والتقريع، فجاءت بعيدة عن آداب الحوار «الثقافي والحضاري والتربوي» المُجدي كما هو جدير بأقلية مضطهدة، تنام جائحة على سياسات قمعها وسلب حقوقها، وتصحو ناعقة على ضحايا سقطت برصاصها فتلعق دماء خناجرها.
مواقفي في قضايا الحرّيات معلنة ومعروفة، وقد دافعت عنها مرارًا وجهارا، ولم ألُذ بالصمت تقيّة ولا أتخذت الجبن يومًا ياطرًا ولا مرسى؛ وعليه فإنني، اليوم، كما كنت في أمسي، أقف مع حق المغني في الغناء، حرًا بلا قيود؛ وأستطيع، بالمقابل، أن أتفهم كل فرد من مجتمعنا لا يحب غناء تامر، أو ينتقد أسلوبه ورسالته، أو يقاطع حفلاته ولا يشارك فيها؛ لكنني أعرف، كما يعرف الكثيرون أننا بعيدون عن هذه المعادلة الإنسانية الحضارية بُعد قايين عن هابيل؛ فالقضية بيننا وعندنا أعمق وأعقد، وهي لم تبدأ مع أغنية «سلام يا صاحبي» ولن تنتهي مع «راجع عالبيت»، حتى إذا تراجعت بلدية أم الفحم عن قرارها أو أُرغمت بالقضاء بالتراجع، واستطاع «ابن مفرق الـ 48» أن يجنّ على المسرح كحصان وحشي.

الحرية هي القيمة العليا، وهي لا تتجزأ، والحق في الحياة مقدس واحترام الآخر المختلف هو أساس العدل

لم يفاجئني قرار بلدية ام الفحم، وكما قلت مرة، فإنّ قادة الحركات الإسلامية السياسية، ومن يدور في أفلاكهم هم أناس متصالحون مع ذواتهم لا يهادنون بعقائدهم، بل يفاخرون بها على كل منبر، واذا تمكنوا من موقع للقرار نهم يعملون بهدي عقيدتهم، ويسعون لتحقيق أهدافهم بدون مواربات ولايهامات. المشكلة، بهذا المعنى، ليست عندهم بل لدى من لم يحمِ قلاعه حتى وهو يراها تهوي برجًا بعد قنطرة، ولدى من بوّر حقوله وهجر دروبها ليتيه في أحضان العجز. لا أعرف كيف ستتصرف مؤسساتنا القيادية ومعظم جمعيات المجتمع المدني، أزاء القرار الذي اتخذته بلدية أم الفحم، رغم مساسه بمكانة «الحيّز العام» بمفهومه المدني الواسع، وتنكره لحقوق مئات المواطنين الفحماويين، الذين اختاروا حضور الحفل واشتروا سلفاً جميع بطاقاته، ورغم قمعه لحقوق فنان موهوب يشكل وفرقته «دام» حالة مسرحية إبداعية لافتة، تشهد عليها جماهيريته المثبتة في ميادين بلداتنا من أقصى الشمال وحتى الجنوب. معظم تلك الهيئات، وأخص منها هنا «اللجنة العليا لمتابعة شؤون الجماهير العربية» و»القائمة المشتركة» و»اللجنة القطرية لرؤساء السلطات المحلية العربية» تعاني من إشكاليات بنيوية عسيرة ومتأصّلة ستمنعها من اتخاذ مواقف صريحة معارضة لقرار بلدية أم الفحم؛ لن ننتظر المفاجآت لأننا خبرنا، في عدة سوابق شبيهة، صمت أو مداهنة تلك الأحزاب والحركات، وتنكرها للدفاع عن الحريات الفردية والفئوية المسلوبة في بلداتنا؛ فكيف ننسى كم مسرحية منعت لأن بطلتها كانت أنثى؟ أو كم مهرجان رقص عورض لكونه فعالية «مختلطة» ورجسًا، أو أيام رياضية «فاضحة» ألغيت.. وغيرها وغيرها.
هل ننتظر على همزة الأمل؟
رغم تشاؤمي لا أعرف لماذا يساورني شعور بأننا مقبلون على عاصفة قد تلد بيننا صحوة ستقودنا إلى ربيع حقيقي. لن يحدث هذا قبل معركة الانتخابات المقبلة في السابع العشر من سبتمبر/أيلول المقبل؛ لكننا، رغم غبارها، نستطيع أن نرى البراعم تزهر في حواكير جديدة، وأن نسمع الضجيج يسيل من أقلام بدأ أصحابها يشعرون بفداحة الخسائر، وبذل الهزائم ويخشون من فقدان «ساحات بلداتنا» ومن سحق مناعاتنا التي حافظت علينا كأقلية، حين عرفنا كيف نصمد كيف نصون قيم الحرية والتعددية والكرامة الوطنية؛ وكيف نحترم الرأي المغاير، ونربي أبناءنا على أصول التعايش مع الآخر المختلف، ولماذا يجب أن يفصلوا بين ما للأرض وللتراب وما للغيب وللسماء.
لم تقبل كل هيئات أم الفحم السياسية والاجتماعية بقرار البلدية، فأصدرت عدة جهات بياناتها المندّده والمعارضة والمدافعة عن فضاء البلد وعن حرية الفكر والتعبير عن الرأي، تمامًا كما هو متوقع من مجتمع يتفانى أعضاؤه من أجل بقائه حرًا وصامدًا في وجه سياسة القمع والتشريد والتدجين. إلى جانب التحرك الفحماوي كان محمد بركة من أوائل من أصدروا بيانًا ضد قرار البلدية، قال فيه « تامر نفار فنان ملتزم بشعبه وبقضية شعبه وهو يحمل أسلوبه الفني الخاص به… من يريد ان يحضر عرضه فليحضر، ومن لا يريد فهذا حقه، أما منع العرض فهذا غير مقبول.. لا يليق ببلدية أم الفحم أن تقف في مربع الحظر نفسه مع ميري ريغف التي قادت وتقود حملة تحريض لشطب تامر نفار بسبب مواقفه السياسية الوطنية». إنه بيان مهم رغم كونه تصريحًا شخصيا، لن يصدر مثله عن لجنة المتابعة العليا، التي يرأسها محمد بركة، لأننا نعرف أن في داخلها جهات متوافقة مع قرار إلغاء الحفل، فهذا الموقف هو أضعف الإيمان عندهم.
لا تنفرد لجنة المتابعة العليا بهذه الإشكالية المكتومة، التي، على ما يبدو، لا مفر من مواجهتها وتفكيكها، ولكن ليس على حساب سلامة المجتمع وحصانته، ولا على حساب حقوق الأفراد والتحكم في مجاري الهواء وحبسه عن رئات الناس، كما كان الوضع في السنوات الماضية. لم تشفع لمحمد بركه مكانته القيادية، ولا شراكته في اللجنة العليا مع حلفاء من أصدروا القرار في بلدية ام الفحم؛ فقد هاجمته جموع المعقّبين بشراسة وزجَره بعضهم بألا يتدخل كغريب في شؤون بلدهم، ولم يوفروا في حقه مذمة ولا شتيمة ولا تجريحا.
ما أشبه اليوم بالأمس، فقد شهدنا في وقائع سابقة مثل هذه التهجمات، أو حتى هدر دم من تجرأ وعبّر عن إيمان ومعتقد بأن عقله هو مولاه الأكيد، وأن الحرية هي القيمة العليا، وأنها لا تتجزأ، وأن الحق في الحياة مقدس واحترام الآخر المختلف هو أساس العدل. ما أبعد الأمس.. فبيان محمد بركة لم يكن وحيدًا؛ بعده صدرت بيانات أخرى، كان أبرزها بيان «الجبهة الديمقراطية» و»الحزب الشيوعي»، الذي دافعا فيه، بلغة فائقة الكياسة والدبلوماسية، عن حق الفنان تامر نفار بالغناء، ورفضا فيه قرار البلدية وتمنيا على رئيسها الغاءه. لقد قالوا قولهم ومضوا، فهل ستفعل مثلهم القائمة المشتركة وسائر القيادات؟ أم ستترك مصائرنا أسيرة لأهواء إسرائيل ولعدل محاكمها وقضائها؟
ننتظر..
كاتب فلسطيني

 

 

حين وقف مرسيل ومحمود

على مسرح جرش

جواد بولس

كنت متعبًا وأقاوم، في ردهة الفندق التي لا تعرف طعم النوم، نعاسي اللحوح. انتصف ليل عمان ولم يبق في شوارع المدينة سوى القلق والساعون، بشقاء وبسهر، وراء لقمة الصبح، وبعض السمّار الذين لم يهتدوا إلى صدر نحلتهم فطفقوا يفتشون عن ركن قرمزي يلمّهم حتى يفرش لهم الفجر ذراعين من ندى وسفرجل. 

لم أحضر في الماضي أمسيات مهرجان جرش الأردنية ؛ فأبناء جيلي فُطروا على حب جلسات الطرب المحلية، أو كما أسميناها، معبّرين عن أمانينا المهزومة، بليالي الأنس ومجالس "الصهبجية ".

علمت أن الصديق مرسيل خليفة سيشارك في إحدى ليالي المهرجان الرئيسية، فتواصلنا وكان الحنين جسرًا بيننا ولهفة تموز غنجة لا تقاوم. ترددت قبل التواعد على اللقاء فالرحلة إلى الاردن لم تعد سهلة بالنسبة لي؛ السفر لمدة ساعتين ثم إتمام المعاملات وتعقيداتها في جهتيّ المعبر الحدودي، وبعدها استقلال التاكسي لعمان، كلّها صارت همًّا لمن صادَق، مثلي، بعد ستينه، الكنبة واستأمن الوحدة وعبّ الحكمة من بين دفّتي كتاب.

غلبني الشوق؛ فعمان كانت بالنسبة لنا، نحن العرب الجليليين الأقحاح، ملاذًا مدّنا بكل أسباب الفرح، وحُضنًا جمعنا بأعز "الدراويش" والأصدقاء. عمان التي صارت، بعد ذاك الآب الأسود، مأوى للذكريات، بقيت عندنا، رغم تزاحم الغمام، سماءً يرجو رضاها اليمام وقصيدة زاهية معلّقة على أطراف الصحراء.

زرتها مرارًا وكان مذاقها بصحبته أشهى. لا أذكر جميع تواريخ لقاءاتي بمحمود درويش فيها؛ لكنني لن أنسى يوم أنبأوني أن صحته في أمريكا قد تعقدت وبعض الأخبار أنذرت بحدوث الأسوأ. كنت في عمان لإجراء بعض التدابير واستعد لعودتي إلى البلاد حيث كنا ننتظر رجوعه من هيوستن معافى وسليمًا؛ فلقد أكد لنا، على لسان أطبائه، بأن العملية ستكون بسيطة وشبّهها، من باب المداعبة الذكية، بليس أكثر من مسألة  "كي القميص". 

في التاسع من آب عام 2008 فشلت العملية؛ وضاق قلب العاشق بالحياة وفاض من الدنف فحلّق نحو تلك القمة الشاهقة حيث ما زال هناك ينبض بالحكمة وبالحب وبالأسرار، وصاحبه يعيش بيننا ولم يرحل عنا أبدًا. لا أقول ذلك من باب المبالغة أو المجازية المألوفة، أو من دوافع دينية وايمانية؛ فلسوف يشهد معي جميع الأصدقاء على أننا لم نجتمع يومًا، منذ ذاك الآب، في أي مناسبة أو لقاء أو محض مصادفة، إلا وكان محمود الشقي، الدمث، النبيل، الغاضب، الجميل، المندفع، الأنيق، الكسول، المجتهد، الصديق، الصدوق، الكريم، المتواضع، القوي، المثقف، المستفز، المسالم، الحليم، العنيد، المتسامح، القلق، الذكي، المتأني، الواثق، المتسائل، الباحث، الحازم، المتردد، الصبور، الغيور، الرقيق، العاصف، السمح، موجودًا معنا وبيننا يشاركنا الأحاديث والقصيد والغناء والرأي الصريح ويفتي في شؤون الدنيا والهوى والوطن والدين.   

قضي الأمر ؛ فمرسيل في جرش يعني موعدا مع الجوى واغفاءة على صدر الريح والوجع.

أحسسنا بحدوث فوضى خفيفة، فتبيّن أن بعض الموظفين ومنظمي المهرجان قد خرجوا لاستقباله في مدخل الفندق ثم عادوا وهو يتقدمهم. كان عوده ملقىً، كالعادة، على كتفه وهو يمشي ببطء على ايقاع ريشة تنقر خصر وتر.

بدا منهكًا أو ربما كان سارحًا يفتش عن لحن عصيّ في حلق العدم. تقدم نحونا مبتسمًا كطفل. احتضنني بدفء وسلّم كما يسلّم زهر اللوز على الحسون؛ مرّت لحظتان من فوضى اللقاء، لا أكثر، حتى استعدنا توازن المكان؛ فبدأ يسألني عن صمت النايات في بلدي، وكنت أحاول أن أنسى عتاب الخشب للنهر وعذابات جواز السفر.

سألته عن ضيعته "عمشيت" التي زوّرني حاراتها وحكى لي قصص أزقتها الساحرة وعن بحرها العتيق. ذكّرته بجبيل وبمينائها الذي يشبه ميناء عكا، وبطريقنا إلى بشرّي جبران. تذكّرت أمامه كيف صليت أنا وأصحابي على أدراج بعلبك حين وقفنا هناك غير مصدقين أنفسنا ورددنا مع صوت فيروز : "هون نحنا هون ، لوين بدنا نروح، يا قلب يا مشبك بحجارة بعلبك، عالدهر عاسنين العمر ".  

برقت عيناه ؛ استل مداد روحه وحدثني عن وطنه الذي من نتف الورد وعن رفاق له "كانوا يعبرون الجسر في الصبح خفافًا" حيث كانت أضلعه "تمتد لهم جسرًا وطيد". كان غاضبًا على جميع تجار بلاده الفاسدين وباعة الشرق الفرّيسي أكثر من غضب بحر على أصدافه الفارغة. لم يكترث لأراجيفهم حين رفض أن يفتتح أمسيته في مهرجان بعلبك بالنشيد الوطني اللبناني وعندما. افع عن حرية التعبير والغناء، فلامه المزايدون والانتهازيون والطائفيون والمفتنون وطالبوا بمحاكمته من أجل قصيدة ونوتة؛ فردّ، على كل من هاجمه وعلى من ادّعى غيرةً على المسيح بلغة لا يجيدها إلا الأحرار الحقيقيون وقال لهم : "كنا نذهب الى الكنيسة حفاة وكانت أرجلنا ناعمة كالحرير ؛ كثيرا ما كنا نحلم بالمسيح الذي لنا. المسيح الذي لا تأسره المؤسسات المتحجرة ولا تتاجر به حضارات قاتلة. أين وجه المسيح في هذا الاجتماع الصارخ مع صور القديسين والجموع؛ لم أجده لم أجد من تطلعت لأجده لأنه كان قد هجر دنياكم ومات ضد الموت كله. سيدي: إحمل صليبك واتبعنا على الارض".

كان فمه وهو يقرأ قريبًا من وجهي وكانت تناهيده تخرج برقة الفل وعيناه مكسوّتين بحنان ملائكي. كنت انظر إليه وأقاوم دمعتين حرّتين في كبدي.  

في الغد تجمّع عشرات الصحفيين في قاعة اعدت خصيصًا للقائه. سألوه عن بعلبك وعن تمرده غير المألوف في زماننا ولماذا رفض أن يغني "كلنا للوطن". كان حازمًا كالنور، فعرّى الرياء في بلاده ومقت الطائفية وتمنى، بالمقابل، لجميع اللبنانيين أن "يصبحوا على وطن".

لم ننتظر طويلًا حتى حضر محمود درويش إلى القاعة وملأها بهجة وضجيجًا. راحت الأسئلة تنهال على مرسيل وكلها تتمحور حول علاقته مع محمود درويش وتلك التبادلية الوثيقة بين موسيقاه وقصائد الشاعر. كان مرسيل ذكيًا ومباشرًا وصادقًا فأكد لهم بحفاوة كيف استفادت موسيقاه من القصيدة الدرويشية وكيف، من ثم، استفاد الناس من أغنياته. أجاب بتواضع ولم يخفِ حبه الكبير لمحمود فأكّد على عفوية العلاقة بينهما وصدقها خلال مسيرة بدأت منذ أكثر من أربعة عقود وما زالت حيّة لن تموت.

لقد واجه الأسئلة بجرأة وبشفافية كما يليق بالانسان الحر والمطلق وبالمبدعين الحقيقيين الذين لا يُعرفون الا بطبيعة واحدة اسمها الحياة.

جاء المساء وامتلأ مدرج جرش الجنوبي. لاحظت ان الجمهور مثّل بحضوره ثلاثة أجيال متعاقبة. الأول مَن تفتحت عيناه على مرسيل الثورة والتمرد وعلى قيم الحرية القصوى ورفض الهزيمة والكفاح؛  والثاني مِن جيل تعمّد في أجران من الحب وفي معابد التضحية والوفاء؛ والثالث هو الجيل الذي سيحمل رايات الوعد ويرفض الذل وسياسات قطف الراس وتصعير الخدود؛ فجميعهم جاءوا ليمدوا، مثله ومثل خليله الحاوي، أضلعهم جسورًا  "من كهوف الشرق، من مستنقع الشرق، إلى الشرق الجديد".

دخل الخليفة على ايقاع الأكف وهي تصفق له وفاءً، وكان هو ينحني للعهد واجلالا لتاريخ يقظ ولحاضر ملتبس؛ وكان يستقبل بكلماته الرقيقة رفيقه محمود درويش ويحييه ويوقفه معه على المسرح.  ويغني اشعاره فيعلّما الجماهير كيف بمقدورهم أن يصحوا على وطن وكيف سيكون نشيده الوطني، فيرددون وراءه فكّر بغيرك  "وأنت تعد فطورك فكّر بغيرك ، لا تنسى قوت الحمام، وانت تعود لبيت بيتك فكر بغيرك لا تنسى شعب الخيام..". ينتشي فضاء جرش ويعلو الهدير "على ايقاع السماع في مكان يلد المكان ويكلله بنسيم الريح وبانكسار الضوء على الوجوه".

وقفا أمامنا، هو ومحمود درويش، وثالثهم كان "باخوس" صانع الفرح القديم؛ ووقفنا آلافًا لا تريد لهذا الغناء أن ينتهي؛ وصلّينا بدموعنا من أجل أولادنا ومن رسموا لهم في الشرق خريطة الانسان وحاولوا بناء وطن من عزة لأمة صماء وسيّجوه بالحب وبالحرية وبالوفاء.

ودّعته ولا أعرف إن كنت سأرجع مرة أخرى إلى عمّان وسألت: يا حبنا، هل تدوم؟

فوقنا في طريق الغور رقص سرب من طيور الصحراء، كانت تزقزق، فسمعتها تغني لأجمل حب وتقول: "وجدنا غريبين يومًا وسنبقى رفيقين دوما".. فالى ملتقى.           

 

 

غصات… غصة الموت…

غصة أطفال العيساوية

جواد بولس

 

ننام على صوت الرصاص ونفيق نحصي في بلداتنا، أعداد الثواكل الجديدات ونجفف عيون اليتامى المحملقة في ظهر الغيب؛ يبكي النرجس قلوب «شقيقاته» المبقورة، ويفرح الناجون منا بصبح بطيء، يبسطون أكفهم نحو الغيم، ويتمتمون كلامًا من سفر الغبار، ويشكرون لأنّهم كانوا «أصغر من هدف.. وأكبر من نحلة تتنقل بين زهور السياج».
كل يوم قتيل بيننا وقاتل مجهول، والملح يجري في شراييننا كمجرى السم في الروح النبيلة. نعيش، نحن المواطنين العرب، في إسرائيل ونعرف أننا لسنا لديها إلا «عابرين في كلام عابر»، أو أصغر من طيف عقرب صالٍ؛ ونذهب إلى ضفاف خبزنا خائفين من غضبة الريح وهي تزمهر مع كل صرخة رصاصة «طائشة»، وتنتشي عند أكعاب خناجرنا النهمة.

لن ننجو من لعنات القتل والعنف بيننا إذا ما بقينا نردّد خطاب الضحية ونُلام على ما تفعله أو لا تفعله الدولة تجاهنا

كيف الخلاص؟ ونحن مجرد مجتمع مهشّم ينبّش رجاله قبور مستقبلهم في لحم أمسهم، وتفتش نساؤه عن نجاتهن في تراتيل السراب، وفي ثنايا القصائد البائدة.
لا خلاص! ما دام الرجال وحدهم عندنا قوّامين على ساعات الرمل، وعلى حصاد الخضرة في خواصر الشجر؛ ويُستقبلون، رغم رائحة العرق، على العتبات، كسعاة للبرق وقطافين للرعد وحماة للأثر؛ لا نجاة! إذا ما استمر الجناة يلوكون، بزهو، في المجالس سير فتوحاتهم الفاقعة ويفرّقون، على الضعفاء، دمى الدم تمائم للسلامة، وأدعية الدجل عرابين للوفاء؛ ويداعبون، بعد كل فتح، شواربهم المنتصبة بين سيقان الحرير وعلى بحّات الوتر..لا خلاص! إذا ما بقيت النساء يمضين كبنات الجبال في عروق صحراء جائعة، وتهوين، كطيور الحجل الخائفة، عند أقدام النهر.
لا سيّد بيننا إلا الموت! فالليل يصهل في فراشنا خائفًا، ولا يجد غمدًا يحميه من رجع الصدى، والنجوم تبكي أمام قهقهات الرماح الراقصة بشوق وبغريزة وبفيض وطر.
كنت في طريقي إلى عملي حين بدأت أتابع تفاصيل حادثة قتل رجل وزوجته أمام أعين طفلهما، ابن السابعة، في بلدة اللقية الصحراوية الجنوبية.
يبدأ المذيع بعدّ الضحايا العربية التي سقطت في الشهر الأخير فقط، ولا ينتهي إلا بعد أن تعب الأثير وطقت حنجرته. ضيف «أجندته»، هذا الصباح، كان قياديًا عربيًا حزبيًا معروفًا، سأله المذيع بحسرة واضحة ووجع: كيف يمكن إيقاف شلال الدم النازف من النقب الصامد حتى أعالي جليلنا الأشم؟ لم أسمع في ردّه جديدًا. بدأ القيادي بتلاوة اللازمة التي يعرفها الجميع، يؤكد فيها على أننا مجتمع يعاني، منذ اكثر من سبعين عامًا، ظلم الدولة اليهودية وقمع أجهزتها، ومن سياسات التجهيل وطمس معالم هويتنا؛ ثم ينتقل تباعًا إلى باقي أجزاء الحكاية ، فبعد تحميل الدولة، بحق، كامل المسؤولية، يعِدنا سيادته بالعمل على وضع قضية العنف في مجتمعنا في صدارة برامج عمل جميع الأحزاب العربية؛ ذاك لأن استفحال العنف كما نختبره على جلودنا سيوصلنا إلى هاوية سحيقة، وسيفقدنا فشلُنا في مواجهته أهليتنا للعيش كمجتمع، وأبناء شعب يقاتل من أجل بقائه ونيل حقوقه المدنية والقومية. لا غبار على هذا الكلام؛ فكم قلنا إن الدولة هي المسؤولة الأولى عن أمن مواطنيها وعن سلامتهم، وكم اتهمناها بإهمالها المتعمد وبقصورها في تأمين حياتنا في الشوارع وفي الساحات وفي البيوت؛ وكم فنّدنا مزاعم الشرطة وأثبتنا كونها شريكة في ما نواجه، نحن المواطنين العرب، من الجرائم وحالات القتل والعنف المتفشي بيننا، لأنه لا يجد من يصدّه.
لكننا قلنا، إلى جانب ذلك، مرارًا وأكدنا على أننا لن ننجو من لعنات القتل والعنف بيننا إذا ما بقينا نردّد خطاب الضحية ونلوّم على ما تفعله أو لا تفعله الدولة تجاهنا من دون أن نسعى إلى ابتكار وسائل من شأنها أن تسعفنا، وأن تضمّد جراحنا وتنقلنا إلى شاطئ السلامة، لنجدّ السير على بداية الطريق الصحيح.
مرّت الأعوام ولم ننجح في اجتراح «المعجزات»، حتى وجدنا أنفسنا اليوم في وسط أتون حارق، نعاني من الهزائم والفوضى الخانقة، حتى تحول سؤال «الكيف» إلى هل حقًا يمكن وقف ذلك الشلال؟ وهو تساؤل مشروع حتى لو وسم برسم العجز والتشاؤم. أخشى اننا لا نملك ناصية المستقبل، وأخشى أكثر لأننا لن نملكها في القريب المنظور؛ فحتى نصير مجتمعًا/ شعبًا، علينا أن نتقن همسة القلب للقلب، وأن نمسح عن جبين الوردة أثر الأقدام الهمجية؛ وعلينا أن نقدّس الحياة بمعانيها المطلقة ونعلي مراتبها فوق كل مزمور؛ أو كما علّمنا من كان في شعابها بصيرا، الدرويش والأمين حين قال: «سنصير شعبًا، إن أردنا ، حين نعلم أننا لسنا ملائكة، وأن الشر ليس من اختصاص الآخرين؛ سنصير شعبًا، إن اردنا، حين يؤذَن للمغني أن يرتل آية من «سورة الرحمن» في حفل الزواج المختلط؛ وسنصير شعبًا حين نحترم الصواب وحين نحترم الغلط». لسنا من ذلك قاب قوس، ولا أكثر؛ لأن المسافات، في بلادي، تقاس بطول عنق المسدس وبعرض وسط الخنجر.

أطفال العيساوية

من ظن أن إسرائيل تحاصر المقدسيين بجرعات موزونة ومقطعة، لا يشعر كيف تذبح المدينة المقدسة من الوريد إلى الوريد. في الأمس كتبنا عن غصتنا في «وادي الحمص» واليوم أكتب عن نحيب «العيساوية» وعن صمود أهلها، رغم الملاحقات والقمع والحصار ومحاولات التهجير. «العيساوية» قرية كبيرة ضمتها إسرائيل بعد حرب يونيو/حزيران إلى مدينة القدس الكبيرة، فصارت حيًا من أحيائها يبلغ عدد سكانه عشرين ألفًا.
يعاني أهل العيساوية بشكل يومي وقاس الكثير؛ فبسبب مجاورة بيوتهم لبيوت الحي الاستيطاني اليهودي المعروف باسم «التلة الفرنسية» ولمباني الجامعة العبرية، أمعنت اسرائيل بتضييق خناقاتها على الحي، فحاصرت سكانه داخل منطقة ضيقة، وحظرت عليهم البناء خارجها ولاحقتهم فتحولت حياتهم إلى جحيم. قاوم أهل العيساوية هذه السياسة بوتائر تحتدم أحيانا وتخبو أحيانا أخرى. منذ اكثر من شهرين نشاهد موجة جديدة من الاحتكاكات التي ما زالت ذراها تتشابك؛ فقوات الشرطة والأمن الاسرائيلية تغزو بشكل يومي شوارع البلدة وتعيث بين أهلها الخوف وتعتقل العشرات منهم. برزت في مشاهد الاعتقال الأخيرة عمليات اعتقال عدد من أولاد الحي صغار السن، حتى غزت تلك المشاهد معظم الشاشات الفضائية وغدت حطبًا للمواقع الاخبارية ولشبكات التواصل على أنواعها. ستبقى مشاهد استدعاء أولئك الأولاد الفلسطينيين وصمة عار على صفحة دولة إسرائيل، وستحفظ كجنايتها الكبرى بحق الانسانية والطفولة.
في المقابل رأينا كيف انتشى كثير من الفلسطينيين ورقصوا طربين على وقع تلك الصور؛ ومنهم من تغنى ببطولات الاطفال الذين سيفلون ببسماتهم حديد المحتل ويذيبون ببراءتهم صلافته. فالطفل الفلسطيني، هكذا تشاوف البعض، جندي مقاتل يواجه دبابة المحتل ووحشيته. أفهم لماذا يوظف الفلسطيني في هذا العصر البائس «جبروت» البراءة وهي تقارع جبروت ووحشية المحتل، لكنني، رغم تفهمي الكامل لسحر ذاك المجاز، ولدغدغة الاستعارة، سأبكي على تلك الطفولة المذبوحة وسأبقي غصتي في الحلق كي لا تصير جرحًا يفضح.

٭ كاتب فلسطيني

 

 

 

غصّات: وعد صائب

وغصة وادي الحمص

جواد بولس

 

ستبقى صور نسف وتدمير بيوت الفلسطينيين سكان حي "وادي الحمص" في قرية صور باهر المجاورة لمدينة القدس، قابعة في الذاكرة كقابس يشحن صاحبه بشعورين مهينين هما الخوف والعجز ؛ فهدم البيوت العربية وتشريد أهلها كانا من مشاهد النكبة المروّعة، ثم ما تلاهما من عمليات قمع حرصت إسرائيل على الايغال في تنفيذها، لاعتقادها بأنها أنجع الوسائل لتدجين المواطن الفلسطيني ولتلقينه كيف عليه أن يعيش داخل حدود كهفه ويقبل بما يطعمه سيّده وبما يسقيه.

 لكل مأساة زمانها وروحها ونزفها المختلف؛ وضحية؛ وقصة هذا "الوادي" تعكس خلاصة من سيرة السراب الفلسطيني الذي يولد، كحلم أبطال الملاحم، من اليأس، فيصير عثرة فعذابًا فزفرات فضياعًا. 

كان الصباح فوقنا، في القدس ، أسود والوجع مهمازًا ينقر خواصرنا. السماء، كالقبور، جميلة وهادئة، فعبثًا نفتش عن معنى بين ثناياها وعن قطرة ندى. لا صوت في المدى إلا صدانا وتنهيدة ناي.

سبعون مضت والحروف ما زالت مدلّاة من أعناقنا كتمائم تسترضي آلهة تؤثر، كما كانت، رقصة النار على دمع البرتقال .. وخمسون طويت وما فتىء "اسماعيل" يفتش عن أبيه في الفيافي، و"اسحق" يمضي نحو حلمه النحاسي ويغزو أرض "الغرباء" مدجّجًا بالبرق وبالمزامير وبالسياط.

لقد استفزت العملية الاسرائيلية في "وادي الحمص" قلوبًا كثيرة لا مجال لتعدادها؛ لكنني سأتوقف هنا عند لافتتين بسبب ما تعنياه، لا لأصحاب البيوت المنكوبة فحسب، بل لمستقبل البلاد ومن سيبقى عليها أو من سيدفن في ترابها.

عقدت اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية اجتماعًا طارئًا "لمتابعة أحداث جريمة الحرب الاسرائيلية المرتكبة بحق أبناء الشعب في القدس المحتلة، وتحديدًا في منطقة وادي الحمص وصور باهر" .

حمّل الدكتور صائب عريقات ، أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، في أعقاب ذلك الاجتماع، إسرائيل والادارة الامريكية، المسؤولية عن جرائم هدم منازل ومنشآت الفلسطينيين في القدس المحتلة؛ وأضاف بأن المنظمة "ستضع آليات لالغاء كافة الاتفاقيات الموقعة بين الجانبين الاسرائيلي والفلسطيني"؛ وأعلن، في تصريح يعدّ سابقة فارقة وبالغة الأهمية، بأن اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير "ستوقف التعامل مع جهاز محاكم الاحتلال الاسرائيلية باعتبارها أداة رئيسية لتنفيذ سياسات الاحتلال ولترسيخه".

لم يفصح الدكتور صائب عن أية تفاصيل عملية حول توقيت البدء بتنفيذ ذلك القرار، أو حول كيفية "التوقف عن التعامل مع جهاز المحاكم" وعن أية محاكم إسرائيلية سيشملها القرار. وعلى جميع الأحوال، يشكل هذا الموقف برأيي نقطة تحوّل جدّية في الموقف الفلسطيني الرسمي؛ قد تؤدي، في حالة تنفيذها الحقيقي، إلى تداعيات ايجابية، من شأنها أن تعيد لمفهوم نضال الشعب الفلسطيني ضد الاحتلال بعضًا من مضامينه الوطنية الحقيقية الصائبة، وقد تنقله الى حالة كفاحية سياسية جديدة خالية من لبس المفارقات التي خلقتها مرحلة "الحمل الواهم"، لا سيما بعد تقويض حكومات اسرائيل لجميع الأسس التي أرستها "اتفاقية أوسلو" وبعد أن لاكت تلك الحكومات ما بقي من فتات ذلك العهد ولعقت، بشكل تام، جميع آثاره فأردت كل الآمال التي عقدت عليه. 

لن يحتمل هذا المقال سرد تاريخ هذه المحاكم وما ارتكبته، خلال ما يزيد عن خمسة عقود، من موبقات بحقوق أبناء الشعب الفلسطيني؛ فهي، كما صرح الدكتور صائب، وجدت لتكون "أداة رئيسية لتنفيذ سياسات الاحتلال ولترسيخه" ؛ وقد كانت كذلك في ممارساتها اليومية.

على منظمة التحرير أن تمضي في  تنفيذ ما أعلن باسمها، وعليها وضع برنامج واضح يفضي، بدون تسويف، الى وقف التعامل مع "محكمة العدل العليا الاسرائيلية" ومع جهاز "المحاكم العسكرية" على جميع تفرّعاته.

أخصّ، في البداية، هاتين الجهتين لدورهما التاريخي السافر والمثبت كذراعين أنيطت بهما، منذ ساعة انشائهما، مهمة تسويغ سياسات سلب حقوق الشعب الفلسطيني وترويض أبنائه واحتوائهم في "زرائب" ترفع على أبوابها، أمام العالم، رايات العدل، لكنها  تعاملهم بتشاوف السيّد على عبده المسجون داخل أقبية القمع والظلم والاذلال.      

لقد بنى سكان "وادي الحمص" بيوتهم في منطقة صنفتها اتفاقيات أوسلو كمنطقة( أ ) حيث لا تملك فيها اسرائيل صلاحيات في الشؤون المدنية على الاطلاق.

حصل الفلسطينيون على تراخيص لبناء بيوتهم من سلطة التنظم الفلسطينية وفقًا للاجراءات المتبعة  في المناطق المصنّفة كمناطق( أ ) ؛ ورغم ذلك، اصدر قائد جيش الاحتلال أمرًا يقضي بعدم السماح لهم بالبناء هناك أو بالسكن في بيوتهم المكتملة، معلّلًا قراره بتهديد تلك البيوت لأمن اسرائيل بسبب قربها من جدار الفصل.

تظلّم المواطنون المحتلون أمام محكمة تسمّى "محكمة العدل العليا" في محاولة منهم لاقناع ثلاثة من خدمة مخططات الاحتلال، بأنهم، اي الملتمسون، أصحاب الحق والأرض، وبأن وجودهم، مع عائلاتهم هناك، لا يشكٌل خطرًا على أمن اسرائيل وعلى سلامة سكانها.

لم يصغ إليهم القضاة، لا بل عاملوهم بعجرفة كجنود يخدمون دولة اليهود. رفضوا الالتماس وأجازوا هدم عشرات المنازل المأهولة؛ فتفوّق أمن اسرائيل، مجدّدًا، على جميع الاعتبارات الانسانية، وتربع مكانه فوق جميع المواثيق الدولية؛ لأن القائد العسكري ، كما كتب القاضي مزوز ناسفًا ما تبقى من ركام "نرويجي"، يستطيع "انفاذ صلاحياته بذرائع أمنية حتى داخل مناطق ( أ، ب) وذلك يشمل حقه بتحديد امكانيات البناء لأسباب امنية وعسكرية". وأضاف جازمًا بوضوح "كل بناء يقام بعكس أمر عسكري اسرائيلي سيُعدّ بناءً غير مشروع وذلك حتى لو كان موقعه داخل مناطق (أ ، ب) فليس بوسع التصريح المعطى من قبل سلطة التنظيم الفلسطينية أن يمس أو أن يقلل من صلاحيات القائد العسكري" !

لقد قطع "مزوز" قول كل حليف أو خطيب؛ وبقيت غصة الوادي ووعد صائب .    

غصة اسماعيل وشهادة يوڤال

عندما كانت الجرافات تهدم أحلام المواطنين، وكان الطغاة ينتعلون ضمائرهم، والناس يسعون ،كالطير، وراء أرزاقهم، وكنا في فلسطين نفيق على دبيب النمل في شراييننا، كتب صحفي يهودي من موقع "الغزوة" شهادته فقال : " أشعر بتعب نفسي كبير. أمضيت ليلتي في صور باهر. شاهدت بأم عيني كيف يدمرون لاسماعيل حياته ومأواه. اسماعيل رجل طيب وحساس. لقد خطط كل تفاصيل بيت احلامه.. هكذا أخبرني في الساعة الثالثة فجرًا وقبل وقوع الكارثة. حينها كانت أرجله ترتعد وكان يصلي ويتمنى، حتى آخر لحظة، ألا يهدموا البيت..

اختار لون الورد لخشب خزائن المطبخ وتأكد أن تكون جدران غرفة طفلته الصغيرة عازلة للضجيج وللبرد، فهو يحب ابنته كثيرًا. لقد ارسلها لتنام في بيت جدها وأبقى بجانبه أبناءه يترقبون مثله بخوف وصول الوحوش اليهم" .

اسمه يوفال وقد يكون صحفيًا مغمورًا في مجتمعه، لكنني أشعر بأن ما دوّنه سيبقى خرطشة كتبت بمداد من روح سيحفظها التاريخ دليلًا على تغوّل شعبه بعد أن  "تمسكن فتجبّر وتنمّر" وشهادة على من هو القاتل ومن المقتول. 

 اقتحم عشرات من أفراد الشرطة البيت فكتب يوفال : "أرى كيف ملأ الغضب والمهانة عيني اسماعيل وعيون أولاده ؛ فعندما دفعنا الجنود بقوة الى الخلف، صرخ الأولاد فاقشعر جسدي واحمرت عيونهم من الغاز المسيل للدموع. احتضنهم اسماعيل وكان ينتفض ويبكي.."

"كان عنف الجنود فظيعًا؛ هدمت اسرائيل البيوت. اسرائيل العنصرية والمستعمرة ..إسرائيل التي اخجل أنا أن اكون مواطنًا فيها".

نفذ الاحتلال جريمته في وضح النهار، وتسابقت الشاشات على نقل الصور حتى تلاشت آخر حبة غبار في حلق العدم، وجلس الصيٌادون يحصون فرائسهم وفلسطين كانت متكئة على كتف الريح .. ابنة العاصفة وولّادة الزهر.

 بدأت الشمس ترتفع فوق القباب الخضر، تجفف مطر العيون المتعبة وتسافر في رحلتها الأبدية بين وعد صائبٍ وغصة الوادي.     

 

 

 

Attachments area

 

غصّات ، ربحي الأسير

ونصّار الشهيد

جواد بولس

 ربحي

وصلت القاعة رقم أربعة في مبنى محكمة العدل العليا الاسرائيلية وجلست في مقعدي أنتظر احضار الأسير ربحي شهوان ودخول القضاة لتبدأ مناقشة التماسي بالافراج عنه، بعد أن أمضى في السجن الاداري مدة عام ونصف من دون أن يحقق معه ومن دون أن تقدم بحقه لائحة اتهام؛ وذلك على الرغم من أن المخابرات  أدّعت، حين أصدرت بحقّه بتاريخ 25/1/2018 أمر الاعتقال الأول ، على أنه مقرّب من خلية تابعة لتنظيم داعش، كانت نشطت في مسجد القرية.   

كنت متأكدًا من النتيجة ؛ لكنني كنت مصرّاً أكثر على مواجهة القضاة لكي أقول لهم ما سبق وقلته لمن سبقوهم منذ أربعة عقود، كنت فيها شاهدًا على تيه الفلسطيني في غابة الزمن المتوحش، بينما كانوا هم قنّاصة الأمل وصيّادي الفرائس العاجزة.

بجانبي جلست دانة، حامية الوعد ووريثة الهمّ المشتهى ،كانت هادئة كعادتها لكنها لم تخفِ مشاعرها ازاء المكان وأصحابه ؛ فهي ترفض أن تقفو أثر جيلنا وهي معصوبة الأعين حتى لو قيل فيه، كما أفهمتُها ذات مرة ، بأنه "أصبر على الذل من وتد" .

أدخلوا ربحي إلى القاعة محاطًا بثلاثة سجّانين فبدا بينهم كحمامة في قفص تحرسه وعول ؛ جسمه نحيل ووجهه أبيض يميل إلى صفرة الرمل وشعره منثور بإهمال مقصود كمن ترك بيته مسرعًا للقاء حبيبة.  رأيته مثل أبناء جيله، أولئك الذين يحبون مسلسلات "النتفلكس" ويتابعون مباريات التنس ومنافسات "جوكوفيتش وفيدرر ". 

صافحته بحرارة وتلقيت منه أجابات واضحة على أسئلتي. سمعته واثقًا وصادقًا ونجحت مرّة أو أكثر أن أرى ابتسامته تعلو وجهه الطفولي الذي لا يشي بسنيّ عمره العشرين.

أخبرته أن نيابة الدولة اقترحت عليّ أن أسحب التماسي مقابل تعهدها بالافراج عنه بعد أربعة شهور لكنني رفضت عرضها وجئت اليوم كي "أقاتلهم" من أجل تحريره الفوري. أحسست أنه لم يستوعب المشهد بشكل دقيق ، فسألني عن والديه وعن عالمه الصغير لأنه مقطوع عن الدنيا ويقضي أيامه في جناح الأسرى الفتحاويّين في سجن النقب الصحراوي .

قرر القضاة، ربما لحظّي، أن يفتتحوا نهارهم بمناقشة ملفي، وربما لأنهم أرادوا "غربلتي" بسرعة كي يعودوا إلى ما يهمّهم أكثر ويشعرهم بكونهم قضاة لا مجرد سيّافي ورود وحفاري وجع .

أعرف أنهم لا يحبون سماع ما سأقول، لكنهم يعرفون، بالمقابل، أنني لن اتنازل عمّا جئت من أجله ؛ فلقد تخطّيت، من زمن، تلك المرحلة التي كانوا يستقوون فيها على كياستي ويسكتوني بعصا "حكمتهم" المدّعاة.

وقفت أمامهم في تلك الردهة الضيقة التي أرضها من حق صلب ومن وجع المقموعين ؛ كان صدري مدفوعًا نحوهم ومنه يضوع عطر كرامات المظلموين ويصرخ من حنجرتي ضمير التاريخ الذي يئدونه على مذابح عدلهم الأكتع. كنت أرى الظلم ينثال من مآقيهم وأشعر بالبرودة تسيل من وجوههم صوبي؛ لكنني وقفت هناك على حافة الضوء كمن "رماه الدهر بالأرزاء" طودًا لا يضيره " تكسر النصال على النصال"، وبدأت مرافعتي.

 "هل قرأتَ ما كتبت نيابة الدولة في ردها على التماسك سيّد بولس ؟ فلماذا لا تقبله وننتهي من هذه القضية" - قاطعني بصوت خفيض ورزين القاضي عميت رئيس الهيئة، متوقعا أن أقبل "نصيحته"  المؤدّبة.

رفضتها لأنها بالنسبة لموكلي ليست إلا كرمًا أسود؛  فربحي، الذي جئت اليوم  مستنصرًا له، قد دفع من حياته سنة ونصف من دون أن يعرف تهمته وبدون أن يعطى فرصة ليدافع عن نفسه. لقد اعتقل قبل أن يكمل عقده الثاني، وزج به غضًا في صحراء سادتها الرمل والغبار اللذين سيُنسيانه حتمًا معنى السذاجة والنقاء؛ فهناك لا ينجو الا من يتخذ الخشونة مهجعا والضراوة وسيلة للحياة.

تحاول القاضية الجالسة على يمين رئيس الجلسه، أن تسكتني وتقترح  عليّ أن ينتقلوا مباشرة لمعاينة ما يسمونه "الملف السري" كي يستطيعوا اصدار قرارهم بسرعة.

 أقاطعها، بغضب واضح، مؤكّدًا رفضي لطريقتهم في معالجة هذه القضايا؛ فلجوؤهم الروبوتي الى ذلك "الملف السحري" لا يعني إلا استسلامهم أمام سطوة "الأمن" المغلق وإلغاء دورهم كقضاة تأتيهم الناس طلبا للعدل وللإنصاف.

أمضي في مرافعتي وأسأل لماذا لم يحقق مع الأسير بما ينسب إليه من شبهات؟ وكيف يستطيع هو وأمثاله بأن يثبتوا أنهم أبرياء؟ وكيف لي كمحام ان أقنعكم بأن الاعتقال الادراي لم يُعدّ أصلًا لمثل هذه الحالات وهو في عرف الانسانية وسيلة قمعية مرفوضة لا يلجأ اليها النظام الا في حالات نادرة واستثنائية قصوى؟

كنت مسترسلًا إلى أن  تدخل القاضي مزوز محاولًا اسكاتي واقناعي برأيه بأن في بعض الحالات لا داعي للتحقيق مع الأسير فقد تكون الأمور واضحة لا تحتاج إلى مزيد من الفحص والتدقيق. أقاطعة بتنهيدة صاخبة ومستهجنة متسائلًا باشمئزاز:  كيف لقاض أن يتفوه بمثل هذا الموقف؟فحتى نيابة الدولة تخجل أن تدعي ذلك ، فكيف لك أن تتبنى موقفًا نيابيًا أكثر من النيابة" ؟

انتظرت، للحظة، متوقعًا أن ينتهر "وقاحتي" لكنه لم يفعل اذ مال عليه رئيس الجلسة ووشوشه فصمت حتى نهاية الجلسة.

ورفعت الجلسة. لم يفاجئني قرارهم الذي صدر آخر النهار، فأنا جاهز للضجر الأخضر، كابن الساقية، ولأنه  "ما مرّ يوم أرتجي فيه راحة / فأَخبره إلّا بكيت فيه على أمسي" .

رفضوا التماسي بعد أن قرأوا بدقيقتين ملف الأسير السري فوجدوا بأن ربحي شهوان يشكل خطرًا على أمن وسلامة الجمهور ؛ لكنهم وجدوا، كذلك، بقدرة لا يمتلكها الا الملائكة أو المبصرون ، أن ذلك الخطر سينقطع بعد أربعة شهور، وعندها سوف يحرر ليعود إلى أهله حاملًا شهادة الصحراء وليردد مع الدرويش ما علمته قوافي المعلقات ويقول "لا أرض تحملني ، فيحملني كلامي طائرًا متفرعا مني، ويبني عش رحلته أمامي في حطامي ..".

ما أقرفهم ! قالت يمامتي الصغيرة وكانت تداري غصة نفرت من عينها. ربّتّ على عباءتها المضاءة بالنجوم  وقلت، محاولًا إخفاء غصتي، يا بنيتي : "ما العز إلا تحت أثواب الكد" وأنت ما زلت في بداية هذا الطريق الجبلي الوعر، فصوني عبراتك للفرح  واجعليها "بين الضلوع جذوة نار وخلال الأجفان مزنة ماء" ولا تهني بل أرقصي معها دائمًا عند حفاف القمر.

نصّار

في التاسع عشر من حزيران المنصرم اقتحموا منزل العائلة في بلدة بيت فجار في محافظة بيت لحم واعتقلوه بعد أن حطموا الأثاث وزرعوا البيت خرابًا ورعبًا. وضعوه في زنزانة منفردة في معتقل الجلمة. مددوا توقيفه لسبعة أيام تلتها سبعة أخرى وهو ممنوع من لقاء محام.

في العاشر من تموز/ يوليو الجاري طلبوا تمديد توقيفه لاثني عشر يوم في محكمة سالم العسكرية، لكنهم لم يحضروه لأن وضعه الصحي لم يسمح بنقله من "سجن مجدّو"؛ فقررت المحكمة اجراء الجلسة وسماع الطلب داخل السجن.

يكتب القاضي في محضر الجلسة، بأنه وجد الأسير، نصّار طقاطقة،  "ملقى على حمالة ولا يتفاعل معهم على الاطلاق ويضيف انه كان واعيًا". قرر القاضي تمديد توقيفه لثمانية أيام على أن يتم فحصه طبيًا وذلك حتى موعد أقصاه السادس عشر من الشهر الجاري وفقًا لانظمة مصلحة السجون.

في فجر السادس عشر استشهد نصّار طقاطقة داخل سجون الاحتلال وهو في الثلاثين من عمره.

مع انتشار النبأ تواصلنا مع جميع الجهات وطالبنا تزويدنا بكل التفاصيل منذ يوم احتجازه الأول وحتى لحظة مماته، كما وطالبنا بضرورة تشريح جثمانه بحضور طبيب فلسطيني.

لم يكن نصّار أول شهيد يسقط وهو محتجز وراء قضبان القمع الاحتلالية ولن يكون آخرهم ؛ وليس من شأن هذه المقالة التوثيق لهذا التاريخ الدموي ولا الحديث عن مسؤولية السجان الاسرائيلي الذي لم يلاحق بسبب جرائمه ولم يعاقب عليها لغاية الآن . ما أثارني ودفعني لأكتب عن غصتي الحارقة في هذه المقالة هي دمعة أمه الثاكلة التي بكت بحرقة لم تُبقِ حيًا ينعم في سكينته.

لا أعرف كيف ستنتهي هذه القضية ومن سيدفع الثمن عن جريمة راح ضحيتها من أمسى شهيدًا سيذهب، كما تعد الرواية، مع رفاقه الشهداء إلى النوم ونحن نقول لهم "تصبحون على وطن من سحاب ومن شجر ، من سراب ومن ماء .. فناموا لأحرس أحلامكم من خناجر حراسكم وانقلاب الكتاب على الانبياء..."   

ما أصعبها غصة، ما اقساها تضحية، ما أحلاها سرابًا وأمنية.        

 لم تنته الغضات....  

https://ssl.gstatic.com/ui/v1/icons/mail/images/cleardot.gif

 

غصّات فلسطينية:

«القائمة المشتركة»

وذكرى توفيق زياد

جواد بولس

 

أُصبنا بنوبة فرح كبيرة عندما فشل بنيامين نتنياهو بتركيب حكومته، واضطراره إلى حل الكنيست المولودة حديثًا، والإعلان عن جولة انتخابات ثانية ستجرى في السابع عشر من سبتمبر/أيلول المقبل؛ في سابقة مثيرة لم تشهدها إسرائيل من قبل.
بعضنا فرحَ شماتةً بالرجل الذي لم يُخفِ تشاوفه على مواطني الدولة العرب، واستعداءه المكشوف لهم، والتحريض عليهم بوجبات من العنصرية المنفلتة، بعد تحويلهم إلى «فزّاعات» شيطانية يخيف بها المواطنين اليهود ويستفزّ مشاعرهم الدفينة.
والبعض فرحَ لاعتقاده أن الجماهير العربية كسبت فرصةً جديدة للمّ شمل قبائلها، بعد أن مزقته مؤامرات ومغامرات وحماقات ورهانات قادة القائمة المشتركة في ثلاثة أعوام وجودها، وقبل جولة الانتخابات السابقة، حيث لم ينجحوا، رغم جميع التصريحات والوعود والتطمينات، بالعودة إلى «بيت الطاعة» مخيّبين آمال من آمن بأن الوحدة في قائمة هي «سدرة المنتهى»، أو ربما عصا موسى القادرة على فجّ بحار العداوة الممدودة بينهم، وعلى نقل جميعنا إلى «أرض ميعادنا» المشتهاة.

لقد عجزوا مرة أخرى ولم يعلنوا، عن تذليل العقبات التي ما زالت تعيق إعادة بناء القائمة المشتركة

وهنالك فئة شعرت، في أعقاب فشل إعادة تركيب المشتركة، بأن «أيّام اللولو» العربية المألوفة قد ولّت؛ فطفقوا يعدّون أنفسهم لامتطاء عنق المستقبل ولحصاد بيادر جافَتها مواسم العز والجنى.
على جميع الأحوال، فقد أتاح فشل نتنياهو المذكور لفئات عديدة فرصة لإعادة النظر ولاستخلاص العبر؛ لكنه هيّأ للبعض، في الوقت ذاته، فرصة لبناء «عرائش» سياسية جديدة، كان بعضنا قد تكهّن بأنها تتخمر تحت قناطر عقودنا الهرمة، إلى أن صار إنباتها من ضرورات ساحاتنا المحلية، وحتمًا ناضجًا ينتظر فقط لحظةً مؤاتية كي ينطلق كالسهم نحو أحضان القدر. لقد عجزوا مرة أخرى ولم يعلنوا، حتى كتابة هذا المقال، عن تذليل العقبات التي ما زالت تعيق إعادة بناء القائمة المشتركة.
من الواضح أن الجماهير ستحاسبهم جميعا ولن تميّز بين جانٍ وصادق أو مغرور؛ فالتفاصيل لن تقنع إلا المقتنعين ولن تستفز البراهين إلا المستفَزين، بينما ستُرصّد الخسارة عجزًا في بنوك التاريخ، وتتكدّس قناطير الخيبة في خوابي المدّعين والتائهين. إنّ ما يجري أمام أعيننا ليس مجرّد مخاضات عادية يمارسها فقهاء بالسياسة، ويرسم معالمَها دهاةٌ في التفاوض ويخططها قادة لا يشق لهم غبار ولا «يقعقع لهم بالشنان»؛ فبعض العصاة هم مجرد هواة يعبثون برميات نرد عبثية، وجزء من أولئك يلعبون بالنار بجانب وسائد أطفالنا، ويتصرّف آخرون كما قالت العرب: «فنفسي وبعدي الطوفان»؛ والمصيبة انهم يقرأون مثلنا عن أثر ما تقترفه حماقاتهم، وعمّا تسبّبه أطماعهم، ولا يعيرون مشاعر العامة لفتةً أو اهتماما، وكأنهم قد اقتنعوا بما قلناه منذ شهور، وهو أننا نطلّ، من دون شك، على نهاية «المغامرة المشتركة» ونرافق تهاوي ذيول رحلتها التي كانت تشبه رحلة النيزك بعد أن يولد ويشتعل ويخبو بأسرع من رمشة. لقد كبرت الغصة في حلوقنا؛ فحتى لو نجح الخبراء والوسطاء والوجهاء بتضميد جراح أولئك «الإخوة الأعداء»، وبجبر عظام كراسيهم الساحرة، لن يبقى في قناديلهم زيت ولا في جعابهم ورد ولا خمر. سوف يصحون على خرابات « بُصرى» الدامية، وعلى أطلال ستشهد كيف تسقط الذرى وكيف لا يُبكى على وطن أضاعه نساؤه ورجاله.

 توفيق زياد

تلقيت دعوة من مؤسسة توفيق زياد في الناصرة للمشاركة، في الخامس من يوليو/تموز، في حفل إحياء الذكرى الخامسة والعشرين «لرحيل القائد والشاعر توفيق زياد».
قررت الحضور بلا تردد، متخلّيًا، هذه المرة، عن موقفي بعدم المشاركة في احتفاليات كثيرة، لرغبتي بالابتعاد عن ضوضائها، وعن ممارسة طقوس صارت مكرورة ومزعجة، ولا تنصف المحتفى بهم، ولا تعطّر حاضرهم ولا ذكراهم.
وصلت قاعة مدرسة راهبات مار يوسف متأخرًا بسبب «جلطات» الشوارع التي منعت كثيرين مثلي من الوصول في الوقت المحدد، فدلفت مسرعًا ولم انتبه لكثير من الوجوه التي مررت بها، ولا لمن وقفوا في مدخل القاعة ليستقبلوا المحتفين؛ كنت مطرقًا وساهمًا. حاولت قبل جلوسي على مقعدي إقفال شريط أحداث طويل رافقتني فصوله خلال مشواري إلى الناصرة.
لتوفيق زيّاد مكانة أثيرة عندي، وفي نفوس أبناء جيلي، خاصة بين طلاب الجامعات الجبهويين الذين خاضوا معارك الكرامة في وجه الفاشيين في سبعينيات وثمانينيات القرن المنصرم. أبو الأمين، صاحب الوسامة الشقية، لصيق في ذاكرتنا مثل جين خفي يسكنك ويبقى فيك فلا تشعر به إلا عندما يهاجمك داء الحنين القاسي. كانت ذكرياتي معه قليلة، فالثمين قليل، ورغم مرور السنين ما زلت استحضرها، مع بعض رفاق الدرب الثابتين، بنوع من الفرح القاني، كذاك الذي تمارسه المرافئ، وهي تودّع سفن العاشقين.
كان برنامج الحفل معقولًا ورزيناً؛ نالت فيه الموسيقى حيّزًا وافرًا، وأضفى الغناء معها على الحسرات ظلاً بديعًا. آثر المنظمون إبقاء القاعة مظلمة، وأضاءوا المسرح بمهنية واضحة، فرقصت الشموع وناغت ضمم الزهور الزاهية. وعلى غير عادات العرب، اكتفى المنظمون بكلمتي ترحيب، فحيّت السيدة نائلة زياد، شريكة حياة «ابو الأمين»، الحفل باسم المؤسسة الراعية، وبعدها خاطب الحفل عادل عامر، باسم الحزب الشيوعي. كلمتان قصيرتان عن حياة عريضة كالمدى. كنت أسمع بين فقرة وأغنية تصفيقًا، ولكن ذروة الليلة كانت حين عرض على الشاشات فيلم وثائقي عمل على إنتاجه وإخراجه الشاب سري بشارات وبالتنسيق مع مخرجة الحفل مها الحاج ابنة الناصرة المتألقة.
لن تفي الكلمات ما رأينا في قرابة العشرين دقيقة؛ فقد أطلّ علينا زيّاد كبطل من الأساطير ينفض العدم، ويغزو خواصر الأمل، ويصفعنا بسياطه المجدولة بنسغ المقاتلين البسطاء الذين لا يهابون مواجهة إلا اذا كانت مع دمعة أم ثاكلة، أو أمام عبرة طفلة جائعة. في دقائق مرّت كلسعة نار كاوية، ساحت دموع الرجال وتنهدت النساء. نقلتنا الصور من منصة إلى منصة ومن ميدان إلى ميدان، حيث كان أبو الأمين واقفًا في جميعها كالبوصلة يرشد الجموع نحو قلب العاصفة ويزرع الريح في قلوب الناشئة.
بكينا بصمت وشكرنا رأفة العتمة. كنا كلما صرخ الزياد نمتلئ حسرة وشوقًا وأسى؛ وكنا كلما هزت سبابته شباك المستحيل نغور في كراسينا خوفًا من أن يمدها نحونا ويهيب «أناديكم». لم نشاهد فيلمًا عاديًا بل كانت تلك تراتيل سماء تلاها أمامنا ندّاف الأمل وسيد الميادين العاصية؛ كانت الدموع حارقة؛ فما سمعناه كان أقرب إلى لوائح اتهام واضحة بحق كل من هجر تلك الدروب وتخلّى عن «القابلة»؛ لقد رأيناه قائدًا يصوّب ناره دومًا نحو الطغاة ولم يهادن؛ وشاهدنا كيف كان يرفع قبضاته في وجه من حاولوا، باسم الدين، زرع الفتنة وتأليب «الفقراء» على «الكفار» الحمر، فواجههم كنمر «سرحان العلي» ولم يساوم؛ وتابعناه عاشقًا للوردة الحمراء ولصدور الحياة، مصرًّا على أن المرأة كانت وستبقى لحاء السعادة الأنضر؛ ولم يبع في ذلك موقفًا مقابل قبّرة أو زنبقة؛ وشاهدناه واثقًا بأن البقاء على هذه الأرض لن يتمّ إلا بنضال مشترك يقوده الأحرار من كل قوم وشعب وعرين.
كانت الليلة جميلة كخميلة ساحرة؛ ذهبت إليها مدفوعًا بحدسي وقلقي؛ وخرجت، قبل إشعال الضوء، ممتلئًا بغصات وحسرات، فمضيت أفتش عن وعد وأسأل من يهبنا قائدًا يرفض أن يغمز جانبه كتغماز التين ويأبى أن يقايض جديلة بصك غفران، أو أن يقعقع له بالشنان. أعرف أن بعض الرفاق سيرفعون حواجبهم مفترضين انني تطفلت على زيّادهم؛ وأعرف، بالمقابل، أن آخرين من معسكر «الرفضاء» سيتهمونني بداء المغالاة والولاء «للطغاة». لجميعهم أقول إنني استحضرت «توفيقي» الخاص، القائد الإنسان، والشاعر الإنسان، فغالبتني غصتي؛ ومن لم يشعر بها مثلي فليعد وليشاهد، مرات ومرات، ذلك الفيلم/الوثيقة فعساه يجد ضالته أو ربما أسمه مدرجًا ضمن لوائح الاتهام.
لم تنته الغصات..
كاتب فلسطيني

 

 

حاج يرأس البنك

القومي الإسرائيلي

جواد بولس

 

انتخب أعضاء مجلس إدارة «بنك لئومي» الإسرائيلي، بأكثرية حاسمة، ابن مدينة الطيبة الدكتور سامر حاج يحيى رئيسًا عليهم، خلفًا لدافيد بروديت، أحد ألمع الأسماء المعروفة في عالم المصارف الإسرائيلية ورجالات المال وأسواقه.
لديّ شعور بأن أغلبية المواطنين العرب في إسرائيل تقبّلت الخبر بروح إيجابية وناضجة وبحيادية عامة؛ رغم الغرابة التي رافقت اختيار «حاج» لهذا المنصب، وكانت في الواقع، محرّكًا لبعض الإثارة الشعبوية العربية وللنقاشات المألوفة في تلك «العوالم الافتراضية» التي يتساوى فيها العالِم والجهول.
في هذه القضية فرادة معينة تميّزها عمّا صار أقرب إلى كونه مشهدًا عريضًا تمتد ملامحه بوضوح أمامنا، نحن المواطنين العرب في إسرائيل، وتُشكل عُقَدُه مفاصل حياتنا العامة، وتتركنا في حالة إرباك بين حالتين سياسيتين رسميتين متناقضتين. فمن الوريد إلى السكين تعمل الدولة، من خلال مؤسساتها الحاكمة وسياسات حكوماتها المتعاقبة، بشكل ممنهج وعلني، على إقصائنا عن «أحضانها»، وعلى سحق شرعية نضالاتنا من أجل حصولنا على حقوقنا الكاملة وتحاول، من جهة أخرى، «هضم» قطاعات واسعة من بيننا والزجّ بها في «أحشائها»، ودمجها في مرافقها، واستيعاب فئات أخرى في مواقع كانت محظورة علينا، كعرب، لأسباب عنصرية وقمعية.
لم تعُد هذه المسألة محصورة في استمالة أفراد «وحرقهم» على بيادر القرى والمدن العربية، ولا على من وَجدوا في مختلف الأجهزة الأمنية ملجأ شخصيًّا ومصدر رزق، لولاه لبقوا على أرصفة العوز، أو لهلكوا على حافة «أميّتهم»، فمنذ سنوات ونحن نعيش سيرورات جديدة، ستفضي حتمًا إلى واقع آخر، يمرّ في هذه الأيام بمرحلة انتقالية حبلى بكل الصخور والشواطئ.
لن يتطرق هذا المقال، بطبيعة الحال، إلى تلك العملية المتداعية، ولن يحلل أسباب تشكّلها، ولا إلى دوافع الدولة من تبنّيها، أو إلى ماهية المتغيّرات التي حصلت، خلال سبعين عامًا، وتحصل داخل بنى مجتمعيّ الدولة. اليهودي وشعوره، ربما بنضوج «دولاتي» وبقوة تسمح له «بالتضحية»، التي قد تكون مغرضة، في هوامش كانت موصدة أمام المواطنين العرب؛ والعربي، في المقابل، وما أصابه من تحوّلات سياسية واجتماعية واقتصادية، أثّرت لا في سلوك أفراده فحسب، بل ساعدت على تنمية شرائح ونخب جديدة، بدأت تهتدي بمنظومات مفاهيم ومصالح متوالدة ومحدّدة، بشكل تلقائي وطبيعي، لعلاقتها بالدولة ومصيرها فيها.
لا يشبه اختيار ابن المثلث رئيسًا على مجلس إدارة «بنك لئومي الإسرائيلي» ما سبقه من تعيينات حظيت بها، عن جدارة تامة، أعداد كبيرة من الأكاديميين/ات والمهنيين/ات العرب، الذين استوعبتهم مئات المواقع والوزارات والشركات الحكومية والعامة والجامعات والكليات والمستشفيات والمصانع وغيرها من المؤسسات الرائدة والمهمة؛ فبنك لئومي يحظى بمكانة وبرمزية لافتتين، لا بسبب كونه واحدًا من أكبر المصارف والمحركات الاقتصادية المؤثرة والوازنة في الدولة وخارجها فحسب، بل لأنه يعد وريثًا لأحد إفرازات «الهستدروت الصهيونية» التي أنشأت عام 1902 البنك «الأنكلو- فلسطيني» الذي أصبح، بعد عام 1948 «بنك لئومي ليسرائيل» الحالي، ومعناه الحرفي «البنك القومي الإسرائيلي».
استفز انتخابُ هذا العربي الطيباوي لرئاسة البنك اليهودي «جيش الإنقاذ» الجديد فانقضّت بعض فرقه المتمترسة على هضاب الفيسبوك عليه وعلى جميع من تجرأ على تهنئته أو عبّر عن رأيه بأن انتخابه يعدّ خطوة إيجابية جديرة بالتحليل والتقييم، خاصة على ضوء جميع المستجدات الحاصلة في مواقعنا، كما أسلفت.
لقد تعودنا في السنوات الأخيرة على صمت القيادات ومعظم النخب العربية، وهي تقبع في قواقعها، حيث تعوّدت فيها على السكينة والأمان، ولم يعد يعنيها ما يجري في ساحاتنا العامة، أو على أرصفة شوارعنا أو أمامنا على مسارح البلد؛ فبعد انتخاب الدكتور سامر حاج يحيى لمنصبه، حافظت تلك القيادات والنخب على رصيدها من العجز، وغابت عن المشهد، بينما عجّت الصحافة العبرية ونقلت بالتفصيل ما يتوجب على مجتمعهم معرفته تقديرًا منهم لأهمية الحدث، ولرفعة المنصب ولتميّز الشخص الذي خاض مواجهة وتحدى ثلاثة مرشحين آخرين نافسوه على المنصب، لكنه تغلب عليهم بجدارة وبدون «تنزيلات» حملات نهاية الموسم.
يبلغ عدد أعضاء مجلس ادارة البنك اثني عشر مديراً؛ قرر ثلاثة منهم منافسة حاج يحيى، فحاز هو، بعد عملية تصويت سرية، على خمسة أصوات، بينما حاز أوهد موراني صوتا واحدا، رغم إشغاله في الماضي لمنصب مدير عام وزارة المالية؛ ومثله حاز يتسحاك شرير صوتا واحدا، وكذلك حاز مولي بن تسفي صوتا واحدا، رغم انه شغل منصب رئيس قسم الميزانيات في وزارة الدفاع ومستشارًا ماليًا خاصا لرئيس أركان الجيش الإسرائيلي.

في زمن تتغير فيه إسرائيل للأسوأ وتهرول يمنةً نحو الهاوية؛ تفتح لنا «قبضاتها» أرصفة لنقف على حوافيها ونتأمل في نهاياتها

 تم اختيار الدكتور سامر الحاج يحيى رغم كونه عربيًا، لا كما يحلو لبعض العرب أن يدّعوا، بسبب كونه عربيًا وبهدف تجميل وجه مصرفهم ودولتهم العنصرية.
لقد أشادت كل وسائل الإعلام العبرية بمكانة الدكتور سامر العلمية البارزة، وبتحصيله الأكاديمي المبهر وبتجربته العملية الدولية والمحلية الواسعة وبمهنيته المثبتة وبتفوقه، بسبب كل ذلك، على جميع منافسيه، رغم امتلاك كل واحد منهم لسيرة ذاتية غنية بحد ذاتها.
لقد استوقفني ما كتبه رئيس «مركز السايبر» في جامعة تل أبيب ورئيس «وكالة الفضاء الاسرائيلية» بروفيسور يتسحاك بن يسرائيل حين قال قبل يومين: «قد يكون ذلك مفهومًا ضمنًا، ولكن من المهم أن أؤكد على أن حاج يحيى نافس مرشحين في مجلس إدارة يستطيع كل واحد منهم أن يقود البنك، لكنه لم ينتخب لكونه عربيًا، إنما لأنه كان الأفضل من الجميع. ولقد انجزت إسرائيل هذا الاسبوع فصلًا مهمًا في عملية نضوجها». هل كان ذلك فعلًا شاهدًا على نضوج إسرائيلي، أم مجرد ضربة خفيفة على جناح قدرنا الملتبس بين نقيضين؟ ففي زمن تتغير فيه إسرائيل للأسوأ وتهرول يمنةً نحو الهاوية؛ تفتح لنا «قبضاتها» أرصفة لنقف على حوافيها ولنتأمل في نهاياتها. كم قلنا إن الإصرار على نيل كامل حقوقنا المدنية سيبقى قضية خلافية شائكة، خاصة عند أولئك الذين يترددون في حسم مواقفهم أزاء الدولة وأزاء مؤسساتها، أو لدى غيرهم ممن يرفضون إعادة تقييم مواقفهم بعد رحلة القوافل نحو جبال الضوء البعيدة، فأنا أعرف أن حياتنا، بعد سبعين سمان، أصبحت أكثر تعقيدًا، ونحن لم نعد أولاد تلك «الكتاتيب» نجلس في العراء ونردد الأناشيد وننتظر الفرج يأتينا من الشرق. يرمينا واقعنا الإسرائيلي في كل يوم بمعضلات هي إفرازات طبيعية لحياتنا المركبة، وقد تكون رئاسة مواطن عربي لإدارة «البنك القومي الإسرائيلي» عند البعض، واحدة من تلك المعضلات.
أنا شخصيًا لا أراها كذلك ولن أتردد بتهنئة الدكتور سامر حاج يحيى على جميع منجزاته وتفوّقه، وآخرها فوزه الحالي بمنصب رئيس إدارة هذا البنك، وهو منصب رفيع وحساس ومؤثر ولا يشبه، كما قلنا، ما سبقه من تعيينات. لقد استسهل البعض حسم مواقفهم بخفة، وتفّهوا الحدث وأكّدوا على أنها لعبة إسرائيلية وحاولوا، بدون أي اعتبار للحقائق، المسّ بالشخص وعايروه بفوزه، وأغفلوا حتى ما رواه قبل دخوله للمنافسه؛ فقد كان يستطيع البقاء في أمريكا حيث كان يعمل بأعلى المراتب والرواتب، لكنه آثر العودة إلى وطنه لأن أبناءه، كما صرّح، «قد وصلوا إلى مرحلة من عمرهم أجبرتني أن أقرر هل سيصبحون أمريكيين؟ أم نعود لنعيش مع أبناء عائلتنا في الطيبة؟».
قرر سامر العودة إلى طيبة المثلث وألا يبقى غريبًا في المنفى ويمضي عمره كآلاف العرب الناجحين، أو ربما كنجم ساطع على قمة أمريكية، يعود إلى بلده زائرًا ومغتربًا فيلحن بضاده ويقرص حروف «سام» ويلوكها؛ كانت عودته مباركة ومنافسته إنجازا ينضم إلى إنجازات جميع من بقوا على أرضهم وصارعوا «التنين» وانتصروا على نيرانه، وهم قابضون على الجمر، وعلى ناصيات النجاح وبعضهم صار رايات مرفوعة على سطوح المؤسسات الصهيونية، رغم أنف القمع والقهر والعنصرية. لقد تحفظ البعض من اعتبار انتخاب الحاج رئيسًا لادارة البنك «كأنجاز تاريخي لمجتمعنا العربي» ويستحق رأيهم وقفة واحتراما ففيه «طعم» ووجهة نظر؛ لكنني ورغم ذلك اعتبر أن ما حصل كان «تاريخا» صنعه فرد مميز يستحق أن نبارك له إنجازه الشخصي الكبير.
كاتب فلسطيني

 

 

في موديعين والعفولة وكرم السلام،

العنصرية واحدة والفاشية لا تتجزأ

جواد بولس

  

 في خطوة نادرة أعلن الجنرال شارون أفيك المدعي العسكري الإسرائيلي العام، في الخامس والعشرين من الشهر الجاري، عن اتخاذ قرار يقضي بشطب لائحة الاتهام التي كانت النيابة العسكرية العامة قد قدمتها بحق المواطن الفلسطيني، محمود قطوسه، ابن قرية دير قديس، متّهمةً إياه بتنفيذ جريمة اغتصاب طفلة يهودية تبلغ من العمر سبع سنوات.

 وتصدرت تفاصيل هذه القضية واجهات الاعلام اليهودي بكل قنواته، وتحوّلت  إلى مسألة رأي عام صاخبة داخل الأوساط اليهودية؛ بينما بقيت مهملة على رصيف "الشارع" العربي وذلك على الرغم من تفاصيلها المستفزة وتداعياتها الخطيرة بما تعكسه من مؤشرات حول "عمق" العنصرية الرسمية والشعبية التي تعدّت مرحلة اختمارها الفيروسي المخبري ووصلت إلى حالة من الجهوزية المسْخية الكاملة، المستعدة لاتمام مهمتها في شيطنة الفلسطينيين، وبضمنهم بطبيعة الحال نحن المواطنين العرب داخل إسرائيل، وملاحقتهم/نا ككائنات مضرّة من عالم الحيوانات والحشرات التي لا ينفع معها سوى الابادة أو الطرد أو الاخصاء،  على طريقة "الحلول النهائية" المعهودة.

قد يكون اليأس سببًا يبرّر للبعض ذلك العزوف الشعبي وعدم تفاعل قطاعات عربية واسعة مع ما رافق هذه القضية من مشاهد منفّرة ؛ وقد يدّعي آخرون أن لا جديد في عالم "العدل الاسرائيلي" المستحيل، فقبل اصطياد "قطوسة "وقع كثير من أبرياء العرب في شباك العبث العنصرية ؛ أو ربما لم تظهر لكثيرين العلاقة واضحة بين ما جرى في مستوطنة "موديعين عيليت" وبين ما جرى ويجري في مواقعنا وفي واقعنا.

فقد يعتقد قوم بيننا أنّ ما يجري "هناك" لا يعنينا "هنا" لاننا قد جبلنا، نحن المواطنين العرب، في الجليل وفي مرج ابن عامر وفي المثلث وفي النقب، من طينة أخرى وصار عودنا  أندى وعطرنا أفوح، كعطر الزعتر والسنديان.إنّهم مخطئون؛

وقد يختار غيرهم ألصمتَ أو يؤثر الانبطاح طمعًا برأفة الدب وبغفلته أو أملًا بغفوته. هؤلاء واهمون وحالمون؛ فنحن، أصحاب التين والصبار، يجب أن نعرف كيف نصمد ونمضي نحو شمسنا ولا " نلدغ من فرح مرتين"، وكيف نحمي الضوء في صخر كنعان، ونسهر، كالندى، في حضن نرجس عيونه لا تنام كي لا نسقط من حفاف القدر.

ما بين موديعين وعفولة وكيرم شالوم  

اعتقلت الشرطة الاسرائيلية محمود قطوسة في الاول من أيار الماضي وحققت معه بشراسة وعاملته، منذ اللحظة الأولى، كمجرم وكمغتصب. كانت حظوظه باثبات براءته، التي صرخ باسمها في كل جلسة تحقيق أو أمام قاض، شبه معدومة، فالفلسطيني،  منذ أيام "آدم"،  متهم بالخطيئة؛ ومن لا يصدق فليسأل شوارع القدس عن صليب "الناصري" وعن دموع مريم.

في السادس عشر من الشهر الجاري قدّمت النيابة العسكرية لائحة اتهام لا يستطيع من يقرأها إلا أن يتقزز  ويتمنى جهنمًا لكل "محمود وأحمد "؛ فلقد قام المتهم ، وفق ما جاء في اللائحة، في مستوطنة موديعين عيليت باغواء طفلة كان يعرفها من المدرسة التي يعمل فيها  منذ عشر سنوات كآذن، ونجح بجرها بالقوة الى بيت في المستوطنة حيث كان ينتظره هناك عدد من أصدقائه.ثم عرّاها على أصوات ضحكهم ورفعها بمساعدتهم فامسكوا بأيديها وبأرجلها وضربوها كي يسهلوا عليه تنفيذ فعلته المشينة.

ضجّت عناوين الصحافة والاعلام العبري بنبأ الكشف عن فلسطيني، بعقده الخامس، قام باغتصاب قاصرة يهودية بوحشية وبدون رحمة وهي تستجديه بعجز وببكاء.

لم يبق أحد لم يقرأ التفاصيل التي عملت معظم الصحافة العبرية على"تبهيرها"  وابرازها وهي مصحوبة بتحاليل محرّضة على مجموعة من "حثالات البشر" الذين قاموا بفعلتهم النكراء ليس لأنهم مجرمون ومنحرفون بل لانهم فلسطينيون نفذوا عملية ارهابية بدوافع قومية ضد طفلة يهودية غضة !  

شرعت جوقات السياسيين بتوظيف القضية من أجل تأجيج المشاعر القومية العنصرية اليهودية المرضية، مستهدفة، في فترة ما قبل الانتخابات، غرائز تلك القطعان المهيئة نفوسها على الانقضاض على جميع العرب.

لم ينتظر رئيس الحكومة حتى إدانة المتهم، وسارع  بعض وزرائه، مثل ايفيت ليبرمان، بالتأكيد على أن "هذه ليست بيدوفيليا (اشتهاء الاطفال) انما ارهاب خالص ، من اقسى انواع الارهاب .."  ومثله أكد أردان، وزير الأمن الداخلي، بأنه ليس لديه "شك بان المتهم في هذه الجريمة النكراء قد تغذى هو ومن ساعدوه على التحريض والكراهية التي يرضعونها لدى السلطة الفلسطينية بشكل يومي".

فرقعت العناوين المسمّة وامتلأت فضاءاتنا بطرطشات الأحمر ؛ لكنّها لم تكن الأنباء الدامية الوحيدة، ففي نفس يوم تقديم اللائحة شارك عشرات الناشطين اليمينيين اليهود وبينهم رئيس وأعضاء المجلس البلدي المنتخبين في مدينة العفولة أمام بيت عائلة عربية كانت قد نجحت بشراء بيتها في المدينة بشكل قانوني وعادي.

طالب المتظاهرون بطرد العائلة العربية في مسعى منهم لضمان نقاء مدينتهم وحماية روحها اليهودية، وذلك بعد أن أقسم الرئيس ومعه جميع الاعضاء بعد انتخابهم على أن يحافظوا عليها نظيفة من غير اليهود وألا يسكنها العرب.

وقف محمود قطوسة أمام القاضي وصرخ للمرة الألف أنه بريء لكنه كان كمن يصرخ في واد فلم يصدقوه، وأصرّت النيابة العسكرية على ضرورة اعتقاله حتى نهاية محاكمته.

لم تكتمل فرحة الظالمين هذه المرة. انحاز الحظ، على عادته، للضحية وذلك بعد أن تمادت  المنظمات اليهودية اليمينية خلال حملتها المسعورة وهاجمت بشراسة ما أسموه مؤسسات "اليسار اليهودي" واتهمتهم بالرياء وبالصمت المريب ازاء الجريمة. تحفز بعض الصحفيين وبدأوا يلاحقون تطورات القضية عن كثب فبدأت تتكشف لهم عيوب الرواية الرسمية ونواقصها وظهرت فيها عدة تناقضات واضحة. صار صراخ الفلسطيني مسموعًا لدى البعض وطغى العبث وفاحت روائحه من ثنايا الحكاية.

كبرت الشكوك وتعرّت الحقيقة، حتى لم تعد النيابة العامة قادرة على الدفاع عن موقفها، فاضطرّ المدّعي العسكري العام، بعد ازدياد موجات التساؤل والاستهجان، ان يعلن عن سحبه للائحة الاتهام والافراج عن محمود قطوسة بعد ٥٥ يومًا في الاعتقال .

لم يتحدّث الجنرال باسم العدل ولم يتطرق إلى حق الفلسطيني بأن يبقى بريئًا إلى أن تثبت ادانته. لقد كان همّه الوحيد أن يبحث لماذا فشلت عناصره بمهمتها وكيف أخفق المحققون في عملهم، فوعد بأن يتحققوا مما حصل ويستخلصوا العبر !

سيكون وعده صادقًا وستكتشف الهفوات وستردم الثغرات وستقفل الدوائر وسيصبح محمود  قطوسة آخر الأبرياء الأحياء.

نجا قطوسة بأعجوبة رغم سطوة القمع واستيطان العنصرية في عظام المجتمع وفي دهاليز مؤسسات الدولة؛ ففي نفس اليوم الذي تحدثت فيه الصحافة العبرية عن ابطال لائحة الاتهام بحق ابن دير قديس، نشرت جريدة "معاريف"  تحقيقًا عن ضابط بدوي (و.ه) دافع بجسده عن كيبوتس كيرم شالوم القريب من غزة، ونال، بسبب تضحياته الجسيمة وبطولاته الجمّة، أوسمة ورتبًا ونياشين.

ما كشفته الجريدة كان سرًا خبأه الضابط بدافع الخجل، فهو يشعر بالمهانة بعد أن رفض أهل الكيبوتس، الذي دافع عنه بجسده، قبول طلبه للانتقال مع عائلته والسكن معهم رغم أنهم نشروا  اعلاناً يستكتبون الراغبين بتقديم طلباتهم لدراستها.

لم تستغرق عملية الرفض، وفق ما قاله هذا الضابط، اكثر من لحظة انتهائه للفظ اسمه، فمباشرة أجابته المتحدثة "اسمع.. هذا لا يلائم مجتمعنا".

قد تكون تفاصيل هذه الحادثة مهمة وجديرة بالمتابعة، فلقد كاد الرجل أن يخسر حياته مرتين وهو يدافع عن سكان تلك المنطقة، وتبوأ، خلال مدة خدمته في الجيش والتي استمرت طيلة ٢٣ سنة مواقع قيادية مرموقة، لكنها ، وكما يقول بلسانه، لم  تشفع له فبقي ابن الحاء والضاد وهي حروفة غير مرغوبة في حلوق الأسياد العنصريين.

العنصرية لا تتجزأ والفاشية لا تتلكأ. وصل محمود إلى قريته فأجلوا فيها طقوس الحزن ليفرحوا به حرًا وجريحًا ؛ وبقي العقيد البدوي مع أوسمته الوهمية مواطنًا يغتسل في مهانته لأنه كان وسيبقى كائنًا طارئًا على مشروع لا يقبل القسمة على اثنين ؛ وستمضي مدينة العفولة نحو ظلامها وتغرق فيه كما غرقت كل المدن التي لاحقت فيها أشباح الموت سكانها اليهود وطردتهم وقتلتهم؛ وعلّق جلادوها، في الجامعات وفي المصانع وفي ساحات البلد للأحرار أعواد المشانق.

 

 

 

 

 

المشتركة في غرفة

الإنعاش من جديد

جواد بولس

لم يعلن حتى تاريخ كتابة هذه السطور عن اعادة تشكيل القائمة المشتركة، رغم ما ورد من تطمينات على ألسنة من تحدث في الاعلام باسم جميع مركباتها، حيث أكد هؤلاء  أن كل اللقاءات، سواء كانت ثنائية أم رباعية، جرت في أجواء ايجابية وبنوايا تؤكد على الإلتزام بإعادة بناء القائمة المشتركة استجابة لإرادة أبناء الشعب واستعادة لثقتهم، ومن أجل مواجهة تحديات المرحلة.

تدفعني كل المؤشرات الموضوعية باتجاه المراهنة على أن إعلان الأربعة، مهما تأخر ، سوف يتم، لا لأنّهم تغيّروا أو "بدّلوا تبديلا"  بل لأنهم جرّبوا معنى الرقص على حبال النار وأنت تتقلى من غير منطاد يحميك من السقوط مباشرة في فوهة البركان. 

يعتقد كثيرون بأن فشل نتنياهو في تركيب حكومته الأخيرة قد أتاح للقادة العرب فرصة تاريخية لبناء "قائمة الارادة الشعبية" من جديد، وهي التي بعودتها ستكفل لهم ولنا زهور الجنة السياسية ؛ لكنني أختلف مع هؤلاء وأصر أن الهوّة الموجودة بين الجماهير وبين قادتها البرلمانيين هي أعرض من حزام قائمة مشتركة وأعمق من نَفَس القبيلة المشتهى. والى ذلك لنا عودة.

لن تُفتح لنا، كمواطنين في دولة يصر معظم قادتها على استعدائنا العرقي، أبواب المستقبل الآمن إلا إذا قرعناها بأكفّ صحيحة وواثقة، وإذا واجهنا من يحاول أن يوصدها في وجوهنا بحنكة وبحكمة وبإصرار عار من دهون الرياء السياسي ومواده التجميلية الواهية.

فهل هذا ما سيفعله قادة الأحزاب الأربعة قبل أن يعلنوا عن اتفاقهم حول ترتيب المقاعد ؟ وهل فعلًا سينجحون بوضع برنامج عمل سياسي يمكّنهم من تأدية واجباتهم السياسية في حيّزات محدودة، من أصلها، داخل البرلمان الصهيوني، بخلاف نضالهم من أجل تثبيت حقوق المواطنين العرب المدنية في الساحة المعدّة، من أصلها، لهذه المواجهة والمهام ؟

لن أقامر على هذه المسألة، فتجارب الماضي علمتني أن أبقى حذرًا وقنوعا وألا  "أحلق شاربي وأجازف"، لكنني، رغم الخيبة، سأعاند حدسي وأنتظر قلقًا على "سبع وسائد محشوة بالسحاب".   

لا شك لديّ بأن معظم من تطرق إلى عمل القائمة المشتركة، سواء بالنقد أو بالنصيحة، شعر، منذ ولادتها، بوجود ذلك الخلل الجوهري والبنيوي، الذي، رغم قصر مدة عملها وما تخلله من انجازات محدودة ، أظهر مدى نحولها وعرّى خناجرها المخبأة تحت العمائم وفي صدور عباءات القصب. وقد يكون ما قاله جمال زحالقه، النائب السابق عن حزب التجمع، قبل أيام، خير عاكس لهذه المشاعر الدفينة، فهو، كباقي ممثلي الأحزاب المفاوضة، أكد على نقاوة أجواء اللقاءات التي تمّت مؤخرًا ، لكنه نبّه "أنهم قرروا البدء في "الحوار بالاتفاق على البرنامج السياسي للقائمة المشتركة وهيكلتها وبنائها على أسس متينة .." 

لا شك أنها محاولة منه لطمأنة الجماهير "المقروصة" ولإقناعها بضرورة دعم المشتركة لأنها ستكون هذه المرة "غير شكل" ; فلندعو لهم بحسن الختام، أو على طريقة عاشق ابنة العنب "نرجو الإله ونخشى طير ناباذا".

تقع على عاتق الفرقاء في المشتركة مسؤولية جسيمة وخطيرة كبرى، لأنها على جميع الأحوال ، ستسجل كإحدى المفارقات الكبرى في تاريخ العمل السياسي بين المواطنين العرب في اسرائيل؛ لكنها ستعادل ، في المقابل،  هزيمة في حال فشلهم بإعادة لحمتها ونجاح عملها مجددًا ؛ فقبل أربعة أعوام وعندما "استجابت" القيادات لرغبات جماهيرها ، شعر الناس، بشكل تلقائي وطبيعي، بأن شراكة "الأخوة الأعداء" ستؤمن لهم" أطواق النجاة " وستزوّدهم بدروع واقية وتمضي بهم نحو شطآن السلامة؛ وعليه فعلى قدر وجبة الأمل يكون الوجع وتسطو الخيبة ويجنّ التيه.

لا أعرف كيف سيجسّر الفرقاء على الخلافات العقائدية والجوهرية القائمة بينهم،  وأوكد أن من أهمّها، كما كتبت في الماضي، هي مسألة النضال المشترك مع القوى اليهودية التي تقف ضد الاحتلال الاسرائيلي، وتدعم حقوقنا المدنية بدون تحفظ أو اشتراط؛  فهذه القضية ليست شكلية بالمرة لأنها تحدد ميادين نضالاتنا وأساليبها، وتهدينا الى من هم أعداؤنا ومن حلفاؤنا، سيان من كان منهم بيننا أو من يجلسون على عروش ممالكهم وإماراتهم أو يستبدّون، كسلاطين المذابح، بشعوبهم.

لم يمهلنا ايفيت ليبرمان فرصة لنختبر تجرية "الرأسين"، وذلك بعد أن "خلق" لنا جسدًا مُغريًا بأربعة رؤوس. لقد أفشل ليبرمان زميله نتنياهو ومنعه من تركيب حكومة، فأعادنا مرة أخرى إلى واقعنا الطيني الملتبس، الذي انتج عالمًا من التابوهات تتحكم فيه "أصنام" مقدّسة وتدير معاركها، كما في الأساطير ، وتضع مساطرها لعامة الناس، فمن يقبلها يعش ولو كان على حدود البؤس، ومن يسائلها يحارب كما في الأسفار السوداء، ومن يرفضها يحاسب كما حاسبت محاكم التفتيش كل من كان حرًا ولم يرض إلا أن يكون عقله مولاه.

لقد عشنا قبل "المشتركة" وكانت حياتنا السياسية ثرية وواعدة، وذلك رغم ما رافقها من عثرات ونكوص وخسائر؛ لكنهم، وفي ليلة ظلماء، نسجوا  لنا رواية "الشعب يريد المشتركة" فغدت هذه شعارات السماء المقدسة وضعوها على رقابنا أنشوطة مجدولة بالوهم، مَن شدّها قتلته، ومَن حلّها أسقطته، ومن أبقاها أبقته حتى لو عاش كسيحًا.

لم أكن يومًا ولست اليوم ضد "المشتركة" بل ناديت علنًا وجهارًا بدعمها؛ لكنني انتقدتها عندما رأيت منها اعوجاجًا وكنت مدفوعًا برغبتي وبهاجس تحويلها إلى إطار جبهوي سياسي عريض قادر على "رص الصفوف" مع من يقف معنا من يهود يؤمنون بدعم حقوقنا الأساسية، وفي طليعتها حقنا في الحياة الكريمة وفي البقاء الآمن وفوق أرضنا/وطننا.

لقد قلت مرٌة ان "القائمة المشتركة" ليست بقرة مقدسة، فحاجتنا اليها تكون بمقدار ما تقدّمه من أجل صمودنا وفي سبيل مواجهتنا لسياسات اسرائيل الشيطانية ضدنا؛ مع ذلك يجب الا يمنع وجودها تطوير أو إقامة أطر سياسية أو حزبية جديدة تكون قادرة على ضخ دعمها في الاتجاه الصحيح.

أقول هذا وأعي ضرورة تنبّهنا وتمييزنا بين من يعلن كلمة حق أو موقف يراد بها باطل، وبين من ينشط ويجتهد ويبادر وهو مدفوع بوطنيته الحقة وبغيرته المثبتة على أبناء شعبه ومصالحهم.

لن أتطرق هنا الى نوايا بعض الأكاديميين والمثقفين الذين أعلنوا عن ممارسة حقهم وعزمهم على إقامة أحزاب جديدة، أو عن رغبتهم يالترشح مع القائمة المشتركة، كشرط لدعمها أو الى لجوئهم، في حالة فشلهم، الى خيار  الحزب الجديد؛ فمحاولات أسعد غانم ورياض اغبارية، أو مساعي مجموعات أخرى لإقامة حزب عربي-يهودي جديد، لم تكن هي الأولى في هذا المضمار، ذلك أننا شهدنا قبلها محاولات كثيرة، أذكر منها مثلاً الاعلان عن إقامة حزب "الوفاء والاصلاح" الإسلامي في العام 2016 والذي تم بحضور وبمباركة محمد بركة،  رئيس لجنة المتابعة العليا.

لن تحِلّ حملات التقريع والتعنيف وتوبيخ تلك الشخصيات والأعلام في ميادينها الأكاديمية والشعبية أزمة الاحزاب وعوارض تكلس هياكلها ونفاد قيمة عقائدها، ولن ينقذهم التهكم على هؤلاء المفكرين وحملة الشهادات العليا؛ فجميعنا يعلم أن "الحالة السياسية" القائمة بين الجماهير العربية في اسرائيل تمر بأزمة قاتلة، ولكم نوّهنا في الماضي إلى اعراضها، وحذّرنا من نتائجها. ومع تقديرنا لدور ومكانة القائمة المشتركة ، فلقد تبيّن لنا، بالتجرية وبالبرهان، أنها، لوحدها غير قادرة على مواجهة الداء والنوائب، هذا إذا لم تتحول هي، كما شاهدنا، الى مولد للخيبات وإلى عبء يجثم على صدور هذه الاقلية، التي عرفت أن تصمد قبلها وبدونها وتفتش اليوم كيف "الوصول إلى حماها وهل في اليد حيلة".

سنعود الى معالجة تلك المبادرات السياسية والحزبية اللافتة في وقت لاحق، وذلك كي نعطي، في هذه الأثناء، جميع الفرقاء فرصة للتوصل إلى مخارج واضحة عساها تضمن وحدتهم الصحيحة وتمكنهم من استعادة بعض ثقة الجماهير، فهي التي كانت وستبقى أم البدايات وأم النهايات.       

  

 

 

عقارات باب

الخليل ومسرح العبث

جواد بولس

 

أصدرت المحكمة العليا الاسرائيلية قبل أسبوعين قرارها النهائي فيما يعرف بقضية تسريب عقارات باب الخليل، أو ساحة عمر، حيث رفضت بموجبه الاستئناف الذي قدمتة بطريركية الروم الأرثوذوكس المقدسية ضد قرار المحكمة المركزية الذي أقرّ يوم 30/7/2017 بقانونية تلك الصفقات وبحق الشركات الاستيطانية اليهودية فيها.

لقد نصحنا في حينه أن يقرأ المعنيّون حيثيّات قرار المحكمة المركزية في القدس كي يقفوا على صحة ما قلناه مذ فجّرت الصحافة العبرية القنبلة التي فضحت وجود تلك الصفقات في العام 2005 وما تلاها من تداعيات.  لقد رصدنا التداعيات في مجموعة تقارير مهنية سلّمت لأصحاب الشأن وللمعنيين، وأشارت ، بشكل لا يقبل التشكيك، إلى وجود مؤامرة خطيرة حيكت بمهارة مستهدفة التسلط على أوقاف الكنيسة المقدسية وهي أكبر مالك خاص للأوقاف في فلسطين التاريخية، كما حصل عمليًا في العشر سنوات الفائتة.

لقد حذرنا  في حينه من أن مشاركة الكنيسة في إجراءات القضية بالطريقة التي تمّت لن تكون إلا خطوة لرفع العتب ومن أجل إضفاء ختم القضاء الاسرائيلي على صفقات ولدت بالخطيئة ؛ وفي نفس الوقت تسليح المسؤولين في الكنيسة، المتّهمين بتورطهم في تلك الصفقات، بصك يفيد بأنهم حاولوا الدفاع من أجل انقاذ العقارات، الا أن القضاء الاسرائيلي العنصري الجائر وقف إلى جانب الجمعيات الاستيطانية وسهّل مهمتها بالاستيلاء على أنفَس المواقع  والإجهاز على ما تمتلكه البطريركية في أخطر عملية أسميناها ، "مذبحة العقارات الكبرى".

مرّت الأعوام في مطارحنا خرساء. كانت القدس تفقد كل يوم بكارة من بكاراتها وتنتظر بلهفة من ينقذها من وخز الخناجر ونباح الحناجر التي لا تكل ولا تتعب.

كانت الأماني هباءً والرهانات على أصحاب النخوة والضمائر مجرد أوهام، فلم يتغيّر شيء على مسرح العبث والمشاهد تتكرر برتابة الحياة في الغاب، وأمامنا يتوالد الممثلون من شرنقات تتجدد ولا تموت؛ والمخرجون، كشياطين الليل، يتجبّرون بالعباد ويطعمون أفواه سادة هي أجشع من فأرة حبلى.

سأنصح ، مرّة أخرى، أن يقرأ الخلق ما جاء في قرار المحكمة العليا، ليروا مجددًا كيف "دافعت" البطريركية عن حقوقنا؛ فعسانا نتجنّب المقارعات والمناكفات التي تحصل بالعادة بعد كل خسارة مدوية، اذ يحوّلها بعض الخبراء في علوم الشرق وفي تاريخه إلى نصر مظفر وخارق .  فبعد صدور القرار باشرت كتائب الدفاع وتلميع البطريرك ورجاله هجومها على المحكمة، كما كان متوقعًا، وسارعوا الى تبجيل ما قدّمه محامو البطريركية باسم موكلهم الغيور على مصلحة عقارات فلسطين والمدافع عن الوطن، حتى أحتسب بعضهم جهوده في تعداد المعجزات والبطولات. ثم قرأنا بأسف، تمامًا كما قرأنا قبل عامين، بيان بطاركة الكنائس في القدس يتقدمهم اسم ثيوفولس وهم يهاجمون محاكم اسرائيل وقضاتها وكأن شيئًا لم يحصل داخل أروقة البطريركية وجميع الحيثيات التي ناقشها القضاة في المحكمتين لم تكن سوى افتراءات أو مجرد خزعبلات أوجدوها بأنفسهم تجنيًا واعتباطًا.

لن يناقش عاقل دور المحاكم الاسرائيلية في تسويغ سياسات اسرائيل الرسمية، خاصة فيما يتعلق بحقوق المواطنين العرب وبالتحديد في كل ما يتعلق بملكية الاراضي والعقارات التي شرعنت القوانين التعسفية سرقتها والاستحواذ عليها؛ ولكن بين هذه الحقائق والواقع وبين ما كشفته الوثائق والبيّنات والشهادات في هذه المحكمة يوجد بعد شاسع، فالبطريركية خسرت استئنافها بعد تنازلها الطوعي عن معظم ادّعاءاتها الأولية كما أوردها محاميها في ذلك الوقت "ريناطو ياراك" يوم 18/6/2007 حين بعثها للشركات مدّعيًا بشكل يستدعي التساؤل ، بعد عامين من افتضاح القضية، بطلان الصفقات، فحينها أشار الى وجود عيوب جوهرية في التوكيل المعطى لباباديموس وهو الرجل الأهم ّ في هذه المسألة ، وكذلك ادّعى بأن المشترين لم يدفعوا مقابل العقارات ، وشكك ايضًا في حقيقة توقيع باباديموس على العقود باسم البطريركية وأهليته لذلك ، وبأن البدل المدفوع مقابلها كان أقل من اسعارها في السوق بما يبطل صحتها، وانهى بضرورة ابطالها لان المجمع المقدس ، السينود، لم يصادق عليها، كما يقتضي قانون البيع في الكنيسة.

لقد تنازلت البطريركية عن معظم هذه الادعاءات، كما كتب قاضي المحكمة العليا مكررًا استغرابه كما عبرت عنه قاضية المحكمة المركزية، واستبدلت البطريركية ادعاءاتها في نهاية العام 2014، بشكل مفاجيء، بادعاء يفيد بأن الصفقات ملوثة وفاسدة لأنها ابرمت بعد أن وعد باباديموس، من قبل عطيرت كوهانيم، برشوة مقدارها مليون دولار وكذلك برشوة للبطريرك المعزول  ايرينيوس.

لن اثقل عليكم بكلام من عندي وساكتفي بالعودة الى ما كتبه القضاة في قرارهم وفيه ما يكشف ويقنع ويوجع:

" فلم تثبت البطريركية ادعاءاتها.. ولم تأتِ بأية بينة تشير الى فساد شخصي ضد ايرينيوس ولم تثبت أن باياديموس تسلم رشوة... لم تستدع البطريركية للشهادة لا باباديموس ولا ايرينيوس علمًا  بأن باباديموس تقدم بمبادرته بطلب الى المحكمة في العام 2010 لضمّه كطرف في التقاضي كي لا يقوم الاطراف بتشويه سمعته واسمه غيابيًا ، وفي خطوة مستهجنة لم يوافق محامو البطريرك ثيوفولس على طلبه بل تعمدوا ترك القرار للمحكمة، التي رفضت بدورها الطلب مشيرة الى استهجانها من موقف البطريركية.

" لم يستطع المطران أريستارخوس، الذي ظهر كشاهد باسم البطريركية ، الادلاء بأية شهادة حول تسلم باباديموس لرشوة أو وعد بها، وذلك لأنه لم يكن شريكًا حقيقيًا في تفاصيل القضية ساعة حصولها". 

ثم أضاف القضاة في قرارههم: "إن الادعاء المركزي ، ان لم يكن الوحيد المتبقي، الذي وضعته البطريركية على طاولتنا يتعلق بفساد تلك الصفقات الثلاث نتيجة لوعد قطع لبابديموس على شكل رشوة ؛ وبالنسبة لايرينيوس لم تحضر البطركية أي بينات تشير الى تورطه الشخصي في عملية فساد مالي" .            

" لم تعتمد البطريركية في ادعائها ضد قانونية الصفقات الا على ادعاء الرشوة وذلك في مراحل متأخرة من اجراءات المحاكمة ( التي استمرت تسعة أعوام) حيث تنازل محاموها عن معظم الادعاءات الاخرى التي ضمنها المحامي ياراك في رساته عام 2007" .

" على جميع الأحوال فلقد أوضح الكاهن ايسيخيوس في شهادته أمام المحكمة، بعد أن عرف على نفسه كمدير للدائرة المالية وكنائب للبطريرك، بأن المشكلة الوحيدة مع تلك الصفقات كانت انها نفذت من قبل ايرينيوس بدون موافقة السينود/المجمع المقدس" ولم يتطرق في شهادته الى موضوع الرشوة.

 في النهاية فلقد اقرت المحكمة بأن البطريركية لم تنجح ياقناعها بوجود رشوة لباباديموس، وذلك ليس فقط لعدم استدعائه للشهادة بل لعدم استدعائها ايضا لممثل شركة "عطيرت كوهنيم"،  ماتي دان،  والذي، حسب الادعاء، كان هو صاحب العرض في رشوة باباديموس ؛ في حين  "لم يظهر أمامنا أي دليل ولم يُدّعَ بالاصل، بأن أيًا كان قد قام برشوة ايرينيوس ماليًا بل  كانت الرشوة، حسب ادعاء البطريركية، متمثلة باعطائه وعدًا باعتراف دولة اسرائيل به كبطريرك على الكنيسة" .

قامت المحكمة بتفنيد ذلك الادعاء واثبتت بما قدم أو ما لم يقدم لها، عدم صحته، حيث تبين مما قدم لها من وثائق انه " بتاريخ 18/1/2004 أوصى طاقم الوزراء الاسرائيلي الخاص بقضية اعتراف اسرائيل بايرينيوس كبطريرك ثم قبلت الحكومة الاسرائيلية بعد اسبوع هذه التوصية واقرتها." وذلك بدون علاقة مع ما قامت به عطيرت كوهانيم ، كما جاء في القرار.

لقد كتب القضاة في النهاية ما مفاده: " لقد فشلت البطريركية باثبات ادعائها بإن جميع الاموال المدفوعة مقابل الصفقات لم تودع في حساباتها، فلقد اتضح بأن الأموال دفعت، اما بواسطة شيكات بنكية أو حوالات اودعت في حسابها مباشرة؛ وبناءً عليه فلا تستطيع البطريركية ان تمسك الحبل بطرفيه فتدعي، من جهة ، ببطلان الصفقات ومن جهة اخرى تحتفظ لنفسها بالاموال" .

ثم يكتب القضاة: " لقد قامت البطريركية بتقديم شكوى ضد باباديموس بحجة انه سرق دفاتر شيكاتها وقام باستعمالها بدون اذن ملائم، ولكن، مع هذا،  ولأسباب نجهلها ، لم تقدم البطركية أية شكوى ضده بخصوص القضية التي أمامنا..  ولذلك وعلى هذه الخلفية، فان موقف البطركية وخيارها بعدم تقديم شكوى ضده يستدعي الاستهجان.. " 

لن اثقل عليكم بمزيد مما كتبه القضاة في سبع عشرة صفحة كاملة، فلهذه الأسباب التي ذكرت ولغيرها، كما جاء في القرارين، رفضت المحكمة استئناف البطركية وثبتت عمليًا، كما توقعنا، حقوق الشركات الاستيطانية في العقارات موضوع الدعوى.

أما لنا فلم يبق إلا أن نقول لمن يريد أن يسمع وللتاريخ : لم تكن تلك الصفقات نهاية السقوط، فمذبحة العقارات الفلسطينية استمرت ومستمرة، وقبالتها يقف أهل البلاد كثلاثة قرود الصين وهم لا يرون ولا يتكلمون ولا يسمعون.

 

يتبع ....                    

 

 

لوحدنا لا نستطيع ولكن

بدوننا لا يمكن أن يحدث التغيير

 

جواد بولس

 

شارك النائب أيمن عودة مساء السبت المنصرم 25/5/2019، في المظاهرة الضخمة التي دعت إليها أحزاب المعارضة اليهودية، من أجل الديمقراطية وضد فساد رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو وحلفائه، الذين يخططون لتشريع قوانين من شأنها أن تعطّل مكانة المحكمة العليا ودور القضاء، وأخرى تضمن حصانته وحمايته من تقديم لوائح اتهام ضده قد تفضي إلى إدانته في المحاكم والحكم عليه بالسجن الفعلي.
لو لم يلبّ النائب عودة دعوة المنظمين للمشاركة في هذه المظاهرة المهمة، ولو أصغى لمن حثّه على مقاطعتها، أو لمن ضغط عليه خلسةً، أو زايد عليه جهارًا، لأثبت أنه غير جدير بالموقع القيادي الذي يتبؤه، ولا أهلًا لآمال أولئك الذين يدعمون «الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة»، وهي الاطار السياسي الأوسع جماهيريةً بين المصوّتين العرب للكنيست الإسرائيلي، والداعي إلى ضرورة الحفاظ على الشراكة السياسية المتكافئة والحقيقية بين المواطنين العرب والمواطنين اليهود في الدولة، كتجسيد للفكر الجبهوي الراسخ، الذي يدمج على طريقته، بين مكانة مواطنتنا الاسرائيلية وانتمائنا القومي كجزء من أبناء الشعب الفلسطيني.
لقد أتاحت لنا هذه المظاهرة فرصةً مبكّرة للتخيّل كيف سيكون الموقف ازاءها لو نجح الفرقاء في خوض انتخابات الكنيست بقائمة مشتركة واحدة؛ خاصةً بعد أن لاحظنا هذا الكم من الصمت المريب وهو «ينطق» في أفواه بعض القياديين؛ وقرأنا عن الردود السياسية المغمغمة أو المعارضة، حيث برز منها هجوم النائب امطانس شحادة، أمين عام حزب التجمع الديمقراطي، واستهجانه الشديد لمشاركة زميله النائب عودة فيها، فكيف «يمكن لأي قائد عربي أن يشارك في تلك المظاهرة وتحت هذا الشعار.. ما هذا؟ هل الرغبة في مخاطبة الشارع الاسرائيلي تفوق أي شيء؟ ألا يمكن كبح هذ الخلل في فهم المجتمع والسياسة في اسرائيل!» على حد تعبيره.
وقبل الحديث عن موقف حزب التجمع أو الحركة الإسلامية لابد من الإشارة، بامتعاض، إلى غياب موقف معلن وصريح من قبل «الحزب الشيوعي الإسرائيلي» ومثله من قبل «الجبهة الديمقراطية» التي يقف النائب ايمن عودة في مقدمتها.
لا معنى لسكوتهم، ولا بتأتأتهم الخجولة، إلا بكونها أوضح الأعراض لسقمهم التنظيمي المزمن؛ فكيف لحزب/جبهة – آمنت مذ قامت بمبدأ النضال العربي اليهودي، ونظّرت من البدايات لضرورة التلاقح والنضال من أجل نيل المواطنة الاسرائيلية الكاملة، وفي الوقت نفسه العمل على بناء الهوية الفلسطينية المتوازنة – أن يترك قائده البارز في الساحة وحيدًا، ليقارع سهام نتنياهو السامة وهي ترميه لكونه «مخرّبًا» يُعيب بمشاركته تلك المظاهرة، ويواجه في الوقت نفسه، على جبهة أخرى، مقارعات «رفاقه»و «إخوته» بالحجة والإصرار.

«نتنياهو مأزوم وخائف بسبب فهمه للمعادلة التي نطرحها بقوة في كل منصة. فحين نطرح نحن المواطنين العرب ثقلنا السياسي لن يبقى هو في الحكم»

لم يفاجئني موقف حزب التجمع الذي لم يتغيّر حتى خلال سنوات الشراكة في اطار القائمة المشتركة في الكنيست الماضية؛ فلطالما شهدنا خلافات بين مركباتها، لاسيما عندما واجهت وعالجت مواضيع لها علاقة بقضية الشراكة السياسية العربية -اليهودية، أو بمحاور علاقاتنا، كمواطنين وأقلية قومية، مع الدولة ومؤسساتها السيادية. فما أعلنه النائب شحادة في تعقيبه على مشاركة النائب عودة، يعكس بوضوح ويذكّرنا مجددًا بعمق الهوة السياسية الحقيقية التي تفصل بين «الندّين»، وتكشف عن واحد من أهم الأسباب التي عطلت عمل القائمة في حينه، وحوّلتها مع أسباب أخرى، إلى جسم سياسي كسيح، صار وجوده عالة على «أهله» أو وسيلة لتكسب أصحابه على حساب المصلحة الجماهيرية العليا. للحقيقة فأمين عام حزب التجمع تحدث مدفوعًا بواجبه القاضي بالدفاع عن مفاهيم حزبه السياسية المعروفة، وحسب منطقه المشروع؛ ولا غضاضة في ذلك سوى أنني شعرت، كما في المرات السابقة، بوجود تلك الإشكالية العضوية في عرى الخطاب وتماسكه والعسر في إمكانيات صرفه جماهيريًا. من يقرأ تصريح النائب شحادة يفهم أن حزب التجمع يعارض مشاركته في تلك المظاهرة، ويعارض كذلك مشاركة غيره من الأحزاب العربية فيها؛ ولكن لن يُفهم، من تصريحه، بشكل قاطع وواضح، ما هي أسباب تلك المعارضة، لاسيما إنها تأتي على لسان من يمثل حزبًا يختار، عن قناعة فكرية، خوض الانتخابات النيابية الاسرائيلية، ويشارك فيها كابن شرعي للنظام السياسي القائم في الدولة، بينما يتنكر لما تمليه عليهم تلك «الولادة» من تبعات وواجبات تجاه من انتخبوهم، وأهمها النضال في سبيل بناء نظام حكم سليم وديمقراطي، يقوم على أسس المساواة المدنية الحقيقية، ويحترم سلطة القانون، ويعمل بهدي قيم العدل الاجتماعي.
هذه هي الغاية من اللعبة السياسية البرلمانية، وهي تتيح في حالتنا لكل نائب أو تلزمه أن يعمل على إسقاط أو إفشال إقامة حكومة لا يختلف اثنان على أنها كانت وستكون من أخطر الحكومات علينا نحن الجماهير على الاطلاق. فما الغلط إذا أرادت «الأحزاب الإسرائيلية التي شاركت وتحدثت في المظاهرة، تجنيد المجتمع الإسرائيلي ضد نتنياهو» بسبب سعيه «لسن قوانين تحميه من الخضوع للمحاكمة في تهم الفساد»؟ وحتى إذا لم تكن تسعى كي «تبني نظامًا ديمقراطيًا حقيقيًا»، بل لأن رعاتها «يعتقدون أن نتنياهو يشكل خطرا على الديمقراطية الاسرائيلية، أي اليهودية، ولذلك يجب تغييره»، كما صرّح؛ فهل في هذه الحالة يجوز له كنائب عربي «أصلاني/ أقلاني» أن يستهين أو يلغي أهمية تلك الأهداف، التي من أجلها نظمت المظاهرة؟
ثم إذا كان النائب شحادة مقتنعًا بأن «الديمقراطية الإسرائيلية» تعني الآن وستبقى تعني في المستقبل «الديمقراطية اليهودية» فقط، فكيف سيسوّغ أسباب مشاركة حزبه في عملية تعتبر، بلا شك، واحدة من أهم تجليات المواطنة والديمقراطية الانتخابية؟ وإذا لم يكن إسقاط حكومة نتنياهو هدف هذه المرحلة؛ فماذا سيكون الهدف؟
على جميع الأحوال سيبقى ما قاله النائب عودة في المظاهرة، وكيف استقبلته الحناجر هناك، وتعقيب افتتاحيات الإعلام الاسرائيلي ومعظم قيادات الأحزاب المشاركة أكبر دليل على صحة قراره وأهميته؛ حتى إذا استعان بعض المنتقدين بحقيقة تلكؤ الرعاة بدعوته، يبقى اضطرارهم لدعوته في النهاية هو المؤشر الأهم الجديد الذي يعكس تغييرًا، قد يكون طفيفًا، في داخل بعض الجيوب الصهيونية كما رأينا، مثلًا، في إعلان القيادية في حزب العمل، شيلي يحيموفيتش حين قالت «على أن مظاهرة خالية من العرب هي خضوع للعنصرية ولتحريض اليمين». ومثلها جاء في تعقيب رئيسة حزب ميرتس ياعيل زندبيرغ، مؤكدة على أن «الشراكة العربية اليهودية، بالاخص في محاربة فساد نتنياهو وسعيه لهدم سلطة القانون، لا تعبر فقط عن العدل، إنما ايضًا عن الحكمة».
ستبقى صرخة أيمن عودة أبرز ما قيل من على تلك المنصة، وستتحول إلى مفتاح للأمل في مستقبل مشرق «فوحدنا لا نستطيع التغيير ولكن بدوننا لا يمكن أن يحدث التغيير».
وأخيرًا ، عليّ أن أعترف بأنني أخطأت حين توقعت بعد انتخابات الكنيست الماضية أن «الساحر» نتنياهو سينجح، رغم جميع العثرات، بإقامة حكومة يمينية متطرفة، فساعتها، عندما كتبت ذلك، لم أر أن في قنديل الجماهير ما زال بعض الزيت وفتيل من إرادة؛ واليوم لقد فشل نتنياهو وقد لا ينجح بالعودة إلى صدارة المشهد، لأن كل الاحتمالات فتحت من جديد.
لم تكن لهذه المقالة صلة بقرار حل الكنيست، لكنها ولدت مع مفارقة لافتة، فلقد أشار أيمن عوده قبل تلك المظاهرة، وبعد أن هاجمه وهاجمها نتنياهو، قائلًا «إن نتنياهو مأزوم وخائف بسبب فهمه للمعادلة التي نطرحها بقوة في كل منصة. فحين نطرح نحن المواطنين العرب ثقلنا السياسي لن يبقى هو في الحكم». ربما ساهمت تلك المظاهرة في إفشال نتنياهو وربما لم تساهم؛ لكنها شكّلت موديلًا للعمل السياسي المختلف يجب، كي يكون مؤثرًا، أن يعتمد على وقوفنا على ساقين: مواطنتنا الاسرائيلية وهويتنا الفلسطينية، فالأولى حامية لنا والثانية بوصلة.
أمامنا ، كمواطنين عرب في اسرائيل، تحدّيات كبيرة وخطيرة فهل وكيف سنطرح، بعد ثلاثة شهور، قوتنا؟ وهل سنعرف كيف نصعد ولو درجة واحدة من قعر الهاوية؟
يتبع ..
كاتب فلسطيني

 

 


أمير مخول، أسير

محرر ام أسير سابق؟

جواد بولس

كنت أنتظره خلف زجاج غرفة الزيارات الخاصة بنا، نحن المحامين، في سجن "جلبوع". كان نيسان قد أشرف بكذبته، وربيعه ما زال غافيًا في حضن الأرض. شعرت بهدوء لم ينتابني في زياراتي السابقة له، وقلت عساه الفرح بانتصار الفجر على رعونة العتمة وطيشها، أو ربما هو صوت الحياة الأدوَم، وبيانها للحمقى بأن الأمل سيبقى أقوى من القهّار مهما تجبّر، وبأن الارادة، اذا كانت حرّة، لن يقوى عليها لا "غول" ولا  مارق ولا مخاتل مهما توهم.

بعد شهر من زيارتي سيطوي أمير مخول تسع سنوات قضاها وراء القضبان، وسيغدو طليقًا ويمضي ليلملم أوراق أحلامه ويستعيد لغة البحر وتراتيل قوس قزح ؛ فالأسر أبكم، ووقته أجوف قادر على امتصاصك بدون رحمة، إلا إذا استرشدت أمامه بحكمة النمل ومضيت فيه واثقًا كالسلحفاة ونمت على وسادة قلبك حالمًا بالعطش وبالدموع المزهرة، هناك على سفوح الكرمل الأخضر.

كانت ابتسامته أعرض من باب الغرفة وصدره العالي يسبقه نحوي. وضع يده على لوح الزجاج فوضعت يدي وتصافحنا مصافحة الورد للندى؛  فهنا في هذا المكان الأصم تدربت المشاعر على اختراق السراب والتواصل كالفراش عندما يراقص أنغام الشذا.

لم نستطع اختزال الوجع في عجالة. كنت أسأله عن بعض خلاصات تجربته وتقييمه السريع لمجملها؛ فهو، بالنسبة لي، سجين غير عادي وصديق مختلف.

كنت أعرفه قبل "سَجنته"، وأطللت خلالها على ما كنت أجهل فيه، وربما هو قد فعل مثلي.

انه أسير يتمناه محام قضى أربعين عامًا على أنف الخيبة؛ فلقد نجح أمير أن يستوعب، ليس بالمعنى التقني فقط، أن السجن عبارة عن فراغ هائل، فإما أن يملأك هو بالعدم ويسلب منك روحك وانسانيتك، وإما أن تملأه أنت بالمعنى لتبقى ذلك الانسان الحر المنتج العاقل.

كان يتكلم معي بثقة المقروص وبشفافية رافقت جميع لقاءاتنا السابقة. كنت أزوره  لأطمئن عليه ولنناقش ما يقلقنا من قضايا عامة وخاصة، تلك التي تتعلق بأحوال الحركة الأسيرة الفلسطينية، وما يمر عليها من ظروف داخلية مأساوية صعبة ومحاولات قمع رهيبة واختراقات اسرائيلية مقلقة.

حدّثني، في هذه الزيارة عن خوفه، ابن التاسعة، المزمن، على افراد عائلته وعن ذلك الثمن القاسي الذي دفعوه من دون أن يكونوا شركاء في "غفلته" ؛  وحدّثني عن مشاعره في كل مرّة  كان يرحل فيها عن الدنيا قريب من أقربائه الأحباء، وكيف كانت تتجسد وقتها الحسرة في لحظة كلّها غضب، ويتمرد القلب على صاحبه رغم اتفاقهما بضرورة تعليب العواطف والدم وحفظهما في خزائن الغبار البعيدة.

كان يتكلم بوعي الخبير وبتفاؤل المعلم؛ لقد آلمته بعض مظاهر الجهل والأمية السياسية المنتشرة بين الأسرى الفلسطينيين، فمعظمهم  "لم يروا بحرًا في حياتهم "وكبروا وفي داخل عقولهم "يعيش ويعشش ذلك الجدار" .

لقد تذكّر كيف، عندما رحلت أمه، جاءه عن الأسرى رسول ليستفسر كيف يُعزّى المسيحيون في أمواتهم، فبعضهم، الذين لم يقابلوا مسيحيًا في حياتهم - هكذا أخبرني بحزن وبابتسام - عاملوه كمسيحي ومن عرب إسرائيل.

أفرج عن أمير في الخامس من أيار / مايو الجاري، فكان ذلك يومًا مميزًا وخاصًا في حياته وحياة أهله ورفاقه وأصدقائه، وفيه صار، وفقًا لقاموس المبني للمجهول والشائع بين الناس "أسيرًا محررًا"، مع انه قضى كامل فترة محكوميته بالتمام.

سأعود إلى قضية "الأسير السابق" أمير مخول في المستقبل، لا سيّما وأنه وعد بأن يصدر كتابين سيتطرق فيهما الى تجربة اعتقاله وما سبقها وما يترتب عليها، على ما اتوقع.

كلي أمل أن يغني أمير  مكتبتنا بمادة ستشكّل، باعتقادي، علامة فارقة عند كل من يهتم بقضايا الأسرى الأمنيين في سجون الاحتلال الإسرائيلي، وبشكل خاص بموقع الأسرى الأمنيين من المواطنين العرب في إسرائيل وتقييمه لهذه "الظاهرة". 

تشغلني قضية استعمال وانتشار مصطلح "الحركة الأسيرة الوطنية في الداخل"  وذلك لما تعنيه هذه التسمية وتعكسه من مضمون يتعلق بمكانتنا القانونية ، نحن الجماهير العربية، في الدولة، وتأثير ذلك على مستقبلنا لا سيما في عصر الحكومة المرتقبة.

تحاكي هذه التسمية نظيرتها في الأراضي الفلسطينية المحتلة؛ حيث أسس الأسرى الفلسطينييون في الاراضي المحتلة منذ العام 1967 ، وبدعم فصائلهم وشعبهم، ما اصطلح على تسميته "الحركة الأسيرة الفلسطينية" وذلك في محاولة لخلق "شخصية اعتبارية معنوية" يواجهون بها ومن خلالها مساعي الاحتلال الاسرائيلي بتكريس واقع، يكون فيه الأسير الفلسطيني المقاوم للاحتلال "مجرمًا" أو "ارهابيًا" أو "مخربًا" ويحاكم وفق قوانين المحتل ويسجن في سجونه بهذه الصفة/التسمية ، وليس لأنه مناضل يقاوم الاحتلال بحق كما يؤهله لذلك القانون الدولي ومواثيقه المعروفه وكما يتوجب عليه كابن شعب يسعى لكنس الاحتلال وازالته كليًا.

لا أتصور أن غالبية من يردد هذه التسمية ويطلقها على مجموعة الأسرى من العرب في إسرائيل يعي حقيقة ما تعنيه وما انعكاساتها على ذهنيات الناشئة في مجتمعه،  وما يترتب عليها، فيما بعد، من مواقف سياسية خاصة بين الاحزاب والحركات التي تتبنى هذه التسمية.

لقد لفتت هذه المسألة انتباهي وأنا أسمع في السابع من أيار/مايو تحية عادل عامر ، أمين عام الحزب الشيوعي الاسرائيلي، عندما حضر على رأس وفد رفيع من المكتب السياسي للحزب مهنئًا أمير بحريّته.

مع تقديري لكون المناسبة مجرد فرصة للتهنئة وليست منصة للخطابة السياسية، لكنني ، مع ذلك، لمست خلطًا واضحًا في كيفية تناولها من قبل الرجل الأول في حزب، له أو يجب أن يكون عنده "خطاب" سياسي مميز وواضح يشهره حتى في هذه المقامات ويؤكد فيه على التمييز بين الوقوف إلى جانب "الفرد" الأسير والتعبير عن السرور بحريته وبعودته الى احضان أهله وابناء شعبه، وبين الحديث عن ضرورة وجود "حركة أسيرة وطنية" ، تتبوأ مهامها في سبيل التحرير والاستقلال وتكون مستعدة لدفع أغلى الأثمان والتضحية بالأنفس.  وقد رافق الحديث عن"الحركة الوطنية الأسيرة" إشارة إلى دور الشهداء والفوارق بينهم وبين الأسرى، في مشهد قد يضع المستمعين في حالة التباس مقيت، ويبقي على البلبلة في مساحة تحتاج الى توضيح وحزم، على الاقل من قبل قادة حزب كانت مواقفه السياسية في كل ما يتعلق بأساليب نضالاتنا كأقلية قومية في اسرائيل، معروفة ومعلنة بوضوح، بما فيها ما يخص واجباتنا تجاه ابناء شعبنا ومسيرته في مقاومة الاحتلال والتخلص منه. 

لن يشفع لقادة الحزب التذرع بضروريات الكياسة وباحترام المكان؛ فلقد كان من الاجدر أن يشار، بما يمليه الذوق السياسي المقبول ، إلى موقف الحزب في هذه القضية الشائكة، لأن من يصرّ على ضرورة "وجود حركة وطنية أسيرة"حتى داخل اسرائيل، وما يعنيه وجودها "كشخصية مقاومة اعتبارية" في الداخل، عليه أن يُفهمنا ما هي أهداف هذه الحركة السياسية التي يقاوم أفرادها لتحقيقها كما يقاومون، وكيف يتوافق ذلك مع كوننا مواطنين في إسرائيل؛ وما تتيحه، بالمقابل، هذه الحالة من ردود فعل لاسرائيل في حقنا أو ضدنا؟  

لقد دعا عادل عامر أمير مخول ليأخذ دوره القيادي الجماهيري، وتمنى عليه أن يفعل ذلك من خلال صفوف الحزب الشيوعي.

لا أعرف أي وجهة سياسية حزبية سيختارها أمير، لكنني على قناعة أن تجربة أسره القاسية أنضجت في داخله براعم قد تطرح قريبًا جناها في مواقعنا، وتساعدنا على اعادة تقييمنا لبعض تجاربنا.

لقد أثارني عندما تحدث عن ايمانه بضرورة التكافل بين الناس والتضامن مع الآخرين؛ وعن انشغاله المستمر في الموقف من "اليهود" وعن الحاجة في الحوار مع "اليمين"  اليهودي لأن اليسار استعلائي وسلبي، وعن خيبته من تعامل القيادات العربية مع "المسألة الدرزية" بعد قانون القومية. 

أنهيت زيارتي له وقد امتلأ قلبي سرورًا؛  فعندما سألته، للمرة الأولى منذ اعتقاله، اذا كان قد تفاجأ عندما زرته أول مرة وذلك بعد انتقادي علنيًا "لسقطته" في حينها؛  أجابني: "لا ، على العكس، دافعت عن موقفك وعن حقك أمام الجميع"،  فأمير الذي عانى وتعلم، يتصرف كقائد يعرف "أن طريق الجماهير العربية الكفاحي في إسرائيل، كما أرساه أباؤنا السياسيون المؤسسون، قد أثبت جدارته؛ ويعرف،كذلك، كمن يستشرف مستقبلًا أفضل لجميع الاولاد، أن هنالك ضرورة لاعادة تقييم التجربة. وهنا يعيش الأمل.

 

النكبة وما أدراك ما النكبة

جواد بولس

 

حاولت ألّا أعير النص، الذي كتبته ابنتي على صفحة الفيسبوك الخاصة بها في ذكرى النكبة الفلسطينية، أي اهتمام خاص، لافتراضي أن نشرها لا يخرج عن ضرورة التعبير الطبيعي في مناسبة، رغم أنها الحادية والسبعون، تستحق هنيهة من فيض الروح، والتفاتة قلب وردة غضة نحو غزالتها الشريدة في ليل حالك وطويل، كلّه انتظار وأمل مكدّس.
لكنني عدت إلى ذلك النص بعد أن قرأت أن مؤسّسة الدراسات الفلسطينية عَقَدت في مدينة لارنكا القبرصية يومي 10 و11 مايو/أيار الجاري ندوة مغلقة تحت عنوان «ماهية المشروع الوطني الفلسطيني»، شارك فيها عدد من الأكاديميين والباحثين الفلسطينيين القادمين من فلسطين ومن خارجها. لم تنشر، حتى الآن، أوراق الندوة، ولا أي معلومات تشير إلى مضامين محاورها؛ لكننا نستطيع، بناء على ما نشرته صفحة المؤسسة، أن نستشفّ ما كانت الدوافع والدواعي التي حدت بمنظّمي الحدث، لاختيار ذلك الموضوع المهم كعنوان للتمحيص وللنقاشات؛ فمن منا لا يشعر بضياع البوصلة الوطنية وبالتيه، ومن لا يقرّ باختلاف المقاصد والغايات، يعيش إما في عالم من الخيال أو في واقع من الرمال.
ستبقى إثارة المسألة خطوة إيجابية ومفيدة، وذلك على الرغم مما أتوقعه من عدم تأثير الندوة، العملي والفعلي، على صنّاع القرار وعلى من بقي من قادة الفصائل الوطنية والحركات الإسلامية الفلسطينية. ورغم تشاؤمي، أتمنى أن يشكل نجاح المجتمعين بوضع  تشخيص لبعض أعراض الأزمة المقلقة من ناحية، واقتراحهم لمخارج ولتوصيات لمواجهتها من ناحية ثانية، حافزًا يدفع بأُولي الألباب الصالحين وأصحاب الضمائر والقادة الوطنيين الأكفاء إلى إعادة حساباتهم وإعداد برامجهم النضالية من جديد.
بعيدًا عن لارنكا وما سيصدر عن لقائها، سأتناول في هذا المقال بعض الظواهر اللافتة التي نشأت، مع السنين، بين المواطنين العرب في إسرائيل، وأعتقد أنها تشكل أيضًا مؤشرات على ضياع بوصلة هذا الجزء من الشعب الفلسطيني السياسية، وعلى تحرّك أفراده في شعاب من غير هاد وبدون رشاد، وتشي بوجود حالة تتبلور فيها هوياتهم السياسية وقناعاتهم الاجتماعية بشكل عشوائي، وعن طريق ردات الفعل الاعتباطية وجيشان العواطف واندفاعها.
فما أدراك ما النكبة؟ لا تعيش أكثرية المواطنين العرب في إسرائيل في حالة تشكل فيها النكبة عنصرًا حياتيًا ملموسًا أو هاجسًا ملحًا يرافقهم خلال مسيرتهم المعيشية، ويؤثر على خياراتهم السياسية؛ فباستثناء من حسبوا كلاجئين أو مهجرين في أوطانهم وذريتهم، سنجد قلة قليلة من المواطنين الذين يعيشون «حالة الانتكاب» ويذوّتون معانيها وتأثيراتها ويترجمون ذلك إلى مواقف قيمية أو سلوكية أو نفسية أو سياسية. لا غرابة في ذلك، فبين الجماهير العربية في اسرائيل لا نجد، في الواقع، إجماعاً على معنى النكبة وعلى مكانتها وما كانت مسبباتها وما ترتب على حدوثها من تبعات ومن حقوق. قد يعتبر معظم المواطنين العرب، البالغين والناضجين، أن النكبة ، هكذا بمعناها البديهي والمطلق، هي مصدر للحزن وللتشرد وللقهر وللظلم وللخيانة، لكنهم لا «ينتمون» إليها ولا يعيشونها كعامل مؤثر في مدارات حياتهم؛ وهي، بهذه الحالة، ليست مركبًا حاسمًا في مبنى هوياتهم السياسية، مع انها قد تكون عاملًا في نفسيات بعضهم المهزومة.
سنجد إلى جانب هاتين الفئتين بين العرب في إسرائيل من لا يعرف عن النكبة شيئا، أو قد يعرفون بعضًا من رذاذها فقط، أو أنهم قد سمعوا عنها من مصادر معادية، نجحت في تشويه الحقائق عنها، ودفعت بهؤلاء إلى اتخاذ مواقف سلبية ومعادية ومستفزة مرفوضة على الإطلاق. قد نكون بحاجة إلى زيادة في عدد الندوات والدراسات، التي تعالج قضية النكبة ومعانيها المنتشرة بين المواطنين العرب في اسرائيل؛ فهذه القضية، مثلها مثل غيرها من القضايا المهمة، قد أهملت أو سخّرت لأغراض سياسية حزبية فئوية، ولم تجد من يرعاها بالشكل الصحيح؛ وأخشى أن تواجه مصير ما ستواجهه قضايا مصيرية أخرى، لا تجد في حالة الضياع القيادية المستشرية بيننا من يؤطرها ويرعاها بالشكل الذي يخدمها أولًا، ولا يضر بمصالح الجماهير العربية، وما ينتظرها من سوء، تخطط لتنفيذه الحكومة اليمينية الفاشية المقبلة.

من لا يشعر بضياع البوصلة الوطنية ومن لا يقرّ باختلاف المقاصد والغايات، يعيش إما في عالم من الخيال أو في واقع من الرمال

تاريخنا لا يتوقف عن دورانه، ومجتمعاتنا حية لا تنام على مُرّ ولا تقبل إلا بأنفاس الموج حلمًا ومأوى؛ فكلنا نلاحظ كيف بدأت ترتفع في الآونة الأخيرة أصوات  تعبر عن مقتها لواقعنا، وتصرخ من حناجر تائهة وتوّاقة لدماء الغيم؛ لقد اصطلحوا على تسميتهم بناشطي «الحراكات الشعبية» أو بجنود شبكات التواصل الاجتماعي؛ ومهما كانت المسميات، يبقى جميع هؤلاء أبناء حالة من «الإفاقة الشبابية» التي ما انفكت تأخذهم بعيدًا وتعيدهم إلى جوف مربعات «الهزيمة الأولى» حيث وضعت النكبة نطفتها فكبرت حتى تكوّنت شخصية العربي الذليلة الكسيرة المنكوبة.
إنهم شرائح مجتمعية جديدة ما زالت تبحث عن مراسيها في شوارع المدينة الإسرائيلية، وعلى أرصفة موانئ بعيدة. إنهم ابناء الغضب المأزوم وسعاة البرق، ماضون نحو الشفق، ولن ينتظروا نصائح الحكماء ولا مواعظ الشيوخ والفقهاء؛ فبعد أن اكتشفوا حطام قصص الأجداد وعنّات اللجوء وسكرات الذلّ وعربدات السلطان، قرروا أن يتمرّدوا على الرماد، وأن يمتشقوا أعواد المشانق ليحوّلوها إلى مصابيح، عساها تنير لهم عتمة الالتباس وتحررهم من عجز الوسائل؛ فالفرح عند العاشقين يسكن، هكذا علمتهم الوسائد، في غبار السرو وبين نثار النيازك. لا أعرف من سيجيبنا «ما النكبة» بعد واحد وسبعين عامًا؟ وكيف جاءت وإلى اين تمضي؟ لكنني أشعر أنها كروح السماء في الأرض باقية، ومرآة الملائكة وهم في طريقهم إلى قلوب البشر القاسية. النكبة لعنة من لا يتّعظ من عويل قلبه الدامي والمفطور عند أقدام السيوف المعربدة، وهي  للودعاء الصابرين أم حانية.
ما النكبة وكيف يأتيها الأولاد وهم حفاة وعراة؟
لم تعِش مثلما عاش أهل المخيمات، ولا حتى مثل من يسعون وراء قرص الشمس حتى يخبزون رغيف عيشهم. عاشت في ظل عدل ضائع وحلمت مثل اترابها بان تنام كالغزالة وتصحو على شرفة الندى. فاجأتني عندما كتبت  على صفحتها  مستذكرة نكبة أكبر منها بخمسين عام فقالت: «71 عاما من القوة 71 عاما من الكفاح.. من المقاومة.. من التضامن.. من الظلم.. من الصراع على هويتنا، على أرضنا، على حريتنا، على حقوقنا وعلى وجودنا. كانت النكبة وستبقى جزءًا منا.. هي ليست مجرد ذكرى أو جزءا من التاريخ. فاليوم نحن نتذكر ونحترم أولئك الذين قضوا واولئك الذين نجوا.. واولئك الذين يعيشون تحت الاحتلال والذين اقتلعوا ..شعلتنا لن تخبو ابدًا».
ما النكبة؟ لا ضير في  الندوات ولا في الدراسات ولا في خلاصات المثقفين .. ولكن سيبقى المصير أقوى اذا كتبته ابنة لنكبة، لم تكن النكبة أمها.
كاتب فلسطيني

 

 

 

"منتدى الحقوق المدنية"

أفكار خارج المألوف

جواد بولس

 

    من المتوقع أن تقرر المحكمة المركزية في اللد أطلاق سراح المستوطن المتهم بقتل الأم الفلسطينية، المرحومة عائشة رابي، وتحويله الى الحبس المنزلي، وذلك على الرغم من طلب النيابة العامة تمديد اعتقاله حتى نهاية الاجراءات القانونية ضده.

لا يشكّل نشر هذا الخبر المستفز حالة استثنائية في المشهد الاسرائيلي العام؛ فمثله من أخبار باتت في حكم الشواهد اليومية على انتقال المجتمع الاسرائيلي، بمعظم فئاته المدنية والدينية، ومؤسساته الشعبية والرسمية، من مجتمع عنصري تقليدي، وتحوّله إلى مجتمع فاشي جاهز  لاقتراف جميع الحلول من أجل التخلص نهائيًا من مشكلة وجود العرب "المستوطنين" في الدولة اليهودية، وذلك لايمانهم بأن هؤلاء العرب ليسوا إلا مجموعة بشرية وضيعة، تشوّش بوجودها نقاوة أبناء العرق اليهودي الذين خلقوا ليكونوا وليبقوا أسيادًا حاكمين، وفقًا لما نسمعه مرارًا وتكرارًا على لسان عشرات الحاخامات المتنفذين والمؤثرين ومن تلامذتهم السياسيين الجدد الذين يتأهبون لاستلام مقاود السلطة والحكم في الدولة.

يجمع قادة الأحزاب والحركات السياسية والدينية وجميع ممثلي النخب العربية ومؤسّسات المجتمع المدني على خطورة الأوضاع القائمة وما تنذر به من احتمالات خرقاء سيواجهها المواطنون العرب في أسرائيل؛ يتفق جميعهم على تشخيص الحالة، إلا أنهم يختلفون على أساليب المواجهة وآلياتها؛ ورغم ما تبذله بعض الجهات من محاولات جدية لتفكيك عناصر الأزمة ووضع الخطط لمواجهتها، لم ينجحوا بالإهتداء إلى أي بوصلة واعدة ولا باكتشاف الوصفة الشافية.

لا اعتقد ان القصور بالتوصل إلى رؤى صحيحة وضامنة وناجعة ومجمع عليها هو محض صدفة أو مجرد تعثر  آني سوف يتغلبون عليه في المستقبل القريب ؛ فالتوحش داخل المجتمع الإسرائيلي لا يجري بمعزل عن التصدّع الكبير الحاصل في هويتنا الاجتماعية السياسية وما رافقه من انهيارات في البنى والمفاعيل الواقية، على اختلاف أدوارها، وفي المرجعيات التي شكلت مظلات بانية ورادعة أمّنت، من جهة، لأبناء المجتمع دور النجمة الهادية والمرشد الصارم والأمين، وشكٌلت، من جهة ثانية، قوة رادعة ضد من حاولوا زعرعة البنيان أو اختراقه أو العبث بالمسلّمات الوطنية الهوياتية الموحِّدة والجامعة.

لن تفلح الأطر السياسية والدينية والمجتمعية التقليدية القائمة داخل المجتمع العربي في إسرائيل باجتراح المعجزات أو بابتكار زوارق نجاة حقيقة، خاصةً اذا بقيت هذه الأطر أسيرة لمفاهيمها السياسية ولعقائدها الموروثة والنافدة المفعول وتعمل وفق مصالح ضيقة ومناهج تنظيمية عاجزة أثبتت عدم ملائمتها لمتغيّرات العصر ولقوانين المجتمع ولوسائل التواصل والتأثير الحديثة ؛ وهي، بهذا المعنى، أصبحت، باعتقادي، جزءًا من المشكلة ولم تعُد قادرة على انتاج أدوات للحل.

لن نراهن على ما يبيّته لنا قادة إسرائيل وحكومتها القادمة، فإعطاب منظومات الحكم بات أمرًا جليًا، وما يجري داخل أروقة المحاكم ومنظومة القضاء الاسرائيلي يُعدّ آخر البراهين على أن مقاصلنا صارت منصوبة وأن "عشماوي" ينتظر رقابنا بفرح السيوف القواطع. فما العمل؟  

لقد تناولت في الماضي قضية الأحزاب العربية وتطرقت إلى حاجتها لمراجعة برامجها السياسية وإلى إعادة نظرها في بعض أبجديات عملها، خاصة فيما يتعلق بالقواعد الناظمة لعلاقات المواطنين العرب بالدولة وبمؤسسات الحكم فيها وما يتفرع عن هذه القضية من ضرورات للتحركات السياسية وميادينها، وما تتطلبه هذه من تحالفات نضالية وشعارات سياسية حكيمة وملائمة.

فنحن كأقلية قومية تناضل في سبيل حقوقها المدنيّة والوطنية بحاجة إلى وجود أحزاب وحركات سياسية كفاحية وأصيلة تمثل وتنتمي لقضايا المواطنين وتدافع عنها ؛ ونحن بحاجة كذلك لأطر جامعة عليا وطنية وفوق حزبية شريطة أن تنبع ضرورة وجودها من مصالح الجماهير ويتلاءم أداؤها مع خصوصيات هذه المرحلة من حياتهم.

يرى البعض بأن اللجنة القطرية لرؤساء السلطات المحلية العربية ولجنة المتابعة العليا لقضايا المواطنين العرب في اسرائيل موجودتان وكافيتان لتلبية هذه الضرورات رغم ما يعتري نشاطهما من نواقص وقصور ومثالب؛ ويقترح آخرون حلولًا من شأنها تحسين الأحوال وإنقاذ اللجنتين من حالة الركود ومن سوء المصير ويجتهد البعض في سبيل ضمان مهمة الإصلاح قيام المواطنين العرب بانتخاب أعضاء ورئيس لجنة المتابعة، وذلك كمخرج كفيل لاعادة تأهيلها وتمكينها من تنفيذ مهامها بقوة وبنجاح أكيدين.

لا أعرف كيف ستنقذ هذه الانتخابات مستقبل لجنة اقيمت قبل أربعة عقود في ظروف تاريخية محددة كاستجابة لحاجات أملَتها معطيات واقع عاشه المؤسّسون في بداية ثمانينيات القرن الماضي، ووفقًا لرؤى تحكمت فيها موازين قوى سياسية واجتماعية كانت مؤثرة في حينه ولم تعد قائمة في هذا الزمن.

لن اخوض في تفاصيل هذه المسألة، فأنا على يقين بأنّ إجراء انتخابات مباشرة للجنة المتابعة سيكرّس نهج انفصال المواطنين العرب عن الدولة وعن مؤسساتها، وهذا بالطبع ما يدفع بالقوى السياسية والدينية التي تنادي بضرورة تبني هذا المقترح ؛ ولكن علاوة على ذلك يجب أن نخشى مما سيرافق عملية الانتخابات من ممحاكات وتنابذات وبغضاء ستتفشى في مدننا وفي قرانا، لأننا ما زلنا مجتمعًا محافظًا تتحكم في تصرفاته قوانين العشائر وتقتله قداسة الطوائف وتغرقه عبادة الفصائل؛ فتاريخنا أكبر معلم واسألوا عن ذلك من عاشه من قبل يوم "السقيفة" وحتى هذا الربيع الخرِف

لقد أراد مقيمو لجنة المتابعة، بحكمتهم وباستشرافهم تداعيات تلك المرحلة، تزويد العرب "بقلعة جامعة" ونجحوا في مهمتهم إلى مدى بعيد جدًا؛  لكنها الأيام تتبدل والضرورات تتغير والجسم يشيخ وأشك أن تبرئه أمنيات قادة يراهنون على جسور من ورق.

نحن بصدد موضوع يحتاج إلى أكثر  من مقال ومن كتاب، لكنني، رغم العجالة، ساختصر وسأقول رأيًا بعيدًا عما قد يحصل للجنة المتابعة العليا ولمستقبلها.

نحن بحاجة، كأقلية قومية تواجه سياسات حكومية عنصرية وممارسات شعبية فاشية، إلى اقامة إطارين جديدين قد يساهمان في تحصين مجتمعنا، داخليًا وخارجيًا، ويزوّدانه بوسيلتين تعزيزيتين في وجه سياسات الاقتلاع الحكومية وفي تمتين أواصر هويته المشوشة. إطاران قد يؤدّيا إلى إعادة مكانة "الهيية العامة" إلى شوارعنا والاحترام "لساحة البلد".

 الأول: "مجلس علماني" يعكف على نشر ثقافة إنسانية واسعة ووطنية هادفة ويذود عن مكانة العقل والتعدّدية الفكرية والعقائدية وينادي من أجل تنمية مجتمع متكافل يقوم على قيم الفضيلة والعدل والمساواة والسلام، ولا يشكّل فيه مطلب فصل الدين عن الشؤون السياسية والمدنية والحقوقية العامة سببًا للعداوات وللاقتتال؛ فالدين والتدين وفقًا لنظام هذا المجلس حقان مكفولان واحترامهما واجب على الجميع ولا وصاية من أي انسان على الآخر.

أما الاطار الثاني فهو اقامة " منتدى الحقوق المدنية"  وهو جسم سيرتكز بالأساس، لا فقط، على مجموعة من الحقوقيين ومن بعض المهنيين المتخصصين في مجالات أخرى، يقوم بمتابعة والنضال من أجل  قضايا الحقوق المدنية للمواطنين العرب في أسرائيل.

القصد من وراء الفكرة هو ايجاد ذلك الحيز الفاصل بين النضال السياسي المباشر من أجل مكانة الجماهير العربية وحقوقها القومية، وتلك الحقوق المدنية النابعة من مواطنة هذه الجماهير في الدولة، وذلك من خلال وضع آليات عمل متشابكة ومتكامله وغير متعارضة أو معطِّلة بين شقّي المعادلة.

قد يشكّل هذا الجسم، في توليفة مناسبة وتخطيط سليم، حلقة واصلة بين دور اللجنة القطرية للرؤساء وأي اطار تمثلي سياسي جامع قد يتفق على اقامته أو تحديثه كما يجري الحديث مثلًا بخصوص لجنة المتابعة العليا

لقد أثبتت السنوات الماضية انّ دور الأطر القيادية القائمة لم يعد فعالا كما تقتضيه مصلحة الجماهير ولا بحجم المخاطر التي ألمّت بمجتمعاتنا، كما وفشلت جميع محاولات رتق وجبر  هذه الأجسام، حتى أمسينا نعيش واقعًا عبثيًا فقد فيه المجتمع كوابح حمايته الأساسية وفقد المواطن شعوره بالأمن ويالمستقبل الواضح؛ ولذلك أحاول هنا اطلاق فكرة عساها تنال قسطًا من النقاش الهاديء والتطوير؛ فنحن، في النهاية، بحاجة إلى من يذود عن قيمنا  الانسانية الأصيلة ويحافظ على مكانة "الحيّز العام" وعلى حريات الفرد الأساسية؛ وفي نفس الوقت نحن بحاجة إلى إعادة تعريف ما تكون المصلحة الحقيقية للمواطنين العرب في إسرائيل ، ومن ثم كيف نمضي في الكفاح من أجل الدفاع عنها

 

 

«المشوهون»

جواد بولس

 

سينجح بنيامين نتنياهو بإقامة حكومته المقبلة مع حلفائه الطبيعيين، رغم ما نسمعه عن وجود بعض العثرات التي تعيق تقدمه نحو خط النهاية؛ فمعظم مماحكات الأحزاب المتفاوضة تدور حول ما سيدفعه «السيّد» للعملاء، وهو في هذه الحرفة «معلم المعلمين» وصاحب الخبرة في حياكة ضفائر السلطة وترويض «النمور» قبل دخولها إلى قصر السلطان.
ستكون هذه حكومة يمينية عنصرية غير مسبوقة في نهمها للتجبّر بمن ليسوا من «رعاياها «، وفي إصرارها على دوس حق «الخارجين عن طاعتها» بتربية أحلامهم البريئة، وفي محاربتها لما تبقى من هوامش ضيقة للتنفس خارج مزارعها، وبعيدًا عن أقفاصها. صارت إسرائيل بعد الانتخابات الأخيرة أكثر عتمة، لكننا على الرغم من ذلك، نجد أن الأحزاب والحركات السياسية العربية تتصرف كأنها ممالك لا تقهر، ويتقاذف رؤساؤها الاتهامات بينهم، كأنهم قادة لجيوش جرارة يغار منها ابن مقدونيا الكبير ويتمناها «تيمور» الأمير. حسم معظم المحللين العرب مواقفهم ازاء ما حصل في الانتخابات الاسرائيلية الأخيرة، واختلفوا كما يليق بكبار المفكرين والمثقفين؛ بينما تمترس المحزبون والدعاة والمجندون في قلاعهم ولسان حالهم يقول: «نفوسنا وبعدنا الطوفان». لقد وعدت قلة من النخبويين والقياديين الغيورين بأن تتدارس تفاصيل التجربة بموضوعية، لتقوم باستخلاص العبر وتقدير معالم الخسارة، لإيمانهم بأن الوقوف على التفاصيل وعلى المسببات يُعدّ أمرًا ضروريًا، ليس بغرض الكشف عن المذنبين وتقديمهم للمحاكمة، بل من أجل تشخيص المرض وتفاديه، عساهم ينقذون مستقبلًا، بات يترنح على قرون «أطلس» هذا الزمن. لن ينجحوا في مهمتهم إلا إذا واجهوا جملة من المسائل الأساسية التي حان وقت معالجتها بجرأة، ومواجهتها بوضوح وبدون رياء؛ وسأتطرق في ما يلي لبعضها، ولكن هذا لا يكفي.
حدْس الناس لا يخطئ، خاصة إذا اعتمد على كيف ووجهت هزائم الماضي؛ فعلى الأغلب ألا تحاسب الأحزاب هيئاتها القيادية كما لم تحاسبهم في الأمس، وألا يدفع مسؤول ثمن فشله في هذه الانتخابات كما لم يدفع عما سبقه.
لا يوجد بين المواطنين العرب تنظيم يمتلك هيئات قادرة على إجراء مراجعة ذاتية وجدّية، من شأنها أن تفضي إلى مجازاة المسؤول على نجاحه أو محاسبته عن فشله؛ ومعظم الأطر الحزبية، أو شبه الحزبية، لا تمتلك ثقافة تنظيمية مؤسساتية عريقة كفيلة بإنتاج الضرورة لمثل هذا الفحص ولإنجاح هذه المهمة؛ فأكثرية هذه التنظيمات مارست «حزبيّتها» أو «حركيّتها» تحت عباءة «صاحبها» أو برعاية قائدها/مؤسسها الأوحد؛ وعلى الرغم من أننا نستطيع أن نستثني من هذا الواقع تنظيم «الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواه» ومركبها الأبرز «الحزب الشيوعي الإسرائيلي»، إلا أنني أشك، لأسباب قد نخصص لها مقالا منفردا في المستقبل، في أن ينجح قائدها الأبرز النائب أيمن عودة، رغم رغبته الحقيقية، بتنفيذ وعوده بإجراء تقييم جذري وشامل لتداعيات الأزمة السياسية الأخيرة ولمستقبل العمل السياسي البرلماني وغيره.
لقد استحضرت الأشهر الأخيرة إلى ساحاتنا، مجددًا، عوارض أزمة الأحزاب والحركات السياسية التقليدية العربية، بعد أن كشفت عنها، بشكل واضح، نتائج الانتخابات الأخيرة للسلطات البلدية والمحلية؛ فلقد أشرنا، في حينه، إلى ما «قالته» صناديق الاقتراع في معظم قرانا ومدننا، وأكدنا أن الجماهير نأت، عمليًا، عن تلك الأحزاب، التي لم تعد تستثير رغباتها السياسية، ولا تستنفر أمانيهم الاجتماعية؛ وذلك ببساطة لأنها اصبحت أطرًا هرمة تعمل بآليات متكلسة ووفق برامج «فكرية» منبتّة فاقدة لصلاتها بالواقع العام وبالمتغيّرات التي حصلت داخلنا، وبعلاقة مؤسسات الدولة بأبناء مجتمعاتنا على جميع الأصعدة والمستويات. فكيف يصنّف ويعرّف المحللون هوية أحزابنا والحركات السياسية والدينية العربية الناشطة في داخل مجتمعنا العربي المحلي؟ وهل في رأي هؤلاء المحللين والنقاد ما زالت هذه الأحزاب حاضرة وقادرة على تأدية أدوارها الاجتماعية والسياسية في الذود عن وجودنا وعن مستقبلنا؟ وكيف ستفعل ذلك؟
وعلى الجبهة الثانية، أجمع ناشطو معظم الأحزاب وجيوش وسائل «الشقاق الاجتماعي» على عدم وجود يسار صهيوني في إسرائيل، وعدم أهلية من يعرّفون حزبهم يسارًا كحزب «ميرتس» مثلًا؛ وجنّد هؤلاء هذه المقولة كذريعة لدعم نداءاتهم بضرورة مقاطعة الانتخابات. وقامت هيئات جميع الأحزاب المشارِكة في الانتخابات برفض نداءات المقاطعة، في حين لم تتطرق معظمها لقضية اليمين واليسار ولحيوية التمييز بينها، ولمن يضع الحدود بينها ووفقًا لأي معايير ولأي مساطر؟ لم يكن ذلك مجرد سهوة، بل كان عارضا لتفشي الأزمة نفسها عندنا، فهل فعلًا لا يوجد لابن العرب يسار سياسي حقيقي؟ وما تأثير ذلك على آفاق العمل السياسي والحزبي وعلى هوامش التحالفات بين الجماهير العربية من جهة، وبينها وبين القوى السياسية القائمة في المجتمع اليهودي؟

عوارض أزمة الأحزاب والحركات السياسية التقليدية العربية، كشفت عنها نتائج الانتخابات الأخيرة للسلطات البلدية والمحلية

أشرت في الماضي إلى حصول انعطاف حاد في مجتمعنا نحو اليمين، حتى غدا خاليًا من قوى اليسار التقليدية أو من بدائلها، على كل ما يعنيه هذا الأمر من تشوّهات اجتماعية وسياسية واقتصادية، وتأثيرها على الهوية الحقيقة للفرد وللمجتمع.
فعندنا من التيارات القومية تشكيلة واسعة، مثل ما عندهم، ولدينا عدد من التيارات الدينية السياسية على تفرعاتها واختلاف عقائدها وأهدافها السياسية. وتحاول، إلى جانبهم، بقايا حركات يسارية أو شبه يسارية أن تعيش، بعد أن فقدت معالم طريقها الأصلية، وأضاعت قواسم رفاقها المشتركة حتى اختلفوا في ما بينهم على معنى المقاومة وما تكون الثورة ومن هو المنقذ ومن المستبد. فمن وجد منكم يسارًا حقيقيًا بيننا، ليدلني إليه.
إنها مسألة مهمة، خاصة عند من يسعى لتشخيص علل مجتمعنا، مستشرفًا حياة سياسية واعدة وعملا حزبيًا من شأنه أن يخدم أبناء المجتمع ويحافظ على هويتهم الجامعة ويمثل مصالحهم على المستويين المحلي والقطري. يمكنني إضافة عشرات المواضيع والعناوين السياسية والاجتماعية التي تنسّكنا عن معالجتها باستقامة فكرية، حتى أوصلنا انحرافنا وعزوفنا عنها إلى حالة عجزنا الحالية وضياعنا؛ فلأكثر من عقدين كان اليساريون شهودًا على تحلل عراهم الوثقى، ولم يواجهوا مصيرهم، بل فضّل بعضهم الركض وراء سراب الشام، واستفيأ آخرون خيمة الأمير، وقصد بعض الحالمين ود موسكو طامعين بظل من الأساطير. نحن مجتمع مشوه! ومعذرتي من الأديب الطلائعي، توفيق فياض، صاحب رواية «المشوهون»؛ فلقد أعلنها في روايته قبل حوالي الستة عقود؛ ورغم اختلاف المحاور والعوارض ومرور الأعوام، نستطيع اليوم أن نحملق في مرايانا المهشمة ونرى كيف تسخر الأقدار من جبننا ويحرج منا الرياء.
وأخيرًا، ماذا بعد؟ أحقًا كل العرب يمينيون وحسب؟ وكل اليمينيين أخوة وحلفاء؟
وماذا سيقول الجبهويون وحلفاؤهم لمن يدعوهم، وهذا مجرد مثال عابر فقط، كما فعل أعضاء الكنيست السابقون الثلاثة (حاييم أورون وديدي تسوكر عن حزب ميرتس وإبراهم بورغ عن حزب العمل) لإقامة حلف سياسي يتوافق فيه على برنامج عمل أساسي من غير حاجة إلى التعهد المتبادل أيديولوجيا أو فكريًا، أو كما كتبوا قبل أيام في جريدة «هآرتس» وشرحوا: «فقط توافقات بين الشركاء على برنامج عمل: مساواة مدنية تامة، إنهاء للاحتلال عن طريق حل الدولتين، وإقامة إطار برلماني مشترك.. فالفكرة هي مبادرة إلى مشروع سياسي وفكري.. حلف بين المواطنين.. سد من الأحزاب يحاول التصدي لانسلاخ العرب عن دولة إسرائيل ولانسلاخ دولة إسرائيل عن مواطنيها العرب». أليست هذه فكرة شبيهة لمشروع دولة لجميع مواطنيها؟
كاتب فلسطيني

 

 

والقول ما قالت الأمعرية

جواد بولس

 

يحتفل الشعب الفلسطيني، في السابع عشر من إبريل/نيسان من كل عام، بيوم الأسير الفلسطيني؛ وتشهد جميع محافظات الوطن، على مدار أسبوعين كاملين، سلسلة من الفعاليات والنشاطات الشعبية والرسمية، التي تقام ليؤدي المشاركون فيها تحية المجد لأبناء الحركة الأسيرة، وليتوّجوهم بأكاليل الغار، عرفانًا بما قدّموا ويقدّمون من تضحيات في سبيل نيل الحرية الفلسطينية وكنس الاحتلال الإسرائيلي.
تعيش فلسطين، في هذه الأيام، كما في كل عام، حالة من الفرح العذري الملتبس، وتحتضنه، كما تحتضن الأم ضفائر ابنتها العروس، برفق وبحفنة دموع، وتزنّره بنور وبحناء ونار. إنه نيسان الفلسطيني، فيه تنفتح أبواب السماء فينهمل منها الحنين ويهوي الجوى، ليزهرا، على عتبات البيوت، شوقًا شفيفًا وأملاً مؤجلاً.
لن يفهم البعيدُ عن أرض الوجع كيف تكون تباريح السواسن في نيساننا، ولن يستوعب من لا يعيش في أرض الأساطير، قاتلة الأنبياء، معنى رجفة الفلّ على شرفة «أم يوسف، الأمعرية»، وهي تجلس فوق ركام بيتها وتعدّ نجوم «السماء السبعة» وتقسم أن تقهر عدوّها ببسمتها المعذبة الشقية فحسب.
قد لا يناسب « الأدب» مقالًا يعالج «تردد إبريل» في هذه الذكرى ويداوي لواعجها، وقد لا تفيد الكتابة عنها بمباضع البديع وبالزخرف؛ فالواقع في الأراضي الفلسطينية رماديّ كالصخر، والمعطيات عليها مستفزة كمرض عضال، والقهر مستفحل واحتلال الغريب مستحكم بعربدة وخبث لم نعهدهما مذ وطئ ذلك الحزيران اللئيم حرير خواصرنا. كل بيت في فلسطين المحتلة شرَق بدمع الشهادة أو بكى، على وداع أعزائه، حين كانوا يمضون على طريق الجمر، ويدفعون ضريبة العز والوفاء، سجناءَ وراء قضبان القهر وتحت سياط الجلّاد.
تشير احصائياتنا إلى أن قرابة المليون أسير دخلوا سجون الاحتلال منذ عام 1967، بينما يصل عدد من يقبعون اليوم فيها إلى قرابة خمسة آلاف وسبعمائة أسير، من بينهم مئتان وخمسون طفلاً/ حدثاً، علاوة على ستة وثلاثين طفلا مقدسيًا نُقلوا للاعتقال المنزلي، وخمسة قاصرين محتجزين في ما يسمى بالإصلاحيات أو «مراكز الإيواء» ؛ وكذلك هنالك سبع وأربعون أسيرة وما يقارب الخمسمئة أسير إداري، وعدد كبير من المرضى، بينهم بضع عشرات ممن يخشون غفوة القدر ويعيشون كشهداء على «همزة» الريح وجنونها ..لن استرسل بتزويدكم بالأرقام وبتصنيف الفئات والمسميات، عِلمًا بأننا شعب يحب الإحصائيات، ويجيد مضغها في المناسبات ومن على المنابر؛ ولكنّ واقع الحركة الأسيرة، بمجملها، مقلق ومريض، فهي تمر بمرحلة حرجة وتواجه مؤامرة مصيرية خطيرة. ليس من الصعب أن نفهم لماذا يحاول قادة اسرائيل وساستها بذل هذه الجهود الجبارة في محاولات مستمرة منهم لكسر شوكة الحركة الأسيرة، وملاحقة أفرادها المحررين؛ فمن يفتش عن الأسباب الحقيقية سيجدها مطوية في صفحات تاريخ هذه الأجيال، التي اختارت طوعًا، رغم فداحة الثمن، أن تناضل ضد الاحتلال، وتؤكد بخيارها وعبر مواجهاتها المباشرة – وهنا العبرة والخلاصة – على أن العدو الأول للشعب الفلسطيني ولمصالحه كان، ولمّا يزل، الاحتلال، وهو فقط؛ وعلى جميع الفلسطينيين، بدون أي استثناء، تحييد كل التناقضات وكل المناكفات القائمة بينهم، ومواجهة الخطر الأساسي الكبير؛ فبدون كنس الاحتلال ستبقى كل المسارات الفئوية/الفصائلية مجرد فذلكات سرابية وجرعات مخدرة، وبدون الوحدة النضالية الحقيقية الجامعة، ستكون كل أنماط الحياة المقترحة مشوهة ومنقوصة، وستتحول جميع الزيجات «العرفية» مع الاحتلال مصدرًا للذل والهزائم.

«من ينشد العيش بدون احتلال سيدفع نصف قلبه للأسى، ويربّي في نصفه الآخر الوعد بفرح مؤجل، لكنه آتٍ ذات يوم»

للحقيقة وللأمانة لم تتخلّ فلسطين الرسمية عن أبناء الحركة الأسيرة، وقد احتضنت منظمة التحرير الفلسطينية تاريخيًا، وما زالت، جميع كوادر الأسرى وحاولت أن تنصفهم بشتى الوسائل وعلى جميع المستويات؛ فقادة المنظمة آمنوا بأهمية وبدور الحركة الأسيرة التاريخي، وبما يمثله وجودها، وطنيًا وسياسيًا، وبكونها النقيض الواضح والحاضر دومًا لوجود الاحتلال ولهدوئه واستقراره. لقد تبنّت السلطة الفلسطينية، منذ إنشائها، أبناء الحركة الأسيرة، وتصرّف قادتها بما يمليه واجب وضمير «السيادة السياسية» الوطنية، حتى لو كانت منقوصة، تجاه أبنائها وتجاه أفراد عائلاتهم، وتمسّكوا بموقفهم، وما زالوا، رغم شراسة هجمة الحكومة الاسرائيلية الأخيرة، وموقف الولايات المتحدة الأمريكية وعناصر دولية أخرى؛ فقادة السلطة على قناعة صحيحة بأن أي تنازل أمام المطالب السياسية الإسرائيلية المهينة، يعني في الواقع هزيمة رواية «الثورة الفلسطينية» أمام «الرواية الصهيونية» بما يفضي إليه ذلك من عبث، فالمناضل الفلسطيني سيتحوّل إلى إرهابي ومجرم، وسيصير المستوطن اليهودي الغاصب صاحب البيت الشرعي.
كنت أراجع تداعيات الأزمة والانقسامات التي يواجهها الأسرى في سجون الاحتلال، وانا في طريقي إلى مكتب أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، الدكتور صائب عريقات، لحضور لقاء، دعا إليه ممثلي الدول الأجنبية لدى فلسطين بمناسبة يوم الأسير الفلسطيني. هاتفت، وأنا بمحاذاة مخيم الأمعري، أم «يوسف أبو حميد»، وهي التي سميتها قبل سنوات «وردة من الأمعري»، كي أطمئن عليها في هذه المناسبة.
كان صوتها كصوت الورد الناتئ في شقوق المخيمات، ينبض بالقوة ويشحنني بالثقة وبالحزم. شكرتني على الاتصال وشكرت قبلي ربها ورجته أن يبقى رحومًا. طمأنتني عن صحتها وذكّرتني بما قالته لي في زيارتي السابقة لبيتها : «المهم يا استاذ ألا تُظهر ضعفك، وألا تدع عينيك تدمع أمامهم؛ فنحن سنبقى أقوياء إذا تبسمنا في وجوههم، حتى وهم يهدمون بيوتنا ويقتلون أبناءنا؛ نحن سننتصر على جبروتهم بصمودنا وبتضحياتنا، لأنهم الضعفاء، فأصحاب الحق أقوى من الطغاة، وأولادي وكل ما أملك فداء للكرامة ولفلسطين». لم أجبها. صمتّ كمن عقل لسانه. خفت أن أدمع وخفت أن تخذلني حنجرتي، فهي أم «لعبد المنعم»، الذي سقط شهيدًا في عام 1994 ولستة أبناء أسرى: ناصر ونصر وشريف ومحمد ناصر؛ وجميعهم محكومون في محاكم عسكرية منذ سنوات بالسجن المؤبد لعدة مرات؛ و»إسلام» الذي اعتقل في مايو،أيار المنصرم ويواجه تهمة قتل جندي إسرائيلي حضر وكتيبته ليعتقلوا اخاهم السادس «جهاد» اعتقالا اداريًا، من بيتهم في الأمعري، الذي بات، بعد أن هدمه جيش الاحتلال في ديسمبر/كانون الأول المنصرم، ركاما.
لم ينتظر سكوتي طويلًا إذ سمعتها تقول برقة الأم الحزينة «طبعًا أنا أبكي.. البسمة سلاحي أمامهم فقط، لكنني أم وأحب أولادي، وأموت شوقًا لرؤيتهم، وأتمنى أن أحتضنهم في كل لحظة… هذا قدرنا وهذه خياراتنا، فمن ينشد العيش بدون احتلال سيدفع نصف قلبه للأسى، ويربّي في نصفه الآخر الوعد بفرح مؤجل، لكنه آتٍ ذات يوم .»
دخلت قاعة الاجتماعات في مبنى منظمة التحرير. حضر عن الجانب الفلسطيني ممثلون عن معظم المؤسسات الرسمية والأهلية، التي تدافع عن الأسرى، وحضر كذلك معظم ممثلي الدول الاجنبية. تمنيت لو كانت «أم يوسف الأمعرية» حاضرة لتختصر بحكايتها كل زيف التاريخ وتخاطبهم «ببسمتها» وبنصف قلبها الدامي، عساهم يفهمون كيف سيزهر الحق في نيسان، وكيف سيغلب صوت الحرية أزيز الرصاص. لا أعرف إذا كانت علامات الدهشة ما زالت بادية على وجهي؛ لكنني وقفت أمامهم ورفعت رأسي، كما أوصتني تلك الأم الأمعرية، وأطلقت لساني في الفضاء فجاء وقع نداه على إيقاع ابريل وتنهيدة أم سرمدية. لم نسمع منهم اعتراضًا على ما قلناه، فقد أصغوا إلينا «بهدوء دبلوماسي» مزعج وواضح، ثم انسحبوا ببرود بروتوكولي مألوف. بعضهم يعرف مثلنا أن التاريخ سيتذكر «وردة الأمعري» ولن يسامح من داس على قلبها، وبعضهم سيتجاهل الحكمة في الربيع ليبقوا غارقين في عارهم وأسرى لمصالحهم ولموازين قوى دولية وهمية مدفوعة بقوانين المداهنة والرياء.
فهل سيكون القول ما قالت الأمعريّة؟
كاتب فلسطيني

 

 

انتخابات الكنيست

هل من مفاجأة؟

جواد بولس

 

 لم تحمل نتائج انتخابات الكنيست الإسرائيلية أي مفاجآت غير متوقعة أو شاذة في جوهرها؛ وهي بهذا المعنى قد شكّلت محطة جديدة، لن يتوقف عندها قطار الفاشية الإسرائيلية المندفع بجنون واضح نحو الهاوية؛ كما أنها عكست حجم الضياع المستفحل بين المواطنين العرب، وهم يواجهون مرحلة سياسية واجتماعية واقتصادية انتقالية جديدة، نحو مستقبل مبهم. ومن جهة أخرى عرّت حقيقة وجود التنافر العميق، أو حتى التنابذ، بين هويّات معظم الأحزاب والحركات السياسية العربية، التي طلبت ودّ تلك الجماهير ودعمها في الانتخابات، وبين مجمل التغييرات الفكرية والنفسية والهويّاتية، التي باتت تحرّك فعليًا ولاءات الناس، وتتحكم في سلوكهم الاجتماعي وفي خياراتهم السياسية.
من غير المجدي أن نفعل ما يفعل البعض، حين يؤكدون للقراء أنهم أصابوا عندما تنبأوا بالذي سوف يحصل؛ ولن أتعاطى، في هذه المقالة، مع المخاطر الجسيمة التي تنذر بها تشكيلة الحكومة المتوقعة وما سيتبعها، بدون شك، من تداعيات كارثية علينا كأقلية قومية، ستواجه، من غير سواتر، أنياب الفاشيين الذين سيخيّرونا بين الاذعان الكامل لدولتهم اليهودية، ونحن صاغرون، أو المقاومة على ما يعنيه هذا الخيار من احتمالات، قد تكون خرقاء ورهانات على وفاء الريح وجنون القدر.
لن أناقش مَن حسم بصرامة، بأنّ تفكيك القائمة المشتركة كان أهم سبب وراء عزوف نصف المواطنين العرب، وقرارهم مقاطعة الانتخابات؛ ولن أوافق من اتهم النائب الطيبي بحصول تلك الكارثة، أو من أدّعى بأن الدكتور منصور عباس كان مسببها ومسؤولًا عن وقوعها؛ وذلك، ببساطة، لأنني لم أر بالقائمة المشتركة، بخلاف فكرة الوحدة السياسية والعمل المشترك السليم، منقذًا للجماهير من الغرق الوشيك، ولا بوصلة آمنة وكفيلة بتوجيهنا نحو مرفأ السلامة وبر الأحلام. ومن المنطلق ذاته لن أعاتب من دعوا إلى مقاطعة الانتخابات، سواء فعلوا ذلك عن قناعة فكرية أو عن إيمان ديني، أو نتيجة احتجاج وغضب، أو حتى إذا كانت نواياهم مريضة أو مغرضة؛ فالمشكلة، في رأيي، ليست بمن دعا وحرّض واستشاط وانفعل، بل لماذا نجح هؤلاء وفشلت الأحزاب، قيادات وهيئات، بإقناع من قاطعوا، وحضّهم على التصويت والتأثير والمشاركة في ترسيم الحاضر وصنع المستقبل.
عشرون عامًا يقود «بنيامين» شعبه ويعيده إلى أحضان «إيله». يعلمهم فقه الذبائح ومعنى تقديم القرابين، ويعدهم بالمجد والخلاص؛ يسير كالفاتحين ووراءه يهرول أبناء «يوشع» ويتنشقون روائح الفاشية وغبار المعارك، ويحلقون على أجنحة شهواتهم صوب حدود سرمدية تغور في صحارى شرق عاقر. عشرون عامًا كان فيها اليأس ينخر مضاجعنا. لم نسمع سوى طنين الشعارات التقليدية الخاوية، وحفيف أوراقنا البالية. أجيال تولد في عوالم طينية لا تعرف من القيم سوى الرياء والخديعة والجحود، والسعي وراء المصلحة والسطوة، ومن أجلها كل الوسائل حاضرة. فنحن وإسرائيل وحدنا في مهاجع الجوع وفي بساتين السهر؛ نحن وخياراتنا على دروب الحكمة، أو في مهالك العدم . لم يقم بيننا «ناطور» أمين ولم يسعفنا «معلم» صادق، فعشنا على هدى «زند أجرب» وصلينا كي لا نقع فريسة للعصا، أو ضحايا لعربدة رصاصة تائهة منا وبيننا. كل عناوين الخسارة كانت مكتوبة أمامنا على جدران قرانا والمدن. الحمقى أغفلوها وغطاها المنتفعون بمناديل من زبد، ومضوا إلى ساحات عجزهم، أما المقامرون فقد أغفلوها في طريقهم إلى «مجالس الندماء» التي تكرر أحلامهم نشواتٍ وتخفق من أجلهم الزمن. أرادونا أن نقتنع بأن الجماهير مجرد قطعان من أغبياء، تنسى وتلهث، تنام وتهمل.
لكننا قلنا، هي الجماهير حية تنذر مرة وتحذر مرارًا، وإذا ما جهلت فيجيئكم غضبها طوفانا؛ إنهم أحفاد من حوّلوا أيار البلاد إلى وهج الصدى وخطّوه أحمر الآفاق، وجعلوه لون الشهوة وسجّلوه في المآقي كشهر الورد والردى؛ وهي الجماهير التي لبّت، في آذار، نداء أمنا الأرض فغارت بعده «عشتار» من عذراوات الجليل، وبكت من تناهيد قانا ومن دموع سخنين، فصار زهر لوز الكرمل جواز سفر الصالحين وتميمة المقاتلين. لا تفتشوا عن أسباب هزائمكم في حقول الغير، فسوس الخشب منه وفيه. كم قلنا إنه لن تقوم لنا، نحن المواطنين العرب في إسرائيل قائمة، إلا اذا واجهنا واقعنا بجرأة وباستقامة ومسؤولية، وتخلينا عن مداهنة بعضنا وفقأنا عيون الكذب وتوقفنا عن البكاء على الأطلال، وعن التسامح مع من يغتصب أعراض بكارات أفكارنا ومواقفنا، ويخيفنا قبل كل هزيمة صائحًا: « انتظرني يا بيبي نتنياهو عند المنحنى، فسأعود مع إخوتي، بعد أن يستعيدوا أوصال أوردتهم المقطعة، كي نطيح برأسك ونرميه في مزابل القدر».

إذا لم يقم من يستخلص العبر بشكل صحيح ستكون خاتمتنا، في ظل الحكومة الإسرائيلية الجديدة، سيئة ومصيرنا صعبا

للتيه قواعد وأصول، وللبقاء قوة وغرائز وفصول. جموع الناس لن تكون قطعانًا الا اذا كان راعيها من وهم وسراب وزبد، فلقد آن الأوان أن يقوم بيننا راع وحكيم وصادق لينفض عن شرايين هويتنا غبار الندم وليقول للغفاة هيّا وللمزايدين كفى ويمضي نحو قمة الجبل. لقد كشفت انتخابات الكنيست ما أظهرته انتخابات الأمس البلدية والمحلية، واذا لم يقم من يستخلص العبر بشكل صحيح ستكون خاتمتنا، في ظل الحكومة الإسرائيلية الجديدة، سيئة ومصيرنا صعبا. لقد استرجع مجتمعنا عناصر تكوينه البدائية السلبية، فأخذ أبناؤه يستكينون لرحمة السماء فقط، ويحتمون بحضن القبيلة وينتعشون في ظل العائلة ويرجون رحمة المصلحة ومن يؤمّنها.
إننا نعيش أزمة هوية خطيرة ونفقد عمليًا ما نجح آباء شعبنا المؤسسون ببنائه بعد أن ردموا في بدايات خمسينيات القرن الماضي مخلفات هويات قدّست الخاص عن العام. نحن نرى مجددًا انكسارًا في الهوية الوطنية، ونرى تفكك أواصر المؤسسات القطرية القيادية، وفقدانها لدورها المؤسس، فقد غاب عمليًا دور لجنة المتابعة العليا بشكل بارز ومقلق، وغاب كذلك دور اللجنة القطرية للرؤساء وغيرها من الهيئات. لقد كشفت نتائج الانتخابات كذبة حجم الأحزاب حين ظهرت قواها الحقيقية، ورغم ذلك ما زال بعضها يتشدّق ويقدّم قادتُه للجماهير نصائح ويسدي كتّابهم لنا المواعظ المستوردة من أفواه مفكرين يستقزمون وجودنا في بلادنا، ويتهكمون على نضالنا ونضالات من سبقونا.
لقد كان تصرف الأحزاب ناتجًا عن ضعفها، ولم يكن ضعفها ناتجًا عن تصرفاتها؛ فنتائج الانتخابات تعيدنا حتمًا إلى مواجهة أسئلتنا الكبرى وأهمها ما يتعلق بضرورة وجود هذه الأحزاب بهياكلها الحالية وهيئاتها القاصرة.
يتبع …
كاتب فلسطيني

 

 

 

سأصوت، لن أقاطع

جواد بولس

ستتوجه جموع الناخبين الاسرائيليين في التاسع من الشهر الجاري إلى صناديق الاقتراع لتنتخب من سيمثلها في الكنيست  القادمة، وتقرر عمليًا مَن سيتولّى مقاليد الحكم في دولة باتت، رغم صغر حجمها الجغرافي والديموغرافي، تشكل ركيزة أساسية في عمليات ترسيم الخرائط الاقليمية السياسية والاقتصادية والعسكرية. كما وتؤثر، كذلك، بدرجة كبيرة، على تداعيات الأوضاع الداخلية، وأحيانًا على مصائر الدول وأشباه الدول في منطقة الشرق الأوسط وفي عدة مناطق أخرى من العالم.

لا تشغل قضية الانتخابات الإسرائيلية، فيما يبدو، بال المجتمعات العربية في الدول المجاورة، ولا، بالتأكيد، بال المجتمعات في الدول الاسلامية، رغم  تأثير نتائجها المفترض على مصير علاقات حكومة اسرائيل الجديدة مع تلك الدول؛ وقبلها على"قضية العرب والمسلمين الأولى" ؛ أعني فلسطين والقدس وأقصاها.

 قد يكون مردّ هذا الإعراض توافق مصالح زعماء تلك الدول الاستراتيجية مع المؤسسة الحاكمة  والتي ستحكم في إسرائيل؛ ومن جهة اخرى، نتيجة لسوء تقدير مجتمعاتها وقصورها في تقييم قيمة المشاركة السياسية الشعبية الحرة واستنفاذ الشعب لحقه بالانتخاب، وذلك لأنها عبارة عن مجتمعات عاشت تاريخيًا وتعيش ليومنا في ظل أنظمة حكم مستبدّة حرصت على "تعقيم" وسلب إرادات أبنائها وإبقائهم مخلوقات مهزومة ومدجّنة وجموع من العاجزين.  

بدأت مقالتي بهذه الاشارة كي أؤكد على قناعتي المعلنة دومًا بأننا نحن، المواطنين العرب في إسرائيل،كنا وما زلنا وسنبقى أصحاب هذا "العرس" أو ربما هذا  "المأتم"؛ وبالتالي سنكون نحن أول ضحايا نتائجه أو من بين المستفيدين منها.

يجب أن نقرأ بمسؤولية وبحكمة وبحنكة ماذا تخبّيء لنا أيام إسرائيل المقبلة، فمن يتمعن بمواقف الأغلبية اليهودية الناجزة وببرامج معظم الأحزاب الصهيونية المشاركة في الانتخابات المعلنة سيكتشف بسهولة ما معنى ما قاله "الحكيم" عندما حذّر من حسن النوايا والتمسك بقدسية الحق، فبعضها قد يقود أصاحبها أحيانًا إلى الجحيم.

لا أقول ذلك من باب التهويل الدعائي أو التخويف الأجوف؛ فأنا، مثل الأغلبية منكم، لا أرى فروقًا جوهرية بين معظم الأحزاب الصهيونية والدينية المتنافسة في هذه المعركة، واذا ما استثنينا حزب "ميرتس" الصهيوني اليهودي-العربي ، سنجد أن الحزبين الأساسيين المتناطحين، حزب "الليكود" بزعامة بنيامين نتياهو و حزب الجنرالات "كحول لفان" بقيادة بني جانتس، يتشابهان، بشكل أو بآخر، في توجهاتهما العقائدية والسياسية العامة وفي تخريجاتهما القانونية ازاء طبيعة وجودنا كمواطنين في الدولة وشروط بقائنا فيها كأقلية قومية غير يهودية.

لكن المشكلة لا تنتهي عند هذه الجزئية التي يشدّد عليها دعاة مقاطعة الانتخابات ويوظفونها كمبرر يدعمون به حجتهم حول عبثية التصويت وعدم أهميته؛ فابقاء هذا النداء "كصرخة يوحنا" في برية الفاشية الزاحفة قد يؤدي بنا إلى التهلكة ويسهل على الأحزاب اليمينية الفاشية، التي تجاهر بضرورة طردنا من الدولة، مهمتها.

لا يمكن أن نقوم، في واقعنا المعقد، بوظيفة الكاميرا الاجتماعية فقط، ولا بدور الرسامين الانطباعيين، ونلتزم بتشخيص طبائع أعدائنا ووصف خطورة سمومهم ثم نقرّر مقاطعتهم والابتعاد عن مواقعهم وهي في الواقع مواقعنا أيضًا.

لا يعقل أن يتعاطف مجتمع أو قطاعات واسعة منه مع نداءات المقاطعة، مهما كانت دوافعها، من دون أن يقترح أصحابها بدائل متكاملة وواقعية وقابلة للتطبيق تضمن استمرار وجودنا في وطننا.

يجب أن نرى الفوارق بين هذه المعركة الانتخابية وبين ما سبقها؛ فبعد شرعنة حقوق المستوطنين اليمينيين العنصريين وتصالح أغلبية المجتمع الاسرائيلي مع قياداتها وادماجهم كشركاء طبيعيين في جميع منظومات الحكم، بما فيها كقضاة في المحكمة العليا وفي قيادات الجيش وفي اذرع الأمن الأخرى، بدأنا نشهد كيف تجري عملية "شرعنة" مجموعات سياسية يعرّفها القانون الاسرائيلي كمنظمات إرهابية منعت لسنوات عديدة من حق مزاولة أي نشاط سياسي أو اجتماعي على الاطلاق.

فكيف يتوقع، والحال بهذه الخطورة، أن يتعاطف مجتمع أو شرائح منه مع نداءات المقاطعة، مهما كانت دوافعها صادقة أو عبثية أو مغامرة، في حين ان هنالك احتمالاً جدياً بأن نستطيع، اذا رفعنا نسبة تصويتنا، أن نعزّز قوتنا ونزيد من فرص تصدّينا لقوى اليمين الفاشي الزاحفة ؟

القضية لن تكون اسقاطنا لليمين أو لا ، فلقد تخلصنا من مفاضلة الأحزاب اليمينية وتصنيفها بحسب مكانتها في سلم العنصرية، لكننا  أصبحنا نواجه معسكرات يمينية ضخمة تتنافس فيما بينها على ضمّ كتائب جديدة يُشهر بعضها برامج عنصرية فاشية؛ فبدون "الكاهانيين" و"الفيجليين" و"السمورطتشيين" ، مثلًا، لن ينجح نتياهو بإقامة حكومته وقد يضطر مثله معسكر جانتس لسلوك هذا الطريق أيضًا حسب الاستطلاعات، ولكن زيادة نسبة أصواتنا قد تتسبب بسقوط هذه الأحزاب.

أعرف أن لليأس، عند الشباب،  من السياسة والسياسيين، سلطانا؛ وأعرف أن جرح الكرامة الوطنية بينهم يولّد لديهم رغبات جامحة وفضاءات سابحة؛ واعرف أن العجز مفتاح لفرج مؤجل وأخ للسراب؛ لكنني أعرف ايضًا كيف "ضاعت فلسطين" على مشارف "العقالات" وتحت أقدام الخواجات، وكيف طارت فراشاتها على ايقاعات الطبول والقصائد وغنج الندى وصهيل الأرامل والامهات. وأعرف، بالمقابل، كيف ولماذا بقينا على صدورهم في وطننا كالصبار، وكيف رسَونا في سماء الشرق كورد الملاءات.

أنا لا أنكر  على أحد حقه بالغضب ولا بضرورة الشك واهمية الاحتجاج؛ فلولاها جميعًا لبقيت الناس عبارة عن كثبان من طين وغبار تسوقها الريح كلما هبت هوجاء، وتذيبها دموع السماء؛ ولكن، يزعجنا هذا الردح بين معسكرات المقاطعين وبين من ضدهم؛ بين من يتمسك بحق الفل أن يموت وحيدًا وبصوت العنادل في الوهاد وبحة الكمنجات وبين من يصر على أن يقارع "داهود" في عقر داره وبالصرخة وبالوقفة وبالقصيدة وبيوم الارض وبالدماء في اكتوبر وفي الأول من أيار، ولا يكتفي بما نقلت الاسطورة عما فعل الحجر "بجوليات". 

 قبل أيام، خلال نقاش جمعني ببعض الأصدقاء المؤيدين والداعين لمشاركة المواطنين في الانتخابات المقبلة، تحدّى صديق مثقف وواع ومسؤول خيالنا وقال: تصوّروا لو يقاطع جميع العرب هذه الانتخابات ؟

توقفنا مليّاً وفككنا الفكرة بهدوء وبوجع واجمعنا على أنه بالخيال وحده لن ننجو من الخسارة ولن نوقف النزيف ونمنع المذبحة، فمقاطعة كهذه شاملة يجب أن تكون في الواقع وجهاً آخر لفكرة العصيان المدني الذي لا يمكن اطلاقها على أهداب عيون رامدة ولا من جوف صدور مكلومة وهادرة. انها مشروع شعب بحاجة الى أرض وبحر وسماء ولا يكفيها بعض الدعاة والشعراء والحالمين والرهبان.

أنا سأصوّت لقائمة "الجبهة والتغيير" وأدعو الجميع أن يصوتوا لها او لقائمة "الموحدة والتجمع"؛ ولأولئك الذين ربّوا حساسية لهاتين القائمتين،لا تقاطعوا وصوّتوا لقائمة "ميرتس"؛ فرغم ما يقال بحقها من جراء رداءة مواقف قادتها في بعض المحطات المفصلية، تبقى بديلًا أفضل من اجميع الأحزاب الصهيونية الأخرى.

لقد كتبت في هواجس من اجازة مرضية بأنه، "ولوهلة قد يظن المراقب أن قضية الانتخابات البرلمانية في إسرائيل هي مجرد حدث ثانوي لا أهمية له في خضمّ ما يجري من تفاعلات صاخبة وأحداث دامية في جميع أرجاء العالم ؛ وبالتالي فأهمية ما ستحققه القائمتان العربيتان اللتان تخوضان هذه الانتخابات سيكون بحجم خربشة هزيلة على صفحة هذا التاريخ.

هناك من يروّج لهذه المشاعر وهم يعرفون أن الواقع مختلف ومغاير ، وهنالك من يغذيها برومانسية ثورية أو لايمانهم الغيبي بأن النصر على إسرائيل، هذا الكيان المزعوم" بات قاب قوس ودعاء، والعدل، هكذا يؤمنون، رغم قهقهة الأيام، من سنن الحياة وفضائلها غير الزائلة.

لم أوافق في الماضي مع من يلغي ضرورة مشاركتنا، نحن المواطنين العرب،  في الانتخابات الاسرائيلية، أما اليوم فلقد تعززت قناعتي كثيرًا بأهمية هذه المشاركة لأن لنتائجها تأثيرا كبيرا على مستقبلنا وعلى مكانتنا في الدولة، لا سيما إذا تخيّلنا كيف ستتطاوس إسرائيل الجديدة كقلعة في المدى عامرة، وكيف ستقف جيوشها حماةً لقصور أخوتها العرب المستعربة والعاربة !

كل من تابع الأخبار رأى كيف يبتلع ليل إسرائيل نجوم الشرق ويفترش جرادها سفوح الهضاب ويلتهم طرابين الفجر وانفاس الشجر؛ فقريبًا سيصبح "الولاء" في إسرائيل، عتبة للخبز وسلمًا للعيش خارج الحفر ، وستبحث هوية المواطن العربي فيها عن حيّزها الملتبس بين "سيقان البامبو" الشرقأوسطية وخرائب أحلام دارسة وخرائط من عدم".

وعليه ولذلك فأنا لن أقاطع وسأصوت .. أنا باق، أنا موجود، أنا مؤثر.

 

كان في القدس

سوق للخواجات

جواد بولس

 

قد تكون فلسطين هي الدولة الوحيدة في العالم التي تعتمد ذكرى «الإسراء والمعراج» كيوم عطلة رسمية في جميع أرجائها؛ ولا غرو في ذلك، فهي صاحبة الحظوة السماوية، وقدسها كانت أرض المعجزة وصخرتها أم البركات وشهد الملتقى.
لا أذكر متى تجولت آخر مرة في شوارع القدس العتيقة، ولا أعرف متى تولّد داخلي ذلك الشعور الذي دفعني، قبل سنوات بعيدة، للابتعاد عن التجوال في حاراتها وفي شوارعها، رغم أنها كانت عندي، وعند «جليليّين» كثيرين مثلي، بمكانة الرئتين «وبيادر صبانا» وأملنا المشتهى.
كانت العطلة في فلسطين يوم الاربعاء الفائت، كانت زرقة السماء بعيدة والأقرب إلينا كان بياضها الصافي. تركت بيتي وفي داخلي رغبة قوية لزيارة القدس في هذا اليوم المميز. ركنت سيارتي في أحد المواقف مقابل «الباب الجديد» وقبل دخولي منه إلى «حارة النصارى» وقفت مع أصدقاء عرفتهم منذ كانوا موظفين في قسم أمن «بيت الشرق» أيام الكبير الراحل فيصل الحسيني. حاولوا استضافتي على فنجان قهوة في مكان عملهم الجديد، لكنني استعذرتهم وبدأت مشواري على طريق الحنين والوجع. ما زالت حجارة سور المدينة ملساء وضخمة وآثار دموع السماء بادية عليها فألوانها نارية واضحة وقد تخلصت من غبار الصيف ورمادية الخريف. أحسست، وأنا أقف قبالتها من بعيد، كأنها تخبئ بقايا وجوه آدمية، وأنها حجارة ذكية تهزأ بمن يختالون عِبر الزمن، وهي الحجارة وحدها بقيت رغم تبدل الأحوال وتعاقب الدول.
من مكاني رأيت عددًا من رجال الشرطة الإسرائيلية وهم يقفون، كالأقزام، في عروة السور. اقتربت منهم فكانوا مدججين بكامل عدتهم وعتادهم. كانت أجسامهم ضخمة وكان بعضهم يلبسون، رغم برودة الجو، قمصانًا قصيرة الأكمام تظهر عضلات سواعدهم. كانوا كالروبوتات وعيونهم تحملق ببرود آلي في وجوه المارة. وقفوا من غير حراك، إلى أن انقض أحدهم كصياد رأى فريسته فجأة؛ كانت عبارة عن ثلاثة شبان، قمحاويي البشرة، في ثياب عمال عائدين الى بيوتهم. طلب منهم الشرطي أن يقفوا على جانب الرصيف، ففعلوا وفي خلال ثوان حاصرهم رفاقه كأجسام مشبوهة. لم يستوقف هذا المشهد أفواجَ السائحين والزائرين ولا حتى سكان البلد المحليين. أخرج الشبان وثائقهم الشخصية. كنت قريبًا منهم فسمعتهم يناقشون أفراد القوة بعبرية احتلالية، وكان أحدهم يتهم الشرطي، بلهجة متحدية خالية من الخوف أو التردد، ويصر على أن الشرطة تنكل بهم اعتباطيًا، فهم يخرجون ويعودون من هذه البوابة بشكل يومي ويواجهون هذه المعاملة مرارًا.

لكل مدينة عريقة رائحة مميزة خاصة بها إلا «مدينة الصلاة» فلأنها مقدّسة لا تحتفظ برائحة بل أنّة يسمعها كل من يحفر في جدران تاريخها

لكل مدينة عريقة رائحة مميزة وبصمة أثيرية خاصة بها إلا «مدينة الصلاة» فهي، لأنها مقدّسة، لا تحتفظ برائحة واحدة خالصة، ولا تميزها بصمة، بل أنّة يسمعها كل من يحفر في جدران تاريخها. إنها ابنة السماء المدللة ونطفتها الفريدة؛ فمن منكم يعرف كيف تكون رائحة السماء الحقيقية؟ ومن قادر على وصف نكهة نطفتها المفضلة؟
مررت أمام مدرسة «الفرير» وتوجهت بعدها يسارًا فنزلت في شارع «البطركية الأرثوذكسية» الذي كان خاليًا من البشر، لاحظت أمامي مباشرة علمي البطركية ودولة اليونان وهما مزروعان فوق مدخلها، في مشهد يذكرنا برائحة البخور وبطعم الهزائم التي تشهد عليها جميع قباب المدينة وانحناءات قناطرها وعطور الياسمينات المنسية في حواشيها. كنت وحيدًا. أمشي في شوارعها ببطء يناسب كهولتي وعجز رئتي، وكذلك لطمعي في أن أثير غيرتها؛ فلقد جئتها يافعًا حائرًا، في أوائل سبعينيات القرن الماضي، لكنها صارت عشيقتنا التي نحلم بريقها في كل صباح ونعدو بلهفة في الأماسي الباردة وراء دفئها وحنانها. وصلت إلى ساحة عمر بن الخطاب، كان أمامي «باب يافا « أو «باب الخليل»، كما يسميه الفلسطينيون، فاغرًا فاه كأسد هرم ومتعب. كانت على يساري «قلعة داهود» وبجوارها مركز شرطة القشلة. أعلام إسرائيل مرفوعة عليها وعلى عدة مبان أخرى. عشرات اليافطات المكتوبة بالعبرية تزين مداخل الحوانيت، ابتداءً من حي الأرمن ونزولًا ألى بطن السوق حتى تصل الى دير «مار يوحنا» ومبان تاريخية أخرى.
لا مكان للندم ولا وقت للجوع. لم يعد باب الخليل موئل رياحنا ولا مبعث أملنا. إسمعوني أيها العرب فقد وقفت في ساحة عمر كزائر من كوكب بعيد وأمامي تتدلى أعلام اسرائيل وترفرف بترف؛ وثلة من رجال الشرطة الاسرائيليين ينتصبون كالرماح وكأصحاب المكان ويتصرفون كأحفاد داهود وأمناء الهياكل.
لا أعرف كيف مرت الدقائق، لكنني شعرت بالدوران وسمعت قهقهات تلفني من جميع الجهات. كانت أعداد كبيرة من الناس تدخل في أمعاء المدينة وفي أمعائي ومثلهم يخرجون منها ومني. كانوا يتكلمون بكل لغات الأرض فخفت على عربيتي وعلى «قاف» المدينة، فنظرت إلى فوق عسى تسعفني السماء، فلم أر سوى ثقب أسود كبير. شعرت ببرد شديد وبقشعريرة فهرولت شرقًا كأنني أركض وراء نعشي. وصلت إلى مدخل «سوق القصابين» ففتشت على رائحة المكان القديمة فلم أجدها؛ ثم دخلت إلى ما بقي من «سوق العطارين» الشهير فأحزنني هَيْلها. لم أشعر بتعب، رغم برودة الطقس واحتجاج «ابن صدري» الخائف. دلفت من سوق إلى سوق ومن ورد قنطرة إلى لعنة منطرة، وكنت في كل خطوة أشعر بغصة ومع كل شهقة كنت أبلع دمعة. لم يعرفني أحد من أصحاب الحوانيت، ولم أتعرف على أحد منهم. قضيت أكثر من أربع ساعات في رحابها كغريب يزور ميناء مهجورا. إنها قدس جديدة ومدينة تعودّت على ماجوسها؛ فأنا لم أجد عروستنا التي احببناها حين كانت قافها تعني القدوة والقدرة والقمر، والدال تعني الدولة والديَن والدليل، وسينها سيف وسماح وسناء.
وقفت تحت يافطة كتب عليه «سوق الخواجات»  كي أصورها قبل الرحيل. كانت معظم أبواب المحلات في هذا السوق مقفلة باستثناء عدد قليل منها.
«هل انت سائح» بادرني رجل في مثل عمري بلكنة مقدسية عصرية. ابتسمت، فخياري الآخر كان أن انفجر بالبكاء أمامه. عرّفته بنفسي، فاعتذر وقال: «نعم نعم أنت أشهر من نار على علم يا استاذ». فقلت أي نار وأي علم!
اسمه ابوجهاد وقد ورث دكان بيع الأقمشة عن أبيه، لقد حدثني أبو جهاد عن قصة «سوق الخواجات» الذي بنته الجالية الأرمنية قبل مئات السنين، فقد كان اسمه الأصلي «سوق الصاغة». هجر الصاغة الأرمن السوق واستأنفوا تجارتهم في «سوق أفتيموس»، فتحول سوقهم إلى سوق أقمشة فسمي «بسوق الخواجات» لأنه تخصص ببيع الأقمشة الفاخرة للمقتدرين ولأصحاب المال والجاه وهم «الخواجات» بلغة الباعة أهل المكان. في السوق سبعون دكانا لم يبق منها ناشطًا إلا ستة دكاكين صمد أصحابها مثل أبي جهاد، أما الباقون فهجروها ورحلوا.
هل انت حزين يا أبو جهاد؟ سألته فأجاب بهدوء الحذرين «وصفك لما يجري في القدس بالحزين غير كاف وغير صحيح» قال وأردف «يجب أن تجد وصفًا آخر»  قلت «غاضب ومقهور» فوافقني بهزة رأس. سألته على من أنت غاضب؟ وكانت إجابته عبارة عن سيرة هذه المدينة الكسيرة. لكنه وافقني، على أن أول المسؤولين عما جرى ويجري في المدينة هم أهلها، فلا يصح الاكتفاء بترحيل القصور إلى أعتاب السلطة الفلسطينية وتحميله كذلك على ظهر قمع إسرائيل. اتفقنا على أن الصمود هو صمود أصحاب البيت والقلعة أولًا، وبعده يكون العتب واللوم على قادة الوطن ورعاته.
عدت بعد قصة «سوق الخواجات» إلى سيارتي، فسألني رفاق الزمن البديع عن رحلتي وعما رأيته وأحسسته. لم أخبرهم بأنني لم أر «الإسراء» في جولتي ولم أشعر «بمعراج» المدينة. سكت فتحدث صمتي وفضحت عيناي سر المدينة.
ولأحاديث القدس بقية.
كاتب فلسطيني

 

 

الحركة الكسيرة الفلسطينية

جواد بولس

 

لم تفاجيء أحداث سجن النقب الصحرواي جميع متابعي آخر التطورات الجارية داخل معتقلات الاحتلال الاسرائيلي، وامعانُ المسؤولين في مصلحة السجون بتنفيذ سياسات الحكومة الاسرائيلية كما أعلنها وزير الأمن الداخلي جلعاد أردان قبيل انتهاء العام المنصرم.

لقد كان الصدام مع سجّاني الاحتلال متوقعًا، وذلك بعد أن شهدت معظم السجون، على مدار شهور ،  عمليات قمعية بحق الأسرى، وصلت في سجون عوفر وريمون والنقب إلى حد الانفلات غير المحتمل وتكرار عمليات تفتيش الأسرى الاستفزازية المذلّة، والمباشرة في وضع أجهزة تشويش الكترونية في تلك السجون على الرغم من تخطيرها على سلامة الأسرى وعلى صحتهم.

يعتبر اعلان لجنة أردان بشأن أوضاع الأسرى الفلسطينيين ومنظومة حقوقهم داخل السجون بمثابة تقويض شامل لواقع معيشي نجحت الحركة الأسيرة الفلسطينية بالوصول إليه وبتثبيته عبر مسيرة كفاح طويلة وصارمة، لامست في بعض محطاتها حدود المعجزات.

لقد أفشل أباء هذه الحركة ما كان الاحتلال يخطط لنيله ويتمنّاه، ونجحوا، بعد أن خاضوا  أشرس المعارك ازاء قمع السجانين، بقلب المعادلة رأسًا على عقب؛ ففي حين حاول السجان الإسرائيلي تدجين المقاوم الفلسطيني ومعاملته كمجرم وكارهابي يعيش في ظل القانون الاسرائيلي ومِننهِ، أصرّ هؤلاء المناضلون على أنهم أسرى حرّية وجنود يضحّون في سبيل كنس الاحتلال ولأجل حق شعبهم في الاستقلال وبناء دولته أسوة بباقي شعوب الأرض.

 لقد استوعبوا منذ البدايات، وبفطرة المقاومين الأنقياء، أنّ بناء الجماعة هو الضمانة الأكيدة لحماية الأفراد من خبث سجانيهم، والوسيلة الوحيدة لصدّ سياسات المحتلين الجدد، فأشدّ ما كان ذاك المحتلّ بحاجة إليه، وهو ما زال منتشيًا بسكرات نصره المظفّر ، هو ضفره بأرواح الفلسطينيين والتحكم فيها وراء القضبان، وابقاؤها تائهة كفرائس للخيبة وللهزيمة ولفقدان الأمل .

كانت السجون تستقبل أعداد المقاومين ببرودة الموت وكان هؤلاء يدخلونها قوافل تسير على دروب المجد والعزّة ؛ يجيئون فرادى و"خلايا"  فيأتلفون، رغم فحمة الزنازين، زرافاتٍ وأجيالًا من البنّائين الأتقياء شيّدت أرواحُهم، على طريق النور والفَراش، ما صار يعرف في تاريخ الكرامة البشرية باسم "الحركة الأسيرة الفلسطينية".

لم يكن قرار الحكومة الاسرائيلية المذكور مجرد نزوة عابرة، ولا يمكن لأيّة جهة فلسطينية احتسابه كردّة فعل تأديبية ضد أي فصيل أو مجموعة من الأسرى جراء قيامها أو عدم قيامها بفعل ما ؛ فحكومة نتنياهو تعيش حالة من الاقتناع الذاتي بأنها باتت أقرب من مسافة قدم عن القضاء على مشروع التحرر الوطني الفلسطيني؛ فالضفة المحتلة جُزّئت إلى كانتونات يعيش معظم سكانها مع واقعهم الجديد بسلام وباكتفاء وبقبول ظاهرين، في حين تمضي غزة، بخطى واثقة ودعاء، نحو مجهولها المعروف على ضفة الحلم الثانية، وذلك بعد أن شاخت منظمة التحرير وتحوّلت إلى قوقعة تحاول جاهدة أن تحمي من يعتاشون على أثدائها.    

هنا في بقعة هذه العتمة يجب أن نفتش عن الغاية الإسرائيلية الحقيقية القابعة وراء هذه الهجمة الشرسة على الأسرى الفلسطينيين، ووراء مخططات تجريدهم من جميع مستحقاتهم ومن حقوقهم المكتسبة وضرب وحدتهم، واعادتهم إلى مربع الصراع الأول حيث سيصر السجان على التعامل معهم كجناة وكإرهابيين وكأفراد لا يعترف بوجودهم الجمعي ولا بكونهم أبناء لحركة عريقة تجمعهم تحت جناحها.

لم تأتِ المحاولات الإسرائيلية الحالية من فراغ، فلقد استشعر القائمون على إعداد خطة سحق "الحركة الاسيرة الفلسطينية" بروز عدد من المحفزات والشروط التي وُظفت واستُغلّت في سبيل تسهيل المهمة المذكورة.

لن أعدّد تلك العوامل، فلقد تناولتها مرارًا، لكنني سأؤكد على أن الانقسام بين غزة والضفة، بين فتح وبين حماس، كان أخطرها وأقواها على الاطلاق، خاصة بعد أن "استوردت" قيادات الحركة الأسيرة مضامين ذلك الانقسام وقبلت به واقعًا يحدّد هوامش معيشتها داخل السجون. لقد غيّر هذا الانقسام أبجديات الصمود الفلسطيني؛ ونسف، عمليًا، ميراثًا نضاليًا ذهبيًا ما زال نثاره يتطاير على جهات الريح، ونحن نرقب ذلك بحسرة وبوجع وبخيية

يعيش الأسرى الفلسطينيون، في هذه الأيام، حالة من الاحتقان الخطير، وهم مهدّدون بشكل حقيقي بتنفيذ عمليات انتقامية ضدهم، فالترويج الرسمي لما حصل في سجن النقب مؤخرًا، ووصفه بعملية ارهابية نفذها مجموعة من الأسرى، يشي بما يبيّته السجّان؛ ويعكس نقل مهمة التحقيق في تفاصيل ما حدث  إلى وحدة الجرائم الخطيرة في شرطة اسرائيل، طبيعة النوايا الحقيقية المبيّتة ضد من اشتُبهوا كمشاركين في الاعتداءات على السجانين ومن سيقف أو سيتضامن معهم.

لقد استغلت الأحزاب اليمينية كلها حادثة سجن النقب وحرّضت على جميع الأسرى وعلى تنظيماتهم وعلى القيادة الفلسطينية المتهمة بدعم هؤلاء "الارهابيين" وبتشجيعهم ؛ ومن المنتظر أن تستأنف الحكومة الجديدة، بعد انتخابات الكنيست المقبلة، ما بدأته حكومة نتنياهو وأردان.  ولن يمضي وقت كبير حتى نشهد حملات "ثأر"  غير مسبوقة ستستهدف تفتيت أواصر الحركة الأسيرة وذلك كخطوة تمهيدية ضرورية، ستتبعها عملية "السحق النهائية"، التي ستضمن، كما يخطط منفّذوها، ابقاء ألاف الأسرى ككائنات بائسة تسعى وراء جوعها وتنام على أهدابها وتستأنس"بساعة  الشمس" الحزينة

لا أعرف على ماذا يراهن أسرى هذا العصر الرمادي، خاصة أسرى "فتح" و"حماس" ؛ فأوضاع الوطن، بشكل عام، مأساوية، ومدد الأشقاء لا يتعدى كونه أمنية لا يعوَّل عليها، والشعب منهك منهمك، ينطنط من خيمة للتضامن إلى سرادق عزاء ومنه إلى مسيرة متعبة.

 أنتم أبناء "الحركة الأسيرة"  فلا تقبلوا أن تصيروا أبناء "الحركة الكسيرة". وحدكم في بطن الحوت. قد تسمعون ذبذبات حجر هنا ونواح حنجرة هناك، لكن لا تراهنوا على  خز الوتر ولا على اشتعال الحنين في القصب، فإمّا أن تهدموا أسوار الفُرقة وتغادروا "مواكير" التحزّب وتستعدّوا لمعركة الكرامة المقبلة،  وإمّا أن تهِنوا آحادا وتتكسّروا أحزابا.

قريبًا ، وبعد أن ينقشع دخان الانتخابات المقبلة، سيضطرم جمر الحكومة الجديدة مجددا، وستلعلع نارها، فلا تراهنوا على أحبال سرركم البالية.   زنازينكم أوطانكم ونحن عشاق السراب وأبناء المنافي.  ليس مثلكم من يعرف قراءة أبجديات الدم ومن يجيد تفكيك الطلاسم؛ فلا تجازفوا بالقوافي، بل قفوا وحطّموا مراياكم، فلطالما مات الجنود، من قبلكم، وفازت "المسارح" والشاشات بالمراسيم وبالعلا وبجنى المواسم.        

 

 

خاطرتان

والطريق إلى النجاة

جواد بولس

 

لا يوجد إجماع بين المواطنين العرب في إسرائيل على حجم ومعنى خطورة التحولات الجارية في هوية وعقائد القوى السياسية التي ستتحكم في رقبة الدولة، وذلك في حالة نجاح معسكر بنيامين نتنياهو وحلفائه من «الكاهانيين» الفاشيين ومن جميع الحركات والأحزاب الدينية العنصرية والقومية العسكرية المتطرفة، التي تجاهر بمواقفها الاقتلاعية تجاه السكان الفلسطينيين، ولا أقل تجاه أرض فلسطين الكبرى.
«يستبشر» كثيرون في جميع أرجاء العالم العربي والإسلامي، وبيننا نحن المواطنين، خيرًا ويتمنون صعود اليمين الإسرائيلي الجديد، وبعضهم لا يخفي آماله ورغبته بتنامي قوة هذا اليمين، وزيادة سطوته وقمعه ضد المواطنين العرب بشكل عام؛ وتعتمد حجتهم في ذلك على مقولة الأجداد وعلى «حكمتهم» المخاتيرية الملتبسة، عندما كانوا يعجزون في مواجهة قضية وهي صغيرة فيتمنون أن تتعاظم لأنها «إذا لم تكبر لن تصغر».
وفي المقابل، هنالك رهط يثق بإيمان مطلق وبقناعة غيبية عمياء بأن السماء سوف تنتصر «لأمتنا»، وسوف يلحق جنودها الهزيمة ببني إسرائيل الغاصبين المستعمرين والكفرة، وتعيد الحق لأصحابه قريبًا أكثر مما نتوقع.
على جميع الأحوال، سبعون عامًا مضت ولم يرتدع قادة إسرائيل من صدى الدوائر ومن أحجامها، بل مضوا في بناء كيانهم ساعة كان قادة العرب والمسلمون يصرون على كونه كيانًا مزعومًا، في حين كان  بعضهم يخشونه ويستدرون رضاه بالخفاء؛ لا يعرف التاريخ معنى للحقيقة الخالصة، فهو، في إحدى تجلّياته، قفص للخرافات وفراش للأماني الخائبة، وفي غيرها هو عِلم الخواتيم والنهايات، لاسيما إذا كانت هذه هي نفسها بواعث للبدايات الجديدة ولمآلات يصنّعها الخيال والأمل. فما أقصر الذاكرة وما أطول الخيبة، لكنه نتنياهو، قرصان الفرص المستحيلة ومخصّب اليأس، يصر دائمًا على أن يلقننا أن الشرق ما زال واسعًا، وفيه لأشقائنا، العرب، اثنتان وعشرون خيمة، وتبقى إسرائيل وحدها ملجأً لليهود فقط.
لن أناقش من يؤمنون بقانون المطلق وبحتمية القدر، وكأنه يسير في اتجاههم فقط، فمثل أولئك سيجيبوني بأن تاريخ الأمم لا ينعكس بمرآة دولة عمرها ناهز السبعين سنة، ولا بما حققه شعب من انتصارات بلورية، ستزول بعد أن يسترد العدل عافيته؛ وكذلك لا يجوز  أن نستهين بوعد الله الناجز؛ فكم من امبراطورية درست وامّحت آثارها، وكم من الأقوام هانت وركعت أمام سهام الحق وإصرار أصحابه الأخيار. فانتظر يا «حنظلة». ما بني على باطل فهو باطل، يدعي أصحاب النكبة، ولا يضيرهم أن القول منقول عن  حكيم سفر «كوهيلت/ الجامعة» التوراتي ؛ فحتى لو تشاوف نتنياهو وجميع الصهاينة بأنهم أحيوا أمجاد أجدادهم بعد ألفي عام وبعثوا لغة كانت كالرماد في المواقد، وأشادوا العمارة والقباب من دون أن يتعثروا بسياط الملايين، أو عند أعتاب أدعية المؤمنين المتضرعين، لن تدوم لهم هذه النعمة وسقوط مملكتهم أمر مؤكد لا محالة. ورحم الله «طوقان» .

علينا ألا نراهن على من خذلونا ذات صيف؛ وعلينا أن نستعد اليوم لمواجهة ساعة الصفر القريبة

أنا لست ممن يؤثرون «العض على النواجذ» ولا انتظار برقة الدهر الحارقة،  ولست ممن يرغبون بالاستحلام على كرامة مدثّرة في خوابي القهر، أو أن أعيش وأنتظر  من دون استقرار وعدالة وسلام بينما تتراقص أمامنا «ظبات» شاكيد وأشكنازي، وتلمع في ساحاتنا رماح ريجف وغانتس، وتتوعدنا عنجهية «نتنياهوية» كنا قد خبرناها على جلودنا، وفي طعم المرارة الباقية في حلوقنا.
علينا ألا نراهن على من خذلونا ذات صيف؛ وعلينا أن نستعد اليوم لمواجهة ساعة الصفر القريبة، فحكومة سيشغل فيها «كاهاني» منصب وزير العدل ستضعنا أمام أزمات وجودية يومية، وحكومة سيكون فيها وزير التربية والتعليم من الدعاة لإنفاذ قوانين الشريعة اليهودية، واعتمادها كناظم أوحد لعلاقة الناس بدولتهم ستزجنا كل يوم في مأزق خطير وتدفع بنا نحو الهاوية.
لا اعترض على ممارسة الجميع قناعاتهم بحرية، فهذه كما قلنا وكررنا، حقوق مكفولة؛ لكنني، ومعي كثيرون، نشعر بأننا نقاد إلى «حتوفنا» باسم الحق العاري وباسم العدم، ومن قبل قيادات تفضل أن تتعظ بدروس من التاريخ وهم يحسبونها كبديهيات حليفة لنا ويتغافلون عما قدمه لنا، هذا التاريخ، من تجارب على مذابح القهر والهزائم العربية وغيرها. من سيقول لنا، بعد الانتخابات، كيف سنضمن نجاتنا؟ فإذا ما سلّمنا، كما يدعي كثيرون بيننا، بأن الدولة اليهودية لن تقبلنا كمواطنين شرعيين، وهذا افتراض صحيح، واذا لن نسعى، وهذا واجبنا كضحايا، من أجل اجتراح وسائل نضالية مبتكرة وكفيلة لحمايتنا من النار الوشيكة، فما العمل؟
من حين لآخر نقرأ عن وصفات لمفكرين يعرضونها علينا كمخارج من ورطتنا، ومن دون التقليل بمجهود من محّص ودرس واجتهد واستعرض، سنبقى بحاجة لمن يفهمنا بلغة بسيطة ومباشرة وعملية ما معنى، مثلًا، أن نتعامل، نحن العرب السكان الأصلانيين، مع اسرائيل «ككيان مستعمر» ؟
أو ما المعنى حين يقترح علينا البعض اقتفاء تجربة السود في أمريكا؟ بينما ينصحنا غيرهم بتبني تجربة السكان السود في جنوب إفريقيا حين ناضلوا ضد سياسات الفصل العنصري البيضاء؟ من دون أن نتفحص إذا كان واقعنا يستجيب فعلًا لتلك التعريفات، أتساءل كيف سيصرف حزب سياسي هذه الشعارات وسيحولها الى برامج عمل نضالية ؟ فعلى جميع من يطرح هذه الافكار من على منابرنا أن يلحقها بمقترحاته العملية المستساغة لدى الجماهير من أجل إقناعها وتجنيدها في مواجهة الجحيم المقبل. نحن بحاجة إلى النظرية والفكر، بشرط ألا تبقى معلقة على الشرفات كمعروضات لفن التنظير؛ فحالنا بعد هذه الانتخابات القريبة سيكون أعقد وأخطر مما هو عليه الآن، خاصة أنني على قناعة بأن كثيرًا من الوقود والزيت التي ستؤجج نار العنصريين سيلقيها بعضنا بأيديهم على نيرانهم، وذلك كما حدث في الماضي.

الإرهاب لا دين له

بعد الجريمة التي نفذها مأفون نيوزيلندي يدعى برينتون تارانت في مدينة كرايست تشيرتش، وقتل فيها خمسين مصليًا مسلمًا جاءوا متعبدين في مساجدهم، امتلأت الصحافة ووسائل التواصل والمواقع الاجتماعية وغيرها بآلاف النصوص، التي علاوة على شجبها الحاسم لهذه الفعلة النكراء الخسيسة، أكد أصحابها على أن الإرهاب لا دين له، فهل حقًا أنه لا دين للارهاب؟ أنا، وبعكس ما أجمع على تأكيده، اعتقد أن كل دين في ديانات العالم حمّال لبذور الفتنة والإرهاب. فالدين من غير المؤمنين سيتحول إلى مجموعة قصص وخرافات وحكايا، ومن خلالهم يكتسب مكانته كمنظومة فروض وتعاليم وقيم يتبعونها في حياتهم. ولا دين بلا إيمان، وإذا تحوّل الإيمان لأعمى ولمطلق صار الطريق إلى استعداء الغير قصيرًا، واحتمال قتل «غير المؤمنين» واردًا ومبررًا باسمه. وعليه فقد يكون القول أن لا دين واحد للارهاب هو القول الصحيح. وللحديث بقية

أمي
«أعدي من زهور اللوز والرمان يا أمي..قلادة، وأرتقي لي معطفي البالي..أرتقي قلبي، يا أمي، وأشلاء بلادي» .
هل قلت أن العالم بعدك ينقصه قلب والسماء قد ازدانت بأبهى نجمة.

كاتب فلسطيني

 

 

لا تتركوا الصناديق وحيدة

جواد بولس

 

أصدرت «حملة- المركز العربي لتطوير الإعلام الاجتماعي»، تقريرًا لافتًا تطرقت فيه إلى ارتفاع في منسوب التحريض والعنصرية الإسرائيلية عبر الشبكات الاجتماعية خلال عام 2018 مقارنة مع معطيات عام 2017، حيث تزامنت ذروة التحريض فيه خلال فترة تشريع قانون القومية وهجوم المحرضين على العرب، بأشكال لم يسبق لها مثيل، لا من حيث العدد ولا الكثافة ولا وقاحة المجاهرة وخطورتها.
اقترح على جميع المعنيين مراجعة تقرير «حملة» وقراءته بعين فاحصة، عساهم يستدلون من معطياته على بعض المؤشرات التي قد تدفع بهم إلى إعادة نظرهم في مواقفهم السياسية، لاسيما عند من ينادي بمقاطعة الانتخابات البرلمانية المقبلة، وخصوصًا من انضم منهم إلى تلك النداءات محتجًا أو مستاءً أو منتقدًا أو معاقبًا قيادات الأحزاب العربية، جراء «تصرفاتهم» خلال أزمتي المناوبة، ومحاولة استعادة تشكيل القائمة المشتركة.
لقد تبين من التقرير أن وتيرة كتابة منشور تحريضي ضد الفلسطينيين في عام 2018 كان بواقع كل ست وستين ثانية (بينما كانت وتيرة ذلك في عام 2017 كل احدى وسبعين ثانية) في حين وصل عدد المنشورات التي تضمنت دعوة لممارسة العنف ضد الفلسطينيين إلى (474250) منشورا. تعاطت نصف هذه المنشورات مع مواضيع سياسية مباشرة، وكان معظمها موجهًا ضد أعضاء الكنيست العرب وضد أحزابهم؛ علاوة على تخصص بعضها بالهجوم على شخصيات اعتبارية وإعلامية يهودية، كما حصل مع مذيعة الأخبار المشهورة أوشرات كوطلر وغيرها. لا يمكن إهمال هذا الواقع من قبل من ينادي بضرورة مقاطعة الانتخابات، أو من يقوم بتتفيه أهمية المشاركة السياسية للمواطنين العرب، وإلغاء دور النضال البرلماني وشطبه كرافد مهم، وليس وحيدًا، يتعدى كونه ممارسة لحق مدني مهم وعاكس لمكانة المواطنين داخل الدولة؛ فوجود عدد وازن من البرلمانيين العرب والديمقراطيين اليهود، يجب أن يبقى هدفًا نسعى إلى تحقيقه كاقلية تكافح من أجل بقائها على وطنها، ومن أجل المحافظة على شرعية وجودها، وعلى وجود مؤسساتها القيادية التمثيلية السياسية والأهلية والمدنية.
على قلة الأصوات اليهودية الديمقراطية سيبقى وجودها بالنسبة لنا، نحن المواطنين العرب في اسرائيل، بمثابة الضرورة الملحة، ويبقى واجبنا، كما قلنا مرارًا، أن نفتش عنها وأن نتواصل ونتعاون معها؛ فصوت واحد من هذه الأصوات يسبب زلزلة داخل المجتمع اليهودي، أكبر من بعض بيانات الشجب الصادرة عن الجامعة العربية، ويعيد إلى عُرض الشارع عناوين حاول اليمين وزبانيته على مدار الساعة ولسنين أن يمحوها من الذاكرة الجمعية، وأن يردمها كالحطام المنسي. فبعد الانتهاء من مشاهدة مقاطع الفيديو لخمسة جنود إسرائيليين وهم يعتدون بوحشية مقززة على والد فلسطيني، وعلى ابنه أثناء اعتقالهما، علقت مذيعة الأخبار في التلفزيون الإسرائيلي، أوشرت كوطلر، وعلى الهواء مباشرة وقالت «يرسلون الأولاد للجيش ويستعيدونهم وحوشًا بشرية، هذه هي نتيجة الاحتلال».

مقاطعتنا للانتخابات والبقاء في بيوتنا لن يفيدنا، والتمترس وراء الشعارات البراقة لن ينقذنا من الجحيم

لم تمض دقائق معدودة حتى انهالت على كوطلر آلاف التهديدات والتعليقات، ومن بينهم كان رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو الذي نشر على صفحته تعقيبًا قال فيه « أنا فخور بالجنود وأنا أحبهم، وأقوال كوطلر جديرة بكل الشجب».
لقد تزامنت قضية كوطلر مع تعقيب أطلقته مذيعة وعارضة أزياء إسرائيلية شهيرة أخرى اسمها «روتم سلع»، فهذه وبعد أن استفزتها أقوال الوزيرة ريجف حول مكانة المواطنين العرب في البلاد صرخت متسائلة على الملأ «متى، بحق الجحيم سيصرّح واحد من هذه الحكومة بأن دولة إسرائيل هي دولة لكل مواطنيها، فلقد ولد جميع البشر متساوون، والعرب هم أيضًا من بني البشر». مرة أخرى هبت جموع الظلاميين ضد هذه الشابة/النجمة، وهاجمت فيالق الإفك والعنصرية أقوالها، وتدخل مجددًا نتنياهو ليؤكد أن إسرائيل ليست دولة لكل مواطنيها، بل هي دولة لليهود؛ فمرت على إسرائيل غيمة شوشت على يمينييها صفاء بطشهم وهيمنته، واستفاق بالمقابل، زملاء لسلع وشرعوا في الدفاع عنها وعن مواقفها، وبرز من بينهم مذيع آخر اسمه آسي عازار ، فنشر على موقعه معلنًا «لقد فتحت روتم سلع أمس البوابة، وعلى جميعنا الآن، أن ننضم إليها وأن نتوقف عن الخوف من الكلام».
سيمر الكثيرون على هذه التفاصيل بدون اكتراث، وسيتلقفها البعض، كما يجيد ندافو الكلام وحرفيوه، باستهزاء وبإهمال، فمقاطعة الانتخابات عندهم أمر من علٍ ، وواجب من كبروا ليرووا « لمن يرثون بنادقهم سيرة الدم فوق الحديد».
النقاشات حول هذه المسألة، لم تنقطع منذ عقود ولم تتغير محاورها ومضامينها، بخلاف وتائر حدتها من جهة، ومن يقف وراءها ودوافع من يروّج لها من جهة أخرى؛ فعلاوة على من تمسّكوا بالمقاطعة المبدئية، مباشرةً بعد اسدال ستائر «النكبة»، لرفضهم التعاطي مع « قلعة بناها جنود يوشع بن نون من حجارة بيوتهم»، سنجد مجموعات جديدة، انضمت لهم لكنها لا تأتلف معهم على الدوافع العقائدية نفسها، ولا تسعى مثلهم لتحقيق الأهداف المعلنة، أو المضمرة ذاتها، وقد نجد منهم من يخدم ، بدهاء وبمزايدات وبالخديعة، أجندات غريبة ومعادية لحقوقنا، السياسية والمواطنية على حد سواء.
من المؤسف أن يخضع هذا الخلاف في وجهات النظر إلى ذات المؤثرات الصوتية المزعجة والاتهامات الهابطة والمتبادلة بين الفرقاء، فعلى ما يبدو، لم ولن يتحرر من شبّوا على ثقافات تخوين المختلف من سطوة جيناتها حتى في بعض القضايا الخلافية، التي يجب معالجتها بمسؤولية فائقة وبنضوج فكري يليق بمستقبل أقلية مهدد وجودها بشكل واضح وملموس.
لا يستطيع أحد التقليل من شأن من يؤمنون عن عقيدة وبقناعة ويمارسون بمفهومية مبدئية حقهم بمقاطعة الانتخابات النيابية؛ وإذا كان هذا الحق مكفولاً للأفراد فهو كذلك حق مكفول للأحزاب وللحركات السياسية والدينية، إلا أن هذه، خلافًا لحالة الأفراد، مطالبة بشرح دوافعها السياسية الحقيقية للناس وكيفية درء تبعات مواقفها على مصالح الجماهير، وعلى مكانة حقوقهم؛ وفوق هذا كله وقبله عليهم أن يكشفوا عن رؤاهم البديلة التي يقترحونها في سبيل تنظيم علاقات المواطنين بأجهزة ومؤسسات الحكم، في دولة يجاهر معظم قادتها بعزمهم على إقصاء مواطنيها العرب، وعلى إلغاء مكانتهم القانونية الفردية والقومية.
وتبقى التجربة بين ممارسة الحق بشكله المطلق والمنفعة المتأتية من جراء تلك الممارسة فيصلًا، فمستقبلنا ومصالح عامة الناس، مثلها مثل كبرى القضايا الانسانية، لم تخضع عبر التاريخ إلى قوانين العدل المطلق، ولا إلى جوهر الحق الخالص وبراءة الشعارات، مهما كانت هذه مقدسة أو واضحة، ومن مثلنا ، نحن أبناء الشرق، قد عانى من عربدة ذلك التاريخ وعهره، ومن إبهار الشعارات وسرابها؛ فهل سنمضي، مرة أخرى، نحو هاويتنا ونصنع من «جماجنا لعزنا سلما».
سأكرر ما قلناه في الماضي مرارًا ولا بأس بالتذكير، فلقد انتصرنا ببقائنا على أرضنا، وهكذا نجونا من نقمة الخيام؛ وقد أفشلنا مخططات تذويبنا أو تهجيرنا بإصرار آبائنا على عدم استذواق سمي الخنوع والمخاتلة؛ ولقد فوتنا على قادة اسرائيل فرصة تنفيذ أحلامهم بحكمة، وبرفض البقية الباقية للإقصائيْن، الذاتي أو المفروض عليهم، فتحولنا من بقايا نكبة إلى كيان صامد، ولم يكن هذا ممكنًا لولا سياسة « الواقعية الكفاحية» ووقوف بعض اليهود الديمقراطيين مع حقوقنا. لقد استفزت أقوال العنصريين الأخيرة رئيس الدولة رؤوبين ريفلن الذي، رغم انحداره من أصول يمينية جابوتبسكية ، تصدى، مرة أخرى، لأقوال نتنياهو وزمرته فصرح قائلًا «نقول بصوت عال وواضح إنه في الأونة الأخيرة بينما يطغى الفكر السياسي على كل منطق عرفناه، ظهر خطاب غير مقبول تجاه المواطنين العرب في إسرائيل» ثم تابع مؤكدًا «لا يوجد مواطن من درجة أولى ولا يوجد ناخب من درجة ثانية، فجميعنا متساوون أمام صناديق الاقتراع عربًا ويهودًا». مواقف هؤلاء اليهود لافتة ومهمة.
مقاطعتنا للانتخابات والبقاء في بيوتنا لن يفيدنا، والتمترس وراء الشعارات البراقة لن ينقذنا من الجحيم، والجلوس عند حافة البئر سيبقينا ننتظر «ذلك الغد الطائش وهو يمضغ الريح في ليالي الشتاء الطويلة»؛ ومن لا يصدق حكمة الهزيمة فليسأل ذلك الحصان، لماذا تركوه وحيدًا.
كاتب فلسطيني

 

 

الانتخابات الفلسطينية:

هواجس من إجازة مرضية

جواد بولس

 

مررت وما زلت بوعكة صحّية ألزمتني الفراش بضعة أيام، كسبت منها فائضًا من الوقت «وهدأة بال» لمتابعة تداعيات أخبار العالم وفي منطقتنا، بروّية وبنظرة شمولية رحبة، لطالما حرمتني منها الزحمة في حياتنا العادية، وتدافعنا وراء سرابها الدائم.
كلّ شيء حولنا تغيّر ويتغيّر بشكل جذري ودراماتيكي؛ وجميع شروط ولادتنا، كأقلية عربية صمدت في جحيم النكبة وعوملت على أرضها، «كعربوشيم/فئران» لتجارب المستعمرين الجدد، تبدّلت أو تبخّرت أو خضعت لعمليات تحوّل، اقتصادية/ اجتماعية / سياسية، لا يمكن في الحقبة المقبلة، إغفالها أو مواجهتها بالقوالب النضالية نفسها وبهديِ الشعارات التقليدية والهواجس النرجسية ذاتها.
في العالم أمست أمريكا سيدة الكون الجشعة، بينما لم تعُد روسيا كأمها «شمس الشعوب» التي استدفأت بنورها معظم الشعوب العربية، واحتمينا، نحن الفلسطينيين، بظلّ مطرقتها ومنجلها. فقد أبناء الضاد «عيونهم» وصارت العروبة، كبثينة ودعد وعزّة، وحْياً جميلًا للأناشيد وأعجازاً في القصائد. لم يعُد «الإسلام» عربونًا كي لا يذبح الأخ أخاه، بل صار إسلام جدّة خنجرًا في ظهر إسلام طهران وبخارى؛ وفي الشام بُعثت من جديد ملل الشهرستاني ونحله. وفي الصحراء غدا «الدون بن طرمب» أميرًا على «المؤمنين» الذين راحوا يضربون، كرمى لعينيّ شقرائه، أعناق «الخوارج» ويسحلون لأجله «الكفار» من أبناء القبائل. وصارت فلسطين أختًا للغيم ودمية من طين وغبار، ففقدت قدسها عند اعتاب السلاطين «دم البكارة» وحوصرت غزّتها وشُرّدت تفتش عن هاشمها وعن مهشّمها.

أنا كناخب ومواطن بحاجة لقيادة تقسّم ولاءها للجماهير ولمصالحها ولا تلهث وراء زعماء دول شقيقة أو حليفة أو غربية

لوهلة قد يظن المراقب أن قضية الانتخابات البرلمانية في إسرائيل، هي مجرد حدث ثانوي لا أهمية له في خضمّ ما يجري من تفاعلات صاخبة وأحداث دامية في جميع أرجاء العالم؛ وبالتالي فأهمية ما ستحققه القائمتان العربيتان اللتان تخوضان هذه الانتخابات، سيكون بحجم خربشة هزيلة على صفحة هذا التاريخ. هناك من يروّج لهذه المشاعر وهم يعرفون أن الواقع مختلف ومغاير، وهنالك من يغذيها برومانسية ثورية أو لإيمانهم الغيبي بأنّ النصر على إسرائيل، هذا الكيان «المزعوم» بات قاب قوسين ودعاء، والعدل، هكذا يؤمنون، رغم قهقهة الأيام، من سنن الحياة وفضائلها غير الزائلة. لم أوافق في الماضي مع من يلغي ضرورة مشاركتنا، نحن المواطنين العرب، في الانتخابات الاسرائيلية، أما اليوم فقد تعززت قناعتي كثيرًا بأهمية هذه المشاركة، لأن لنتائجها تأثيراً كبيراً على مستقبلنا وعلى مكانتنا في الدولة، لاسيما إذا تخيّلنا كيف ستتطاوس إسرائيل الجديدة كقلعة في المدى عامرة، وكيف ستقف جيوشها حماةً لقصور أخوتها العرب المستعربة والعاربة! كل من تابع الأخبار رأى كيف يبتلع ليل إسرائيل نجوم الشرق، ويفترش جرادها سفوح الهضاب ويلتهم طرابين الفجر وأنفاس الشجر؛ فقريبًا سيصبح «الولاء» في إسرائيل، عتبة للخبز وسلّمًا للعيش خارج الحفر، وستبحث هوية المواطن العربي فيها عن حيّزها الملتبس بين «سيقان البامبو» الشرقأوسطية وخرائب أحلام دارسة وخرائط من عدم.
لن اتطرق لقرار لجنة الانتخابات العنصرية التي قضت بشطب قائمة «الموحدة والتجمع» وشطب عضوية المرشح اليهودي في قائمة الجبهة الدكتور عوفر كسيف، فسأنتظر حتى تقرر محكمة العدل العليا في هذه المسألة، لأنني أتوقع أن تقبل التماسات المتظلمين وتلغي قرار اللجنة العنصري الجائر. هذا رهاني الحالي وقد أخسره، فالمحكمة العليا تنازع بعد أن اخترقتها كتائب اليمين الكاسر، حتى بات سقوطها في قبضته الفولاذية بعد الانتخابات مباشرة وشيكًا. لا أستوعب من أين يتزوّد المقاطعون بثقتهم المطلقة بصحة موقفهم، ولا أفهم كيف تضرّ مقاطعتهم للانتخابات بإسرائيل، ولا كيف تتأذى مصالحها إذا استمر الآلاف منهم بالدعاء عليها بالموت وبالتنظير، لكونها لقيطة فاقدة لشرعية الحياة، بينما يستأنف «الثوّار» و»الدعاة»، في الأصبحة، حياتهم الطبيعية كمواطنين يحيون في شرايينها ويعتاشون على أوردتها. حقهم في المقاطعة مكفول، ولكن واجب الأحزاب والحركات غير المقاطِعة، بالمقابل، أن تواجههم بالحجة وبالعقل. يوم المعركة قريب جدًا وسلوك المتنافسين في القائمتين ما زال تحت سقف التوقعات والضرورة، وبعضهم يصر على تصفية حسابات الماضي، رغم انهم كانوا، خلال مسيرة التفاوض، سواسية كأسنان المراوغة. لن يفيد النبش في الجروح، والغرق في نشوة النرجسيات القومية عقيم؛ أقول هذا وأتمنى أن أكون مخطئًا، ففي حين توجهت «الجبهة الديمقراطية» و»العربية للتغيير» إلى رئيس القائمة «الموحدة والتجمع» الدكتور منصور عباس وطالبته بتوقيع اتفاقية فائض أصوات بين القائمتين، فذلك «سيضمن الحفاظ على أصوات جماهيرنا وتعزيز التمثيل العربي والديمقراطي ويبث أجواء التعاون والعمل المشترك بين الكوادر والمؤيدين، وعموم أهلنا في الجليل والمثلث والنقب»، أصدر رئيس حزب التجمع الدكتور إمطانس شحادة، بعد أن سبقه لذلك زميله الدكتور عباس، بيانًا رد فيه على توجه الجبهة المذكورة أعلاه قائلًا «موضوع فائض الأصوات هو موضوع تقني وليس إنجازا وطنيا، كما قال زميلي عباس منصور. مجتمعنا بحاجة إلى قيادة جديدة تضع مصلحة الجمهور في المركز، عبر عمل جاد ومدروس، بعيدا عن الشخصنة والظهور الإعلامي بالمنصات والشعارات، لا بد من تراجعكم واعتذاركم قبل فتح صفحة جديدة بين الأحزاب، من أجل مجتمعنا».
لا أعرف من نصح «الموحدة والتجمع» برفض مبادرة الجبهة والتغيير، ورفض نهج المصالحة والتسامح غير المشروط، ولا أعرف إذا كان هو الذي نصحهم في حينه بتبني تكتيكاتهم التفاوضية في مرحلة ما قبل التكوين، لكنني على قناعة بأن النصيحتين لا تصبّان في مصلحة الجماهير ولا في مصلحة التجمّع أيضًا. لقد علّمَنا تاريخ الاقليات، أن مكاسب حروب الاشقاء ستبقى، كما كانت دومًا، مخاسرَ للنفوس، وتآلفَ النفوس سيبقى، كما كان دائمًا، قوة لا تجارى في الحروب.
ستنتهي المعركة الانتخابية صبيحة العاشر من إبريل/نيسان وسيفيق المواطنون العرب في إسرائيل على ظهور مراكب متعبة، وسيكتشفون أنها غير قادرة على مواجهة موج المملكة الجديدة، وسيدركون أنهم بحاجة إلى بحّارة جدد وإلى وسائل نقل عصرية وحصينة ومنيعة. لا أعرف إذا ما ستتراجع القائمة «الموحدة والتجمع» عن شرطها، فإمّا اعتذار الجبهة والطيبي، وإما الطلاق منهم والمضيّ في طريق النار؛ لكنني كناخب سيهمني ما سيكون بعد هذه الانتخابات. فأنا بحاجة إلى قيادة تعدُني بأنها ستعمل على إعادة النظر في جميع أواصر روابطنا، نحن المواطنين العرب، مع منظومات الحكم التي ستفرزها الانتخابات المقبلة، وتعدُني بإعادة النظر، بعيدًا عن الشعارات، في رزمة التعريفات الناظمة لمعنى حقوقنا المواطنية وكيفية انتزاعها من مؤسسات الدولة، حتى تلك التي تتصرف معنا بعدائية وبإقصاء ظاهرين. وأنا كمواطن وناخب بحاجة لحزب يتبنى قادته قضية محاربة العنف المستشري في مواقعنا بجدية وبمهنية وببرامج حازمة، تضمن علاوة على انخراط تلك القيادات في مواجهة مصادر العنف ميدانيًا، التأكيد على سعيهم وراء أجهزة الدولة المتهادنة مع هذه الظواهر، وعدم اليأس من ضرورة إلزامها بالتجند في هذه «الحرب»؛ خاصة بعد أن صرّح بعض المستشارين الأمنيّين الإسرائيليين البارزين بأنّ تصدّي أجهزة الدولة لظاهرة العنف بين العرب، يعتبر مصلحة استراتيجية قومية إسرائيلية عليا. وأنا كناخب ومواطن بحاجة لقيادة تقسّم ولاءها للجماهير ولمصالحها ولا تلهث وراء زعماء دول أجنبية، شقيقة أو حليفة أو غربية، أو وراء من يرفل في أحضان زعماء هذه الدول ويطرطش أتباعه بخمسات من فضة. وكذلك إلى قيادة تحارب التعصّب والمتعصّبين بلا مداهنة ولا طبطبة، وتقف في وجه من يدعو إلى الفرقة وإلى الفتنة وإلى إلغاء الغير ومحاربة المختلف.
ونحن بحاجة إلى قيادة لا تعمل من أجل ترسيخ انتماءاتنا الملّية واعتمادها كمساطر في تركيبات القوائم الانتخابية؛ فقد أثبتت التجربة أن تخصيص مقعد لدرزي أو لمسيحي أو لبدوي لم يمنع تلك التجمعات من الغرق في شرانقها؛ فالأَوْلى أن يواجه القادة ومؤسساتنا المدنية مَن وما ينمّي تلك الظواهر وما ومن يحمي ذلك الواقع، على أن يتمّ ذلك بوسائل مبتكرة ومؤثرة لا من خلال آلية أثبتت فشلها الذريع.
الانتخابات ستنتهي وسيُزهر نيسان مواجع جديدة ويهديها للجماهير التي ستبقى تفتش عن مراسيها وعن ولادة فجر جديد.
كاتب فلسطيني

 

 

القائمة المشتركة ، بقايا نيزك

جواد بولس

لم أفاجأ من الفشل في إعادة تركيب "القائمة المشتركة" وذلك لما أشرت إليه مسبقًا من أسباب أوصلتني الى قناعة مفادها بأننا نعيش آخر فصول "المغامرة" ونشهد انتهاء حقبة، شكّلت فيها "الأحزاب التقليدية" أهم وسائل التأثير على حياة الجماهير العربية، السياسية والاجتماعية؛ حيث أدّت تلك الأحزاب دور الناظم الأساسي والمؤثر في هيكلة انتماء الفرد ورسم معالم هويتة أولًا، وهوية المجتمع ورؤاه المختلفة، تباعًا. 

لم ينجح قادة الأحزاب والحركات المشاركة في تركيبة القائمة باستعادة لحمتها، ورغم تصريحاتهم، خلال فترة المخاض، وتغنّي بعضهم بمصلحة الجماهير العليا وتأكيدهم على أنّ بمقدور حزبهم أن يخوض المعركة منفردًا ووحيدًا ، رأينا كيف تمحورت جميع الخلافات، في الواقع، حول محاصصة الكراسي وتأمين مواقعها في القائمة المشتهاة المستغَلة. 

لقد اختلفتُ مع كثيرين عابوا على من يسعى ويناور من أجل تعزيز مكانة مجموعته وكسب أكبر عدد ممكن من الأماكن المتقدمة والمضمونة في القائمة؛فجميع من ينافس في الانتخابات البرلمانية، بشكل عام،  يطمح ويطمع للحصول على أكبر عدد من الكراسي، ومن لا يفلح في ذلك، فلا معنى لوجوده السياسي.

لا فائدة من الخوض والتفتيش عن المذنبين أو عن المستقيمين أو عن الانتهازيين  الذين "كشفتهم" عملية المفاوضات، كما أدّعى ويدّعي بعض الخائبين من تصرفات قادتهم أو  كما استشاط ضدهم بعض "المبدئيين"  الحالمين بعودة  " أيام اللولو"؛ فاليوم، وبعد أن قضي الأمر  وصارت النتائج ناجزة وواضحة أمامنا، على كل من  يؤمن بضرورة المشاركة في عملية الانتخابات أن يتجند لاقناع الآخرين بالتصويت لاحدى هاتين القائمتين.

على جميع الأحوال، فأنا من معسكر من يروا بأن خوض الانتخابات بقائمتين أفضل من خوضها بثلاث قوائم أو بأربع؛ وقد تثبت لنا الأيام أنّ التنافس السليم بين  القائمتين، إذا ضُمن، ليس أسوأ من إجرائها بقائمة مشتركة واحدة، خاصة بعد أن فشلت "المشتركة" منذ اقامتها بالخروج من حقول الالتباس والتخلص من إغواء التجاذبات ومن ممارسة التلعثم الذي قزّم ما أحرزه نوابها من انجازات ، وأبقاها في عروة خلافات الفرقاء والقادة.

عُرفت المفاوضات، عبر التاريخ، بأنها فنّ يعتمد على الصبر وعلى الخبرة وعلى الحيلة/ الخديعة وعلى قراءة المفاوض لعناصر قوته الحقيقية وقوة من يتفاوض معهم.

لا أعرف مَن من بين المفاوضين ومستشاريهم تحلى بهذه الشروط ومَن بعدِمها، ولكن سيتثبُت للمتبصّر  أن تخلي  "مجموعة الأربعة" عن  شعارهم "إما المشتركة وإما لوحدنا"  نتج لأنهم مارسوا نفس التضليل والمراوغة ذاتها، ويكشف، في الوقت ذاته، انهم عرفوا ، ساعة كانوا يناورون، بان حجم قوتهم، بعكس ما أشاعوا، لم يكن كافيًا لعبور نسبة الحسم ولا حتى قريبًا من ذلك؛ وقد استثني من ذلك قائمة الجبهة الديمقراطية.

ستبقى هذه التجربة مثارًا للجدالات وللاتهامات المتبادلة بين نشطاء الأحزاب الذين لا يعرفون كيف "يهضمون" واقع أحزابهم البائس الجديد ؛ لكنني أعتقد أنها تجربة جديرة بالدراسة وبالتلخيص، خاصةً بما عكسته، منذ لحظة اعلان الطيبي انفصال حركته عن المشتركة، وحتى إضطرار حزب "الضاد" والقومية العربية، حزب "التجمع الديمقراطي" أن يعلن، في وقت مبكر من المفاوضات، شراكته الاستراتيجية مع "الحركة الاسلامية" وذلك رغم كثرة التناقضات الأساسية بينهما وعمق الهوة في عدد من المسائل المبدأية؛ وإلى اعلان "الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة" والنائب أحمد الطيبي وحركته "العربية للتغيير" دخولهم  إلى "قمرة  الزواج القسري" رغم محاولات الطرفين، حتى اللحظات الأخيرة من موعد تقديم القوائم ، تأزيم الموقف بينهما وايصاله إلى لحظة اللاعودة .

كان لجوء الفرقاء إلى حل القائمتين من باب "مكره أخاك لا بطل"؛ وما شهدناه من تداعيات خلال عملية التفاوض يكشف، علاوة على الفشل في ترسيخ "موديل" القائمة المشتركة كوسيلة صحية لتمثيل مصالح المواطنين العرب في إسرائيل، عن وجود أزمة حقيقية في منظومة القيادة العربية المحلية، ويستدعي، من جهة أخرى، مجموعة تساؤلات حول ما كان يقصده كل فريق تغنى باسم " ارادة الشعب" ورقص على ايقاعات "مصلحة الجماهيرية العليا"؛  فتوصُّل الفرقاء، العرضي والتوفيقي طبعًا، إلى ذينك التزاوجين، رغم سعة الفروقات بينهم، كان في محاولة كل جهة منهم ضمان فرصة للدخول تحت قبة البرلمان الاسرائيلي وعدم البقاء خارجها مع شهادة وفاة شعبية.

كان جميعهم، من هذا الباب والمنطلق سواسية كأمشاط المراوغة، ولا فضل لحزب منهم على آخر  إلا بالوسيلة وبالفرصة وبإجادة الحيلة وفن الصبر، فالهدف، عندهم، كان واحدًا.

تنادي أصوات عديدة بين الجماهير العربية في اسرائيل إلى مقاطعة الانتخابات وذلك لأسباب عقائدية معروفة ؛ ولقد انضمت مؤخرًا جهات أخرى لنداءات المقاطعة وتراوحت "هويات" هؤلاء بين الخائب أو المدسوس أو اليائس أو الساذج؛ لكننا لا نستطيع التقليل من أهمية ما جرى في مسيرة التفاوض الأخيرة  كأحد أهم الدوافع المستجدة الذي خلّف استياءً جماهيريًا، سيشكل، بدون ريب، تحديًا جديًا أمام القائمتين وخطرًا حقيقيًا على فرص نجاحهما.

هنالك حاجة ماسة لمراضاة الناس، وللتوجه إليهم باحترام، سعيًا لاستعادة  ثقاتهم  وقناعاتهم بضرورة انخراطهم في العملية السياسية؛  فبعض قرارات القيادات تمت بفوقية مسّت كرامة الانسان الحر العادي، وأخرى جاءت ملونة بأصباغ أوصلت الكثيرين إلى قناعة بأن القيادة تغالط أو حتى تكذب وأن بعضها يعمل من أجل مصالحه الضيقة فقط .

اعتماد القيادات على شعار ينادي بضرورة اسقاط اليمين ومواجهته كمحفز رئيسي لمشاركة الانسان العادي في عملية الانتخابات وتصويته لاحدى القائمتين، فيه من الغباوة قسط ومن السذاجة رائحة ومن القصور درجات، لأن أكثرية من سينتخبهم الشعب في اسرائيل ينتمون إلى ذلك اليمين المقصود وإن ظهروا أمامنا بأقنعة مختلفة؛

فجدوا وسائل اقناع أخرى وخاطبوا عقول الناس بشفافية وبصدق وقبلها  اسعوا وتوصلوا حالًا إلى اتفاق يحرّم لغة التقريع والتخوين والمزايدات بينكم، ويشيع أجواء من الالفة السياسية، ونفسًا قياديًا ينقل للشارع روحًا من التوافق تبشّر بأن نجاح القائمتين هو هدف سامي ومصلحة حقيقية يجمع عليها الجميع .

أعرف أن في عالمنا الحاضر لن يستطيع حزب أو حركة سياسية ضبط تصرفات أتباعه، كما كان يوم كان الحزب خلية وصحيفة ومنشورا وانتماء يجيز  محاسبة الناشزين في صفوفه؛ ولكن، ورغم ذلك، ما زالت هناك قدرة وهامش لضبط بعض المحسوبين على قيادات الأحزاب وناشطيها المركزيين ومفكريها والمعدودين على أنهم من خيرة "أبواقها"  المجلجة , فهؤلاء يجب اسكاتهم، لا لمنعهم من التعبير عن أرائهم بل لأنهم يحرّضون ويفتنون .

يتساءل كثيرون من أبناء الشعب، بينهم العقلاء والتائهون والمحرَّضون واليائسون ، عن جدوى مشاركتهم في الانتخابات القادمة وعن ضرورة تصويتهم لاحدى القائمتين؛ فمهمتكم أن تجدوا الطريق إليهم والحجة لعقولهم ولقلوبهم.

أنا سأصوت طبعًا لإحدى القائمتين؛  لكنني لست مستشارًا حزبيًا، وأشعر أن الاستخفاف بمشاعر الناس، والاكتفاء باجترار الشعارات الفضفاضة والعامة، سيؤدي إلى التسريع في اختفاء شظايا من ذلك النيزك الذي أسميناه مرّة "القائمة المشتركة" .

 

 

أوقاف القدس في رعاية

ملكية وحماية رئاسية

جواد بولس

 

أصدر الرئيس محمود عباس، قبل أسبوع، قرارًا بإعادة تشكيل «اللجنة الرئاسية العليا لمتابعة شؤون الكنائس في فلسطين»؛ في خطوة مهمة ولافتة لم تحظ بما تستحقه من عناية وتقدير، خاصة بعد أن نُشر، قبل يومين، على صفحة «بطركية الروم الأرثوذكس المقدسية»، بيان يعلن بلغة عدائية واخزة عن تحفظات ما سموه «مجلس بطاركة ورؤساء كنائس القدس» على مرسوم الرئيس عباس وعن «عدم الرضى من تدنّي مستوى العضوية في اللجنة الجديدة».
سيدرك كل متابع لشؤون بطريركية الروم الأرثوذكس في القدس أسباب معارضة قادتها اليونانيين لمرسوم الرئيس عباس؛ فقد كانوا، خلال السنين الماضية، في «عين الأحداث» لاسيّما بعد أن تكشّفت تباعًا في الصحافة الإسرائيلية وغيرها تفاصيل عن صفقات بيع عقارات وتحكير أملاك تابعة لهذه الكنيسة، في القدس وعلى طول البلاد وعرضها. ورغم ما نشره الإعلام من وثائق فاضحة وحقائق دامغة لم تُستثر «اللجنة الرئاسية العليا لشؤون الكنائس»، برئاستها وهيئتها السابقتين، بل تمسكت بتموضعها المريح والموالي لإدارة الكنيسة اليونانية، ودأبت على مسايرة رؤسائها.
يعدّ مرسوم الرئيس، رغم تأخره، خطوةً متقدمة نحو تأطير وتصويب علاقة النظام الفلسطيني مع الوجود العربي المسيحي في فلسطين، وفق مفاهيم جديدة وصحيحة، من شأنها أن تعزّز صمود القلة الباقية من أحفاد وأتباع «يسوع الناصري»، وأن تدعم مطالبهم التاريخية وسعيهم الحثيث من أجل أن يكونوا شركاء حقيقيّين في إدارة كنائسهم وأملاكها بعد أن استبعدوا عنها وعوملوا «كأغراب» من قبل أغراب مستعمرين. سيؤثر بعض المشككين إدراج قضية اصدار المرسوم كهامش في سجل الإجراءات الروتينية التي يحكمها فقه البروتوكولات الإدارية، بينما سيعتبرها، وبحق، جميع من تعقبوا تداعيات «المسألة الارثوذكسية» في فلسطين كقفزة نوعية نحو إحكام دائرة، حاول كثيرون من المنتفعين في إسرائيل وفلسطين، طيلة عقود، أن تبقى عصية على الإغلاق؛ فقد سبق القرار الحالي للرئيس عباس موقفُه المعلن على لسان القيادي محمود العالول، نائب رئيس حركة فتح وعضو لجنتها المركزية في «المؤتمر العربي الوطني الأرثوذكسي» الذي انعقد في الاول أكتوبر/ من تشرين الأول 2017 في بيت لحم تحت شعار «أوقاف الكنيسة الأرثوذكسية قضية أرض ووطن وانتماء وهوية» والذي أكّد فيه بحزم على أنه «ما دام الأمر يتعلق بالأرض والممتلكات فهو يتجاوز موضوع أملاك الكنيسة، أو الطائفة، فالمتعلق بالأرض الهوية هو موضوع وطني عربي فلسطيني بامتياز».
بشّرت مخرجات مؤتمر «قصر جاسر» التلحمية بميلاد حقبة فلسطينية جديدة، أصبحت فيها قضايا الوجود العربي المسيحي في فلسطين والمحافظة على أملاك الكنائس وأوقافها، خاصة أملاك الكنيسة الأرثوذكسية المقدسية، شؤوناً وطنية لا لبس فيها. فبعد عام على انقضاء مؤتمر بيت- لحم المذكور، أدان أعضاء المجلس المركزي الفلسطيني في اجتماعهم المنعقد بتاريخ 15/1/2018 «عمليات تسريب ممتلكات الطائفة الأرثوذكسية للمؤسسات والشركات الإسرائيلية» ودعوا «الى محاسبة المسؤولين عن ذلك، ودعم نضال أبناء الشعب الفلسطيني من الطائفة الأرثوذكسية، من اجل المحافظة على حقوقهم ودورهم في إدارة شؤون الكنيسة والحفاظ على ممتلكاتها»، ثم كانت الخاتمة عندما أكد المجلس الوطني الفلسطيني في دورة «القدس وحماية الشرعية الفلسطينية» الذي انعقد في رام الله بين – 30/4/2018 ولغاية 3/5/2018 ، على توصية المجلس المركزي المذكورة أعلاه وأعاد المؤتمرون تضمين نصها حرفيًا في البند الحادي عشر لبيانهم الختامي.

مثلما طرد المسيح جميع اللصوص والسماسرة من الهيكل سيحظى جميع «المخلصين الأنقياء» بمستقبلهم المشرق في فلسطين الأبية

لا بد من سرد هذا التاريخ كي نضع المرسوم الرئاسي في سياقه التاريخي الصحيح، ولكي نفهم الغاية من إصداره في هذه الأيام بالذات؛ فعلاوة على ما سبقه من أحداث فلسطينية داخلية، كما أشرنا إليها مسبقًا، لا يمكن فصم قرار الرئيس عباس عن موقف الملك عبدالله الثاني ووراءه موقف القيادة الأردنية؛ فقد رفع الأردن، تاريخيًا، مكانة قضية الأوقاف، المسيحية والإسلامية، إلى مراتب الهموم الوطنية الكبرى، واعتبر ضرورة المحافظة عليها وعلى البقاء العربي المسيحي في فلسطين والقدس تحديدًا، وفي المملكة الأردنية الهاشمية، كأولوية وطنية أردنية ومصلحة عليا لا يساوم فيها.
ستصبح قراءة خطوة الرئيس محمود عباس أسهل إذا ما قرنّاها بما أصدره، قبل أيام، العاهل الأردني الملك عبدالله الثاني من تعليمات تقضي بضرورة زيادة ثمانية أعضاء جدد على نصاب مجلس الأوقاف الإسلامية الفعّال في القدس، في خطوة ملكية تحمل عدة دلالات لا يغفلها عاقل، خاصة إذا عرفنا أن المنَسّبين لهذه العضوية يعدّون من الشخصيات الاعتبارية المقدسية.
لقد استفز القرار الأردني جهات إسرائيلية عديدة، فاعتبروه خطوة من شأنها تقويض ما سموه «الوضع القائم» وتحديًا للسياسة الإسرائيلية؛ وقد ذهب بعضهم إلى اعتباره خطوة تمهيدية، تستهدف إحباط «صفقة القرن» التي ستقوم الإدارة الأمريكية بالإعلان عنها قريبًا؛ في حين نقل عن الصحافي يوني بن مناحيم قوله بأن «الخطوة تشكل انتهاكًا لاتفاقات أوسلو، وتمس بشكل خطير بالسيادة الإسرائيلية على القدس». وذلك، على ما يبدو، بسبب اشتمال قائمة الأعضاء الجدد على أطراف سياسية مسؤولة أو ذات علاقات مع السلطة الفلسطينية ومع حركة فتح. سيبقى المرسوم الرئاسي بمثابة الإعلان الصريح عن موقف فلسطيني وطني واعد ومبشّر؛ فهو علاوة على تسميته للدكتور رمزي خوري العريق رئيسا جديدا للجنة وإتباعها للصندوق القومي الفلسطيني، اعتمد آلية جديدة لانتخاب أعضائها وفق مواقعهم ومناصبهم الرسمية، على ما يعنيه ذلك من تحويل اللجنة إلى مؤسسة وطنية بامتياز.
إن حق الانتقاد مكفول للجميع، أما التهجم على الرئيس، بسبب مرسومه، وعلى أعضاء اللجنة الجدد فهو أمر مرفوض، رغم أن دوافع بعض المتهجمين واضحة؛ ولكن أن يشتكي ما سمي «مجلس البطاركة ورؤساء الكنائس في القدس» من «تدني مستوى العضوية في اللجنة الجديدة» فهذا يعد اتهاماً يحتاج إلى مساءلة مَن وراءه، وتجنياً يستدعي التفسير أو المحاسبة. فهل حقًا يقف جميع البطاركة ورؤساء الكنائس في القدس وراء ذلك البيان؟ وكيف سوّلت لهم أنفسهم اعتبار رئيس المجلس وأعضائه الجدد من «المستويات المتدنية» رغم تاريخهم وما يمثلونه من قطاعات شعبية واسعة ومؤسسات وطنية وسيادية رفيعة القامة والمستوى. لقد قلنا إن أعضاء اللجنة ينتخبون برسوم مواقعهم أو بانتداب مؤسساتهم أو وزاراتهم، فالتهجم عليهم، كما جاء في البيان المذكور، يمس علنًا شخوصهم ويمس معها جميع المؤسسات والمواقع التي ذكرها المرسوم الرئاسي وهي: ممثل عن الرئاسة الفلسطينية، رؤساء بلديات بيت- لحم ، ورام الله وبيت- ساحور وبيت- جالا ، ومحافظ القدس، وممثلان عن وزارتي الخارجية والسياحة ، وسفير فلسطين لدى الفاتيكان، ورئيس المجلس المركزي الأرثوذكسي العربي، ورئيس لجنة ترميم كنيسة المهد وممثل عن جمعية اتحاد الكنائس في غزة.
لقد هاجم الإعلام الإسرائيلي قرار الملك عبدالله الثاني، ولم يخفِ دوافعه لذلك، ولا مخاوفه من القرار الأردني/ الفلسطيني؛ وفي الوقت نفسه قامت بعض الجهات باعتراض ومهاجمة مرسوم الرئيس محمود عباس والتعدّي على من انتخبوا حسبه وعلى ما يرمزون إليه، ولا عجب من هذا التزامن؛ فلقد استفزهم الموقف الأردني الرافض لأي مساومة على أرض القدس، كما استفزتهم الصرخة الفلسطينية في وجه من يفرّطون بتراب وأملاك الوطن. توقعنا ردة فعل جميع من يخاف أن تتحول قضية الأملاك والعقارات الكنسية إلى مسألة وهاجس وطنيين؛ لكننا، بالمقابل، نحن في القدس ما زلنا نؤمن أنه مثلما طرد المسيح جميع اللصوص والسماسرة من الهيكل هكذا سيحظى جميع «المخلصين الانقياء» بمستقبلهم المشرق في فلسطين الأبية، ونؤكد أن صرخة «الفادي» مهما يحاول المغرّضون طمسها، ما زالت تجلجل في البلاد وتعيد «طوبى للرجل الذي لم يسلك في مشورة الأشرار، وفي طريق الخطاة لم يقف، وفي مجلس المستهزئين لم يجلس».
كاتب فلسطيني

 

 

القائمة المشتركة… نهاية مغامرة

جواد بولس

 

كلّما أمعنّا النظر في تداعيات أزمة القائمة المشتركة، خاصة بعد انفصال النائب أحمد الطيبي عنها في الكنيست، سيبدو لنا جليًا أنّ ما يحصل الآن ليس إلا فصلاً آخر في رحلة هذا «النيزك» نحو الارتطام الحتمي الأكيد؛ فهي وبمنأى عمّا ستفضي إليه محاولات إنقاذها وإحيائها، ستصبح بلا ريب، مجرّد تجربة لم تتوفر لها شروط البقاء، مذ ولدت في عملية قيصرية عاثرة، وإذا ما راهن البعض في حينه على عكس ذلك فعساه يرى كيف ستسجّل قريبًا في دفتر «الوفيّات السياسي»، وستُحفظ فيه تحت بند المغامرات المستحيلة التي خاضها بعض قادة الجماهير العربية في إسرائيل في زمن القحط والقهر والعجز.
لم تكن حكومة إسرائيل العدوّة الوحيدة للقائمة المشتركة، رغم ما استثمرته من جهود جبارة في محاربتها، ولم تتدخر في سبيل إفشالها مالًا ولا أبواقاً ولا عملاء، لكنّها مع كل ذلك، كانت ستفشل لولا وفر لها البعض أسبابًا ودوافع كانت كفيلة بتسريع القضاء عليها، كوليدة جاءت إلى هذا العالم وهي عليلة وضعيفة.
لن نكرر ما قلناه في الماضي، فالإبقاء على الإطار فقط كوسيلة تقنية جامعة لم يكفِ للحفاظ على وحدة الأضداد، ولا على رأب التصدّعات بين «الإخوة الأعداء»؛ ورغم مرور السنين وظهور الأزمات المتكرّرة، لم يسعَ الشركاء من أجل تطوير مفاهيم سياسية جامعة، واكتفوا بردّات الفعل الموضعية على سياسات الحكومة العنصرية، في حين حافظت كل مؤسسة حزبية أو حركية فيها على ميراثها الخاص، وعززته داخل أروقتها التنظيمية، مستمرة في التعامل مع الجماهير بالندّية التقليدية ذاتها مع شريكاتها، وفي كثير من الأحيان بالعداوة الموروثة نفسها من زمن حروب الواو والضاد وكل ألوان الوجع.
لم يقتصر همّ المشتركة على ما ذكرناه أعلاه، فقد عانت ربما أكثر، من الصراعات المستفحلة داخل الحزب الواحد بين قادته؛ وهي صراعات تحوّلت في بعض الحالات إلى معارك طاحنة رأيناها في الماضي ونراها في هذه الأيام أيضًا. فعلى الرغم من حدوث بعض تلك المعارك داخل الغرف الحركية والحزبية، إلا أنّ قعقعات بعضها ملأت أجواء مدننا وقُرانا، وأدّت إلى عزوف الكثيرين عن العمل الحزبي والسياسي، وبرّرت لآخرين تهجّماتهم على المشتركة ومركّباتها.
لم يجتهد قادة القائمة المشتركة في سبيل تطوير آليّات تشبيك متطوّرة وحقيقية مع الهيئات القيادية الأخرى العاملة بين الجماهير العربية، مثل لجنة المتابعة العليا لشؤون الجماهير العربية في إسرائيل، واللجنة القطرية للرؤساء، أو مع منظمات العمل الأهلي وما يسمّى بهيئات المجتمع المدني. لم ينبع ذلك عن قصور في الرؤى فقط، بل كان تعبيرًا حقيقيًّا عن افتقاد القائمة المشتركة إلى مقوّمات «الهيئة القيادية» المخوّلة لاحراز التقدم والتغيير، والقادرة على فرض «هيبتها» الريادية السياسية على مفاصل المجتمع، وبين أفراده. لم يقتصر فشل عناصر القائمة المشتركة على عدم تطوير رؤى سياسية جامعة أساسية، بل رأيناهم يستوردون المواضيع الخلافية إلى داخل صفوفها القيادية، ولم يكترثوا لكون بعض تلك المواضيع دخيلة على مصلحة الجماهير المحلية، ولا علاقة لها بهواجسهم الحياتية واليومية. فمن وقف منهم مع بشار استعدى من كان إلى جانب قطر، ومن هلل لبوتين أغضب أولاد أردوغان، وهكذا إلى أن تحولت هذه المناكفات لسهام تشبه تلك التي يغرزها مصارعو الثيران في جسد «ثورهم»، فتدميه بهدوء إلى أن يخرّ صريعًا.

واجهتنا أزمة المشتركة مع مخاضات واقعنا وخلاصتها أن لا حزب يستطيع العيش خارج «مياهه الإقليمية» وبدون حيّزه السياسي

لم يجتهد قادة المشتركة في وضع موقف أو خطة متفق عليهما ليكونا بوصلةً ترشدها في تعاملها مع الدولة ومع مؤسساتها،  فلقد احتفظ كل مركّب فيها بمواقفه ازاء الدولة، رغم كونها مواقف متضاربة ومتناقضة. لقد أدّى غياب الاتفاق على مواقف الحد الأدنى التي تتيح للقائمة، كجسم تمثيلي جامع، العمل تجاه ومع منظومات الدولة، إلى شللها أحيانًا، أو الى شططها أحيانًا أخرى، أو إلى ردّات فعل فردية استجلبت ضد منفّذها هجمات من المزايدات ومن التقريع، ما جعل القائمة تبدو مرارًا في مشهد «كراكوزي» لم يحبّب الناس بها، وذلك في أضعف الحالات. بات تاريخ تقديم القوائم لرئيس لجنة الانتخابات الاسرائيلية وشيكاً؛ ولا بدّ أن يستنفد جميع الفرقاء خلال هذا الأسبوع كل أحابيل المناورة والمساومة والمزايدة. ورغم ما صرّحوا به في الأسبوعين الأخيرين، أشك في أن يبقى الفرقاء على مواقفهم، وقد يدفعهم الخوف من السقوط إلى أن «يقبلوا» بما يطالب به كثيرون من بين العرب المؤمنين بأنّ الوحدة، حتى إذا كانت عرجاء، آمن وأفضل من رقص الفرادى «الحنجلي». فاذا تمّ ذلك لا أعرف، عندها، من سيدّعي النصر ومن سيبكي ككبش الفداء، لكنني على قناعة بأن أفعالهم كما شهدناها طيلة هذه الأسابيع قد زوّدت الكثيرين من عامة الشعب بجرعة أخرى من السأم ومن الغضب، كانوا قد تجرّعوا مثلها يوم اندلعت معركة المحاصصات بُعيد دخول باسل غطاس إلى السجن، فروح الانتخابات البرلمانية ما زالت ترفّ على الكراسي وما يطمح له أحمد يحلم به مازن وما يعشقه منصور يهواه يوسف.
إنها معركة لن تنتهي إلا اذا كان صمغ «الوحدة» بين الفرقاء أثمن من مقعد ومن «ايچوهات» منتفخة، يؤثر بعضها أن تقف على عتبة اسمها الشراكة كي تمر فوقها نحو سماوات الزبد والشعارات العابرة.
لديّ إحساس وعندي قناعة بأنّ القائمة المشتركة، في حلتها الرثة، كانت آخر الوسائل التي اضطرت الأحزاب والحركات العربية تبنّيها، في محاولة بائسة لضمان «بقائها» في عالم السياسية الإسرائيلية المتغيّر، ورغم انّ ما سوّغ قيامها قبل أربعة أعوام كان حاجة تلك الاحزاب لعبور نسبة الحسم المرتفعة، فهي لم تُقلع ولم تتحوّل إلى «ضرورة وجودية» وذلك لما ذكرته من أسباب،  ومن أخرى لا مكان لذكرها ههنا. ما انفكت جميع تلك الأسباب موجودة وستظلّ، إذ لا أرى كيف ولماذا ستزول، ولا من سيزيلها، فالمشكلة لا تكمن في فقه الوحدة، بل هي «ذاهبة بعيدًا في أجساد»  تلك الأحزاب، التي كما قلنا مرارًا، قد شاخت منذ زمن وتكلّست مساكبها.
وأخيرًا، لقد واجهتنا أزمة المشتركة مع مخاضات واقعنا وإفرازاته الحقيقية، وخلاصتها أن لا حزب يستطيع العيش خارج «مياهه الاقليمية» وبدون حيّزه السياسي، والأَولى بإدراك هذه الحكمة كانت وما زالت «الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة» وهي الخاسرة الكبرى من جميع ما حصل.
كاتب فلسطيني

 

 

القائمة المشتركة:

الحزب في مواجهة «النجم»

جواد بولس

 

ستُسجّل معركة الانتخابات المقبلة للكنيست كعلامة فارقة في حياة النظام السياسي الإسرائيلي، وقد تشكّل منعطفًا حادًا سيفصل بين مفهوم اليمين الصهيوني التقليدي، وذلك الذي تتحدث باسمه «النجمة الواعدة» وزيرة القضاء الحالية أييليت شاكيد التي أقامت مع شريكها «النجم» الوزير نفتالي بينيت حزب «اليمين الجديد»، ليكون اسمه إشارة واضحة تنقل، حتى لعسيري الفهم، حقيقة ما يخطط له «أمراء اسرائيل» الجديدة الذين لا يعتبرون نتنياهو ممثلًا حقيقيًا لليمين ويسعون لاستبداله وللسيطرة على مقابض الحكم وقيادة الدولة وتحويلها الى مملكة إسرائيل الكبيرة.
لن تنحصر انعكاسات هذه الانتخابات داخل المجتمع اليهودي فقط، فمن الواضح أنها ستترك أيضًا أثرًا كبيرًا بين المواطنين العرب في اسرائيل؛ أو ربما ستفضي إلى ولادة واقع سياسي ستظهر فيه أطر شبه حزبية جديدة وأدوات حركية اجتماعية/سياسية تعتمد على بنى بشرية «عصرية «، وتغيب عنه، في المقابل، أطر سياسية/ اجتماعية كانت تقود الجماهير على مدار عقود طويلة.
من المؤسف أن يقتصر جلّ النقاش بين المواطنين العرب وقياداتهم على قضية القائمة المشتركة وأن تحصر أبعاد هذه النقاشات في مدى أهمية إبقائها كقائمة مركبة من أربعة عناصرها الأصلية، من دون الخوض في أهم ما كشفته هذه التجرية، حين اصطدمت في «اللغم» الذي ألقاه أمامها النائب الطيبي.
لن أراهن على مواقف الأحزاب النهائية إزاء هذه الأزمة، فهذه لن تحسم أمورها قبل اقترابها من خط النار الحقيقي، وقبل أن تستعرض «الحركة العربية للتغيير» قوتها في مؤتمرها المزمع عقده هذا المساء، حيث من المتوقع أن تحشد له جيشًا عرمرمًا لتغص به القاعة في مشهد «بولشيفيكي» يمكّن النائب الطيبي من استثماره في وجه من كانوا شركاءه، من جهة، أو كرافعة انتخابية في حالة مضيّه منفردًا للمعركة، من جهة ثانية.
في هذه الأثناء وإلى أن يقضى أمر، سيستمر جميع اللاعبين في استعراض مهاراتهم القيادية وفي مناوراتهم على ملعب المشتركة، لكنهم يعرفون، في الوقت ذاته، معنى المقامرة وثمن المغامرة، فجميعهم يحفظون جداول «الضرب» ويشعرون بوجع الطرح والخسارة، ويقيّمون فوائد الجمع ونعمة القسمة، خاصة بعد أن بات مجموع حاصل المنتخِبين العرب محسوبًا بدقة تقريبية لا تقبل التصرف والافتراض.
لقد عزز تعهد علي سلّام رئيس بلدية الناصرة، الذي أعلنه على الملأ في السادس من الشهر الجاري «على إعادة القائمة المشتركة في الكنيست بمركباتها الأربعة شرط أن يكون النائب أحمد الطيبي رئيسًا للقائمة»، مواقف من راهنوا على عودة الطيبي للمشتركة بشروطه، وبعد تحسين مواقع حركته في صفوف مرشحي القائمة بشكلها النهائي.
لقد أطلق علي سلام تصريحه عندما كان النائب الطيبي يقف على يمينه، بيد أن هذا المشهد لم يمنع عضو المكتب السياسي في الحركة العربية للتغيير يوسف شاهين، من الخروج مباشرة إلى الإعلام ليعلن أنهم «خارج المشتركة ولا نريد رئاستها أو مقاعدها» من دون التطرق، من بعيد أو من قريب، إلى تصريح علي سلّام مبقيًا أياه على مكانته ومعناه في هذا الحراك السياسي المتفاعل.
على جميع الأحوال، لم تتخلف الحركة الإسلامية عن إشهار موقفها في هذه المساجلة، فهي وعلى لسان قادتها كانت قد أعربت عن تفضيلها لخوض المعركة بقائمة مشتركة تضم جميع مؤسسيها، وإلا ستخوضها كقائمة منفردة، في موقف صريح من شأنه أن يزج النائب الطيبي في معضلة كأداء، لأنهما، في حال خوضهما المعركة بقائمتين منفصلتين، سيتنافسان في عدة مواقع، على الأصوات نفسها وعلى الجمهور ذاته.
من خلاصات هذه التجربة يتضح أن استقواء النائب الطيبي على زملائه لم يكن مجرد نزوة أغوته على اتخاذ قراره، بخلاف ما فعله منذ بداية حياته النيابية، فخطوته كشفت عمليًا عن محركات العملية السياسية، كما تجري في مواقعنا، وهي ابنة ما يجري على نطاق أوسع عالميا ومحليًا؛ فنحن نشهد كيف تحوّلت المجتمعات، اليهودية والعربية، من مجتمعات تتخلى عن المحصِّنات «التكافلية الجمعية» وتقدم عليها الدوافع «الفردانية»، وتحولت كذلك من حالة شكّل «الكل» فيها محور الوعي الاجتماعي والسياسي إلى حالة صار فيها «الأنا» يشكل عصبها المركزي ولحاء حياتها.
لقد خضعت مجتمعاتنا إلى تأثيرات عديدة، أدت، بمجملها، إلى تراجعنا من «مجتمع/أقلية مجندة» في سبيل قضايا جمعية، إلى أفراد يسعون وراء سعاداتهم وراحاتهم وفق قوانين ومعطيات جديدة؛ فقد تحسنت الأوضاع الاقتصادية بشكل ملحوظ بين شرائح اجتماعية واسعة، وانخرطت قطاعات مؤثرة من «عربنا» في مرافق الدولة، وشرعت هذه تربط مصالحها في «سرة» مشغّليها، وارتفعت نسب الأكاديميين والأكاديميات فهُيّئت مناخات ساعدت على تطوير ونشوء مفاعيل اجتماعية/ اقتصادية جديدة حيّدت بدورها أهمية الأحزاب وراهنية الأيديولوجيات السائدة؛ علاوة على انفتاح شبابنا على العالم من خلال وسائل التواصل الحديثة وانغماسهم في هواجس أبعدتهم تلقائيًا عن «نادي الحزب» وعن دوراته التثقيفية المملة.
إنه واقع جديد جدير بالدراسة والمواجهة واستخلاص العبر، فبعد ما جرى داخل مجتمعاتنا صارت العودة الى حضن العائلة ضرورة، واللجوء إلى الحمولة ضمانة، وتحول الحزب «والقضية» إلى عالمين افتراضيين والمعبد الى ملاذ و»النجم» الى قدوة ولقمة العيش صارت غاية دونها كل الوسائل!
لقد بدأت الانهيارات قبل سنوات في مجالسنا المحلية والبلدية، ومن لم يستوعب أنها قدر سيغزو حتمًا الساحة البرلمانية كان أعمى في عيون «روسية» أو عيون «عربية».
لا أعرف كيف ستنتهي هذه الأزمة، فقد يعود الطيبي للمشتركة محمولًا على «هودج»، كما يناسب ما ومن «هوْدجوه»، ولكنني أعرف أن أزمة الأحزاب التقليدية لن تنتهي مع انتهاء المعركة الانتخابية النيابية المقبلة، بل هي في الواقع قد بدأت، وإذا لم تواجه فسيجد قادتها انفسهم بعد خمس سنوات لا أكثر من «سادة» على هياكل أو على خرائب.
وأخيرًا، فقد يأفل نجم أحمد الطيبي بعد حين ويبقى أثره ملتبسًا ولن يزول؛ فسماواتنا تضج «بالنجيمات» وهي تتأهب من ظلمتها وتنتظر تحقيق نجوميتها «الجماهيرية»؛ بينما ستبقى، من دون ريب، الحركة الاسلامية موجودة كمفاعل وازن ناشط بين ظهرانينا، إذا ما بقيت تمتح شرعيّتها من ماء السماء ومن حركات عابرة للحدود وللقوميات وللاوطان.
أما الجبهة الديمقراطية، فاذا لن تدرك ولم تتدارك «مصائبها» فقد تواجه ما يواجهه اليوم حزب «التجمع»، الذي أتمنى، رغم أنني لم أكن من داعميه يومًا، أن يبقى موجودًا وفاعلًا على ساحة العمل السياسي البرلماني بيننا، فللجبهة بخلاف الآخرين، تاريخ عريق ورصيد نفيس وعمق يميّزها ويحصّن بقاءها في هذه المتغيرات الخطيرة، لأنها، علاوة على ما ذكر، هي الحزب الوحيد في هذه الدولة «المستهودة» الذي يؤمن بالشراكة، مع القوى اليهودية الديمقراطية التي يجب أن نفتش عنها أو أن «نخترعها».
يتبع

*كاتب فلسطيني

 

 

ويكفي الناخب

 شر تجربة واحدة

جواد بولس

 

من المنتظر خلال الأيام القريبة، أن تنتخب معظم هيئات الأحزاب العربية أسماء مرشحيها الذين سيمثلونها في انتخابات الكنيست المقبلة. ومع إنجاز هذه المرحلة سيتحتم على الجميع التوقف عن لعبة «عض الأصابع»، وحسم قضية مستقبل القائمة المشتركة بدون مناورات أو مقامرات أو مزايدات.
وبعيدًا عن تأييد أو معارضة قرار النائب أحمد الطيبي، وحركته العربية للتغيير ، بالانفصال عن القائمة المشتركة، فقد شاهدنا كيف سبّبت خطوته حراكًا سياسيًا استثنائيًا داخل مؤسسات معظم الأحزاب والحركات العربية، وتفاعلًا نشيطًا بين النخب والمثقفين، واحتدامًا للجدالات في الشارع العربي عمومًا، حيث بدا وكأنه يصحو من «خبله السياسي» المستشري، ومن إحباطاته التي عزّزها سلوك قيادات القائمة المشتركة، خاصة خلال ما يسمّى بأزمة التناوب، أو صراع الكراسي والبقاء.
لقد نُشرت وانتشرت، في أعقاب خطوة الطيبي، عشرات المقابلات المتلفزة والمسموعة والمقالات «والستاتوسات»؛ ومن اللافت أن أصحابها لم يتّفقوا، كما هو متوقع وطبيعي، على موقف يُقرّ بكون القائمة المشتركة، بمركّباتها الحالية وبطريقة أدائها السابقة، أفضل الخيارات وأسلمها، وأنها الضمانة المثلى لمواجهة سياسة اليمين الإسرائيلي المستوحش. لقد رمى الطيبي، لأسبابه الخاصة، حجَره في بركة من سراب، فتكشفت «المنارة» وهمًا ومعضلة، رغم ما ردده الحلفاء، طيلة سنين الوحدة، كأحفاد قوم آمنت قبائله «بأن العصيّ إذا اجتمعن تأبى تكسرا، واذا افترقن تكسّرت أحادا». بفذلكة دعائية أعلن معظم القياديين السياسيين، بمن فيهم الطيبي نفسه، على أن خيارهم الأول كان وسيبقى الوحدة والعمل المشترك، لكنّ بعضهم أردفوا، بهدي حكمة «الأمير» ومن باب المناورة – كما جاء في تصريح للدكتور منصور عباس، نائب رئيس الحركة الإسلامية الجنوبية، ورئيس القائمة العربية الموحدة، وعلى لسان بعض قيادات الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة – أن حزبهم سيخوض معركة الانتخابات المقبلة وحيدًا في حالة فشل محاولات إعادة الطيبي وحركته إلى حضن القائمة المشتركة. ستخبرنا الأيام من كان منهم صادقًا ومن لم يكن إلا مناورًا.

شعار الوحدة قد يكون أجمل اليافطات، لكنه قد يصير، في المقابل، رداءً رثّاً يؤذي ما تحته ولا يحميه

تقوم جميع الأحزاب، في هذه الأيام، بعمليات تقييم وحسابات لمدى قوتها الحقيقية، بمنأى عن هواجس الإعلام وضروراته وعن هرطقات الدعاية وأهميتها، فأثر القرار الإسرائيلي برفع نسبة الحسم لم يختبر بشكل واقعي، ولم يمتحن تأثيره على حظوظ نجاح الأحزاب العربية، وعلى دخولها للكنيست إلا من خلال القائمة المشتركة فقط؛ علاوة على أن الاعتماد على نتائج استطلاعات الرأي، عندنا نحن العرب، مثله مثل التعويل على تعاويذ «قارئة الفنجان» وهي تطمئن «الأسمر» الجالس أمامها وترجوه، جزافًا، بألا يحزن؛ في حين يبقى الاستدلال بنتائج الانتخابات المحلية مؤشرًا محدودًا، لا يجوز الاطمئنان له والركون إليه بشكل حاسم.
لقد اعترفت القيادات، بعد انسحاب الطيبي، بأن القائمة المشتركة ارتكبت أخطاء ووقعت في هفوات، وقد ذكر جميعهم أزمة التناوب، وأشار بعضهم إلى إهمالها تطوير مضامين سياسية مشتركة، لو أنجزت، كانت ستساعدهم على تمتين وحدتهم وعلى عدم إبقائها مجرد شراكة تقنية هشة ومعرضة للزلات والمشاحنات، التي ساعدت على ابتعاد الناس وفقدانهم الثقة بالقائمة، وإلى عزوفهم عن العمل السياسي، حتى البدائي منه، الضروري لصقل هوية الفرد وانتمائه المجتمعي السليم.
سيبقى النقاش حول ضرورة العمل الوحدوي، رغم إقرارنا بحيويته وضرورته في هذا الواقع الإسرائيلي الخطير، مجرد عنوان نظري وشعاراً لا رصيد له في هذه المعطيات السياسية الحزبية العربية؛ فأنا لا أعرف لماذا يراهن مؤيّدو إعادة بناء القائمة المشتركة على تعزيز حتمية نجاح الوحدة، رغم ما أثبتته التجربة في السنوات الماضية؟ ولا أعرف كيف بنى هؤلاء الدعاة افتراضهم القاضي بأن الشركاء سيتصرفون، هذه المرة، بشكل مختلف عمّا تصرفوا في الماضي؛ علمًا بأننا لم نقرأ تلخيصًا مهنيًا واحدًا استعرض فيه حزب أو حركة مشاركة في القائمة مراحل تلك التجربة، وضع فيه الخلاصات والأصابع على النواقص وعلى الهفوات مقابل الإنجازات أو اقترح من خلاله الحلول والضمانات لتحسين الأداء. فخلال سنين التزاوج لم تنقشع غيوم البغضاء من سماوات شركاء «الدرب والمصير»، ولم تستثمر معظم الهيئات الحزبية جهودًا جدّية في قطع دابر الملاسنات، ولم تُبدِ القيادات نواياها لدفن ضغائن الماضي، بل كان بعضهم يشجّع، إما جهاراً وإما بالخفاء، استمرار المناكفة، ويؤجّج استعار المشاحنات، لأنها كانت بالنسبة لهم أضمن الوسائل للمحافظة على ولاء الجيوش، وعلى تخندقها وراء جنرالاتها في المعسكرات الحزبية؛ أمّا الوحدة المعلنة فلم تكن في الواقع، أكثر من صبغة لأقنعة أخفت أنيابًا عطشى. لن يناقش عاقل على أننا، نحن المواطنين العرب، بحاجة إلى بناء جبهة عريضة، تكون قادرة على الصمود في وجه غول الفاشية المنفلت في مواقعنا؛ ولكن لن يكفي هذا الإقرار لتحقيق هذه المهمة، إذا لم يرافقه اتفاق بين الشركاء على تحديد معسكرات الأعداء مقابل معسكرات الحلفاء، وإجماع على وسائل المواجهة وميادينها. فنحن لسنا في معرض مناظرة أكاديمية، ويكفينا بتجربة القائمة المشتركة برهانًا على أن شعار الوحدة قد يكون أجمل اليافطات، لكنه قد يصير، في المقابل، رداءً رثّاً يؤذي ما تحته ولا يحميه. فهل سنجد ملجأنا الوحيد في استعادة ابن القائمة «الضال»؟ أم سنلقى في إعادة بنائها خلاصنا الأكيد؟ أشك في ذلك! فكما في الماضي، سيبقى في المستقبل دوف حنين وأيمن عودة حليفين «للشيطان» لأنهما ابنان لحزب يؤمن بأن زهافا جلئون وأبراهام بورغ وأمثالهما هم حلفاء للعرب في معركتهم ضد الفاشيين، وأشك في ذلك! لأنني لا أعرف كيف يمكن أن يتعايش، تحت سقف واحد، من يرى في بشار الأسد حاميًا لعرين عروبته ولكرامته، مع من يرى في أردوغان سلطانه أو في طول عمر الأمير المفدى مآله؟ وأشك في ذلك! لأنني لا أستوعب كيف سترضى حنين زعبي مثلاً التنازل لمن لا يستطيع، رغم انفتاحه الصادق، إلا أن يسوّغ زواج الرجل بأربع، كما تأمره الشريعة وقوانينها؟ وأشك في ذلك! لأنني لا أفهم كيف ستصان الوحدة بين أحمد الطيبي ومن يعتبره عميلًا لسلطة رام الله و»لأذناب» أوسلو.
وأخيرًا، نحن بحاجة إلى إقامة جبهات نضالية حقيقية؛ هي ربما ثلاث جبهات، لكنني اقترح، ونحن عند أعتاب المعركة، إقامة جبهتين، تشترك في الأولى كل القوى العربية التي لا ترفض التحالف مع جميع القوى اليهودية، غير الصهيونية والصهيونية، والتي تؤمن بضرورة إنهاء الاحتلال الاسرائيلي والتصدي للقوى الفاشية، وبضرورة محاربتها على جميع الأصعدة وفي كل الميادين ومن أجل إقامة نظام حكم ديمقراطي حقيقي. والجبهة الثانية ستكون عربية – عربية تجمع كل من تبقى من قوى سياسية لا تقاطع الانتخابات، وترى في الكنيست حلبة للنضال المدني ووسيلة كفاحية مقتصة من مواطنتنا في الدولة.
ويكفي العاقل شر تجربة وحدة؛ فقد نكتشف أن خوض الانتخابات بقائمتين/ جبهتين سيكون أنجح من خوضها بقائمة مشتركة واحدة، شريطة أن يتمّ توقيع اتفاقية فائض أصوات بين القائمتين، وأن تتعهدا بالمحافظة على أجواء تنافسية إيجابية غير عدائية، وأن تعملا على زيادة أعداد الناخبين ومحاربة نداءات المقاطعة وتأثير حالات الركود السياسي المتنامي.
يتبع..
كاتب فلسطيني

 

 

 

 

 

 

الرئيسية || من نحن || الاذاعة الكندية || الصحافة الكندية || اتصل بنا