الرئيسية || من نحن || || اتصل بنا

 

  

*محمود حمد فنان تشكيلي عراقي من جيل الرواد صحفي وكاتب صدرت له رواية (ذاكرة التراب)

حكاية ونَص:

الأزمنةُ العراقيةُ!

محمود حمد

ذات مكان في العراق…تَرَاءى لي أني قابع في صندوق لا مرئي اسمه (الزمن)... أثار فيَّ ما يشغلني عند كل شهيق وزفير... أدرك أن لكل أمرئ زمنهُ، ولكل شعبٍ زمنهُ، ولكل مكانٍ زمنهُ، بل ولكل زمانٍ زمنهُ!

تختلف الأزمنة في نشوئها، وتتنوع في محتواها، وتتبدل في خط سيرها، وتتنازع في مكانتها!

لكني كثيرا ما أسأل نفسي:

هل نحن نمضي في الأزمنة؟!

أم أن الأزمنة تمضي فينا؟!

هل نحن نمحو أثر الأزمنة فينا؟!

أم الأزمنة تمحوا أثرنا فيها؟!

هل الأزمنة تتغير بفعلنا؟!

أم نحن الذين نتغير بفعلها؟

هل زمننا الشخصي استعارة من الزمن المطلق؟!

أم أنه شرط لوجود الزمن المطلق؟!

هل الزمن موجود بفعل وعينا؟!

أم أنه موجود قبلنا وبعدنا؟!

هل نشوء الصيرورة بنت الزمن؟!

مثلما سَكرة الموت أختها؟!

هل نحن من ماضي الزمن؟!

أم من حاضره؟ أم من قادم أوقاته؟!

هل يغيرنا الزمن؟!

أم أننا نلوثه تارة، وأخرى نجلي عنه الغبار؟!

هل بإمكان الزمن أن يغير كينونتنا؟!

أم أنه لا يُحسن سوى تغيير الطلاء؟!

هل الزمن من صنع الإنسان؟!

أم الإنسان من صنع الزمن؟

هل هناك جغرافيا تَحِدُّ الزمنَ؟

أو تاريخ يؤشر ميلادَه وفناءَه؟!

هل ما ننبذه من زمننا عالق فينا؟!

أم أننا لا نكون (نحن) بانفراط عقد أزمنتنا عنا؟!

هل الفكر السابق لزمننا جزء من زمننا؟!

وهل نَمَطِ حياتنا المستعار من الماضي جزء من زمننا؟!

هل هناك زمنان متلازمان...واحد للرخاء يستمتع به المُترفون، وآخر للبؤس يصطلي به التعساء؟!

استيقظ حائراً...أتساءل:

ما(الزمن) العراقي؟

فاجد نفسي أكتب:

الأزمنةُ العراقيةُ!

تَنَتفخُ الأزمنةُ المَيتةُ في أجسادِ الدقائقِ التي نَحياها ...

تَتفَسخُ فيها ...

يَطرقُ علينا المُغَيَبونَ نوافِذَنا ...في آخر العمر...

بَحثاً عن شُربَةِ ماءٍ ...

نَبحثُ عن كفٍ نُرويهم فيها ...

أيدينا مغلولةً!

****

نَطوي لحظات الصُبْحِ العالقِ في أذيالِ الليلِ الأبديِّ الموحش ...

يولدُ يوماً مَشقوقِ الهامَةِ يَهذي ...

أسرِجُ روحي لِقطافٍ قَبلَ صِياحِ الديكِ ...

يَتَعَثَرُ حافرُها بثيابِ فتاةٍ هَتَكَتها الخُطبُ الموبوءةُ بالماضي الفاسق!

****   

يَقولُ "كريمٌ" قبل رحيله:

ما بالكَ لا تُلقي أسلابَ الزمنِ الغابِرِ في بِئرِ النِسيانِ ...

تُزيحُ غبارَ الفَشَلِ المتصدي فَوقَ جُفونِ الفَجرِ ...

وتَمضي!

أسألُهُ:

هَلْ فينا مَنْ لا يَحلِمُ بالصُبحِ نَزيلاً في روحهِ؟

هَلْ فينا مَنْ لَمْ يَغرُسَ قَمحاً في صدرِ الجُلمودِ الراسخِ؟!

لكن الشَفَقَ الـ كُنّا نَنسِجُهُ مُنذُ عقودٍ ...

صارَ لِثاماً للجُثَثِ المَلغومةِ ...

سِتراً لجنودِ العهر المُحتلينَ!

جلباباً لبغاة الدجل"المُنتَجبين"!

****

في منعطفات الزمن القاحل...           

تولَدُ الساعاتُ العراقيةُ ضَريرةً فينا...

وهي البصيرةُ بِكُلِّ صنوفِ الألبانِ! (1)..

تُفقِئُها المواعِظُ الدَمويةُ ...فَتاوى حَرثِ الدقائق بالضغائنِ ...

كي تمحو الرُقُم الطينية…وشروق عيون الأطفال!

تَغسلُ الأيام ثِيابَها من أدرانِ الماضي العَبَثيِّ ...بقيح التجهيل...

يَتَفَشى فيها الجَرَبُ الناضِحُ من أشداق “الفقهاء السفهاء"!

تَنهشُها أنيابُ السُلطةِ المُختَلَةِ!

****

تُنْشرُ الساعاتُ العراقيةُ والسَمَكُ المُتَعفِنِ على حبالِ الغَسيلِ في أقبيةِ الإذعان ...

يُخْتَصرُ العُمر بكواتم الصوت المشهورة باسم الله...

في أوج خرابنا:

نَفقِدُ البُناةَ في يباب الوطن...وفي دروب الغربة...

يَتَبَعثَرُ التلاميذُ والشَظايا في ساعات الدرس الأولى ...

يَتَكاثرُ القبّارونَ والوعاظ والذُبابَ الأزرقَ... على جفون الاوقات القتيلة ...

تُدفن الساعاتُ العراقيةُ بالأمطار الأسفلتية في زمن الفوضى الهدّامة!

تنفثُ عقاربها الموتَ في قلب الثواني الوليدة...تحرقها...

فتصير رماداً تسفيه الريح فناءً بسموات الأيام السبعة.

مثل عراقي يضرب في وصف الشخص الفطين (مفَتِّح باللبن!)

 

 

من مجموعة (مرثيات سومرية)

حكاية ونَص

لوحةٌ على جُدرانِ غُرفَةِ التَعذيبِ!

محمود حمد

عندما أعادوني إلى الزنزانة الانفرادية، ألقوني بقوة على الأرض الاسمنتية العارية، فارتطم رأسي بالجدار المرقش بذاكرة من سبقوني في التجويف المظلم...

تناهى إلى سمعي صتيت من بعيد مختلط بين الصراخ المُستغيث في غرف التعذيب وأذان الفجر بـ (المصلى!) في مديرية الأمن!

لكني أحَسست بأن الأصوات كانت بعض شهقات الجدران، فَسَرَتْ في بدني قشعريرة جاءتني من ارتعاشة من سبقوني كالذبائح في فضاء الظلمة...

اهتز الجدار، فهطل سحت من غبار الإسمنت على وجهي، وصار قناعاً لي مضمخاً بالدم في ضيافة... (أبو صبري) أحد المشاركين بمعركة "الغموكة" (1)، الذي التحق بالكفاح المسلح في أهوار الناصرية سنة سبع وستين وتسعمائة وألف...وهو يهمس لي...حَذَراً من السجانين:

(أنشأنا قاعدة لنا في "أهوار الدوّاية"، وفي شهر آيار سنة ثمان وستين وتسعمئة وألف قررنا الهجوم على مركزين للشرطة للاستيلاء على الأسلحة، وتَمَكَّنا من ذلك!

لكن خلال انسحابنا باتجاه "هور الحَمّار" وقعنا في كمين نصبه لنا أزلام السلطة...مما اضطرنا للحَوْمِ في نفس المكان لأربعة أيام، وبعد أن أدركنا أننا محاصرون بزوارق السلطة، تركنا زوارقنا وتسللنا خارج الطوق نحو اليابسة!

من هناك كُلِّفْتُ باستقدام دليل يُرشد المجموعة المنسحبة، ولأُوفر مؤناً لهم، وعندما عدت وجدت مجموعتنا المنسحبة تتعرض لهجوم بالطائرات والمدفعية نتيجة وشاية من أهل المنطقة!

ودارت بينهم وبين قوات السلطة معركة غير متكافئة من حيث العدة والعدد!

ولما وصلت إلى المكان الذي تركت فيه المجموعة لم أجدهم في مكانهم، حيث انسحبوا إلى مكان آخر لا أعلمه في أعماق الهور... فاضطررت إلى العودة للقرية التي تركت فيها رفيقيَّ اللذَّيْن كانا معي، وانسحبنا من هناك مع رعاة قطيع مواشي أهل القرية، الذين ساعدونا على الخروج لمكان أكثر أماناً!

وصلنا إلى "مدينة الكوت"، ومنها إلى "مدينة الثورة" في بغداد، حيث اختفينا لحين زوال أثار التعب ولسع البعوض لوجوهنا خشية أن نلفت انتباه الناس إلينا ويكتشفون قدومنا من الأهوار)!

حاولت التشبث بـ(أبي صبري) الخارج لي من بين أنين جدران الزنزانة لمعرفة مصيره...لكن اصطخاب غرف التعذيب المجاورة بزعيق الجلاّدين وصراخ المُعَذَّبين...أطبق علي تواصلي مع ذاكرة جدار الزنزانة... فاستسلمت للإعياء، وما أن أرخيت حواسي حتى طرق علي السجان الباب يستدعيني لـ(وليمة تعذيب) أخرى!

لكن هَوْلاً وقع في وسط المدينة استدعى جميع قوة الأمن إليه...فتركوني متأملاً الجدار الذي مَسَّهُ بصيص من ضوء القمر تسلل إليه من شق في نافذة الزنزانة...

انفرج الجدار عن فضاء شاسع لمخيلتي، فارتحلت في مدياته، افك طلاسم النقوش المحفورة بأظافرٍ مُدَماةٍ لغائبين أمضوا أنفاسهم الأخيرة بعد تدوينها عليه!

أسَرَتْني حروفٌ اعرفها، فهَبَطَ إلي من خلالها صديقي الشاعر "البشوش بصمت والحميم بحزن"، (حسب الشيخ جعفر) الذي سبقني في استيطان الزنزانة عندما عاد من موسكو...أصغي إليه وهو يترنم بنصٍ تخفق أجنحة أسراب الطيور المهاجرة بين حروفه، وتَمْلأُ رئة أزمنته رائحة القصب النَدِيْ!

في تلك الآونة صرت اسمع صوت (أبي) يأتيني من قرارة الحزن في قبره يطلب مني أن اهيئ له تراب الزنزانة، فهو قادم إليها بعد عشر من السنين العجاف، فانزع جلدي لأفرشه بساطاً لـ(أبي)، لأني لا املك في الزنزانة ما احمي به (أبي) من سياط الجلادين غير أن اكسيه بجلدي!

حاولت عبور الحَدِّ الفاصل بين دولة الجحيم وسِرِّ قادمِ الأيامِ، فالتهمتني زوابع الاستجوابات بأنيابها، لكني أفْلَتُّ منها واستوطنت في (لوحة على جدار غرفة التعذيب) ادون ما تبوح لي اللوحة من اسرار...ولكيلا انسى حكاياتها...كتبت:

لوحةٌ على جُدرانِ غُرفَةِ التَعذيبِ!

ذاتُ صباحٍ أيقَظَني "سَيِّد مارِد" (2) بالركلاتِ...

تَكالَبَ حَوْلي جَوقُ بُغاةٍ مِن أهلي...

وَغْدٌ...لا أعرِفُهُ من خلفِ نِباحِهُمُ يتقدمُ نَحوي...

اعتدنا أن نُسْحَلَ من أقبيةِ العَزلِ الفَرديِّ بليلٍ...

لجحورِ التَعذيبِ المَنْبوشَةِ خصيصاً للاستجواب...

لكِنْ...

هذي المرةَ...أوقَعَني أرضاً في ذاتِ المَهْجَعِ...

وأقامَ شِجاراً قَبَلِياً فَوقَ ضُلوعي...

يسألُني عِن أسرارِ اللوحةِ...

تِتكاثَرُ فَوقَ جدارِ القَبرِ الكامِنِ فيهِ...

تَقمَعُني أعقابُ بنادقِهِم...

تُلقيني كومةَ صَمتٍ ودماءٍ!

تَصرَخُ بي:

فُكَّ رموزَ الاستفهامِ الصاخبِ في اللوحةِ!!!

ماذا تَعني الشَمسُ العُريانَةُ تَسبحُ في بحرِ دماءٍ مُتَدَفِق؟!

مَنْ تِلْكَ المرأةِ عالقةً بين الجَنَّةِ والكلماتِ؟!

ولماذا تأتي الريحُ من الشَرْقِ بعنفٍ صَوبَ فصولِ العَلفِ الغربيّةِ؟

ولماذا تَتَفَطَرُ هاماتُ الناسِ بأعلى اللوحةِ وبأيديهِم حِرْزٌ يُعْصِمُهُم من نارِ التَنورِ؟

****

شَدّوني واللوحةَ لجدارِ الاستجوابِ المُبْتَّلِ بِجُرحي...

بَحثوا عن جمرٍ مَخبوءٍ تَحتَ رماد اللوحةِ...

سَمِعوا صوتَ رَضيعٍ يَنْغي...

زمرةَ صبيانٍ تُنْشِد في وادي "أوروك"...

سربَ عصافيرٍ يأوي لأفانين السِدرَةِ في "بابل"...

ريحاً تَخفِقُ حقلَ سنابل!

صاحوا بالجسدِ المَيِّتِ تحتَ حطامِ الأشياءِ بأعلى اللوحةِ:

إهبط والحلمَ الـ كنتَ تتمتم فيهِ لحفارِ القَبرِ...

إهجِرْ هذا الكَفَنَ المُشْرَعِ مُنذُ عقودٍ في ساحاتِ الرَفضِ...

إغلق بابَ الشمسِ...

فإنّا لا نُدْرِكُ دَرباً إلاّ في الظلمةِ!!

****

تَهبِطُ بِنتٌ في مُقتَبلِ العُشقِ بِصَمتٍ من شرفاتِ اللوحةِ لوحولِ التعذيبِ...

يسألُها عن اسمِ أبيها...

تُخرِجُ رُقُماً طينيةً...

يَصرخُ فيها:

هل تُؤمِنْ؟

تِرنو بخشوعٍ لشروقِ الشَمسِ الساطعِ في أنفاسِ اللوحةِ...

توقِفُ نَزفي بيدَيها...

تَمسَحُها بفضاءِ اللوحةِ...

تِغدو حَقلَ "شقائق" يَغمُرُ روحي!

****

يَتَلَمَظُ ذاكَ الوَغْدُ المُتَقَدَمُ نحوي...

يَغمِزُ لقطيعِ المُفتَرسين...

يومئُ للطفلةِ...

أن تَمضي لَيْلَتها في حفلٍ ماجِن...

قَبْلَ حُلولِ التَرحيلِ إلى سجنِ النِسوَةِ...

يُمسِكُها من يَدها...

كالشاحِطِ شاتاً للمَقْصَبِ...

تتألقُ غيمةُ ضوءٍ من مَوطئِها...

تَتَصاعَد كشهابٍ مُرْتَدٍ...

تَتَلاشى في شفقِ الشَمسِ المَنشورةِ في أرجاءِ اللوحةِ!

يَركِلُني مُهْتاجاً...

ويَكيلُ سُباباً لقطيعِ المَذهولينَ...

يَتراخى جَسدي...

أهوي لِرَسيسِ الغَيبوبةِ...

تأتيني كـ العادةِ بَعدَ زياراتِ المُفتَرسينَ لقبري!!!

معركة الغموكة: شرارة (انتفاضة مسلحة للتحرر)، قمعها التوحش السلطوي والتخلف المجتمعي!

آمر حرس السجن.

 

 

 

 

من مجموعةمرثيات سومرية)

حكاية ونَص

هل حقاً...لا يَصلِحُ لبلادِ

 النَهرينِ إلاّ السُلطانُ الجائِرُ؟!

 

محمود حمد

 

في محاضرته التي حضرتها استخلص (الدكتور عبد العزيز الأحمد) أستاذ العلوم السياسية بمركز الدراسات الاستراتيجية الآسيوية:

إن المجتمع العراقي لا يمكن أن يعرف (الاستقرار) مالم يأتِ له حاكم قوي مستبد...

وأسند استنتاجه ذلك بمقتطف مما جاء في مقال لـ "باحث إستراتيجي أمريكي!":

(إن الكراهية الطائفية والعرقية كامنة في المجتمع العراقي، وأسبابها راسخة في عقول الناس وفي "لا وعيهم"، وهي بلا شك متأبدة ومتفاقمة مثلما هي متجذرة ومتناسلة، ولذلك نجدها تغذي الفوضى الدموية والعنف السياسي الذي جعل الحياة الطبيعية مستحيلة في هذا البلد، مالم "يخرج" حاكم قوي “مستبد" يضع حداً لصراع المجموعات العقائدية والعرقية والقبلية المسلحة والمؤدلجة التي تستهتر بحياة ملايين الناس)!

وعندما قاطعه أحد الشباب الحاضرين:

إن القمع والاستبداد لا يبني دولة متحضرة ولا يصنع استقراراً لمجتمع حُرٍ!

رد عليه (المحاضر) بثقة العارف:

ما تسميه بـ"الاستبداد" هو النظام "الراسخ"، نقيضاً للفوضى الدموية الواسعة والدائمة والفساد المستشري في كل مفاصل الدولة والمجتمع...التي نشهده اليوم!

لأن مجتمعاتنا تتشكل من "مكونات دينية وطائفية وعرقية" منفصلة عن بعضها البعض، ومتناحرة تاريخياً، ومهيئة لتصفية بعضها البعض حال ارتخاء قبضة الاستبداد عنها... رغم قشرة التهادن التي يختبؤون تحتها ويعبرون عنها بفعل الخوف من الحاكم المستبد!

خيم صمت استقصائي على الحاضرين في القاعة...بانتظار رأي آخر...حينها تحدثت موجهاً كلامي للمحاضر... قائلاً له:

منذ فجر قيام الدولة والتهديد بـ(الحرمان من الاستقرار) سلاح تتوعد به النظم المستبدة شعوبها المطالبة بالحرية، وتُخيفها بأن البديل لتلك الانظمة المستبدة هو الفوضى الدموية!

نحن ندرك أن الصاعق التفجيري الحاسم في تلك الصراعات الفتنوية هو التخلف الاجتماعي والسياسي والاقتصادي الذي فرضته (اللا أنظمة) المستبدة على شعوبها، وكذلك بسبب تعارض مطامع حكامها مع تطلعات شعوبها!

وليس من العدل أن يكون قدر الشعوب أن تختار:

أمَّا الاستبداد وأمّا الفوضى الدموية!

اعتدل (المحاضر) في جلسته...وراح يسرد صفحات من تاريخ (الحضارة!) التي تركها (الأسلاف)، وهو يؤشر إزاء كل (إنجاز حضاري!) اسم حاكم مستبد، ولم يشر "المحاضر" إلى أي (مَعْلَمْ حضاري) شاخص لَقَّنَتْهُ كتب التاريخ الرسمي للأجيال إلا ووراءه طاغية دموي!

نهضت فتاة سمراء كانت تجلس في الصف الأخير من مقاعد القاعة، وهَبَّ إليها شاب في مقتبل العمر مُقَدِماً لها الميكرفون، بعد أن تحدثت بضع كلمات لم يسمعها سوى الجالسين إلى جوارها...قائلة:

يا أستاذ...لقد استيقظ الإنسان الواعي الحُرِ من سكرة التضليل والأوهام الغيبية التي فرضها الاستبداد عليه، ولم تعد الشعوب (رعية!) والحكام (أولي الأمر!) ...

وتلك المعالم الحضارية التي أشرت إليها...هي من صنع بُناتِها المجهولين (المهندسين والعمال)، وليست شواخص لمن نسبت لهم من الحكام باطلاً...

مثل معظم أحداث التاريخ وشواهد الأزمنة التي تم تزييفها!

ونحن (مواطنون)...ندرك أن الحاكم هو مجرد موظف مكلف بخدمة المواطن ولفترة زمنية محدودة، وليس من حقه التسلط على مصير المواطن أو الاستبداد به وسرقة موارد وطنه!

عندها غادرتُ القاعة خلال وقت الاستراحة متوجهاً إلى وسط المدينة المكتظ بالمتسوقين والباعة والصحف الملوثة بأخبار الموت والخراب...حاملاً رأسي المصطخب بالتساؤل... لأكتب:

هل حقاً ...لا يَصلِحُ لبلادِ النَهرينِ إلاّ السُلطانُ الجائِرُ؟!

هل حقاً ما قال...

المسؤولٌ "العربيُّ" لمسؤولٍ "إفرنجيٍّ" في حَضرةِ أُذني:

إن عِراقاً شائِكٌ...

لا يُمسِكُهُ إلاّ ناطورٌ جائِرٌ...

أو تَتَناهَشُ فيهِ المُفتَرِساتُ!

أسْتَعرِضُ للضيفِ الإفرنجيِّ بإيجاز حائرٍ...

بعض صفحات الطُغيانِ السافرِ في أرضِ النَهرينِ:

(النُعمانُ) يُقَطِّعُ أعناقَ الشُعراءِ بيومِ النَحْسِ... (1)

(يَزيدٌ) يُذَبِحُ (ابن عَليٍّ) ظمآنا وعَشيرتِهِ... (2)

(الحَجاجُ) أقامَ صُروحاً شامِخةً للسُلطةِ مِن أجسادِ المُعتَرضينَ... (3)

(هولاكو) سَفَكَ الحبر. سيول دماءٍ غَطَّتْ دجلةَ... (4)

(كوكس).. أجهَضَ أفاقَ الثَورَةِ في عَقلِ الفلاحينَ بعامِ العشرينِ... (5)

(نوري) أنشأَ قَبراُ لخصومِ المُحتَلينَ بِصَحراءِ "السَلمانِ"... (6)

(صدامٌ) جَعلَ الموتَ بديلاً لصنوفِ حياةٍ!

****

واليوم تَداعى عَرشُ التاريخِ المُمْتَدِ من "الألواحِ الطينيةِ"...

في فجرِ التاريخِ...

إلى غزو الدبابات المحتلة للباب الشرقي...

لقَهرِ التاريخِ!

لأنَّ السلطانَ الجائِرَ تَغَيَّبَ قَسراً عَنْ بَلَدِ العُصيانِ...

قليلا في هذي الأيام!

فعاثَتْ في الناسِ صُنوفُ المُفتَرِساتِ!

****   

ونَسوا...

إنَّ القانونَ الأوَّلَ للإنسانِ العاقلِ قَبلَ الأربعَ آلافٍ من سنواتِ التاريخِ الصادِرِ "رُقُماً" في أرضِ بلادي...

يرفُضُ تَكبيلَ المُخطئِ في أقبيةِ الحَجزِ القَسريِّ... (7)

واليومُ تُمارسُ كُلُ الأنظمةِ المحكومةِ فوقَ الأرضِ سِلاحَ الكَبْتِ الدَمَويِّ وقطعَ الأعناقِ!

****   

في هذا الزَمنِ التَقَنيِّ الغارقِ بالإثمِ...

وسوادِ لصوصِ جهودِ المُبدِعِ...

وغيابِ الحِرصِ على العَقلِ...

نَقرأُ في "الرُقُمِ الطينيةِ" من بابلِ تَشريعاً:

"مَنْ يَمحو اسم المُنتِجِ ويُبَدِلُهُ باسمه...

يَمحوهُ – اوتو- من جَذرِه"! (8)

****

أما قِصةُ "ابنُ عليٍّ" و "يَزيد"...

فَتلكَ حكايةُ كُلِ الثُوّارِ بوَجهِ الطُغيانِ...

يَعرِفُها الإنسانُ الأولُ حينَ تَحدى غَزوَ المُفتَرِساتِ...

وجَورَ المُنتَهِكاتِ...

واليوم يواجِهُ فيها غَزو الدَباباتِ!

****   

نَخلٌ مُتشابكٌ في "أرضِ سوادٍ" مُثمرٍ...

اختار "المُقتَدرُ العبّاسيُّ" بهاءً مِنها لتكونَ صليباً للحلاّجِ...

واختارَ "الحلاجُ" الجِذعَ فناراً يُفقئ أعماقَ الظُلماتِ...

مازالَ المُقتدرُ العَباسيُّ شَتيمةَ عارٍ يَخجَلُ منها التاريخُ وأطفالُ بساتينِ الكَرخِ!

والحَلاجُ...شواظاً يوقِدُ أكوامَ الفِكرِ المُتَخَشِبِ!

****   

مازالت دجلةَ تَروي ظمَأَ الفُقراءِ...

رغمَ الحِبرِ المَسفوكِ بحورَ دماء. بسيوف مَغولِ الصحراءِ!

وتَنمو في شطآنِ النَهرِ حقولٌ...أزمنةٌ زاهرةٌ...أمَمٌ تَغرسُ شعراءً!

****   

وصروحُ “السَلمانِ" تَهاوَتْ بصتيتِ الفُقراءِ!

و"حروب الرَدَّةِ" فَضَحَتْ كُلَّ عيوبِ السُفَهاءِ!

جُثثٌ من قطعانِ الجهلِ المُتَوارثِ...

تَتَلَغَمُ بين فصولِ رياضِ الأطفالِ...

بحمايةِ جيشِ المُحتلينِ ووعّاظِ القَتلِ الجَمعي البُلَهاءِ!

تَتَناثَرُ بينَ الطُرقاتِ...

تَنفُثُ غَيماً أصفر...يَتَفَشى عِندَ أزوفِ الأزماتِ!

****

جَوقةُ أطفالٍ تَتَلاقى من أرجاءِ بلادي حَولَ رغيفِ التَنورِ الساخنِ والرطبِ "البَرحيِّ"...

بضيافةِ "نُصُبِ الحُريّةِ"...

تُدَوِّنُ عُشقاً...

فَوقَ شِفاهِ "الألواحِ الطينيةِ" في أرضِ النَهرينِ حكايةَ وَطَنٍ...

يَمحو:

دَنَسَ الأفكار المَوبوءَةِ بالجهلِ...

قناعَ الإسفلت الساخن عن وجه بلاد النهرين... 

"رطينَ" المُحتَلِ بأسواقِ "الزوراءِ"!

ويسري كالريحِ المشفوعةُ بالطَلعِ الخصب...

يَتَمَخَضُ عن فجرٍ مُشرقٍ بسواعدِ أبنائهِ!

 

النعمان: النعمان بن المنذر بن امرئ القيس اللخمي، من أشهر ملوك المناذرة في الجاهلية، وبنيت مدينة النعمانية على ضفة دجلة اليمنى في عهده، وصاحب يوم البؤس ويوم النعيم!

ملك الحيرة إرثا عن أبيه، سنة 582م، طلب منه (كسرى أبرويز) أن يزوجه ابنته فرفض النعمان، فما كان من كسرى إلا أن القى النعمان تحت أرجل الفيلة، فوطأته، فمات، وكانت هذه الحادثة هي الشرارة التي أدت لاشتعال الحرب بين العرب والفرس في (معركة ذي قار) والتي انتصر فيها العرب.

"يزيد" و"ابن علي": استشهد الإمام الحسين بن علي في كربلاء يوم العاشر من محرم سنة 61 هـجري المسمى عاشوراء في واقعة الطف، حيث قام بثورة ضد يزيد بن معاوية.

الحجاج: هو الحجاج بن يوسف الثقفي والي العراق في خلافة عبد الملك بن مروان الأموي. (40-95 هـ/660-714م).

هولاكو: هولاكو خان (1217 - 1265 م) هو حفيد جنكيز خان، يقال انه قتل 800,000 تقريبا من السكان“. أثناء غزو بغداد عام 1255 م.

بيرسي زخريا كوكس: جنرال بريطاني لأبوين يهوديين لعب دورا خطيرا في تاريخ العراق الحديث وتأسيس الدولة المشوهة وما تزال أثاره التدميرية تتفاعل إلى اليوم. أرسل إلى العراق عام 1920 لإجهاض الثورة.

نوري سعيد: رئيس وزراء العراق لفترات شبه متصلة منذ ثلاثينات القرن الماضي حتى ثورة 14 تموز 1958.

قانون اورنمو.. نص: (.. الأخذ بمبدأ الدية والتعويض بدلا من القصاص).

اوتو: قاضي السماء والأرض عند السومريين.

 

 

 

 

 

من مجموعة (مرثيات سومرية)

نساءٌ عراقياتٌ... وبُرْكَة الدَمِ!

محمود حمد

 

كنت على موعد مع زوجتي التي لم تنقطع عن زيارتي كل يوم في الصباح الباكر بعد أن تُجَهِّزْ وتوَدِّع أولادنا إلى المدرسة...

أمضت أسابيع انتظار طويلة مثقلة بالخوف والوجع، وهي تنام على بلاط الأرض إلى جوار سريري في ردهة المستشفى عندما كانت حالتي حرجة!

لكنها ذلك اليوم لم تحضر...مما أوقد نار القلق في نفسي عليها وعلى أولادنا!

عند الظهيرة دخلت عليَّ برفقة امرأة شيباء مُتعَبة رغم ثبات خطواتها وانتصاب قامتها ونظرتها المتفحصة الثاقبة...باغتتني المرأة بتحية مفعمة بالألفة والود تصحبها ضحكة زوجتي وتغير ملامحها لاختبار ذاكرتي!

من ترانيم إيقاع صوت المرأة الشيباء تذكرت (تماضر) زميلة سنوات شبابنا، طالبة كلية الحقوق الفتاة... الجسورة بالرأي، الفصيحة بالقول، الرائدة بالفعل!

التي وصلت يوم أمس للمشاركة بمؤتمر دولي عن المرأة في المنطقة العربية...

لم تتغير طبائعها العائلية العميقة اللُّطف، ولا أساليبها الشعبية في التعبير عن نفسها أو الإفصاح المباشر عما تريد قوله...جلست تحدثنا عن وقائع وأخبار تُثقل روحنا وتُشغل عقلنا منذ عقود من الزمن، وكأنها انقطعت بالحديث عنها معنا قبل ساعات...تقرأ لي مقتطفات مما أعدته لإلقائه في المؤتمر:

مَنَحَتْ المرأة العراقية للوطن أضعاف ما أعطى ويعطي الرجل، فهي التي أنْتُزِع منها عنوة وبالغصب فلذات كبدها، وترملت، وفقدت الأخ والأب، في جبهات حروب الطغاة، وتحملت أعباء الجوع والفاقة والحرمان سنوات الحصار الاقتصادي الذي استمر لأكثر من عشر سنوات، الذي فرضه (أصنام العالم المتكبر!) و(نظام الصنم في العراق)، وكانت تقتات فيها وأطفالها على طحين الحصة التموينية الذي نصفه رمل، وتخبز بيديها على الحطب، وتُدَرِّسُ أطفالها على الفانوس، وتخيط ملابسهم من الأسمال، وتدثرهم بالبطانيات البالية لتقيهم شدة البرد...حيث لا كهرباء ولا غاز ولا نفط في ثاني بلد باحتياطيات النفط في العالم...

بعد أن كانت (المرأة العراقية) قبل حروبهم الدموية العبثية، صانعة للجمال وباعثة للشغف، ورمزاً للدلال، والترف، والأناقة!

واستدركت:

تشير دراسة أعدتها وزارة التخطيط العراقية إلى ارتفاع عدد الأرامل في العراق بسبب الغزو الأمريكي وأعمال العنف الطائفي التي اجتاحت العراق بعد آذار 2003 إلى مليونين ومئتي ألف أرملة، أي وجود أرملة واحدة بين كل ست نساء في العراق تتراوح أعمارهن بين 15 وخمسين عاما، مما يشكل أعلى نسبة تَرَمُّلِ بين النساء في العالم منذ الحرب العالمية الأولى عام 1918!

علماً أن 70% مِنْهُنَّ لا يتقاضين أي راتب أو إعانة مالية من الحكومة و30% مِنْهُنَّ يتقاضين مبلغ لا يكفي لتغطية نفقات أسبوع واحد من الشهر!

وتراكمت عليهُنَّ إضافة إلى فقدان المعيل وطعون الموقف الاجتماعي المتخلف مِنْهُنَّ...مصيبة النزوح من بيوتهن المصحوبة بالخوف والفقر والعوز...

مما اضطر المرأة العراقية بفعل تلك الظروف المعاشية الشديدة القسوة للذهاب إلى ساحات وسوق العمل البسيط أو المُهين، كالبيع على الأرصفة أو الخدمة في المنازل وجمع القمامة والتسول!

وأضافت:

وعندما سيطرت (الأحزاب الإسلامية!) على السلطة في العراق، بدأ أسوأ كابوس واجهته النساء العراقيات في حياتَهُنَّ، فقد استَلَبَت الأحزاب الدينية وميليشياتها الطائفية المتخلفة الحياة الشخصية الحرة من النساء العراقيات، وكان أول تشريع سعى (أمراء الطوائف!) إلى تغييره هو قانون الأحوال الشخصية، الذي كان ينظر إليه دومًا على أنه «الأكثر تقدمية» في الشرق الأوسط...من حيث الحقوق التي منحها للمرأة في ذلك التاريخ، والذي لعبت دورا رئيسيا في صياغته عام 1959 (الدكتورة نزيهة جودت الدليمي) أول امرأة عربية تتقلد منصب الوزير، والتي بدأت نشاطها السياسي في أواسط الأربعينات في جمعية نسائية اسمها “جمعية مكافحة النازية والفاشية”، وكانت رئيستها طالبة الحقوق (فيكتوريا نعمان)، التي أصبحت فيما بعد أول مذيعة في الإذاعة العراقية!

وقد سبقتهُن كرائدات...في مجال الحقوق (صبيحة الشيخ داود) وهي أول فتاة عراقية أكملت دراستها الجامعية في كلية الحقوق عام 1940 وأصبحت أول قاضية في البلاد العربية عام 1956، وفي مجال الطب عينت وزارة الصحة العراقية أول طبيبة عراقية، هي (الدكتورة آناستيان)، وهي أول فتاة عراقية دخلت مدرسة الطب في بغداد وتخرجت منها سنة 1939!

وبرزت (الصحفية بولينا حسون) رائدة الصحافة النسائية العراقية التي ترأست تحرير أول مجلة نسائية (ليلى) عام 1923، وكانت (بولينا حسون) من أول الأصوات والأقلام النسائية التي طالبت بمنح المرأة حقوقها السياسية!

في تلك الآونة دخلت الممرضة لإعطائي جرعة من مُسَكِّنِ الألم، فاغتربت عن مُحَدِثتي وانزلقت إلى ذاكرة ذلك اليوم الذي كان فيه الغبش راقداً على وسادة الأفق القرمزي الكسول عندما مَزَقَ أزيز الرصاص هدأة الغارقين في نومهم، وأفزعتهم صرخات النسوة المُستغيثات وعويل الأطفال في بيت جارتنا (أم عبد) في حي الثورة بمدينة العمارة!

تلك الدقائق التي استحالت إلى عصور من التوحش رسخت في ذاكرتي، حينها اختبأ الناس كبارهم وصغارهم تحت جلودهم من شدة الخوف الذي استباحهم بغتة!

وحدها الجدران الخرساء والأبواب المُطبَقةِ الأفواه وأبناء (أم عبد) واجهوا الرصاص بصدورهم العارية!

ما أن توقف صوت الرصاص الدامي حتى تعالى الصراخ... فخرج الناس من بيوتهم محتشدين يعصف بهم الذهول والرعب حول بركة الدم التي قضى فيها أبناء (أم عبد) الثلاثة...بتهمة معارضة سلطة (الحزب القائد!).

لم تبدد الأيام رغم قسوتها تلك الصورة الكامنة في قرارة محيطي الاجتماعي البائس الذي ولِدت ونشأت فيه، ولم تغب عني صورة (المرأة العراقية) الملفعة بالسواد منذ الولادة، التي أوهنها الظمأ لرشفة من سُقيّا الحياة، فصارت هشيماً يابساً وهي في رحيق طفولتها وشفق صباها وريعان شبابها...

لهذا...ما أن اقترب منها شواظ (التوحش العقائدي!) الماحق الحارق حتى استحالت أيامها إلى نارٍ أبدية تتلظى في روحها وتحيل ساعات عمرها إلى رماد، مثلما كانت لحظات حياتها حرماناً أزلياً يولد معها ويبقى بعدها متفشياً على الأرض...

لذلك لم تخلُ صفحة في سِفر حياتي من التأسي عليها... والكتابة عنها:

 

نساءٌ عراقياتٌ... وبُرْكَة الدَمِ!

محمود حمد

مكتبةُ البَصلِ الأخضرِ:

جاءت تَتبضَعُ من مكتبةِ الحكمةِ بصلاً أخضر...

وَجَدَتْ رجلاً في منتصفِ العُمرِ يُتَمْتِمُ خَلفَ صفوفِ الكُتُبِ المهجورةِ...

طَرَقَتْ بابَ الفصلِ الأولِ من سيرةِ "يوسف" (1) ...

جاءَ الشُرطيُّ بلا وجهٍ بَعدَ أفولِ الأحداثِ...

كَبَّلَ "يوسفَ" والبَصَلَ الأخضرَ بالأصفادِ!

.................

عادَتْ للمنزلِ مهجورة!

******

نخلةٌ في الطريقِ إلى السوقِ:

وَقَفَتْ خَلفَ النخلةِ خَوفَ رصاصٍ طائش...

وَضَعَتْ طفلتَها بين القلبِ وجِذع النخلةِ...

ألقَتْ زَنبيلَ "المسواقِ" الفارغِ عندَ القدمين...

صارَتْ في زَنبيلِ "المسواقِ" الفارغِ أعشاشُ عقارب...

لاحَ خيالُ الابن المفقودِ يُلألئُ في تاجِ النخلة...

عصَفَتْ بالروحِ رياحُ ربيعٍ عارم...

خَرَّتْ والطفلةُ لجذورِ النَخْلة...

ألقَتْ رأساً مُتْعَبَةً للكَرَبِ اليابسِ...

نامَتْ في مَنأى عن زَخِ رصاصٍ طائش!

.................

كانَتْ جذعُ النخلةِ مَلغومة!

********

ابن المرأةِ المكفوفةِ:

خَرَجَت "نوريةُ" تَبحَثُ والنسوةُ عن ابن المرأةِ المكفوفةِ...

بَحَثَتْ والنسوةُ في كدسِ الجُثَثِ المجهولةِ في أطرافِ "الشُعلةِ"(2) ...

وَجَدتْ ابن شَقيقتِها العاملِ طَبّاخاً في مستشفى الأمراضِ العقليةِ...

سَقَطَت فوقَ الجُثثِ المجهولةِ...

............

صارَت "نوريةُ" في "الشُعلةِ" معلومة!

******

درسٌ من التاريخِ:

قَرأت كُلَّ فصولِ التاريخِ الأمويِّ...

ونامَتْ...

رَكَبَتْ مُبْكِرَةً في باصِ الكليةِ...

جَلَسَتْ كالعادةِ جَنْبَ النافذةِ "المشراقةِ"!

...........

وَعَدَتْ جَدَتَها أنْ تَعْرِجَ للمشتل"(3) بَعدَ الدرسِ الثالثِ...

دَوَّتْ قنبلةٌ في جوفِ الباصِ المُتثاقلِ بينَ زُحامِ الطُلاّبِ...

................

ظَلَّتْ جَدَتَها تَنْحَبُ حتى الساعةِ!

*******

التنورُ الجائعُ:

وَضَعَتْ في التنورِ شواظا من جمرِ القلبِ...

والتَفَّتْ تَحْتَ عباءَتِها اسرابُ جياعٍ...يَبْكونَ أباهَم...

قالَتْ لابنتها الكُبرى...أن تأتي بِعَجينِ الأسْرَةِ من قاعِ الظُلمةِ...

ذَهَبَتْ ابنتها مُسرِعة...

ذُهِلَتْ...

جَثَمَتْ بين الطفلةِ والتنورِ نِيابٌ صُفرٌ في جوفِ الليلِ...

تُقَتِّلُ كُلَّ رفيفٍ بـ(اسم الله) ...

خَفَقَتْ ابنتها كالعصفورِ الواقعِ في قفصِ الثعبان...

مُحِقَتْ اركانَ البيتِ وسربَ التنورِ الجائعِ...

.................

ظَلَّتْ طِفلتَنا تائهةً في الطرقاتِ...

"تُدَوِّرُ" عن أمٍ أجَجَّت التنورَ بِجَمرِ القلبِ وإخوان جوعى!

يوسف: النبي يوسف الصديق.

الشعلة: منطقة في بغداد تَذابَحَ فيها أفراد الأسر الواحدة (دون أن يعرف القاتل لِمَ قَتَلْ ولا المقتول لِمَ قُتِلْ).

المشتل: منطقة في بغداد تميزت مع عديد من مناطق بغداد الأخرى بحميمية العلاقات بين أسرها، وبتنوع سكانها الإثني منذ زمن بعيد.

 

 

 

 

من مجموعة "مرثيات سومرية"

حكاية ونَص: تَرانيمُ الحُزنِ!

محمود حمد

كلما ألقى رأسي على وسادة أحسبها خالية من الهموم والغموم، أجد روحي في حضرة (النَواحِ) من فرط الحزن، فاستكين لما تقوله النفس:

تلك بعض من نسغ حُرِّ طينِ ما بين النهرين، المفعم بالعواطف الجياشة، والعيون المغرورقة بالدموع منذ الولادة، والحناجر المثقفة للنحيب منذ فجر التاريخ، لأن الانسان العراقي كباقي شعوب الأرض تعلم قَبل الصَيد...مهارة التعبير عن أحزانه ومشاعره تجاه الفواجع والكوارث، بإيقاعات صوتية، فنصوص نثرية وشعرية، وأنغام موسيقية، وأصوات شجية تنبثق تأوهات من الصدور، قبل أن تنطلق آهاتٍ غنائية من الحناجر!

يستحضر فيها مآسيه الموروثة والمتناسلة، الكامنة في ذات مجتمعاته، والمكثفة في ذاته الشخصية، تسري من جراح أيامه النازفة إلى عروق الكوارث المتخيلة التي يخشى نزولها عليه، فيستبقها بالنواح!

يشكل (النَواحُ) المتواتر حُزْناً على خراب المدن وسقوطها، أو أسىً على تَفَرُقِ الأحبة وتشردهم وغربتهم وإذلالهم، تحت سطوة الغرباء الطغاة أو الأقرباء الأنذال أو البغاة الوطيؤون، الذين خربوا الحواضر بعد عمارتها، وأحطوا من مقامها بعد تألقها، فصارت تلك الخرائب في نفوس أهلها مواكب نواح أبدية يستحضرون فيها الفواجع من إرث الأجداد، ويؤججونها بمآسي الضيم في حاضر أيامهم، وينفخون بها جَمْرِ الآتي (المُتَخيَّل) من الأهوال المضمرة لهم وراء أفق الغيب فيستبد بهم الغَمُّ!

أمست تلك الكوارث التي تصيب (الأوطان المقدسة!) وأهلها، من معابد (سومر وأكد) إلى نواح أهل (أكواخ القصب والبردي)...ونكبات ابناء الجبل... من بين أكثر الأهوال التي حظيت بها المراثي والمنادب والنواحات في التراث الفني الإبداعي العراقي!

تلك (البكائيات) التي تميزت بالبلاغة والفصاحة والاستعارة المستنبطة من بيئة القرية الزراعية، التي تستضيف في توصيفاتها (نوح الحمام، وخصب السنابل، ورقراق الماء، وشموخ الجبل، وفيء النخل، ونقاء الهور).. وكل ما في الطبيعة من ثراء، وسخاء، وديمومة، وشغف! 

رغم أن أدب المراثي والمناحات بدأ في (المعابد) واستوطن فيها منذ أن نشأ الخوف في كينونة الإنسان، وجعله يلوذ بالمعبد كمُخَلِّصٍ له مما يعجز عن قهره، وباباً روحية له توصله إلى سماء القدرة اللامحدودة... التي تحميه من الخطر القائم أو المختبئ في رحم الغيب!

لكن (أدب النواح) انتشر من تلك (الجدران المقدسة!) إلى نفوس الناس وسرى في وعي الإنسان (الفردي والجمعي) وفي (لا وعيه)، واستوطن إيقاعات طقوسه، وأثرى محتوى تراثه المعرفي الشعبي!

ومع الزمن صار لـ(أدب النواح) أجنحة للمُباح من المشاعر والمحظور منها، يخفق بها حُراً في فضاء الذاكرة وتنطق به الألسن، وتحفظه الصدور!

والعراقي جُبِلَ على (النواح) في حياته مُسْتَبِقاً موته، وفي عشقه خشية فقدان الحبيب، وفي لحظات فوزه خوف خسارته الكامنة في قرارة الفوز!

وللمرأة مكانة خاصة في (أدب النواح) فالشاعر يبكيها في عشقه لها، وفي فراقه لها، وعند لقائه بها، وحتى في صبرها عليه أو خيانتها له أو خيانته لها!

يتسع فضاء (النواح) عندما تُذْكَرُ الدنيا لأنها (مستودع الأحزان!) في وعيه، ومكمن الفواجع المُخَبَئَةِ له في مجهول أيامه!

لم تكن أول شاعرة في التاريخ الأميرة (إنخيدوانا) ابنة سرجون الأكدى في الألف الثالث قبل الميلاد... أول نائحة...وهي القائلة في قصيدتها " تسبيح من أجل أنانا":

(أه، أيتها الملكة التي ابتكرت النواح

مركبُ النواح سيرسو في أرض معادية

وهناك سأموت، أنشدُ الأغنية المقدسة!)

لكن النواح لم يَرسُ في أرض معادية!... يا (إنخيدوانا)...

بل عشعش في نفوس أهل العراق واستوطن أرضهم...

ولم ينقطع بنواحك ولا بنواح نسائنا على فجيعة كربلاء...ولا بنواح أمهات شهداء حرب الثماني سنوات مع إيران، أو نواح أمهاتنا المنكوبات بمجزرة الأنفال في كوردستان، ولا بنواح أمهات شهداء حرب "تحرير الكويت وتدمير العراق!" أو أنين أخواتهن المغيبات في المقابر الجماعية لثوار الانتفاضة الشعبية في وسط وجنوب العراق... ولن تكون آخرهن النائحات على سبي أهلنا الأيزيديين، ولا على نزوح الملايين النائحة من بيوتها خوفاً من توحش الإرهاب في مدن غرب وشمال العراق...ولا بنواح أمهات شهداء "سبايكر"، ولا بنواح أمهات شهداء شباب تشرين، ولا بنواح أمهات المغيَّبين في طول البلاد وعرضها!

وفي زماننا البائس هذا...

أصبح (النواح) "تجارة مقدسة!" يقتات عليها المعممون الطفيليون، ويروج لها المُلَطِمون المُضَلِلون، وتُغَيَّب به عقول الجاهلين لتشويش بصائرهم عن أسباب حزنهم ومُسببي ذلك الحزن من التجهيليين الفاسدين... اللصوص...المستبدين!

وفي (أدب النواح) تستخدم النصوص الوجدانية الحزينة، والإيقاعات الموسيقية التي تلامس الروح، والمقامات الصوتية التي تثير الشجن في النفوس وتُدمِع العيون!

وتسلب راحتنا في الصحو وتحرمنا من النوم...

لم أقوَ تلك الليلة مثل جميع الليالي إلاّ أن أغمض عيني على نواح أمي متسائلاً عن سر الحزن الكامن فينا منذ النطفة؟!

لأصحو متفرداً مع نفسي أكتب عن (ترانيم الحزن):

تَرانيمُ الحُزنِ!

محمود حمد

هَلْ أنَّ الحزنَ مُقيمٌ فينا؟!

أمْ أنَّ الدُنيا أزمنةٌ تَتَواترُ فيها النكباتُ؟!

ها أنتَ تُغرِدُ في سربِ المُعترضينَ على تأبيدِ الحُزنِ بأحداقِ الإنسانِ...

فَيخفقُ – مِنْ وَلَهٍ _ فيكَ...

رفيفُ المحزونينَ...

حِداءُ "المطلوبينَ" بعيداً في سِرِّ الصحراءِ!

هذا داءٌ فينا رَسَخَهُ الطُغيان...

لا نَعشَقُ عرشَ الأحزان...

لكِنّا نَطويهِ بِصبرٍ كَيْ يُمسي...

كيراً للإبداعِ الوَلهان!

صِنّاجةُ طَرَبٍ تَجمعُنا حولَ الفانوسِ المَعلول!

دَبَكاتٌ نُفرِغُ فيها وَجَعَ القَلبِ إلى أوجاعِ الطُرُقاتِ!

تَحضُرُني – الساعة- أحداثٌ أُدعا فيها للبَهجَةِ والكأسِ العامرِ...

نَنْحو في أوَّلِ رَشفةِ كأسٍ بجنونٍ لحديثِ الأحزان!

****   

فَقَدَ الرُضَّعُ فينا أولى تَرنيماتِ البَهجةِ...

إيقاعَ الفَرَحِ...

وصاروا نَبْتاً مَحزوناً يولَدُ من دَمعةٍ...

لا لومٌ مِنّا للأجفانِ المتورمةِ بالأشجانِ...

لا ضجر مِمّا نألفُهُ مُنذٌ قُرونٍ...

لا شطط عن غيمٍ حالكْ يُغمرُنا مُنذُ النُطفَةِ حتى ظلماتِ الأجداثِ!

لكِنْ...

لَمْ يُرْبِكَ حُزناً في أيِّ زمانٍ طابورَ البَنّائينَ على شطآنِ النَهرينِ...

بَلْ صارَ شَواظاً فينا يَحرقُ أصنامَ القِشِّ المَرصوفةِ من سومرِ...

لقطيعِ “المَنطقةِ الخضراء"(1)!

(1) المنطقة الخضراء: موقع سلطة الذين جاء بهم الغزاة الأمريكان وملالي إيران للتسلط على مصير العراق وأهله!

 

 

 

من مجموعة (مرثيات سومرية)

حكاية ونَص

من أوراق سنوات المحنة التي لا تنقطع...

طِفلٌ قُرويٌّ يقرأُ ألواحَ الطينِ!

محمود حمد

بعد أن أدمنتُ متابعة أخبار الموت المتواتر المتنقل في بلادنا، صرت انقب في المنشور من الوقائع والمستور من الحقائق...بحثاً عن بصيص أمل قد يوقف عاصفة الموت التي أوقدها الاحتلال و(الحكام المستوردون!) بهشيم الوطن والإنسان الذي خلفه نظام الاستبداد!

صباح يوم (2007 / 1 / 8) قرأت ما نشرته الصحف المحلية عن تقرير لوزارة الخارجية الأميركية يفيد بأن نصف الأعمال الارهابية التي وقعت في عام 2006 بالعالم، حصلت في العراق حيث وقع فيه 6630 عمل إرهابي، أي بمعدل تسعة عشر عمل إرهابي في اليوم حصدت أرواح العراقيين، وبمعدل 33 جريمة قتل في كل يوم، على امتداد أيام السنة!

دون أن يذكر التقرير بأن دائرة الموت كانت تدور (بحماية مئات آلاف الجنود الأمريكان المدججين بالسلاح والكراهية)!

احتقنت روحي بالأسى وتعاظم سؤال طالما شغل فِكْري:

لماذا يستهدف الإرهابيون بمفخخاتهم الفقراء في أسواقهم وفي تجمعات بحثهم عن الرزق؟

هل لأنهم بلا حماية ولا قدرة لديهم للدفاع عن أنفسهم؟!

أم لأنهم لا ينتمون لعقيدة الموت والخراب...كونهم بُناة الحياة؟!

أم لأنهم هدف "سهل" يستطيع الإرهابيون من خلاله قتل أكبر عدد من الضحايا الأبرياء لإثارة الفزع وفق سيكولوجية الصدمة في عقيدة (فقه التوحش)!

أم لأن أهل السلطة متورطون في جرائم الإرهاب؟!...لذلك لا تقترب منهم العبوات الناسفة؟!!

لماذا كلما تناكف (المتحاصصون) حول غنيمة السلطة... تنفجر العبوات الناسفة في الأسواق فتطفئ حياة العشرات واحياناً المئات من النساء والأطفال والرجال الذين لم يترك البؤس فيهم ما يغوي "عزرائيل"، فيتولى (الجهاديون رُسل الله!) إشعال النار فيهم كحطب يابس؟!

انتبهت إلى الخبر العاجل على شاشة التلفاز، وخرجت من فضاء تَفَكُرِي ...عندما ظهرت على الشاشة بطاقة (الاستشهادي!) الذي فَجَّرَ نفسه وسط تجمع لـ(عمال المياومة)، وأظهرت لقطة سريعة أشلاء العمال البائسين المُقَطَّعة والمشتتة على الأرض، وبرك الدماء التي تغطي الرصيف والشارع، حيث كانوا ينتظرون من قبل بزوغ الفجر من يأتيهم ليسعفهم بفرصة عمل ليوم واحد كي يعودوا إلى أطفالهم برغيف خبز!

شعرت كأن غمامة ثقيلة سوداء تلبدت على ذاكرتي...وانا احاول استحضار صورة (الاستشهادي!) الذي ظهر على شاشة التلفاز!

بعد دقائق أعيد إذاعة الخبر...نعم لم اكن متوهماً...إنه (مصعب) ابن جارنا البقال (عبد الغني) ...الذي كان يشكو دون تحفظ لمن يأتي إليه للتسوق من سيرة ولده المراهق، ويعبر له عن عجزه من منعه المبيت خارج المنزل مع أشخاص لا يعرفونهم وفي أماكن مجهولة...وعن خشيته عليه من أحاديثه أمام أمه حول (تكفير أبيه وأمه والناس من حولهم!) ...وعن استيائه من شكواه التي لا تتوقف أمامهم عن (هدر حقوقه!) وتعبيره الصريح عن كراهيته للآخرين إلاّ (نَفَرٌ) لا يُفصِح عنهم!

ولم يكف (عبد الغني) عن قلقه على ولده من غربته عنهم رغم عيشه في كنفهم...وفزعه منه في الفترة الأخيرة عندما كان يسمعه يدعو لـ (إزالة الرؤوس بقوة السلاح!) ... لأنهم (كفار وأنجاس!) ...دون خشية أو حياء من أمه وأبيه!

فجأة ظهر (عبد الغني) في لقاء تلفزيوني معبراً عن صدمته وندمه لتستره على ولده الوحيد، ظنَّاً منه أن ما كان يسمعه من ابنه (مصعب) هو مَحْضُ ثرثرة فتى مراهق لا يعني ما يقول... وأن سلوكه العدواني العنيف في المنزل تجاه أمه وأبيه لا يعدوا كونه هيجان صبياني أجوف لا يمتد أثره خارج جدران المنزل... لكن ما تركه خلفه من تسجيل لوصية (المجاهد في شهر الغزو والجهاد!):

إن دماءنا رخيصة من أجل (انتزاع سلطان الله المغتصَب ورده إلى الله وطرد المغتصبين له!)

هز كيانهم!

استحضرت ما كتبه سيد قطب في كتابه (معالم الطريق) الذي يكرسه لفكرة (قهر المجتمع والانتصار عليه!)، لأنه (مجتمع كافر!) في عقيدته...

تلك العقيدة التي وضعت جميع المجتمعات في دائرة (الكفر والرِدَّةَ عن دينِ اللهِ) ...بما فيها المجتمعات (الاسلامية) التي يعيشون فيها...حيث يقول: 

(تدخل في إطارِ المجتمعِ الجاهلي تلكَ المُجتمعاتُ التي تزعمُ لنفسِها أنها مسلمة، لا لأنها تعتقدُ بألوهيةِ أحدٍ غيرِ الله، ولا لأنها تُقدِّمُ الشعائرَ التَّعَبُّديةَ لغيرِ الله، ولكنَّها تدخلُ في هذا الإطار يعنى الإطارَ الجاهلي والرِدَّةَ عن دينِ اللهِ؛ لأنها لا تَدينُ بالعبوديةِ للهِ وحدَهُ في نظامِ حياتِها)!

قبل يومين تلقيت من صديقي (صفوان) سؤالاً عبر الشبكة العنكبوتية:

من يجعل شاباً في مقتبل العمر يختار الموت انتحارا ليقتل عشرات الناس الذين لا يعرفهم؟

وأحيانا يعرفهم ومن بينهم أهله وذويه؟!

فكتبت إليه ملخص الحوار الذي دار في منزلي ليلة أمس مع عدد من الأصدقاء حول ذات الموضوع:

في البيئات المحلية المهمشة والمغلوب على أمرها، ينظر السكان إلى الجماعات الإرهابية أو الجماعات المتطرفة العنيفة، على أنها خط دفاعي عنهم ضد التهديد بالعنف من جماعات أخرى مختلفة عنهم، تهدد وجودهم أو مصالحهم أو أمنهم!

وفي ظروف بلادنا يجدون أن تلك الجماعات الإرهابية تشكل حماية لهم من الدولة التي يهيمن عليها خصومهم الطائفيون!

لذلك لا يستبعد أن بعض العوائل في تلك المجتمعات المحلية تدفع بأبنائها من الفتيان للانضمام إلى صفوف الجماعات الارهابية أو تتستر على انضمامهم لها!

وخاصة عندما تضعف الدولة...

وفي الفترات التي تنحسر فيها الحاضنة المجتمعية للجماعات الإرهابية بين السكان، ويكون من العسير عليهم تجنيد البالغين...يلجؤون إلى تجنيد الأطفال لمواصلة عملياتهم الإرهابية على الرغم من تناقص الدعم السكاني لهم، ويستخدمونهم كمفخخات انتحارية متنقلة لتنفيذ عمليات إرهابية صادمة!

مستغلين هشاشة وعيهم واغوائهم إلى عقيدة:

(الموت كسبيل لحياة أُخرى أفضل...ينعمون فيها برخاء العيش ويستمتعون بمضاجعة حور العين ويتناولون العشاء مع الرسول)!

وتبدأ رحلة الاستدراج تلك باغتراب أولئك الشباب عن أنفسهم، واحتقارهم لكينونتها ولذاتها المستقلة، واستمتاعهم بالانخراط في الجماعة والذوبان فيها، بحثاً عن (نفس) جديدة مُتَخَيَّلة، (نفس) تحتقر الحاضر (الكافر والفاسد) وتنتحر من أجل العبور إلى العالم الآخر المُتَخَيَّل...

عالم الأبدية الذي لا عناء فيه!

في تلك الظروف يخضعونهم لشحن نفسي ضاغط دون فكاك، وعزلة مطبقة عن الآخرين، ومسخ عقلي مثقل بالتهديد والوعيد...

فيخضعون لإرادتهم مستغلين وهن عقولهم وطيش عواطفهم، وغياب القدرات الفكرية الاستقصائية التي تفصل بين الحقائق والأوهام!

وكذلك نتيجة ضعف المنظومات القيمية التي تمنعهم عن أذى النفس والإضرار بالآخر!

وختمت رسالتي...

لكن رغم كل ما تخلفه تلك الأعمال الإرهابية...هناك:

طِفلٌ قُرويٌّ يقرأُ ألواحَ الطينِ!

 

طفلٌ قُرويٌّ في الصَفِ الأولِ يَفتحُ صَفحاتَ التاريخِ بقمراءِ "الحلةِ" (1) ...

يَعبرُ في وجلٍ قِنطرَةً من قَصَبِ البَردي...

يَقطِفُ سُنبلَةً يابسةً من حقلِ العَنْبَرِ...

يَنثُرُها فَوقَ سكونِ الغَيمِ الراكدِ...

يَمطُرُ خِصْباً في مَدياتِ الحاضرِ!

يَفتحُ نافذةً في جدرانِ "الوركاءِ"(2) ...

برمشِ العَينِ!

يَمسحُ أثقالَ الآلافِ السِتَّةِ من أعوامِ الهَجْرِ المُتواتِرِ...

يَلمَحُ إنساناً عُريانًا من سومر...

تَحْتَ لهيبِ الشَمسِ الحارقِ!

****

يَتَهَجّى...

يُبْدِعُ أوَلَ حَرْفٍ في تاريخِ الإنسانِ الساعي بين تَضاريسِ الأرضِ...

يوشِمُ حاجاتٍ...صوَراً...

فَوقَ جُفونِ الألواحِ الطينيةِ!

يَرقِبُ "بَيتَ الألواحِ" (3) بـ(سومر)...

تَنهَبُهُ قطعانُ لصوصٍ من أهلي وجنودُ المُحتَلّين!

يَتَوسَلُ "اومِّيا" (4) كُلَّ "الأنوناكي" (5) ...

بَعْدَ "دُعاءِ المَفجوعِ" لرَبِّ الأربابِ:

"أنْ يُنقِذَ إرْثَ الأجدادِ...

ولُقمَةَ عَيشِ الأحفادِ...

وحياةَ بناتِ بلادي والأولادِ"!

****   

يَشْهدُ والدَهُ يُحْمَلُ أشلاءً من تَحتِ حُطامِ السياراتِ المَحروقةِ...

يَلحَظُ إصبِعَهُ مُنفَرِداً يومِئُ نَحوهُ...

يَنحَبُ حُزْناً...

يَتَذكَرُ ذاتَ الإصبَعِ يَحميهِ...

مِنْ جَورِ “سُعادٍ" زوجُ أبيهِ!

يَهرَبُ مُرتَعِداً للأُفُقِ المُغلَقِ بالدباباتِ الوَحشيةِ...

وسيوفِ الذَبّاحين...

يَبحَثُ عن جَدَثِ الأُمِّ المَنسيِّ...

لا يَعرِفُ دَرباً نَحوَهُ...

يَتَذَكَرُ آخرَ "جمعة"...

حَسَراتَ الأخت المهضومةِ...

وبكاءَ أبيهِ...

ودُموعٍ ساخنةٍ فاضَتْ فوقَ أديمِ القَبْرِ المَتروكِ "وَديعَة"!

****

لَمْلَمَتْ "الوَثبةُ" (6) أطرافَ عباءتِها...

حُضُناً للطفلِ القُرَويِّ القادِمِ من "أوروك"...

ضَمَتْهُ بِدِفءٍ للصَدرِ المُثقَلِ بالآهاتِ...

تَتَلَمَسُ جَبهَتَهُ المَعروقَة...

تَسألُهُ...أنْ يَحذَرَ من ثُعبانٍ يَزحَفُ سِراً تَحتَ رصيفِ "المُتَنبي" (7)!

****   

"مَعروفٌ" (8) طَمْأنَها:

هذي نَوبَة عَصْفٍ مُرْتَدَةٍ...

لا تَسفي إلاّ القِشَّ اليابسَ...

والأقدامَ المُهْتَزَّةِ...

أوْقَدَ غَليوناً من تَبِغِ الأهلِ بكوردستان...

ونادى للطفلِ الراقِدِ في أكنافِ "الوَثبةِ":

لا تُفْشي أسرارَ "الألواحِ الطينيةِ" للغرباءِ...

تَشَبَّثْ بشواطئِ دجلةَ والوركاء"!

****

يُشَدِدُ بعضَ حُروفِ الكلماتِ:

مُذْ خَلَعَتْ " ابنةُ فِهرٍ" (9) أكفاناً سوداً...في مَطلَعِ قَرنِ التَغييرِ...

اليومُ تَعودُ إلى كابوسِ الأكفانِ...

وأنا في ذاتِ الوَقفَةِ أرنو لشروقِ الشَمسِ...

صَوتٌ يأتيني من رِمْسٍ...

يَدعوني للصَمتِ الأبَديِّ...

وآخَرُ يَتَدَفقُ من روحي..

يُقْحِمُني وسطَ التيّارِ...

أخلد لليَقظَةِ...

لا تُغْمِض عَيناً خُلِقَتْ للنورِ بِرَغمِ الظُلمَةِ!

(1) الحلة: مدينة بابل التاريخية وموئل المعرفة في زماننا.

(2) الوركاء :(اروك).. أشهر مدن السومريون.

(3) بيت الألواح: اسم المكتبة عند السومريين قبل ستة آلاف سنة.

(4) اومِّيا: وتعني مدير المدرسة قبل ستة آلاف سنة في سومر.

(5) الأنوناكي: مجمع إله السماء والأرض في ملحمة قصة الخليقة البابلية (إنوما- اليش).

(6) الوثبة: ساحة الوثبة المعروفة في بغداد التي يتوسطها تمثال الرصافي الكبير.

(7) المتنبي: شارع المتنبي الشهير بالكتب وبائعيها ومشتريها من كل أنحاء العراق.

(8) معروف: هو الشاعر العراقي معروف بن عبد الغني الرصافي.

(9) ابنة فهر: المرأة...التي قال فيها الرصافي: أسفري يا ابنة فهر فالحجاب ليل طويل...!!!!

 

 

 

 

 

 

من مجموعة (مرثيات سومرية)

حكاية ونَص: في مثل هذا اليوم 1/8...

و"إذا الايامُ أغسَقَتْ"

فَلا تَنسوا "حياة شرارة"!

محمود حمد

 

بعد أن تفاقمت عمليات اغتيال الأطباء في العراق...صارت بيوتهم مهجورة من أهلها، ومؤسساتهم الصحية مقبورة بالخوف...وهم مذعورون تلاحقهم لعنة (امتلاك العقل!) في محيط تطغى عليه عقيدة (تكفير العقل!) ...

كنت وزوجتي في المطار بانتظار وصول صديقتها (نسرين الواسطي) و(زوجها الدكتور عبد العال - جراح الجملة العصبية) وأطفالهما اللذين تمكنوا من الإفلات من (كواتم الصوت) أمام دارهم، ونجحوا في اختراق جدار المفخخات الذي يقطع الشوارع عليهم، ونفذوا من كمائن المُخْتَطفين الكامنة لهم في مفترقات الطرق، وهربوا ليلاً في الخفاء إلى خارج الحدود!

بعد صمت ثقيل وطويل وحزن عميق مُحتَبَس في النفوس خيم علينا عند وصولهم... لم تشأ (نسرين) الحديث عن رحلة الخوف التي قطعتها وزوجها وأطفالهما الثلاثة... إلاّ أن تُقَلِّبَ صفحة لم تبرح ذاكرتها عن أستاذتها (الدكتورة حياة شرارة)، لأنها تُدرك مدى تقديري وزوجتي لها واعتزازنا بها...

تداعى عليَّ من علياء الذاكرة يوم الأول من آب سنة سبع وتسعين وتسعمئة وألف...عندما سمعت نبأ:

وجدوا (حياة شرارة) ميتة مع ابنتها (مها) في جو الحمام المملوء بالغاز في الدار!

وتم إنقاذ ابنتها الصغرى زينب!

وحال ورود الخبر المفجع الذي رافقته وأحاطته المزيد من الشكوك والتأويلات... والتساؤلات:

هل يعقل أن مثقفة وأستاذة جامعية بمكانة ووعي (الدكتورة حياة شرارة) تَقْدِم على الانتحار مع ابنتيها بهذه الطريقة التراجيدية!

لكني استدركت بما اعرفه، وبما رسخ في عقلي... عما أحاط بها وبغيرها من أمثالها... في سنة ثمان وسبعين وتسعمئة وألف من ظروف قمعية وحشية، عندما شنت السلطة أوسع عملية ملاحقات واعتقالات واختطافات وإعدامات ضد الشيوعيين واليساريين وكل من يخالفها الرأي، ورافقتها بعمليات (إرغام) على الانتماء لحزب السلطة بهدف تسقيط هيبة وكينونة أولئك الشيوعيين واليساريين بعقول وضمائر الناس الذين يحترمونهم... حينها دعاها عميد كلية الآداب بجامعة بغداد (ضياء حمودي رصاص بارود) إلى مكتبه، وطلب منها الانتماء إلى حزب البعث الحاكم فرفضت، وعلى الفور صدر قرار من مجلس قيادة الثورة بنقلها من (أستاذة في الجامعة) إلى موظفة بـ (معمل السمنت في السماوة)، وعندما وصل كتاب النقل إلى وزير الصناعة آنذاك (محمد عايش...الذي اعدمه صدام فيما بعد) كتب في هامش أمر نقلها:

(ليس لدينا تدريس تولستوي في معمل السمنت في السماوة)!

بالإشارة إلى اطروحتها للدكتوراه في الأدب الروسي عن "ليف تولستوي"!

وإثر موت زوجها بعد اعتقاله سنة اثنتان وثمانين وتسعمئة وألف، تعرضت (حياة شرارة) لضغوط وملاحقات أنهكت قدرتها على التَحَمِّلِ، فانكفأت عن الحياة العامة، ورغم ذلك لم تتوقف السلطة عن تضييق الخناق عليها، وإحصاء أنفاسها وابنتيها، فقد مُنِعَت من السفر، ومُنِعَت من الكتابة والنشر في المطبوعات، كما مُنِعَت كتبها!

عندئذ طلبت إحالتها على التقاعد، رفض العميد طلبها، ثم قدمت طلباً للسفر مع ابنتيها خارج العراق، ورفض طلبها، لأنها تحتاج إلى محرم!

تنحت (نسرين الواسطي) جانباً تحدث "زوجته أثيرة"... وتروي لها عن لسان أقرب الناس إلى (حياة) وابنتيها:

(كانت ابنتها "مها" تحس بنفس إحساس والدتها، تحس بإحباط كامل. فعندما عادت من المقابلة التي اجريت لها للتقدم على وظيفة، رُفضت بسبب أسم والدتها، وليس على الكفاءة. فقد أثبتت كفاءتها في امتحان المقابلة، وقبلت من قبل مدير الدائرة لكنها رفضت من قبل الوزير!

فوجدت جميع الأبواب موصدة أمامها، واستغلت غياب والدتها وشقيقتها زينب عن الدار لتنفذ خطتها، ذهبت إلى الحمام وأغلقت الباب عليها وفتحت قنينة الغاز!

عندما عادت حياة مع ابنتها زينب إلى الدار، وأحست برائحة الغاز، توقعت ما كانت تفكر به هي، فقد خطرت لها فكرة الانتحار والتخلص من أعباء الحياة من قبل، لكنها فوجئت عندما سبقتها ابنتها "مها"!

نظرتْ "حياة" حولها..."مها" ممددة أمامها، ما الذي ستفعله الآن، "مها" انتحرت، "مها" جثة هامدة أمامها)!

مضت ساعات الانتظار في المطار سريعة رغم ثقل دقائقها بفعل تراكم صخور الموت على الصدور... وأزف موعد الرحيل... وعندما ودعتهم (نسرين الواسطي) وأسرتها قبل مغادرتهم إلى مجاهل الغربة... تردد من وجيب قلبي لأوتار صوتي المعقودة، ما يمور في نفسي فكتبت:

و"إذا الايامُ أغسَقَتْ"(1) فَلا تَنسوا "حياة شرارة"!

أصْغَتْ فاتِنَةٌ من حاراتِ النَجَفِ المأهولةِ بالشِعْرِ ...

لصَوتٍ من فَجرِ التاريخ الأولِ ...

أن تَحمِلَ حَجَراً ...

زاويةً في يَدِها ...

لصُروحِ "جنائنَ بابل"!

والأخرى تَنشِرُ عِطراً في أروقةِ الحَرفِ القائِمِ دونَ نُقاطٍ في سورةِ اقرأ!

هَتَفَتْ أقوامٌ مِنْ خَلفِ الصحراءِ المَسكونةِ بالأحناشِ الصَدَفيَّةِ:

هذي امرأةٌ مِن رَفضٍ ...

يَسكُنُها الجِنُّ الأحمَرُ ...

تَزرَعُ شَرَراً في أدمِغَةِ السُلطَةِ التِبنِيَّةِ ...

فـ " قَضَتْ مَحكمةُ الأورامِ الفَحميةِ:

أن تُلْقى قَسراً...

في جُبِّ الحَيرَةِ!

****

سارَتْ قافلةٌ تَنزفُ وَجَعاً في دربِ المَوكِبِ ...

من بَوابةِ عشتارَ لبيوتِ "الكرادةِ" ... (2)

تَحملُ أحلاماً ودموعاً غَضَّةً ...

بقايا كلماتٍ فاحمةٍ دونَ شِفاهٍ ...

يَطويها نَعشٌ من خوصِ النَخْلِ المَفجوعِ بـ "سبعِ قصور" ... (3)

وقَفَتْ راعشةً عند جدارِ العَرشِ الغارِقِ بالحمى ...

قُدِّسَ سِرُّ المرأةِ ثاقبةٌ في أزمنةٍ صَمّاء ...

نَشَبَتْ نارٌ خلفَ الأبوابِ المَكفوفةِ ...

لا أحَدَ يَعرِفُ من أشْعَلَها ...

إلاّ السُلطَةَ!

****

شَبَّتْ "بِنتُ شرارةَ" كالعنقاءِ قُبَيلَ أُفولِ الأصنامِ العَبَثيةِ ...

كانت أوثانُ القِشِّ اليابسِ تَعوي ...

تَخْشى جَذوَتَها ...

تَعرفُ أنَّ "حياةً" خَصماً أزلياً ليبابِ الأزمنةِ الرَسميةِ ...

"شرارةُ" وهجٌ في أقبيةِ القَمعِ المُكتَظَّةِ بالرَفضِ!

****

من يَجرؤ أن يَخمِدَ في هذا الليلِ "شرارةَ"؟!

إلاّ أوحالُ السُلطةِ!

****

"حياةٌ" كانَت فَيضَ حياةٍ فينا ...

تَغِمُرُنا ...

مِنذُ الاستفهامِ الأولِ في أقبيةِ الزُهدِ ...

لرسيسِ النارِ المأجوجَةِ في شرفاتِ الجَسدِ الآفلِ بالغُربَةِ ...

"حياةٌ" طَرَقَتْ كُلَّ الحيطانِ المأسورةِ ...

تُنَقِّبُ عن نفقٍ يُنْجيها مِنْ نَهَمِ الإحباطِ ...

أزيزِ النارِ ...

إلى أحزانِ الغُربَةِ!

"حياةٌ" صاغَتْ حُلُماً مِنْ بَعضِ فُتاتِ الغَسَقِ الآيلِ للأبديةِ ...

نَسَجَتْ أجنحةً من ضوضاءِ التاريخِ المُزْدانِ بألوانِ الخَيبَةِ ...

حَرَثَتْ جُلَّ دروبِ الاستفهام الشائكِ ...

نَبذَتْ تيجانَ الإغواءِ البائِرِ ...

تَرَعَتْ كأسَ الضَيْمِ إلى آخرِ قَطرة ...

لتكونَ بعيداً عن أدران السُلطَةِ!

****

لكِنْ...

تَتَعقَبُها الأحقادُ المَخبوءة في ذرّاتِ الزَمَنِ الفاسِقِ ...

مُنذُ ولادتِها ...

جانَبَتْ الباطِلَ مُلتَهِباً في كُلِّ مَحطاتِ العُمرِ ...

تَعِبَتُ ...

ألقَتْ آلامَ الرِحلةِ في نَبْضِ حروفٍ لَنْ تُنْسى ...

شُدَّتْ خَلفَ ضُلوعِ المرأةِ أقوامُ كُفوفٍ قاحِلَةٍ تَدفَعُ نَحو التَنّورِ المُتأجِجِ ...

فَتَهاوَتْ في لُجِّ النار!

"زينبَ" ضَمَّتها عِندَ يمينِ القَلبِ النازفِ خَوفَ شَواظٍ يُؤْذيها ...

و "مَها" غَرَستها تَحتَ الأضلاعِ بِصَمتٍ ...

كي تَتَماهى فيها...

"حَياةٌ" وِلِدَتْ من بينِ غُبارِ الطَلْعِ ...

وحَطّتْ فَوقَ كتابِ البَردي ...

وَضَعَتْ حَبّاتِ العَنْبَرِ في النَصِّ الطينيِّ ...

ألْقَتْ وَلَهاً تَحْتَ جُذورِ الأرزِ اليانعِ ...

أسْرَتْ دونَ وَداعٍ لفيافي الغَيبِ الأبديِّ ...

فَلا تَنسوها!

(1) "إذا الأيام أغسقت" عنوان رواية لضحية الدكتاتورية (الدكتورة حياة شرارة).

(2) الكرادة (3) سبع قصور: منطقتين في بغداد أقامت فيهما أسرة الشهيدة حياة شرارة، هذه الأسرة التي أسهمت في إضاءة ثقافة التمدن في العراق، على مدى عقود من الزمن وماتزال.

 

 

 

 

 

 

من مجموعة

(مرثيات سومرية)

حكاية ونَص

ليلةُ الغدر بـ "محجوب"!

محمود حمد

 

في هذه الأيام العسيرة على اشقائنا في السودان، التي تكالبت عليهم فيها قوى الظلام الدولية والإقليمية والمحلية...لابد ان نتذكر في مثل هذا اليوم 28/7...

ليلةُ الغدر بـ "محجوب"!

محمود حمد

منذ أكثر من شهر وانا اتخبط مع صديقي "سر الختم الطيب" الذي توقف قلب ابنه الصبي (محجوب) ابن العاشرة من العمر، الراقد في العناية المركزة بالمستشفى المركزي... المتشبث بالحياة من خلال جهاز قلب صناعي، بانتظار وقوع "معجزة" الحصول على قلب متبرع في وقت يجهلونه!

التأم الأصدقاء لتوفير المبلغ الباهض الذي طلبته جهة (متبرعة) في تايلند، ويتسابق الجميع مع الوقت لاستكمال المبلغ، وإنهاء إجراءات نقل الصبي إلى تايلند، بمبلغ يعجز صديقي (الطيب) عن توفير ما دون 10% منه.

وفيما نحن نجلس في الممر المؤدي إلى صالة الإنعاش، تعالى صراخ في صالة الطوارئ...كانت امرأة باكستانية في الأربعين من العمر ممددة على الأرض كالذبيحة تبكي ولدها الفتى "بشير الله" الذي تعرض لحادث دهس أثناء عبوره الشارع من المدرسة إلى البيت، وقد خيم وجوم مَهيب على المكان، وكان الفتى الضحية ممدداً خامداً على نقالة صالة الطوارئ!

بعد أكثر من ثلاث ساعات أفاقت الأم الباكستانية الثكلى وقد احتضنتها (أم محجوب) مُعَزِيَّةً، دامعة العينين، مذعورة من الموت الذي يحوم في المكان ويترصد ابنها (محجوب) العالق بالحياة بخيط رفيع من الأمل الكامن في الغيب...

ودار حديث الأمومة المفجوعة بينَهُنَّ، وجلست مَعَهُنَّ طبيبة ذات ملامح أوربية كانت لساعات مع الصبي (محجوب) العالق بين الحياة والموت، لتشارِكُهُنَّ تهدئة النفوس...

وفجأة هَبَّتْ إليهم (أم محجوب) هامسة لهم، وعيونها المغرورقة بالدموع تكاد تخرج من محاجرها:

جاء الفرج...الحمد لله!

ثم كتمت صوتها...

كنت في صالة الانتظار في المساء مع صديقي (الطيب) لساعات طويلة...اراقب أُمٌ تفقد ولدها وتحمل قلبه وديعة في صدر صبي لا تعرفه، وأخرى تدعو الله أن ينقذ ولدها بقلب صبي لا يعرفه، سيبقيه على قيد الحياة!

وتقاطر عليهم الأصدقاء الذين يوحدهم القلق وروح التكافل...يومها عرفت لأول مرة أن صديقي (الطيب) هو ابن أخ "النقابي عثمان سر الختم" الذي أعدمه النميري في "الثامن والعشرين من شهر تموز عام واحد وسبعين وتسعمئة وألف"...إثر فشل الحركة التي قادها الرائد هاشم العطا...في الساعة الثالثة ظهراً من يوم التاسع عشر من تموز عام واحد وسبعين وتسعمئة وألف!

بعد أن أفاق الصبي (محجوب) من التخدير كان إلى جواره أمه، وفي الجانب الآخر (أم بشير الله) تضع رأسها على مقربة من صدره لتسمع دقات قلب ابنها الفقيد!

تحدث (الطيب) لأول مرة بالسياسة التي كان متَحَدِّثُها المُفَوَّهِ في مجالسهم، ولكنه انعقد لسانه منذ محنته بابنه...وراح يسرد ما يتذكره من أخبار تلك الأيام:

في ساعة مبكرة من صباح الثاني والعشرون من شهر تموز عام واحد وسبعين وتسعمئة وألف أرسل القذافي طائرتين مقاتلتين ليبيتين لإسقاط طائرة الخطوط الجوية البريطانية .VC10 التي كانت تقل بابكر النور وفاروق حمد الله – القادميْن من لندن، فاضطر قائد الطائرة إلى الهبوط في بنغازي، ومن هناك تم اقتيادهما إلى صالة المطار، وأعادهما القذافي إلى الخرطوم، ليتم إعدامهما إلى جانب هاشم العطا وجميع الضباط والعسكريين الذين شاركوا في الحركة!

في الوقت الذي تم فيه إلقاء القبض على عدد كبير من القيادات المدنية للحزب الشيوعي السوداني ومنهم الشفيع أحمد الشيخ وجوزيف قرنق وسكرتير الحزب الشيوعي عبد الخالق (محجوب).

يتطلع (الطيب) من وراء الزجاج إلى الصالة المضيئة التي يرقد فيها ولده، ويتابع الأم الباكستانية وهي تغطي صدر الصبي (محجوب) كي لا تمسه الريح الباردة!

ويعود (الطيب) بذاكرته مُتحَدِّثاً لي:

يقول الصحفي ادريس حسن:

عندما دخل العميد أحمد عبد الحليم على النميري قال له النميري منفجراً من الضحك:

(إن السادات داهية وخطير!) ...

وذلك لإن السادات... وبدلا من التوسط لدى النميري ليبقي على حياة عبدالخالق، لأنه قد وَعَدَ الروس بذلك، قد حَثَّهُ على الإسراع بإنهاء حياته!

ويصف الصحفي ادريس محاكمة (عبد الخالق محجوب) بقوله الذي تناقلته ألسِنَة الناس:

(لابد أن أذكر موقف عبد الخالق محجوب كإنسان، فقد كان شجاعاً بكل ما تعني الكلمة من معنى، وثابتاً كل الثبات...كان يتحدث في أحرج الأوقات وكأنه يتحدث في ندوة سياسية)!

ويضيف:

عندما سأله الحاكم العسكري:

ماذا قدمت للشعب السوداني؟

قال بثقة:

قَدَّمتُ للشعب السوداني...قَدْر الإمكان (الوعي)!)

عدتُ محمولاً على أجنحة البهجة لنجاة (محجوب) ابن صديقي (الطيب)، وقلبي كسير على الصبي الباكستاني (بشير الله) الذي سيبقى قلبه ينبض في صدر أخ له لم يلتقيه...وحزني متفاقم في عروقي...منذ تلك الليلة:

ليلةُ الغدر بـ "محجوب"!

كُنّا تِلكَ الليلةَ نَجلسُ في بئرٍ من خوفٍ ووعيدٍ...

نُصغي لرفيفِ طيورِ الذاكرةِ المَحفوفةِ بالممنوعاتِ...

أقدامُ التفتيشِ تَدُقُّ الأبوابَ الخلفيةَ للمدنِ المَذهولةِ...

وفريقُ الإعدامِ يُكَبِّلُ “محجوبَ" قُبَيْلَ بُزوغِ الفَجرِ...

****

"فاطمةٌ" تَسألُ عَن:

سِرِّ العَقربِ...يسري فَوقَ بَريقِ المرآةِ...

الـ كانَ "شفيعٌ" يأتي مِنها...بَعدَ غروبِ السُلطةِ...

طِفلُ جائعٌ من أطرافِ الخُرطومِ يُقَلِّبُ صفحاتَ التاريخِ...

يَبحثُ عن كِسرة خُبزٍ بين نِيابِ العَسكَرِ...

وضجيجِ الوعّاظِ "المُنْقَرِضينَ"!

****

طابورُ نساءِ يَلْبَسْنَّ الليلَ نَهاراً...

نيلٌ أحمر يَغمِرُهُ السَمَكُ النافِقُ...

يَدبي قَهْراً...

من "حي المكيِّ"(1) بأم درمان...

لعيونِ الفقراءِ المرصوفينَ على شطآن الألواحِ الطينيةِ...

وشوارع "باكو"(2) الخلفية!

****

عجوزٌ من "كَسَلا" قالَت لِحفيدَتِها...

حَبُوبَة:

ما كانَ القُطنُ بلونِ الثَلجِ قَديماً...

لكنْ...

مِن فَرطِ الظُلْمِ تَداعى شَيْباً!

****   

و"أبو شلال"(3) يُمسِكُ فروتهُ الفُضِيَّةِ...

يُشْبِكُها بأصابعِ غَيْظٍ مقروحه...

يَسألني:

ما كانَ الأجدَرُ بالقتلةِ أن يبقوا نبضاً في جسدِ السودانِ المعلولِ...

كي ينهضَ غَبَشاً في هذا الزمنِ المحمومِ؟!

ويتمتم كالغارقِ في غيبته:

هَلْ يَعرِفُ أهلي في "أمْ درمان"...

إنَّ نزيف الوجعِ الفاتِكِ فيهم...

يَخْرِمُ قَلبَ نَخيلِ البَصرةِ؟!

****

أمَمٌ تمضي وقرونٌ تَعقِبُها خاويةً...

وأنا أجلسُ مُنْفَرِداً في مُفترقِ الدَربِ إلى غاباتِ الإعصارِ...

أرمُقُ جَرَيانَ الأزمنةِ المنحورةِ قُرْباناً لأميرِ مَصائِرِنا...

تَمرَحُ حولي أوراقُ الشَجَرِ القُدْسيِّ...

غُيومٌ داكنةٌ تَقْطِرُ مِزْناً يَغسلُ أحزانَ الأرضِ...

وتبكي...

دموعٌ تَنسابُ بفيضٍ فَوقَ خدودِ المُدُنِ المَهجورةِ...

تَفتحُ غِدرانَ يَبابٍ في جسدِ القَمرِ المَيِّتِ عِندَ رُموشِ العَينِ...

أُلَمْلِمُ أصواتي المنثورةَ في أعشاشِ الطيرِ...

وأسري في مدياتٍ يَعرِفُها الغاوون!

 

 (1) حي المكي: الحي الذي ولد فيه الشهيد عبد الخالق محجوب بأم درمان.

(2) باكو: المدينة التي عقد فيها أول لقاء للحركة العمالية لشعوب الشرق في مطلع القرن الماضي.

(3) القائد النقابي العراقي (الفقيد)عبد الأمير عباس.

*انتهت حياة الشهيد عبد الخالق محجوب على حبل مشنقة سجن كوبر في الساعات الأولى من صباح الأربعاء 28 يوليو 1971 م.

 

 

 

 

من مجموعة (مرثيات سومرية)

حكاية ونَص:

أبحثُ عن "نوزاد"!

محمود حمد

 

في اليوم الأول لمعرض الكتاب الدولي، كنت اتجول في أجنحة المعرض عندما وجدت نفسي إزاء منصة مكتبة مغلقة!

سألت رجلاً منهمكاً بصف الكتب في منصة (مكتبة النهضة)، فأجابني بلهجة بغدادية مفخمة:

الطريق شائك عليهم، وسيصلون غداً إن شاء الله عبر إيران!

لم اتمكن من تجاوز طوفان الشوق في ذاكرتي الذي غمر نفسي بعد يباب سنوات طويلة وانا اقرأ لوحة صغيرة على منصة عرض مجاورة مغلقة... (مكتبة كاوه)!

عندما تضيق بك السبل يمكنك اللجوء إلى (مدينة السليمانية) والسؤال عن (مكتبة كاوه) فتصل إلى أبي هناك...إنهم يعرفونك جيداً...وستكون في ملاذ آمن وعند أناس طيبين!

تلك كانت كلمات صديقي (نوزاد) التي كررها غير مرة...منذ اللقاء الأول لنا في سبعينيات القرن الماضي، ونحن نجلس حول مائدة الغداء في بيتي!

(نوزاد) الشاب المرح النشيط الذي باغتني بدخوله عليَّ ذات يوم، بِزَيِّهِ الكوردي الأنيق، عندما كنت ادَرِّس الطلابَ في مرسم المدرسة، مما أثار دهشة الطلاب القرويين الجنوبيين الذين لم يسبق لهم أن شاهدوا ذلك الزَيّ، فاحتفوا به دون تحفظ!

كان استغرابي أشد من طلابي لدخول شاب لا اعرفه عليهم في الفصل الدراسي.

لكن (نوزاد) كان من اللطف والطرافة أن قدم نفسه للطلاب قائلاً:

جئت أتعلم فن الرسم!

ضج المرسم بالضحك لفارق العمر بينه وبين الطلاب الفتيان...

تلاشت بين (نوزاد) والطلاب وبيني جدران الوجل والشك وشاعت روح الثقة والممازحة الصبيانية... خاصة بعد أن علموا أنه المهندس الجديد المنقول إلى إدارة الاتصالات في المبنى الملاصق للمدرسة!

لم تستغرق العلاقة بيني وبين (نوزاد) أكثر من شهرين!

لكنها كانت عميقة وراسخة وخصبة، لأن الصداقة لا تحسب بطول الزمن، بل بصدق وعمق المواقف، والوفاء في أوقات الشدة... بحيث كنا قد أبحنا لبعضن ا البعض مكنونات فكرنا ومشاعرنا دون تحفظ، منذ لقاءاتنا الأولى...

بل وأزحنا الوجل والخجل عن صور أحلامنا الشبابية، وتيارات افكارنا المشاكسة المختلفة مع الآخرين... وصرنا نلتقي كل يوم، فتَمُرُّ علينا الساعات مفعمة بالبهجة والوِدِّ، رغم قسوة تلك المرحلة التي فُتِحَتْ فيها أبواب (قصر النهاية) لمن يقول (لا) للاستبداد، وكان (نوزاد) بحق علامة فارقة في حياتي!

وأثناء رحلة هروبنا مُطارَدَين من (ميسان) إلى (البصرة)، لم يتوقف (نوزاد) عن دعوتي للجوء إلى أهله في (السليمانية) إذا فرقتنا المقادير أثناء رحلة الهروب!

عندما وقعا في الكمين الذي نصبه لنا رجال أمن السلطة في (محطة قطار المعقل) بالبصرة حيث كنا قاصدين كوردستان، تفرق شملنا!

انا سقط تحت عجلات القطار ونقلت فاقد الوعي إلى المستشفى، و(نوزاد) اختفى وانقطعت أخباره عني إلى اليوم!

في اليوم التالي ذهبت مبكراً إلى معرض الكتاب الدولي قاصداً (مكتبة كاوه) ...كان في المنصة رجلاً شائباً في الأربعين من العمر يرتب صفوف الكتب على الرفوف دونما اكتراث لما حوله...

ألقيت عليه التحية، رد التحية علي بحرارة دون أن يلتفت إلي لكنه استدار عندما وجد ظلي مازال يُخَيِّمُ عليه، واستقام في وقفته بمواجهتي متسائلاً بصمت واستغراب عما ابتغيه!

كنت اتفحص ملامح الرجل المُستعارة من سيماء (نوزاد)...كانت البطاقة المعلقة على صدر الرجل الكُتُبي تحمل اسم (آزاد مكرم) ...شعرت لحظتها بوهن الإحباط يسري في عروقي كرسيس الحمى... لكني رغم ذلك سألته إن كان يعرف (نوزاد)؟!

فَزَّ الرجل كالملسوع في غفوته سائلاً بنبرة اندهاش استنجاديه وكأنه غريق وجد قشة ليتشبث بها:

كيف تعرف عمي (نوزاد) في هذا البلد الغريب؟!

جلسنا بين أكداس الكتب التي كانت في الصناديق أو مبعثرة على الأرض، غير مكترثين بمرور الزوار الذين يتوقفون لاستعراض عناوين الكتب، وبعضهم يلتقط بعض الكتب من الصناديق، لفرادة عناوينها، بالنسبة لما يُعرض في منصات عرض الكتب الأخرى!

تحدث (آزاد) عن دروب الشقاء في البحث المضني عن (عمه) في المدن التي يجهلون الدروب فيها، وعن سنوات السجن المريرة التي أمضاها والده (شقيق نوزاد) في السجن، لأنه سأل عن مصير أخيه، وعن بحثهم في المقابر الجماعية جنوب ووسط البلاد بعد الغزو الأمريكي وسقوط النظام الدكتاتوري، وعن حزن (أم نوزاد) المتشبثة بأي خيط واهٍ متعلق بمصير ولدها فـ (الأم لا تستطيع أن تنسى ولدها البعيد فكيف بالمفقود)؟!

امه التي واصلت الليل بالنهار حزناً، وحنيناً، وبكاءً، وانتظارا، على مدى أكثر من ثلاثين سنة حتى وافتها المنية قبل خمس سنوات! 

ظل (نوزاد) مقيماً في روحي يطرق علي النافذة في آخر ليل المعتقل، أو على أرصفة الغربة والتشرد ليطمئن علي، وانا لم اكف في حلمي وصحوتي عن الصراخ المكبوت:

أبحثُ عن "نوزاد"!

جبلٌ من كوردستان تَخَفى فَجراً في سبعيناتِ القَرنِ الماضي ...

ومَضى ...

يَخرِقُ أنياباً مُصْطَكَّة ...

أضْيَّقُ من سُمِّ الأُبرةِ ...

يَبحثُ عنّي!

تُنْبِئهُ الريحُ بِضَيمٍ يَجتاحُ الأهلَ على أطرافِ الهورِ ...

يَدخلُ "عاصمةَ الجوعِ" (1) بلا وَجَلٍ قَبلَ بزوغ الفجر ...

باغَتَني وأنا أرسمُ لوحةَ شَفَقٍ ...

فَوقَ صِريفةَ أهلي بـ "خرابةِ سِعْدَة" (2)!

حَمَّلَني شَوقاً عَبِقاً ...

من شَجَرِ الجَوزِ ...

إلى حَقلِ العَنْبَرِ!

أمضينا بِضْعَ ظلامٍ دونَ سُهادٍ ...

نَحْكي ...

عن نَفقٍ يُخْرِجُني من جوفِ الذِئبِ الهائجِ ...

لدروبِ الحريةِ!

****

تسألُني بُستانُ "القَصَبِ السُكَرِ" ...

عن أخبارِ "الجبلِ الشامخِ" يَنشرُ زَهواً ...

ومَهيباً يَخطو في "سوقِ النجارين"!

يَتَعثَرُ بالفُقرِ المُتَراكمِ في الطرقاتِ ...

أُخبِرُها:

هذا من وطنٍ لايُذْعِن ...

وبلادٍ لا تَعرفُ إذلالَ الروحِ!

يَسألُها "الجَبلُ الشامخُ":

أينَ مدينتُكُم؟

لا ألْحَظُ مِنها حَجَراً فَوقَ الأرضِ؟

فتجيب بِصَوتٍ مَحزونٍ:

بِمَقابِرِهِمْ تَحتَ أديمِ الأرضِ ...

لا يَظهرُ مِنها إلاّ طَفَحُ الفُقرِ الراسخِ فيها ...

مُذْ قَسَّمَ آدَمْ أُسرَتَهُ ...

سلطاناً وعبيد!

****

قالَتْ أمي للضَيفِ المُثقَلِ بالكَرْمِ وأشجارِ البَلوطِ:

كُلُّ منافِذَ بَلدَتِنا مَقموعة ...

حتى مَسرى الطيرِ إلى البصرةِ ...

ومَشَيْنا ...

"الجَبَلُ الشامخُ" ...

ولُفافةُ ورقٍ مَكتومٍ ...

وهمومي ...

صَوبَ نَخيلِ "المَعْقَلِ"(3)!

****

آوينا وجُموعُ المُحتشدينَ بِصَخَبِ خَلْفَ الجدرانِ الصَمّاءِ ...

وجَلَسنا كالغرباءِ بِصَفِ المُنَتظرين ...

تَخرِمُنا أحداقٌ ...

شَرَرٌ مُتَطاير ...

كعُيون ذِئابٍ تتأهبُ في عُمُقِ الليلِ!

يَعوي صوتُ قطارِ "البَصرَةِ – بغداد" ...

نَتَسَللُ بين زُحامِ المُنْفلتينَ إلى أفواهِ العرباتِ ...

تُربِكُنا أجسادُ الناسِ المدفوعةِ للبواباتِ ...

نُلْقي أنفُسَنا قَسراً لِشفاهِ البواباتِ ...

يَقمَعُني بَغْلٌ من جِفنِ البابِ ...

لسيوفِ العجلات ...

تُقْطَعُ قَدمي ...

أُلقى مأسوراً للحَذَرِ القاتِلِ فَوقَ سَريرِ الآهاتِ!

****

دَهْراً أَقضي ...

دونَ حِراكٍ ...

أنْهَضُ مَعْلولاً بَعْدَ قُرونٍ ...

أسألُ عن ذاك "الجبلِ الشامخِ" يَكمُنُ في روحي ...

مُذْ تِلك الليلةِ ...

في كُلِّ الشُرُفاتِ ...

دونَ مُجيبٍ حتى الساعةَ ...

أو ...

ومض يُفْقِئُ تِلك الظُلُماتِ!

 

(1) عاصمة الجوع: محافظة ميسان جنوب العراق.

(2) خرابة سعدة: أكبر مجمع لأكواخ الفقراء في مدينة العمارة في خمسينات القرن الماضي.

(3) المعقل: من بين أعرق مناطق البصرة وتقع فيها محطة القطار الرئيسية.

 

 

 

"أميرةُ الحَضَرِ"

تبحثُ عن بَطنِ الحوتِ!

محمود حمد

 

انقطع الاتصال مع صديقي المؤرخ واللغوي (أبو بطرس الآشوري) فجأة، لما يزيد على ثلاثة أشهر، منذ 2006 / 12 / 19، وأخفقت جميع محاولاتي للحصول على معلومات عن مصيره ومصير أسرته رغم اتصالاتي المتكررة بمن يعرفونه في الوطن!

خاصة بعد تزايد الأخبار عن جرائم حرق الكنائس، وعمليات التصفية الجسدية الوحشية والاختطاف والاغتصاب الواسعة التي يتعرض لها المسيحيون...وازداد قلقي عليهم بعد انقطاع وسائل الاتصال بجميع من اعرفهم، ومنهم جيراني وأصدقائي في منطقة (الدورة) جنوب بغداد!

الذين كانوا يشكلون بتنوعهم الثقافي في مجلسهم المعرفي المسائي بالباحة الأمامية لمنزلي، ثراءً عقلياً، ومتنفساً روحياً لهم ولي، في أحلك ظروف الحصار الاقتصادي والقمع الفكري والعزلة الاجتماعية التي فُرِضَّتْ علينا خلال السنوات التي أعقبت غزو الكويت!

على امتداد غربتي في داخل الوطن وخارجه كنت احرص على حمل كتاب الأب (انستاس مار الكرملي) الذي أهداه له صديقي الآشوري (أبو شبعاد) بعنوان (نشوء اللغة ونموها واكتهالها) كذكرى له، حيثما ارتحل مغصوبا...

لم تفارق ذاكرتي أحاديث (أبو شبعاد) الثرية والممتعة عن تاريخ العراق في مختلف مراحل نشوئه وارتقائه المدني، وعن التحديات التي هددت هويته الثقافية والحضارية، ومدى شغفه باللغة العربية وفنونها وأصولها وقواعدها...وميله الشديد نحو التثبت مما يقول قبل أن يقول!

اتذكر حديث صديقي (الآشوري) غداة احتلال إيران لشبه جزيرة الفاو ذات الموقع الاستراتيجي في العشرين من مارس سنة ست وثمانين وتسعمئة وألف:

لن يستطيعوا محو العراق وطناً أو حضارة...عودوا إلى التاريخ...فمنذ سقوط بابل في أوائل القرن السادس قبل الميلاد كآخر عاصمة لدولة عراقية مستقلة...سيطر الفُرس على بلاد النهرين، فوجدوا فيه حضارة لا تُمحى وإرث إنساني لا يندثر بسهولة، بل على العكس من ذلك راحوا يتبنون بالتدريج الميراث الحضاري العراقي، ومنه:

تبنيهم لـ(يوم نيروز) الذي كان يومًا مقدسًا عراقيًّا باسم (حاجتو)...أي (يوم الحج) ...، وهو اليوم الأول من السنة العراقية الجديدة التي تبدأ في أول أيام المنقلب الربيعي، وفيه يعود تموز إله الخصب الذكوري إلى الحياة ليخصب عشتار آلهة الخصب الأنثوي وتعود الخضرة والحياة إلى ربوع النهرين!

وهم اليوم...تطأ أقدامهم أرض (سومر) ذاتها كغزاة... لكنهم لن يصمدوا على البقاء فوقها لأنها ساخنة ومتحركة!

عندما "غادرت الوطن مغترباً كانت بنات صديقي (أبو شبعاد) الثلاث صبايا كبراهن "شبعاد" (1) وصغراهن "شميرام" (2) والوسطى "دوشفري" (3)!

قبل يومين...خلال توديعي لأحد أصدقائي في المطار في بلد الغربة صادفت جارهم القديم الممثل المسرحي الكوميدي العجوز (نعمت الموصلي) حاملاً حقائب الهجرة وحيداً إلى السويد، فتعانقنا وانزوينا في صالة الانتظار...

كنت متعطشاً لسماع ما يطمئنني عمن أحبهم من الأصدقاء الذي اختفت أخبارهم خلف إعصار الخراب و(الفوضى الهدامة!) التي أوقدها المحتلون، وأججتها الكراهية الطائفية والدينية والعرقية، فتفشت وباءً دموياً متوحشاً في بيئة التخلف الموروث والمتناسل في المجتمع!

أمسى (نعمت الموصلي) مختلفاً، فقد تبددت الكوميديا من روحه واكتست ملامحه المرحة بالعبوس المتأبد...كان كلامه عشوائياً وملتبساً، ينتقل من خبر إلى آخر دون اتمامه، يذكر أشخاصاً في لُجَّة المحنة دون الإشارة إلى مصائرهم، مما زاد من ظمأي لمعرفة أخبار الأصدقاء ومصائرهم...

صار (الموصلي) يتمتم مع نفسه عندما سألته عن عائلته:

لا أدري ...لا أدري...

هربنا في ظلمة الليل مفزوعين عندما استباح الذبّاحون المنطقة، كُلٌ فَرَّ في اتجاه، ولم أعرف مصيرهم منذ ذلك اليوم قبل أكثر من عام!

عندما كنت أحاول الهرب بعكازتي، صادفتني عائلة لا أعرفها وأنقذتني ووضعتني معهم في حوض سيارة (البيك آب) ...

بعد رحلة مضنية، وجدت نفسي في مخيم للهجرة واللجوء في كوردستان...

طوال تلك المدة لم أترك باباً إلا طرقتها ولا نافذه إلاّ فتحتها عسى أن أتعرف على مصير عائلتي... رغم وعود الصليب الأحمر المتكررة لي بالبحث عنهم في مخيمات اللجوء أو في قوائم ضحايا الإرهاب... ولأني رجل كبير ومريض ولا أحد لي... منحوني حق الهجرة إلى السويد!

أطرق (الموصلي) إلى الأرض ومسح دمعة ترقرقت بعينيه المحتقنتين المتجلدتين، وقال كأنما معاتباً نفسه:

لم نكن نتخيل إن (مذبحة سمّيل) سنة ثلاث وثلاثين وتسعمئة وألف، ستتكرر علينا!

ثم صمت وهو يتطلع إلى الأضواء الساطعة التي منحت صالة المطار بهاءً، وأطلق حسرة عميقة من صدره، وهو يتذكر صديقهم (أبو شبعاد) وأسرته...قائلاً بنبرة خائفة مهزومة:

في أول ليلة للمذبحة التي نفذها الارهابيون بمسيحيي منطقتنا...فَرَّ (أبو شبعاد) بأسرته من بغداد متوجهاً إلى بيت أخيه في سهل نينوى، وعند وصولهم إلى أطراف بغداد أوقفتهم مجموعة مسلحة واختطفت منهم بقوة السلاح أبنته الصغرى (شميرام) "سَبِيَّةً"، وعندما حاول أبوها التشبث بها أطلقوا النار عليه وأردوه قتيلاً، وأعادوا جثته إليهم، ووضعوها في حوض سيارة الركاب التي يستقلونها، وطلبوا منهم المغادرة فوراً أو إطلاق الرصاص عليهم!

في الطريق فارقت أمهم العليلة الحياة بنوبة قلبية من شدة الخوف، وعند وصولهم في منتصف الليل إلى مدخل الموصل ساقتهم مفرزة من الارهابيين لاستجوابهم عن الجثث في السيارة... فاقتيد السائق للاستجواب و(شبعاد) انتزعت من بينهم كـ "سَبِيَّة"، وعندما سمعت(دوشفري) صراخ واستغاثة أختها (شبعاد) التي افترسها المُغْتَصِبون، ومطالبتها إياها بـ “اللغة السريانية" بالهروب، لبست (دوشفري) ستار الليل، وتعاظمت قوتها بفعل الخوف، وسارت حافية في الدروب الوعرة إلى جهة مجهولة...تبحث عن (ملاذ آمن)!

غادر (الموصلي) باتجاه مدرج المطار للموت في الغربة...وبقيت مُتسَمِّراً في مكاني اكتب:

"أميرةُ الحَضَرِ" تبحثُ عن بَطنِ الحوتِ!

نَهضت (دوشفري)..."أترعتا"(4) من أطلالِ “الحَضَر"(5) المُحتلةِ...

تَنفُضُ أكفانَ مدينتِها من أدرانِ السلفِ الطالحِ...

تسألُ عبثاً عن إخوتِها...

أسرى بسجونِ المُحتلينَ...

دَخلت بعد قرونٍ بابَ "الزوراءِ"(6) المُشْرَعِ للشامِ...

قُبَيْلَ مرورِ الدباباتِ بفجرِ الجمعةِ...

سألَتْ ثُلَّةَ "ولدانٍ" سُمرٍ _ دونَ خُلودٍ _ في بَوابةِ قَصرِ "المنصورِ":

مَنْ مِنكُمْ يُرشِدُني لحبيسٍ في "دارِ الحكمةِ"؟ (7)

هَبَّ صَبيٌّ فيهم يَلبسُ قفطاناً ازرق...

أمْسَكَ يَدَها..

وتَقَدَمَ دونَ كلامٍ لـشريعةِ "بيت النواب"(8)!

****   

صَعَدا الزَورَقَ...

جاءَتْ حُوتٌ يَصحبُها شَبَحٌ من لونِ بَريقِ الشَمسِ...

يَحمِلُ في يُمناهُ خطابٌ أخضرَ...

هَمسَ الحوتُ بأذنِ الولدِ الأسمرِ...

جَحَظَتْ عيناهُ...

وتَمْتَمَ في وجلٍ قاطع:

إنّا لا نَعْرِفُهُ...

صَفَقَ المِجذافَ بوجهِ المَوجِ...وأسرى...

أومأ لفتاةِ “الحَضَرِ" المحزونةِ...

أن تَخفي وَجْهاً كطلوعِ البَدرِ!

****   

حَدَّقَ للحوتِ المُتَواري في أعماقِ الموجِ...

وأفصَحَ:

يسألُ عن "يونس" ليعيدوهُ إلى بطنِ الحوتِ...

خِشْيَةَ أن تَقتِلُهُ السياراتُ الملغومةِ...

أو يخطِفُهُ "وكلاءُ الله" المنتشرينَ بأسواقِ الفقراءِ...

دَخلتْ قصرِ "المنصورِ" الباذِخِ وقتَ صلاةِ الظُهرِ...

تشكو أفعالَ المُحتلينَ الـ حرقوا "عَرَبايا". (9)

لَمَحتْ كومَ رؤوسٍ مقطوعة في أرجاءِ المجلسِ!

****   

سَقطَ الولدُ الأسمرُ مفزوعاً بجوارِ الرأسِ الأشْيَبِ...

يَنشجُ:

يـ......ـا أبتي..

فاضَت طوفانُ أمومة...

حَمَلَتْ أحزانَ الولدِ المَهزولِ وآهاتَ الرأسِ المقطوعِ...

وأمْضَت بِضعَ عقودٍ تبحثُ عن قبرٍ تُؤْويهِم...

مَسَّتْ قَدَميها أكوامُ الكُتُبِ المحروقةِ في طُرُقاتِ المُدنِ المنهوبةِ...

وضَعَتْ حِملاً كان ثقيلاً...

رَصَفتْ جَسدَ الولدِ المهزولِ وأكوامَ الكُتبِ المحروقةِ والرأسِ المقطوعِ جوارَ النخلةِ...

حَفَّتْ قِذلَتَها قَدَمٌ تتدلى من تاجِ النَخلةِ!

****

أوصَتْ صاحبَها المُتَدَلي دونَ كفوفٍ من جذعِ النَخلةِ:

إنَّ الكتبَ المحروقةَ والرأسَ المقطوعِ ورفيقَ الدربِ..."وديعة"(10) ...

حتى يأذنَ رَبُّ الموتِ بميعادِ الدَفنِ!

قَطَعَتْ كُلَّ دروبِ الظُلمَةِ تَسالُ عن "بيتِ الحكمةِ"...

أوقَفَها قُطّاعُ الطرقِ المحترفينَ بعُنفٍ في نفقِ (البابِ الشَرقيِّ) ...

خَلَعَتْ نَعْلَيها للتفتيشِ الفائقِ!

****   

قالَتْ لكبيرِ القَتَلةِ:

إنّي من قومٍ نَقطِنُ فوقَ أديمِ الغَيمِ...

لا نَهبِطُ إلاّ ومواسمَ خيرٍ تَغمرُ كُلَّ الآفاقِ!

رُكِلَتْ...

زُجَّتْ في قفصٍ وذئابٍ جَوْعا...

ألقَتْ جَسداً كالشفقِ البازغِ في ليلةِ بَرْدٍ لمخالب مجهولةٍ!

لكِنَّ غنائمَ صيدِ المُحترفينَ تَجاوَزَ أنيابَ المُفتَرسين...

انْسَلَّتْ من بينَ صراخ المُفتَرَسينَ وأنيابِ المُفتَرِسينَ...

وطافَتْ كالريحِ بأحياءِ الفُقَراءِ...

بصمتٍ صوبَ أنينِ النَخلةِ!

طَوَّتْ جَسدَ الولدِ الأسمرِ بين الأضلاعِ...

وعادَتْ لشريعةِ "بيتِ النوّابِ"...

تسألُ عن دربٍ لـ(الحيرةِ) (11) ...عن (هند الصغرى) (12) وأخيها(النعمان)!

تُنَقِبُ عن مأوى "يونس" (13) كَيْ تُقْبَرَ و"وديعتِها" فيهِ!

 

 شبعاد: ملكة أور... زوجة الملك "آبار كي أحد" من سلالة أور الأولى في فترة 2500 ق.م.

شميرام: هي الملكة (سمير اميس) ... ملكة آشورية تاريخية ومعناها (محبوبة العالم) (822-811 ق.م).

دوشفري: ملكة الحضر بنت الملك (سنطروق الثاني) (158-241 م)

أترعتا: آلهة الأنوثة عند سكان مملكة الحضر جنوب الموصل.

مملكة الحضر أو مملكة عربايا: هي من أقدم الممالك العربية في العراق في الجزيرة الفراتية وتحديداً في السهل الشمال الغربي من وادي الرافدين، غرب العراق وشرق سوريا حاليا.

عرفت مملكة الحضر (مملكة عربايا) بهندستها المعمارية وفنونها وأسلحتها وصناعاتها، كانت هذه المدينة تجاري روما من حيث التقدم حيث وجد فيها حمامات ذات نظام تسخين متطور وأبراج مراقبة ومحكمة ونقوش منحوتة وفسيفساء وعملات معدنية وتماثيل كما ضربوا النقود على الطريقة اليونانية والرومانية وجمعوا ثروات عظيمة نتيجة لازدهارهم الاقتصادي.

حاول الفرس والرومان غزوها مرارا حيث فشل الإمبراطور الروماني تراجان وكذلك الإمبراطور الروماني سيبتيموس سيفيروس سنة 199م. وهزمت جيش الإمبراطور الفارسي أردشير الأول الذي سيطر على منطقة الجزيرة كلها حتى سقطت بيد الفرس سنة 241م ودمرت تدميراً شديداً ومنع أهلها من حمل السلاح. وكانت تلك نهاية مملكة عربايا. (ويكيبيديا)!

...واليوم يستبيحها المحتلون الامريكان والوحوش المتأسلمون.

الزوراء: بغداد...في زمن المنصور.

دار الحكمة: ملتقى الفكر الإسلامي والعربي والأجنبي التي ازدهرت في زمن المأمون.

شريعة النواب: مرفأ للزوارق على دجلة سمي باسم أسرة النواب التي ينتمي إليها شاعرنا العزيز مظفر النواب.

عربايا: مملكة الحضر في لغة الحضريين.

الوديعة: هي القبر المؤقت للميت في اي مكان في الظروف الطارئة، قبل توفر الظروف الطبيعية لنقله الى المقبرة الدائمة.

الحيرة: تقع مملكة (الحيرة) العربية وسط العراق بالقرب من النجف (512-554) م

هند الصغرى: أخت الملك النعمان بن المنذر بن ماء السماء!

يونس: النبي يونس الذي ابتلعته الحوت في النص الديني!

 

 

 

 

نَخلةٌ طَريدةٌ

على الخليجِ العربي!

 

محمود حمد

 

حال وصولي منفياً إلى (مدينة الفاو) على رأس الخليج العربي وجدت في (النخلة الطريدة!) رفيقاً لي في غربتي...استأنس لصمتها في وحدتها، واغفو لعزف الريح على سعفها، اتطلع إلى الأفق الفسيح الحُرِّ المُمتَدِّ إلى مديات الخليج فيما وراءها، اصغي إلى أنينها من فرط الوجع، اتحسس رسيس الحمى في جسدها، وهي تعجز عن اقتلاع اللوح الخشبي المتآكل الذي ينتهش جذعها، اقرأ  بقايا الحروف الحائلة اللون التي كتبت بخط ركيك على اللوح الخشبي ذو الرأس المدبب كالسهم (الحدود العراقية!) ...

ابتسم مع نفسي متسائلاً عن مغزى عبث أهواء الريح باتجاه اللوح الخشبي...تارة يكون السهم نحو الشرق، وأخرى نحو الغرب، وغالباً باتجاه السماء!

 رغم انتباذها قطيع النخل خلفها، ألاّ أنها لم تكف عن سخائها، فعذوقها مُثقَلةٌ بالرطب، وسعفها نَضِر ٌ، وفيؤها رغم شِحَتِه ظليل...

استكنت لحنانها وتآلفت معها، ورحت استقصي تقلبات الأزمنة من خفق الريح بخوص سعفها، واستيطان غبار الشمس في فروة رأسها ، التجئُ كل يوم إليها للتَفَرُّدِ والاعتكاف في رحم عَبَقِها، ارسمها مرة عاريةً، وثانية مصلوباً على جذعها الفِكْرَ، وأخرى اركن أدواتي (وديعة) عند جذعها للذهاب إلى آخر شاطئٍ لشط العرب، عند التماهي بمياه الخليج العربي، اجعل من شفاه النهر الطينية الطرية لوحةً، افرِغُ عليها يومياتي التي اخشى من البَوحِ بها، فامضي النهار كل يوم جمعة انْحَتُ على اللوح الطيني لجرف (الخليج العربي)، وعند المساء اجلس منتظراً (المَدَّ) لأطمئن أن موجة (المَدِّ) مسحت أسرار يومي!

ذات مساء أسندت رأسي إلى جذعها الحائل اللون من فرط هجران الأحبة، فأخذتني الغفوة تحتها وانتابني شعور بأن روحي عالقة بها، وسرت قشعريرة وحمى في جسدي عندما عصفت بها ريح السموم، وامتلأ صدري بالبهجة حالما تَضَوَّعَ عنها رحيق الطَلْعِ الزكي، أو كلما نَضُج الرَطَبُ... فاستسلمت لعذب حديثها، اسمع حكايتها:

قطعوا رؤوس نصف أهلي في بلاد النهرين، بعد أن كنت مقدسة عند اسلافهم...تكالب علينا الطغاة والبغاة والغزاة، صرنا غرباء في أرضنا، بعد أن كانت هذه الأرض أول تكويننا ونشأتنا ونحن آلهتها المُقَدَسون من عصر فجر الحضارة في (أريدو) قبل ستة آلاف سنة...

واليوم...

لم تعد تحمينا من الموت (قَصْلاً!) أو ظمَأً، لا شرائع نازلة من السماء ولا قوانين شائعة في الأرض...

بالأمس...

قبل ما يقرب من أربعة آلاف سنة سَنَّ لنا (حمورابي) في مسلته سبعة قوانين تحمينا...

إذ فُرِضَت غرامات كبيرة على:

(من يقطع نخلة، أو يهمل رعايتها، أو يتأخر في تلقيحها، أو يتسبب بِقِلَّةِ عطائها، أو يُفسد رَطَبَها، أو يمنع سَقْيَها، أو يَتْلِفُ أرضها)!

وتأوهت النخلة بصوت متحشرج سرى في بدني وهي تهمس لي بقول (أبو العلاء المعري):

كَلِفنا بالعراق ونحن شرخٌ                فلم نلمم به إلاّ كهولا

شربنا ماء دجلة خير ماء    وزرنا أشرف الشجر النخيلا!

عندما أتتني أخبار نَفيي من جديد، وفُرِضَ علي فراق حبيبتي (النخلة الطريدة!) ...كتبت على ورقة انتزعتها من صفحات سيرتي، ودَسستها بين رحيق طَلعِها وجدائل قلبها...كي تعيش معها ولا تنقطع عنها حتى يأتيها الأجل الباغي ليقْطَعُ رأسها...

ودَوَّنتها في ذاكرة الأيام بعنوان:

نَخلةٌ طَريدةٌ على الخليجِ العربي!

لا تَعرِفُ من أيِّ فَسيلٍ جاءَت...

أو مِن أيةِ "فُصْمَّة"(1) ...

رُبَّ رياحٍ حَمَلتها للغربةِ قَسراً...

وتَهاوَتْ من عصفِ الوِدِّ إلى وَجَناتِ التُربةِ...

عَزَّ عَليها الهَجْرُ...

تَناخَتْ...

غارَتْ في أدَمِ الأرضِ...

وأمْسَتْ فاتنةً في بَصراءِ النَخْلِ...

طَريدَة...

عِندَ شواطئِ "رأسِ البيشةِ"(2)!

****

كانَتْ في عُمُرِ هلال العيدِ تُلَوِّحُ جَذَلا لحقولِ الحنّاءِ...

مَرَتْ بجوارِ جَديلتها ثُلَّةُ فتيانٍ تَبحثُ عن سرِ الكَونِ...

سَمِعَتْ "إنكي دو"(3) يَروي حُلُماً:

الناسُ جيوشٌ من صلصالٍ رَخوٍ تَتَفَطَرُ...

تَتَدافعُ...

تَهوي في الطُرُقاتِ رُكاماً...

يأتيها قَمَرٌ من نارٍ...

يَتَدَحرَجُ من بينَ ضلوعِ الغَيْمِ...

يَلْهَبُها...

تَتَصَلَبُ...

تَغدو ثيراناً من حَجَرٍ جامح...

تَتَنافرُ في إيوانِ الحُصنِ الخَزَفيِّ المَحروسِ بِجُنْدٍ من رملِ الصحراءِ...

تَمحو حَقلَ الألغامِ...

وجدرانَ الحُصنِ الخَزَفيِّ...

وأصنامَ السُلطةِ الرَمليةِ!

****

البَغيُّ تُرَوِّضُ "إنكي دو" كَي يَنكُثَ بالعهدِ...

وجيوشُ المُحْتَّلِ تُقَوِّضُ وَطني كي يَفتُكَ فينا أُمَماً...

مِنْ أرذَلِ عُمُرٍ لِرَضيعِ المَهدِ!

****

في عسَسَ الَليلِ المُثْقَلِ بالمحنةِ...

سِيقَ "الحَلاجَ" (4) إلى جذعِ النَخلةِ مَقصوباً...

تَحرِثُ ساقيهِ المَغلولةِ دَرباً للوَجدِ المُتَماهي بَينَ الخالقِ والمخلوقِ...

لَمْ يألَفَهُ الحُكماءُ...

وَلا..

وعّاظُ الخُلفاءِ المبكومينَ بِسِحتِ المالِ المَسْلوبِ!

****

ما اقْتَدَرَ "المُقتَدِرُ" العباسيُّ على وَئدِ الفِكرَةِ...

فاغتالَ الحلاجَ!

ما اقْتَدَرَ "المُقتَدِرُ" العباسيُّ على قَطعِ الخَطوَةِ...

فاجْتَّزَ الأطرافَ المَعْلولةَ من جسدِ الحلاجِ!

ما اقْتَدَرَ "المُقتَدِرُ" العباسيُّ على خَلْقِ الفُرقَةِ بَينَ الواجِدِ والموجودِ...

فاختارَ الفِتنةَ بالسياراتِ المَلغومةِ في أسواقِ "الحِلَّةِ" (5)!

ما اقْتَدَرَ "المُقتَدِرُ" العباسيُّ على كَمِّ الأفواهَ بِسَيْفِه...

فاسْتَقْدَمَ أفواهَ جحيمٍ ومَنابِرَ سوءٍ!

ما اقْتَدَرَ "المُقتَدِرُ" العباسيُّ على أن يَزرعَ وَرْدَة...

فاجْتَثَّ جميعَ النَخلِ بذاكرةِ النَهرين!

****   

شَعَرَتْ كُلُّ نَخيلِ الدُنيا بالوَجَعِ المُتفاقِمِ في روحِ النَخْلَةِ...

تَحْتَضِنُ الجسدَ الهالكَ...

والنَفسَ التَوّاقةَ للزُهْدِ بدارِ الغُربَةِ!

سَعْياً للوطنِ الأزَليِّ النائي عن طُغيانِ القَسوةِ والزَيفِ...

يَطلُبُ قَتلاً في وَضَحِ العَقلِ...

لِئَلاّ يَخسَرَ سُلطان الأبديةِ!

يَحْنو بالجسدِ النازفِ...

فَوقَ خُشوعِ السَعفِ...

دفئًا لرفيفِ الجذعِ الرعاش!

****

كانت نَخلَتُنا تَتَسامرُ تِلكَ الليلةَ والبدرِ المُتأرجِحِ خَلْفَ الغَيْمِ...

مَسَّتْ هامَتَها لَفْحَةُ بارودٍ ساخن...

جَفَلَتْ...

مَدَّتْ قامَتَها...

نَظَرَتْ لخليجٍ ساكِن...مُضْطَرِمِ الأعماقِ...

لَمَحَتْ "كوكس" (6) يَتَلَفَعُ "بِشْتاً" (7) عربياً وعِقالاً...

يَحمِلُ "خِرْجاً" (8) من صوفٍ داكِن...

تَتَراءى مِنهُ ملامِحَ مَلِكٍ مَذعورٍ مُسْتَورَد...

ووثيقةَ بيعٍ للمُنتَفعينَ!

فَكَّتْ نَخلتُنا فَروَتها ثاغِبَةً...

حَجَبَتْ رؤيتَها كِثبانُ الملحِ الزاحفِ نحو الأحداقِ...

هُجِرَتْ...

ما عادَتْ تَغمِرُها رائحةُ الحِنّاءِ...

تَفاقَمَ فيها الغَيظُ...

حَطَّتْ قُبَّرَةٌ فوقَ حُبوبِ الطّلعِ...

ناحَتْ..

تُنْبِؤها بدموعِ النِسوانِ المنكوبةِ بـ “الثورة"(9)...

يَحمِلْنَّ ذراعَ شهيدٍ بضلوعِ شهيدٍ آخر...

والقبرُ المُتشاسعُ ما عاد يُصدِقُ أحلامَ الدفّانينَ المُنتَفخين!

****   

كُنتُ أُطَهِرُ كَفي بالطينِ الحُرِّ الدافئِ من تَحتِ شُجيراتِ الحِنّاءِ...

أُسائلُ نفسي عن سِرِ النَخْلة "الزعلانة"...

بينَ سُكونِ "الشَطِّ" المذهولِ لهولِ الفولاذِ الدمويّ الخائضِ بِبُحورِ دِمانا...

ورفيفَ نخيلِ الوطنِ المُتَعانِقِ من أطرافِ "الفاوِ"(10) إلى ناعورِ "حديثة" (11) ...

مَسَّتْ وَجهيَّ خَفْقَةُ ماءٍ باردةٍ من خورِ البَصرةِ...

تَحملُني لبساتينِ الكَرْمِ بأطراف "كَلالة"! (12)

فصمة: نواة التمرة بلغة أهل جنوب العراق.

رأس البيشة: شاطئ العراق المطل على الخليج العربي.

انكي دو: صديق جلجامش.

الحلاج: هو الحسين بن منصور الحلاج. صلبه المقتدر العباسي على جذع نخلة لأنه معارض!

الحلة : مدينة عراقية عرفت بالتنوير الثقافي.

كوكس: "بيرسي كوكس" السياسي البريطاني الذي وضع أسس تقسيم المنطقة وشرذمة شعوبها منذ نهاية القرن التاسع عشرة، والحاكم الفعلي للعراق بعد تأسيس (الدولة العراقية) عام 1921.

البشت: العباءة الرجالية.

الخرج: الكيس الصوفي الذي توضع فيه الأشياء لتحميلها على ظهر الدواب.

الثورة: مدينة البؤساء والمبدعين في رصافة بغداد.

الفاو: ميناء العراق الرئيسي على الخليج العربي.

حديثة: مدينة عراقية على أعالي نهر الفرات عرف أهلها بالسخاء والثبات.

كلالة: قرية عراقية كوردستانية عرف أهلها بمقارعة الاستبداد.

 

 

حكاية ونَص:

لوحةٌ عاريةٌ في مجلسِ المساءِ!

محمود حمد

 

كعادتي انهض باكراً حاملاً مَخْيَّلتي في أحداق عيوني... اشور من الطبيعة ألوانها، ومن الشمس خيوطها، ومن الأرض حُرَّ ترابها، ومن الجبال شموخها، ومن النخيل طَلْعها، ومن القمراء بهاءها، ومن الرمال صبرها، ومن الزهور رحيقها، ومن السماء أعاصيرها، ومن الشجر خصبها، ومن النجوم ألَقَها، ومن الماء (كل شيء حي)!...

كي تولد (لوحة)!

اعود مُحَلِّقاً على أجنحة الشغف، تَميدُ الأرضُ تحت أقدامي من فرط الهيام، تتراقص خصلة ناعسة كالأفنان النَضِرِ على جبينها، امُدُّ يدي إليها، تبرق عينيها بالعشق، فاغرق في الحلم...

تنشأ صهوة غَيْمٍ حالبةٍ تبحث عن وطن ظامئ، تسقيني حياةً من قَطرِ الحرية، كي لا ينقطع النَسلُ، وتُمسي الأرض يباباً، تسكنها الغربان وقطعان الجِنِّ المتوحش!

انزلُ من علياء الغيم والمزنة، كي امسك أذيال (اللوحة)!

اهوى في قاع الجُبِّ، فألقى (يوسف) معصوب العينين بقاع الجُبِّ، افُكُّ وثاقه، فيحكي (يوسف) للزائر عن ذئب كان أخاه يُكنى (روبين)، وأمٌ أغفلها التاريخ تكنى (راحيل)، وأخٌ لم ترَهُ أُمه ساعة ميلاده يدعى (بنيامين)، وأَبٌ ضاجع أختين بـ(شرع الله) فكانت (اسرائيل)!

قالوا:

(يعقوب العاشق) هام بأرض الله يُنَقِّبُ عن (قلب صالح) ... صادف في السهل فتاةً فُتْنَّة، ترعى الأغنام البيضاء المنثورة في الحقل الأخضر، تروي الحَملان بماء من جُبٍّ ناضب، حيّاها الهائم وَجِلاً خَجِلاً...يطلبُ سُقيا...فَتَفَتَّحَ في الوجه حقلُ زهور حمراء...وتشبث (يعقوبٌ) بالأرض المُهتَزَّة كي لا تُطلقه البهجة لوراء الغيم...

لاحقها مفتوناً بالدرب إلى قرية (حرّان) فكانت(راحيل) ابنة خاله (لابان)...ألقى العاشق بين يديهم قلباً معصوفاً بالشغف النازل كالقَطرِ على أرض ظمأى...باغته (الخال القحف!) بشرط أن يرعى الأغنام سنين سبع، كي يقطف (راحيل)!

فأذعن!

تمضي الأشهر كالأدهر، والأيام سنيناً...والعاشق يحصي أنفاس الزمن المتشبث باللحظة دون حراك...وتجيء الليلة مظلمةً...يدخلها في ساعة قَرٍ قارس...يتماهى فيها، مكتفياً فيها...لا مكتفياً منها...وتكون الليلة ساخنة تَرْتَّجُ لها أركان العرش الراسخ من فرط النشوة...حتى أن صاح الديك بفجر القرية، وانبلج الصبحُ، فبانت امرأة أخرى ينكحها طيلة ساعات الليل!

ويهيم العاشق في البَرِّ الممتد من القرية لشواطئ (أور) بأرض النهرين...

يشكو لله من الغشاشِ الخادعِ (خاله!):

هذا الخادع يعرض جوهرة في وضح الصبح ويبيع رماداً في حلك الليل!

أوقفه الفتيان الرعيان جوار البئر الناضب يلقون عليه الحجة:

من يعشق يمضي لحبيبته حتى يمنعه الموت!

فصاح (الخال) الخادع:

هذا عهد الأجداد...ألا تُقرع أجراس العرس لبنت قبل شقيقتها الكبرى...كي لا يلحقنا العار!

ولكي تحصد ما تهوى...اخدم سبع سنين أخرى في رعي الأغنام الموبوءة بالقحط وأنياب ذئاب لا ترحم!

وأذعن (يعقوب العاشق) لوجيب القلبِ ومكرِ الخال المحتال!

تسري الأيام سهاماً تخرم عافية الرجل المفتون ببنت الخال الصغرى...يهواها حتى كاد العشق نبياً يتراءى للناس بشيراً في زمن القحط!      

وانا اسعى أن ارسم (يوسف) (1) في قاع الظلمة دون وثاق!

فيأبى الحَبْلُ...الوتدُ...الظُلمةُ...

يَدُكُّ الطفلُ الأرضَ بمحنته...تتفجرُ عيناً دافقةً تغمرُ أرجاء الجُبِّ...فيطفو (يوسف) والحبل و"انا" والقصةَ، ويطغى السيح من البئر إلى شطآن النهرين...

وامضي ابحث عن (يوسف) في أرجاء الأرض (اللوحة)!

قالوا:

(يوسف مُختطفٌ) بين النهدين...

والنسوةُ من فرط الشهوة قَطَعْنَّ الكَفّينْ!

اسأل فتيان (الثورة)(2) عن (يوسف)...قالو:

مصلوب جنب المرأة في (نصب الحرية) (3) ...

بجريرة إشهار الحُسْنِ الساطع فوق رؤوس الدَجّالين بدولة تفريخ القُبْحِ!

وتصيح ُ"اللوحةُ" في وجهي:

يا “انت"...عُدْ بي لظلال النخل المقطوع الرأس بضفاف النهر الظامئ...

كي لا تقتلني (السلطة!) جهراً تحت سياط الجلادين! 

فاقطع درب الرحلة... اكتب من وجعٍ:

لوحةٌ عاريةٌ في مجلسِ المساءِ!

 

 

 

 

تَتَعَرّى اللوحةُ من أنماطِ الضوءِ الباهتِ في أرجاءِ المَرْسَمِ ...

تَخرُجُ حافيةً لفضاءِ المحظوراتِ ...

تَفتحُ عَينيها لسطوعِ الشَمْسِ الدافئِ ...

يَتَبَدَدُ عَنْها الوَهَنُ المُتَلَبِدُ فَوقَ الجِفنَّينِ ...

تَعْلو هامَتَها للغيمِ الخِصْبِ ...

وتمضي بينَ حقولِ القَمحِ المغمورةِ بالشفقِ الماطرِ!

****

تَنفَرِطُ الألفةُ بينَ اللوحةِ وبريقِ المُبدِعِ تَحْتَ لهيبِ الشَمْسِ ...

في بَرْدِ القاعاتِ المهجورةِ!

****

تَتَداعى الأشياءُ المحظورةُ لفضاءِ اللوحةِ شوقاً ...

حينَ يتيهُ الفنانُ العاشقُ برحيقِ الطَّلْعِ!

****

تُصْلَبُ اللوحةَ في ديوانِ الحُكامِ المكفوفين ...

تُنْصَبُ مِشنَقَةٌ للّوْحَةِ وَسْطَ سكونِ الشارعِ... بينَ حشودِ الذَبّاحينَ!

****

تُتَهَمُ اللوحةُ... بـ:

الشكِّ بسلطانِ النَزوةِ...

نَشْرِ الضَوءِ الساطعِ في حَلَكِ الإحباط المتواتر ...

إيقاظِ الأمةِ من رَقدَتِها في أقبيةِ المُدُنِ العُريانَةِ!

****

تُباعُ اللوحةُ في سوقِ الخُردَةِ ثَمَناً لرغيفٍ أعجف ...

تَنبُذُهُ الديدانُ المنهومةِ!

****

تُصْطادُ اللوحةُ في أنفاقِ التفتيشِ المبقورةِ في أدمغةِ الأمةِ ...

بحثاً عن فجرٍ سريٍّ قد يَبزِغُ منها ...

فيزلزلَ أركانَ حصونٍ يَنخرُها السوسُ!

****   

يَتَدفَقُ الخيالُ من رحابِ الفنانِ المُضطَرِمِ الأوجاعِ ...

يَتَفَسَحُ المدى للسطوعِ في اللوحةِ ...

تَنحَسِرُ الأوهامُ عن الساحاتِ العامةِ!

تَتَردى الخيولُ الهزيلةُ إلى فَيءِ الخمولِ ...

يَهجِرُها القَرادُ في مواسمِ الخَوفِ ...

تُحيكُ الرياحُ ثياباً لربيعِ الطفولةِ من قِدّاحِ الليمونِ ...

تَنشرُها خِصباً وعَبيراً في شُرفاتِ اللوحةِ!

تَرتَصِفُ المواعِظُ للإِرثِ الراكدِ في خرائبِ الماضي الحائلِ ...

والظلمةُ لسيوفِ الزمنِ المُتَقَيِّحِ!

تَمْحو الأشياءَ المغمورةِ بالرفضِ ...

تسفي الآهات المكنونةِ في صيحاتِ اللوحةِ!

****

دربٌ مُكتَظٌّ بالعشاقِ يُنَفَذُ فيه الإعدامُ بفجرِ العيدِ ...

مِشنقةٌ وسطَ الشارعِ تَقصِلُ طلاّب الفنِ الرافضِ!

****

تولَدُ الحروبُ من قرارةِ الأسفلتِ!

تولَدُ اللوحةُ من خيوطِ الشَمسِ!

يَرتَقي الغُزاةُ بالدماءِ للعروشِ!

تَنكَفِئُ اللوحةُ للوَجدِ الهائمِ بالغربةِ!

يَرْقُدُ التاريخُ تَحتَ ظِلالِ السيوفِ!

تَنْفَلِتُ اللوحةُ من سيوفِ التاريخِ ...

تَمنَحُ أنفاسَها نَبْضاً في أعراقِ الزَمَنِ...المُمْتَدِ مِنَ اللَهَبِ الأولِ ...

لسطوعِ اللونِ المُبْهِرِ في لوحةِ طفلٍ يَحْبو!

يوسف: النبي يوسف

الثورة: مدينة عراقية.

نصب الحرية: النصب الذي يتوسط ساحة التحرير ببغداد من اعمال الفنان جواد سليم.

 

 

حكاية ونَص

"نقطة تفتيش" في رأسي!

محمود حمد

بعد أن طال مقامي في غرفة المستشفى صرت امضي الليل ازاء النافذة المغلقة المطلة على الظلمة اصغي إلى أنين المرضى وحفيف الريح بأغصان الأشجار...

تهاوت تلك الليلة بعض خرائب النفوس في زمن الحرب من ثمانينيات القرن الماضي...وتوالت عليَّ وجوه بعضهم: 

كانت السيدة (صهباء) تلفت الجميع بغطرستها عندما تحضر مكاناً عاماً...حيثما يقام معرض فني أو نشاط ثقافي لا تخطئ العين مشيتها إلى جوار (معالي الوزير!) بإيقاع خطواتها التي يتردد صداها في القاعات الأنيقة التي يستوطنها صمت الذعر من السلطة، وخلفها حارسها الشخصي وكاتم أسرارها (عبد علوان) ...

لم يسبق لـمن مثلي أن تحدثوا معها أو اقتربوا منها، رغم أنها تُمسك بنبض النشاط الثقافي في البلد، ألاّ أنه لم يُعرف عنها أنها كاتبة، أو فنانة، أو شاعرة، أو روائية، لكن الجميع يخشى تسلطها على "خلق الله" وصلفها في التعامل مع الآخرين وتجاوزها مسؤوليها في الوزارة بأساليب وقحة!

يتجنب الموظفون من حولها الاقتراب منها لمعرفتهم بقربها من رأس السلطة!

ضمن محاولاتي للهروب خارج البلد، طلبوا مني في دائرة الجوازات موافقة دائرة خاصة في وزارة الإعلام والثقافة على ذلك، رغم أني لست موظفاً في الوزارة، وعندما دخلت المبنى كان المكان مكتظاً بوجوه قاطعة كالسيوف تحيط بـ(صهباء)...

جرى تفتيشي واستجوابي أمام (صهباء)، مما أوقد الموقف في نفسي نيران الغيظ المشوب بالخوف، لكني شعرت كأن كابوساً تبدد عن روحي عندما رفضت الموافقة على طلبي وعدت سالماً إلى الشارع!

بعد أكثر من عشر سنوات من ذلك التاريخ دعاني صديقي (محمد عمران) لحضور افتتاح معرضه الشخصي في قاعة العرض الثانية بالمتحف الوطني...لمحت من وراء حشد الأصدقاء الذين جاؤوا لحضور افتتاح المعرض، امرأة هزيلة متلفعة بالسواد تجلس وحدها في غرفة كتب عليها (مستودع المرفوضات) ...تائهة وراء المكتب الشاحب الضوء وعيناها تحدق نحو مجهول عالق في سقف الغرفة الواطئ، وعند باب الغرفة يجلس عجوز أعجف منشغل بمسبحته غير مكترث بما يدور حوله!

حينها أخبرني (محمد عمران) إن بعض لوحاته رفضت وهي مركونة هناك، وأشار إلى الغرفة حيث تجلس المرأة المنكفئة خلف الغمامة السوداء...

فجأة استدرك (محمد عمران):

هل تعرف تلك المرأة الجالسة في مستودع المرفوضات:

حَدَّقت من بعيد فبدى لي وجه المرأة خلف غبار الماضي ملتبساً...فأسعفني (محمد عمران):

هذه (السيدة صهباء)!

ودونما تَفَكُّرٍ تساءلت:

ما لذي حل بها؟

جذبني (محمد عمران) جانباً واختزل لي الحكاية:

كلفوها بوضع جهاز تنصت تحت فراش الزوجية لشَكِّهِم بولاء زوجها للسيد الرئيس...وفي اليوم التالي اختفت أخبار زوجها!

وعندما تحركت تسأل عنه...جوبهت بوجوه قاطعة كالسيوف من لدن من كان يتذلل لها...بعد شهر سُلِّمَتْ لها ورقة الوفاة دون جثة، وبعدها بأسبوع وقع حادث دهس لابنها البكر، وقبل انتهاء أربعينيته غرق ابنها الأخير بظروف غامضة!

ولم يكتفوا...

بل فرضوا عليها أن تظهر في المحافل العامة بذات الأناقة والخيلاء...

ونفذت أمرهم!

لكن الحزن الكامن فيها كان أقوى من قدرتها على تغليفه بثياب البهجة المزيفة، وانفضح أمرها عندما داهمها الحزن ذات يوم في أحد مجالس أُنسهم، فألقيت في السجن لأكثر من سنتين، ثم أخرجوها بهذه الحالة!

أشار (محمد عمران) بطرفه إلى الرجل الجالس عند باب مكتبها:

ذلك هو خادمها (عبد علوان) ...لكنه مجردٌ من الفَرْعَنة!

يومها عدت إلى البيت مُتْعَباً لطول الطريق الذي قطعته مشياً على الأقدام...وجلست اتابع على شاشة التلفاز تكريم (السيد الرئيس!) لرجل ستيني، لأنه أبلغ المنظمة الحزبية عن ابنه الهارب من الحرب، ونفذ أمر المنظمة بحضور حفل الإعدام الذي جرى وسط الحي، وإطلاق النار على ابنه بنفسه في ساحة الحي، أمام أمه وأخواته وأخوته وحشد من أهله وأصدقائه، بعد أن علق في عنق ابنه لوحة كتب عليها (جبان خائن)!

تَلَفَّتُّ يميناً وشمالاً قبل أن اطلق آهة سخط بحضور صغاري، لأني لن انسى وجه زميلي في الدراسة (كعود الدليمي) مدرس الرياضيات الساخر، الذي أُعدم يوم زيارة السيد الرئيس لبيتهم في (أبو غريب)، لأن ابنته ذات الأربع سنوات حال رؤيتها لـ(الرئيس) وهو يباغتهم بالدخول عليهم إلى البيت الذي أحاطت به كتيبة (حماية الرئيس) ...قالت:

هذا الذي كلما يظهر على شاشة التلفاز يبصق عليه أبي!

يعتصر قلبي في كل مرة تعود زوجتي من زيارة إلى (أم سلام) التي هجرت بيتها وهجرها عقلها، بعد أن دسوا السم في استكان الشاي لـ(أبي سلام) القاضي المتقاعد، لأنه رفض الاعتراف على أسماء من شاركوه في المظاهرة المناوئة للسيد الرئيس التي (حَلِمَ) بها ذات ليلة بعد مقتل ابنه (سلام) في جبهات الحرب!

ذلك (الحُلم) الذي تسرب عن لسان زوجته (أم سلام) لجارتها، التي خشيت على أولادها من تبعات إخفاء (الحُلمِ المعارضِ) عن السلطة، فأخبرت المنظمة الحزبية به...في ذات اليوم اقتادوا (أبي سلام) ليلاً إلى زنزانة التعذيب ليكشف لهم عن (أسماء من شاركوا معه في الحُلْمِ المعارض للسلطة!) وعندما لم يعترف على (أسماء من شاركوه في الحلم المعارض!) ...

أعادوه في الصباح إلى البيت، ليقضي نحبه في المساء! 

وانا في أوج آلامي لم ينقشع عن ذاكرتي دخان سأم جاري (الأستاذ أبو نزار) لكثرة استدعاءاته واستجواباته شبه اليومية بمديرية الأمن في (منطقة البياع) بعد ما أفرغ أحشاءه المعلوماتية أمامهم عما (يعرفه) و(لا يعرفه!) عن رفاق وأصدقاء الأمس، لنبش قحفة رأسه بحثاً عن نواياه الـ(خفية) المعارضة للسلطة!

فبعد أن كان يستجوب بسبب أفكاره الشيوعية سنوات عديدة، صار يهرب من كل فكر متسائل يسارياً كان أم يمينياً!

والتجأ إلى المسجد (يصلي فيه الفروض الخمسة وحده، خلف إمام الجامع، ويجاهر بيقينه بكل ما يقوله الله عن لسان خطباء السلطة)!

بعد أشهر من التعبد استدعي ذات نهار بتهمة العلاقة بالجماعات الإسلامية المعادية للسلطة، وأمضى أشهراً تحت التعذيب والشك بولائه للرئيس وللحزب القائد، فخرج مهزوماً!

ولم يجد أمامه من ملاذ سوى (إدمان الخمر في بار بشارع أبي نؤاس يرتاده رجال الأمن!)، وذات يوم جيء به مخفوراً إلى الأمن بـ(تهمة السكر في رمضان!)، وبعد حفلة تعذيب وإذلال باسم الدين خرج معتزلاً في حجرة مهجورة في بيته يحاور نفسه!

ضاقت عليه أنياب اليأس ونبذه أقرب الناس إليه له، خشية من الابتلاء بما أبتلي به...

أمضى دهراً في معزله... تطرق بابه (المنظمة الحزبية) كل أسبوع للتأكد من عدم هروبه من تحت قبضتهم...

منذ ذلك الوقت لم يخرج (الأستاذ أبو نزار) من حجرته، حتى ضاقت به السبل وأعيته الحيلة ونضب فكره من أي جرعة حَلٍّ يعيد إحياء الأمل في نفسه!

انتابه شعور عميق بالهزيمة امام نفسه بعد ان تمكن (عناصر الأمن) من دحر ارادته ومسخ شخصيته بالتخويف والإذلال، مما جعله يستسلم لليأس المطبق ويقدم على الانتحار غير مرة! ذات يوم ذهب مبكراً الى مديرية الأمن (متخادماً...دون طلب منهم للتجسس على من بقي في الوطن من رفاق وأصدقاء الأمس...ليستريح!)، فرفضوا عرضه باستخفاف واحتقار أول الأمر، للإيغال في إخضاعه والاستهانة به، وبعد توسله بهم، اطمأنوا الى انه افتقد (مرغماً!) مقومات توازن عقله وسلوكه، ولاختبار مدى قهرهم له وانهياره أمامهم وإذعانه لهم...اشترطوا عليه أن يبدأ بـ(التجسس على أفراد أسرته وأبنائه وبناته الشباب)!

لاذ بالصمت وعاد إلى المنزل مذعوراً، فيما سربت (المنظمة الحزبية) لأسرته وللمقربين منه خبر تواطئه مع الأمن للتجسس على أولاده وزوجته!

فاضطربت حياة الأسرة وتنافروا فيما بينهم...

وتوفي (الأستاذ أبو نزار) بالسكتة الدماغية وحده في حجرته، بعد أيام قليلة من ذلك اللقاء المهين...ذات الحجرة التي كان يشكو لزوجته:

إن حجارتها ذات عيون جاحظة تحدق فيه وتترصده، وحيطانها تزحف عليه في الليل، وهو يصارع فيها أنياب الكآبة التي افترسته!

تركت الأسرة منزلها في المحلة التي كانت تسكن فيها منذ سنوات طويلة، مهاجرة إلى جهة مجهولة لمن يعرفهم! 

 في تلك السنوات العقيمة إلاّ من قول وفعل الشر، اشاعت السلطة الشك في النفوس، والخوف بين الناس، وصار المرء يشك بنفسه: أنه ربما انفلت من لسانه لفظٌ، أو بدت عن جسده حركةٌ توحي بعدم الولاء للقائد والسلطة "دون وعي منه"!... فَيُحَذِّرُ نفسه من نفسه، ويخاف من نفسه على نفسه...بذلك أنزلت سلطة الاستبداد بالبشر في الدنيا الفانية!، ما توعدهم به الله في آخرته الباقية!:

(يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)!

لكن في دولة الخوف تعمق الوعيد وصار:

(يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يُفَكِّرون)!

عدت إلى سريري منهك القوى، لكن النوم فارقني، وتعاقبت عليَّ حكايات تلك النفوس المُخَرَّبةِ اليائسة البائسة، سواء تلك التي غادرت دنيانا أو التي مازالت تتلظى ألماً وندماً وخوفاً...

فانسللت عن صخبها بصمت، مُلتجئاً إلى دفتري، كي لا يتفجر عقلي في رأسي ...وكتبت:

"نقطة تفتيش" في رأسي!

نقطة تفتيش في رأسي...يسألني فيها "منكر “و"نكير":

أنّا تأتيني الفكرةُ!؟

ولماذا تأتيني الفكرةُ!؟

******

نقطة تفتيش سادرةٌ تُلْحِنُ بين البصرةِ والكوفةِ!

نقطة تفتيش شائكةٌ بين الطبشور وأحداق الصبيَة!

نقطة تفتيش صاخبةٌ بين الموّال وحَقلِ العَنْبَرِ!

نقطة تفتيش داميةٌ بين (نشيغ) رضيعٍ جائع، وشخير الأم المذبوحة!

نقطة تفتيش خانقةٌ بين الآهةِ والآهةِ!

نقطة تفتيش جائرةٌ بين الدمعةِ ورغيفِ الخبزِ الخاوي!

نقطة تفتيش شامتةٌ بين الجثثِ المنثورةِ والمقبرةِ المُشْرَعةِ المَدَياتِ!

نقطة تفتيش حالكةٌ بين طيورِ "الحضرةِ" وسماء الله المحتلةِ!

نقطة تفتيش راسخةٌ بين الجثةِ والجثةِ!

نقطة تفتيش عالقةٌ بين فراتِ النَخْوَةِ والناعورِ المخلوعِ الأضلاعِ!

نقطة تفتيش فاسقةٌ في محرابِ المسجدِ!

نقطة تفتيش قاتلةٌ في أرحامِ النسوةِ!

نقطة تفتيش سافيةٌ بين الأنَّةِ والكلمةِ!

********

نقطة تفتيش في رأسي...تُسْألُ فيها النُطفةَ قبلَ الصيرورةِ... عن مَحضَ نوايا سخط!

نقطة تفتيش في رأسي...تَسْألُ عن أهواءِ الفكرةِ قبلَ نُشوء الفكرةِ!

نقطة تفتيش في رأسي...تَسْألُ عن جنس الأحلام اللاّئي في رحمِ الغيبِ!

نقطة تفتيش في رأسي...تَسْألُ عن أي عيونٍ تَرضعُ منها الفِكرَةُ!

نقطة تفتيش في رأسي...تَسْألُ عن أي جذورَ جاءت منها الزَفْرَةُ!

نقطة تفتيش في رأسي...تَسْألُ عن أفكارٍ من ذات قبيلتها تقطن في بعض رؤوس المعدومين بغازات السلطة!

نقطة تفتيش في رأسي...تَسْألُ عن ومضٍ أيْقَدَ في الروح رفيف الفكرةِ!

نقطة تفتيش في رأسي...تَسْألُ عن حرف أغوى الإنسان إلى شيطان الشعر!

نقطة تفتيش في رأسي...تَسْألُ عن غيظٍ مكظوم...حتى الترتيبِ العاشرِ من أصلاب الأهلِ!

نقطة تفتيش في رأسي...تَسْألُ عن نخلٍ يُمطِرُ طَلْعاً...بات رحيقاً للفكرةِ!

نقطة تفتيش في رأسي...تَسْألُ عن دجلةَ...ماءُ الفِردَوسِ الصار قبوراً لحروف الفكرة!

***** 

تُقْتادُ الفكرةَ في طور التكوين إلى أقبية الإجهاض...

تُشحَذُ فيها صنّارات التعذيب بآلاء الليل الراقد في أحضان الاستفهام الغامض...

يُستَجوبُ فجرَ الخصب ألـ...يَقْطرُ نُطَفاً وغيوماً حُبلى بسنابلَ سَبعٍ خُضْرٍ!

*****

يَتساءلُ سفّاحٌ في قحفة رأسي...يكتمُ أبوابَ الذاكرةِ المذعورة:

كيف تجيئُ الفكرةُ رغمَ حشودِ القطعانِ المسحولةِ للجَزْرِ؟!

ولماذا تأتي الفكرةُ في أوقاتِ سباتِ السلطان؟!

من أفلتَ هذا الرأسَ المُدْمن صُنعَ الأفكار ألـ.... تمطر عُشقاً وبيادر؟!

أوَ هذا العقلُ المُقفَل بنقاطِ التفتيش يصيرُ وعاءً للفكرةِ؟!

*******

يستدعي الذبّاحُ الساخطُ من رأسي بَعضَ وحوشَ "المارينز"...

يأتيهِ المَددُ الطاغي من كلِّ كهوف التاريخ العربي المُعْتَلِ الآخرِ...

يتعاظمُ جيشُ الإحباطِ المنصورِ على أشلاءِ الفكرةِ...يتكاثر كالجرذان بِجُحرِ القائد!

******

تنبثقُ الفكرةُ من وَجَعِ الإنسانِ الصابر بالحرثِ...

تغدو إعصاراً...رعداً...

يَسفي عُهْنَ الخوفِ الراسخِ فينا من صَرختنا الأولى...لأنين الفكرةِ في أقبية الاستجواب الكائن في نبض النطفة!

تَبزغُ في ليل المحرومينَ ضياءً..

خِصْباً...

سَيلاً يَجرفُ كلَّ نقاطِ التفتيشِ المُمْتَدَةِ من روحي لشوارعِ بغداد المُحتلةِ!

 

 

 

في مثل هذا اليوم

حكاية ونَص

"شهدي"(1) واحدٌ مِنّا!

محمود حمد

اعتدت اللقاء بـ(جاري) المهندس السبعيني (عبد العليم الاسكندراني) في المقهى الصغير المقابل لمرفأ الصيادين في عطلة نهاية كل أسبوع ، نمضي ساعات العصر بأحاديث تُنسينا متاعب العمل ، وتأخذنا حكاياتها ، من مهارات انتقاء أفضل أصناف السمك ، إلى منهجيات تحليل أكثر تيارات الفكر أثراً في حياة الناس، مروراً باستعراض هموم العيش المتناسلة ، ولا تنتهي بأخبار السياسة الموبوءة بالتضليل والخداع ، ونختم جلستنا بالذهاب إلى رصيف بيع الأسماك ، نتسوق من السمك الذي يُلقيه الصيادون من زوارق صيدهم إلى الرصيف ، على شكل دفقات تتقافز متلألئة تحت ضوء القمر!

ولم يجد (الاسكندراني) خير مني يصغي إليه، (كما يقول لي في كل مرة!)...لإدراكه بظمئي المستديم للمعرفة، ولأن حاضر (الاسكندراني) من صنعه هو ومعلوم لي، فإن استحضار الماضي الذي مازال متفاقماً ومتفاعلاً في الحاضر هو المهيمن على أحاديثنا، خاصة عن تلك الفترة التي كان فيها منخرطاً في الحركة الشبابية الديمقراطية في مصر...دون أن تخلو أحاديثه حتى المثخنة منها بالفجيعة، من السخرية المُضْمَرة والطرافة المُبهِجَة...متصفحاً أوراق المرحلة التي عايشها في وطنه قبل اغترابه مطلع سبعينيات القرن الماضي... ويتحدث لي دون مواربة...فـ:

"ثورة يوليو!" سنة اثنتان وخمسون وتسعمئة وألف دشنت (إنجازاتها) بقمع حركة عمال (كفر الدوار) وإعدام قادتها (خميس والبقري) وسجن الآخرين منهم...وذلك بعد شهر من قيام (الثورة)!

ومنذ ذلك التاريخ مهدت (الثورة) لهزيمة الخامس من حزيران سنة سبع وستين وتسعمئة وألف، من خلال سياسات قمعية تراكمية أفرزت عوامل الهزيمة وتداعياتها!

وكان التنظيم (الفعلي) الوحيد المهيمن على الوعي الجمعي هو (المذياع!) الذي تولى تجويف العقل الجمعي وأفرغ (اللاوعي) من موروثه الشعبي الغني، وأحكم قبضته على الجماهير المُغَيَّبة وضمن التفافها حول بوق الإذاعة، لتتلقى الدروس والحكمة من (القائد المعلم!) فحسب...

لأن المنهج والغاية هي ...أن:

الزعيم يُعلن.. والجماهير تصفق!

وبذلك تم عزل الجماهير الواسعة واستبعادها، وتحويلها إلى جدار أصَمْ وظيفته أن يكون صدى لما يقوله (القائد المعلم!)، فأصبحت كتلة سلبية تفتقد القدرة على التَفَكُّرِ المستقل لاختيار الموقف الصائب، وتعجز عن التَدَبُر في لحظات التاريخ الحرجة...لكنها في نفس الوقت فُرِضَ عليها أن تبقى دائماً وحدها تتحمل تداعيات الهزائم والتضحية بخيرة أبنائها!

وتمتم مع نفسه ساخراً:

دُعيتُ إلى القتال.. ولم أدعَ إلى المجالسة!

واستدرك (الاسكندراني) وهو يعيد الحكمة الشعبية المصرية بطرافته المعهودة:

(ويا ميت ندامة على أمة ثورتها يعملها جيشها)!

وأضاف وكأنه يوجه خطاباً تنويرياً لمستمع غائب:

لذلك كانت الطبيعة الاستبدادية والقمعية وسياسة تجويف العقول للنظام الناصري هي السبب الأساسي والوحيد وراء هزيمة الخامس من حزيران 1967عام، لأنه:

(لا يمكن لأي سلطة أن تنتصر على الإمبريالية وهي تقهر الجماهير وتحرمها من أبسط حقوقها السياسية والنقابية...فالجماهير المنظمة والمسلحة والتي تتمتع بحريتها السياسية حقًا هي الوحيدة والجديرة بالمواجهة والانتصار على الإمبريالية)!

ولأن النظام المصري آنذاك كان يعلم جيدًا أن الجماهير لا ترضى بالهزيمة فإنه استخدم حركة الجماهير يوم التاسع من حزيران، في (تمثيلية التنحي عن السلطة!) من أجل العودة للسلطة ثانية!!

وبعد أن تمكن من العودة إلى السلطة ثانية تم قمع الجماهير مرة أخرى تحت شعار:

(لا صوت يعلو فوق صوت المعركة)!!

وعندما أثير الغبار عن الوجه الايديولوجي لـ(القائد المعلم!) في حوارنا الواسع والمتشعب، تذكرت ما قاله المفكر المغربي، عبد الله العروي:

(إنّ نظام جمال عبد الناصر حارب الإسلاميين كأشخاص، كأعداء سياسيين وكمنافسين، لكنه، لم يحارب مطلقا النظرية الإسلامية التي تربّى هو عليها فكرياً وسياسياً)! 

في منتصف الأسبوع علمت بوفاة والدة صديقي (الاسكندراني)...فذهبت إليه، وهي المرة الأولى التي ازوره فيها بشقته الصغيرة، رغم علاقتنا التي امتدت لأكثر من أربع سنوات...

كانت الشقة مُكتَظّةٌ بالمعزين، وكلما أردت المغادرة يُلِحُّ عَلَيَّ (الاسكندراني) بالبقاء، وكنت طيلة الوقت اتطلع إلى الجدار العاري إلا من صورتين واحدة لـ(الإسكندراني) في شبابه، وأخرى لكهل وقور حاد الملامح!

وبعد أن غادر المعزون...جلس (الاسكندراني) إلى جانبي منقبض الملامح وهو يتطلع إلى الصورتين قائلاً لي بأسى:

يا حسرة على أمي...حملت معها كل سنوات الضيم والملاحقات، واحتضنتنا رغم الفاقة في أحلك ظروف الإملاق والتضييق على مصادر عيشنا الشحيحة، ولم تترك واحداً منا يخسر نعمة التعليم!

حاولت أن أخفف من وجع صاحبي لوفاة أمه فأومأت إلى صورته على الجدار:

كنت وسيما في شبابك يا (أبا فاروق)!

فالتفت إليَّ (الاسكندراني) باندهاش ونظرة لا تخلو من العتاب...قائلاً وهو يشير إلى الصورتين:

هذا المرحوم (أبي) ولست أنا، وهذا رفيقه الشهيد (شهدي عطية الشافعي)!

انتابني الذهول المرافق للصدمة المباغتة، وانعقد لساني برهة، وفاض في نفسي حنين إلى أصدقاء كانوا معي في أيام معاناة خَلَتَ، وغلب عليَّ الميل للتقصي عن الحقيقة على مشاعر الأسى، واكتشفت لأول مرة في صاحبي نافذة قد تفضي إلى معرفة تاريخ محضور عن (حياة شهدي عطية الشافعي) الذي قرأت عنه في سبعينيات القرن الماضي!

ولم أشأ مشاركة صاحبي العشاء، واكتفيت بالتأمل إلى صورتي الرجلين التي اتسعت لتغمر الذاكرة بأجيال من التنويريين الذي اختطفتهم ظلمة الاستبداد...حينها حاولت استدراج صاحبي لإخراجه من تحت أعباء الحزن إلى فضاء المعرفة، عندما سألته عن العلاقة بين الرجلين...فنهض (الاسكندراني) ودخل بهدوء إلى غرفة صغيرة مجاورة في الشقة، وعاد بكتاب وضعه أمامي، قائلاً لي وهو يشير إلى صورة الرجلين:

هذا (صنع الله ابراهيم) يكتب عن (أيام الواحات) ففيه بعض معاناتهما ورفاقهما!

أخذت الكتاب وخرجتُ مودعاً صاحبي (الاسكندراني) وملتجئاً إلى معتكفي في المنزل...مضت ساعات الليل سريعاً، وانا اقرأ متلمساً وجع الدقائق الثقيلة التي مرت على المعتقلين وافترست أرواحهم وأجسادهم...اعدت قراءة النص التالي غير مرة معتصر الروح:

(غادر الفوج مدينة الإسكندرية بعد منتصف ليلة الخامس عشر من يونيو في سيارات الترحيلات الكبيرة المغطاة، وجاء نصيب "صنع الله" في سيارة واحدة مع "شهدي عطية الشافعي"، الذي تميز حسب وصف" صنع الله " بقامة طويلة وعظام عريضة بينما كان "صنع الله" وما زال نحيف البنية ضئيلها.

ووصلت السيارات في الخامسة والنصف صباحا إلى ساحة بها أكوام من القاذورات، وتشرف عليها فرقة من الجنود المسلحين بالمدافع الرشاشة والضباط المزودين بالسياط فوق خيولهم، وصدرت إليهم "أي المعتقلين" الأوامر التي تخللتها الشتائم بالجلوس القرفصاء وخفض الرؤوس، ولأن رأس "شهدي" كانت بارزة بسبب طول جسمه، فقد صاح به أحد الضباط، وهو يضربه بالعصا على عنقه:

«وطي رأسك يا ولد!»

فيما إنهال ضابط آخر على مسجون آخر هو (بهيج نصار) وهو يصيح فيه:

أنت مشمئنط ليه يا بن ال......».

(ووفق ما يذكر أحد شهود الحادث - السيد يوسف - يقول:

" إنه بعد أن تم استدعاء مجموعة من المعتقلين كان (شهدي) من بينهم...بادره المأمور "حسن منير" عندما رآه قائلا:

إنت بقى "شهدي عطية"؟

عمللي عَلَم؟

أنت شيوعي يا وله؟

قول:

أنا مَرَهْ!

فقال شهدي:

"عيب أسلوبك هذا، فأنت تسئ للنظام بهذا التصرف، ونحن قوى وطنية ليست ضد الحكومة، وحتى لو كنا ضد الحكومة، فليس من حقك أن تسلك هذا السلوك الوحشي فنحن أصحاب رأي».

وهنا تسلمه اليوزباشي "عبد اللطيف رشدي"، بعد أن أنهكوه بالضرب والإغراق في مياه ترعة قريبة وتمزيق ملابسه حتى أصبح عاريا تماما...

وسأل اليوزباشي والضرب مستمر على (رشدي):

اسمك إيه يا ولد؟

فيرد (شهدي):

أنا مش ولد!

اسمك أيه؟

شهدي عطية.

ارفع صوتك!

فلم يرفع صوته، وكرره بالنبرة نفسها، وهنا عاد السؤال مرة أخرى:

اسمك إيه؟

أجاب شهدي:

إنت عارف أنا مين.

إنت شيوعي؟!

وليبدأ بعد ذلك فاصل من التعذيب تم خلاله دفع (شهدي) ليلف حول العنابر، ثم سمع الحضور صوت جسم يرتطم بالأرض، فقال أحد الجنود لزميله:

شيله!

فقال:

لا شيله أنت. فين التومرجي؟!

وحضر الأخير، وراح يخبط على جسمه قائلا:

«قوم يا وله.. خليك جدع يا وله!»

ولما لم يجد استجابة راح يؤكد:

«يظهر أنه خلص خلاص!»

ولم يجد طبيب الليمان إزاء ذلك سوى أن يكتب في تقريره أن الوفاة جاءت نتيجة هبوط في القلب).

قتل شهدي عطية الشافعي تحت التعذيب في سجن أبو زعبل في الخامس عشر من حزيران سنة ستين وتسعمئة وألف. وفي مساء ذلك اليوم، علم الجميع بوفاة (شهدي عطية الشافعي)، وقد كانت (وليمة) التعذيب التي تعرض لها (صنع الله) مع ثلاثة آخرين بقصد الضغط عليهم من أجل المثول أمام النيابة والشهادة في واقعة وفاة (شهدي) بأنه توفي قبل وصولهم إلى المعتقل!

في تلك الآونة شنت السلطة حملة وحشية تسقيطية على عوائل المعتقلين لإرغامهم على إعلان البراءة منهم أمام وسائل الإعلام...حتى أن طفلةً أُجْبِرَت وهي باكية على مخاطبة أبيها المعتقل:

أنا بكرهك...إنت مش أبويا...إنت مش واحد منا!)

وقبل حلول الفجر...وجدت نفسي قد انتهيت من كتابة:

شهدي واحدٌ منّا...

كانَ الحشدُ وقوفاً يُصغي لبلاغٍ بضيافةِ" تيتو"... (2)

عن مقتلِ (شُهدي) بين نيابِ الجلادين...

وكؤوسُ الحَفلِ المَصفوفةِ للبهجةِ...

فاضَتْ سَيلَ دماءٍ!

نَفَضوا أيديهِم من دَمِهِ...

في ذاتِ "الحَفلةِ "...

لكنَّ بحور دماءٍ تَلحقَهُم أنّى زاغوا...

في ظلماتِ قبورِهُمُ...

أو في صفحاتِ التاريخِ الـ "يَكتُبُهُ" الفقراءُ!

*****

حَدّادٌ من "شبرا" يُبلغ أخوته خلف ستار السِرَّ المحكم:

إن "ابن عطية" أفرطَ في الحلمِ...

في زمنٍ يُنْعَتُ فيه الحلمُ "سلاحٌ للتدميرِ الشاملِ"...

والسلطةُ سيفٌ تحكمُها النزوةُ...

ولهذا سيقَ إلى زنزاناتِ المَوتِ...

فحذاري...

حذاري...

أن يولدَ فيكُم "حالم" في زمنِ الشهواتِ!

****

عَجوزٌ من عمالِ "المشراق"(3) يُعزيّ صاحبَهُ...

يُفرِدُ "صِرَّتَهُ"(4) برغيفٍ وأدامٍ بارد...

ووريقاتٍ مخبوءة...

بين اللقمةِ ووصيةِ "أمُّ عليٍّ"...

وحديثٌ يؤرقُهُ منذُ ثلاثةِ أيامٍ...

"رجلٌ مِنّا قَتَلَتْهُ السلطة في وضحِ الصَلَفِ الحاكمِ"...

يسألُ صاحبُهُ عن:

أسرةِ "شهدي". وعِياله...

عمالٍ في ورشِ الصَهرِ بحلوان...يَشكونَ الفَقْدَ...

كُتّابٍ شَحَذَت فيهم روحُ المَغدورِ جِمارَ الإبداعِ...

حقلٍ للقطن الناصع تنخُرُهُ ديدانُ السُلطةِ...

كتبٍ لم يقرأها بَعدُ!

قاتِلِهِ يُمضي أمسيةَ السهرةِ مخموراً!

ويُدَمدِمُ صاحبنا مخنوقُ العَبْرَةِ...

كُلُّ بيوتِ الفقراءِ بأرضِ النيل عزاء!

****

يأبى (صنع الله) (5) أن يَشهَدَ زوراً...

بـ “مَوتِكَ في الدربِ إلى زِنزاناتِ التَعذيبِ"...

يرفضُ أن يغسلَ أيديهِم من دَمكِ النازفِ للساعةِ في حاراتِ المُدنِ المقهورةِ...

أو..

"انّكَ لَمْ تَحضَرْ – حَفلةَ- مأمورِ السجنِ" الصارخِ فيكَ بِغيظٍ ...لا نفهمُهُ:

اسمك إيه؟!

فالترعةُ مازالت تَحكي لطيورِ السجنِ...

حديثَ ذئابٍ تَفترسُ الجسدَ الشامخَ...

ثياباً...

بَرداً فَتّاكاً...

مِزَقاً مسرودةً...

تَخفقُ فينا وجعاً...

مُذ تلكَ الليلة...

لمديدِ العُمرِ المثقلِ بالممنوعاتِ!

****

هُزِموا في "حفلِ" التُرعَةِ...

بجوارِ صُروحِ ثقافتهِم بـ “أبي زعبل"...

(شُهدي) يِتشبثُ بالأرضِ المصريةِ...

والجلادونَ يُضللهُم صنمٌ من قشٍ يجتاحُ العالمِ...

أوقَعَهُم في مأزقِ يوم الخامسِ من شهرِ حزيران بـ(عام العَوْرَةِ!) ...

ليَحميَّ "جبلَ الهيكلِ"!

****

سوسٌ يَنخرُهُم...

وضباعٌ تعوي حَولَ منازلِهم...

وَهُموا...

صُمٌ...عُميٌّ...بُكْمٌ...

لا يَفقَهُ فيهِم أحدٌ!

إلاّ...

حين يُفكرُ "كادح “برغيفِ الخُبزِ وأنفاسِ الحريةِ...

تتفاقمُ نخوتُهُم لقبورِ التاريخِ...

تتورمُ شهوتُهُم للقتلِ الشرعيِّ بسيفِ الحجاج...

تفيضُ عروبتُهُم سُمُّ زعافٍ في أفئدةِ المعترضينَ...

تطولُ لُحاهُم...

وتصيرُ صَلاتُهُمُ خمسةَ آلافِ سجودٍ في رَمشةِ عينٍ!

***** 

"شُهدي" يُدركُ أن الـ “إقرأ" مفتاحُ الرحلةِ للفردوسِ...

وإن "السنوات السبع" عجافاً في السجنِ...لولا خِصْبِ الكلماتِ!

وإن ملايينِ الناسِ المَسلوبةِ...لليومِ تُرَدَمُ في ظلماتِ التضليلِ! (6)

وإن طريحاً في الترعةِ بجواركِ يهذي من وجعٍ دونَ حراكٍ وسطَ صريرِ البرد:

لوَجهِ اللهِ "كفاية"!

يَمتَّدُ الصوتُ المتهالكُ من وحلِ التُرعةِ لرفيفِ الطيرِ الشاهدِ...

يَخبو زَمناً...

ويعاودُ أزمنة...

إعصاراً في وجهِ الطغيانِ...جَسوراً:

يا ناس “كفاية"!!!!

____________________________________

 (1) قتل شهدي عطية الشافعي تحت التعذيب في سجن أبو زعبل في 15 يونيو 1960.

(2)"تناقلت وكالات الأنباء الخبر، وكان عبد الناصر وقتها في بلغراد، ودعاه تيتو لحضور مؤتمر شيوعي، ووقف مندوب يوغسلافي وسط الجلسة، ووجه التحية إلى ذكرى الشهيد الذي قتل في مصر نتيجة التعذيب. وتعرض عبد الناصر لسؤال من أحد الصحافيين عن الأمر فقال: «لم نقتل أحداً، ومن يخرج على النظام يقدم للقضاء العادل»!!!!

(3) أكبر حقل للكبريت في العراق.

(4) الصُرَّه: قطعة القماش التي يلف بها العامل متاعه.

(5) صنع الله إبراهيم: الروائي والمناضل الراحل المبدع.

.. (6) لقد قام شهدي في الأربعينيات وهو مسجون بـ(محو أمية) المسجونين بتهم جنائية ممن معه في الزنزانات، مما غَيَّرَ حياتهم ومستقبلهم بعد الخروج من السجن!

 

 

 

حكاية ونَص:

أول العبادات "الحب"..

.وآخر العبادات “التسامح"!

محمود حمد

زارني صديقي (أبو خالد) في منتصف الأسبوع ليس كعادته، ودخل علي محتدم المشاعر، ومُكفَهِر الوجه، وجلس دون كلام لأكثر من ساعة.

نهضت لالتقاط أنفاسي في الهواء الطلق ولتحريك الدم في عروقي بناء على توصية الطبيب لي...جلست على الأريكة الخشبية العتيقة التي انتهشتها الرطوبة ونخرتها سهام الشمس الحارقة في حديقة المستشفى...فتبعني (أبو خالد)، وجلس إزائي، ودونما مقدمات قال محدثاً نفسه بصوت مسموع:

ليس أمامي سوى الطلاق!

تذكرت أحاديث (أبي خالد) قبل ثلاثين عاماً ونيف، عندما كنا عُزّاباً نتحلق حول مائدة التساؤلات، والحوار، والجدل، والثمالة، ونختتم جلساتنا بالاستماع لقصيدة (الشاعر أحمد شوقي) بصوت (الملحن محمد عبد الوهاب)، وكل واحد منا يستحضر من قرارة روحه سِرَّ حُبِهِ، متخيلاً أن حبيبته هي مقصد الشاعر، ومُلهمة الملحن والمطرب، وكيف كان (أبو خالد) يتفرد بيننا بالتماهي مع الكلمات، مردداً اسم (بلقيس) محبوبته (أم خالد) التي كان يمتنع أهلها عن القبول به لاختلافهم مع أفكاره (الهدامة!) ...واضعاً رأسه المُخَدَرِ على حافة الطاولة ومترنماً بالكلمات حتى تهطل دموعه وهو يرددُ مع المُطربِ ذلك المقطع:

ويقول تكاد تجنّ به.. فأقول وأوشك أعبده

مولاي وروحي في يده... قد ضيعها، سلمت يده

ناقوس القلب يدق له... وحنايا الأضلع معبده

اعرف ما آلت إليه العلاقة بين صديقي (أبو خالد) وزوجته عقب مقتل ابنهم (خالد) بمسدس (كاتم صوت) من قبل (جهة مجهولة معلومة!) في التظاهرات التي اندلعت مطالبة بالخلاص من نظام المحاصصة الطائفية الفاسد...وتحميلها أفكار (أبي خالد) مسؤولية (تورط ابنهم الفقيد بمعارضة ممارسات سلطة طائفية متوحشة تأتمر بأوامر الأجنبي)!

في تلك الآونة استعنت بصوت عبد الوهاب صادحاً بأغنية (مضناك) لتطهير مسامع ومشاعر (أبي خالد) من غبار الغضب الذي يربك حاضره الملتبس ويدنس ماضيه النقي!

مطلقاً نافذة للحوار مع صديقي... قائلاً له: 

عندما تباغت المرء الشيخوخة (مثلنا) وهو في أوج وعيِّهِ، يميل إلى (المراجعات)...ينبش المطمور من الأحداث ليتفحصها ويتمحصها، ويقلب المنسي من صفحات المواقف ليعيد استقصاءها وتقييمها، ومنها (أول العبادات) التي تعلمها أو تعلم منها!

والعبادة لغة كما تعرف يا (أبا خالد) هي:

الطاعة، والخضوع، والتذلل، والاستكانة!

فالحب إذن كان أول (العبادات) من اختيار الإنسان، وليس كـ(العبادات) الأخرى التي تُقحم عنوة على المرء في النطفة برحم أمه قبل صيرورته "إنساناً!"، ويتلفع بها دون اختيار منه حال الولادة كـ (لبس ثوب العيش دون أن يُسْتَشَرْ) ...كما يقول عمر الخيام!

مع أولى دبيب الكائنات على الأرض كانت الأنثى الملاذ الواسع الرحيم الذي يمنح الذكر الاطمئنان... لأنها فضاء للمَسَرَّة ينجذب إليه مثلما تنجذب هي إليه، بحثاً عن جمال الروح وسكينة النفس... فضاء لا مثيل له، يتضوع بمشاعر مفعمة بالود العميق، والاطمئنان اللامحدود، والدفء الروحي، والاستلطاف النفسي، واحترام آخر لم تكن تعرفه من قبل!

ولـ (الحب الحقيقي) قدرة فائقة على إعادة خلق الإنسان، بأفضل تكوين نفسي وروحي مما كان عليه قبل أن تعصف به رياح الحب، بغض النظر عن طبيعة المحبوب، و(الحب) بخصاله النبيلة أزلي الوجود...أبدي الأثر، يبقى ملازماً لتردد أنفاس الإنسان في صدره، فإن انتهى (الحب!) قبل انقطاع تلك الأنفاس، فهو ليس بحب، لأن جوهره وأثره يبقى حتى بعد اندثار الجسد...فـ (في الحب الحقيقي تحتضن الروح الجسد)! كما يقول نيتشه!

يا (أبا خالد) وأنت اليوم خيمة لأحفادك أولاد المرحوم (خالد) وسنداً لنفس ولأيام (أم خالد...التي لم تتغير) ...ومازالت تستوطن في أعماقك وأنت تنوح وملأت مسامعنا:

أكاد أُجَّن...وأوشك أعبدها!

تأملت ملامح وجه (أبي خالد) التي غشتها غيمة كثيفة من الحزن والأسى، وشفاهه الشائخة المرتعشة تتمتم بمفردات الندم الخجول...فأمسكت بمعصمه معاضدا إياه!

كانت أمامي آخر مقالة كتبها (أبو خالد) على الفيسبوك (متخمة بالمفردات الخشنة، والآراء المتشنجة، والمثقلة بالأفكار اليائسة، والمكبلة بوهم امتلاك الحقيقة)!

واصلت الحديث معه قائلاً له:

كنت تردد على مسامعنا:

إن التسامح مع من خالفك الرأي مرساة للتعقل، لأنه يُجَنِب المرء التشدد القائم على المشاعر الظرفية المنفعلة، أو العقائد الدينية المغلقة، او الشعارات القومية المتطرفة، ويعبر عن القناعة الواعية بأن في رأي الآخر بعض الصواب!

كنت تطالب صديقنا (أبي نزار) المختلف معك عادة، أن يحافظ على جسر التسامح الذي سيحتاج العبور عليه في جولة أخرى من جولات الاختلاف التي تفرضها الحياة علينا معه ومع الآخر!

أنا فوجئت بمواقفك المتشنجة في كتاباتك الأخيرة، وكأنه إعصار غيظ مشوشٍ وإحباط ظلامي استباح عقلك وأمتد من بين جدران بيتك إلى مفردات مقالاتك!

يا عزيزي...نحن نعيش في مجتمع ثري بتنوعه...وأنت كاتب مخضرم...والمبدعون يتألقون بالضرورة في المجتمعات الكثيرة التنوع والصادقة التسامح، التي تحتضن الأفكار الجديدة والثقافة الواسعة المديات، وتُحفزها على التلاقي والتثقف وفتح آفاق جديدة للمعرفة المتجددة، مما يؤسس للمقومات والمستلزمات الحتمية للمستقبل الواسع المديات، لان الأصل في التسامح أنك تستطيع الحياة حتى مع الأشخاص الذين تعرف يقينًا أنهم مخطئون...فالتسامح كالشجرة كما يقولون:

لا تحجب ظلها حتى عن الحطاب!

أنت من كنت تحدثنا عن أن التاريخ في أحد قراءاته الموضوعية، هو تاريخ للتسامح بين البشر، التسامح غير المشروط، لأن التسامح المشروط ليس بتسامح، بل هو عفو عن عقوبة مؤجلة!

والتسامح هو وجه ناصع من أوجه الحب...وآخر العبادات!

غادرني (أبو خالد) بصمت...

لكني كتبت له:

أول العبادات "الحب"...وآخر العبادات “التسامح"!

يولدُ المرءُ عرياناً...
يصرخ مذعوراً من ظلام الحيرة...
يتشبثُ بحنان امرأة تأويه من الخوف...
وتسقيه القدرةَ لعسير الزمن القادم!
يحبو...
عيناهُ معلّقتان إلى رمش امرأة تَهديه الدرب...
يصعدُ مُختالاً...
دون جناح صوب العبث الشاسع...
ويَداهُ بلا كللٍ لعباءةِ امرأة لا تتعثر!
.......

كالنسر تؤمن حالكة الطرقات...
يُشرقُ...

مفتوناً بنسيم امرأة تخطف كالبرق الساطع بزحام الأحلام...
يقوى ساعِدهُ...
يحرثُ أرضاً نبذتها الغدرانُ...
فتجيءُ امرأةٌ تُرضِعُها بالخصب...
فتكون النخلة!
..............
يُحِبُ امرأةً "ورديةً"...
يألفها...
يُسكِنها بشغاف القلب...
يَغرسُ ورداً في درب مودتها...
ساعة مولدها...
يومَ فتوَّتِها...
ويومَ يتكئُ عليها...

وتتكئُ عليه!
........
يرسمُ لها حمامة من السحاب السَخيِّ...
في أول اللقاء...
تغسلُ وجههُ من رماد اليأس...
تكونُ جسراً للمودة عندما يَتَّقِد الغيظُ...
تَروي روحه بالأمل...من ظمأ الغربة...
تَحملُ أثقاله عندما ينفرطُ العِقدُ...
تمسحُ الغبار عن الزمن الآيل للتبدد...لحظة الغروب!
..............
امرأةٌ تُعلِّمهُ...
أن أول العبادات "الحب"...
وآخر العبادات “التسامح"...
وبينهما الشوق إلى الحبيب!

 

 

 

 

رواية (ذاكرة التراب)

(الفصل الثامن)

زورق (آل إزيرج (!

محمود حمد

منذ الصباح الباكر حَزَم "عروة" فِراشه وحقيبة ملابسه الجلدية العتيقة، وحشر نفسه مع عدد من القرويين ونسائهم وأطفالهم في الحافلة الخشبي المتجه إلى حافة (نهر الميمونة).

عند الشريعة المُزدحمة بالقادمين من (مدن البطائح) بِصَيْدِهِم من الأسماك والطيور...يرسو زورق تجلس فيه امرأة عجوز وفتاة لم تبلغ العشرين من العمر بعد، ذات ملامح سومرية مُتحفزة، عيونها الاستقصائية الكحيلة الذكية ترصد المدى، شفاهها اللّمْياء المُكتَنِزَة أُنوثة تتدفق شغفاً!

سألَ "عروة" الكهلَ الجالس خلف محرك الزورق الخشبي عن مقصده...أجابه بودٍ:

الطُوَّيِّل.. (ناحية الطُوَّيِّل) ...أستاذ!

لم يتذكر إن هذا الاسم قد مَرَّ عليه عندما سأل في مكاتب مديرية التربية عن عنوان المدرسة التي تم تعيينه فيها...لأن موظف الذاتية المُتغطرس أظهر له بُغْضاً مُختزناً في نفسه ، كأنه يُضمره له منذ زمن طويلٍ وكان بانتظاره لتسديده نحوه...نَبَشَ ذاكرة الطفولة وسنوات صباه ومراهقته...لم يتذكر أنه التقى هذا الموظف أو سَمِعَ باسمه، غير أن اللوحة الخشبية الموضوعة على الطاولة كتب عليها بخط بدائي اسم الموظف، ويشير إلى أن ذلك الموظف البغيض يحمل نفس اسم قبيلته...أيقظه من حيرته معلم عجوز كان ينتظر في ممر مبنى المديرية يتابع إجراءات تقاعده...متمتماً:

هذا مخلوقٌ يكره كل الناس...يستمتع بإيذائهم!

لم يسعفه الوقت لسؤال ذلك المعلم المتقاعد عن عنوان (مدرسة أم جومه) وكيف الوصول إليها حيث نودي على ذلك المعلم لمكتب (الموظف المُبْغِضْ) ...اقترب منه فراش يقف في باب ذلك الموظف... أوضح له:

أنا أسمع أن الطريق إلى تلك المدرسة يبدأ من (قضاء الميمونة) ...

اذهب إلى هناك واسأل أصحاب الزوارق!

تَصَفَّحَ حُزمة الأوراق التي يحملها في كيس ورقي سميك...مستعرضاً الوثائق التي صدرت له خلال شهر واحد:

شهادة التخرج بامتياز...الترشيح لبعثة دراسية إلى رومانيا كونه الأول في دفعته...قرار وزارة التربية بحرمانه من البعثة بأمر من مديرية الأمن العامة...أمر إداري للتعيين في التلفزيون التربوي بالعاصمة...أمر وزاري يلغي الأمر الإداري السابق ويفرض تعيينه في مسقط رأسه...كتاب مختصر بتنسيبه إلى مدرسة لا يعرف الطريق إليها حتى موظفو مديرية التربية!

فهم من سائق الزورق أنها في أعماق البطائح (الأهوار) التي تتوسط المسافة بين ثلاث محافظات جنوبية.

كانت تلك البقعة من الأرض قبل التاريخ (فجر الحضارة الإنسانية، وموئلاً للسومريين مبدعي الحرف الأول الذي تَعَلَّمَهُ الإنسان) ...يعتقد بعض المؤرخين أنها الموقع الذي يطلق عليه اسم (جَنَّةُ عَدنٍ) في الكتب المقدسة!

وضع أمتعته في حوض الزورق إلى جانب بضاعة بَقّال يقصد إحدى (قرى المياه)...ازدحم الزورق حتى صار رذاذ الموج يخفق عند حافته التي يجلسون عندها ويُبَلِّلَهُم...احتفوا به بلهجتهم المفعمة بالود والتواضع ، مستدركين بذكائهم الفطري أنه معلم جديد قادم لتعليم أبنائهم ، أفسحوا له مكاناً وسط الزورق ، بعد أن تَخَلّى شابٌ لفحت الشمس بشرته حتى صار تمثالاً برونزياً ذو عينين قادحتين لم تكفا عن ترقب قادم من بعيد... كان الشاب قد أبلغ سائق الزورق أن ينتظر قليلاً...بعد دقائق وصل رجلٌ عجوزٌ يسير بصعوبة وبطئ ، قفز إليه الشاب من سطح الزورق إلى حافة النهر واحتضنه حاملاٍ إياه إلى داخل الزورق... تَنَحى الجالسون عن مكانهم له، صار مجلسه إلى جوار "عروة" إزاء الفتاة السومرية...بدى عليه أنه نصف كفيف...لم ينقطع عن التحديق بوجه جاره الغريب "عروة" القادم من المدينة بهيئة أقرب ما تكون للمهرج وهو بقميصه الأحمر و بنطاله الجينز وشعره المسترسل على كتفيه وحزمة الورق التي تأبطها...طلب العجوز من الرجل الذي يجلس إلى جوار الفتاة السومرية بصوت آمرٍ مؤَنِبٍ تبدد في اصطخاب صوت محرك الزورق:

تعال هنا واترك المكان للأستاذ حتى يجلس إلى جوار عائلته!

تململ الصبي مساعد قائد الزورق في مكانه...ثم انحنى ليشاور الرجل العجوز...فما كان منه إلاّ أن كرر الاستغفار بالله ثلاثاً!

مضى الزورق في رحلته...

أناس ينزلون في نقاط لا يسكنها غير الطير، وآخرون يصعدون من حافات منبسطة للنهر كمداخل لفضاءات الأراضي المنخفضة المديدة الأفق...

بعد أكثر من ثلاث ساعات توقف الزورق عند مرفأ(شريعة) ينتصب عنده ثلاثة دكاكين، وبعض بنايات تلتهمها الرطوبة، إلى جانب قطيع من أكواخ القصب والبردي...بدأ الركاب ينزلون دون أن يتحرك هو من مكانه...لجهله بالمكان الذي وصلوا إليه...التفت إليه سائق الزورق قائلاً:

أستاذ وصلنا (الطُوَّيِّل)...

ثم استدرك:

لا تنزل...

سأوصلك إلى (شريعة) زورق (الخُمِسْ)!

توقف الزورق عند حافة النهر الزلقة إلى جوار زورق متآكل البدن تكسو الطحالب ألْواحَهُ الخشبية...كأنه مهجور منذ زمن بعيد...نهض سائق الزورق الذي أوصله ليساعده على نقل سريره الحديدي، وفراشه المربوط بعناية إلى ذلك الزورق المعلول...مُطَمئِناً إياه:

سيأتي الركاب بعد الظهر...

إن شاء الله تتحركون قبل المغرب...

لأن الركاب إلى (منطقة الخُمِسْ) قليلون!

أوشكت الشمس على الغروب، لم يأت أحد من الركاب، اعتذر له صاحب الزورق عن الرحلة...واقترح عليه أن يذهب بـ(المشحوف)...لكنه أخبره بإن هذا سيستغرق الليل بطوله...أو عليه أن ينتظر للغد صباحاً... سأله عن مكان يمكن أن يبيت فيه إلى الغد، أجابه سائق الزورق بتلقائية وثقة:

مع المعلمين في (مدرسة الطُوَيِّل)!

في تلك الآونة مَرَّ زورق مسرع نحو الجنوب يستقله رجلان يجلسان في وسطه، وآخران يتربعان فوق سطحه، نهض جميع من على الشاطئ فجأة رافعين أيديهم بالتحية وإشارات الإجلال...رفع "عروة" يده بحركة آلية مع الآخرين!

بعد مسافة ما يزيد عن مئة متر استدار الزورق وعاد إليهم، فهَبَّ الجميع صوبه، نزل منه رجل كهل أشيَّبٌ وهو يَفُكُّ (يشماغه) الأزرق الداكن مُفصحاً عن وجهه...مد يده إليه مصافحاً، وسأله عن مقصده فأخبره عنه...

أشار (السيد) على الفور إلى الواقفين بلغة أبوية آمرة:

ضعوا أمتعة الأستاذ في الزورق!

انضم إليهم...

عَرَّفَ الكهل الأشيب بنفسه (السيد عباس)، وقدم كبيرهم إليه (الحاج حسن الإزيرجاوي) الذي كان محط احترام واهتمام الجميع...جلس إزاءهم برهة بصمت...بادره (الحاج حسن) بالسؤال عن (نَسَبِهِ وقبيلته!) ...ترددت في صدره ضحكة ساخرة من نفسه...هو الذي طالما استهجن نمط الحياة القبلية وعلاقاتها (المتخلفة!) ...لم يتذكر سوى اللقب الذي وضِعَ عنوةٌ في وثائقه...أشرق وجه الحاج بالترحاب حالما ذكر اسم قبيلته...قائلاً له:

أنتم أخوالنا!

لم يفهم المغزى القبلي لما قاله (الحاج حسن) ...لكنه اطمأن إلى أنه ذاهب صوب مجتمع ليس غريب عنه...أسهب (الحاج حسن) في الحديث عن مناقب عشيرته التي تقع المدرسة بين (أسلافهم)... دون أن يغفل الإشارة بين حديث وآخر لاعتزازه بقبيلته (إخوة باشا) والتعريف بتاريخهم وامتدادهم الى (قبيلة حِمْيَّرْ) وأصولهم الى لواء المنتفك، وعلاقاتهم الطيبة مع جميع قبائل (البطائح) وقبائل (السهل الرسوبي) المجاور للبطائح.

لَفَت انتباهه ذكر اسم رجل مُهابٌ لطالما التقاه في طفولته كونه جَدِّ أحد زملائه في المدرسة الابتدائية... سأل "عروة" بشوق (الحاج حسن) عما آل اليه صديقه طفولته الصموت (بلاسم الإزيرجاوي)، اعتدل (الحاج حسن) في جلسته، كأنما يريد أن يحتضنه بأبوية...عرف فيما بعد أنها واحدة من بين خصال حميدة كثيرة يتمتع بها (الحاج حسن)!

التفت (الحاج حسن) مبتسماً إلى (السيد عباس) بنظرة ذات مغزى معلوم بينهما!

قال (السيد عباس):

يا أستاذ.... إن شاء الله تستقر كم يوم...وستجد نفسك بين أهلك!

كان الزورق ينطلق بسرعة فائقة وسط الظلمة الحالكة في النهر الملتوي المحاط ببرك مائية زرقاء داكنة تتراقص فيها النجوم مع خفق الريح على صفحة الماء...تتسع البرك كلما توغلوا جنوباً باتجاه (هور الحَمّار) ... على امتداد الشاطئ يقف الرجال والنساء والأطفال يُلَوِّحون بأيديهم بالتحية والدعاء لـ(الحاج حسن)، كلما مر الزورق عليهم، كأنهم على موعد مع مروره!

في حلك الليل توقف الزورق عند (شريعة) مُحكَمَةٍ بالأعمدة والقصب والبردي ترتبط بمدخل (مضيف) كبير ذو ثلاثة أجنحة من القصب المقرنص، كشخص هائلٍ باسطاً ذراعيه على ضفاف المسطح المائي الهادئ يرحب بالقادمين...هرع عدد من الرجال بالفوانيس لاستقبال (الحاج حسن) ومن معه...أنزلوا الأمتعة من الزورق، وضع (الحاج حسن) يده على كتف "عروة" بود قائلاً له:

ستستريح الليلة عندنا...

وإن شئت فراقنا غداً..

سنوصلك إلى المدرسة!

لم يمكث (الحاج حسن) معهم كثيراً حيث كان عائداً من العلاج في المدينة...امتدت السهرة حتى الفجر بينه والـ (السيد عباس) وبعض شباب العشيرة، تخللتها حكايات واستذكار لأهازيج يفخرون بها، ومنها تلك الأهزوجة التي رددها آباؤهم في منطقتي (الهدّام) و(أم كعيدة) عشية انتفاضة فلاحي آل إزيرج عام 1952 اعتزازاً بأحد رموزهم المرحوم (الحاج مؤنس آل رضيوي) بعد مقابلته وزير الزراعة (عبد الجبار الجلبي):

منك يا أبو فاخر (الحاج مؤنس) خوش اجتنا علوم

قابلت الوزارة وعالملك مندوم

الإقطاعي سمع وابيته ظل يلوم

أصبح يتريك بالذل وأمه تلوم عليه!

طيلة الجلسة لم يكف (خِصّاف) ذو العشرين ربيعاً من التعليق على ما يقوله الشباب من أمثاله دون أن ينطق كلمة واحدة حينما يتحدث كبار السن...لكنهم يستعينون به لتنشيط ذاكرتهم عندما ينبشون حقول تلك الذاكرة...توقف أحدهم محدقاً إليه لإعانته على روايته التي كان ضحية فيها، سأله الفتى:

تقصد حكاية الغَدْرِ بكم يا أبتي؟

ثم التفت إلى "عروة" محدثاً إياه عن:

كيف دَبَّرَ الضابط العراقي اليهودي (عزرا وردة)، معاون مدير شرطة (لواء العمارة)، مكيدة لزعماء (آل إزيرج) أثناء الانتفاضة الفلاحية بـ(الهَدّام) و(أم كعيدة) بحجةِ أنه يريد مجموعة من الفلاحين كممثلين عن إخوانهم للتفاوض مع الحكومة...لكنه سرعان ما قام باعتقالهم وزَجهم في السجنِ لثمان سنوات، ولم يطلق سراحهم الا عند قيام ثورة تموز 1958!

خَيَّمَ جَوٌ من الانكشاف السياسي في أحاديث الساهرين من الآباء والأبناء، عندما وجدوا أن ضيفهم يحمل حكايات تؤجج مكامن ذاكرتهم وتثير إحباطات حاضرهم!

بعد أن تناولوا فطورهم من لحم وبيض الطير الطازج...أصَرَّ (خِصّاف)على أن يتولى إيصال "عروة" إلى المدرسة دون غيره.

في طريق الرحلة راح (خصاف) يحدثه عن زفاف (ابنة الحاج حسن) على (بلاسم الازيرجاوي) الذي يعيش معها في العاصمة...ولم ينقطع حديث (خِصّاف) عن رغبته الجامحة في السفر إلى المدينة لإكمال دراسته الثانوية...وحتى الجامعة!

قالها (خِصّاف) مقهقهاً ساخراً من أحلامه!

لاحت المدرسة من بعيد...كصف متلازم من صرائف القصب الجديدة اللامعة تحت أشعة الشمس... عائمة كشبه جزيرة صغيرة عند خاصرة عشرات الأكواخ المتناثرة وسط مساحة الماء الزرقاء الشاسعة الممتدة للأفق الأخضر الداكن...تتراقص حَولها عشرات المشاحيف على إيقاع الموج...وأسراب البَطِّ الملونة تخفق بأجنحتها متطايرة على جبهة الماء...وتعوم على مقربة منها قطعان الجاموس بأجسامها السوداء الزيتية الفخمة!

مع اقتراب (مشحوفهم) من حافات (شريعة) المدرسة خرج المعلمون وتلاميذهم محتشدين على حافة الجزرة (الجبيشه) المؤطرة بنضيد القصب المعقود التي تعوم فوقها المدرسة!

احتواه حشد الطلاب والطالبات الصغار والمعلمين بترحاب غامرٍ، ووَدَّعه (خِصّاف)!

أحاط به المعلمون في كوخ سكنهم الذي مازالت رائحة القصب والبردي المحصود حديثاً تفوح منه، وتملأ أرجائه...فوجئ بصديق طفولته (ماهر الطويل) معلماً في المدرسة...صرفوا الطلاب ذلك اليوم مُبكراً احتفاء به...وتولى (الأستاذ روضان) القائم بأعمال مدير المدرسة مهمته اليومية إعداد الغداء لهم...فوجد نفسه في محيط يألفه وكأنه عايشه منذ زمن طويل!

جلس إلى جواره (المعلم لطفي) المعلم الفتي الخجول الذي كان زملاؤه يحثونه على إظهار (موهبته!) ...وهو يمتنع بحياء...لكن معلم الرياضة ذو الملامح الأفريقية دفعه جانباً ممازحاً إياه وأخرج ناياً من قصب الخيزران من تحت سريرة الحديدي النحيل، هرع المعلم الخجول إليه خشية على (آلته المقدسة!) ... أمسك بها وراح يبعث أنغاماً تخرج من قرارة روحه...

أينعت ألحان الناي في يباب نفوسهم براعم من البهجة...كادوا ينسون الموقد الذي يتأجج تحت قِدرهم ويمتد شواظه إلى مقربة من قوصرة الكوخ اليابسة!

بعد أن أوشك الحاضرون على التماهي حد الثمالة مع أنغام الناي...أيقظهم (عازف الناي) من غيبوبة المتعة التي سَرَتْ في عروقهم بصمته...ملتفتاً إلى "عروة" عندما عرف أنه سابح معه في ذات المحيط الذوقي الذي يُخرج الإنسان من توحشه...متحدثاً له عن:

قصب الناي الذي يأتي به من قريته في الطرف الآخر من (هور الحويزة) ...ينتقيه له أبوه صائغ الفضة (الشيخ مهَتَّم المندائي) الذي يهوى هو الآخر العزف وصناعة الناي!

وقف (عازف الناي) وسط الكوخ حاملاً آلته الموسيقية كالممسك بإناء كريستال رقيق...يُلقي عليهم (درساً!) في تاريخ الموسيقى...ليُضفي على جمال عَزْفِهِ، ورِقَّةَ روحه وَهجاً معرفياً يعكس شغفه بتلك الآلة:

(الناي...صوت القصب وأبجديته التي تخاطب الروح...لا المسامع فحسب...أول من اخترعه واستخدمه أجدادنا السومريون في مدينة "أُور"، ومنهم ارتحل إلى الأقوام الأخرى...بعد آلاف السنين...حَطَّ ربيعاً على ضفاف "شرائع التَصَوِّفِ"، فصار نديماً للصوفيين بفضل الشاعر الكبير مولانا "جلال الدين الرومي")!

قاطعه (المعلم روضان) الشاعر الشعبي طالباً منه المساعدة في بسط المائدة على الأرض حال استلامهم أرغفة الخبز الحار من طفلة عند باب الكوخ...قائلة:

أستاذ بعد قليل سنأتي باللبن!

على حصير القصب اللامع أحاطوا بـ(ثريد مرق الطيور) الذي أعَدَّهُ (المعلم روضان) ...كأنهم في فسحة للتعارف فيما بينهم لأول مرة...جميعهم تواتروا على المدرسة خلال أشهر... لم يتح الوقت المتسارع عليهم تبديد وَجَلِ الغربة عن نفوسهم وفتح شرفات أرواحهم الفتية بعضهم لبعض!

كانوا بانتظار تعيين (مدير) و(فَرّاشٍ) للمدرسة لكنهم يميلون إلى تعيين (المعلم روضان) مديراً للمدرسة لدقته وحماسته في العمل ودماثة اخلاقه، و(محيبس) مغني السَلَفِ (فَرّاشاً) لطرافته وشهامته ونظافته وتطوعه لخدمتهم...كان (محيبس) أول الزائرين له بعد الغداء... أطربه بـ(أبوذِيَّة) من تأليفه...مليء بالألغاز عن المحبوب الغائب الغامض، ومفعم بالشوق والحنين والغزل الحزين...أسفر فيه عن مكنوناته التي فضحها له المعلمون تندراً بقصة عشقه السارية على جميع الألسن كالريق في الحناجر!

بعد أن صدر أمر تعيينه فرّاشاً للمدرسة...وجد (محيبس) فيه ملاذاً يلتجئ إليه لفك عزلته، يحكي له عشقه الذي حُرِمَ منه، بسبب نبذ العشيرة له...لأنه (مغني سفيه!!) ...لا يحترف (مهنة الرجال!) يزرع أو يصطاد...بل يعتاش على كدح أُمه في (حقل الرز العنبر) ... يستذكر له بألم عندما طردوه ونبذوه ليلة الإقدام على مكاشفة أُمه لأُمها بقصد خطبتها...يومها انتابته نوبة جنون، ألقى بماكينة الخياطة إلى قاع (بُرْكَة سلَيْمَّة)!

تلك الماكنة التي اشتراها ليَمْتَهِنَ الخياطة إرضاءً لمعشوقته (حورية)...وألقى بنفسه وراءها مُكَبَّلاً بها...لكن الشباب انتشلوه وفكوا وثاق يديه ورجليه!

في (صريفة) القصب الملاصقة لكوخ نومهم ينهمك (المعلمان ماهر وصالح) كل يوم لتصنيف وتصفيف الكتب المدرسية الجديدة التي وصلت قبل يومين، للبدء بتوزيعها على التلاميذ المحتشدين حول الصريفة يتابعون بفضول طفولي من ثقوب عُقَدِ القصب كيف يرصف المعلمون الكتب اللامعة ذات الصور الزاهية الألوان!

فيما كان "عروة" يجلس مع (المعلم روضان) لإعداد الجدول المدرسي بالاستعانة بـ(مدير مدرسة الخُمِسْ) الذي يسبقهم في الخدمة بخمس سنوات...بينما كان (محيبس) منهمكاً مع عدد من التلاميذ بتغليف (فصول القصب والبردي) بحصران القصب الندي اتقاء من برد الشتاء!

بعد أن ينام من ينام منهم يأخذ الساهرون فيهم فانوسهم إلى (صريفة الإدارة) ...

(المعلم روضان) يكتب ويمحي ما يكتب... (المعلم صالح) يستهلك علبة سجائر كي يكتب شطر قصيدة، (المعلم لطفي) يوقظ الموتى من قبورهم بأنغام نايه بعد أول كأس (عرق زحلاوي)، (المعلم برّاك) يوشك أن يستكمل كتابة لوحات الصفوف والإدارة بخط النسخ الجميل...(محيبس) ينوح بصمت يجتر أحزانه...و"عروة" مغترب عنهم برسومه التي تقطر مرارة!

صار "عروة" يُدرك يوما بعد يوم أن جميع من معه في هذه البقعة النائية...ما كان لهم أن يكونوا هنا...لولا نبذ أهل السلطة لهم بقدر بغضهم للسلطة!

انهمر المطر والصقيع بغزارة لم يشهدها من قبل...تَجَلَّدَ سطح البُرَكِ التي تفصل المدرسة عن الأكواخ المتناثرة لعوائل التلاميذ...كان التلاميذ يصلون المدرسة مرتعدين من شدة البرد شبه عراة...إلا من دشاديشهم التي تقطر ماء شديد البرودة!

اجتمع المعلمون ذات مساء حول موقد الشاي الساخن، بعد انقضاء (ترانيم الناي) ...خطرت في رأسه (فكرة) عرضها عليهم بعد أيام من تجواله بين المدرسة وأبعد كوخ عنها...متعقباً طرق مرور التلاميذ عبر البُركِ الصغيرة الموحلة:

ما نحتاجه بضعة أعمدة، القصب والبردي تحت أيدينا...لماذا لا نقيم قناطر للتلاميذ على السواقي الصغيرة تحميهم من الخوض بالمياه المتجمدة في رواحهم ومجيئهم إلى المدرسة؟!

كانت (الفكرة) حاضرة...كأنهم جميعا كانوا يكتنزونها في عقولهم...قال (الأستاذ روضان):

ما نحتاجه سوى بضعة دنانير نأخذها من رواتبنا في رأس الشهر!

قرروا أن يذهب (المعلم روضان) و(محيبس) إلى المدينة مطلع شهر يناير لشراء أعمدة للقناطر...بعد ان وضعوا قائمة بالتكاليف وجدوا أن المبلغ الذي سيجمعونه من رواتبهم، سيزيد عن الحاجة لأنشاء القناطر، وأن المبلغ الفائض يكفي لشراء أقمشة شتوية تُخاط دشاديشاً للفتيات والأولاد...وتعهد (محيبس) بخياطتها بعد أن يوَفِّر له (خاله) ماكينة خياطة (سنجر تجارية)!

طلب "عروة" من (السيد عباس) الذي صار يلتقيه في كوخه، مع عدد من الفلاحين كل ليلة جمعة، دعوة (الحاج حسن) لتوجيه أولياء أمور التلاميذ، من اجل توفير القصب والبردي والتراب من حافات المياه، وإنشاء القناطر...كان (خِصّاف) أكثر الحاضرين حماساً لتنفيذ الفكرة، وتوزيع الأدوار فيما بينهم!

في نهاية شهر ديسمبر... تسلم المعلمون رواتبهم، ووضعوا مساهماتهم المالية عند (الأستاذ روضان) للبدء بتنفيذ (الفكرة)، وتعهد (السيد عباس) بدعوة أولياء الأمور للشروع بحصاد القصب والبردي، وتمهيد مواقع القناطر في المناطق الحسيرة من المنخفضات المائية...كان التلاميذ والتلميذات مازالوا يعبرون المسطحات المائية الضحلة، حُفاتاً بدشاديشهم الرثة المبللة، يخوضون بالمياه والوحول حتى الحزام، مرتعشين!

في ظهيرة اليوم التالي توقف زورق الشرطة المسلح عند (شريعة المدرسة) ...كان (السيد عباس) و(خِصّاف) مكبلَّين في داخله، واقتادوا معهم (الأستاذ روضان) و"عروة" أمام ذهول المعلمين والتلاميذ!

 

 

 

 

 

رواية (ذاكرة التراب)

(الفصل السابع)

(علاء)...عسر البقاء!

محمود حمد

كان (علاء) في الخامسة من العمر...عندما اعتقل أخيه "عروة" الذي كانت تطارده السلطة منذ تخرجه قبل أشهر...وأمضى في السجن وأقبية التعذيب تسعة أشهر وأطلق سراحه بعفو عام إثر فشل انقلاب قاده مجموعة من الضباط البلداء المحيطين بالرئيس...الذين من فرط غبائهم طلبوا العون لدعم انقلابهم من حُماة الرئيس في القاهرة وواشنطن!

بعد خروجه المفاجئ من السجن ذهب يبحث عن عنوان سكن أهله المجهول في بغداد بـ (مدينة الثورة) المترامية الأكواخ والمآسي...يجهل عناوين من يعرفهم من الأقارب...بعد أن تخلى عنهم الجميع خشية انتقام السلطة منهم بتهمة صلتهم بـ(أُسْرَةِ متآمرة على الحكومة!).

بعد فشله في العثور على عنوان سكنهم عاد خائباً إلى مقهى صغير في مدخل شارع السعدون... يتذكر عمه (أبو نوري) الذي يعمل (حارساً ليلياً) في منطقة البتاويين...جلس في مقهى (أبو ابراهيم) حيث يلتقي (حكماء الصعاليك!) منتظراً غروب الشمس!

هطلت الظلمة على المدينة...جال في شوارع البتاويين عسى أن يلتقيه...بعد مضي ساعات صادف حارس ليلي آخر واقفاً تحت عمود الكهرباء الشاحب الضوء...لما سأله عن عمه أجابه بنبرة ملؤها الوِدِّ ودعاه لضيافته في بيته عندما تنتهي مناوبته عند منتصف الليل، أبلغه أن مناوبة (أبو نوري) تبدأ بعد منتصف الليل.

جلس على إحدى المنصات الخشبية لأحد الدكاكين المغلقة في سوق الخضار تحت ضوء عمود الكهرباء، عملاً بنصيحة (الحارس الليلي) كي لا يشك أحدٌ بنواياه وهو يتجول ليلاً في الأزقة الخالية من المارة...حينها لم يسبق له أن رأى عمه (أبو نوري) ...لكن صورة (أبو مهدي) الأخ الأكبر لـ(أبي نوري) الذي طالما زارهم في كوخهم، واستمتع بأحاديثه المُلْبِسَةِ حكايات الأرض بخرافات السماء، وملأ دفاتره هو واخيه (فاخر) بتخطيطات مختلفة لوجهه المتجلد وجسمه النحيل وحركته الواهنة...التي لم تبارح ذاكرته!

توهجت تلك الصورة في ذاكرته بملامحها المُستَلَبة العافية، واستدل بها وهو يتأمل الشبح القادم من خلف ستار الظلمة في الشارع المؤدي إلى (مسرح المدينة)!

حالما التقيا وجهاً لوجهٍ احتضنه (أبو نوري) بحرارة الأبوة سائلاً إياه:

أأنت "فاخر"؟!

أجابه بذات الودِّ:

أنا “عروة" الأصغر منه يا عم!!

أمضى الليل معه يتجولان في أزقة (حي البتاويين) إلى حين انتهاء مناوبته عند الفجر، وشروق الشوارع بوجوه النسوة الايزيديات الجميلات، وصياح الأطفال يستعدون للذهاب إلى المدارس...

رافقه (أبو نوري) إلى مسكن أهله...فوجئوا به واستقبلوه بالدموع...احتضنوه الواحد تلو الآخر...طافت عيناه في البيت تبحث عن اخته الصغيرة (ليلى) ابنة السنوات الخمس...التي لم يفارق وجهها روحه في زنزانته... سألهم إن كانت نائمة، فانفجروا بالبكاء:

ماتت (ليلى) بالسحايا!

عرف أن أهله لم ينقلوها إلى المستشفى خشية من ملاحقة رجال الأمن لهم في مَخبئهم بالعاصمة، دون أن يدركوا حجم المصيبة التي كانت تنتظرهم...ما تسبب ذلك من شعور بالذنب له لازمه طيلة أيام حياته!

كأن العاصمة استلبت منهم طفلتهم وخشوا أن تختطفهم الواحد تلو الآخر، فعادوا إلى موطن بؤسهم (مدينة الماء والسماء)!

نُقل "عروة" للتدريس في (مدرسة المنصور) ...

في اليوم الأول عند دخوله للصف الأول الابتدائي فوجئ بأخيه (علاء) جالساً خلف الطاولة الأولى في الفصل الدراسي...انتابه شعور بالبهجة وغمره أريج الاعتزاز بالنفس عندما سمع ثناء المعلم الذي سبقه في الفصل الدراسي على أخيه (علاء) دون أن يعرف الصلة بينها:

هذا (علاء) فارس الصف!

قاد (علاء) منذ طفولته فريق" كرة القدم " للصبيان في الساحة الترابية التي تتوسط الحي الفقير الذي يقطنون فيه...صار حضوره مؤشراً لفوز الفريق الذي يلعب ضمنه كمدافع صلب عن هدفه...لكنه أهمل حياته الدراسية، فتراجع ترتيبه في النتائج بين زملائه!

لم تكن سنوات مراهقة (علاء) يسيرة عليه ولا على أسرته...كون جدران البيت الأربعة شهدت احتدام أفكار وميول وسلوكيات خمسة أخوة ناقمين على الحكومة، لم يخرجوا بعد من فضاء المراهقة العاصف... كل ٌبطريقته، وبحجم تفاقم الأفكار والأحلام في رأسه، في زمن مضطرب بالصراعات والتناحرات السياسية والاجتماعية الداخلية، وحياة عائلية عسيرة، وجيل مشتت الأفكار غامض الأفق، وخوف مُفتَرس يمزق نفوس الناس ومدنهم!

في حجرة الضيوف المطلة على الشارع الترابي افترش إخوَّة (علاء) الكبار وضيوفهم البسط الصوفية الملونة بأصباغ باذخة النقاء والإشراق...صاروا يتجمعون طيلة ساعات النهار والليل...وجوه يعرفها (علاء) وأخرى تطرق الباب لأول مرة...يستمعون إلى صخب المذياع في أكثر من محطة إذاعية...يتابعون تداعيات الأحداث والاضطرابات في المدن الإيرانية...يتبادلون السخرية من جنوح الاذاعات الغربية التي كانت بالأمس تتغنى بإمبراطورية الشاه، وصارت اليوم تسمي (غوغاء) الأمس ثواراً!

لم يكن (علاء) مهتماً بالسياسة لكن نُذِرِ الفوضى المتأججة في محطات الإذاعة التي أدمنت أُسرته على الاستماع لها في كل الأزمنة...جعلته يصغي إلى الحوار الساخن بين أصدقاء طفولة أخيه "عروة"... (الشيخ المعمم “حمزة المحَنّا" المناهض للسلطة) مع مدرس التاريخ (جابر المشَرْشَبْ...اليساري الذي اعتادت أجهزة الأمن اعتقاله قبل كل مناسبة سياسية)!

شخصيات كثيرة غيرهم كانت في ضيافة أخيه...جميعهم مأخوذين بشغف المعرفة بما يجري حولهم، أو بنوازع الفضول لما يتفاقم من اضطراب في محيطهم قد يعصف بحياتهم الخاصة!

يصغي (علاء) بانتباه إلى تمنيات الحاضرين:

أن يمتد الحريق الذي يلتهم نظام الشاه إلى أذيال النظام المستبد الذي يحكمهم!

كان (علاء) يجلس في زاوية الحجرة يتأمل وجه (الشيخ حمزة) وهو يُمَسِّدُ لحيته الكَثَّةِ بباطن كفه...يخفق في حبس انفعالاته المبتهجة بـ(الثورة الاسلامية!) التي قام بها (علماء الدين)!

لكنه التفت بانتباه مصغياً لأخيه الذي تحدث للحاضرين عن جذور الاحداث المتسارعة في إيران، بمنهجية المتابع لأحداث التاريخ المتراكمة وتداعياتها، مفصحاً عن:

جوانب من (الثورة البيضاء!) الاصلاحية التي أطلقها الشاه عام 1963 واستمرت لحين سقوطه، تلك (الثورة!) التي استهدفت قطع الطريق أمام (الثورة الحمراء!)، التي كانت شعاراتها منذ (ثورة مصدق) في الخمسينيات، تدعوا إلى (الدولة المدنية الديمقراطية) ذات المضمون الاجتماعي التقدمي، وتآمرت عليها المخابرات الرأسمالية الدولية والمحلية الرجعية وشيطنتها بالتخويف منها والتحذير من قرب انفجارها في إيران!

ورغم مقاطعة (الشيخ حمزة) المستهجنة لما يقوله...واصل حديثه:

فعلى الرغم من دور تلك (الثورة البيضاء!) في تحقيق (التحول) الاقتصادي والتكنولوجي غير الريعي وزيادة دخل الفرد الذي شهدته إيران خلال أكثر من ربع قرن، ألا أن حكومة الشاه بسياساتها القمعية وخنقها لحرية الرأي الحر والارتهان للشركات الأجنبية، مهدت لإعادة انتاج نمط العلاقات الاجتماعية (الاقطاعية) السائدة أصلاً في المجتمع، وبثوب طائفي (مطرز!) بالشعارات المطلبية الملحة لملايين الناس... وساهمت في تأجيج ونشر المشاعر الطائفية الاقصائية الانتقامية لأكثر القوى التقليدية المحافظة بين رجال الدين، وخلقت ذرائع لسرقة ثمار عقود طويلة من نضالات وتضحيات القوى المدنية التقدمية!

رد عليه (الشيخ حمزة) ساخطاً:

لا تلبس الحق بالباطل...فعلماء الدين المجاهدين قدموا الشهداء وامضوا سنين طويلة في السجون لمقارعة نظام الشاه منذ حكم ابيه رضا بهلوي!

قاطعه (الأستاذ جابر المشَرْشَبْ):

انت تكرر علينا (علماء الدين!) ...هل لك أن تبين لي ما هو العلم الذي جاء به (علماؤك) هؤلاء من (المتاجرين بالدين)؟!

الذين يعتاشون منه كـ(وظيفة!) يتربحون منها...

يستغفلون الفقراء اليائسين من رحمة الدنيا فيوعدوهم بالجنة في الآخرة؟

استشاط (الشيخ حمزة) غضباً مستوقفاً (الأستاذ جابر المشَرْشَبْ) بأداء الخطيب المفوه:

لقد علَّم (علماء المسلمين) أوربا أسرار الكون وظواهره وبواطنه...

مما أوصلها إلى ماهي عليه الآن!

ردَّ عليه (الأستاذ جابر المشَرْشَبْ) بنبرة ساخرة مريرة:

كل الذين تعنيهم من العلماء الذين تدعي أنهم علموا أوربا...كُفِّروا واتهموا بالزندقة وقتلوا وسجنوا وأحرقت كتبهم بفتاوى صادرة من (فقهاء المسلمين)!

كان (الأستاذ جابر المشَرْشَبْ) يحدثه كأنه يقرأ نصاً مكتوباً حفظه عن ظهر قلب ويكَرّرِ ترديده...مستعرضاً أسماء العلماء الذين أثروا الفكر الإنساني...ويسرد له وقائع مصائرهم المأساوية على يد (فقهاء المسلمين!) طيلة قرون قمعية مديدة من الزمن!

احتقن وجه (الشيخ حمزة) غيظاً ملتفتاً إليه:

هل تشكك بسلامة عقول (ملايين) الناس الثائرين الذي يملؤون شوارع المدن في إيران ضد نظام الشاه؟!

اجابه:

يا (شيخنا!) ...أنا لا أشكك بعقول (الملايين) من الناس...بل اشكك بنوايا أولئك (المعممين) الذي يضللون (الملايين) بالأوهام ويسوقونهم كقطعان مستلبة الإرادة إلى دوامة لا تتوقف من البكاء على الماضي والانتقام الدموي من الآخر المختلف معهم في الحاضر!

تَسَمَّر (علاء) في مكانه وهو يستمع بذهول إلى حديث (الأستاذ جابر المشَرْشَبْ) الذي عصف ما سمعه منه بيقينه الذي قرأه في الكتب المدرسية عن أولئك (العلماء)...دون أن تذكر تلك الكتب مصائرهم!

خاصة أنه سمعه من مدرس التاريخ (الأستاذ جابر المشَرْشَبْ...المفصول من العمل!) الذي يُعْرَفُ عنه أنه حبيس المكتبة...مدمن القراءة...الذي يحترمه شباب المدينة الباحثين عن (المُخْتَلَفِ عليه) في النصوص الحديثة والقديمة... الشباب المقيمين دائماً بقاعات القراءة في المكتبة المركزية بالمدينة من أجل اللقاء به!

استساغ (علاء) اختلاط حديث السياسة بشؤون الدين، اتسعت فضاءات معرفته لمداخلات (الأستاذ جابر المشَرْشَبْ) و"عروة" الهادئة ولردود (الشيخ حمزة) المُحَصَّنة بالنصوص المقدسة!

تمضي السنوات الطويلة على عائلة (أبو عروة) عسيرة عجاف ومُفترسة، تكالبت فيها عليهم:

ملاحقات السلطة، نفور الناس منهم خوفاً على أنفسهم من السلطة، وانقطاع الأمل بزوال النقمة عنهم... و"عروة" غائب في المجهول من جديد...تبحث عنه السلطة!

كان (علاء) في السادسة عشر من العمر... عندما انقطع عن الذهاب إلى المدرسة...تبددت حياتهم بسعير الخوف وقفراء العوز...بعد اعتقال وتعذيب أبيه لمرات عدة ولأشهر متعددة، مطالبين إياه بتسليم ابنه "عروة" للسلطة مقابل إطلاق سراحه!

استمع (علاء) إلى حديث أبيه بعد إطلاق سراحه آخر مرة...وهو يئن من آثار التعذيب.. قائلاً:

في اليوم الأخير قبل إطلاق سراحنا...احتجزونا في مستودع كبير كان أحد اصطبلات الخيول العسكرية، مع آلاف (الرهائن) من الرجال والنساء والأطفال الذين جاؤوا بهم من معتقلات وسجون مختلفة من كافة أنحاء البلاد!

طالبني (فاضل) مدير الأمن العام وهو يُلَوِّحُ بمسدسة في وجهي...أن أكشف له مكان اختفاء أخيكم "عروة"...أو أُقْتَلْ!

عندما قلت له (لا أعرف مكانه ......!) صرخ بوجهي...قائلاً:

أنا أعرفه...التقيته في موسكو...أين هو الآن بعد عودته؟!

أي نوع من الآباء أنت؟!

هل يعقل أن الأب لا يعرف أين هو مكان ابنه؟!

قلت له يائساً:

هو رجل تجاوز الثلاثين...وله حياته...و...!

لكمني حارسه على وجهي...نظرت بوجهه وأنا أمسح الدم عن فمي...واظلَمَّتْ الدنيا من حولي، أوشكت روحي أن تخرج من جسدي من شدة غيظي...سألته بازدراء:

هل يعرف أباك أين أنت الآن...وأنت في عمر "عروة"؟!

طأطأ رأسه للأرض ونادى على الشخص الذي ينتظر دوره بعدي للتحقيق...

وتناولني حراسه بالركلات!

خرج (علاء) إلى دروب المدينة المُعَفَّرةِ بالبؤس والنفايات...متجنباً اللقاء بأي واحدٍ من أصحابه الذين يشاركونه في الساحات الترابية لكرة القدم في الأحياء الفقيرة، ويحترفون التملص من فصول الدراسة... كإنه يبحث عن (عصبة شديدة البأس!) تشاركه رغبة الانتقام من السلطة الحاكمة لاسترداد كرامة أبيه!

كان (علاء) يلعب مع الفتيان الذين التقاهم عند استئجارهم للدار المصبوغة بلون العشب الظامئ في الحي العسكري...لاحظ تعليق مجموعة من المسلحين يتقدمهم (أدهم المسلول) لافتة كبيرة كتب عليها:

جئنا لنبقى!

ركض إلى داخل الدار يخبر أخيه عن المسلحين المتجمعين في ركن الزقاق!

هكذا تعودوا منذ الطفولة يهرعون إلى البيت للإبلاغ...عن كل ما يثير الريبة من نوايا السلطة!

أو إن شاهدوا سلاح السلطة ومسلحيها يمرون في الشارع!

لقد رضعوا الاحتراز والخوف من السلطة منذ ولادتهم!

جلس (علاء) يستمع الى حوار أخيه مع (الأستاذ جابر المشَرْشَبْ) بعد أن علموا بنص العبارة التي غطت جدار البيت الكبير في ركن الشارع...انتشر الخبر كالنار في الهشيم بين السكان كوعيد وتهديد يُذَكِرَهم بأبشع أساليب القتل والتعذيب والتغييب التي مارسها ذات الانقلابيين عندما نُصروا في انقلابهم عام ثلاثة وستين وتسعمائة وألف!

كان (الأستاذ جابر المشَرْشَبْ) ذو قدرة إلقائية وأسلوب معرفي تعليمي ممتع يجذب ويشد المستمعين إليه...قال لهم بنبرة ساخرة:

قَبْلَهم توهموا في العهد الملكي أن «دار السَّيد مأمونة» لكنها انهارت على رؤوس من فيها!

هؤلاء (البُغاة) يتوهمون أنهم باقون إلى الأبد!

في تلك الآونة كانوا يستمعون إلى أناشيد وخطابات (إسلامية!) حماسية من الإذاعات الإيرانية الموجهة للعراق والخليج...تُحَرِّضُ على (تصدير الثورة للشعوب المُستضعفة!).

نهض (علاء) إلى جهاز الراديو ليدير مؤشر الصوت...صمت الجميع وهم يستمعون إلى برقية (الخميني) الموجهة إلى (السيد محمد باقر الصَّدر) الذي اعتقلته حكومة (صدام حسين) قبل ذلك بيومين:

(سماحة حجة الإسلام والمسلمين الحاج السيد محمد باقر الصدر دامت بركاته علمنا أن سماحتكم تعتزمون مغادرة العراق بسبب بعض الحوادث.

إنّني لا أرى من الصالح مغادرتكم مدينة النجف الأشرف مركز العلوم الإسلامية وإنّني قلق من هذا الأمر آمل إن شاء الله إزالة قلق سماحتكم ...والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته)

بعد أيام نقل لهم (الشيخ حمزة) عن (مصادر موثوقة!) ما قاله النقيب بإدارة الأمن العام (خيري سعيد الحيالي):

(في اليوم الثاني "بعد برقية الخميني" جاءت الأوامر مباشره من "صدام حسين" بإعدام "الصدر وأخته"، وقد تم التنفيذ في مبنى الأمن العام من قبل النقيب "شاكر أبو شيماء" والعميد "سعدون" بطلقات من مسدس كاتم للصوت لكل منهما طلقه في رأسه)!

وبعد ليلتين فقط من اعتقالهما عادت جثتيهما...إلى من حيث جاؤوا بهما ودفنا بشكل سري في آخر الليل بمقبرة (دار السلام) بالنجف!

في22 سبتمبر سنة ثمانين وتسعمئة وألف...قطعت جميع محطات الإذاعة والتلفزيون العراقية برامجها فجأة، وبدأت تذيع أغنية (ركبنا على الحصان) لـ “المطرب فهد بلان" ثم اغنية (الله أكبر) للمطربة المصرية "فايدة كامل"!

حدث ذلك قبل أن يُستَدعى مدبجو الأغاني والعازفون والمنشدون إلى حدائق دار الإذاعة والتلفزيون... لصناعة (صخب حربي تحريضي!) لدعم ضجيج جبهات القتال المشتعلة!

كان تخطيط القيادة العراقية لـ(حرب الثمان سنوات) مع إيران بأنها ستكون حرب خاطفة قصيرة تحقق أهدافها خلال ستة الى ثمانية أسابيع!

في آذار سنة واحد وثمانين وتسعمئة وألف سيق (علاء) الى الخدمة العسكرية الإلزامية حيث كانت المعارك في أوجها عندما بلغ الثامنة عشر من العمر، وزُجَّ في جبهة القتال مع العديد من أصدقائه الذين أداروا ظهورهم للمدارس مُحبَطين، وولوا وجوههم صوب المستقبل الغامض!

خلال تصنيفهم داخل المعسكر التدريبي اختير (علاء) إلى صنف القوات الخاصة، للياقته البدنية العالية وقوامه الرجولي الفارع!

شهدت تلك الأشهر واحدة من أشد المعارك التي تمكنت فيها القوات الايرانية من الالتفاف على القوات العراقية في (منطقة البسيتين) حيث تم أسرُ أكثر من ثلاثة آلاف منهم وقُتِلَ معظمهم في الأسر!

بعد معارك تقهقر القوات العراقية من المحمرة...عاد (علاء) ليس ككل مرة يأتي بها في الإجازة الدورية الشهرية...متأخراً أسبوعين عن موعد عودته...جاء دون صديقيه (متعب الدليمي) و(شاويس اليوسفي) اللذين عادة يأتيان برفقته...يتناولان وجبة الغداء معه في البيت، ويواصلان الرحلة إلى عوائلهم في الأنبار والسليمانية!

تمدد (علاء) على الأرض ووضع رأسه في حضن أمه وأجهش بالبكاء...دون أن يخلع ملابسه العسكرية المتربة الملطخة بالدماء...تجمع أخوته والجيران حوله محزونين...أدركوا أنه فقد صديقيه بمعركة الاندحار في المحمرة...وتكفل بنقل جثمانَيهِما إلى عوائلهما قبل أن يعود محطم الروح إلى البيت!

كانت وحدات (القوات الخاصة) التي ينتمي لها (علاء) تُنقل جواً من جبهة مشتعلة الى أخرى أكثر اشتعالاً...في تلك الآونة باغتت القوات الايرانية القوات العراقية الخاصة في جبهة (جبل كردمند) في التاسع والعشرين من تموز عام ثلاثة وثمانين وتسعمائة وألف بعد أن تم إنزال تلك الوحدات على السفح الغربي للجبل!

لم تتوقف وسائل الإعلام العراقية عن إذاعة بيانات وأناشيد النصر الصاخبة...صارت الأمهات تعرف جغرافية المعارك خوفاً على أبنائهن المنتشرين في البراري والمستنقعات والجبال المشتعلة...يحصين الدقائق والساعات بانتظار عودتهم في إجازاتهم الشهرية!

كان الشارع الذي يقع فيه بيت (أبو عروة) تلك الليلة مغموراً بالوحل ومياه الأمطار التي لم تتوقف منذ يومين...تستبد الظلمة بالمكان بعد قصف محطة كهرباء المدينة وتدميرها بغارة جوية إيرانية...

العوائل محتجزة في بيوتها المنتهكة السقوف بخرير المطر و(أم عروة) ينتهشها القلق لتأخر (علاء) عن موعد إجازته الدورية!

طُرِقَت باب البيت الحديدية بقوة...

هرعت (أم عروة) إلى الباب...فتحتها بسرعة مذعورة...

باغتها مشهد سيارة الأجرة وفوقها تابوت مغطى بـ(العلم الوطني)!

صرخت من قرارة روحها:

علاء... علاء... علاء...!!!!

وسقطت على الأرض مغشياً عليها!!

 

 

حكاية ونَص:

فاطمةٌ...والسلطة!

محمود حمد

كانت (فاطمة) ذات السحنة السومرية التي استعارتها من لون سنابل الحنطة، تِرْبَ ابنتي البِكْر، ممددة على السرير ذو الأغطية البيضاء الناصعة، لا يبدو منها سوى وجهها المتوهج كقمر من الخبز الساخن في سماء الجوع، وقد أغمضت عينيها باستسلام مخذول لليأس...

 فوجئ المحامي (كريم الساعدي) بدخولي عليهم على الكرسي المتحرك...

لفت انتباهي منخفض مُفْزِعٍ عند موضع ساقها المبتورة.. 

تطلعت إلى الطاولة المجاورة لرأس (فاطمة) كان هناك نضيد من الكتب باللغة الإنجليزية...

لم يتركني (المحامي الشاب) تائهاً في أشواك المسافة بين المعرفة والشُبْهَةِ، فأشار إلى الكتب، وإلى ورقة وضعت في منتصف صفحات الكتاب الأول توقفت عندها القارئة...كانت مُذَيَّلة باسم (ابنة سومر)، وهمس في أذني وهو يومئ بطرفه إلى أخته:

فاطمة طالبة في الصف المنتهي من كلية الطب، وشاعرة تنشر في المواقع الالكترونية بهذا الاسم المستعار!

تململت فاطمة على سريرها، وفتحت عينيها بصعوبة، فارتعشت مشدوهة لوجودي إزاءها بشعري الفضي الأشعث ووجهي الشاحب، وانا مسترخي على كرسيي المتحرك مصغياً إلى حديث أخيها الهامس...تفتحت عن فمها ابتسامة عذبة لكنها عليلة، ولم تقوَ على التحدث لوهن قواها، فبادلتها التحية بملامح مفعمة بالوِدِّ الأبوي...وأدرت الكرسي للمغادرة لكنها أشارت إلي بالبقاء!

دار حديث غير منقطع عن نشوء الشِعْرِ من جذور القصب والبردي في (مملكة الماء والسماء!)، وأغوتها الأحاديث عما تركته الألواح السومرية لأول شاعرة في التاريخ (الأميرة الأكدية إنخيدوانا) بين عامي 2334-2279 ق م (ابنة الملك سرجون الأكدى)، التي يعدها المؤرخون أقدم امرأة كاتبة وشاعرة في التاريخ البشري...

تركت (إنخيدوانا) مجموعة من الأعمال الأدبية تتضمن أشعارًا مكرسة للإلهة (إنانا) ومجموعة من التراتيل المعروفة بِـ (تراتيل المعبد السومري)، وعثر على أكثر من مئة لوح طيني نقشت عليها قصائد وتراتيل مذيّلة باسم الكاهنة العظمى (إنخيدوانا)!

بحثت في هاتفي عن بعض مما تركته (إنخيدوانا) من نصوص على الألواح الطينية...وقدمته لـ(فاطمة)... التي تماهت مع نص لـ(الشاعرة الأكدية) بعنوان:

  تسبيح من أجل إنانا….

(أنا إنخيدوانا...كنت جذلانةً مظفرةً ...حتى طردني هو خارج المعبد...وكالسنونو جعلني أفرّ من فتحة في الجدار...مختنقةً بأنفاسي...جعلني أمشي بين الشوك في الجبال...سلبني إكليل الكِهانة العظمى، ناوَلني خنجراً وسيفا وقال:

أغرزيهما بجسدك، قد وجِدا لكِ!!

........

يا ملكةَ الأشياء، أيتها الضوءُ المتوهّج، أيتها المرأةُ التي وهبت الحياة، أنتِ يا من تنزلين الطوفانَ من الجبل، أيتها الشاهقة، يا (إنانا) السماءِ والأرض، يا من تمطرين جحيماً على الصحاري، يا من أرسلها إليّ الإلهُ (آن)، أيتها الملكةُ التي تمتطي الوحوشَ، وهي تلهج بكلمات مقدسة...خشوعاً للإله المقدس (آن)..

من هذا الذي يسبرُ كنهَ طقوسك؟!

يا مُنْزِلةَ الموتِ بأرض عدوك...وَهَبتِ الأجنحةَ للعاصفةِ، عشيقةِ (أنليل)، فغدت تَضربُ الكونَ

خضوعاً لأراده الآلة (آن)!

........

مليكتي، الأراضي الغريبةُ تنحني رهبةً لصرختك، وخوفاً من الريحِ الجنوبية، لجأ البشرُ إليكِ وهم يئنّون بلوعة...حملوا صراخهم إليكِ، ووقفوا أمامكِ يبكون بحرقة، حتى ملأ نحيبهم شوارع المدينة!

....

أيتها الملكة يا حاكمةَ البلاد الأبدية، أخبريني:

من قَدَّم لكِ الولاءَ كلّه؟!

الجبلُ الذي لم يقدم لك الولاء...يبس زرعه وصار هباءً، أشعلتِ النارَ في بواباتهِ المهيبة، أنهارُه سالت دماً، وغارت المياهُ فيه عن البشر، جيشهُ استسلم للهزيمة والأسر والقادة الأقوياء انحنت أمامك بخضوع وساحات الكرنفالات في مدنهم فوضى وجميع الرجال أمامك ليس إلاّ أسرى!

واستكملت (فاطمة) قراءة الهامش المدون تحت النصوص المقتطفة من قصيدة طويلة:

(إنخيدوانا) لقب الكاهنة الأعلى للإله (إنانا) إلهه القمر عند السومريين في (مدينة أور) وهي أقدم شخصية معروفة في التاريخ تحمل هذا اللقب، و (إنخيدوانا) عمة الملك الأكدى (نرام سين)، وأمها سومرية من جنوب العراق وكانت كاهنة عالية المقام من كاهنات إله القمر إنانا (سين)!

أعادت فاطمة إلي الهاتف وهي تشير بابتسامة ساخرة متسائلة إلى نص على واجهة الهاتف...جاء فيه ما دوّنه (سرجون الأول) والد (إنخيدوانا) على إحدى الرُقم الطينية شارحاً قصةَ مولده...

بالكلمات التالية:

(والدتي الكاهنة حملتني جنيناً، وأنجبتني سرّاً، ووضعتني على فُلكٍ من ورق البرُدي، وأحكمت رتاج الباب...حملني النهر إلى فلاح اسمه أكّي، الذي رباني كابنه...خلال عملي في عزق الحدائق، رأتني عشتار وأحبتني. وعلى مدى أربع وخمسين عاماً كان المُلكُ لي)!

بعد اندهاش بالصور الشعرية التي جاءتهم من قرارة ثلاثة آلاف عام مضت، وحملت أرواحهم على أجنحة الذاكرة إلى عالم الكلمة الصانعة للتاريخ والصور الأثيرة المُدَوِّنةِ لترددات أنفاسه...راحوا يطوفون في ينابيع نسغ الشعر الذي يسري في عروق أهل الرافدين، وامتدادها إلى نبض الإرث الثقافي التاريخي الكامن في أرواحهم، تعتصر قلوبهم وتختنق نفوسهم كلما لَمَّحَ أخيها لانحطاط (ثقافة السلطة!) التي فُرِضت عليهم!

عندما عدت الى غرفتي في المستشفى مسترجعاً مرارات الأيام التي مَرَّت بهم، لاح أمامي وجه جارتنا (فاطمة أم حسين) ... (حسين المهندس الشاب الذي أمضت أمه سني عمرها تبحث عنه منذ اختطفته السلطة عام 1981 وغيَّبت أخباره!) في ذات البقاع التي كتبت عنها (إنخيدوانا) شعراً!

فكتبت:

فاطمة والسلطة!

ذاتَ صباحٍ في شعبان...

هَبَّتْ عاصفةٌ من غيظٍ واجتاحت أروقةَ السلطةِ...

نَهَبَتْ "قطعان الغوغاء!"(1) عروشَ السلطةِ...

(فاطمةٌ) امرأه شاحبةٌ في العقدِ السادسِ...من أطرافِ "الميمونة"(2) ...

دَخلتْ وسطَ "الغوغاء!" عروشَ السلطةِ...

وقَفتْ مذهولة!

****

كان الفردوسُ القابعُ في حصنِ السلطةِ نهباً لغيومٍ من أحداقٍ ساخرةٍ مجنونةٍ!

قَطعت (فاطمة) كُلَّ أواوينَ السلطةِ تبحثُ عن قبوٍ سريٍّ تحتَ حُصونِ الخوفِ...

قالو:

إن حسين يُحْبَسُ فيه...

هَبَطَتْ دونَ وجيبٍ لسعيرٍ مظلم...

طَرَقَتْ كُلَّ الأبوابِ الموصودةِ...

نادَت كُلَّ الفتيان الـ - خُطِفوا وحسين - تِلكَ الليلةَ من أحضانِ الاكواخِ المنهوبةِ!

صَمْتٌ مطبقٌ في قاعِ السلطةِ...

وضجيجٌ صاخبٌ يعصفُ بقيودِ السُلطةِ في أدوارِ العرشِ العليا!

****   

تتعثر..

تَشبِكُ قَدَمَيها الحافيتينِ بأسلابٍ يابسةٍ في دهليزِ القبو المُنْتِنِ...

تَصرخُ في فَزَعٍ دونَ صَتيتٍ...

تتهاوى كالنخلِ المقصولِ...

وصليلٌ باردٌ يَسري بالبدنِ الواهن...

تَجثو...

تُمسِكُ أكوامَ الخِرَقِ المرصوفةِ والأرضِ بفيضِ دماءٍ يابس...

ضَمَّت كُلَّ الاسلابِ المنثورةِ للصدرِ الناشغِ...

دَسَّتْ وجهاً ملتهباً بالشوقِ بتلكَ الأسمالِ المنسية...       

شَمَّتْ رائحةً...

أنفاساً يألفَها القلبُ...

سَقَطَتْ ناحبةً...

تَحضنُ كَومَ الاثوابِ المسرودةِ...

خَرَجَتْ للصمتِ المُطْبِقِ في عرشِ الخوفِ الخاوي...

ومَضَتْ مهزومة...

تَشحَطُ أقداماً أوهَنَها البحثُ سنيناً عن خبرٍ يُطفِئُ نارَ الشوقِ الحارقِ!

(1) أطلقت سلطة صدام حسين على حشود المنتفضين عقب هزيمة جيش صدام عام 1991 في الكويت "الغوغاء" تشبيها بقطعان الجراد استخفافا واحتقارا وتبريرا لأبادتهم كما يباد الجراد.

(2) الميمونة: قضاء في محافظة ميسان وأحد بوابات الوصول الى الأهوار.

 

 

 

رواية (ذاكرة التراب)

(الفصل السادس)

يباب الفناء...أنياب الشقاء!

محمود حمد

 

بعد إذاعة البيان الأول للانقلاب...كانت شوارع المدينة خاوية من المارة...خَيَّم الذهول على مدينة (الماء والسماء) المُعْدَمةِ وأهلها الذين عُرِفوا بالتفافهم حول شعارات (ثورة 14 تموز المناصرة للفقراء!) ...وجدوا أنفسهم بمواجهة طغيان هجين يأتيهم من خارج أسوار مدينتهم!

في تلك الأجواء...كانت (أم عروة) تصرخ حيث جاءها المخاض في (صريفة القصب) المتهالكة أقصى زاوية القلعة الطينية التي تحتضنها بساتين النخيل الممتدة لعشرات الكيلو مترات على ضفاف نهر دجلة!

بعد عسر ولادة وفزع أبنائها واضطراب وخوف نساء الجيران، ووعيد الواقفين في بوابة القلعة الطينية، وصراخ (الحاجة خيرية) مالكة القصر والبستان والقلعة الطينية بوجه (أدهم المسلول) وجماعته من أفراد (الحرس القومي) لمنعهم من الدخول الى الفناء الداخلي...ولِدَ لـ(أم عروة) الصبيُّ الخامس...أسموه (علاء)!

وذلك بعد مضي أربعة أيام على انتقالهم للمرة الثانية إلى (القلعة الطينية) إثر طردهم من كوخ الحراسة الذي كانوا يقطنون فيه إلى جوار (قصر الجلبي أبو نمير) الذي اكتمل بناؤه، وتم الاستغناء عن حاجتهم لمهمة (ناطور القصر) الذي كان يشغلها (أبو عروة)، (دون أجور!) مقابل سكنهم في كوخ اقصى الحديقة الخلفية للقصر!

قبل انتقالهم إلى الكوخ في (القلعة)، كان الأطفال يلعبون ويعبثون في الشارع مع أبناء (القصور السبعة!) المُطِلَّة على شاطئ النهر...يتابعون بفضول طفولي ما يقوم به (جِلاّب) منظف خزانات الغائط تحت الأرض...يتابعه (الجلبي) من شرفة قصره الكبير ذو الطوابق الثلاثة...ذلك المبنى الجاثم كنسر فاتحاً جناحيه عند صدر البستان...كان سائق العائلة ذو فروة الشعر البيضاء، وخدم القصر ينقلون الحقائب الى سيارة "البيوك" الفارهة، استعدادا لمغادرة أهل القصر في رحلتهم الصيفية السنوية إلى خارج البلاد!

عندما أنجز (جِلاّب) مهمته كان مشهده مقرفاً وهو ملطخ بالغائط...رمى إليه (الجلبي) من أعلى الشرفة ورقة (دينار)...التقطها (جِلاّب)...غير مصدق...هو الذي يتقاضى نصف دينار في الأسبوع...وضعه في جيب دشداشته التي تَقطِر وَحْلاً نَتِناً...نادت عليه خادمة القصر بعد أن أوعز لها (الجلبي) أن تأخذ دشداشة من خزانة ملابسه وتعطيها لـ(جِلاّب)...حمل الدشداشة الناصعة البياض بأطراف أصابع يده وركض مسرعاً إلى النهر في الجهة المقابلة من الشارع الأسفلتي...خلع دشداشته المنقوعة بالخراء وهو يركض صوب الماء، رماها بكل قوته إلى وسط مجر النهر ليتخلص من قرفها الذي لازمه سنين طويلة...ألقى بنفسه عارياً إلى تيار الماء...منتعشاً...متخلصاً من وحل المجاري والغائط العالق به!

فجأة نَطَّ كالملدوغ من الماء صارخاً:

الفلوس...الدينار!

راح يَغِطُّ إلى قاع النهر ويَنِطُّ إلى السطح صارخاً مُستنجداً...باحثاً عن (الدشداشة التي استلبت منه الدينار!) ...انحدرت (الدشداشة) إلى قرارة مجرى النهر السريع!

قفز من الماء إلى الشاطئ...يطوى دشداشة (الجلبي) المُعَطَّرة حول وسطه العاري دون أن يُسعفه الوقت لارتدائها، انطلق راكضاً ليلحق بـ(الجلبي) مستغيثاً به!

عندما وصل القصر...كانت بوابة القصر مغلقة، وأهل القصر قد غادروا المكان لقضاء إجازتهم الصيفية خارج البلاد!

جلس (جِلاّب) على الرصيف منكسر الروح تختلط دموعه بخرير الماء من فروة رأسه الفضية الكثة... تجمع حوله الأطفال وقد غمرت وجوههم سيماء العطف عليه، مدركين سبب حزنه، رغم نوبة الضحك الطفولي والهزار الصاخب الذي انتابتهم أول الأمر...اغرورقت عيون "عروة" بالدموع وهو يقف خلف جوقة الأطفال...يتذكر بمرارة عيون (أبيه) المنكسرة ينتهشها الحزن المسكوت عنه...كلما عاد إليهم خائباً من مسعى أوهَنَهُ دون أن يجني ثماراً منه!

نبهه الصبيان إلى مناداة (المدرس البصير...عبد العزيز) عليه، الواقف حائراً في باب القلعة الطينية، المقيم مع خالته (الحاجة خيرية) في قصرها، هرع نحوه كعادته لمرافقته من والى مبنى (المتوسطة المركزية)، التي كان "عروة" يدرس فيها في الصف الثاني المتوسط، لكنه طلب منه ان يدخل للقصر لاستكمال قراءة دفاتر أجوبة الطلاب لامتحان اللغة العربية للصف الثالث المتوسط!

اتقن قراءة النصوص في دفاتر الطلاب الامتحانية وواجباتهم المدرسية، بعد نوبات كثيرة من اللوم والنقد والتصويب الذي لم يكف (المدرس البصير) عن توجيهه اليه!

تعلم من (الأستاذ البصير) صبره واصراره على تعميق البصيرة لمواجهة فقدان البصر، حيث كان يمضي الساعات الطويلة لقراءة بضع صفحات من مصدر نحوي، أو كتاب لغوي معجمي، أو نص تاريخي (محضور!)، يتحدى فقدان البصر باستخدام العدسات المكبرة التي جاء بها بعد رحلة العلاج الطويلة في موسكو، وعندما يستعصي عليه الامر، يطلب من "عروة" قراءة النص له، فيستجيب له بحماس، خاصة عندما يكون النص خارج ما يقرأه في الكتب المدرسية، أو اعتاد على سماعه من الكبار!

لا يعرف "عروة" سبب الجفوة بين (المدرس البصير) واسرته المقيمة في منزل صغير داخل القلعة، وتملكه (الحاجة خيرية)، مجاور لقصرها، فلم يسبق أن رآه يلقي التحية على أخوته الثلاثة الذين ولدوا مثله فاقدي البصر، أو يزورهم في المنزل الذي يبعد عن القصر عشرة أمتار، ويعيشون فيه مع ابيهم العليل المسجى على السرير بلا حركة منذ عشر سنوات، ويقضي حاجته على الفراش، بمساعدة امهم الصبورة الصامتة!

يأبى (المدرس البصير) المنكفئ على نفسه، طلب المساعدة من أحد (غير قراءة "عروة" له ومرافقته له في ذهابه وايابه الى المدرسة)، فهو يغسل ملابسه ويخيطها، وينظم شؤون غرفته، ويغسل الصحون بعد الطعام، الذي تقدمه له أبنة خالته العجوز التي تقيم معه في القصر!

لكن (دخان!) المضمر من الحكايات يسفر احياناً عما هو مخبوء في ماضي الأسرة، يطفح في بعض أحاديث الناس من حولهم:

(إن ماحل بابيه من داء مستعصي، هو انتقام من الله، لأنه كان أباً ظالماً مستكبراً، طردهم من بيته منذ طفولتهم، وتنكر لهم لأنهم عميان، وأذَلّ امهم بفسقه، وتسبب بخراب العديد من العوائل بجشعه...فأعاده الله إليهم مُهاناً، عاجزاً حتى عن القيام بأبسط حاجاته)!

عند المساء خَيَّمَ الصمت على الأكواخ في الفناء الخلفي لـ(قصر الحاجة خيرية) داخل القلعة الطينية... تتردد النسوة على (أم عروة) للاطمئنان على الوليد الذي تناوبت عليه العلل منذ ولادته...يرتعد أطفالها من شدة البرد...توصيهم أُمهم:

ارتدوا ملابس المدرسة كلها...والبسوا فوقها الدشاديش، وتدثروا باللحاف والإيزار معاً...ستتدفؤون بعضكم بأجساد بعض!

كانت جارتهم العمياء (أم نعمة ونعيم) تخرج في الليل من (كوخ البردي) الملاصق لـ(كوخهم) في القلعة، تتلمس طريقها ببصيرتها وعصاها وتوجس خطواتها...يتبعها توأماها الصبيِّة والصبيِّ المعاقان ذهنياً (نعمة) و(نعيم)...تُمسك (المرأة العمياء) بالرضيع (علاء)...تتمتم أدعية بأصوات مبهمة وكلمات مُدغمة المخارج...تمسح وجهه بباطن كفها الخشنة المتغضنة، يرتعش الرضيع بعد يومين من الخمول وخمود الحركة...يتلقف ثدي أمه بعد امتناع عن الرضاعة طوال الليل والنهار...ينشغ ملهوفاً...تلتوي شفتاه الشاحبتان بابتسامة رضا...فيبتهج الحاضرون بإشراقة وجهه!

يطرق زوج (المرأة العمياء) قوصرة (الكوخ) منادياً عليها...عائداً من نوبة العمل التي تبدأ من قبل بزوغ الشفق إلى آخر الليل ككل يوم...يعمل حمالاً لنقل (خِصّاف التمر) من وسط البستان إلى قوارب الشحن الراسية على شاطئ دجلة.

في النهار يسود الهدوء (القلعة)...لا تُسمع سوى زقزقة العصافير في أعلى النخيل، وبين أغصان الأشجار...يذهب الجميع للعمل والأطفال للمدارس.

الأمهات يَمْنَعْنَّ الأطفال وخاصة الفتيات من الاقتراب من الطرف الثاني لفناء القلعة حيث (الفجوة) الصغيرة التي تخترم الجدار الطيني السميك وتفضي إلى داخل بستان النخيل الكثيف المظلم...تتسع (الفجوة) لمرور كلاب الحراسة...إلى جوارها كوخ صغير تقيم فيه (نورية) المرأة الثلاثينية المكتنزة الأنوثة مع أمها بعد إن نَفَرَتْ من زوجها البستاني الشاب (عبد الجبار)، وهربت من منزلها مع (رجل مجهول) يقيم في الشاطئ المقابل!

جاءت (نورية) مع أمها المُقعَدة وطفلتها (ربيعة) ابنة الثلاث سنوات إلى (القلعة) خالية الوفاض إلاّ من الخوف الذي يلاحقها...في كل صباح عندما تخلوا (القلعة) من ساكنيها...يتسلل رجل أربعيني نحيف فارع الطول أعجف ذو ملامح ثعلبية من (فجوة) الجدار الطيني للقلعة إلى كوخ (نورية)...يدخل خلسة...بعد أن تطرد أمها وابنتها عنوة إلى مشراقة الكوخ...يختلي بها في جوف الكوخ لساعات إلى ما قبل الظهيرة موعد عودة الأطفال من المدارس...عندها يتسلل (الرجل الثعلب!) خارجاً بحذر من فجوة كلاب الحراسة!

وحده (الصبي الأحدب) ابن الثامنة من العمر (الذي جاءت به الحاجة خيرية من دار الأيتام لرعايته لكسب الثواب والأجر من الله) يبقى في القلعة...دائماً يتسلق (النخلة الطويلة) المطلة على فناء القلعة...يرمى (الرجل الثعلب!) بالحجارة عند تسلله داخلاً أو خارجاً من فجوة كلاب الحراسة!

بعد أشهر...يَنْضَمُّ (الصبي الأحدب) إلى الأطفال الآخرين الذي يلعبون أمام كوخ (أم عروة) ...يداعبون "الوليد" الذي صار يخطو خطواته الأولى على الأرض الترابية المعشوشبة.

تسري الحياة في جسد (القلعة) بهدوء والصغار نيام في أحضان أمهاتهم في حديقة (قصر الحاجة خيرية) ...المرأة الستينية التي لم تُنجب، بسبب عقم زوجها (الاسطنبولي) الثري الذي توفي قبل سنتين في حادث سير...تعيش معها منذ ذلك التاريخ ثلاث عجائز...أختها الكبيرة (سكينة) التي تجاوزت الثمانين من العمر وابنتيها (خديجة) و(نجيبة) اللتين تجاوزتا الخمسين من العمر دون زواج!

تتولى (خديجة) إدارة المطبخ في القصر، واختها (نجيبة) التي أصيبت بمرض أسقط الشعر من كل جسدها، دون ان تفقد فتنتها، حتى وهي قد تجاوزت الخمسين من العمر، وما يزيدها هيبة، هو رجاحة عقلها، حيث يستعان بها عندما تلتبس الأمور داخل القصر أو القلعة، ويثير انتباه من يلتقيها صمتها اليقظ، واعتكافها في غرفتها الانيقة التي تغطي جدرانها رفوف الكتب.

منذ مجيئهم الى (القلعة) نشأ وِدٌ بين "عروة" وبينها، جعله يناديها (أمي)، ويصغي لنقدها اللاذع له عندما يخطأ، (خلاف ما كان يستفزه نقد أمه له)، فيما تحنو هي عليه وتتسامح على هفواته المراهقة، حتى التي يستهجنها الآخرون، مثلما وجدته ذات مرة (متلبساً!) مع الصبية (نرجس) ابنة اختها، وهما يتعانقان في غرفة الضيوف بالقصر!

في صباح يوم ربيعي...لم تستيقظ (الحاجة خيرية) في موعدها ككل يوم...

لم يجرأنَّ على إرباك وتيرة حياتها...لأنَهُنَّ يُدرِكْنَّ إنَّهُنَّ محض ضيوف في قصرها...لكن وصول تِرْبِها ابنة عمتها الضريرة العانس (لمياء) لزيارتها دَفَعَهُنَّ لمناداة (الصبي الأحدب) ...الذي اعتاد الدخول إليها وإيقاظها للفطور...دخل إليها على أطراف أصابعه كالقطة، لم يتأخر كثيراً، حتى عاد راكضاً صارخاً بصوت تخنقه العبرات:

عمتي (الحاجة) لا تجيبني!

هَبَّ إليه "عروة" الذي كان يتأهب للخروج متسللاً من القلعة...

كانت (الحاجة خيرية) مستلقية على ظهرها فوق سريرها الأبنوسي الفخم وعيناها شاخصتان إلى السقف... شفتاها الدقيقتان لوحتهما زرقة غياب الروح عنها...بدى وجهها أشَدُّ ابيضاضا من فرط استيطان الموت فيه!

تعالى صراخَهُنَّ خارج الحجرة...لم يجرأ أحدٌ على انتهاك حُرمتها لهيبَتها...لكن (لمياء العمياء) دخلت إلى الحجرة تتلمس طريقها بخطوات عشوائية نحو السرير طالبة من (الصبي الأحدب) إيصالها إليها...تحسست جسدها بكلتا كفيها من قدمها صعوداً إلى وجهها... تمرر أصابعها على ملامح وجهها كأنها تروم نَحْتَ مثيلاً لها...تُحَدِّثُ نفسها بنبرة لا تخلو من الحسد...يصغي إليها (الصبي الأحدب) الذي منع دخول إي أحد إليها غير (لمياء)... تمتمت:

كنت أسمع عن جمالها منذ صباها...

أُمَنّي النَفسَ أن أتلمس وجهها لأتعرف على مفاتنها!

حضر (الدكتور نجيب) مدير الصحة في المدينة ولفيف من الأطباء...تحول القصر إلى مركز حكومي التأم فيه كبار المسؤولين والأعيان...تجمع فقراء (القلعة) صغاراً وكباراً خلف القصر ومن حوله مذهولين لموتها...مندهشين لمكانتها بين أعيان المدينة...هُمُ الذين لم يعرفوا عنها سوى أنها:

تلك المرأة المتواضعة الحانية على الجميع...المنشغلة بترتيب زهور حديقتها!

لم تعد الحياة في (القلعة) بعد ذلك اليوم كما كانت قبله...خَفَتَتْ الأصوات التي كان يضج بها فضاء (القلعة)...وانقطعت الزيارات والمساعدات عن الفقراء فيها...وتواترت التهديدات لسكان الأكواخ بهدم أكواخهم وإخلائها منها خلال أسبوع...تهديدات من (جهات غريبة!) ظهرت فجأة بعد وفاة (الحاجة خيرية) ...شخصيات ذات وجوه مُتجهمة مُستَكبرة...حضرت للقصر لأول مرة!

هجر (الصبي الأحدب) القلعة تلك الليلة في أوج الصخب إلى جهة مجهولة... ناحباً!

في أجواء القلق والخوف من المجهول تدهورت صحة الطفل (علاء)، وعجزت أمه رغم استماتتها عن علاجه، خلال ترددها لأشهر على المستشفيات، يأس الجميع من شفائه...إلاّ هي لم تيأس...نصحها الأقرباء والجيران أن تودعه ليلة واحدة في مرقد الإمام (السيد محمد.. سبع الدجيل) المولود سنة ستة وثمانمائة ميلادي...على أن تأخذ معها (كاروك) مَهْداً... (نِذراً للإمام!) ...لتضعه على القبر (المقدس!) الواقع في أرض بعيدة عنهم مسافة خمسين وأربعمائة كيلومتر...لكي يَشفيه!

لا أحد منهم سبق له زيارة (ضريح سبع الدجيل!) ...سأل "عروة" صديق له من تلك الديار عن موقع (الضريح)...قال له صديقه (عبد الحسين البلداوي) ...بحماسة (مرشد سياحي!) يروم تسويق سمعة مدينته (قضاء بَلَد):

إثر وفاته (الغامضة!) وعمره أربعة وعشرون عاماً... دفن (سبع الدجيل - محمد بن علي الهادي - عاشر أئمة الشيعة الإمامية) في هذا القبر قبل تسع وثمانين ومئة وألف سنة...ليس بعيداً عن مجرى (نهر دجلة) الذي يقطع مئات الكيلومترات ليطفئ ظمأ الملايين في رحلته منذ آلاف السنين!

لم يكن هناك في كوخ (أبو عروة) شيء يباع ذو قيمة...لشراء (الكاروك) الجديد (نذراً) لـ(سبع الدجيل) لأن (النذور لا تقبل إن كانت عتيقة!) ...ولا يملكون جديداً سوى (بساط الصوف) الذي جاءت به عمتهم (قَنْد) من أطراف (ناحية الكميت) لمناسبة ميلاد (علاء)...تلك الناحية البائسة التي سميت نسبة إلى الشاعر (الكميت بن زيد الأسدي)!

لم يتردد (عبد الحسين) النجار المُعاق الساقين من صناعة (كاروك) بمواصفات يعرفها، عندما يكون الطلب (نُذراً لسبع الدجيل) دون أن ينسى تباهيه بذكر عدد (الكواريك) التي صنعها وحُمِلَتْ على الأكتاف والرؤوس (نِذراً) إلى هناك، وعاد أصحابها المعلولين ملفعين بثوب الشفاء، والعاقرات منهُنَّ بتباشير الحمل، والمجانين منهم بصفاء الذهن!

بعد هدم أكواخ فقراء (القلعة) وطردهم منها انتقلت أسرة (أبو عروة) إلى الجانب الثاني من المدينة غرب نهر دجلة، وأقامت في حجرة من الطابوق المُستلب من بقايا المعسكر الإنجليزي المهجور...لكنها لم تمكث طويلاً في هذا المقام إثر ملاحقات ومداهمات رجال الأمن لهم بحثاً عن ابنهم "عروة"!

فهاجرت الأسرة إلى العاصمة بغداد واستأجرت بيتاً لها في (مدينة الثورة)!

 

 

رواية (ذاكرة التراب)

(الفصل الخامس)

أيدٍ مكبلةٌ...عقول طليقةٌ!

 

محمود حمد

 

كان "عروة" في السادسة عشر من العمر في تلك الليلة المظلمة التي اختلط فيها خرير المطر الغزير، بأزيز الرصاص المتواصل، مع صوت المؤذن مبحوحاً داعياً لـ(صلاة الفجر)!

اقتحمت مفرزة من المسلحين المدججين برشاشات (بور سعيد!) ومعهم زمرة من (الطلبة الأدِلاّء المُلَثَّمين!) مبنى (دار سكن الطلبة) في (منطقة الوزيرية) بالعاصمة، عَرَفَ من بين المُلَثَّمين صديق طفولته (هلال ابن أبو الطرشي) الذي كان طالباً بمعهد التربية الرياضية!

كان (الأدِلاّء المُلَثمين) يشيرون إلى طابور الطلاب المرصوفين ووجوههم إلى الجدار الواحد تلو الآخر لتشخيص (معارضي الانقلاب!) ...

صرخ قائد المفرزة بـ(الأدِلاّءِ المُلَثَّمين) بلكنة صحراوية جافة:

يا أبناء العاهرة... قولوا:

إنهم جميهم خونة وضد الثورة...حتى نتخلص منهم ونذهب لإكمال عملنا!

عَصَبوا أعين الجميع بمناشف الحمّامات، وقيدوا أيديهم للخلف بحبال القِنَّبِ، وساقوهم بأعقاب البنادق إلى طابور الشاحنات التي كانت مكتظة بالطلبة المعتقلين من كليات ومعاهد مختلفة.

عصف به انفعال غاضب مُتَّقِدٌ بالخوف لم يألفه من قبل، كاد أن ينفجر بوجوه المسلحين دون تفكير بِرَدَّةِ فعل أشخاص مدججين بالكراهية والسلاح في تلك اللحظات التي انعدمت فيها لغة العقول والألسن وسادت لغة الرصاص الطائش...لكن وجوده وسط حشد الطلاب الجامعيين المُكَبَّلين وهم يتقدمون بحذر وصمت ومهابة دون استفزاز للمسلحين هَدَّأ انفعاله!

في تلك اللحظات طافت في عقله صور تلك الشخصيات والجماعات المثقفة الثورية!، في مدينته الفقيرة (العمارة)، الشخصيات التي أُعجِبَ بها وبـنضالاتها السرية!، واستمع بشغف إلى الأحاديث عنها، وتناقل أخبار مواقفها الشجاعة التي سمعها بيقين مُتكَلسٍ لا يساوم عليه، وبالَغَ في مدحها وسعى إلى جمع الناس من حولها...وأضاف من خياله لها ما يجعلها (قدوة!) يَهيمُ بها!

كان مستعداً للتضحية من أجلها كأي عاشق بِكْرٍ...منذ أخذته الرياح الحماسية الطاغية إلى أجواء العمل الطلابي المُنظَّم في فترة مبكرة، وهو في الثالثة عشر من العمر...أخلص لها في مرحلة ميله الشديد لقراءة الكتب التي تشغل بال الكبار وتُكَرِّسُ الوعي الرافض لكل أشكال التَسَلُّطِ... وانتقاد استبداد رموزه، وكشف جذوره وبيان عوامل صيرورته ونشوئه بأسلوب صبياني لاذع!

انطلقت بهم ناقلات الجنود (زيل) على طريق السدة الترابية المظلم، الملاصق لمبنى كلية التربية ... توقف طابور الناقلات فجأة ولعلع الرصاص، تعالت صيحات الطلاب وصرخاتهم داخل الناقلات العسكرية:

مقاومو الانقلاب يوقفون القافلة...اهربوا من الناقلات!

قذفوا أنفسهم من جوف الناقلات إلى المجهول، معصوبي الأعين، مُكَبَّلي الأيدي إلى سفح السدة الترابية، بعيداً عن أنوار الناقلات التي انحرفت عن مسارها إلى كتف السدة...التقاهم شباب متحمسون...فكوا وثاقهم، وسلكوا الطريق باتجاه أكواخ حي العاصمة، الذي يستوطنه البؤساء المهاجرون من قراهم في مدن العراق المختلفة بعد إملاقهم على يد الاقطاعيين...ذلك الحي الذي تمتد أكواخه على جانبي نهر (شطَيِّط (...الواقع في المنخفض المحيط بشرق العاصمة كمستودع مكشوف تُفرِغُ فيه العاصمة خراءها!

ابتلعت الظلمة مئات الطلاب المُطارَدين...كان "عروة" يهرول بصمت وذعر، يسير معه باتجاه واحدٍ غامض المدى (ثلاثة اشباح) لا يعرفهم...كان بينهم شاب متعثر في مشيته ممسك بصاحبه، لأنه اعشى!

دعاهم أحدهم بلغة عربية بلكنة كوردية مفعمة بالسخاء للجوء معه إلى قريته في (سيده كان) بكوردستان العراق...

رد عليه الآخر بنبرة شكر وعرفان:

أهلي في (مدينة عنَّه) عند حافات الصحراء...على ضفاف الفرات!

في هروبهم كانوا يتبادلون الأحاديث والأخبار بحذر عن (الانقلابيين!) ...لكن حديث طالب الصف المنتهي من كلية الطب القادم من (مدينة عنَّه) كان أكثرهم إحاطة بالخطر الذي ينتظر معارضي الانقلاب!، وأظهرهم نُضْجاً في التَفَكُّرِ بعواقب خطوتهم القادمة!

فيما كان (الأعشى) الطالب بكلية الزراعة يلوذ بالصمت...

مع انبلاج الفجر وَدَّعوا بعضهم بعضاً وقد اغرورقت عيونهم بالدموع...انتابه شعور مرير بالحزن، كأنه سيفتقد أخوة له مدى العمر...دون أن يعرف حتى أسمائهم!!

رغم مضي ما يزيد على خمسين عاماً، رَسخت في ذاكرته لحظات الفراق المفجع تلك، لأشخاص لا يَعرِفهُم، لكنه يَعرِفهُم!

حال افتراقه عنهم سلك الطريق الترابي المؤدي إلى مدخل العاصمة الجنوبي دون المرور بنقاط التفتيش التي بدأت تظهر كالأورام الخبيثة في الشوارع، عند مفترقات الطرق، وعلى مداخل المدن ومخارجها!

أقَلَّتْهُ سيارة خُضار عائدة بحمولتها بعد أن تقطعت الطرق إلى سوق بيع الخضار...لم يكن وحده في حوض الشاحنة المكشوف.

ناداهم السائق أكثر من مرة:

كُلُوا وخُذوا ما تحتاجونه من فواكه وخضار!

كان في الشاحنة عدد من العمال (المياومين) القادمين من القرى القريبة من العاصمة...العائدين لقراهم خائبين بعد قرار منع التجول في العاصمة إثر الانقلاب!

قبل وصولهم إلى (محافظة الكوت) جنوب العاصمة، بقي وحده مع الخضار.

في (ناحية شيخ سعد) جنوب (محافظة الكوت) انضم إليه رجل عجوز ونعجتان...أنهَكت النعجتان مقاومة الرجل العجوز في محاولاته منعهما من الاقتراب من صناديق الخضار والفواكه...بعفوية قروية كَلَّفَه الرجل العجوز تولي أمر إحداهما...ما أن أمسك بها حتى صار يُطعِمُها من صندوق الخيار فهدأت.. سأله الرجل العجوز باندهاش معاتباً:

أأنت صاحب الخضار؟!

ابتلع الإجابة على السؤال وقَدَّمَ حُزمة خُضار للنعجة التي يكبلها العجوز بيديه الراجفتين...

بعد ما يقرب من مئتين وستين كيلوا متر عند (ناحية على الغربي) انتهت رحلته حينما انحرفت السيارة إلى الطريق الزراعي المنحني حتى أفق الحدود الايرانية...سأله السائق إن كان يعرف كيف يواصل طريقه إلى مركز المدينة...قبل أن يجيب استدرك السائق وهو يضغط على دواسة التوقف:

بعد صلاة الظهر سَيَمُرُ (عبد الحسن) من هنا بجَرّارِه ذاهباً إلى مركز المدينة!

قبل الغروب اصطحبه (عبد الحسن) في رحلته إلى المدينة...

في الغروب وصل إلى أطراف المدينة على متن الجَرّار المتهالك!

كان وصوله مفاجئاً لـ(أمه) و(أبيه)...

تيبس الدم في وجه (أبيه) واستبد به الصمت والفزع، صار ينظر إليه كأنه يودعه إلى الموت...هَمست (أمه) بأذنه وهي تضع نصف دينار في يده:

(أدهم المسلول) وجماعته يترصدونك في الطريق...كانوا قبل قليل عند باب القلعة...يتوقعون عودتك منذ يوم أمس...اهرب إلى البستان من فجوة الجدار الطيني الخلفي للقلعة للتخلص منهم!

تفحص فناء القلعة التي يحتمي بها كوخهم من التشرد...بعد أن أزاحت المدينة فقرائها عن قلبها إلى ما بعد أطرافها المنسية المهملة...دون أن يدرك أن هذه هي المرة الأخيرة التي تمسح فيه عيناه فناء القلعة!

خرج من كُوَّةٍ في الجدار الطيني إلى بساتين المدينة المسكونة بالترقب، متستراً بظلمة الليل، يلاحقه نباح كلبتهم العرجاء التي نَجَتْ من دهسٍ متعمدٍ لسيارة فارهة...عَبَرَ الطرق الخلفية الوعرة...متنقلاً من سيارة إلى أخرى... قاطعاً عشرات الكيلومترات مشياً على الأقدام، سالكاً الطرق البعيدة عن كمائن الانقلابيين، كلما أقترب من مداخل المدن...حتى وصوله حي الـ(عاصمة!) البائس على حافات (نهر الخراء!) في العاصمة بغداد!

راودته مواقف أبطال الروايات والسير الذاتية للشخصيات (الثورية!) التي قرأها...غمرت مشاعره روح المغامرة في العمل السري!، نَحَّتْ جانباً ومؤقتاً مخاوفه من عواقب ما ينوي القيام به...في تلك المرحلة التي كانت فيها عيون وبنادق الانقلابيين تختطف الأرواح في الطرقات والشوارع!

جلس في كوخ عمه الحارس الليلي (أبو نوري) الملاصق لمجرى نهر (شطَيِّطْ) الذي تزكم رائحته العفنة الأنوف، ويغشو الذباب الأزرق الوجوه...يصك طنينه المسامع، ويزاحم الفقراء العيش في أكواخهم!

جلس يُقَلِّبُ أوراقه متأملاً رسومه التي لم تكتمل بعد...مُسْتَذكراً هوايته (كتابة المذكرات اليومية!) التي شَجَّعَهُ عليها مدرس اللغة العربية (الاستاذ عمر الحلبي) اللاجئ من بطش النظام في سوريا!

تردد كثيراً عندما نوى فتح صفحة لتدوين ساعات المحنة التي أعقبت الانقلاب...لكنه أقدم على مالم يتوقعه من نفسه:

(كتابة شعارات معادية للانقلاب!) على ورق الرسم الذي كان يأتي به إليه من المطبعة صديقه (حسام) ابن الصحفي (ناظم الحلي)!

كتب نصوص شعارات مستوحاة من مفردات السخط والحماسة التي يتذكرها، على قصاصات الورق الصغيرة المحملة بأسباب موته ووضعها تحت قميصه، وذهب بها عند الظهيرة المقفرة الى (متنزه 14 تموز) في شمال العاصمة، على الضفة الشمالية لنهر دجلة عند اطراف مدينة الكاظمية...حيث تلتقي عادة العوائل في الظروف الطبيعية...نشرها خلسة في جميع أنحاء المتنزه...واختفى!

بعد أُسبوع عاد ليتفقد نتائج (مغامرته!) ...

قبل الوصول إلى بوابة المتنزه حملت الريح إلى ما بين قدميه إحدى تلك القصاصات التي لم يكترث بها أحد! 

 

 

 

 

 

حكاية ونَص:

هل توجد بلد في الدنيا

ليس به فقراءٌ من ميسان؟!

محمود حمد

 

منذ ولادتي تحت سقف كوخ القصب اليابس، الذي ما أن تَهطل عليه مِزْنَةٌ مَطرٍ حتى تغمره المياه فتعوم في وحلها:

أسلابَنا، وكيس الطحينَ، وحَلاّنةَ التَمر، والكتبَ المدرسية، ووثائقَ (الانتماء للعراق)!

عند طفولتي الخاوية عرفت أنني من مدينة كتب (الله) و(السلطة) عليها أن تكون مأوىً للفقراء المُعدَمين، يَنفِرُ الناس البؤساء منها من فرط الجوع إلى هوامش المدن الأخرى الأقل بؤساً... ليخدموا فيها كـ:

زبّالين في الطرقات، وفرّاشين في الدوائر الحكومية، وحُراس ليليين في الأحياء القديمة، وبستانيين في حدائق الشوارع! 

ما أن طَرَّ شاربي حتى أغوتني قراءة الكتب الممنوعة، بعد أن عشقت الرسم على الطين قبل أن اتعلم كتابة الحروف على الورق، فصارت المعرفة الممنوعة جزءاً من شغفي التي عصفت بكوخنا، ولَوَّحت عقولنا بالتساؤلات المُحَرَّمةِ الشائكة، وأمسى الكتاب منجاتي من الغرق في طوفان التخلف المتوارث والمتناسل ومعتصمي من التجهيل السلطوي الممنهج، ومن (الدجل المجتمعي المقدس!) ... تعلمت أن الناس الذين ينشؤون ويرحلون بصمت من المدينة، هم وَجَعُها الذي سيزيد من آلام المدن الأخرى التي سيعشعشون فيها!

لما انتميت للفكر الممنوع من السلطة، واتخذت المعرفة سبيلاً للاعتراض، ومعولاً لفضح الفاسد المستور في بيئة البؤس، أدركت أنني مثل غيري من أبناء مدينتنا الذين يتسلل الضوء إلى عقولهم واليقظة إلى ضمائرهم، سيطيرون منها يوماً، مُحَلِّقين مع الأسراب المهاجرة، حالما ينبت الريش بديلاً للزغب في أجنحتهم، وتلك عِلَّةٌ فرضها (الوعي) عندهم، وغصبهم عليها قمع السلطة لهم، وليس هوى للتشرد والاغتراب في أنفسهم!

عندما هاجرت أيقنت أني احترف الغربة، لكني رغم ذلك أخفق في الاندماج فيها... ووجدت في كل منعطف في الأرض تأخذني الرياح إليه...هناك (فقراء من ميسان)!

طيلة سبعين سنة ونيف لم تبرح مدينة (الماء والسماء) وعيي أو تنأى عن مخيلتي، كلما اضع الفرشاة على سطح القماش لايرسم، أو أمسك بالقلم لادون أوجاعي... رغم تعرض ذاكرتي لأعاصير إزاحة شديدة القسوة والوحشية، لكنها لم تستطع اقتلاع نخلات باسقة راسخة على ضفاف دجلته!

كلما تذكرت وفاء الأبناء لمدينتهم المنكوبة... يظهر أمامي الدكتور (داود روبين كبّاي) أشهر أطباء مدينة العمارة، الذي جاء مع أبيه الطبيب من بغداد مطلع القرن الماضي، ليستقر في مركز مدينة العمارة... واشتهر في المدينة باسم (داوود كبّاية)!

الرجل الشغوف بحب الناس والإخلاص لهم، والصبور على بلوى المضايقات التي تعرض لها اليهود، لإجبارهم على الهجرة إلى إسرائيل، منذ خمسينيات القرن الماضي، ألا أنه رفض الهجرة إلى إسرائيل...لاعتزازه بوطنه وأهله...وتشبثه بأزقة العمارة ووجوه قرويها الذين يستغيثون به من الأمراض التي تفتك بهم دون مُغيث!

وظلت الحكاية التي يتداولها أهل (مدينة العمارة) مركز (محافظة ميسان) وذاع صيته بها عالقة في ذهني:

عندما كان (الدكتور داوود كبّاي) في أحد الأيام جالساً في المقهى...لاحظ طفلة قروية فاقده للبصر تجلس مع والدها على الرصيف المقابل، فنادى الدكتور (كبّاي) على والدها وعرض عليه أن يَجري لها العملية مجاناً... وأجرى العملية بنجاح وأعاد النظر لتلك الطفلة!

عندما فتح عيادته في (محلة التوراة) بـ(مدينة العمارة) ...كان يكشف على مرضاه الفقراء مجاناَ، ويصرف لهم الدواء مدفوعاً من جيبه، فازدحمت عيادتهِ بالقرويين من أطراف المدينة، حيث كانوا يزوروه حتى في الليل!

أعده أهل المدينة (مَلاكاً هَبَط عليهم من السماء!) لأنه بنظرهم (الدكتور المتخصص بعلاج جميع الأمراض!)، فكان يعالج جميع المرضى من كبار السن، والأطفال، وحتى النساء عند الولادة!

عندما اضطر الدكتور (كبّاي) نتيجة ملاحقات السلطة واستفزازات حثالتها للانتقال من العمارة إلى بغداد عام أربع وستين وتسعمئة وألف...افتتح له عيادة هناك وخصص يوم الجمعة فقط لمراجعي (مدينة العمارة) الذين كانوا يأتون إليه بأعداد كبيرة قاطعين مئات الكيلومترات للقدوم إليه...حتى كانت نساء المدينة يَضَعْنَّ (الحِنّاء) على باب عيادته!

يتَبارَكْنَّ بها كما يفعلن في ضريح الإمام الكاظم (باب الحوائج)!

لأنه اكتسب محبة فقراء الناس بأخلاقه الرفيعة وقِيَمِه الإنسانية!

بعد مجيء حزب البعث للسلطة عام ثمان وستين وتسعمئة وألف تم سجنه في (قصر النهاية) لمدة عام، وتعرض خلالها لأبشع أنواع للتعذيب، ومنعَ عنهُ الغذاء والماء عدة أيام حتى اضطر أن يشرب من بوله لشدة العطش المميت!

حال خروجه من (قصر النهاية) هرب إلى إيران سيراً على الأقدام لعدم توفر المال لديه لدفع أجور النقل، بعد أن أنكر أحد معارفه وجود الأموال التي تركها أمانة عنده!

ومنها هاجر إلى لندن التي عاش فيها مُعدماً حتى رحيله عام ثلاثة وألفين!

في سنوات الدكتاتورية وحروبها وحملات قمعها المتواترة، لم تكف (ميسان) عن ولادة أجيال من الفقراء المبدعين والمناضلين المعترضين الذي تعصف بهم نوبات القمع، لكنهم يهاجروا منها مُجْبَرين لا مُخَيَّرين، ويتشتتوا في كل بقاع الأرض...

شعراء يمتهنون غسل الصحون في المطاعم، وفنانين يجمعون النفايات في محطات المترو، وكتاب يوزعون الوجبات السريعة على الدراجات، وأكاديميين يغسلون السيارات على الأرصفة، وأطباء ينظفون صالات المستشفيات، ومهندسون ينقلون البضائع على ظهورهم من الحاويات إلى الناقلات!

وغيرهم تختفي أخبارهم في حقول المزارع المجهولة...وقليل منهم أولئك الذين يجدون مظلة تَقِيهِم حَرَّ الصيفِ وقَرَّ الشتاء...لكنهم جميعاً لم يفقدوا سيمائهم كـ (فقراء من ميسان)!

لذلك تساءلت:

هل يوجد بلد في الدنيا ليس به فقراءٌ من ميسان؟!

تسألُني (حريةُ) بائعةُ الفِجْلِ بسوقِ "الميمونةِ":

عن سِرِّ القَحْطِ المُستَشري فينا مٌنذُ ولادَتِنا ...

نَنْقُلُهُ كالطاعونِ بأجسادِ المُدُنِ الأخرى!

تَستَدرِكُ:

هل توجدُ بَلدٌ في الدنيا لَيسَ بها فقراءٌ مِنْ ميسان؟!

هَلْ هذا الداءُ الكامِنُ فينا... مِنّا؟

أمْ... مِنْ رَبِّ العَرشِ الخالقِ أرزاقاً ...

وسيوفاً تَفْتِكُ فينا؟!

****   

أسألُها:

هل تعرفُ "اوروك" ...

بَلدٌ لم تَعرف ذاكرةُ الإنسانِ بلاداً قَبْلَهْ ...

بَلدٌ أنشأها الأهلُ بهذا الإقليمِ من العالمِ ...

هذي (ارضُ الرُزِّ الوحشيةِ برعايةِ أوتو) (1) ...

أطلَقَها (انكي دو) في الألفِ الثالثِ قَبلَ الميلادِ ...

واليومُ بلا رُزٍ نأكلُهُ!!

****

ضَحَكت (حريةُ) قائلةً:

إنّي لا أعرفُ بلداً غيرَ (الميمونةِ)!

تومِئُ لـ “الزوري"(2) المُتَنافرِ في "مشحوفِ"(3) الصيادِ اليافِعِ ...

كصفيحِ الفِضَّةِ يَغلي ...

وبِكَفَيها باقَةَ فِجلٍ يانِع ...

تَهمسُ... تَتَغشى خَجَلاً بعباءتها:

هذي خيراتُ الميمونةِ!

****   

أتَرَبَعُ تَعِباً بجوارِ شريعةِ أهلِ الأهوارِ ...

أشربُ شاياً ممزوجاً في نعناعِ "الدفّاس" (3) ...

أخبرُها عن ابنِ مَدينتِها "جلجامش" ...

تسألُني:

هَلْ كانَ وَلياً عادل؟!

أَمْ مِثل لصوصِ الأكفانِ ببغداد؟!

****

أُقَلِّبُ أوراقاً كالجَمْرِ بخاصرةِ السُلطَةِ...

أقرأُ مِنها سَطراً للرَجُلِ القادمِ تَواً من (ماطورِ سليمَة) (4) ...

يَجعلُها حِرْزاً بينَ(الصايَةِ) (5) والأضلاعِ ...

يَصعد بـ(الماطورِ) العائدِ لـ(أم جومة)! (6)

****

"كاظم" فلاحٌ من أبناءِ (الحلفايةِ)... (7)

خَتم القرانَ بِخَمسة أشهرٍ في بيتِ (المُلاّ دراغ) ... (8)

قَدَّمَ شكوى ضَدَ المَجْهولِ الـ يَقطَع رِزْقَه ...

اصطَفَّ الناسُ بصمتٍ حَولَه ...

قالَ طبيبُ البلدةِ:

النفطُ تفاقَمَ في جوفِ الأرضِ ...

صارَ نَزَيزاً ...

طَفَحاً ...

يَقْتُلُ كُلَّ حياةٍ!!

****

صاحَت زوجةُ "كاظم" بابنتها:

الدُنيا ظلامٌ يا سعدية!

تَصرخُ ابنتُها في سُخطٍ:

لا توجَدُ قطرةَ نَفطٍ في فانوسِ البيتِ!

****

اصطَكَّ رجالُ القريةِ صَوْبَ القِبلَةِ ...

سَجَدوا ...

رَفعوا أيديهِم بدعاءِ الحائرِ:

رَبِّ أنقذ أرضي من شَرِّ النفطِ... وبلاءِ النَفطِ!

(1) النص مقتبس من ملحمة جلجامش، و"اوتو" الإله الذي يحمي جلجامش.

(2) الزوري: الأسماك الصغيرة.

(3) الدفاس: سيد له قبر في أطراف مدينة العمارة.

(4) سليمة: بركة في وسط اهوار العمارة.. يقال انها تبتلع من يدخل اليها (مثل مثلث برمودا).

(5) الصاية: زي رجالي شعبي عراقي.

(6) أم جومة: منطقة في الهور بين الناصرية والعمارة والبصرة.

(7) الحلفاية: مدينة صغيرة على ضفاف الهور.

(8) الملا دراغ: صاحب أقدم مدرسة تُعَلِّمْ الأبجدية بنصوص قرآنية في أطراف مدينة العمارة، في الربع الأول من القرن الماضي...وهو خال أم "عروة"!

 

 

 

 

 

 

 

 

رواية (ذاكرة التراب)

(الفصل الرابع)

ذات العيون العسلية!

محمود حمد

في نوبة من نوبات تخلي السلطة عن بؤساء المدن والاستخفاف بمصائرهم، وإزالة اكواخهم من أحزمة الفقر المتشبثة بالمدن بذريعة (التمدن!)، ارتحلت عائلة "عروة" شمالاً من (مدينة الماء والسماء) بحثاً عن مأوى ولقمة عيش لها عشية موسم الحصاد في البقاع الزراعية على ضفاف دجلة جنوب العاصمة، التي تحتضن أكواخ المعدمين المحيطة بـ(إيوان كسرى) الذي بناه الملك الساساني (أنو شروان) عام خمسين وخمسمئة ميلادية...في تلك البقعة النائية عن (المدنية!)، رَسَتْ بهم موجة الخوف من الانقراض جوعاً، (أملاً!) في الخلاص من ملاحقة الفقر لهم!

قبل حلول شهر نيسان كانت العوائل القادمة من قرى ومدن مختلفة بعيدة، تقيم أكواخها العشوائية الهزيلة متلاصقة مع بعضها البعض، وتلتئم في جماعات يوحدها صرير البؤس في النفوس والأمل بموسم حصاد يعصمهم من نوبة جوع في أشهر الشتاء القادم!  

بعد نهار طويل وثقيل أسند رأسه لجذع النخلة وأغمض عينيه...غط في شبه غيبوبة...لاح له وجه أمه منكفئة حائرة في زاوية الكوخ، حولها أطفالها الخمسة...بعد انفراط عقد المزارعين وزوجاتهم عنهم...في اليوم الأخير من تأبين (فَضالة) مُشَغِلْ مضخة المياه (المجهول النسب)!

المضخة "العجوز" التي أيقظها (أبيه) بخبرته، بعد سباتها العميق لسنوات، فصار (فَضالة) صديقاً لـ(أبيه)، تلك المضخة التي كانت تسقي أراضٍ تمتد على طول الشريط الزراعي لحقول الحنطة والشعير المحاذي لنهر دجلة.

أدرك أن كيس الطحين الذي كانت أمه تُقَتِّرُ استهلاكه عليهم قد نفذ خلال أيام العزاء الثلاثة...رغم حرصها على عزل نصفه أول الأمر كي يكفيهم إلى حين الحصاد واستلامهم أجر مشاركتهم بالحصاد بضعة أكياس من الحنطة والشعير!

جلس على حافة الساقية التي توقف جريان الماء فيها مع توقف مضخة المياه عن الدوران بتوقف قلب (فَضالة) مُشَغِلِ المضخة الشاب الذي وجد قتيلاً مُمَزَقاً بخناجر الثأر القبلي!

لا أحد يعرف من قتله؟!

ولِمَ قُتِل؟!

يتداول المزارعون:

إنه قُتِلَ بسبب فعل ارتكبه (شخص ما) من قبيلته لا يعرفه (فَضالة)!

وهو يتطلع إلى الشارع الأسفلتي الممتد بجانب المزارع، المؤدي إلى العاصمة...تذكر "عروة" مرافقته لأبيه عند زيارته لصديقه الحداد (أحنف) قبل ثلاثة أعوام، في (شارع الشيخ عمر) بالحي الصناعي بالأطراف الفقيرة للعاصمة!

انهالت عليه بغتة هواجس ومخاوف من الموت جوعاً، مُحَمَّلة على أنين (أبيه) وتأوهات (أُمه)، وهي تسعى يابسة الريق من الشفق إلى الغسق لكسب لقمة تسد رمقهم.

عاد إلى (أُمه) من "خلوته!" وهمس بأذنها...نهضت خلفه مفزوعة متوسلة ألا يفعلها...

قَبَّلَ يدها...وقَبَّلَ رأس أبيه المُكَبَّلِ بغيبوبة الوجع التي عاودته بعد رحلتهم المضنية، وغادر المنزل حافيا مشياً على الأقدام باتجاه الطريق الأسفلتي!

وقف على الحافة الترابية للطريق يؤشر للسيارات المُسرعة إلى المدينة دون جدوى...حتى تعامدت أشعة الشمس وصارت تخترق يافوخه...حيث لا ظِلَّ يحتمي به...حتى ظِلَّهُ انطفأ عندما تعامدت الشمس على قحفة رأسه...شعر بدوار شديد وعطش تَيَبَّست له عروقه، لكنه لم يكف عن التوسل بالسيارات المسرعة منها والبطيئة السير!

اجتازته شاحنة قديمة قَبَّعَتهُ بغيمة من الدخان الأسود الخانق...انتابته نوبة سعال حادة لم تتركه حتى تبدد الدخان من حوله، وهو يراقب الشاحنة وهي تعود إلى الخلف... توقفت عنده...سأله (الرجل الأشيب) الجالس إلى جوار السائق:

الى أين أنت ذاهب؟!

أجابه باستعطاف وتوسلٍ:

الى (العاصمة) يا عم!

رد عليه (الرجل الأشيب) بوِدٍّ أبوي:

اصعد يا ولدي!

تردد برهة...ثم بادره الرجل:

لا تخاف.. اصعد دون أجرة...لكن اصعد على أكياس الطحين في حوض السيارة!

قطعت الشاحنة الطريق تولول كالنائحة...تزفر خلفها عموداً كثيفاً من الدخان...إلى أن توقفت عند الغروب أمام مخبز في زقاق ضيق وسط المدينة...هَبَّ إليهم رجلان كهلان من داخل المخبز وصاحا به:

لا تتأخر...ناولنا الأكياس بسرعة!

بخبرته وخفته في تحميل أكياس الحبوب في موسم الحصاد أدهشهم بسرعته ونشاطه، بحيث لم يلحقا كليهما به...خاطب أحدهما (الرجل الأشيب):

يا (أبا طارق) حسناً فعلت...شَغَّلْتَ هذا الفتى معنا...نحن نحتاج لمثله!

لم يستوعب معنى الايماءة التي أجاب بها (أبو طارق) على الخباز الكهل، لكنه شعر بقدر من الأمل.

سأله الخباز الأشهب:

من أي حي أنت؟

هل بيتكم قريب من هذا (الحي)؟!

قاطعه (أبو طارق) ...ساخطاً:

اترك الفتى وشأنه...أكملوا تنزيل الأكياس وباشروا تجهيز العجين!

وجد نفسه وسط ثلاثة رجال تجاوزا الخمسين من العمر، يعملون ويقيمون طيلة النهار ومعظم الليل في المخبز...لكنهم يتناوبون على أوقات الذهاب لمنازلهم...

طلب منه (أبو طارق) أن ينام داخل المخبز، ليوقد لهم النار بالتنور قبل مجيء الخبّازين قبل الفجر!

صار كلما تأججت نار التنور لاح له وجه أمه الذي اعتاد أن يراه كل صباح مضاءً بشواظ نار التنور... يعتصره قلبه شوقاً إليها ولأبيه ولإخوته...بعد مضي أكثر من أُسبوع على عمله في المخبز وانقطاع أخباره عنهم...غمره الشوق لأهله والقلق عليهم...كان يخشى إن هو طلب من (أبو طارق) رخصة لزيارة أهله أن يستغني عنه من العمل!

في عصر الخميس نادى عليه (أبو طارق) وأجلسه إلى جانبه...

نظر إليه بعين ملؤها العطف...قائلاً:

ألا تشتاق لرؤية أهلك يا بني؟!

اغرورقت عيناه بالدموع، لكنه اعتصر حزنه بصدره حتى كاد ينفجر...دون أن ينطق بكلمة سوى آهة فلتت من صدره!

أخرجَ الرجل ثلاثة أرباع الدينار ووضعها في يده...قائلاً له:

ستخرج الشاحنة بعد العشاء لتأتي بأكياس الطحين مساء يوم غد...

اذهب معها، وانتظرها عند عودتها غداً وتعال معها!

لم يصدق انه تَسَلَّمَ أول (أجر نقدي) من كدحه في حياته...هو الذي أمضى طفولته كـ (أبيه وأُمه) ...لم يعرفوا أجراً مُجْزٍ غير مكيال الحنطة أو الشعير!

كاد يمحق الدقائق المتبقية لمجيء الشاحنة كي يصل إلى (أمه وأبيه وإخوته)!

عندما عاد في الليل وجد (أمه) في أطراف القرية تتطلع إلى الطريق "ككل يوم" كما قالت له أخته:

ما أن تسمع حركة أو حفيف ريح وراء قوصرة الكوخ...في الليل أو النهار إلاّ قَفَزَتْ مفزوعة من مكانها صائحة:

عاد أخوكم!

وتنكفئ خائبة تُطفئ دموعها بنحيب مخنوق خلف الكوخ قلقاً عليك وحزناً على أبي...لتعود إلينا محتقنة الأجفان مُحْمرة العيون!

عانق أمه ووضع النقود في حضنها...جفلت كالملدوغ دافعة إياه والنقود ِبكلتا يديها...صارخة به:

هل جئت لنا بمال حرام؟!

هل سرقت؟!

من أين لك هذه النقود؟!

قَبَّلَها من رأسها وطمأنها:

هذا أجر عملي بمخبز في (حي الأكراد) ...جئت برخصة من صاحب المخبز الذي أعمل فيه، غداً أنتظر سيارة الطحين لأعود بها للعمل!

احتضنته بحرارة وأجهشت بالبكاء...وخاطبت أبيه الغارق بالغيبوبة بصوت مسموع:

اصبر على بلواك...لا تستعجل فراقنا...ها هو ابنك يستطيع أن يشتري لك الدواء!

انفجروا جميعا بالبكاء...حتى علا صوت جارتهم (أم ذيبان) تناديها:

اذكري الله يا (أم فاخر) ...ليس لأولادك غيرك وأبيهم...لا تقتلي نفسك بالبكاء!

صارت زياراته الأسبوعية لأسرته منتظمة، مثل حضوره جلسات (أبو طارق) مع أصدقائه الذين يحضرون كل ليلة سبت عند منتصف الليل...يَسمعهم يتحدثون كثيراً:

عن البؤس والحرمان والأمراض التي تستبد بفقراء الناس، عن بذخ الحكومة التي تأتمر بإرادة الأجنبي!

وصار له مسكن خارج المخبز مع شباب قادمين من الأرياف البعيدة إلى مشاغل في المدينة...

ذات ليلة كان قادماً قبل الفجر من المسكن إلى المخبز، سالكاً الزقاق المظلم شبه المهجور، كأقصر طريق بين المخبز والمسكن، إذا بفتاة تركض مذعورة متعثرة بعباءتها وغطاء وجهها...تَتَلَفَّتُ إلى خلفها مضطربة بخوفٍ يُلاحقها...لاحت له من بعيد سيارة جيب للشرطة مرت مسرعة في نهاية الزقاق ...ما أن وصلت الفتاة بالقرب من باب منزل (ابي طارق) حتى أمسك بها واستدار وإياها بحركة سريعة من ذراعه وأدخلها إلى المنزل...دفعها بسرعة خلف ستارة الباب!

طرق الباب بهدوء...ما ان خرجت (ام طارق) عند الباب فوجئت بالفتاة المرتصفة لجدار الممر الضيق المؤدي الى فناء الدار... انتشلها "عروة" بالقول:

يا خالتي...هذه ابنة عمتي جاءت معي منذ الفجر وستذهب للطبيب عندما تفتح العيادات أبوابها!

لم يعد (أبو طارق) إلى المخبز في ذلك الصباح...لكنه حضر جلسة ليلة السبت الأسبوعية، تحدثوا كثيراً عن النساء اللواتي اعتُقِلْنَّ خلال اجتماعَهُنَّ للاحتفال بـ(يوم المرأة العالمي)، وإفلات عدد مِنْهُنَّ من قبضة (الشرطة السرية)!

أثنى الشاب النحيل (أبو فهد) ذو الكلمات الرصينة والرأي المسموع (الذي يحضر بعض جلساتهم) على (الخدمة الكبيرة!) التي قدمها (أبو طارق) لإحدى (الرفيقات!) بحمايتها من ملاحقة (الشرطة السرية) لها، وإخفائها في بيته...استبدت الدهشة بوجه (أبي طارق) واستوطنه الصمت المتسائل!

ظل (أبو طارق) طيلة الجلسة شارد الذهن يُقَلِّبُ وجهه بين الحاضرين وعيناه عالقتان بسقف المخبز المتهالك!

ما أن خرجوا من مخبئهم في المخبز حتى ذهب (أبو طارق) الى منزله وعاد مسرعاً...وعيناه شاخصتان لـ"عروة"...اقترب منه وربت على كتفه باعتزاز وسأله هامساً:

باستغراب:

هل هي ابنة عمتك حقاً؟!

هز رأسه بالنفي...

هل تعرفها؟

رَدَّ عليه بعفوية مراهقة واثقة:

لا أعرفها...ولا أعرف لماذا تلاحقها الشرطة...لا يهمني ذلك...لكنها فتاة طريدة خائفة لوحدها في ظلمة الليل!

كان ذلك اليوم مفصلياً في حياته وعلاقته بـ(أبي طارق) الذي (تَعَرَّفَ عليه وعَرِفَهُ من جديد!)، كأنه يلتقيه أول مرة!

صارت أخبار أسرته شأن يتداوله فيه مع (أبي طارق) ...يحضر اجتماعات (المجموعة) خارج المخبز دون أن ينقطع عن الدراسة...يستكمل مع الخبّازين نوبتهم الصباحية قبل الفجر...يشاركهم نوبة الظهيرة بعد العودة من المدرسة...أصبح مُقَرَّباً من (الشاب النحيل) الذي يدعونه (أبو فهد) ...يخرجان معاً...يدس إليه (أبو فهد) منشوراتهم (السرية!) تحت نضيد أرغفة الخبز!

صار يقرأ (مفردات!) لم يسمع بها أو يقرأها من قبل، مفاهيم جديدة كانت عسيرة على فهمه!

ذات فجر بارد كانت الشوارع مُكتَظَّةٌ بالمظاهرات الصاخبة والشعارات المُنَدِدَة بالحكومة وبالأجنبي الذي يسرق ثروات البلاد!

رغم ذلك فإن المخبز لم يغلق أبوابه...لأنه:

لقمة عيش الفقراء!

هكذا قال لهم (أبو طارق) قبل أن يتركهم ويَنْظَمَّ إلى المتظاهرين...استمرت التظاهرات المطالبة بتغيير الحكومة أربعة أيام متتالية...لم يعد فيها (أبو طارق) إلى المخبز.

عرفوا فيما بعد أنه اعتقل مع (أبي فهد) وعدد كبير من المتظاهرين، نقلوا من هناك إلى سجن (نقرة السلمان) ...ذلك السجن السيء الصيت، الذي أنشأه (السير جون باغوت غلوب باشا) الملقب بـ(أبي حنيك) أحد ضباط القوات الإنكليزية المحتلة في عشرينيات القرن الماضي في منخفض صحراوي مقفر بالقرب من الحدود العراقية السعودية!

إثر ذلك حضر “عروة" لأول مرة اجتماعا مع من بقي من المشاركين بجلسة ليلة السبت في (مسكنٍ خلف السدة الترابية للعاصمة) بعيداً عن أعين (الشرطة السرية) ...بعد أن أغْلَقَتْ الحكومة المخبز بالشمع الأحمر!

ولم ينقطع عن زيارة صديق والده الحداد (أحنف) طيلة تلك الفترة بحثاً عن عمل، لكنه كان يتجنب الخوض معه في أي حديث، لأنه في كل مرة يزوره يجد عنده (ضيوف!!) من (الشرطة السرية) يقيمون في الدكان المجاور، يترصدون أشخاصاً في الكراج المقابل...

في المرة الأخيرة عندما ذهب إليه وجد الكراج ودكان الحداد (أحنف) مُغلَقَينْ، دون أن يقترب منهما، لحق به الفتى (صاهر النُحاس) العامل مع الحداد، وحَذَّرهُ من التردد على المكان...قائلاً له:

الجميع اعتقلوهم!

لم يتأخروا عليه كثيراً حتى أوقعوه بكمين عند زيارته لأُسرته...وسيق إلى التوقيف ليمضي خمسة أشهر تحت التعذيب...خرج منه يُتْقِنُ أبجدية الكراهية للسلطة، يُحسِنُ لغة الحوار العفوي الشائك، يتباهى مع نفسه بمهارات (العمل السري) وتَحَمُل أوجاع التعذيب!

صار ينتمي لمئات الآلاف ممن يحبهم ويثقون به، دون أن يراهم أو يعرفوا اسمه أو هويته...كان مجهول الهوية معلوم الأفعال...تَعَرَّفَ هناك على أخبار من كان يسمع عنهم كقدوة له من خصوم الحكومة والأجنبي المستعمر...رسخت في ذاكرته ما سمعه من نقابي في السبعين من العمر كان معهم في غرفة التوقيف عن قادتهم:

الذين حكمت عليهم المحكمة بالإعدام وتم تنفيذ حكم الإعدام بهم قبل إعلانه، يوم 14 شباط 1949 حوالي الساعة الرابعة والنصف من فجر ذلك اليوم!

بعد مضي ما يقرب من ثلاثين عاماً...

التقى "عروة" (أبي فهد) في زاوية بمقهى شعبي في أطراف العاصمة، كان أشعثاً رَثَّ الثياب...وقد هَرِمَ قبل أوانه...بدى كأنه في عامه الثمانين وهو لم يطرق بعد باب الستين...حَدَّثُه عن (الشهيد أبو طارق) وعن الآخرين من (الرفاق) الذين تفرقوا بين نزيل في القبر، أو أسير في السجن، أو تائه في الغربة، أو منكفئ على ركام هزيمته يجترع سم أيامه الأخيرة!!

انعطفوا بأحاديثهم إلى مُعْسِرات الحياة المتناسلة، قفزوا هرباً منها إلى حكايات (نسيم الحب!) الذي عصف بشبابهم ولم ينسوها حتى وهم في أوج محنتهم تلك الساعة!

من فرط يباب حاضره انفلت (أبو فهد) يقص عليه بعض صفحات سجل أيامه الماضية:

في أول زيارة للعوائل إلى السجناء بسجن (نقرة السلمان) وأنا متخبط باليأس أسَرَتني (عيون عسلية) لفتاة بين جَمْع الزوار...كانت تقف في الطابور تحت الشمس إلى جوار أمي وأختي الصغيرة (أمل)...رغم شوقي لأمي ولسماع أخبارهم بعد انقطاع مورد العيش عنهم نتيجة سجني ،ألاّ أن عيوني ظلت شاردة تبحث عن (ذات العيون العسلية) بين حشد العوائل والسجناء وسط الباحة الترابية الواسعة التي تتوسط زنزانات السجن...دون أن أفلح في رؤيتها...حتى بعد صراخ السجّانين بالعوائل وتفريقهم وإخراجهم عنوة وتهديدهم بـ(منع الزيارات في المستقبل إن هُم لم يخرجوا بانتهاء وقت الزيارة)!

كنت أنتظر أوقات الزيارات بشوق بقدر شوقي لأمي...ولـ (ذات العيون العسلية) ...مضت الأشهر وأنا أنسج أحلاماً في روحي...صوراً أتخيلها رغم وحشة السجن هائماً مع (ذات العيون العسلية)!

في كل يومٍ أجول في قاعة السجن أو عند إخراج السجناء من القاعات إلى الساحة الترابية المشمسة ضحى كل يوم، أتأمل وجوه السجناء...أتفحصها مرات ومرات...لم أجد بينهم شيباً أو شباباً من هو يمتلك (ذات العيون العسلية)، التي عند تلك الفتاة!

ولم أطق صبراً بعد أن مضت أكثر من سنة على ذلك اليوم...فجلست أُفضفض خِزانة أسراري لـ(أبي طارق)، ابتسم لي ببهجة الأب لابنه ووعدني:

إنه سيكشف لي سرها مثلما منحته أنا ثقتي واطمأننت له وكشفت له أسراري!

تمضي الأيام والأشهر...تدخل مجموعات جديدة إلى السجن كلما عصفت المظاهرات والإضرابات بالسلطة الحاكمة...يخرج منهم أفراد بعد انتهاء مدة حبسهم أو عند انتهاء أعمارهم.

ذات صباح كان أحد السجناء يستعد للخروج من قاعة السجناء الكبيرة المقابلة بعد إخلاء سبيله بسبب قرب انتهاء محكوميته وتدهور حالته الصحية...كانت أُسرته تنتظر عند بوابة السجن الرئيسية...لمحت الفتاة (ذات العيون العسلية) بينهم...ركضت كالمجنون نحو (أبي طارق)، وهمست له بأذنه، جاء مسرعاً معي باتجاه بوابة قاعة السجن...لكن السجين وعائلته كانا قد غادرا مدى الرؤية!

عُدْتُ إلى مكاني خائباً لكن (أبو طارق) شَدَّ على معصمي:

مازلت عند عهدي.. سنصل إليها!

في المساء اقترب (السَجّان الأمرد) ذو الضحكة المجَلجِلة من بوابة الزنزانة المشبكة بقضبان حديدية غليظة كعادته يستجدي سيجارة من السجناء...وقف (أبو طارق) إزاءه وأخرج علبة سجائر إفرنجية لم تُفتَح بعد، وقدمها له من بعيد...هَمَّ السَجّان لأخذها...قال له (أبو طارق):

إن للعلبة ثمن!

سأله السَجّان باستعطاف:

ماذا تريد؟!

أعطني إياها.. وسأعطيك سروال مدير السجن إن شئت!!!

طلب منه (أبو طارق) الاقتراب من قضبان البوابة حتى دخلت أذنه فضاء قاعة السجناء... وَشْوَشَ في مسامعه فجَحَضَت عيون السَجّان استغراباً...ثم انفرجت أساريره منتشياً...متسائلاً باستغراب:

هل حقاً إنَّكَ لا تعرفه؟!

أم أن لك مآرب أخرى؟!

وضع (أبو طارق) علبة السجائر على حافة اللوح الحديدي وقال له:

قُلْ...تأخذ!

أفصح له عن اسم السجين المريض...

امتقع وجه (أبو طارق) بشحوب وكأن الدم استنزف من بشرته...جلس على الأرض...سقطت علبة السجائر منه إلى خارج بوابة الزنزانة، فالتقطها السَجّان وأخفاها تحت سرواله، وزاغ عن عيون الرقباء!

في الليل استعاد (أبو طارق) عافيته، وأفصح لي عن أن الرجل:

سجين قديم من خُلَّصِ أصدقاء (القادة!) ...

كان معهم في زنزانتهم ليلة إعدامهم...لكنه حكم بالمؤبد لاعتلال صحته!

هو ممن لا يردون لي طلباً!

لم يَزُرْ النوم عينيّ تلك الليلَّة ولا ليالٍ أخرى أعقبتها...حَدَّثْتُ أمي في أول زيارة لها إلى السجن بشغفي بعيون فتاة لا أعرف اسمها...احتضنتني ووعدتني بأنها تَدَّخِرُ بعض المال لهذا اليوم.

ذات زيارة لعوائل السجناء إلى السجن كان بينهم زائر مَر َّعلى السجناء في الباحة...يهلِّلون ويبتهجون برؤيته...عندما أقبل علينا احتضنه (أبو طارق) بحرارة لشفائه من مرضه، غمز لي من وراء ظهره مشيراً إلى أنه مُبتغاهُ!

في ذلك اليوم إرتكن (الزائرُ) و(أبو طارق) إلى زاوية بالساحة الترابية التي تغص بالسجناء وذويهم... دارت دردشة بينهما كنت أتمنى لو استطالت أُذنيَّ لتقبع عند أفواههما...لكني كنت أرصد حركة شفاههما واستنطقها بمخيلتي لقياس الرضا من غيره في ملامح (الزائر)...لكنهما أعطيا ظهريهما للساحة ومن فيها...طال الكلام بينهما حتى بددت صافرة حارس السجن إلفه السجناء مع عوائلهم!

كنت أتابع (الزائر) وهو يجر خطاه المتعبة إلى جوار شاب مفتول العضل كان يتكئ عليه عندما عبر بوابة السجن الحديدية الخارجية... التفت فجأة ونظر من بعيد حيث أقف مُسَمَّراً في الأرض وعيناي مشدودتان إلى حيث التفت (الزائر)...كدت أطير من الفرح عندما رفع يده محييّاً إيّاي!

تَفَجَرَ الحزن في روح (أبي فهد) فجأة ونضح شحوباً في ملامحه...وأطرق للأرض صامتاً شارد الذهن دقائق طويلة منقطع عن صخب الشارع وصتيت الزبائن في المقهى قبل أن يستكمل حكايته:

كانت حياتي عسلية مع (ذات العيون العسلية) في سنواتها الأولى...لكن حياتنا إدلهمت ظُلمة مع تفاقم مطاردات السلطة لي، وتقطع سبل العيش، إثر اختفاءاتنا المتكررة في مجتمعات ومدن وبيوت مختلفة مع ابنتنا، التي أسميناها (انجيلا)، الطفلة الجميلة التي طالما تأملت وجهها المُشرق في لحظات يأسي فتشيع في روحي الأمل وفي عقلي التوقد!

صارت تكبر ويكبر معها حلمي بأن يكون لي يوماً أحفاداً كما كان لجدي رهط من الأحفاد يحيطون به في مساءاته عند شرفة الشناشيل في بيتنا القديم.

في كل مرحلة كانت (انجيلا) تتعلم لغة القوم الذي نختفي بينهم، واتقنت اداء طقوس ديانات اصدقائها الذين تشاركهم أعيادهم واحتفالاتهم في طفولتها وصباها ومراهقتها.

تَلْفُتُ أنظار المعجبين لفتنتها وذكائها ورشاقة جسدها الذي تأنث ونضجت ملامحه قبل أوانها!

كانت تجدد في نفسي الأمل وشغف الشباب وتَرَفُعِهِمْ على التشبث بالمنافع المادية الرخيصة... سرى فيَّ كبريائها المتغطرس، عدم اكتراثها بالعواقب...أمسى مستقبلها يشغل بالي مع اقتراب الأشهر الأخيرة من العام الدراسي في الصف السادس الثانوي...حتى أنني فَكَّرْتُ دون أن أكشف نواياي لزوجتي بـ:

أن نُهَرِّبُها إلى خارج البلاد كي لا ينتقموا مني بها!

لكني خشيت من أن تعيد عليَّ زوجتي سهام اللّوم لـ(تدميري حياتها بسبب التورط بالسياسة)!

ازداد قلقي عليها في الأيام الأخيرة، بعد تواتر الأخبار عن اختطاف فتيات من أبواب مدارسهن، ومنهن صديقتها (مروة) ابنة مذيعة تلفزيونية معروفة...سَرَتْ معلومات متواترة عن وقائع تحدث في مناطق متعددة من العاصمة...تقول:

إن عصابات من حراس (ابن الرئيس) هي التي تختطف الفتيات الجميلات لاغتصابهن!

لكن فاجعة الحداد(أحنف) بابنته التي أُلقيت جثتها مُقَطَّعة في كيس بلاستيكي قبل الفجر عند باب بيته، أشعلت الرعب في نفوسنا وفي قلوب عوائل جميع مناوئي السلطة، وحتى عوائل خَدَمِها، وكذلك عوائل الناءين عن منافعها ومساوئها...

صرت أُرافقها إلى المدرسة وأنتظرها على الرصيف المقابل حتى نهاية الدروس لأعود بها إلى البيت!

لم أقتنع برأي زوجتي:

لنزوجها من ابن خالتها في الريف بعيداً عن أعين السلطة!

كنت مطمئناً لاستكمال أوراق سفرها (المُزَوَّرة) وإخراجها وأمها عبر الحدود الجبلية إلى خارج البلاد لإكمال دراستها!

لم تسعفني صحتي لمرافقتهما ذلك اليوم بعد أن استعصى مرضي على الأطباء في المستشفيات الحكومية التي أُفرِغَت من خيرة الأطباء، وعجزت عن توفير الدواء بسبب الحصار (الدولي!) و(الحكومي!) ...

كُنت وامها قبل ذلك نتناوب على مرافقتها إلى المدرسة خلال أيام الامتحان النهائي.

في تلك الليلة التي سبقت اليوم الأخير من الامتحان النهائي تدهورت حالتي الصحية ونُقِلْتُ ليلا إلى المستشفى...

دخلت في غيبوبة لأسبوعين...

أفقت بعدها...

لم أجد زوجتي إلى جانبي... أبلغتني الممرضة:

غادرت زوجتك المستشفى مفزوعة منذ عشرة أيام...

تبحث عن ابنتكم التي اختطفت مع زميلتها!

ومنذ ذلك اليوم وأنا مُشرَداً في الشوارع أبحثُ عنْهُنَّ!

 

 

 

 

رواية (ذاكرة التراب)

(الفصل الثالث)

(ثريا) مضيئةٌ في ليلةٍ ظلماء!

محمود حمد

رغم هجير الظهيرة في العراء المُقفر عند الركن البعيد لجدار معسكر القوات البريطانية غربي نهر دجلة، كان الأطفال والصبيان الحُفاة يتدافعون للحصول على فُتاتْ الموائد التي يلقيها الطبّاخون الهنود إلى مكب النفايات هناك بعد كل وجبة طعام لجنود الاحتلال!

تتعالى أصواتهم بهجة، يتسابقون لجمع ما تصل إليه أيديهم لملئ قدورهم العتيقة التي استبد بها السخام والصدأ...متجاهلين الشتائم التي يطلقها عليهم العسكري ذو العنق الطويل الأحمر كعنق الديك الرومي... ذلك الجندي الذي لم يُستَبدَلُ منذ سنوات، كغيره من العساكر الذين يُستَبدلون في موقع المراقبة المطل على قطيع الأكواخ البائسة، الذي تَوَرَّمَ في (منطقة الشبانه) إلى جوار المعسكر عقب احتلال المدينة وإنشاء المعسكر في الثاني من حزيران 1915!

لم تمض سوى سنوات قليلة لم يتذكر مداها...تلك التي ابتنى أبيه لهم فيها كوخاً من القصب والبردي بجوار كوخ عمته (نوفه الجنديل) في أطراف (منطقة الشبانة) في ذلك (السَلَف) المبتلى بالوحول والعويل كل ليلة لفقدان عزيز يُختَطفُ عمرَه مرضاً أو جوعاً، بعد ترحيلهم إثر حملة الحكومة لإزالة أكواخ (خرابة سعدة) من جنوب المدينة!

خرج أبيه قبل الفجر ككل يوم بحثاً عن المكان المحكوم بالصدفة...عندما جاءت (الشرطة العسكرية البريطانية) برفقة ضابط مركز شرطة المدينة (عزرا وردة) مُعلناً بلهجة عربية مفككة عبر مكبرات الصوت:

انتهاء مهلة إزالة مئات الأكواخ القريبة من المعسكر!

بعد شهرٍ من اختفاء عسكري بريطاني إثر خروجه من باب المعسكر، وانقطاع أخباره، رغم حملات التفتيش التي لم تستثن حتى منازل خدم المُحتلين...دون أن يغفل (عزرا وردة) تكرار وعيده واختتامه بالتهديد:

سنجرف الأكواخ...صباح بعد غد الجمعة!

جمعوا أسمالهم ووضعوها في عربة يجرها حمار...كانت تنقل العاجزين من الرجال والأطفال والنساء المهزومين، ومعهم محتويات الأكواخ بعد سريان شائعات تقول:

سيحرق الإنجليز الأكواخ بمن فيها عند منتصف الليل!

تشردت العوائل البائسة في الشوارع وفي خرائب المدينة، وداخل المباني المهجورة، وبين أجداث المقبرة... وضعوا صرائرهم إلى جوار نخلة على ضفاف دجلة يترقبون ما يدور في ذهن أبيهم الذي يتحدث همساً منذ أكثر من ساعة مع جارهم (زاير رمضان) بعد عودته من المدينة باحثاً عن موطئ عيش لهم لا تطردهم الحكومة منه!

رافق أباه في بحثه عن جارهم (فجر عبيد) الذي تعرفوا عليه منذ كان من بين (النيسانيين!) الذين ذهبوا معهم في شهر نيسان قبل سنوات للحصاد في حقول الحنطة بـ(قضاء شيخ سعد)!

حال التقائهم به، أرشدهم (فجر عبيد) إلى القلعة الطينية التي آوى إليها مع أسرته وأقام له فيها كوخاً... شاكراً (الحاجة خيرية) صاحبة القلعة ومالكة البساتين المحيطة بها...

الذي وعد أبيه بالحصول على فرصة له كـ(ناطور) في قصر قيد الإنشاء قريبا من القلعة!

لم يشأ (فجر عبيد) المرور بهم أمام القصر الفخم الذي تغطيه أشجار عالية ونخيل باسق، فقطعوا الشارع مباشرة إلى القصر المجاور (قيد الانشاء) الذي يُسمع من داخله صدى مطارق النَجّارين...

وقفوا إلى جوار سيارة جيب زيتونية قديمة توقفت للتو عند الباب...نزل منها رجل سمين أعرج اصفرت شارباه من كثرة دخان السجائر التي لم تفارق شفتيه...يقال له (الجلبي)...كان الرجل يتطلع إلى قصره وهو ينفث دخان سيجارته الغليظة نحو السماء... ما أن رآهم حتى أشار بيده بالموافقة قبل أن يتحدثوا معه، وكأنه أمر متفق عليه بينه وبين (فجر عبيد).

جلسوا على رصيف القصر الأمامي إلى جوار السياج الفاصل بين القصرين...أشار (فجر عبيد) بصمت إلى القصر الفخم العتيق بعيون زائغة من شدة الخوف...متلفتاً يميناً شمالاً...مُحَذراً:

لا تقتربوا من (قصر الباشا)!

أطلق (فجر عبيد) زفرة من قرارة روحه...كأنه يحدث نفسه بصوت مسموع:

لم يرتكب إثماً أو جريمة...أطلق عليه الرصاص بدم بارد وطلب من سائقه (الأعجمي) أن يشحط الجثة إلى خارج القصر، ويرميها على الرصيف كي لا تلوث حديقته!

لم يكن المرحوم (البُستاني موسى المعَرْيَّن) يعرف أن تحت قدميه نبتة صغيرة تلقاها (الباشا) هدية من (متصرف اللواء) ...ذهب (موسى) ضحية سحقه تلك النبتة بقدمه دون أن يدري!

ترك خلفه أربعة أطفال صغار توفي أحدهم من شدة البرد بعد مقتل أبيه بشهرين لأن (الباشا) طردهم من الكوخ الذي كان يأويهم في أطراف بساتين (الباشا)!

أشار (فجر عبيد) بعينيه إلى شجرة داخل (قصر الباشا) تعلو أفانينها السياج:

هذه النبتة التي قُتِلَ (موسى) بسببها...هو مات وهي باقية!

في اليوم التالي أقاموا لهم (كوخاً) من القصب والبردي في قلعة الحاجة (خيرية)...

عندما اشتغل أبيهم كسائق في بلدية المدينة...طلب منه أن يكون بمحله في النهار (ناطوراً) في قصر (الجلبي) بعد أن يعود من المدرسة...صار يأخذ دفاتره وكتبه ويجلس في حديقة القصر...يُبدد وحشته بمراقبته الطيور المتنوعة الألوان والأحجام والأصناف، التي أقام لها (الجلبي) قفصاً كبيراً في زاوية الحديقة الواسعة!

بعد أن توقف العمل في القصر لعجز صاحبه عن الإيفاء بديونه للمقاولين...صار القصر ملعباً لـ “عروة" ولإخوته الصغار...الذين غالبا ما كانوا يلحقون به...يتعالى صدى أصواتهم في حجرات القصر الكثيرة الفارغة المختلطة بزقزقة العصافير بين الأشجار والنخيل...

ذات يوم انتبه إلى نافذة تشرف عليهم من أعلى (قصر الباشا) تُفتَح بحذر، تتحرك الستارة من خلفها...يسمعون من خلفها أصوات كركرات طفولية مكبوتة، لا تغلق النافذة إلاّ عندما يأتي أبيهم إليهم ويعودون إلى (كوخهم) في القلعة!

ذات ظهيرة وقفت سيارة أجرة في باب (قصر الباشا)، نزلت منها امرأة عجوز تبدوا عليها ملامح الخدم، معها حقيبة ثقيلة وصرائر من القماش...هَبَّ إليها "عروة" دون دعوة، وحمل لها أثقالها...دخل لأول مرة إلى فناء (قصر الباشا)، فطلبت منه زاجرة أن يضع أغراضها ويخرج بسرعة قبل أن يراه (الباشا)، ظهرت صبية بعمره من باب القصر الداخلية محتفية بالمرأة العجوز...تعالى صوت فتيات مبتهجات في الداخل، أشارت إليه العجوز بيدها طاردة إياه كأنها تَنُشُّ ذباباً يلحق بها!

عاد إلى مجلسه إزاء قفص الطيور...يقرأ بشغف لامتحان التاريخ عن (زنوبيا ملكة تدمر) التي قادت مع زوجها (أُذينة) المُكَنّى (رئيس المشرق) عصياناً على الإمبراطورية الرومانية...تَمَكَّنا خلاله من السيطرة على معظم سوريا...خلفت زوجها في الحكم بعد وفاته، لأن ابنها (هبة الله بن أذينة) لا يزال حينذاك طفلاً رضيعاً، فتسلمت مقاليد الحكم وقادت جيوش (مملكة تدمر) في غزوها لمصر وآسيا الصغرى لفترة من الزمن قبل أن يتمكن (الإمبراطور أورليان) من هزمها وأسرها ونقلها إلى روما حيث سرعان ما توفيت لأسباب غامضة!

شعر بانقباض في روحه، كاد يبكي لمصيرها!

نسي الامتحان وراح يتخيل (ملكته زنوبيا!) ...يرسمها على هوامش الكتاب بمشاهد مختلفة...

في أوج غيبته مع (الملكة زنوبيا) ...نادت عليه أخته الصغيرة...تسأله إن كان معه كتاب الرياضيات لأن (ثريا ابنة الباشا) طلبته منها من خلف الجدار...لم يكن الكتاب معه لكنه طلب منها الانتظار... ركض كالنمر إلى القلعة التي تقع خلف البستان المجاور للقصر وعاد بالكتاب من كوخهم مسرعاً...في اليوم التالي تلقى عقوبة وضرباً مبرحاً من مدرس الرياضيات لأنه لم يكن معه الكتاب!

تسللت (الصَبِيَّةُ ثريا) من باب قصرهم إلى معتكفه أمام قفص الطيور، شكرته على الكتاب الذي احتضنت أوراقه وردة حمراء نضرة...ظلت واقفة لثواني، دعاها للجلوس على بساط الحديقة الأخضر... يحَّدِّثُها عن الطيور وعوالمها...انتبه إليها وهي تتصفح كتاب التاريخ وتتأمل رسومه على هوامشه!

صارت تأتيه كل يوم عند قيلولة أهلها وغياب أبيها (الباشا) في رحلاته الكثيرة...كانت (ثريا) ذكية في الرياضيات ومصغية حالمة، يحكي لها قصص التاريخ كما يرويها الكتاب المدرسي، ويضيف منه لأحداث التاريخ ما ليس فيه...فيما كانت تَسِّرَّه همساً:

إنها لم تكن تستمتع بكتاب التاريخ من قبل كما هي اليوم!

سمع صراخاً أنثوياً في (قصر الباشا) لم تكترث له (ثريا) لكنه قفز من مكانه بحركة لا إرادية...أمسكت يده وأقعدته قائلة بصوت مخنوق بعبرة:

هذه أختي الكبيرة (نورية)...وِلِدَت مقعدة ومُعاقة عقلياً...تدهورت حالتها بعد وفاة أمي قبل خمس سنوات...منذ ذلك الحين...كلما استيقظت من النوم تتذكر أمي فتصرخ وتنادي عليها!

عقب وفاة أمي تولت رعايتها أختي الكبرى (كريمة) المعلمة في (مدرسة الملك فيصل الثاني النموذجية للبنات) ...تساعدها في ذلك (ستارة) المربية التي حَمَلْتَّ أنْتَّ أغراضَها لها!

عندما ولِدنا وجدنا(ستارة) في القصر واحدة مِنّا...كانت المرحومة أمي تقول إنها جاءت بها من إيران قبل أكثر من عشرين سنة عندما كانت أمي تعالج هناك من مرضها...ثم جاءت بأخيها (غلوم) سائقاً لنا!

تلفتت نحو قصرهم خشية من مجهول، وقالت بصوت هادل:

سيأتي أخي الكبير (غيث) وزوجته وأولادهما يوم الجمعة من بغداد، يمكثون معنا طيلة العطلة الصيفية...ألاّ أنه سيعود إلى عمله طياراً بالخطوط الجوية بعد أسبوع لانتهاء إجازته...أنا فرحة لمجيئهم...عندما يأتون تصير أيامنا أجمل...تُضاءُ جميع مصابيح القصر، نلعب دون أن يزجرنا أحد...نمرح في الحديقة ونلتقي بصديقاتنا!

تزايد عدد الأطفال والصبيان والصبايا العابرين من (قصر الباشا) إلى حدائق قصر الطيور...يمضون معظم الوقت يلعبون مع الطيور ويعبثون بمواد البناء المتناثرة داخل وخارج المبنى...صار مُلزماً أن يدخل معهم في حجرات القصر خشية عليهم ومنهم...بعد أن انضمت إليهم (سعاد) ابنة صاحب (قصر الطيور) ذات العشر سنوات!

ذات نهار استدرجوه إلى اللعب معهم بعد أن كان متردداً خوفاً من غضب (أمه) عليه...التي توصيه كل يوم أن يتجنب الاقتراب من (قصر الباشا) ومن فيه!

ذات يوم شاركهم لعبة الاختباء...

وجد نفسه مع (ثريا) خلف باب مغلق...احتضنها واستسلمت بين يديه...غمره شعور لم يألفه من قبل...أحس كأن روحه تغتسل من الحرمان، قلبه يتنقى من الخوف، وعقله وجسده يرتعش حَدَّ الغيبوبة... فأدمنا على (لعبة الاختباء!) طيلة العطلة الصيفية!

لكن...

عندما سافرت عائلة أخيها...انقطعت (لعبة الاختباء)!

بعد انتهاء الامتحانات للمرحلة المتوسطة... كان يتابع خفق أجنحة الطيور الملونة في فضاء القفص الذي تُكَلْكِلُ عليه شجرة التين اليانعة الفخمة...امتلأت أنفاسه بعطر جسدها...وهي تقف خلفه معقودة الذراعين بحركة مثيرة...أمضيا ساعات يتحدثان عن أحلامهما المراهقة حتى المساء دون حراك...حَذَّرَتهُ من عيون سائقهم (غلوم) المريبة، ووشاياته بأقرب الناس إليه...همست في أذنه وهي تبتسم ابتسامة خجولة:

غداً الجمعة والجميع يتأخرون في اليقظة!

جاء مبكراً إلى القصر، وجد النافذة في الطابق العلوي لـ(قصر الباشا) مفتوحة، والستارة تتأرجح بحركة جسد خلفها...ترك باب الحديقة موارباً وجلس في الركن الذي اعتادا السمر فيه، دخلت مُسرعة وصعدا إلى مخبئهما الذي افترشا فيه بابا خشبياً لم يُرَكَّبْ في مكانه بعد... لم يدركا الوقت الذي مضى حتى الغروب... إذا بصخب يملأ حجرات القصر الفارغة، صوت أجش ينادي عليها، وقع أقدام ثقيلة تصعد السلم الجرانيتي، فتيبس الدم في عروقهما...قالت له وقد انقَضَّت قبضة الخوف على عنقها:

هذا صوت أبي...وخلفه السائق الكلب (غلوم)!

تمتمت بأنفاس فزع متقطعة:

اهرب إلى السطح...سيقتلك!

قفز كالهر إلى السطح...لمح (الباشا) يهرول عبر نافذة لم يُرَكَّبْ زجاجها بعد، وبيده مسدساً... أحس بأن الأقدام المتسارعة تصعد باتجاه السطح وصوت السائق (غلوم) يعلو خلفه:

سأُمسك به لك يا (باشا)!

تفحص "عروة" منافذ الهروب الممكنة من السطح، لم يجد سوى الأنابيب الحديدية لتصريف مياه الأمطار...انزلق بإحداها إلى الحديقة الخلفية ومنها إلى البستان الممتد إلى أطراف المدينة من جهة، وإلى القلعة الطينية حيث يعيش أهله من جهة أخرى.

لكنه ظل مُكَبَّلاً بالحاجة إلى الاطمئنان عليها...تسلل إلى الحديقة العامة المقابلة لـ(قصر الباشا)، يرصد المشهد من كوة في سياج الحديقة...كانت (ثريا) تسير مرتجفة وخلفها (الباشا) مرتعداً، يتبعهم السائق (غلوم)...زعق به (الباشا) وزجره بحركة من يده...لاذ إثرها (غلوم) بالفرار إلى خلف مرآب السيارات داخل القصر!

سمع "عروة" إطلاقة نارية داخل القصر مزقت سكون المكان، انهار على الأرض...ثم استجمع قواه وهرب بعيداً إلى مكان مجهول لـ(الباشا)!

أمضى النهار تحت فيء الجسر الحديدي المحني الظهر، كأم رؤوم فوق نهر دجلة...عندما أسدل الليل ظلمته سار وسط البستان المؤدي إلى القلعة، ونفذ من فتحة في جدارها الطيني الخلفي السميك إلى الباحة...بانت له صريفة أهله مهجورة، وسكان الأكواخ التي تحيط بكوخهم متجمعين حول الكوخ ومعهم الحاجة (خيرية) وقد خَيَّم الحزن على الجميع واكتست وجوههم بالحيرة...عاد إلى البستان وسار هائماً باتجاه أطراف المدينة!

ساقته خطواته لملاذٍ كانت (دوخة) تأخذهم إليه ليستريحوا به بعد عناء التشرد في الطرقات المقفرة، تحت فيء أشجار (مقبرة الإنجليز) التي شيدتها بريطانيا، على ضفاف نهر دجلة، بين أعوام 1914 و1920، واكتملت عام 1923، لتضم رفاة أكثر من 5000 جندي من (المملكة المتحدة) وجنسيات أخرى قتلهم ثوار العشائر!

وقف تحت ضوء المصباح أمام حائط المقبرة الذي دونوا عليه أسماء المدفونين فيها... سمع صوتاً ينادي عليه أن يخرج من المقبرة، عرف أنه صوت حارس المقبرة الذي يُسَلِّمُ عليه كل يوم في ذهابه وإيابه من المدرسة...لأنه والد صديقه (ألْماز المعَرْيَّن) ...

اقترب منه الرجل النحيف الفارع الطول ذو الوجه الأبلق المجدور، مُستغرباً من وجوده بالمقبرة في هذا الوقت المتأخر من الليل...اضطر أن يفصح له عن بعض حكايته...

اندهش لاهتمام حارس المقبرة (داوود) به وعطفه عليه...قائلاً له:

يجب أولاً أن يعرف أهلك مكان اختبائك ليطمئنوا عليك...

فهم يعتقدون أنه قد قتلك كما قتل أخي (موسى) الذي كان بستانياً عنده!

وطلب منه أن يجلس في غرفة حراسة المقبرة، وسيعود إليه بعد بعض الوقت...مضت ساعات طويلة عليه...يتأمل فيها الصلبان المصفوفة بعناية تحت أشجار النخيل...يتهجأ أسماء العسكريين الانجليز المدفونين في أرض غريبة عن مواطنهم!

بعد منتصف الليل عاد (داوود) بملامح خشبية لا تقرأُ فيها علامات الرضا من أخاديد الإحباط...لم يذكر له ما يمنحه الطمأنينة...لكنه أبلغه أنه ككل يوم "عادة" يغلق أبواب المقبرة عند العاشرة مساءً ويعود إلى بيته...

ودعاه للذهاب معه الى البيت!

في البيت أسَرَّ لصاحبه (ألْماز) بـ(حبه!) لها وخشيته من (الباشا) عليها، وقلقه على مصيرها، بعد أن سمع دويّ رصاصة من داخل القصر أثناء هروبه!

في صباح اليوم التالي اتخذ صديقه (ألْماز) من الشارع الذي يجثم فيه (قصر الباشا) ملعباً له، واستقر خلف فجوة جدار الحديقة العامة التي دَلَّهُ عليها "عروة"...عند الظهيرة لمح من بعيد أربع فتيات يصعدن السيارة ومعهن حقائب كبيرة...إحداهن تطابق الأوصاف التي سمعها منه...لكنها ليس كما قال له:

أجمل فتاة في العالم!!!

لأن الفتاة الانجليزية التي تشغل روح (ألْماز) ويلاحقها كل يوم أحد، عند زيارتها للمقبرة التي يحرسها أبيه وهي تجر خلفها كلبها الصغير لزيارة قبر جدها (أجمل منها!).

بعد سنتين انتقل إلى العاصمة للدراسة وانقطع عن المدينة مغموراً بالتساؤلات التي فجرتها في رأسه نوبات المحن وإضاءات الكتب التي انغمر بقراءتها، وحوارات الأصدقاء المشككين ببديهيات ومقدسات مجتمعهم، وانزلق لمنحدرات وسفوح العمل السياسي المعارض للسلطة، وهو ابن السادسة عشر من العمر!

تلاطمت عليه أمواج الأزمات العامة وتواترت نوبات الملاحقات الأمنية له، فتَجلَّت الأيام والسنوات له عن أصدقاء جدد استقروا في النفس، صاروا جزءاً من مكنون الذاكرة، وأفرزت أجواء الخوف له خصوم معروفين وآخرين مجهولين، كَبُرَت سني عمره حتى فاقت مداها الزمني، وشاخت عواطفه الفتية تحت ثقل (العَقْلَنَةِ) التي فرضتها عليه أزمنة التَفَكُّرِ في أقبية العمل السري المعارض...دون أن ينقطع حنينه وبكائياته على أهلة ومدينته وطفولته ومراهقته التي لم تترك (الملاحقات!) في ذاكرته منها سوى الحرمان وعتمة الأيام...إلاّ (ثريا) مضيئة...تخبو تارة وتسطع ابتسامتها بوجهه تارة أخرى كلما تَقَرَّبت إليه فتاة في حلك أزمنته!

بعد ما يقرب من ربع قرن أمضاها في الاختفاء والظهور المؤقت شبه العلني بعيداً عن أعين السلطة وهجير سنوات الغربة، عاد إلى مدينته يسأل عنها...وجد (قصر الباشا) مهجوراً...لكن صديق أبيه (الزاير رمضان) زارع الزهور في شارع دجلة حيث يقع القصر، مازال يواصل غرس الزهور وسط الشارع رغم انحناءة ظهره وبطءِ حركته...الذي أخبره:

غادروا المدينة جميعهم وتفرقت بهم السبل...

منهم من ذهب إلى البصرة وغيرهم إلى بغداد، وآخرين هاجروا إلى خارج البلاد قبل عشرين سنة بعد حادث اغتصاب سائقهم (غلوم) لابنتهم الصغيرة (ثريا)!

شعر بشواظ نار تتأجج في روحه...

سأله عن مصير (غلوم)؟!

أخبره إنه مات قبل عشر سنوات في السجن بعد أن تجاوز السبعين سنة من العمر!

سافر إلى البصرة لزيارة شقيقه...مهموماً بحادث الاعتداء على صِباه، رغم أنه لم يعرف أي شيء عن حياتها، ومآلها، وأين تكون.

عند وصوله إلى المدينة التي عُرف أهلها بانشغالهم بشؤون المعرفة قدر انشغالهم بأسباب الرزق...أمضى يومه الأول يتجول في معالمها المستقرة في ذاكرته...وجوهاً، صوراً، أحداثاً، بحثاً عن:

أزمنة مبدعة هجرها صنّاعها، أماكن خصبة هُجِّرَ عنها بُناتُها، حكايات لم تبرح الذاكرة ارتحل أهلها إلى الغيب! 

في المساء عندما دخل (نادي الميناء) عسى أن يلتقي بمن تبقى من الأصدقاء...قَلَّب نظره في الفضاء الأخضر يُنَقِّبُ في غشاوة الضوء الخافت الذي يَلُفُّ المكان عن وجوه يعرفها...شخصت عيناه إلى الطاولة المستديرة التي يغمرها قَطَرِ الرطوبة...تحت النخلة التي تتوسط الحديقة، حَدَّق إلى الوجوهٌ الذابلة التي غزتها الشيخوخة قبل الأوان...وجد بينها بعض ماضيه...فتقدم نحوهم...

عند انضمامه إليهم طرقَت مسامعه ذات الأحاديث الملتبسة التي كان طرفاً فيها قبل سنوات طويلة وأمست مُخَبَّأة في ذاكرته...كانت الحفاوة صاخبة والقناني فارغة...والوجوه ملونةٌ...انهالوا عليه بذات السؤال الذي يصفعه به كل مَنْ يلقاه من أصدقاء الأمس الذين تناهى إلى مسامعهم خبر اعتقاله ومقتله...كان (مقداد) (مفوض الأمن السابق الذي صار صحفياً يسارياً!) أكثرهم إلحاحاً وأشدهم فضولاً في استنطاقه...يكرر عليه بشفاه رخوة من فرط الثمالة:

كيف أنت؟!!

كـكـيكـ...ف. أأانت؟!

ذلك السؤال الذي ينهال عليه...كأنه يُضمر اندهاشا غير محمود:

كيف ما زلت حيّاً؟!

كأن البعض يستكثر عليه بقاءه على قيد الحياة إلى تلك الساعة التي يلتقونه بها، يؤججون في نفسه مجامر اليأس والملل من حياته المُعَفَّرة بالإحباط، المُثقلة بالهزائم، المُكَبلة بالخيبات...يُذَكِرُهُ ذلك بقول (لبيد بن ربيعة العامري):

قُضِيَ الأُمورُ وَأُنجِزَ المَوعودُ

وَاللَهُ رَبّي ماجِدٌ مَحمودُ

وَلَقَد سَئِمتُ مِنَ الحَياةِ وَطولِها

وَسُؤالِ هَذا الناسِ كَيفَ لَبيدُ!

أُتْرِعَتْ الكؤوس من جديد...تَقلَّبَت الألسن من أخبار السياسة الصادمة إلى نصوص الثقافة المشاكسة، مروراً بالنواح على أطلال العُشق المُهَمَّشِ المندثر في حياتهم، حَدَّ انفلات أسماء من كانوا يهيمون بِهُنَّ عن ألسِنَتِهم...أو اللواتي يخشون التشبب بِهُنَّ ...ومن بين الحاضرين من ذَكَرَ اسم (ثريا) بفعل عمله معها!

عرف أنها تعمل في فرع بنك رئيسي...

تبددت الثمالة من رأسه وغادرهم متذرعاً بالصداع الذي فاجأه...ساحَ على امتداد ساحل شط العرب، مُستسلماً لذاكرة صِباه، جالساً متفرداً بنفسه على الشريعة المُقابلة لـ(قصر آغا جعفر) ذو الشناشيل الخشبية المزركشة بمهارة فنان مجهول.

مع بدء الدوام في صباح اليوم التالي كان أول الواصلين إلى البنك...دخل الصالة الفسيحة والأنيقة للمبنى الكونكريتية ذو الطابق الواحد...كانت الموظفات منشغلات وراء المكاتب المرصوفة بثلاثة خطوط متراتبة متوازية...امتلأت أنفاسه بعطر أنثوي مثيرٍ حالما دخل إلى الصالة رغم زحام المراجعين...صار يُنَقِّبُ بين الوجوه عن ضالته...يستحي أن يسأل عنها...مستعيراً حِيَّلَ المراهقة في فِكْرِهِ لافتعال سؤال ينتشله من حيرته!

انقبضت روحه فجأة عندما سأل نفسه:

ربما تكون متزوجة فيُحرِجُها؟!

أو تكون فَظَّةً غليظة القلب...فتَزجِرهُ أمام الملأ فتَحرِجُهُ؟!

كان في كل مرة عندما يقترب من حافة المنصة الزجاجية التي تفصل الموظفات عن المراجعين...ويأتيه الدور، يتخلى عن دوره لمن يأتي بعده...غَيَّرَ طابور الانتظار أكثر من مرة، كلما وجد أن الموظفة التي تجلس لتسيير معاملات الواقفين في الطابور لم تكن هي، لأنه لم يجد صورتها في الذاكرة موجودة بين الفتيات الأنيقات خلف الألواح الزجاجية...تَراجَع للمرة الرابعة...وأبصاره تمسح بحذر وجوه الفتيات البعيدة والقريبة.

تقدم إليه أحد حراس البنك وانفرد به، مستجوباً إياه بجفاف...لكنه ما أن شخصت عينا "عروة" إليه وحَدَّق به شزراً...حتى بهتت ملامح(الحارس) ظَنّاً منه أنه من أهل السلطة والسطوة...فقال له بأدب مُتذلل:

أنا في خدمتك...هل تبحث عن شخص ما؟!

أفصح له عن مراده بنبرة آمرة...أخبره (الحارس):

(ابنة الباشا) مجازة اليوم وستحضر صباح الغد! 

ذهب في صباح اليوم التالي بذريعة فتح حساب في البنك، لكن حارس البوابة كان شخصاً آخر...

حال دخوله البوابة احتدم الشوق إليها في روحه، تقدم إلى موظفة الاستعلامات وسألها عنها...أشارت إلى غرفة زجاجية مُحْكَمَة المداخل تتوسطها فتحة صغيرة أنيقة للتواصل مع الآخرين...عُلِّقَتْ عليها لوحة نحاسية (مدير الفرع).

تقدم بخطوات مترددة ووقف أمامها وهي تسند رأسها إلى كفيها...تَفَحَّصَ أصابعها، لم يجد ما يوحي أنها متزوجة...تأملها وهي تُبحِر في ملف يبدو أنه شائك...

دون أن ترفع رأسها سألته بنبرة آلية:

أوراقك وهويتك أخي رجاءً!

قدم لها الهوية المدنية القديمة وفيها صورته يومذاك!

حَملَقَتْ بالصورة للحظات ونظرت إليه مصدومة من شدة الدهشة والاستغراب...

كأن ميتاً يخرج إليها من قبره...

انطفأت يديها على الطاولة...وعلِقَت عيناها المتسائلتين بعينيه التائهتين!

 

 

 

 

 

 

حكاية وَنص:

من أينَ المَهْرَبُ

يـ.......ـا "صويحب"؟

محمود حمد

الى (مظفر النواب) في الذكرى السنوية لرحيل جسده عنا!

 

عندما غيض الماء منذ أزل التكوين الرسوبي وانشطر دجلة عند شرق مدينة العمارة وجد النهر أخدوداً من التاريخ السحيق للأنهر الظامئة، فأعاد له الحياة وجعل الذاكرة حاضراً ممتداً دون انقطاع في بث الروح بكل (شيء حي) ...

يتجمع عند انشراحه عن دجلة (المندائيون) في معبدهم الذي يرتشف من النهر ديمومته ويمنح النهر قدسيته!

نشأت على ضفتيه أساطير عنبر، وحكايات خصب، وأغاني عشق، وروايات موت، وخرافات حلم وتساؤلات عن سر الخلق، وحركات ثائرة سرية تشكك بالمُقَدَسِ في سر الخلق، وانتفاضات جوع تندلع بصمت ويخمدها التخلف والاستبداد!

قبل انطفاء نهر الكحلاء في (هور الطمر)، استوطنت على ضفتيه عوائل الفلاحين المسحوقة والتأمت أخرى حول القلعة التي أقامها شيخ القبيلة عام 1948لإدامة إعاشة الجيش المُستَقدم لتمكين (الشيخ) الذي صار اقطاعياً من الاستقواء على الفلاحين الفقراء من أبناء عمومته، واتسعت في تلك الآونة (أسلاف) أكواخ الفلاحين (اللائذين) بالإقطاعي من بطش السلطة، ليس بعيداً عن ناحية (الكحلاء) لتشكل وحدة سكانية عشوائية حملت اسم التحبيب لإحدى وصيفات شيخ القبيلة (مسيعيده)!

كان نهر الكحلاء ممراً للمراكب الخشبية التي تنقل الرز كل يوم دون انقطاع من تلك البقاع إلى دجلة ومنه إلى كل البلاد...

ذات يوم وقف (حوشية) الشيخ يقطعون النهر على بعد أكثر من كيلو متر عن القلعة لمنع المراكب من المرور، دون أن يفشي أحد السبب لذلك!

ولشدة الفوضى التي سببها ارتباك وصول شحنات العنبر للأسواق في طول البلاد وعرضها...تناقل الفلاحون وتجار الحبوب وموظفو "الحكومة المخصيَّة" في سرهم ما يخفيه منع مرور المراكب قبل الوصول إلى قلعة الشيخ...

كانت الذريعة (حسب الحكاية التي نقلها لي والدي):

غفوة (الشيخ الصغير) ابن الأربعين يوماً الذي وضعوا (كاروكه) على شاطئ نهر الكحلاء أمام القلعة، للانتعاش بالنسيم البارد...وخوفهم من أن تفززه أصوات محركات المراكب أو حفيفها بالماء...فصاروا يمنعون قوافل مراكب التجارة النهرية من المرور في النهر طيلة اليوم لحين يقظة (الشيخ الصغير) العفوية من غفوته!

في ذات الوقت الذي كان يُرَسِخُ فيه الشيخ سلطة (قلعته الاقطاعية) بمساندة استبداد الحكومة...كان نفر من الفلاحين الذين أضاء الوعي عقولهم، شغوفين بسر التساؤلات وواقعية الشعارات القادمة من خارج أسوار الجهل المحصن بسلطة الخوف وبراثن التخلف ودجل رجال الدين في بيئتهم!

فتشكلت بينهم أولى الخلايا السرية للتنظيمات الفلاحية اليسارية المطالبة بحق الفلاحين بالأرض التي يستصلحونها ويزرعونها ويحصدونها!

مع مضي السنوات اتسعت شرارة وعي الفلاحين بحقوقهم، وازدادت نوبات السلطة القمعية عليهم، وشهدت السجون أعداداً متزايدة من الفلاحين المتمردين على سلطة الاقطاع ودولتهم المحمية بالمحتلين الانجليز!

في نهاية ستينيات القرن الماضي كنت منهمكاً في خضم شؤون وشجون أهل (الكحلاء) عندما عدت إلى (مدينة العمارة) والتقيت صديقي (عطشان الكحلاوي) ...

شغلتنا أخبار تفرد السلطة المستبدة وتعسف عسسها بالفلاحين...فكانت تلك فرصة وسبباً لدراسة تاريخ وواقع وتطلعات الفلاحين في تلك الجغرافية المنسية من وطنننا...مثل غيرها...للمساهمة في تغييرها، لكن مسعانا قد أحبط قبل أن نوقد أول شمعه، وانتهى باعتقالي بوشاية من فلاح عهدنا إليه أن يكون (طارش) لنا إلى (أهل الكحلاء!)، واختفى (عطشان الكحلاوي) في (هور الطمر) مع أبناء عمومته إثر ذلك!  

فاجأتني زيارة صديقي القائد الفلاحي (عطشان الكحلاوي) بعد أربعين عاماً من انقطاع الأخبار بيننا، والذي جاء مرافقاً لابنه (فيصل) الذي مزقت جسده شظايا مفخخة وضعت تحت سيارة الاسعاف التي يقودها وسط (مدينة العمارة) عام 2007...

أزلنا غبار النسيان عن بعض ما لم نستكمل من أحاديث قبل أربعين عاماً...لكن (أبو فيصل) لم يكف عن التعبير عن حزنه وهو يتذكر حادث مقتل رفيقه القائد الفلاحي (صاحب الملا خصاف) على يد (أبو ريشه) الذي كمن له بين القصب وأرداه قتيلاً حال مرور (مشحوفه) أمامه نهاية عام 1959، ذلك الاغتيال الذي كان إشارة بدء الردة الاقطاعية على الفلاحين!

يُعَبِرُ (عطشان الكحلاوي) عن يأسه لما آلت إليه الأوضاع في المدينة التي جاء منها...ويردد متحسراً:

قليلون هم الذي يتصدون للطغيان أمثال (صاحب) في أيامنا هذه... بينما يتناسل أمثال (أبو ريشه) ويتكاثرون كالذباب بيننا!

عندما غادر (عطشان الكحلاوي) غرفة المستشفى أحسست بأني مُحاصَرٌ مثل أهلي بألوان الموت الممتد من الغدر بـ(صاحب) إلى الموت الكامن لكل أهل العراق في كل زاوية وكل لحظة...

صرت ابحث عن مهرب ينجيني وأهلي...لكني استفقت من نوبة الإحباط...فكتبت:

من أينَ المَهْرَبُ يـ.......ـا "صويحب"؟

آواني القصبُ الباردُ بينَ ضلوعه...

ألْقَمَني الجوعُ دموعه...

أفْحَمَني الصمتُ!

****

نَوبةُ موتٍ سوداءَ تُمَزِّقُ سِتْرَ "السِرِيِّةِ"... (1)

وقطيعٌ فولاذيٌ مُغْبِرْ يُطْبِقُ كَفَّيْهِ على أنفاسِ "الكحلاءِ"... (2)

من أين المهربُ يــــــــــا... "صويحب"؟!(3)

****

ماكُنْتُ لأمْضيَ بينَ الفلواتِ غريباً لَوْلا الأقدامُ العَرْيانةُ...

والصدرُ المُشْرَعُ للريحِ...

وقبورٌ دَفَنَتْ أهلي في كلِّ المُدُنِ الموبوءةِ بالجَّوْرِ!

عَوَزٌ قارِسٌ...

ونوايا يَقْطُنُها المَوْتُ...

ومواعظُ تَغْشِ الابصارَ...

ودبيبٌ يَنْفُثُ بَلَهاً في شريانِ "مَضايفنا"... (4)

وبلادي تَنْزُفُ خيراً للغرباءِ!

****

بِضْعَةُ صبيانٍ يَلْتَحِفونَ الفُقرَ بأطرافِ المُدنِ الملغومةِ...

نِباحُ شُقاةٍ بينَ الأنفاسِ يُلاحِقُنا...

كي لا نَخْرُجَ من خلفِ القصبِ اليابسِ للطرقاتِ الأسْفَلتيِّةِ!

قَدَمٌ جامحةٌ تَرْكِلُنا خَلْفَ جدارِ الليلِ الأزليِّ...

وعيونٌ زرقٌ تَرْمُقُنا مِن أطلالِ الوطنِ المنهوبِ...

حَفْنَةُ تَمْرٍ مُغْبِرْ في باحِ الحقلِ المُغْتَصًبِ الأهلِ...

تَنْخُرُها الديدانُ...

وبومُ المُحْتَّلِ!

****

رجالٌ...بؤسٌ...يَفْتَرشونَ القَمْراءَ بلا خبزٍ بَعْدَ غروبِ العُمْرِ!

صوتُ المذياعِ يُلاحِقُنا...أن نَحْسِبَ للقبرِ حسابَ الحَرْثِ لِحَقلِ العَنْبَرِ...

وأنا أخْفِقُ في أحصاءِ رفاقي المقبورينَ...

وأهلي المنفيينَ بِكُلِّ بِقاعِ الأرضِ!

فَهزائِمُ جُنْدُ المُحتَّلِ مَصائِبُ تَقْصِلُ رأسَ فَسائِلِنا...

تُقْحِمُنا في مَحْضورِ القَولِ...

وتُقْبِرُنا في لائحةِ المنبوذينَ بقاموسِ:

السُلطةِ...

والإرهابِ...

وجيشِ المُحْتَّلِ...

وكُتّابِ الأعمدةِ النفطيةِ!

****

طفلٌ في الستينِ يُكَفْكِفُ عن وجهِ مَدينَتِنا طوفانَ التَفْخيخِ بأجسادِ الرُضَّعِ...

وسَبايا يَصْرُخْنَ بهذا الليلِ الأبديِّ الأعمى...

غُمَّةُ بُغْضٍ تَنشِرُها الريحُ الصفراءُ الـ- خَنَقَتْ- "نوزادَ" قُبَيلَ صلاةِ الفَجْرِ...

وفناءٌ يَسري في أنفاسِ بلادي!

****

أمٌ ظامِئَةٌ للغائبِ تُحْصي قَتلاها المَنثورينَ بِلا أكفانٍ حَوْلَ النهرينِ...

تَجْعَلِهُمْ كُحْلاً...

وبَريقاً بينَ جُفونِ العينِ...

وفتاةٌ...طُهرٌ...تَرمقُ قُرصَ الشَمسِ بعينٍ يُفقِئُها الحزنُ!

شمسٌ تتداعى وَجَعاً...وهشيماً بينَ "جبالِ الكُوردِ" وشطآن "الفاوِ"!

****

جَدلٌ يَقْمَعُني في منعطفاتِ العُمْرِ الصاخبِ...

يَحجِبُني عن رأسي...

يَجْهِضُ أسراري...

يوغِلُني في حبةِ قَمْحٍ مَنْسيَّة...

عِنْدَ تُخومِ الأرضِ المَجْروفةِ بالدباباتِ "البنّاءَةِ"!

****

تَسَمَّرْتُ لِجذعِ النَخْلَةِ كيْ أستريحَ مِنَ الحُلُمِ...

انْطَوَيتُ في الحُلمِ لأسْتَعيرَ أقداماً مُضادةً للمُفَخخاتِ...

للرحلةِ في دروبِ العراقِ!

إنْسَفَيْتُ بالريحِ خِشْيَّةَ التَماهي في صليلِ الوعودِ المُجَنْزَرَةِ...

أرَّقَني الشوق إلى الحُلْمِ...

تَبَدَدَتْ النهاراتُ بِهِزَعِ الدَمِ الدافقِ!

****

تَنْتَهِكُ الأعاصيرُ "المُشِعَّةُ" السنابلَ في قرارةِ العراقِ...

تَفْزَعُ العصافيرُ من البَيْدَرِ المُفَخَخِ...

تَهرُبُ الفِتْنَةُ من أسارِ الأهازيجِ والمواعظِ ...الدُخانِ...

تَحْتَمي بجَريدِ النخلِ، وريحِ الشمالِ!

تَسري الكلماتُ الزُعافُ كالوباءِ في الروحِ...

تُبَعْثِرُ الأزمنةَ الغَضَّةَ في الذاكرةِ...

تَنفَخُ فيها شواظَ القصائدِ الحبيسةِ في الصدورِ...

تَعيثُ الرمادَ في شهيقِ الصباحاتِ الفَتِيَّةِ...

تُكَبِلُ الخطواتَ بالشوكِ الجارحِ...

تَغشو البَصيرةَ بالشكِّ...

واليقينَ بالاستخفاف!

****

في آخرِ الليلِ:

يُلَمْلِمُ السَلاطينُ عَمائِمَهُمْ...

والغُزاةُ سيوفَهُمْ...

والفُقراءُ بُطونَهُمْ...

والشُهداءُ قُبورَهُمْ...

واللصوصُ...غنائمَهُمْ...

والدجّالونَ لُحاهُمْ...

والمنافِقونَ فِخاخَهُمْ!

يَتَدَحرَجُ الغُزاةُ والمُلَثَّمونَ من قِمَّةِ الوَهْمِ إلى قاعِ الغَيظِ...

تَتَفَجَّرُ القبورُ بوجهِ السيوفِ...

والبطونُ بوجهِ اللصوصِ...

والحدائقُ بوجهِ المفخخاتِ...

والطفولةُ بوجهِ البوارجِ!

****

تَستَلقي الشوارعُ على ظهورها من فَرطِ الإعياءِ...

يستريحُ الناسُ في العراءِ بَعْدَ زوالِ (الوحوشِ)...

تَتَدفَقُ الموجةُ من عيونِ الصَخْرِ إلى السهول التَرْفَةِ دونَ حواجِزَ مُسلحةٍ!

يَحمِلُ الشعراءُ قصائدهمْ لغرسِ الزهورِ خَلفَ القطعانِ المهزومةِ!

يَسقطُ المطرُ مِدراراً!!

 

 (1) السِرِيَّة: منطقة في مدينة العمارة بجوار سراي الحكومة.. كنا فتياناً نلتقي حتى الفجر في أحد دورها الفقيرة قبل اربعين عاما، نمزج الحلم بالبؤس والحماس بالخوف نناقش " دور تحرير الرأسمال - في انقاذ محيسن الحمّال - من الأسمال".

واليوم يعاودها الموت مثل بقية أحياء المدن العراقية بعد أن نكّلت بها الحروب والمتحاربون عقوداً من الزمن.

وتفشَّت -أسمال محيسن- عبر تلك العقود حتى صارت زياً رسمياً لمعظم أهلنا.

(2) الكحلاء: أحد أنهار مدينة العمارة، يغذي ناحية الكحلاء التي اشتهر أهلها بالوعي الثوري المبكر، وزراعة الشلب، والضيافة، وصيد الاسماك، ومخاصمة الحكومات الفاسدة، والغناء المحمداوي الاصيل، وجمال فتياتها.

           

(3) صويحب: هو القائد الفلاحي- صاحب الملا خصاف - الذي اغتاله الإقطاع في ستينات القرن الماضي ومجده الفتيان وشاعرنا (مظفر النواب)، ودَثَرَتْهُ الحكومات، وخَلَدَهُ الفلاحون.

(4) مَضايفنا: " المَضايف" هي مجالِس الضيافَةِ في الرِيفِ العراقي، وملتقى التشاور والحوار بين ابناء القرية والعشيرة.

 

 

 

 

رواية (ذاكرة التراب)

(الفصل الثاني)

حكيم العقارب!

محمود حمد

تَفَرَّقَ (قطيع الأطفال والصبيان) وانقطعت (دوخة) عن المدرسة، ولا أخبار عن أختها (مُزْنَة)... كانت آخر مرة رآها فيها "عروة"، عندما تسللت من كوة في سور المقبرة نهار الجمعة لتوديع أخيها (عباس) عند قبره إثر إزاحة الحكومة لأكواخهم في (الخرابة)، وبدء رحلة تشرد جديدة للعوائل الفقيرة التي ينتهشها الإملاق!

فوجئ بها من بعيد مُنكبَّة على القبر تنوح...وقد قَطَعَتْ جديلتيها الغزيرتين اللتين كانتا تتراقصان على ظهرها كثعبانين فاحمين يتصارعان كلما هرولت أمامهم، ووضعتهما على القبر، واعتَصَبَت شعرها الأشعث بدشداشة أخيها (عباس) التي غرق بها!

عندما رآه (حارس المقبرة) يروم عبور سور المقبرة متوجهاً إليها، زجره ساخطاً وتوعده بإبلاغ أهله إن هو اقترب من المقبرة أو تردد على المستنقع.. قائلاً:

هذه المجنونة...تأتي عند الظهيرة كل يوم تبكي وتُحَدِّثُ أخيها في قبره عن همومها!

كان ينوي الإفصاح لها عن سر غرق اخيها عباس حيث كانا معاً يبحثان في المياه الضحلة عن بيض الطيور المهاجرة في اعشاشها العائمة على المسطح المائي، عندما باغتهم (فرهود) ملوحاً لهم بعصاه ومطارداً إياهم، لأنهم أتلفوا الدوشات (كمائن القصب) التي نصبها لصيد الطيور...حينها تمكن عروة من الهرب إلى اليابسة، لكن عباس من فرط خوفه سبح نحو المياه العميقة وغرق! 

بعد مغادرتها القبر، سار محدودباً بين القبور، فوجد على القبر طابوقة انتزعتها من سور المقبرة وكتبت عليها بخط يدها بلون سعف النخيل، بذات الألوان الشمعية التي أهداها لها (المعلم عيدي) كأفضل رسامة في المدرسة:

هنا يرقد (أخي عباس)!

عاد إلى كوخهم يعصف به الحزن والخوف والندم!

في صباح يوم الخميس من الأسبوع الأول للعام الدراسي الجديد...وبغياب (دوخة) واختها (مزنة)...حملوا "عروة" عاجزاً عن المشي على قدميه المتورمتين بفعل عصا الخيزران التي انهال بها عليه مدير المدرسة البطين (الأستاذ أبو أكرم)...بعدما تطايرت شظاياها على التلاميذ، وهو مُكَتَّف بذراعي (الفراش حلبوص) الرجل الأعور الجثيث ذو الرائحة النتنة، وسط ساحة المدرسة أثناء الاصطفاف الصباحي اليومي بعد مراسم رفع العلم... ألقوه ُعلى الأرض الأسمنتية وسط مناضد طلاب وطالبات الصف الذين أصيبوا بالذعر لحالته ( ليكون عِبْرَةً لغيره!)....كما قال لهم فراش المدرسة حين ألقاه بوحشية على الأرض!

تقدمت إليه (أروى) ابنة (الدكتور بهجت مدير الصحة المدرسية) التي تجلس إلى جواره...حاولت مساعدته على الوقوف لكنها لم تقوً على حمله...أدارت عينيها بوجوه الطالبات والطلاب على مرأى من (معلم الدين!) الذي أغلق الباب بجسده المترهل، فهَبَّ إليها الجميع ووضعوه على الكرسي إلى جوارها.

قَلَبَتْ (أروى)، صفحات دفاترها التي ملأها لها "عروة" بحقول زهور بلون قوس القزح، وزَيَّنَ لها هوامش كتبها بالطيور الملونة...حيث لا أحد في الصف يمتلك علبة ألوان سواها...لم يُفصح عن اسم الشخص الذي زوده بالألوان لرسم قصصه الخرافية على هوامش (كتاب الدين)، رغم قسوة التعذيب الذي تعرض له!

لما عرف المدير فيما بعد أن علبة الألوان تعود لابنة (الدكتور بهجت) ...ابتلع لسانه...خشية من جدها الذي تبرع بقطعة الأرض التي بنيت عليها المدرسة!

وقف (معلم الدين الاستاذ نجيب عبد الرحمن) عند الباب متوعداً إياه وغيره إن (أعادوها!) مرة أخرى...

لم يقوَّ على وضع قدميه الصغيرتين الحافيتين المُزْرَقَّتين على الأرض حتى نهاية الدرس الأخير...أخرجه (الفراش حلبوص) سحلاً من الفصل وألقاه خارج المدرسة...فيما ركض زملاؤه إلى أهله يخبرونهم بحالته!

نهضت (عَمَّتَهُ) العليلة (عوفه الجنديل) من داخل الكوخ مفزوعة وهي التي تولت تربيته منذ ولادته لمرض أُمه بفعل الولادة.

حملته بصعوبة على صدرها وهي متقطعة الأنفاس، حتى أوصلته إلى داخل الكوخ...وضعته بجانب أبيه الممدد منذ أكثر من عامين عاجزاً عن الحركة بسبب سقوطه إلى الأرض من مدخنة معمل الطابوق الطيني الذي يعمل فيه...ذلك الحادث الذي نُقِلَ على إثره إلى (المستشفى الأمريكي) في المدينة ليرقد ثمانية أشهر بلا حراك!

وبعد أن عجزوا من شفائه...طلبوا منهم:

خذوه إلى البيت ليستريح...

لقد قمنا بكل ما يمكن...

لم يبق سوى دعواتكم له بالشفاء!

ذهبت (عَمَّتَهُ) إلى المدرسة لمقابلة المدير، لكن (الفراش حلبوص) واجهها بالزعيق والشتائم ومنعها من الدخول إلى المدرسة...ظَلَّت واقفة أمام الباب والأطفال يدخلون طوابير إلى وسط الساحة... ترقبهم من وراء السياج المُشَبَّك...عندما وصل (معلم الرسم) متأخراً بعد غيبة طويلة قضاها في السجن لاشتراكه بالمظاهرات المستنكرة للعدوان الثلاثي على مصر...سلَّمَ عليها عند الباب وسألها:

ماهي أخبار ولدنا "عروة"؟!

اختنقت العبرة في صدرها دون أن تنطق...شحب وجه المعلم ودخل مسرعاً إلى إدارة المدرسة...لم يتأخر كثيراً حتى عاد إليها وطلب منها الدخول...وقفت عند باب مكتب المدير تتساءل عن:

(الجريمة!) التي ارتكبها هذا الطفل الذي يأتي إلى المدرسة خاوي الأمعاء كل يوم دون انقطاع؟!

بسط مدير المدرسة أمامها كتاباً مُلِئَت حافات أوراقه بالرسوم المتشابكة التي تمتد غالبا لتغطي مساحات من النصوص...صرخ بوجهها:

هل تعرفين أي كتاب هذا؟!

طأطأت رأسها للأرض خوفاً وحياءً...لكنها لمحت صفحات في الكتاب، كالتي تعرفها من (كتاب الله) الذي يتوسده أبيه منذ أن التصق بفراش المرض!

زمجر مرة أخرى مخاطباً إياها:

هذا كتاب الدين...هذا الغبي يعبث به ويشوهه بخرابيشه!

كان (معلم التاريخ) يجلس على كرسي قلق في نهاية المقاعد بمكتب المدير مبتسماً لما يجري أمامه، يتبادل نظرات السخرية مع (معلم الرسم) ...هامساً له:

كبار العلماء بدأوا حياتهم يخربشون على حافات الكتب الثمينة، بل والمقدسة!

أحَسَّتْ (عَمَّتَهُ) بأن ما كانت تخشاه على ابن أخيها قد تبدد عن روحها...فما يقولونه لا يعنيها...تمتمت مع نفسها بثقة:

أعرفه لا يفعل الغلط...لكنه مشاكس عنيد!

لم تمض إلاّ أيام حتى تدهورت حالة (عَمَّتِهِ) الصحية، ورقدت على حصير القصب العاري إلى جوار أبيه!

لم يكف عن مرافقة (أمُّهُ) حين تنقلها إلى المستشفى عند انتهاء الدواء، يخبرها الطبيب الإفرنجي بلكنته العربية الطفولية مبتسماً بوجهه، مُرَحباً به وكأنه يوجه الكلام إليه:

 (الحاجَةُ) ضعيفة...فيها فقر دم قوي...تحتاج تأكل طعام مغذي!

عادت (أمُّهُ) كعادتها عصر كل يوم من بيت (الحاج هاشم المعمار) الذي انخرطت بخدمتهم منذ أن انقطع (أبوه) عن العمل، تحمل معها قدراً صغيراً (فيه مرق) ورغيف خبز حنطة...لتضعه إلى جوار أبيه...يشير إليها بعينيه أن تعطيه للأطفال الثلاثة...لكنها ذلك اليوم وضعته إلى جوار (عَمَّتِهِ)...مدت (العَمَّةُ) يدها إلى قِدْرِ المَرْقَة بكسرة خبز، نادت عليهم ثلاثتهم، فأحاطوا بها كما اعتادوا، راحت تلقمهم الواحد تلو الآخر...حتى مسحت القدر بآخر كسرة خبز وأطعمتها لـ “عروة"!

التفتت الى أُمهِ قائلة:

رائحة الطعام شهية!

مع بدء موسم الأمطار...تتساقط البلوى عليهم مِدراراً، فـ (بواري القصب) المتهتكة التي تغطي سقف كوخ البردي) لم تمنع سيل المطر من إغراق الكوخ، وابتلال أسمالهم وأفرشتهم المُهترئة...لم يجدوا مرتفعاً في الكوخ أو خارجه يلجؤون إليه من بركة ماء المطر التي تغمر الكوخ وما حوله!

استمر المطر لأسابيع حتى امتلأت (دور الحكومة) غير المكتملة بجوار أكواخهم باللاجئين من سكنة أكواخ (الخرابة)، وهم معهم...لم يبق فِراشٌ أو لِباسٌ بمنأى عن ماء المطر...حتى دفاترهم وكتبهم المدرسية نقعت حَدَّ التَهَرُئِ بالماء!

حال سطوع الشمس وضعت أمُهُ كتبهم وأسمالهم على قوصرة جدار المبنى الحكومي بمواجهة أشعة الشمس...عندما جَفَّتْ...وجدوا دفاترهم وكتبهم ملتصقة أوراقها ببعضها!

كانوا يتحلقون حول الموقد الذي أشعلته (أُمُّهُ) تحت سقف مبنى الطابوق غير المكتمل الذي احتموا به...يحدق إلى (عَمَّتِهِ) التي ترتعش من شدة البرد ومن رسيس الحمى في عروق جسدها الواهن... شحب وجهها المُتَجَلِّد وبان الوشم على كفها الصفراء النحيفة أكثر زرقة...فيما كان (أبيه) خامداً تحت غطاء الصوف الذي جاء به إليه صديقه (صويحب) وزوجته...ذلك الرجل الضئيل البدن الخفيف الحركة المفعم بالنخوة...الذي كان يعمل مع أبيه في صناعة الطابوق الطيني بمعمل (الحاج غازي) أقارب (سِعْدة) التي أخذت (الخرابة) كنيتها من اسمها!

أمضى (صويحب) وزوجته ساعات طويلة حتى المغرب يحاول إسماع صوته لأبيه دون جدوى...تحدث مع (أُمهِ) عن (عَرّافٍ ذو كرامات!) يشفي العليل بطبابةٍ مُجربةٍ، فقرروا نقل أبيه في صباح اليوم التالي إلى (حكيم العقارب!) في الطرف الآخر من مجمع الأكواخ الذي أغرقته مياه الأمطار...ذلك (العارِفُ!) الذي يتداول سكان الأكواخ الغارقة الأخبار عن:

عِلْمهِ الغزير!

و(سِرِّ مكانته عند الله!) ...

لهذا:

غرقت كل الأكواخ والصرائف في (الخرابة) حول بيت (حكيم العقارب) دون أن تستقر قطرة ماء واحدة على سقف (كوخه) طيلة أيام المطر!

لم يتحرك "عروة" من فراشه للذهاب إلى المدرسة ذلك اليوم، مُدَّعياً المرض لكي يرافق أبيه إلى (حكيم العقارب)!

كان طابور الباحثين عن الشفاء طويلاً حول أكواخ القصب والبردي الثلاثة المتلاصقة التي يقطنها (حكيم العقارب) ...أنزلوا أبيه من على ظهر الحمار الذي استأجروه لنقله من كوخهم...دام الانتظار طوال ساعات النهار حتى الغروب.

حين أدخلوا (أبيه) إلى (مُعتَكف حكيم العقارب) تسلل معهم مختبأً خلف كدس الأفرشة المعطرة بالبخور... يراقبهم بخوف شديد يعصف بروحه ويرتعد له جسده... يتابع حالة المرضى الخارجين من جوف الكوخ محمولين على الأذرع دون حراك بعد (استطباب!) (حكيم العقارب) لهم!

طلب منهم (حكيم العقارب) أن يخلعوا ملابس (أبيه) كلها... راح يتطلع إلى جسد أبيه الذي لم يره من قبل، وقد نفرت العروق الداكنة من تحت جلده المتغضن الباهت اللون... قال (حكيم العقارب) لـ(صويحب):

اربطوا رجليه بالحبل وكَتِّفوه دون أن تتركوه يتحرك!

كان (أبيه) خامداً كالجثة بين أيديهم ، سوى حركة عليلة تحت أضلاعه المُكَشِّرة ، أحكَموا تقييده... عندها جاء (حكيم العقارب) بقنينة زجاجية مغلقة في داخلها عقرب فاحم يهاجم السطح الزجاجي بجنون داخل القنينة... فتح مغلاقها بعد أن حدد نقطة عند الورك، قلب القنينة على فخذ (أبيه) المتجلد الشاحب ، فنشبت العقرب ذنبتها بجسد (أبيه)... ارتعش من شدة الألم ، تشنجت أوصاله، صار يحرك رأسه ورقبته وعينيه كالمصروع ، سال اللعاب الأبيض من فمه... وغَمَرَ العرق جسده... ثم راح يتقيأ... تكاد ضربات قلبه تُسْمَعُ لمن حوله ، لكنه لم يطلق صوتاً أو آهة... فيما كان (حكيم العقارب) يتلو (سورة الفلق)... إلى نهايتها!

كي يكمل العقرب سُمَّهُ ويموتُ ويُضَمَّد على الورك الذي ازْرَقَّ وتَوَرَّمَ!

في تلك الآونة جاء (سيد جبار اليشَوِّر) صديق "عروة"، ابن (حكيم العقارب) ومعه (قطيع الاطفال والصبيان المُعدَمين) يبحثون عنه... تجمعوا خلف (كوخ النحيب!) ...مفزوعين يستمعون إلى حكايات (سيد جبار) عن مكرمات (أبيه)...قائلاً:

يتجمع (الجِنّ") الذي يخرجه أبي من أجساد المعلولين تحت سقف (الكوخ) على هيئة دخان أزرق، وقبل صلاة الفجر عندما يختم أبي تلاوة سورة البقرة يخرجون هاربين مذعورين إلى جحورهم فوق الغيم على هيئة جرذان بيضاء ذات رأسين ولها أجنحة كأجنحة الطير!

كان الأطفال مذهولين، خائفين من نزول الجرذان المُجَنَّحةِ من السماء لانتهاش وجوههم، إن هم لم يستعيذوا بالله من الشيطان حسبما حذرهم (سيد جبار) ...خرجوا متفرقين باتجاهات مختلفة دون أن يكلم أحدهم الآخر!

لم يترك أبيه... عندما حملوه إلى كوخ (صويحب) القريب من بيت (حكيم العقارب) ليعيدوه إليه قبل صلاة الفجر كي يُكملوا (التطبيب)!

ظلوا تلك الليلة ساهرين مترقبين أي حركة لـ(أبيه)، لكنه لم يَرِفُ له جفن أو تَدُبُّ الحركة بمفصل فيه... قبل طلوع الفجر أعادوه إلى (حكيم العقارب) ... الذي طلب منهم عشر دراهم معدنية... وضعها في موقده المتأجج حتى صارت تتلظى... بدأ يحملها بملقطه الفولاذي الطويل ويَصُفُّها الواحد تلو الآخر على طول ساق (أبيه)... يرفع ما يهفت منها، ليضع المتوهج بعده حتى السادس منها!

عندها صرخ أبيه كالغريق الذي ينتشل نفسه من الأعماق الخانقة، ثم هَمَدَ كالخرقة المبللة بين يدي (حكيم العقارب)!

بعدها أمضوا أشهراً يعالجون التقرحات التي خلفتها الدراهم المتأججة والعقرب السوداء... صار (أبوه) ينظر إليهم باستنجاد واستعطاف... يبادلهم الارتياح بنظراته دون أن يقوى على الكلام... شعروا بالفزع لقول جارتهم لأمهم:

هذه صحوة الموت!

راح (أبوه) يشير إليهم أن يُقَرِّبوا الكفن الذي تبرع به له صاحب معمل الطابوق... بعد أن سحبته عمتهم نحوها وتوسدته... دون أن تكف عن الدعاء:

أن يكون أجلها قبل أجل أخيها!

بدأت الزيارات المريبة تتزايد إلى كوخهم، كان الناس كل ساعة ينتظرون موت أبيه أو عَمَّتِه!

عقب تهديد الحكومة ووعيدها بإزالة الأكواخ المواجهة للسجن التي أتُهِمَت بإيواء السجناء السياسيين الذي هربوا يوم الأمطار العاصفة ، نشب حريق مباغت في الطرف الغربي من (خرابة سعدة) المواجه لدور الحكومة ، مُلتهماً أولاً كوخ (عائلة آدم الضرير) الذي كان ابنه (أحمد) أحد السجناء السياسيين الهاربين، وسرعان ما امتدت ألْسِنَةُ اللهب منه إلى الأكواخ المتهالكة كأكوام هشيم يابس في فضاء مفتوح ، فَرَّ الناس مفزوعين من ظلمة أكواخهم ، يتراكضون عُراةً في دُجنة الليل ، نحو المجهول ، يستغيثون بالسماء أن تُسقط مطرها مدراراً لإنقاذهم من غضب النار!

احتضنت أمهم (أبيهم) وحملته كالذبيح، وأخرجته من جوف الكوخ إلى العراء، فيما تجمعوا حول عَمَّتِهِمْ العليلة ليعينوها على الوقوف والاتكاء عليهم وعلى جارتهم الأرملة (حرية) التي هَبَّتْ لإنقاذهم حال صراخهم... قبل أن تصلهم النار التي راح شواظها يقترب منهم، وشررها يتساقط عليهم... وجدوا أنفسهم وسط صراخ وأنين مئات العوائل النازحة المرتعشة من شدة البرد... مرميين على رصيف (السجن المركزي) في الجانب الشمالي من (الخرابة)!

قبل بزوغ الفجر كانت الأكواخ بما فيها قد تحولت إلى كومة رماد ساخن، وسكانها بلا مأوى أو طعام!

تشبثوا بأمهم وأبيهم وعَمَّتهم متلاصقين مرتعدين من الخوف في نفوسهم وصرير البرد في أجسادهم... كانت أُمُهُم تتحسس بين الفينة والأخرى صدر أبيهم للاطمئنان على أن دفقات الروح مازالت باقية فيه، فيما كان هو في حضن عَمَتِه يغفو على ترانيم أنفاسها المتقطعة!

على امتداد سنوات الفاقة التي يعيشونها لم يسمعوا من قبل أن لهم (أقارب) في تلك المدينة أو خارجها، فلم يزورهم (أقاربٌ) من قبل... لكنهم فوجئوا ذات مساء شديد البرودة والجوع باقتحام ثلاثة رجال متجهمين إلى كوخهم الذي لم يكتمل بناءه بعد... نهضت (أُمُهُم) تعانق أحدهم وتسلم على الآخرين... أمضوا أكثر من ساعة يتكلمون بوجوه عابسة مع (أُمُهِم) فيما كان أبيهم ينظر إليهم بعيون كسيرة!

لم يعهدوا (أُمُهُم) مخذولة مثلما وجدوها ذلك اليوم، هي التي عُرِفَتْ بثباتها وتحملها لشظف العيش وقسوة الحياة عليها بصمت، منذ ولادتها يتيمة الأم، واجتراحها معاناتها مع زوجة أبيها التي أذَلَّتها وأُختيها مما اضطرَهُنَّ للزواج وهُنِّ صبايا!

أحس وإخوته أن أحد الرجال هو (أخيها غير الشقيق)، والآخرين أبناء عمومتها... كانت أحاديثهم تتقطع بنظرات خالية من الود إليه وإلى أخوته... لكن أحد الرجال ذو الجبين المُجَعَّدِ والعينين الشاردتين تحت حاجبين كثعبانين أرقطين متراقصين... صرخ بها ساخطاً:

لماذا لا يتركون المدرسة ويعملون ليساعدوك مثل بقية أولاد العشيرة؟!

ردت عليه والدموع تنهمر من عينيها متهدجة الصوت:

إذا طَرَقتُ باب أحَدِكم استجديكم...

طالبوني بما تريدون!

رحمة الله واسعة... وأولادي لن يتركوا المدرسة!

التفت "عروة" إلى (أبيه) الذي احتقن وجهه بالغيظ، وقد بدأ يحرك ذراعه المرتعشة لأول مرة منذ سنوات وهو يومئ للرجال الثلاثة أن يخرجوا... فيما كانت (عَمَّتُهُ) تحاول أن تنهض لالتقاط حجر كانت تُسَخِنُهُ وتضعه على خاصرتها لتخفيف آلامها... لكنها كانت هذه المرة تنوي قذفهم بها، خرجوا شاتمين (أُمُهَم) و(أبيهم)، لأنهم لم يستجيبوا لهم، ولم يجدوا ما يقدموه لضيافتهم... متوعديها:

سوف لن تجدي أحداً يرحمكِ...

وسَتُكَّسِّر الحياة رأسكِ!

احتضنتهم أمهم وأجهشت بالبكاء... قبل أن يرقدوا جميعاً مستسلمين لسلطان النوم ملتحفين بعضهم بأجساد بعض للاحتماء من البرد الذي ينهش العظام والجوع الذي يمزق الأحشاء!

تذكر إجابة (أُمُهُم) المفحمة لهم عندما كانوا يسألونها:

أليس عندنا أقارب؟!!

كانت تجيبهم بيأس مرير:

عندنا عقارب!!

 عند الفجر أحسوا بحركة غير اعتيادية في ظلمة الكوخ...كان موقع (أبيهم) خالياً، وجدوه يزحف على كوعيه وركبتيه نحو باب الكوخ...هبوا جميعاً إليه مفزوعين، أعادوه إلى مكانه...فيما أمسكت (أمهم) بمعصمه وقالت له بثقة وعيونها تغرورق بالدموع:

لن أُطأطأ رأسي لهؤلاء الأجلاف!

لا تخشى علينا يا (أبا فاخر) ...

كل ما نتمناه هو شفاؤك واستعادتك لصحتك...وبراء عَمَّتِهم من الداء الذي ألَمَّ بها!

جاء الربيع مبكرا ذلك العام...

طلب أبيه منهم أن يخرجوه إلى مشراقه الكوخ تحت رحمة الشمس...صار يُدْمِن التمدد كل يوم من الشروق إلى الغروب متلحفاً بدفء النهار!

ذات يوم تنادوا فرحين عندما وجدوه متكئاً على قوصرة الكوخ دون أن يساعده أحد...بدأت العافية تسري في عروقه...صار يتكلم معهم بضع كلمات...طلب منهم أن يأتوا إليه بصديقه (صويحب)...الذي لم يتأخر عليه.

جلسا طيلة صباح الجمعة يتحدثان ويقلبان وجهيهما للسماء التي ازدادت زرقة...

لما هَمَّ (صويحب) بالمغادرة قال لأبيه:

لا تقلق سأبلغه السلام!

صار (أبوهم) يستند إلى عصا وينهض بنفسه...حتى عندما جاء (صويحب) ومعه رجل ستيني وقور... استقبلهم (أبوه) دون عصاه بعناد...كأنه يريد أن يثبت للزائر إنه بكامل عافيته...جلسا إلى جوار (أبيه) في مشراقه الكوخ...لفترة وجيزة...

بعد أن غادر الرجل الستيني، وضع (صويحب) بضع دنانير تحت وسادة (أبيه) قائلاً له:

سأستعيد لك باقي الدَيْن منه!

بعد سنوات من تآكل جلودهم بالأسمال عادت أمهم من السوق ذلك اليوم بـ(زنبيل خوص) كبير مملوء بـ(دشاديش) جديدة، وراحت تتأكد من تطابق قياسها عليهم...ثم وضعت ثوباً جديداً إلى جوار (عَمَّتِهم)... ودفعت بيده (دشداشة ويشماغ) ليعطيه لأبيهم...نظر (أبوهم) إليها معاتباً وشاكراً واحتقنت عيونه بالدموع لمّا لم يجد في (الزنبيل) ثوباً لها!

في ذلك النهار طلب منهم (أبوهم) أن يبحثوا له عن العلبة المعدنية الصغيرة التي كان يحتفظ بداخلها بأوراق ميلادهم الرسمية الثبوتية...وبـ (رخصة قيادة السيارة) التي حصل عليها قبل مرضه بشهر واحد فقط!

فيما هم يبحثون عما أراد...تَكَوَّرَ “عروة" في حضن أبيه فرحاً...يشاوره وعيونه تُرأرئ نحو أخيه الكبير (فاخر):

اليوم في الاصطفاف الصباحي صفقوا له لأنه متفوق في المدرسة...وفاز بمنافسات شعراء المدارس!

تقدم الولد الكبير لأبيه يُقَبِّلُ يده، وانحنى الأب يقبل رأس ولده البكر باعتزاز فتساقطت دموعه على رأس الصبي...لكن الصبي قرص فخذ أخيه بقوة دون أن ينتبه إليه (أبوه)...مؤنباً ومتوعداً إياه لإفشائه سر تفوقه!

دون أن يكترث بفعلة أخيه به...واصل "عروة" حديثه لـ(أبيه)...لكن أخيه قاطعه مُفشياً سِرَّ" عروة":

يا أبتي هو سيشارك بمعرض المدارس وبمسابقات الرسم!

استعاد (أبوه) بعض عافيته، صار يخرج صباح كل يوم بحثاً عن عمل...

جاءهم يوماً يقود سيارة حوضية اختفى لونها من كثرة الوحل المتيبس عليها...تحمل رقم (دائرة البلدية) ... (سيارة تنظيف مجاري مياه الأمطار ومياه الغسيل والغائط) ...حيث جرى تعيينه سائقاً لها بعد أن توقفت تلك الخدمات لأربعة أشهر في المدينة منذ وفاة سائق السيارة العضب (عبد العال) الذي انزلقت به السيارة إلى قاع (مستنقع تفريغ المياه الثقيلة)، وانقلبت عليه، ولم يستطيعوا إخراج جثته إلاّ بعد أسبوعين من تحريك السيارة من فوقها، فطفت الجثة منتفخة مهترئة على سطح المستنقع الآسن!

هَبوا راكضين إلى (عَمَّتِهم) داخل الكوخ ليبشروها باشتغال أبيهم...

لكنهم وجدوها تغط بنوم أبدي عميق!

 

 

رواية (ذاكرة التراب)

(الفصل الأول)

سور المقبرة!

محمود حمد

 

بعد أكثر من ثلاثين عاماً عاد "عروة" إلى مدينته الريفية بحثاً عن طفولته وصباه...يسأل عن مصير (دوخة) ...الصَبِيَّةُ التي كانوا يركضون خلفها كالجِراء عند حافة المستنقع الآسن في أطراف المدينة...تأخذهم حيث تشاء، وتُعيدهم إلى (الخرابة) متى تشاء...يبحث عن أخبار أختها الصغيرة (مُزْنَة) التي كانت لصيقة به خلال تشردهم على حافات المستنقع وخلف سور المقبرة وعند الاصطفاف في ساحة المدرسة كل صباح!

وقف في مدخل الشارع الأَسْفَلْتي الذي امتدت مباني المدارس على جانبيه، ويُخْتَمُ بمركز صحي صغير...ذلك الشارع الذي كان حينذاك يجثم عن يمينه (السجن المركزي) وعلى يساره (خرابة سعدة) التي تفصل المدينة عن قلعة السجن، وعن مديات الريف والمستنقعات الممتدة حتى (البطائح).

عند موطئ قدمه حيث يقف اليوم، كانت بالأمس مزالق المستنقع التي تعلموا فيه السباحة، وإطفاء الخوف من المجهول إثر اقترابهم من فَكَّي الموت غرقاً أكثر من مرة...ذلك المستنقع المترامي إلى أفق السهل الذي تقبع فيه المدينة الزراعية المنتهكة بالجوع والحرمان!

هناك كانت آثار أقدام (دوخة)، الصَبِيَّةُ الحافية التي علمتهم اللعب والعبث دون خوف...حتى بعد الغروب...كانوا ينبشون حَجَرَ المقبرة ويقلعون طابوق سورها ليعطوه للمنبوذين من أبناء المدينة، الذين سحقهم الفقر فالتجأوا إلى حزام الأكواخ، ليبنوا لهم به حجرات من الطابوق المُعَفَّرِ بأجساد الموتى، ويسقفونها بالقصب الرطب والطين الآسن، ليكون كالورم الهجين في خاصرة الـ(خرابة) المكتظة بالمُعْدَمين!

في تلك الآونة كانت تلوذ بـ(الخرابة) آلاف العوائل التي تشردت من الأرياف الظامئة على أجيال متعاقبة، لتشكل البيئة الأكثر بؤساً في (مدينة الماء والسماء!).

لم تحتمل (الجدة) الضريرة عبث (دوخة) مع الصبيان والأطفال وهي في عامها الثاني عشر، لكن ما يُطمئنها عليها...ثقتها بقوتها البدنية الخشنة، طلاقة لسانها السليط، فطنتها المتيقظة، وتوحشها مع الغرباء...مما جعل صبيان خرابة القصب والبردي يذعنون لها بقدر التئامهم حولها، واحتمائهم بها، لأنها تُخيف صِبْيان زقاق (دور الحكومة) المقابل للخرابة، وتحميهم من تَنَمُّرِهِّم عليهم!

تُرافق (دوخة) جدتها كل يوم منذ الصباح الباكر...تَشْحَذُ معها في السوق على ضفاف دجلة، ولن تعود إلاّ عند الظهيرة...تساعدها في طبخ (ما رزقها الله به من العظام والخضار التي ينبذها القصابون والبقالون!) لإطعام أطفال ابنها البكر الذي فقدته في (حرب الشمال)، وتركتهم أمهم لتتزوج من صديقه الذي أبلغها بمقتله، وانتقلت معه إلى مدينة بعيدة!

ذات يوم جمعت (دوخة) الصِبْيان والأطفال وأفشت لهم سراً:

هناك في شرق (الخرابة) حاوية للأزبال خلف السجن يرمي إليها السجناء الصمون الفائض عندهم من السطح بأكياس لكي يأخذها المحتاجون!

قادتهم إلى (كنز الجياع)، فوجدوا عشرات النسوة الحافيات يَجْلِسْنَّ حول حاوية النفايات بانتظار وقت رمي بقايا الصمون إلَيْهُنَّ...بدأ التسابق والتدافع والصراخ والشتائم بينَهُنَّ، لأن الكمية أقَلَّ من أن تَسُدَ حاجة أطفالَهُنَّ، لكن (دوخة) وخلفها (قطيع الأطفال!) كانت ترقب مشهد النسوة المتدافعات عن بُعْدٍ كالنمرة المتحفزة للانقضاض على صيدها.

لمحت رأس سجين في سطح السجن الشاهق يرمي الأكياس إلى الأرض خارج أسوار السجن، لَوَّحَتْ له بيدها كي يرمي باتجاهها كيساً بعيداً عن حشد النسوة...ما أن وجد السجين تجمع الأطفال مشرئبي الأعناق نحوه كعصافير فاتحة مناقيرها صوب أمها من فرط الجوع ، حتى رمى باتجاههم كيساً تَمَزَق في الهواء، فتناثر الصمون على الأرض...سقط بعض منه عند حافة بركة مياه آسنة...جمعته (دوخة) من الأرض ووزعته على (الأطفال) ولم يبق لها منه سوى صمونة ملوثة...مسحتها بأذيال ثوبها وأعطتها إلى أخيها (عباس) الذي يصغرها بأربعة أعوام، وراح يقضم منها بشهية، سألته بهمس:

هل الصمون الحار لذيذ؟!

أحس بها (قطيع الأطفال) ...فتسابقوا على اقتسام صموناتهم ورموها نحوها...رفضت بنظرتها المتوعدة من عينيها الحوراءين التي يخشون بريقها، وأعادت قطع الصمون إليهم مع لاذع الكلمات!

بعد أن انفرط عقد النسوة...كان سجين عجوز شاحب يتطلع إليهم من سطح السجن، إلى جواره سجّان كهل مسلح بـ(بندقية برنو الإنجليزية) وعلى صدره يتقاطع صفا رصاص بجعب جلدية سوداء لامعة... انحنى السجين العجوز إلى الأسفل ليحمل شيئاً ثقيلاً، ساعده السجان عليه، ورمى كيس كبير من الصمون إليهم!

طلبت (دوخة) من الأطفال مساعدتها على حمل الكيس على ظهرها، ومضت به إلى جدتها فرحة...قدمت إليها صمونة حارة ...قائلة لها بِوِدٍّ:

تذوقي (صمون الحكومة) الحار يا جدتي...إنه لذيذ!

قضمت العجوز الدَرْداء لقمة منها وعلكتها بباقي أسنانها المنخورة متلذذة بطعمها...قالت بغبطة:

اليوم أعطاني (القصاب عمران) قطعة لحم مع العظام، وهناك في السلة بصل وطماطم وبطاطا...نظفيها وأشعلي الموقد بحذر...اعملي لأصحابك، ولأخويك مرقاً مع الصمون الحار!

صاروا يرتادون فيء السجن كل يوم بحيث لم تعد عوائلهم تحسب حسابهم عند تقتير الطعام...صار (قطيعهم) يكبر عندما يحين موعد تساقط الصمون إليهم من السماء!

أشار لهم (سَجّانٌ بَطينٌ) يقف في بوابة السجن الحديدية السوداء الضخمة، أن يستديروا إليه ليعطيهم الصمون الساخن من الفرن مباشرة عند بوابة السجن الرئيسية، فتراكضوا جميعاً فرحين إلا هي...تباطأت حياءً، ولما تجمعوا حوله عند كومة طابوق بناء مهملة إلى جانب البوابة الحديدية السوداء الكبيرة... طلب (السَجّان) أن تدخل (دوخة) وحدها للداخل وتجلب لهم الصمون...ترددت وشحب لون وجهها، قَدَحَتْ نظرتها المتيقظة بعينيه المتورمتين شَهوةً متوحشة، تأملت عيون الأطفال من حولها التي يغشوها الخوف ويوقدها الجوع!

التفتت إلى اخيها (عباس) وطلبت منه أن يدخل معها...كان (أدهم) يقف في نهاية الصف وهو أكبرهم سناً وأعياهم صحة وأقلَّهم كلاماً لتأتأته...أزاح (أدهم) من يقف أمامه من الأطفال وأمسك بكتف (عباس) وأعاده للخلف وتقدم معها...عندها برقت عينيها بسطوع كعيون الصقر، وامتلأ صدرها تحدياً، فدخلا في ظلمة السجن، ودخل السَجّان المنتفخ خلفهما وأغلق باب السجن الفولاذية الثقيلة وراءه!

ما هي إلاّ لحظات حتى سمعوا صراخها الذي لم يسبق لهم أن سمعوه من قبل...تَيَبَّس (قطيع الاطفال) في مكانه أول الأمر...لكنهم فجأة انهالوا على بوابة السجن الحديدية بالحجارة والصراخ، حتى أيقظوا السجناء والسجّانين وقاطني أطراف الخرابة، وهم يتدافعون إلى بوابة السجن...خرجت (دوخة) شعثاء الشعر، وثياب (أدهم) ممزقة وأنفاسه متقطعة...لكنها لم تفلت يدها من كيس الصمون الساخن الثقيل الذي كانت تجره خلفها!

في اليوم التالي عادوا للجدار الخلفي للسجن بعيداً عن حاوية الأزبال...كان السجين العجوز بانتظارهم... يُلقي لهم كيس الصمون بعد انفضاض جمع النسوة...على مدى أشهر...حتى انقطع عنهم السجين العجوز أسابيعاً دون أن ينقطعوا عن الانتظار!

في ظهيرة يوم تموزي تَجمَّرت فيه الأرض من شدة الحرارة، وقفت سيارة إسعاف بباب السجن، أُخرِجَ سجين على نقالة إليها، وانطلقت به إلى المستشفى...عندما عادت (دوخة) في ذلك المساء الى كوخهم روت لجدتها حكاية السجين العجوز والصمون وسيارة الإسعاف.. سألتها جدتها:

هل تكلم معكم؟

ماهي صفاته؟

جلست تصفه لجدتها...مُستَذكرة:

نعم يا جدتي...

كان يحدثنا ويسألنا عن أحوالنا رغم ممانعة حراس السجن...

لكنهم يا جدتي يبدوا أنهم يهابونه...فيصغون إليه!

أجابت العجوز متحسرة:

إن لم تهلك الأيام عقلي وتمسح ذاكرتي...فإنه (الأستاذ حامد البدر) مدير المدرسة الثانوية... أتذكره قبل أن يُطفئ مرض الجدري بصري...(الأستاذ) الذي تعرفه المدينة كلها...الرجل الذي ما أن يخرجوه من السجن حتى يعيدوه إليه مع أية (قلاقل!) في المدينة...رغم اعتلال صحته وكبر سنه!

في ذلك العام اكتمل بناء المدرسة الابتدائية في الساحة الترابية بين السجن و(بُستان الجِدَّة) ...مع بداية شهر تموز كان المعلمون يجولون بين الأكواخ والصرائف يُحَفِّزون ويُحَرِّضون سكان (خرابة سِعْدَه) على أِرسال أطفالهم دون سن العاشرة إلى المدرسة الجديدة، يغوونهم بـ(الكسوة الشتوية وبوجبة الغذاء اليومية التي سَتُعطى لهم في المدرسة مجاناً)!

كان الأطفال من الذكور والإناث يتبعونهم كـ (الجرذان تتبع نافخ البوق!) ...لكن (دوخة) كانت مترددة لأنها تجاوزت الثانية عشرة من العمر...دفعها (أدهم) (الذي تجاوز الرابعة عشر من العمر) إلى وسط طابور الأطفال رغم ممانعتها...التفت إليها (المعلم عبد الواحد) ذو الطول الفارع والنحول المتجلد، ورمقها بنظرة استفهام أبوية، فخاطبه (أدهم) بنبرة متقطعة متوسلة:

أستاذ...هي عمرها عشر سنين لكنها (جثيثة!) مثل أبيها!

رد عليه (المعلم) دون أن يلتفت إليه:

ليأتي بها أبيها غداً للمدرسة!

اغرورقت عيناها بالدموع...وأجابته مخنوقة العبرات:

أنا يتيمة من الأب يا أستاذ!

لَفَّتْ ذراعها حول عنق أخيها وقَبَّلته على رأسه، فيما كانت أختها الصغيرة (مُزْنَة) تمسك بأذيال ثوبها من خلفها!

سارت وإياهما مع الجميع باتجاه المدرسة...أوقفهم (المعلم) تحت فيء جدار قلعة السجن، وصَفَّهُم في طابور، وبدأ ينادي عليهم بقراءة أسمائهم، ويردد خلفه الأطفال بهمس كل اسم مشفوعاً بالكُنيَّة التي يتندرون بها بعضهم على بعض، كما أملتها عليهم (دوخة)، طلب من كل واحد منهم عندما يسمع اسمه الخروج من الطابور والوقوف تحت ظل (شجرة السدر) المكلكلة على حائط السجن...أعاد عليهم قراءة الأسماء... كان كلما يقرأ الاسم الأول يُكْمِلْهُ الأطفال بالكُنيَّة التي اعتادوا عليها بصوت مسموع:

(أدهم) المسلول. (هلال) ابن أبو الطرشي. (ألْماز) المعَرْيَّن. (عروة) الحافي. (دوخة الذئبة). (مُزْنَة) أم قصيبة. (جابر) المشَرْشَبْ. (حمزة) المحَنّا. (عبلة) الشقرة. (سيد جبار) اليشَوِّر. (موزان) ابن العورة. (ذياب) الأحول!

يؤشر المعلم بقلمه على الأسماء المدونة في الورقة التي استخرجها من جيبه، التي كتبها خلال التقاطهم من الطرقات ومن بين الأكواخ والصرائف، وبين لحظة وأخرى يطلب منهم الاحتماء من سهام أشعة شمس الظهيرة بظل (شجرة السدر).

منذ اليوم الأول في المدرسة كانت (دوخة) مثابرة على الدراسة، دون أن تنقطع عن وقت استجداء الصمون من السجن، أو تتخلف عن مرافقة جدتها للشحاذة في السوق بعد الظهر...بدت عليها ملامح الأنوثة المبكرة بثياب المدرسة البيضاء والسوداء وشريط الشعر الأبيض في أطراف ضفائرها الطويلة الفاحمة، توثبت ملامحها السومرية المُتَحَدِيَّة...كانت تبدوا متغطرسة في مشيتها بين أترابها من الفتيات والفتيان في الصفوف الأولى من (مدرسة الأمير).

كل يوم عند ذاهبهم الى المدرسة، يتجمع (الأطفال والصبيان) على حافة الطريق الفاصل بين السجن المركزي و(الخرابة)، يتابعون عشرات السجناء السياسيين المكبلين بالسلاسل، وهم يرصفون الطريق الترابي بالطابوق، دون توقف، من الشفق إلى الغسق، طيلة شهور السنة، وفوق رؤوسهم يشهر السجانون بنادقهم!

لم تنقطع (دوخة) عن الخروج بالأطفال والصبيان إلى حافة المقبرة وشطآن المستنقع، حيث يسبحون ويصطادون صغار السمك النافر إلى الجرف الموحل، رغم وعيد جدتها وتهديدها لها خوفاً عليها وعلى أخيها (عباس) وأختها الصغيرة (مُزنة) من تلك المنطقة:

المعزولة عن الإنس والموبوءة بالجن!

الواقعة خلف سور المقبرة...حيث تعوي الذئاب في الليل، و(يختطف!) الغجر الرُحَّلُ الفتيات الصغيرات الجميلات في غفلة من ذويهُّن في النهار، وتنقطع أخبارَهُنَّ مع هجرة قوافل الغجر القادمة من المجهول والذاهبة إلى المجهول دون عودة!

كان أخيها (عباس) أكثر هدوءً وانتباهاً منها خلال الدرس، وأشد التزاماً بتأدية الواجبات البيتية، فتفوق على أقرانه من البنات والأولاد!

ذات (جمعة نيسانية) ازدحمت فيها شطآن المستنقع بالصيادين وحاصدي حقول الحنطة والشعير القادمين من قرى مختلفة بعيدة...وتمددت مساحات مغامرات (دوخة) ومعها الأطفال والصبيان المنفلتين عن أبصار أهلهم...وتزايد عدد (قطيع الأطفال والصبيان) السائب منهم بانضمام أطفال (المهاجرين النيسانيين!) القادمين إلى المدينة من مدن فقيرة أخرى في موسم الحصاد بشهر نيسان...حتى باتت تسرح بهم عند حافات مسطحات المستنقع، وبين القبور، مع صبيان وبنات لا تعرفهم.

صار من تعرفهم يسيحون في أماكن للهو والعبث والسباحة والصيد بعيداً عن سطوتها...لكنهم اعتادوا التجمع عند الغروب قرب رأس سور المقبرة ليعودوا معاً إلى (الخرابة)!

في ذلك المساء وقفت (دوخة) حائرة وسط (قطيع الأطفال والصبيان) تُقَلِّبُ وجهها بوجوههم... بدأ الليل يرخي سدوله على المدينة ويستوطن السكون والظلمة حافات المستنقع... تسلل الخوف إلى نفسها وانقبضت روحها... تسألهم مفزوعة:

أين (عباس)؟!

من منكم كان مع (عباس)؟!

ماهي إلاّ دقائق حتى انفجر صراخها واستجمعت الكبار والصغار مُستغيثةً، تطلب العون للبحث عن اخيها، احتشد الناس، وأُشْعِلَت حزم البردي والقصب لتبديد الظلمة...وإنارة المسطح المائي الشاسع!

تسمر "عروة" في مكانه عند مزلق الصيادين في حافة المستنقع يعصف به الخوف...لا يقوى على النطق بما رآه!

خاض العشرات من الشباب في المياه الضحلة وعام آخرون في عمق المستنقع، التَفَّتْ النسوة حول العجوز العمياء التي ألقت بنفسها في المستنقع تلطم وجهها بالوحل وتنادي ابنها الفقيد:

غرق ابنك يا(حسن)...

 

 

بمناسبة يوم الاديب العراقي

علي جليل الوردي...

شاعر (القصيدة التنويرية المعارِضة)!

محمود حمد

وأخو اللصوص، وإنْ تعفَّفَ، فهو لصٌّ أخطر

وصديقُ أعداء الشعوب عدوُّها المتنَّمر                                               (1947- الشاعر علي جليل الوردي)

في نهاية آذار 1979 كان لقائي الأول معه...وقد تجاوز حينها العقد السادس من العمر لكنه كان مفعم بالحيوية ووضوح الرؤية وثبات الموقف وشغف الشعر وجهورية الصوت والنقمة على السلطة...اسهب في الحديث عن (الشعر المعارِض للاستبداد) الذي هو احد اصواته البارزين، وعن (حركة انصار السلام) التي هو احد قادتها...وعن (اتحاد الادباء العراقيين) الذي كان أحد مؤسسيه...وعن ديوانه (طلائع الفجر) الذي صدر عام 1960 ورسم صورة الغلاف له الفنان الكبير الراحل خالد الجادر...تلك الصورة التي عبرت عن ذلك التلازم الحتمي بين (السلام والمرأة وطلائع الفجر) في شعر الوردي...الديوان الذي اهداه الى:

الشعل الوهاجة المنورة ظلمات الزمن.

الاحرار المناضلين في سبيل خير الانسان.

عشاق الحق والعدل والسلام.

أُقَدِّم طلائع الفجر!

في حديثه عن نفسه قال:

من أوائل الاربعينات، وحتى أواسط الخمسينات، كنت انشر قصائدي في مجلة (الرسالة) ومجلة(الثقافة) في مصر، و(الالواح) في لبنان)، و(الغد) في فلسطين، و(الهاتف) و(الغري) في النجف الاشرف، و(الفرات) في الحلة الفيحاء...غير ان هذه المغاني الأدبية احتَجَبَتْ عن الظهور، فاحتجَّبْتُ عن القرّاء باحتجابها وطواني النسيان!!!

حتى ان شاعرة كبيرة تحمل شهادة الدكتوراه في الآداب تسألني فيما إذا كُنْتُ شاعراً عمودياً أم شاعراً حراً؟!......طعنة في الصميم!... اليس كذلك؟!

كان شعره (مثل شعراء زمانه الوطنيون) يطبع على العقول في ساحات الانتفاضات وينشر بالألسن بين الناس...

تتلازم في شعره بلاغة القصد وفصاحة الكلم وغزارة المفردات جمال الإيقاع والحس الوطني الوثاب والروح التوّاقة للتحرر من كل اشكال القيود.

كانت (القصيدة المعارضِة) شرارة توقد الانتفاضات، وصوتاً هادراً للجماهير المنتفضة...وفي طليعتها عند انطلاقها، معبرة عن تطلعاتها في احتشادها، وتنبثق عنها شعاراتها العفوية...وعندما تتفرق الجموع تعود (القصيدة المعارِضة) معهم الى بيوتهم...تستوطن عقولهم، وتنطق بألسنتهم في مجالسهم، فتكون جزءاً من حياتهم وتعبيراً عن مواقفهم!

لم يغفل في حديثه معي خلال لقاءاتنا المتكررة التي امتد حتى عام 1998 عندما غادرت العراق مُكْرَهاً...دون ان ينقطع التواصل فيما بيننا حتى وفاته في عام 2009 ...

ذكر باعتزاز أصدقائه في مسيرة الحرية والسلام والديمقراطية منذ اربعينيات القرن الماضي...المسيرة التي ذاق فيها السجون وشهدت وقفاته وهو يلقي شعره الحماسي في الحشود المنتفضة...

وعندما توقف بالحديث عن ثورة الرابع عشر من تموز عام 1958...ذكرني بأول قصيدة له قُرِأَت في الإذاعة العراقية بعد الثورة بيوم واحد... ومطلعها:

كل شيء بعد تموز جديد...السما والأرض والفجر الوليد...

هزج الفلاح والناي البعيد وغناء الطير في الحقل المديد

وإذ يطلق (اتحاد الادباء العراقيين) مبادرة الاحتفال بيوم تأسيس اتحادهم كـ (يوم للأديب العراقي) ... فأني اذكر باعتزاز شاعر الحركة الوطنية (علي جليل الوردي المولود عام 1918 والمتوفى عام 2009 ) عضو الهيئة الإدارية التأسيسية للاتحاد في 7/5/ 1959 ،الذي لم يهادن جميع السلطات المستبدة المتعاقبة...وبقي زاهداً في حياته...اميناً على مواقفه كشاعر ناقد ووطني ثابت الموقف ورجل تقدمي واضح الرؤية...حتى عندما قتلت سلطة البعث اصغر أبنائه في 7/6/1981 لتركيعه وإذلاله...ولم تتوقف عن ملاحقته واستدعائه واستجوابه حتى بعد ان تجاوز الثمانين من العمر...عند سقوط النظام عام 2003.

كانت له الريادة عند نجاح الثورة مثلما في الانتفاضات التي مهدت لها...بان القيت قصيدته (العيد الاكبر) في 18 تموز 1958اي بعد أربعة أيام من الثورة كأول قصيدة تلقى في الإذاعة العراقية بعد نجاح الثورة...

التي جاء فيها:

بالأمسِ كنا، وكان اليأسُ يعصرنا       عصراً فيقضي على الآمالِ بالرَّهب

سلِ المعاقلَ كم ادمى الحديدُ بها                    من الشباب، وكم أودى من الشُيُب

وكم دماءٌ طهوراتٌ بها سُفكَت                       قسراً بأمر (عميلٍ) غامضِ النَّسَب

وفي قصيدته (وترعرع الامل الحبيب) التي القيت من الإذاعة ال