الرئيسية || من نحن || الاذاعة الكندية || الصحافة الكندية || اتصل بنا
 

* مروان ياسين الدليمي اديب وصحفي عراقي ينشر في العديد من الصحف العربية

 

مقالات سابقة

أدونيس وغزّة والجهلة أمثالنا

مروان ياسين الدليمي

 

في أكثر من مناسبة دُعيَ أدونيس للحديث فيها (باعتباره مفكرا!) دائما ما وجَّه نقده للعرب والمسلمين، متهما إياهم بالعنف والتطرف، معتبرا ذلك، وحسب قوله «تأكيد على ارتباط العنف بثقافتهم وعقيدتهم». لكنه التزم سكوتا مطبقا، طيلة الأيام الماضية، رغم كارثية ما يجري، ولم نقرا له، ولو جملة واحدة، يدين بها قتل المدنيين، والعنف الصهيوني/الغربي على غزة. فما الذي دفعه إلى اتخاذ هذا الموقف؟ هل لأن لعابه ما يزال يسيل طمعا بالفوز بجائزة نوبل في يوم ما، فيخشى أن تصدر عنه كلمة دونما قصد، لربما تخدش مشاعر المؤسسات الغربية، فتقطع عنه أي أمل باقتناصها؟ أم أن سكوته يضمر تأييدا مُبطَّنا لعملية الإبادة بحق الفلسطينيين، وإقرارا بصحة وجهة نظره، بأن العنف والتطرف يتحمل مسؤوليته الفلسطينون (العرب) باعتباره مرتبطا بثقافتهم وعقيدتهم؟
هناك العديد من المثقفين والفنانين الأمريكيين والغربيين الذين أعلنوا موقفهم الواضح، بإدانة ما يرتكبه جيش الاحتلال، والدعم الذي تقدمه حكومات بلدانهم للكيان الغاصب، غير عابئين بما سيترتب عن موقفهم من خسائر مادية، نتيجة عمليات المقاطعة التي ستفرضها عليهم وعلى أعمالهم الشركات الفنية والإعلامية والمؤسسات الإنتاجية ودور النشر، بحكم هيمنة اللوبي الصهيوني عليها. هنا تتضح ازدواجية المعايير لدى (مفكر) مثل أدونيس، عندما يتعمد أن يكيل بمكيالين، مشيا على نهج المؤسسات الثقافية الغربية. ننتظر الأعذار والتبريرات لهذا الموقف، الذي سيتحفنا بها المتعصبون لأدونيس، لعلهم يكشفون لنا، تخلفنا الفكري في عدم قدرتنا على رؤية ما يراه في هذه المذبحة، ويثبتون لنا؛ أنه مفكر من طراز خاص، وأن غموض موقفه الفكري (على الأقل بالنسبة لنا نحن الجهلة) ينسجم مع الغموض العبقري في شعره، وينبغي النظر إلى موقفه باعتباره حالة خاصة، وليس من الجائز مقارنته بآخرين مثل تشومسكي أو نعومي كلاين على سبيل المثال، ولهذا يستحق أن ينال جائزة نوبل.

 

أدونيس غارق في أوهامه عندما يتصور أن جائزة نوبل ستضعه في مكانة عالية ترفع حاجزا سميكا، بينه وبين من يفكر في تفكيك أوهامه الشخصية حول نفسه، وتخيلاته المريضة عن الثقافة العربية.

وإذا ما ذهب به خياله بعيدا ورأى أن سكوته عن المذبحة في غزة، سيُكافأ عليه مثلما كوفئ على سكوته عندما وقف مع نظام بشار في سوريا، رغم الملايين التي تسبب في تشريدها، وآلاف المدنيين الذين قتلهم، فإنه بذلك سيحرق نفسه بنفسه، لأن المعركة في غزة رغم كارثيتها، إلاَّ أنها قطعت الشعرة التي كانت تفصل بين الحقيقة والأكاذيب، بين المجرم والضحية، بين الغاصب والمُغتَصَب، بين الذين يتاجرون بشعارات الحرية وحقوق الإنسان، والذين يدافعون عنها بدمائهم، بين المثقف التنويري والمثقف التبريري، بين المثقف المُفكِّر والمثقف المُكفِّر.
اللحظات الحرجة التي تمر بها الشعوب عندما يصبح وجودها على المحك، بين أن تكون حرَّة كريمة، أو تكون خاضعة ذليلة مهانة للمستعمر، غالبا ما تتسع الرؤيا لديها، رغم العتمة الكثيفة التي تحيط بها من كل الجهات، فترى كل شيء بوضوح، وتطرح على نفسها أسئلة جديدة وأخرى كانت تخشى أن تطرحها. فالكوارث مثل الحروب، رغم أنها باهظة التكلفة من حيث الأرواح التي تدفنها تحت الأنقاض، إلا أنها تدفع المجتمعات إلى أن تعيد حساباتها حول قدراتها وعناصر ضعفها وقوتها، وفي المقدمة منها نخبها ومثقفوها، فما من أحد منهم سيبقى في المكانة التي كان عليها إذا ما اختار أن ينأى بنفسه عن محنتها. ها هي الدول والأنظمة الممثلة للحضارة الغربية التي كانت معيار أدونيس في نظرته إلى الثقافة العربية والإسلامية، تحرِقُ بنار العنصرية والتطرف والعنف، كل القوانين التي شرعنتها لتقديس الحرية وحق الإنسان في الدفاع عن أرضه، وحماية المدنيين والمستشفيات في الحروب، فهل يستطيع صديقهم أدونيس أن يجلس ويضع ساقا على ساق، ثم يخاطبهم بهدوء المفكر بأن يتوقفوا عن ذلك؟ ولأنه يعلم جيدا إذا ما تجرأ على ذلك، فإن اللعنة ستحل عليه وعلى فكره وشعره وتاريخه، فلن نتوقع منه أن يفعل. هذا ما تسعفنا به مواقفه التي تغيرت حسب الظروف والقوى السياسية التي كانت حكمت الواقع العربي، فبعد أن كان مؤيدا لأنطوان سعادة زعيم الحزب السوري القومي الاجتماعي، انتقل إلى عبد الناصر ثم الخميني ثم بشار، لكنه في كل تنقلاته كان ماهرا، مثل أي راقص محترف على الحبال، يعرف كيف يتفادى السقوط الذي يمكن أن يحطمه. فهل رقصته الصامتة على إيقاع المذبحة في غزة ستطُوى فيها صفحته الأخيرة؟ ماذا ينتظر أن يكون عدد الضحايا المدنيين في غزَّة حتى يُبصر ما تعمَّدَ أن لا يراه في سوريا الأسد؟ إن فنون المراوغة والتضليل منهج ميكافيلي ملاصق للساسة، لكنها أبعد ما تكون عن الذين يشتغلون في ميادين الفلسفة والفكر والفنون، وإذا ما انجرف إليها واحد منهم، عليه أن يتوقع نهاية دراماتيكية لمسيرته، هي أسوأ مما يلقاه إي سياسي فاسد، ولن تجديه نفعا عبقريته ونبوغه وموهبته الاستثنائية، هكذا كان الحال مع الشاعر عزرا باوند وآخرين مثله، عندما ارتضوا التغاضي عن جرائم النازية والفاشية.

كاتب عراقي

(القدس العربي)

 

أجندة الثقافة النيوليبرالية

مروان ياسين الدليمي

 

الثقافة ليست ثيابا يمكن ارتداؤها وخلعها بكل سهولة، وليست سلعة جاهزة يمكن شراؤها من هنا وهناك. هي مخاض طويل تشكَّل عبر كفاح خاضته المجتمعات وتجذّر في وجدانها وأخلاقها وسلوكها اليومي، وفي أفراحها وأحزانها، ومن خلالها تواجه الحياة بكل تقلباتها، فكيف يمكن إذن بعد ذلك قبول أفكار تدعو إلى تدميرها واستبدالها بأخرى غريبة عنها، وليس بينهما أي نقطة التقاء أو انسجام، ويتم فرضها عنوة؟

شعارات مخادعة

فعندما يُعلن الرئيس بايدن متفاخرا: «اليوم نرسل رسالة واضحة للعالم بأن أمريكا أمة مثلية!» عبر مؤتمر صحافي في منتصف شهر حزيران/يونيو الحالي، ومعه يصطف بهذا التفاخر ساسة الغرب، وعلى وجه خاص قادة مجموعة الدول الصناعية السبع (كندا، فرنسا، ألمانيا، إيطاليا، اليابان، المملكة المتحدة، الولايات المتحدة) فهذا تأكيد على أن قيم الحرية والعدالة والمساواة، التي سبق أن رفعتها الثقافة الغربية نهاية القرن التاسع عشر، باتت اليوم مجرد شعارات مخادعة، وعلى أنها قد انحرفت بشكل حاد في اتجاه بعيد عن محتواها الإنساني.
اليوم أُفرغت هذه القيم التي التقت عندها تطلعات الشعوب في كل مكان، من دلالاتها وأبعادها الاجتماعية والروحية لصالح نزعة مادية متوحشة، ولم تعد سوى حجَّة للتغطية على غطرسة وعنصرية الرجل الأبيض، وليس ضربا من الخيال إذا ما وجدنا في هذا الانحراف إشارة على إفلاسها وانهيارها، مثلما سبق أن نوَّه إلى ذلك في بداية القرن العشرين واحد من أبرز مفكري الغرب، الفيلسوف الألماني أوسوالد شبينغلر (1880 – 1936) وهذا ما جاء في كتابه الموسوم «إفلاس الحضارة الأوروبية الغربية الفاوستية» فقد أدرج في صفحاته تنبّؤاته العلمية حول انهيار الحضارة الغربية الفاوستية (نسبة إلى يوهان فاوست 1480- 1540) معزيا ذلك إلى أن الحضارة الغربية، باعت روحها للشيطان مقابل مكاسب مادية ونعيم استهلاكي، وفق منهج فاوست وتوجيهاته.
قبل مئة عام وجد شبينغلر أن حضارة الغرب في قوتها المادية، على خلاف الحضارات الشرقية ومنها، حضارة العرب المسلمين ايام الدولتين الأموية والعباسية، التي فرضت حضورها الأممي عبر قوّتها الروحية والمعنوية. وفي سياق تنبواءته رأى أن نهاية القرن العشرين ستكون نقطة البداية في مسار انهيارها، وما عبّر عنه بايدن في كلمته دليل على صدق تنبؤات شبينغلر.
إن ساسة الغرب عندما يضغطون بكل السبل على الدول والشعوب الأخرى ويهددونها بالعقوبات الاقتصادية، مثلما هو موقفهم من دولة أوغندا التي جرّمت المثلية، يهدفون إلى خلق مناخ عام أممي يسوده الرعب والخوف، بقصد جرها إلى مستنقع ما يروجونه من مفاهيم غريبة لا تربطها صلة «بالحرية والعدالة والمساواة». وهذا يعني بصريح العبارة فرض وجهة نظرهم العُنصريّة بأحقيّة الرجل الأبيض في السيادة على العالم، واحتقارهم لقيم وثقافات الشعوب غير الغربية.

مفهوم الثقافة

هذه السياسات المدمرة للفطرة الإنسانية ولبنية المجتمعات وفي مقدمتها الأسرة، ما هي إلاّ الوجه الآخر والقبيح، لاستمرار الهيمنة الاستعمارية الغربية، لكن عبر تهديم منظومة القيم الثقافية، وهي دون شك أشد خطورة وفتكا من الاحتلال العسكري المباشر. والثقافة في تعريف الأمريكي إدوارد سابير (1884- 1939) عالم الإنسانيات اللغوي: «مجموعة الممارسات والمعتقدات المتوارثة اجتماعياً، والتي تحدد جوهر حياتنا» بينما توماس ناغل (1937-1980) الفيلسوف الأمريكي يعرف الثقافة بأنها: «القيم المادية والاجتماعية لأي جماعة من الناس، سواء كانت متوحشة أو متمرنة، وهي نظمهم، وأعرافهم، واتجاهاتهم، وردود أفعالهم «فيما بنديكت أندرسون (1936 – 2015) الفيلسوف الأيرلندي يعرفها بأنها: «ذلك السلوك الذي لا يكتسبه الإنسان بالميلاد، والذي لا تحدِّده خلاياه الوراثية مثلما الدبابير أو النمل، لكنه سلوك لا بد أن يتعلمه من جديد الجيل الصغير من الأجيال الأكبر منه».
خلاصة هذه التعريفات تشير إلى طبيعة العلاقة الوثيقة بين المجتمع والثقافة، وأن من غير الممكن أن تكون هناك قطيعة بينهما، فكل منهما يعتمد على الآخر، في حضوره وفاعليته وديمومته، وفي نهاية الأمر، لن يتمكن أفراد أي مجتمع من الاستمرار في العيش معا بأمان واطمئنان، دون شرط الثقافة، لأنها الخزين الثر الذي يوفر القيم والقوانين والأعراف، والحدود التي تضبط حركة وإيقاع الأفراد داخل المجتمع.
إن الأديان كلها، المسيحية واليهودية والبوذية والسيخية، قبل الدين الإسلامي ترفض بنصوصها وتعاليمها الخروج عن الطبيعة الإنسانية وتشويهها. وهي في صلب روافد الثقافة الإنسانية وليس من السهولة انتزاعها منها.

مواجهة ثقافية

في كل الأحوال إذا لم يتبلور موقف موحَّد ورافض تلتقي عنده دول العالم غير الغربية ومجتمعاتها ونخبها المثقفة إزاء هذا التجريف للمفاهيم والقيم، التي هي آخر القلاع التي تحتمي بها من ثقافة التحلل والتخريب، فلا محالة من أن يجرفها هذا السيل بكل شوائبه، ولا غرابة في أن تُفرَض حرية زواج المحارم في يوم مقبل، وربما قريب جدا. والخطوة الأولى في هذا الموقف الرافض، تبدأ في ترصين الخطاب، بما يتم إنتاجه في حقول السينما والتلفزيون والميديا والرواية والشعر والقصة وفي جميع أشكال الإنتاج الثقافي والفني والإعلامي، لأن الحرب تدور رحاها هنا، وهذا ما تكشفه مؤسسات النيوليبرالية في أجندتها الثقافية التي تروج لها وترعاها وتدعمها عبر المهرجانات والملتقيات والفعاليات، سعيا منها إلى تفريغ ذاكرة الشعوب من قضاياها المُلحِّة، وما تواجهه من تحديات تستهدف وجودها وتاريخها وثقافتها.

كاتب عراقي

 

 

العراق: تظاهرات الشيعة العرب

صرخة انتماء أم أزمة غياب الكهرباء؟

 

مروان ياسين الدليمي

 

من الخطأ اختزال ما يجري في الشارع الشيعي بأزمة انقطاع الكهرباء، فالقضية أكبر من ان يتم تسطيحها بهذا المطلب على الرغم من أهميته في صيف العراق الساخن، ويمكن تشبيهها كما لو ان حبات المسبحة الطائفية بدأت تنفرط بعد ان حاولت الأحزاب الشيعية ان تجمعها على أسس مذهبية طيلة الأعوام الماضية إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار أن لعبتها في عملية تغييب الوعي وغسل الأدمغة التي استهدفت من خلالها شيطنة العرب السنة في نظـــر الشيعة وتحمـــيلهم مسؤولية فقدان الأمن وضياع فرصة التنمية وبناء الدولة قد انكشفت ولم تعد تنطلي على أحد. 
والتظاهرات الواسعة التي تجتاح المدن الشيعية في وسط وجنوب العراق منذ أكثر من أسبوعين، تشير إلى ان شيعة العراق يقفون اليوم عند لحظة زمنية ستضعهم عند مفترق طرق، ربما ستكون نتيجتها تفكك العلاقة التي جمعتهم مع من يدّعي تمثيلهم ويتاجر بهم باسم المظلومية، ولم يتردد في ان يستثمر كل وسيلة في سبيل إحداث شرخ عميق بينهم وبين اخوتهم العرب السنة تنفيذا لأجندات إقليمية ودولية هدفها تفتيت المنطقة مجتمعيا وثقافيا قبل ان يكون تفتيتا جيوسياسيا كما تم التخطيط له في مشروع «الشرق الأوسط الكبير» الذي سبق ان طرحته إدارة الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش عام 2004 .
ولا ينبغي ان تشغلنا تلك التفاصيل الصغيرة العابرة التي قد طفحت بها الشوارع والساحات العامة في مدن البصرة والناصرية والكوت والسماوة وبابل وهي تستقبل أفواجا من المتظاهرين الغاضبين، فدلالة التظاهرات تتعدى مسألة تردي الأوضاع الخدمية والمعيشية، رغم أهمية هذه التفاصيل. إن قراءة الأحداث بعيدا عن الصخب المصاحب لها وعن محاولات تزويرها من قبل حراس النظام ستصل بنا إلى نتائج تشير إلى ان هناك تحولا مهما في الوعي الجمعي الشيعي، حيث أفرزت التظاهرات:
- ان العامل المذهبي الذي طالما راهنت عليه الأحزاب والقوى السياسية الشيعية في إثبات وجودها وشرعيتها على رأس النظام السياسي قد وصل إلى مرحلة متدنية من القبول.
- اليأس أصاب عموم العرب الشيعة في العراق إزاء الطبقة السياسية بعد ان حرمتهم من أبسط حقوقهم الإنسانية، وهنا، سأستثني من هذا الشعور باليأس الشيعة من غير العرب، إذ ليست هناك مؤشرات على ان هؤلاء يتشاركون الشيعة العرب اصرارهم على ان يخرج العراق من تحت النفوذ الإيراني.
عام 1991انفردت المدن ذات الأغلبية العربية السنية (الموصل، صلاح الدين، ديالى، الأنبار) باتخاذ موقف سلبي تجاه أحداث التمرد التي عاشتها مدن وسط وجنوب العراق ذات الأغلبية الشيعية، وكانت تستهدف النظام السياسي القائم آنذاك، وقد صاحبت تلك الأحداث صور عنيفة ووحشية خلفت ورائها خسائر كبيرة في الأرواح. وقد جاء ذاك الموقف المتمرد على السلطة من قبل شيعة الجنوب والوسط في أعقاب الانسحاب غير المنظم للجيش العراقي من الكويت بعد ان كان قد احتلها عام 1990. تلك الأحداث نستعيدها ونحن نتابع ما يجري هذه الأيام في محاولة عقد مقارنة بين الأمس واليوم بعد ان لاحظنا ان المدن ذات الأغلبية العربية السنية قد اتخذت موقفا سلبيا ازاء ما يجري من تظاهرات في مدن الوسط والجنوب العراقي كما كان عليه موقفها عام 1991.
بين تاريخين متباعدين ومختلفين من حيث الزمن 1991 و2018 ربما سيجد المتابع للأحداث أن تكرار الموقف السلبي ذاته من قبل سكان المدن ذات الأغلبية العربية السنية ازاء تظاهرات الشيعة في هذين التاريخين يعكس حقيقة التباين والتضاد في المواقف بينهما، بغض النظر عن هوية النظام القائم والأسباب التي تدعو للتمرد عليه، وأن الخلاف بينهما ليس مقصورا على تحديد رؤية هلال عيد الفطر. عام 1991 كان النظام هويته سنية المذهب، رغم حرصه على ان يسبغ صفة العلمانية على مظهره وتشريعاته وقراراته، بينما عام 2018 كانت قد أصبحت هوية النظام السياسي شيعية المذهب وبدا واضحا اصراره على ان يستبعد صفة العلمانية عن مجمل التشريعات والقرارات التي أقرها، وإقراره «القانون الجعفري» الذي يتيح للرجل الزواج بطفلة عمرها تسعة أعوام مثال على ذلك.
في كلا التظاهرتين افترق السنة والشيعة عن بعضهما، ولم يصطفا في موقف واحد ازاء النظام السياسي القائم، رغم توفر عديد الأسباب الموضوعية في كلا التاريخين للتمرد ضده وبما يفرض عليهما ان يكونا معا في مواجهته، لكنهما لم يُقدِما على أي خطوة بهذا المسار لردم الهوة بينهما، وكأن الإقدام على مثل هذه الخطوة يعني خيانة للمذهب حتى لو انها أفضت إلى نتائج ايجابية تصب في مصلحتيهما معا خاصة إذا كسرت شوكة السلطة وحدت من انتهاكاتها ضد المواطنين. والسؤال الذي يطرح في هذا السياق: هل التفارق يعكس اشكالية العلاقة بين الاثنين، وأن من الصعب ان تصل في يوم ما إلى حالة من التصالح أو التوافق؟

أسباب الصمت

العرب السنة في العراق عام 1991 كان لديهم من الأسباب ما يجعلهم يلتزمون الصمت ولا يشاركون الشيعة تمردهم، ربما في مقدمتها ان إيران كانت تقف خلف ما يجري من أحداث عبر دعمها ومساندتها لعناصر تنتمي لحزب الدعوة ومنظمة بدر التابعة للمجلس الأعلى الإسلامي كانت تقود التمرد آنذاك بهدف الانتقام من نظام البعث الذي سبق ان واجه نظام الخميني في حرب ضروس لمدة ثمانية أعوام (1980-1988) وأجبره بالتالي على القبول بالهزيمة كما لو انه يتجرع السم حسب ما عبر عنه الخميني في حينها وهو يعلن الرضوخ وايقاف القتال. ولكن في تظاهرات اليوم، ما الذي يمنع العرب السنة من ان يكونوا مع شيعة الوسط والجنوب في تظاهراتهم، خاصة وان مطالب المتظاهرين تعبر عن احتياجات العراقيين جميعا إلى الخدمات الأساسية، والأهم من ذلك لم يرفعوا شعارات مذهبية أو أي صورة من صور التأييد لإيران المتورطة من رأسها إلى أخمص قدميها بدعم ومساندة الأحزاب والميليشيات الطائفية التي بددت ثروات العراق وسحقت شعبه ودمرت مدنه خاصة التي يسكنها العرب السنة، بل العكس من ذلك عبّر المتظاهرون عن سخطهم ورفضهم الشديد لهيمنة إيران على العراق، حيث رددوا الشعار الذي يطالبها بالخروج من العراق «إيران برّه برّه وبغداد تبقى حرة» كما أحرقوا ومزقوا صور الخميني وخامنئي التي سبق ان رفعتها الميليشيات على أبواب مقراتها وفي الساحات العامة، وهذا ما وضع كافة الجوقة التي تعزف على النغم الإيراني في موقف لا تحسد عليه بعد ان جوبهت بالدليل القاطع الذي يؤكد عزلتها المطلقة عن المزاج الشيعي العام. فما كان منها لكي تعالج هذا المأزق إلاّ ان تطلق تهمة جاهزة باتت مستهلكة حيث أشاعت عبر أبواقها الالكترونية ان جماعات مندسة تابعة لحزب البعث من أبناء الأنبار والموصل كانت قد تسللت بين جموع المتظاهرين هي المسؤولة عن حرق صور خميني وخامنئي ومقرات حزب الدعوة والميليشيات، وان ضباطا في الجيش العراقي من الموصل والأنبار وصلاح الدين هم الذين أطلقوا الرصاص على المتظاهرين، وكأنها بذلك تريد ان تؤكد للآخرين ان العرب الشيعة في العراق أبعد ما يكونون عن رفضهم لإيران وان ولاءهم سيبقى مهما ساءت أوضاعهم وتبددت ثروات بلادهم واهدر دم أبنائهم في حروب خارجية مشبوهة، وهذا خلاف للوقائع التي كشفتها التظاهرات. وبعد ان دخلت اسبوعها الثالث اتسعت رقعتها واصطبغت بطابع دراماتيكي عندما وصل عدد الذين سقطوا من بين المتظاهرين برصاص الميليشيات وقوات الأمن والجيش ومكافحة الإرهاب إلى أكثر من 16 قتيلا، وبما يزيد على 200 جريح، لذا بات من غير الممكن التكهن بما ستفضي إليه من تداعيات ونتائج.

القسوة مع الجميع

سيكون من الصعب على العرب السنة نسيان التجربة القاسية التي مروا بها خلال الأعوام الماضية عندما تمت شيطنتهم من قبل السلطة في بغداد، والصقت بهم تهمة الانتماء لتنظيم «داعش» ومساندته وانهم حاضنة للتطرف والإرهاب، وما يؤسف له ان تنخرط جماهير واسعة محسوبة على الوسط الشيعي بهذه الأجندة التسقيطية وباتت ترددها باعتبارها حقائق لا تقبل الجدل فكان من نتائجها الكارثية ان الاعتصامات عام 2013 في المدن ذات الأغلبية العربية السنية والتي استمرت سلمية لمدة عام كامل تم التعامل معها من قبل الأجهزة الأمنية والعسكرية الحكومية بكل قسوة ووحشية بذريعة وجود عناصر داعشية بين المعتصمين. فلا غرابة من سلطة لا تترد في استعمال القسوة مع أبناء طائفتها وتقتلهم بدم بارد إذا ما رفعوا الصوت بوجهها احتجاجا على فسادها.

معايير مزدوجة

في كل ما وقع من ظلم على المدن ذات الأغلبية العربية من قبل السلطة في بغداد بهدف اخضاعها لم يتبلور في بقية مناطق العراق الأخرى التي تسكنها أغلبية شيعية أي موقف شعبي يرغم السلطة على ان تكف وترتدع عن الاستمرار في موقفها الطائفي والعنيف ازاء سكان هذه المدن، بل على العكس كان هناك صمت مريب يمكن للمراقب ان يفسره بالموافقة على كل ما يصدر عن السلطة من إجراءات قمعية. وبعد ان انسحب الجيش العراقي والقوات الأمنية من مدينة الموصل وتركوها هي وأهلها فريسة سهلة لتنظيم «داعش» الإرهابي في حزيران/يونيو 2014 شعر العرب السنة بالخذلان، وتعمق هذا الشعور بعد ان سحقت العديد من مدنهم أثناء عمليات تحريرها واختفى أكثر من خمسة آلاف من أبنائها بعد ان تم اعتقالهم من قبل القوات الأمنية وميليشيات الحشد بهدف التحقيق معهم، في المقابل تم تفادي هذا التدمير مع مدن أخرى مثل تلعفر لدواعي طائفية، حيث سمح لعناصر «داعش» بالخروج منها دون قتال بينما كان هناك اصرار على احكام الحصار واستعمال كافة الأسلحة مع المدن الأخرى.
لا يمكن تجاهل تداعيات كل هذه الأحداث وما خلفته من أثر نفسي سيء على العرب السنة وسيكون من الصعب زواله مع بقاء الأسباب التي أدت إلى تكوينه والمتمثلة بالسياسات الطائفية وازدواجية المعايير في التعامل مع احتياجات ومطالب العراقيين وفقا لانتماءاتهم المذهبية، وهذا ما يبدو واضحا في موقف الحكومة العراقية بعد تظاهرات البصرة الأخيرة حيث استجاب رئيس الوزراء حيدر العبادي لمطالب المتظاهرين وأوعز بتخصيص 3 مليار دولار لتلبية احتياجات المحافظة ووعد بتوفير عشرة آلاف وظيفة، وحتى لو افترضنا ان كل ما وعد به العبادي لن يخرج عن إطار الوعود الكاذبة، ومحاولة لامتصاص الغضب الجماهيري والحد من توسع رقعة التظاهرات وتطورها إلى ما هو أخطر، إلاّ اننا لم نجد موقفا مشابها من قبل الحكومة العراقية لتلبية احتياجات سكان المدن العراقية المنكوبة، مثل مدينة الموصل القديمة التي تعرضت بنيتها التحتية إلى التدمير التام وبنسبة تصل إلى أكثر من 80 في المئة حيث تعد صالحة للعيش. ورغم مضي عام على تحريرها إلا انها لم تشهد أي بادرة من قبل الحكومة العراقية لإعادة إعمارها. 
التجاهل المتعمد ازاء معاناة سكان المدن المنكوبة ذات الأغلبية العربية السنية من قبل بغداد سيفضي بهم بطبيعة الحال إلى ان يتخذوا موقفا سلبيا ازاء ما يجري من تظاهرات في مدن وسط وجنوب العراق وأي مدينة أخرى .

 

الانتخابات العراقية ورحلة الارتداد

من قيم المدينة إلى قيم العشيرة

مروان ياسين الدليمي

 

خمسة عشر عاما انحرفت فيها بوصلة الوعي لتقود طيفا واسعا من المجتمع العراقي إلى زمن معتم كانوا قد غادروه منذ عقود، بجهود العلماء والمفكرين والجامعات والمثقفين، واليوم يعود هذا المجتمع إلى نقطة الصفر، والمؤلم أن يصطف في مقدمة طابور العودة أطباء ومدرسون ومهندسون، ربما لن نجد مثل هذا الانحراف في الوعي لدى مجتمعات أخرى، وإن وجد لن يكون على هذه الصورة. 
كنَّا ولعقود مضت قد تخلصنا من أغلب قيود العشيرة حتى أصبح المجتمع القبلي يطمح إلى أن يصبح أبناؤه مثل أولاد المدينة، بعقليتهم وطموحهم، وحضورهم الاجتماعي والعلمي والمعرفي، وحتى في مظهرهم، أما اليوم فقد اختلفت الصورة فأصبحت معكوسة، فابناء المدينة صار همهم أن يعودوا إلى حضن القبيلة لكي ترضى عنهم ويحصلوا على دعمها وصوتها، لأنها صارت بيضة القبّان، فهي التي تقرر من يحكم المدينة، ويدير شؤونها، وهي التي ترسم صورتها، وايقاعها، وشكلها وهندامها ولغتها وأغانيها وأشعارها.
لم يعد لصوت المدينة الجميل بهارمونيته أي تأثير امام صوت العشيرة، إنها صورة العراق الجديد، كما تبدو اليوم من خلال حملة المرشحين إلى الدورة البرلمانية المقبلة، التي من المقرر انطلاقها في الثاني عشر من هذا الشهر، وإذا ما دققنا في جولاتهم وحملاتهم الانتخابية لوجدنا أن جميعهم كانوا حريصين على أن يلتقطوا صورا مع ابناء عشيرتهم ليؤكدوا على مصدر قوتهم. أي انتخابات إذا ما شابها الاعوجاج، وانحرفت عن المسار الشفاف الذي ينبغي أن تسير عليه فهذا يعني أن فرصة الأغبياء والحمقى والانتهازيين واللصوص، وكل هذه الجوقة التي عادة ما تنتعش في الزمن الذي تغيب عنه العدالة ستصل إلى ما تبتغيه من دون شك، لأن المال والرشى سيلعبان دورهما، ومن لديه الاستعداد أن يلعب وفق هذه القواعد المشبوهة سيصل. والانتخابات البرلمانية في العراق منذ ألأول دورة عام 2005 سقطت من ميزان العدالة، والأصح تم تسقيطها، لتتقاذفها مصالح وصفقات اللاعبين الكبار، ومع مرور الاعوام ازدادت أذرع هؤلاء اللاعبين وتمددت هنا وهناك، مع توسع العائدات المالية التي باتوا يجنونها من صفقاتهم و»كومشناتهم»، كما أقرّت بذلك النائبة حنان الفتلاوي صراحة في إحدى الندوات التلفزيونية ،وكذلك النائب مشعان الجبوري في أكثر من حوار متلفز أجري معه، وعلى الوزن نفسه قالها النائب حيدر الملا وآخرون غيرهم. 
اليوم بات من الصعب على من يريد الإصلاح أن يصل إلى قبة البرلمان، لأن التماسيح الكبيرة قد تضخمت حد التورم من كثرة ما ابتلعت، ولأنها طامحة إلى أن تبتلع كل شيء أمامها، فهذا النائب لم يعد مكتفيا بأن يكون عضوا في البرلمان، بل دفع بابنه وابنته، وآخر دفع بنسيبه وشقيقه وابن عمه، وآخر دفع بزوجته، وآخر دفع بشقيقته. بمعنى أن شبكة الفساد باتت تنحصر في دائرة مغلقة على عوائل بعينها، تستحوذ على المقاعد ومنها تستحوذ على المناصب الحكومية، فالبيت الفلاني، على سبيل المثال لو تتبعتهم وأحصيت عدد الذين يتولون مناصب عليا في الدولة ستجدهم في كل مكان، في البرلمان وفي المخابرات وفي السفارات وفي البنوك، وهكذا بقية العوائل، والسبب غياب العدالة، وغيابها حرم أصحاب الخبرة والكفاءة من أن يأخذوا فرصتهم، وبذلك منح السادة النواب والمسؤولون الكبار هذه الفرصة لذوي القربى، طالما الأقربون أولى بالمعروف. 
إذا غابت العدالة في أي قضية فإن النتيجة ستكون الفوضى ويختلط الأخضر بسعر اليابس، ويصبح الحرام حلالا، والحلال حراما، والحرامي بَطلا وطنيا، والمقاتل دفاعا عن الحق كائنا منبوذا، لأن العدالة ميزان يفرز الغث من السّمين، ويعطي كل ذي حق حقه، وإن غابت العدالة أو غُيّبت، سيصبح الأحمق فيلسوفا ينظِّرُ للناس كيف يعيشون وكيف يتصرفون، ويسمح لنفسه بأن يمشي مرفوع الرأس بينهم. هو يهذي بتفاهاته ومقتنع أشد الاقتناع بان ما يقوله عبارة عن حِكَم، ولن يظن نفسه أنه احمق، بل على العكس سيجد في ذاته صورة للفاهم و(الفهلوي ) حسب لهجة اخواننا المصريين.
الدولة العراقية تدار اليوم بعقلية العشيرة، لا بعقلية رجال الدولة، خذ مثلا معظم المرشحين تجدهم اليوم يلتقون بعشائرهم، ويعتمدون عليها في التصويت وهم ضامنون أنها ستصوت لهم وحدهم، حتى لو كان المرشح غير مؤهل لأن يكون نائبا في البرلمان، ويدرك المرشحون أنهم لن يحصلوا على الاصوات التي يريدونها للفوز اذا ما اعتمدوا على الناس في المدينة التي يسكنونها، لان ابن المدينة ليس مضمونا ولاؤه العشائري، ومن المحتمل أنه سيصوت وفقا لقناعاته الشخصية لا وفقا لانتمائه العشائري، ولهذا عاد كل المرشحين إلى عشائريتهم ورموا خلف ظهورهم البرامج الانتخابية والقناعات الوطنية والأفكار المدنية، بمن فيهم من يحمل شهادة جامعية عليا. كلهم عادوا إلى القرية والمضيف والخيمة لينتخوا القبلية ويرفعوا من شأنها على حساب انتمائهم للبلد وقيم المدينة.
من يؤمن بأهمية الانتماء القبلي ويقدمه على بقية الثوابت الوطنية والإنسانية والأيديولوجية ليس مهما بالنسبة له ماذا يحمل المرشح في جعبته من أفكار وبرامج، فالمهم بالنسبة له أن يكون من عشيرته، وهذا يكفي لكي يختاره ويصطف إلى جانبه حتى لو كان صورة عن الشيطان، مفضلا إياه على عشرات الملائكة. واضح أننا عدنا إلى الوراء مئة عام خلال الخمس عشرة سنة التي مضت من هذه التجربة السياسية، حيث تخلينا فيها عن القليل من المدنيّة التي كانت قد تحققت من عمر الدولة العراقية، ودائما ما نجد على الفيسبوك صورا يضعها البعض من رواده، منها ما تعود إلى فترة العهد الملكي ويضع مقابلها صورا تعود إلى ما بعد عام 2003 على سبيل عقد مقارنة، على الأقل من حيث المظهر، ما بين الحاضر والامس البعيد، فالمرأة التي كان حضورها يعكس تحضرها ومدنيتها في الاسواق، باتت اليوم كتلة ملفعة بالسواد، إنها مفارقة غريبة أن نرتد بوعينا إلى الخلف، وأن تنتكس قيم المدينة وتنكسر أمام قيم العشيرة.
لن تنتخب العشيرة إلاّ من كان منها، لانه سيخدمها هي فقط، ولو اجتمعت أصوات العراقيين لتؤكد على أن من اختارته العشيرة غارق في الفساد فلن تتراجع عن خيارها، فليس مهما بالنسبة لها إن كان فاسدا في نظر الاخرين، المهم أنه لن يتردد في تحقيق مصالحها، ويرسي المناقصات والمقاولات والمشاريع الحكومية على زعمائها، وليس مهما إذا ما كان مشبوها أو مختلسا للمال العام، انها قيم الانانية التي عادة ما تتواجد في التفكير القبلي، فالعدالة إذا غابت اختلط الزمن، فيصبح الماضي البعيد هو الحاضر، أما المستقبل فسيكون على صورة الحاضر الذي شكّله الماضي البعيد، ويعني أن الجهلة واللصوص سيصبحون أسيادا بينما الكفاءات العلمية والفكرية ستبحث عن العدالة في بلاد أخرى. 
كاتب عراقي

 

 

يردلي سمرا قتلتيني

مروان ياسين الدليمي

 

الموصل القديمة كانت بمثابة المعادل المعماري بمحمولاته الثقافية والاجتماعية لاغنية (يردلي ) التي تختزن في كلماتها ولحنها حقيقة اهل الموصل بهويتهم الانسانية،بكامل ملامحهم وخصوصيتهم المحلية المتفردة.

يردلي حفظتها الأجيال منذ عشرات السنين ،لااحد يعرف من كتب الكلمات ومن لحنها ،بل لااحد يهمه أن يعرف ذلك لأن الاغنية كانت قد تغلغلت في الوجدان الجمعي ،ومن خلالها كان الموصليون يحكون ودون ان يقصدوا ذلك قصة وجودهم ورحلة كفاحهم على هذه الأرض ، فكانت نشيد فرحهم مع كل الأزمنة التي مرت عليهم ، ولم يملوا ابدا من غنائها ،رجالا ونساء وشبابا واطفال .

كان في هذه الأغنية سحر خاص يرتبط بازقتها وربيعها وتجارتها مع مدينتي حلب وما ردين، فإذا بتاثيره يسري على الحاضرين دون استثناء، كما لوانه عطر فواح لايقاوم حيث كانت الاجواء تلتهب حماسة لامثيل لها ماأن يبدأوا بغنائها ، فإذا بالجميع يندفع الى الرقص ومن اسطح البيوت والشبابيك المطلة على فناء الدار تتعالى زغاريد النساء . كانت الاغنية تبعث في دواخل المحتفلين مزيجا من مشاعر الفرح واللوعة والحب فتتوقد فيهم طاقة عاطفية تزيدهم اصرارا على ان لايغادروا الموصل جنة العشق .

ثم جاءت اللحظة المشؤومة التي انتزعت فيها الحناجر ولم تعد تقوى على الغناء من بعد ان تم تدمير المدينة القديمة بشكل ممنهج ومبيت ،فدفنت يردلي تحت إنقاضها، ولم يعد هناك مدينة اسمها الموصل .

إذا ماأراد الموصليون ان يستعيدوا هويتهم يتوجب عليهم:

١- ان يعلنوا عن تأسيس حملة دولية لانتشال الجثث المدفونة تحت الانقاض (علما بأن اعدادهم تقدر بالعشرات ).

٢- إعادة بناء المدينة القديمة من جديد بنفس الطراز المعماري الذي كانت عليه .

٣- عليهم أن يدركوا جيدا غياب النية الحقيقية لاية جهة حكومية للقيام بهذه المهام ،لا لشيء إلا لأن جميع المسؤولين الحكوميين مجرد مخلوقات تعرف كيف تنهب وتدمر وليس من مسؤولياتها الموكلة إليها البناء والتعمير.

لا سبيل لاعادة الروح الى جسد الموصل المثخن بالجراح إلا بمخاطبة الضمير الإنساني العالمي بمنظماته ومؤسساته الثقافية التي تعرف تمام المعرفة قيمة هذا الإرث الإنساني وكيفية اعادة الحياة إليه ،بمعنى تدويل قضية الموصل القديمة انسانيا وثقافيا .

ويردلي يردلي سمرا قتلتيني

حفلة تنكرية

كروش المنطقة الخضراء لا يحق

لها الحديث عن وطنية عراقية.

مروان ياسين الدليمي

الحرص المبالغ به في إصدار قرارات ضد استفتاء اقليم كردستان من قبل سلطة المنطقة الخضراء يتناقض مع حالة الاستخفاف والاستهزاء التي ما انفكت تعبر عنها ازاء كل الاصوات المنادية بمحاسبة الفاسدين والمتورطين في تدمير البلاد وفي مقدمتهم المالكي وبقية المسؤولين عن سقوط الموصل.

هذه الازدواجية تجعلنا نشكك في مصداقية ما تدعيه في انها حريصة على وحدة وثروات العراق عندما ترفض استفتاء اقليم كردستان الذي لم يكن حدثا مفاجئا لها وكانت على علم تام به وبتفاصيله، بل يشير تصاعد هذه المواقف إلى أن هناك نوايا من قبل اللاعبين الأساسيين في بغداد ازاء موضوع استفتاء اقليم كردستان لا علاقة له بموضوعة الحرص على وحدة العراق واحترام الشراكة الوطنية.

ولعل ما يثير السخرية والغرابة ان تنتفخ كروش ساسة المنطقة الخضراء هذه الايام بمشاعر وطنية ملتهبة حبا بالعراق وخارطة العراق وشعب العراق ومستقبل العراق، من بعد أن باتت البلاد طيلة الاعوام الاربعة عشر الماضية مباحة لكل اللصوص والمجرمين والمرتزقة وامست كثير من مدنها خرائب ينعق في زواياها البوم وترقد تحت انقاضها مئات الجثث من المدنيين الابرياء، ومن بعد أن أهدر المالكي خلال فترة حكمه اكثر من 800 مليار دولار هي مجموع ميزانيات الحكومة العراقية من غير ان يبني مستوصفا واحدا، حتى اصبح العراق يتصدر سنويا قائمة الدول الاكثر فسادا في العالم!

إن ألاصوات التي كانت الأشد تطرفا في المشهد السياسي ودائما ما كانت تنادي علنا ودونما خجل بنظريتها الطائفية 7x7 كيف لنا أن نقتنع بان مقياس الوطنية لديها من الممكن ان يرتفع فجأة الى مديات عليا ربما لا يصلها الا من كانوا ثوارا لم تتلوث ايديهم بسرقة المال العام؟

كيف لنا أن نثق بوطنية يدعيها من سلم نصف البلاد لتنظيم داعش الارهابي؟

انا شخصيا لن تخدعني حفلة التهريج التي تجري هذه الايام تحت عنوان رفض الاستفتاء التي يقودها معظم الطاقم الذي تورط حتى قمة راسه في دفع البلاد الى الجحيم.

ولهذا لن انساق الى ما يذهب اليه دعاة هذه الحفلة التنكرية ولن اصغي للاصوات النشاز الصادرة عنها، وسأكتفي بدور المراقب، ملتزما الصمت بارادتي الشخصية وليس خضوعا لارادة من كان يسعى دائما ان يرغم الاخرين على التزام الصمت باعتبارهم مواطنين من الدرجة الثانية.

 

المخدوعون

مروان ياسين الدليمي

 

ليس لدي ادنى شعور بأني كنت مخدوعا في هذه الحرب المزعومة على الدواعش ، ولكني ارثي حال البسطاء من عوام العراقيين الذين انساقوا اليها تحت ادخنة شعاراتها التي اعمت بصيرتهم وجعلتهم لايدركون ان من يقودهم لايقل وحشية عن عدوهم،ولربما اشد قسوة وغلاظة منه ولن يتردد في ان يبيعهم في لحظة ما ــ جُملة وتفسيخا ــ كما لو انهم ليسوا من ابناء جلدته ولاطائفته كما يدعي ويزعم إذا مااقتضت مصلحته ذلك.
الغريب ان هؤلاء الذين يشعرون في هذه اللحظات بأنهم قد خدعوا من قادتهم ومرجعياتهم مازالوا يخدعون انفسهم ولايقرون بأنهم قد خدعوا،ولديهم الاستعداد لأن يقبّلوا اليد التي خدعتهم ودفعتهم الى ان يذهبوا بإرادتهم الى محرقة الخديعة ،ومازالوا يثرثرون بحجج واهية مخجلة لكي لايعترفوا بأنهم قد خدعوا .
عندما توعد قيس الخزعلي زعيم ميليشيا مايدعى بعصائب اهل الحق بالثار من قتلة الحسين في الموصل قبل بدء معركة تحريرها من الدواعش ، كان يمارس فعل الخديعة على اتباعه الذين غُيّبت عقولهم في مستنقع الطائفية،وكان يعلم جيدا بأن الآخرين ليسوا بمغفلين،لكي تنطلي عليهم لعبته وتلاعبه بالالفاظ ،وفهموا جيدا ان ماكان يقصده بالثأر من قتلة الحسين ماهو إلاّ تدمير الموصل واستباحة دماء المسلمين السنة من اهلها ليس لانهم احفاد من كانوا مسؤولين عن قتل الحسين كما زعَم وادّعى في كلمته الشهيرة بهذا الخصوص، انما لانه كان تابعا ذليلا لطهران ينفذ حرفيا ماكانت تأمره به والتي لم تتردد في اختلاق الاكاذيب والاوهام لاجل ان تنتقم من الذين كانوا سببا في هزيمة احلامها باحتلال العراق في ثمانينات القرن الماضي،وحتى بعد ان افتضح ماكان يقصده الخزعلي وتعالت الاصوات منددة بما فاح من لسانه من قيح طائفي لم يفلح في التوضيح الذي اعلنه في ما بعد لتبديد تلك المخاوف.
ثم جرى ماجرى في الموصل القديمة من عمليات تدمير وقتل وحشية للمدنيين بفعل المدفعية والصواريخ التي كانت تطلقها القوات العراقية وتحديدا الشرطة الاتحادية ،وليس خافيا على من يتابع مجريات المشهد العراقي ان هذه القوات قد انحشرت فيها عناصر ميليشيا عصائب اهل الحق وفصائل اخرى لاتقل عنها تطرفا وتبعية لإيران تجاوزا للقرار الذي تم الاتفاق عليه مابين الحكومة العراقية والاميركية بمنع مشاركة فصائل الحشد الشعبي في معركة الموصل نظرا لحساسيتها من الناحية المذهبية.وفي مرحلة متاخرة من المعركة جاء طرد( حيدر الطليباوي)احد العناصر القيادية في ميليشيا العصائب من قبل الجنرال عبد الامير يار الله شخصيا قائد عمليات قادمون يانينوى بعد ان اوغل الطليباوي في تطرفه ووحشيته وهو يصدر الاوامر التي يوعز فيها بقصف المدينة بالصواريخ وقذائف المدفعية الثقيلة مما تسبب في سقوط عشرات القتلى بين صفوف المدنيين واحداث ضرر كبير في ابنية ومنشاءات المدينة الحيوية من غير ان يكون هنالك اسباب موجبة تقتضي هذا العنف المفرط خاصة وان عناصر داعش كانوا اعدادا قليلة جدا بالقياس الى المساحة الواسعة من الاحياء السكنية التي كانوا يتواجدون فيها.
وعلى عكس ما كان عليه قادة اجهزة مكافحة الارهاب من انضباط وحرص على حياة المدنيين بالشكل الذي قدموا فيه نموذجا عاليا من العسكرية العراقية التي تستحق الفخر بها وبجميع عناصرها كان قائد الشرطة الاتحادية الرائد شاكر جودت يتصرف بعنجهية واضحة كما لوانه ليس معنيا بأوامر وتعليمات القيادة العسكرية التي تدير المعركة انما ينفذ ماجاء على لسان زعيم ميلشيا العصائب قيس الخزعلي بالثأر من احفاد قتلة الحسين في الموصل، فتمادى كثيرا في قصف احياء المدينة القديمة بالصواريخ وقذائف الهاون والمدفعية الثقيلة طيلة ايام المعركة دون توقف حتى احالها على الصورة المرعبة التي بدت عليها ،وهناك شريط فديو موجود على شبكة الانترنت في موقع اليوتب يظهر فيه شاكر جودت وهو يتحدث الى عدد من الجرحى من افراد الشرطة الاتحادية اثناء زيارته لهم في المستشفى ويوعدهم بأن الموصل ستصبح حالها حال الفلوجة والرمادي وبيجي،بمعنى انه سيحيلها الى خراب كما حصل في تلك المدن .
الميليشيات المرتبطة بطهران مثل العصائب ومن ارتبط معها من الضباط والعناصر في الاجهزة الامنية والعسكرية مثل قائد الشرطة الاتحادية شاكر جودت كانوا قد اغلقوا اية خيارات ممكنة لتجنيب مدينة الموصل خسائر فادحة في الارواح والابنية والمنشاءات ومن ضمن ذلك فتح ممرات لكي يهرب من خلالها عناصر داعش باتجاه الصحراء ومن ثم اصطيادهم بالطائرات حتى ان حسن نصرالله زعيم حزب الله اللبناني كان قد انتقد وبشدة في احدى خطاباته المتلفزة الاميركان والحكومة العراقية لانهم سمحوا لعناصر تنظيم الخلافة بالهرب من الفلوجة والرمادي وحذرهم من مغبة تكرار ذلك في معركة الموصل واعتبر من يقدم على ذلك سيكون مجرما وارهابيا ، وعلى مايبدو فإن عناصر الحشد وخاصة العصائب الذين شكلوا الجسد الاكبر لقوات الشرطة الاتحادية قد التزموا بهذا التحذير واعتبروه امرا مُلزما يجب اطاعته وتنفيذه.بذلك تتحمل هذه القوات وفي مقدمتها الرائد شاكر جودت الجزء الاكبر من المسؤولية عن كل ماجرى في الموصل القديمة من تدمير وابادة ممنهجة طالما لم يضعوا في اولويات حساباتهم حياة المئات من المدنيين العزل المحاصرين بينما في المقابل لم يلتزم حسن نصر نفسه بما كان قد اطلقه من تحذير بمنع هروب عناصر داعش وسمح لهم بالهرب من المناطق التي كانوا محاصرين فيها في جرود عرسال التي تخلوا اساسا من السكان لانها جرود موحشة لاتصلح للعيش،ولم يكتف بذلك انما جهز لهم باصات مريحة لتنقلهم مع عوائلهم معززين مكرمين الى مدينة البوكمال عند الحدود السورية العراقية .
لم يعد هنالك من مجال للشك في ان المليشيات العراقية المرتبطة بطهران قد وضعت مصلحة العراق وشعب العراق في اخر سلم اولوياتها،وهذا ينسجم تماما مع موقف قادتها التقليديين عندما اختاروا الدفاع عن نظام طهران في الحرب العراقية الايرانية (1980 – 1988 ) في مقابل القتال ضد جيش بلدهم العراق .

 

 

دَعشَنةُ العَرب

السنَّة فِي الموصِل

مروان ياسين الدليمي

 

العرب السنّة في الموصل على وجه الخصوص أصبحوا في وضع لا يحسدون عليه طالما بات ينظر اليهم من قِبل بقية مكونات المجتمع العراقي على أنهم حواضن للمتطرفين والتكفريين والإرهابيين، ولم يعد أمرا غريبا ولامستهجنا أن تنهال عليهم في مواقع التواصل الاجتماعي الشتائم البذيئة التي يُقذف بها عناصر تنظيم الدولة بهدف النيل من كرامتهم الوطنية وهويتهم المذهبية والقومية.
في هذه الهجمة المستعرة لم يعد هناك من تمييز يفرزهم بمسافة بعيدة عن الدواعش، وبات أمرا طبيعيا أن يوصفوا أنهم وحوش ومتخلفون لا يعرفون معنى الشرف ولا الغيرة على عرضهم طالما أن مدنهم خضعت لسلطة تنظيم دولة الخلافة الإسلامية.

بداية الحملة

هذه الحملة الإعلامية المنظمة فرضت حضورها اليومي منذ أن سقطت محافظة نينوى تحت سلطة تنظيم الخلافة عام 2014 وتحديدا ما إن بدأت سياسة تهجير المسيحيين من الموصل وقتل الإيزيديين وسبي نسائهم في قضاء سنجار والقرى المحيطة به من قبل عناصر تنظيم الخلافة .
خلال الأعوام التي سيطر فيها التنظيم على محافظة نينوى تصاعدت وتيرة هذه الحملة الإعلامية يوما بعد آخر وانتظم في صفوفها طيف واسع جدا من العراقيين بمختلف انتماءاتهم الدينية والقومية وكلما ارتكب الدواعش جريمة ارتفعت وتيرة الشتائم واتسعت قاعدة الشاتمين وتعمقت مشاعرالكراهية ضدهم .
بدا واضحا أن هذه الحملة قد خرجت عن كونها مجرد رد فعل عفوي ازاء ما يرتكبه تنظيم (الدولة) من انتهاكات وجرائم بشعة بحق الأقليات وأتباع الديانات التي تدين بغير الإسلام، خاصة وأنها تبلورت واتخذت شكلا ممنهجا ومؤطرا في جيش الكتروني شبحي اصطف في صفحات ومواقع الكترونية، ويمكن ملاحظة ذلك في نمط محدد من العبارات والردود التي باتت تتكرر على ألسِنة رواد مواقع التواصل الاجتماعي، ويشير تكرارها على أنها بمثابة أجندة صادرة من جهات سياسية تتولى توجيه وقيادة جيش من الشاتمين الشامتين بتكرار استعمالها، وبطبيعة الحال فإن مثل هذا الوضع في المقابل لابد أن يثير قدرا من الريبة إزاء من يرددها في اللحظة التي تجده يعبر عن سخطه ضد همجية الدواعش طالما كان رد الفعل الجمعي المشخَّص في عبارات الشتم والشماتة يتعمّد عدم التفريق ما بين تنظيم الدولة وعموم العرب السنة ويضع كليهما في سلة واحدة، بمعنى أن وراء ذلك تختفي عملية ممنهجة لخلط الأوراق بهدف شيطنتهم وتجريمهم وتحميلهم المسؤولية مناصفة مع عناصر تنظيم دولة الخلافة عن كل الجرائم التي ارتكبت بحق بقية مكونات المجتمع.
وفق هذا السياق تمت عملية تزييف وتغييب للحقائق مع أن كثيرا منها موثق بالصوت والصورة بما يؤكد على أن العرب السنة قد دفعوا الثمن الأكبر قبل غيرهم في المدن التي سيطر عليها التنظيم والتي يشكلون فيها أغلبية سكانية كما هي مدينة الموصل نتيجة ما ارتكبه الدواعش بحقهم من جرائم بعضها يرتقي إلى مستوى الإبادة الجماعية، فعلى سبيل المثال في عام 2015 أقدم تنظيم دولة الخلافة في يوم واحد فقط على إعدام 2071 عربيا سنيّا من سكان الموصل، وكانت التهمة الموجهة إليهم هي التخابر مع القوات الأمنية الحكومية العراقية، وقد علق التنظيم قائمة باسمائهم على بوابة مبنى الطب العدلي الكائن في حي الشفاء الواقع في الجانب الأيمن من المدينة ولم يتم تسليم جثثهم إلى ذويهم وفي حينها اشارت التقارير الاستخباراتية إلى أن جثث المعدومين تم القاؤها في حفرة عميقة تقع خارج المدينة تم الوصول اليها فيما بعد وتصويرها من قبل القنوات الفضائية والطواقم الصحافية بعد تحرير الموصل.

التَّشفي من الضحايا

بلغت حملة دعشنة العرب السنة ذروتها مع بدء عمليات تحرير مدينة الموصل وتقدم القوات العراقية الحكومية وسيطرتها على مجريات المعركة وتحريرها للأحياء السكنية خاصة في الجانب الغربي حيث يشكل العرب السنة معظم سكانه. في هذه الحملة الإعلامية تجلت نبرة التّشفي إزاء ما يسقط من قتلى بين صفوف المدنيين نتيجة القصف المدفعي والصاروخي وقصف الطيران العراقي والتحالف الدولي هذا اضافة إلى تدمير البنى التحتية من جسور ومستشفيات وبنوك ومدارس ومبان حكومية ومساجد ودور عبادة.
من خلال حملة دعشنة عرب الموصل والتشفي بمآسيهم توحدت تعليقات عدد كبير من رواد مواقع التواصل الاجتماعي سواء بشكل فردي او من خلال جماعات منتظمة ولعل تدمير جامع النوري ومنارته الشهيرة الحدباء أبرز مثال على ذلك.
هذه الظاهرة الإعلامية كشفت عن نفسها بشكل صارخ في مواقع التواصل الاجتماعي بشكل أكبر من بقية القنوات الإعلامية الأخرى وذلك لسهولة استخدامها من قبل اي شخص لمجرد امتلاكه هاتفا ذكيا، وتستدعي هذه الظاهرة التساؤل عن الابعاد الاستراتيجية التي تختفي وراءها.

سقوط إعلامي

في كل الأحوال نجد أن الهدف الأقصى لهذه الحملة الإعلامية يتلخص في السعي لتمزيق النسيج المجتمعي وقطع آخر الخيوط التي تربط مكوناته الدينية والقومية مع العرب السنة على وجه الخصوص لأنهم يشكلون أغلبية سكانية وصولا إلى تهيئة المقدمات لإعادة تقسيم ما يعرف في المنطقة العربية، لم يعد غريبا ولا مفاجئا مثل هذا الاستنتاج بعد أن تم تداوله على نحو واسع في الأوساط السياسية والإعلامية خاصة بعد أحداث ما يعرف بالربيع العربي التي ابتدأت في مطلع العام 2011 والتي كان من أولى تداعياتها سقوط العديد من الدول والمجتمعات العربية في دوامة من العنف والاقتتال الداخلي لم تتوقف بعد مضي أكثر من ستة أعوام عليها كما في ليبيا وسوريا واليمن والعراق وليس هناك ما يشير إلى امكانية ايقاف هذا التداعي على المدى المنظور بل على العكس كل المؤشرات تذهب في اتجاه زيادة وتيرة العنف المجتمعي بما سيفضي إلى تغييب الانتماء الوطني الجامع للمكونات في مقابل تخندق قائم على أسس فرعية (عنصرية) وهذا المسار سيفضي بالتالي إلى تفتت الدول وتشظيها إلى دويلات قائمة على أسس مذهبية اودينية اوقومية.

برنارد لويس وخطة التفتيت

نحن الآن أصبحنا شهودا على نجاح الفرضيات التي سبق أن طرحها المفكر الأمريكي الجنسية والفرنسي الأصل (برنارد لويس) في الملف الذي قدمه عام 1978 إلى الرئيس الأمريكي جيمي كارتر لمواجهة العالم الإسلامي خاصة في منطقة الشرق الأوسط التي تجلس على بحيرات هائلة من النفط وتستحوذ على معظم ثروات العالم هذا اضافة إلى ما يشكله المسلمون من خطر على هوية الغرب المسيحي وجودا ومصالح حسب وجهة نظر (لويس) التي ركز فيها على فكرة حتمية صراع الأديان في منطقة الشرق الأوسط، ولكي يتم وقف هذا الخطر الإسلامي لابد من التركيز على تفتيت المجتمعات في العالم الإسلامي اعتمادا على استراتيجية دعم الهويات الفرعية الدينية والإثنية.
لو تتبعنا مجريات احداث الربيع العربي لوجدنا عديد الادلة التي تؤكد على ان المنطقة العربية قد ساقت نفسها بنفسها إلى الفخ الذي توصل اليه برنارد لويس ونصبته الدوائر الاستخباراتية في الدول العظمى.

الثمن الفادح

إن الخسارة الحقيقية هنا في هذه المسألة تكمن في حالة العداء والكراهية التي شاعت في مجتمعات الشرق الأوسط والتي لم يسلم منها الجميع دون استثناء، بل كانوا الأدوات الفاعلة لإدامة هذه المشاعر كما خططت لها الدوائر الاستخباراتية الإقليمية والدولية. ولعل اسوأ ما في هذه الحالة اعتبار العرب السنة جميعهم دواعش حتى اولئك الذين لا يرتبطون مع التنظيم بأية صلة والذين تضرروا منه كثيرا .
إن المعركة مع قوى الإرهاب ممثلة في المواجهة الشرسة ضد تنظيم الخلافة كان ينبغي أن تكون ذات بعد وطني حيث تتاح الفرصة فيها لجميع العراقيين أن يشاركوا فيها بمختلف مكوناتهم الثقافية والمذهبية لأنها معركة وجود للجميع ، للدولة وللمجتمع ولبلد اسمه العراق وعلى هذا الأساس لا يمكن القبول بفكرة أن هناك طائفة ليس لديها الاستعداد للمشاركة فيها بحجة تخاذلها او تواطئها مع الإرهاربيين. 
هذه التخريجات التي يتم تداولها منذ ان بدأت معركة تحرير الموصل كانت بمثابة مقدمة لجملة إجراءات اقدمت عليها سلطة التحالف الوطني الحاكمة بزعامة حزب الدعوة فيما بعد لمنع مشاركة العرب السنة في معركة التحرير،ودليلنا على ذلك:عدم الموافقة على تأسيس تشكيل عسكري بأسم(الحرس الوطني) كانت قد دعت اليه القوى السنية لأجل أن يكون قوة محلية في المحافظات ذات الأغلبية السكانية السنيّة لكي يساهم في معركة التحرير ومواجهة الإرهاب، وحتى عندما تمت الموافقة بعد مخاض عسير على تشكيل قوة عسكرية أخرى من أبناء محافظة نينوى اطلقت عليها تسمية (حرس نينوى) تم التعامل معها بعدم الاهتمام ولم يتم تجهيزها باسلحة حديثة كما هو عليه الحال في ميليشيا الحشد الشعبي، كما لم يسمح لتشكيل حرس نينوى بالمشاركة في معركة تحرير محافظة نينوى عندما بدأت المواجهة العسكرية وبقيت عناصره تنتظر الفرصة وهي قابعة في مقراتها.
وفق هذا السياق ليس صعبا ملاحظة إصرار قوى التحالف الوطني الشيعي الحاكم على استبعاد العرب السنة في الموصل من المشاركة في تحرير مدينتهم والاكتفاء بتشكيلات رمزية مسلحة عشائرية يقف خلفها نواب سنة يمثلون محافظة نينوى في البرلمان العراقي ويرتبطون بعلاقة خاصة مع نوري المالكي نائب رئيس الجمهورية وزعيم كتلة دولة القانون الذي مايزال يملك نفوذا وسلطة على الأرض أكبر بكثير من سلطة رئيس الوزراء نفسه حيدر العبادي خاصة في ما يتعلق بحركة فصائل الحشد الشعبي، وهذا يعود إلى طبيعة العلاقة الوثيقة التي يرتبط بها المالكي مع طهران التي عبرت عن دعمها له وتأييدها القوي في أكثر من مناسبة وعلى لسان أكثر من مسؤول حكومي، وفي مقدمتهم علي خامنئي نفسه حتى ان هناك العديد من التقارير التي اشارت إلى ان طهران كان لها دور كبير في ايقاف الإجراءات القضائية التي اوصى بها التقرير النهائي للجنة التحقيق الخاصة باسباب سقوط الموصل التي شكلها البرلمان العراقي لأن اسم المالكي تصدر قائمة الاسماء التي وصلها عددها إلى 37 مسؤولا حكوميا وعسكريا وجدتهم اللجنة يتحملون مسؤولية سقوط المدينة.

تخوين الآخر

أمام عبارات الشكر والعرفان الموجهة للطائفة الشيعية التي أغرقت مواقع التواصل الاجتماعي باعتبارهم تحملوا ولوحدهم معركة التحرير الباهظة ودفعوا الدم غاليا من شبابهم ليستعيدوا محافظة نينوى من الإرهابيين ويحرروا الأسيرات المسبيات الإيزيديات ليس من الصعب اكتشاف ما تحمله هذه الحملة الإعلامية الممنهجة من هدف محدد يتلخص في الإيغال في تمزيق النسيج الاجتماعي بابعاده الدينية والقومية والوطنية من خلال الاصرار على فكرة التخوين والتسقيط الوطني والاخلاقي للعرب السنة وقد تكاتف على شن هذه الحملة جهات مختلفة دينيا قوميا، لعل في مقدمتها ماكنة الإعلام التي تملكها وتمولها احزاب الإسلام السياسي الممسكة بالسلطة.
انتهت معركة تحرير مدينة الموصل بهزيمة تنظيم دولة الخلافة الإسلامية وعادت سلطة الدولة العراقية إليها، وتعبيرا عن شعور سكانها بعظمة وأهمية ما تحقق من نصر كبير منحهم فرصة الخلاص من سلطة الدواعش عمت مظاهر الفرح شوارعها رغم الثمن الفادح الذي دفعته المدينة بتدمير 800 في المئة من ابنيتها التحتية وخسارتها لأكثر من 40 الف قتيل مدني ، إلا أن هناك نقطتين مهمتين تستوجب التوقف عندهما، الأولى تتعلق بالأسباب التي أدت إلى سقوط الموصل عام 2014.
والنقطة الثانية تتعلق بتداعيات نتائج النصر على واقع ومستقبل السكان والمدينة.
أمّا بخصوص النقطة الأولى فعلى ما يبدو أن السلطة في بغداد لم تخرج بما يكفي من الدروس لكي تتجاوز وتتلافى وتستبعد ما كان له صلة في انهيار العلاقة ما بين الجيش العراقي وبقية الأجهزة الأمنية مع سكان الموصل وادارتها المحلية نتيجة سوء تصرف وفساد الكثير من عناصر الجيش والأجهزة الأمنية مع المواطنين (هذا مااشار اليه تقريرلجنة سقوط الموصل البرلمانية)فالتجاوزات التي حصلت بعد التحريرخاصة في الجانب الشرقي (الأيسر) من المدينة والتي يتحمل مسؤوليتها عناصرمسلحة تنتمي إلى فصائل الحشد الشعبي (كتائب سيد الشهداء) قوامها من المكون الشَّبكي الشيعي الذي يقطن خارج مركز المدينة وتحديدا في منطقة سهل نينوى كانت قد وصلت إلى حد الاشتباك المسلح في منطقة المجموعة الثقافية مع عناصر حرس نينوى المكلفين بحفظ الأمن داخل المدينة وهذا ما يبعث رسالة قلق وعدم اطمئنان حول مستقبل الأمن والأمان لدى سكان الموصل ،كما يمنح الفرصة مرة أخرى للإرهابيين لكي ينفذوا من هذه الثغرة ليعاودوا نشاطهم في التفجيرات والاغتيالات وابتزاز المواطنين.
اما النقطة الثانية المتعلقة بنتائج النصر فإنها مرتبطة بدرجة كبيرة بقضية دعشنة العرب السنة التي نجح الإعلام الرقمي في ترويجها وكسبها إلى درجة بات فيها من الصعب عليهم أن يرفعوا صوتهم احتجاجا على سوء الأوضاع المعيشية التي يعانون منها أو أي تجاوزات قد تقع عليهم من قبل عناصر محسوبة على السلطة المركزية لأنهم وحسب أجندة هـذا الإعـلام: 
- كانوا حواضن للدواعش مما مهد الطريق لسقوط المدينة. 
- أساؤوا إلى كرامة الجيش العراقي في وقت سابق لمّا رموا عناصره بالحجارة ساعة هروبه من المدينة عندما سقطت تحت سلطة الدواعش.
- لم يعلنوا اية صورة من صور المقاومة المسلحة ضد الدواعش طيلة الأعوام الثلاثة التي كانوا فيها خاضعين لسلطتهم. 
- لم يدافعوا عن الأقليات التي تم تهجيرها من المحافظة بل ساهموا فيها واستولوا على بيوتهم وأملاكهم. 
- لم يشاركوا في القتال إلى جانب القوات الحكومية والحشد الشعبي في معركة تحرير الموصل.
كل هذه الأسباب التي هي بمثابة اتهامات تم الترويج لها عبر مواقع التواصل الاجتماعي تضع الموصليين من العرب السنة في عنق الزجاجة، بما تجعلهم يشعرون بالانكسار والذل رغم فرحتهم بالنصر على الدواعش.

ما بعد التحرير

وعلى ما يبدو فإن هذه النتيجة تقع في صلب ما كان يسعى إلى تحقيقه نوري المالكي من أجندة منذ أن كان يتولى رئاسة الوزراء، فالأجواء ما بعد تحرير الموصل أصبحت اليوم ملائمة جدا لإحداث ما كان يعد له من تغيير ديموغرافي في بعض مناطق محافظة نينوى على أسس طائفية مثل قضاء (تلعفر) الذي يتقاسمه الشيعة والسنة، كذلك بعض مناطق سهل نينوى مثل ناحية (برطلة) التي يتواجد فيها وفي القرى التابعة لها أقلية شبكية ينقسمون ايضا في تبعيتهم المذهبية مابين شيعة وسنّة هذا إضافة إلى تأمين خط بري لنقل السلاح والمليلشيات من إيران إلى سوريا بعد أن تمر قوافل الشاحنات من محافظة ديالى التي تجاور الحدود الإيرانية إلى الموصل التي لها حدود مشتركة مع الأراضي السورية.

كاتب وباحث من العراق

 

 

أدباء السلطة في العراق

مروان ياسين الدليمي

 

لكي تنال لقب مثقف باستحقاق لا يكفي أن يكون في رصيدك العديد من الإصدارت الأدبية والفكرية ولا ارفع الشهادات الاكاديمية ولا عشرات الجوائز الدولية ولا ان تكون عضوا في اتحاد الأدباء والكتاب.
رغم اهمية كل هذه الانجازات على المستوى الشخصي إلا انها لن تمنحك شرعية ان تحمل هذا اللقب فيما لو غابت بصيرتك او غيبتها انت بإرادتك، لعلة في نفسك، واتجهت ناحية السلطة خاضعا ومدلِّسا ومداهنا، بذلك تكون قد اخترت ان تنحرف بشكل حاد عن مسار الضمير الانساني الجمعي، الذي عادة ما يعبر عنه المثقف والمبدع، خاصة في تلك المجتمعات التي تخضع لسلطة قمعية. 
دفعني إلى كتابة هذه المقدمة قراءتي لخبر موافقة عدد من الادباء والأكاديميين العراقيين دعوة نائب رئيس الجمهورية نوري المالكي، ولقائهم به في مكتبه نهاية هذا الاسبوع. 
ربما يختلف العراقيون حول كثير من المواقف التي اتخذها عدد من الرموز السياسية في العراق، إلاّ أن غالبيتهم يتفقون على خطورة الدور الذي لعبه المالكي في تهديم العلاقات الاجتماعية بين مكونات المجتمع العراقي اثناء وبعد توليه رئاسة مجلس الوزراء من خلال سياساته الطائفية التي عبرت عنها ممارسات الأجهزة الأمنية والعسكرية الحكومية في تعاملها السيئ والمهين للمواطن العراقي اينما كان، خاصة في المناطق ذات الاغلبية العربية السنية حيث كانت تلك الأجهزة تتلقى الأوامر منه شخصيا، كذلك مسؤوليته الرئيسية عن ضياع نصف اراضي العراق لتصبح تحت سلطة تنظيم الخلافة في حزيران/يونيو 2014،هذا اضافة إلى أنه تسبب في اهدار ما يقارب 800 مليار دولار اثناء فترة حكمه التي دامت ثمانية اعوام دون ان يقدم للمواطن خدمة ملموسة تغير من حياته البائسة. 
لماذا اذن وافقت هذه المجموعة من الأدباء والأكاديميين على تلبية دعوته؟ 
ما الذي كانت تراهن عليه في هذه المقابلة ؟
هل كان لديها بصيص أمل في ان يتمكن افرادها من طرق باب ضمير مغلق مليء بالكراهية للعراق وشعبه منذ ان ارتضى لنفسه ان يكون منخرطا إلى جانب الحرس الثوري الإيراني لمقاتلة جيش بلاده ايام الحرب العراقية الإيرانية (1980 – 1988).
هل وجدت في نفسها قدرة فذة على رؤية جوانب مشرقة في شخصية الداعي لم يستطع عموم العراقيين أن يكتشفوها بين ركام الفوضى والجرائم التي خلفتها ميليشياته بحق المدنيين؟ 
إذا كانوا قد حملوا مثل هذا التصور حتى لو افترضنا صدق نواياهم فإنهم بذلك قد ارتكبوا الخطأ الذي لا يمكن مسامحة المثقف اذا ما وقع فيه مهما كان لونه الأيديولوجي وهويته الإبداعية، سواء كان شاعرا او أديبا او فيلسوفا.
طيلة فترة حكم المالكي كانت المنظمات الدولية المعنية بحقوق الانسان تؤكد في تقاريرها السنوية على ان العراق يتصدر قائمة الدول التي تنتهك فيها حرية وحقوق الانسان.
 فهل وصل الحال بالأديب والمثقف والأكاديمي العراقي أن لا يعير أهمية للحقائق والأرقام والشهادات التي توثق صرخات الضحايا ونداءات المظلومين، ويصر على أن يتعامل معها بمنهج السلطات المدانة بارتكابها عندما تتجاهلها وتشكك بمصداقية الجهات التي اعلنتها؟ 
المالكي نال فرصته كاملة في الحكم وترك خلفه إرثا مؤلما سيبقى عالقا في ذاكرة العراقيين لأنه اصطبغ بالدم ولن يكون من السهل على جميع العراقيين نسيانه، فالشيعة والسنة على حد سواء كان لهما نصيب كبير منه، وهكذا الحال مع بقية الأقليات.
يبدو ان من ارتضى لنفسه أن يكون ضيفا على مائدة المالكي لم يكن يعنيه آلاف الضحايا الذين سقطوا في سبايكر والرمادي والحويجة وبهرز والزركا والموصل وسنجار وغيرها من الأماكن،ولا يعنيه الأرقام الفلكية التي اختفت في عهده من المال العام.
هؤلاء الذين احتفوا بالمالكي واحتفى بهم، يمكن النظر اليهم على انهم نتاج طبيعي لنظام سياسي طائفي شرعنه الاحتلال الأمريكي، وساهمت في تكريسه أحزاب الإسلام السياسي، بالوقت نفسه هُم استمرار لتلك النماذج من أشباه المثقفين الذين كانوا يتزلفون إلى السلطة ويكتبون التقارير الأمنية قبل العام 2003. 
اتحاد أدباء وكتاب العراق وعلى الرغم من هلامية موقفه طيلة الاعوام الماضية مما يجري في المشهد العام إلا أن عدم استجابته لهذه الدعوة تحسب له، وربما يكون لقيادته الجديدة دور كبير في إنضاج هذا الموقف.

كاتب من العراق

(القدس العربي)

 

العراق مرهون بين سلطتين

 

مروان ياسين الدليمي

 

التحدي الأكبر الذي يواجه القوى السياسية في العراق ينحصر في قضية بناء دولة تقف على مسافة واحدة من الجميع، وهذا يعني العمل على بناء أرضية واقعية توفر الفرصة لتحقيق عيش مشترك، ونتيجة لانحسار مشاعر الثقة بين مكونات المجتمع العراقي فإن الأصوات التي باتت تنادي بخيار التقسيم أخذت تلقى آذانا صاغية لدى أوساط واسعة ومن مختلف المكونات ولم يعد الأمر مقصورا على المسيحيين والأيزيدية الذين تعرضوا لعمليات تهجير جماعية، بل تعدى ذلك ليشمل العرب السنة الذين كانوا طيلة الأعوام التي أعقبت الاحتلال الأميركي يعارضون أي صوت يدعو إلى فكرة إقامة فيدراليات.

إلاّ أنهم وبعد أن تعرضوا إلى عملية تقويض لوجودهم الاجتماعي والسياسي رغم الثقل السكاني الكبير الذي يشكلونه وجدنا بينهم من يدعو إلى الفدرلة أو التقسيم وحتى الانفصال؛ فالتشكيك في إخلاصهم لبلدهم من قبل السلطة واتهامها لهم بتقديم ولائهم للمملكة العربية السعودية على حساب ولائهم لبلدهم، واختزال شعورهم في القهر والاضطهاد، تعود أسبابه إلى أنهم قد فقدوا سلطة الحكم وليس لأنهم أصبحوا تحت ظلم السلطة وقهرها.

كل هذه العوامل وأخرى غيرها كانت كافية لكي تدفع أصواتا من بين العرب السنة إلى إعلان تأييدها لمشاريع تقسيم العراق إلى أقاليم تدير شؤونها بعيدا عن هيمنة النظام القائم في بغداد، أيضا يأتي تأييدهم لمثل هذه الدعوات في إطار مواجهتهم لكل ما شرعنه النظام السياسي القائم من قرارات تفوح منها رائحة الطائفية كان الهدف منها إزاحتهم باعتبارهم مكونا اجتماعيا من المشهد السياسي، إضافة إلى تدمير فرص التعايش ما بينهم وبين بقية مكونات المجتمع،. لعل أبرز تلك القرارات على سبيل المثال ما يتعلق منها بدمج الميليشيات (الشيعية) في الأجهزة الأمنية والعسكرية، في مقابل تصفية ما يسمى بعناصر الصحوة (ميليشيا عشائرية سنية أسسها ودعمها الأميركان) التي أخذت على عاتقها محاربة تنظيم القاعدة في صحراء الأنبار ما بين عامي 2006 و2008 وتمكنت من هزمه.

أضف إلى هذا ما يتعلق بسلسلة إجراءات تم بموجبها استبعاد الضباط العرب السنة والجنود من العودة إلى صفوف الجيش العراقي، إلى غير ذلك من القرارات التي طالت أساتذة وأكاديميين منعتهم من تولي مناصب إدارية في الجامعات التي يدرّسون فيها.

لا شك في أن كلفة الحرب على تنظيم داعش باهظة، ونظرا لأهمية ما ستتمخض عنه من نتائج ستضع العراق أمام تحديات صعبة سيكون فيها أمام مفترق طرق فإما أن يكون بلدا موحدا قويا وإما ينتهي به المطاف إلى حالة من التشرذم ومن ثم الزوال.

من هنا سيكون من الصعب القول إن هذه الحرب لا جدوى منها حتى لو تحقق النصر إذا لم يترافق معه موقف واضح تبديه السلطة العراقية باتجاه نزع فتيل الاحتقان الطائفي والقومي بين مكونات المجتمع، بعد أن وصل الاحتقان إلى مرحلة بات فيها التعايش غير ممكن على الأقل ما بين السنة والشيعة.

وإذا سلمنا جدلا بتوفر النية الصادقة لنزع فتيل هذا الاحتقان فإن ذلك يفرض على الحكومة أن تتخذ سلسلة خطوات في هذه المرحلة المصيرية التي تخوض فيها البلاد حربا ضروسا ضد تنظيم داعش، أولاها أن تكون حازمة في معاقبة كل من يثبت تورطه في ارتكاب انتهاكات تتعرض لحقوق الإنسان وكرامته، خاصة وأن هناك حوادث كثيرة بهذا الخصوص قد وقعت سواء في الأنبار أو في صلاح الدين أثناء عمليات المواجهة مع تنظيم داعش. وكانت قد أشارت إلى هذه الحوادث تقارير المنظمات الدولية المختصة بحقوق الإنسان. ولعل أحدث مشهد من هذه الانتهاكات ما تم تداوله هذه الأيام على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي وفيه يظهر جنود عراقيون يقتلون صبيا صغيرا ومن ثم يسحقونه تحت عجلات دبابة عسكرية.

بصرف النظر عما جرى من انتهاكات فإن السلطة العراقية قادرة على أن تحد منها بشكل كبير فيما لو اتخذت إجراءات قانونية رادعة بحق من يتورط في ارتكابها وهي بذلك ستبعث برسالة واضحة للجميع مفادها أن الحرب موجهة ضد تنظيم داعش وليست ضد طائفة بعينها.

العراقيون بحاجة إلى سلطة تحترم القانون بقدر احترامها لكرامة الإنسان، ولو كان النظام السياسي في بغداد قد كرس ثقافة احترام القانون بين أجهزته الأمنية والعسكرية لما تمكنت التنظيمات الطائفية المسلحة من أن تستثمر هذه الثغرة للنفاذ منها والتوغل بين صفوف المتضررين جراء سياسات التمييز الطائفي وتجذب منهم الكثير إلى صفوفها.

وبقدر ما يتحمل الفكر الذي تتبناه التنظيمات الطائفية المسلحة مسؤولية ما يشهده العراق من عنف وتدمير يتحمل النظام السياسي هو الآخر جزءا كبيرا من هذه المسؤولية لأن ممارسات أجهزته الأمنية والعسكرية الطائفية خاصة في المدن التي تقطنها غالبية عربية سنية قدمت لهذه التنظيمات فرصة لم تكن تحلم بها فاستثمرتها أفضل استثمار وتمكنت من أن تبني لها حواضن بين سكانها.

حتى هذه اللحظة لم يصدر عن السلطة في العراق ما يشير إلى أنها عازمة على مراجعة سياساتها الخاطئة التي أوجدت هذا الشرخ الطائفي رغم ثقل التحديات التي باتت تواجهها الدولة بسببها، وفي مقدمتها تلك التركة الثقيلة من الجروح الاجتماعية المتمثلة في قائمة طويلة من القتلى والعاطلين عن العمل والمعوقين والأرامل والأيتام والأطفال المحرومين من التعليم.

مشكلة النظام السياسي القائم في العراق تكمن في أنه قد رهن مستقبل البلاد بخارطة طريق عنوانها المحاصصة الطائفية، كانت قد تواطأت على تكريسها كافة القوى والأحزاب المشاركة في العملية السياسية، ومن هنا باتت أبواب الجحيم مفتوحة في وجه العراق، حتى أن مصطلح “المجتمع الرهينة ” أصبح ينطبق عليه كما ورد في كتاب د.فارس كمال نظمي “الأسلمة السياسية في العراق”، وسيكون من المنطقي أن تخضع الرهينة لإرادة خاطفها، ولن يبقى لديها سوى الحلم بالحرية الإنسانية، إلاّ أن هذا الحلم سيتضاءل يوما بعد آخر طالما تمادى الخاطف في أساليب القهر وطالما الرهينة مالت إلى الرضوخ والاستسلا

كاتب عراقي

(العرب) لندن

 

الحقائق في الإعلام الرسمي

العراقي أسيرة نظام المحاصصة

 

مروان ياسين الدليمي

 

لم يشهد خطاب الإعلام الرسمي العراقي بعد عام 2003 تغييرا ملموسا في محتواه رغم استبدال الطاقم الذي كان يدير ماكينته منذ الأيام الأولى لتغيير النظام السياسي، ابتداء من الحلقات الصغرى التنفيذية وانتهاء بالحلقات الأوسع حيث الرؤوس الكبيرة التي تتولى عملية رسم الخطط والبرامج الاستراتيجية لكافة المؤسسات الإعلامية.

وأصبح المعيار الأساسي في أحداث هذا التغيير، اصطباغ المؤسسات الإعلامية الرسمية بالهوية المذهبية الواحدة لغالبية العناصر العاملة فيها، والانغماس في خطاب أحادي يفتقد إلى المعايير المهنية المعمول بها في المؤسسات الإعلامية الرصينة في العالم، وهو ما يعود بالدرجة الأولى إلى أن المنظومة الفكرية التي تعشش في أدمغة من يمسك بزمام إدارة المؤسسات الإعلامية الحكومية كانت ومازالت محكومة بهواجس الخوف من فقدان السلطة السياسية طالما أن عملية الوصول إليها قد تمت بطريقة غير شرعية.

ويمكن، بناء على هذه المعطيات، فهم أسباب عدم توفر قيم مثل الموضوعية والمهنية في خطاب إعلامي رسمي يعبر عن سلطة سياسية؟ وسيكون من المنطقي غياب المعايير الصحافية في السياق العام لهذا الخطاب، وبدلا عنها يتم تكريس التزييف والتزوير والتحريف، لأن النظام القائم لا يملك حجة وجوده وبقائه التي يواجه بها منتقديه وخصومه وأعداءه، سوى من خلال هذه الأساليب الإعلامية التي لا تجد بيئة نموذجية صالحة يمكن أن تعيش وتنتعش فيها سوى المجتمعات الشبيهة بمجتمعاتنا الشرقية، التي تنعدم فيها المسافة الفاصلة بين الخرافة والعلم، وتختلط صورة الفارس البطل مع صورة المجرم والسفاح، التي يضيع فيها صوت الحقائق في فوضى الأصوات النشاز.

ويصبح من المنطقي جدا أن النموذج الذي سينخرط في العمل الإعلامي حتى وإن توفرت فيه الحرفية العالية، سيكون أبعد من أن يحمل في داخله قيما إنسانية يدافع عنها ويستبسل من أجل إيصالها إلى المتلقي، فالحقائق لا تعني له أي شيء بقدر ما يكون حرصه منصبا على أن يكون خطاب السلطة فاعلا ومؤثرا.

ويفرز هذا الوضع نموذجين من الإعلاميين، فإما أن يكونوا جزءا من منظومة السلطة السياسية وعادة ما يتولى هؤلاء المناصب العليا التي تتحكم في تقرير ما ينبغي أن يكون عليه الخطاب، وإما أن يكونوا نماذج حرفية ينحصر فهمها المحدود لدورها في إطار تنفيذ ما هو مطلوب منها بأفضل ما يكون من الناحية الشكلية، وهذا النموذج يكاد يكون القاعدة العريضة التي تعتمد عليها مؤسسات السلطة الرسمية الإعلامية، ومن الطبيعي جدا أن تكون بينهم عناصر يتوفر فيها مستوى مميز من الذكاء والموهبة والحرفية بغض النظر عن مسألة افتقادهم إلى شرط المهنية، وقد حفل المشهد الإعلامي خلال الأعوام الثلاثة عشر الماضية بنماذج كثيرة من هذا الصنف بعضهم جاء من المنافي الأوروبية بعد أن تعلم هناك إلاّ أنه مارس دورا اعلاميا سيئا تساوى فيه مع آخرين لم تكن أمامهم أيّ فرصة لكي يعيشوا خارج العراق ويتعرفوا على تجارب البلدان المتقدمة في كيفية تعاطي مؤسساتها الإعلامية مع الوقائع والأحداث بقدر كبير من المهنية.

القاعدة العريضة من الإعلاميين ينحصر دورها في تنفيذ ما هو مطلوب منها بأفضل ما يكون من الناحية الشكلية

لقد ارتكب الإعلام الرسمي العراقي العديد من الانتهاكات والإساءات في حق المجتمع عندما تحول إلى منصة لإشاعة مشاعر التطرف والإرهاب وهذا يمكن ملاحظته في العديد من البرامج والفقرات خاصة في البث الفضائي، فكان أخطر حلقة مؤثرة في الواقع العراقي من ضمن حلقات ودوائر نظام المحاصصة الطائفية.

وكان آخر وأحدث نموذج لانحراف الإعلام الرسمي العراقي عن جادة المهنية، ما قام به مراسل لقناة العراقية الرسمية الناطقة باسم الحكومة والممولة من المال العام، خلال تغطيته لحرب تحرير الموصل من سلطة داعش.

كان المراسل، قد دعا صراحة ومن مقر إقامته في باريس قبل عام، وعبر صفحته في موقع تويتر إلى قتل جميع سكان الموصل من العرب السنة بالسلاح الكيميائي لأنهم جميعا دواعش حسب زعمه.

وكافأته قناة العراقية الرسمية، بمرافقة القوات العراقية عند أطراف المدينة، بدل أن يعاقب بالطرد، ليرتكب في مهمته الجديدة خطأ آخر لا يقل فداحة في نتائجه عن دعوته السابقة ولا يمكن لمراسل تتوفر فيه أبسط شروط المهنية أن يرتكبه.

وأخلّ المراسل بشرف المهنة ولم يحافظ على سرية المصادر التي ترفده بالمعلومات، فبعد أن وعد رجلا موصليا مُسنّا بأن لا يظهر صورته على الشاشة، مقابل أن يرشده إلى أحد البيوت التي تعاون ساكنوها مع تنظيم داعش في أحد الأحياء السكنية التي دخلتها القوات العراقية، لم يف المراسل بوعده وكشف صورة الرجل المسن في التقرير المصوّر.

ووضع المراسل حياة المسن في خطر، نظرا إلى أن المعركة لم تنته ومازالت في مرحلة الكر والفر، وهو ما يعتبر استهتارا بأخلاقيات المهنة، وكان من الواجب على الجهة الرسمية التي يعمل لديها ويمثلها في مهمته أن توجه له عقوبة قانونية تتناسب مع ما ارتكبه من انتهاك لضوابط العمل الإعلامي.

ولا يبدو أن أزمة الثقة بين خطاب الإعلام الرسمي والمتلقي العراقي، ستخرج من الزاوية الحرجة التي توجد فيها، طالما أن منتجي هذا الخطاب قد أقفلوا أبوابهم ونوافذهم على ما لديهم من معلومات ومعارف أكل الدهر عليها وشرب، ولم يعيروا أهمية لتجارب الآخرين الناجحة في استقطاب المتلقي، ومازالوا يستعملون اللغة ذاتها والمفردات الميتة المستندة إلى قانون “اكذب ثم اكذب حتى يصدقك الآخرون” متجاهلين بذلك ما حصل من تطور هائل في لغة ووسائط الإعلام بالشكل الذي لم يعد فيه المتلقي أسير القنوات الإعلامية الرسمية للحصول على المعلومة.

(العرب) لندن

 

هزيمة البغدادي

وآخرين في خطابه الأخير

مروان ياسين الدليمي

خطاب زعيم تنظيم الخلافة الأخير الذي تم تداوله الخميس 3 نوفمبر 2016 على مواقع التواصل الاجتماعي كشف عن وضع نفسي متأزم يمر به البغدادي، وعلى الأغلب فإن ذلك يعود إلى طبيعة ما يواجهه تنظيمه من تراجع كبير في مساحة الأرض التي بات يتحرك عليها في العراق وسوريا وليبيا، فالخسائر العسكرية التي تكبدها خلال عام 2016 أفقدته الكثير من مصادر قوته التنظيمية والبشرية والمالية وما عادت الأبواب مفتوحة أمامه كما كان عليه الحال قبل عامين من الآن عندما اقتحم بضعة أفراد تابعين للتنظيم لا يتجاوز عددهم العشرات مدينة الموصل في 10 يونيو 2014 ومن ثم اكتسحوا دون مقاومة تذكر مدن صلاح الدين والأنبار وديالى.

لعل أبرز ما يواجهه تنظيم الخلافة هذه الأيام الخسائر التي بات يتكبدها وهو يواجه القوات العراقية التي ابتدأت مع عمليات تحرير محافظة صلاح الدين ثم الأنبار، ولتكون مسك الختام مدينة الموصل حيث اشتد الطوق حول عناصره وباتوا مدركين أن سقوط دولة الخلافة التي سبق أن أعلنوها بات أمرا غير قابل للنقاش، خاصة بعد أن دخلت طلائع الجيش العراقي عددا من الأحياء السكنية في مركز مدينة الموصل نهاية هذا الأسبوع، ولم تعد مسألة حسم المعركة سوى مسألة وقت، قد يقصر أو يطول تبعا لمجريات القتال لكن النتيجة ستكون هزيمة التنظيم.

في الخطاب المشار إليه كرس البغدادي هجومه على الدول الإسلامية السنية ممثلة بالمملكة العربية السعودية وتركيا، وألقى عليهم باللائمة والمسؤولية إزاء ما يجري على المسلمين من ظلم مصدره الغرب الصليبي، حسب زعمه، لأنهم تحالفوا معه ضد جند دولة الخلافة، ومن ثم ليطلب من عناصر تنظيمه أن يضعوا تركيا والمملكة السعودية نصب أعينهم لإشاعة الفوضى والدمار فيهما.

دعوة البغدادي هذه كانت بمثابة دليل على أن كل ما تم تداوله من تقارير تفيد بوجود علاقة وثيقة تربط بين حكومتي البلدين مع تنظيم داعش لم تكن ترقى إلى المصداقية، ولم تكن إلا جزءا من حرب إعلامية روجت لها دوائر صحافية واستخباراتية غربية وإيرانية، كان الهدف منها خلط الأوراق وجعل هذين البلدين في موقف ضعيف ومحرج بالشكل الذي يلتقي فيه هذا المسعى مع الجهود التي بذلت من قبل أميركا وإيران وبشتى السبل لإشاعة الفوضى في منطقة الشرق الأوسط على إثر تصاعد موجة الربيع العربي مطلع العام 2011، بغض النظر عن الأنظمة التي تحكم دول المنطقة وصولا إلى إعادة ترسيم حدودها من جديد.

لماذا هاجم البغدادي تركيا والسعودية من بين جميع الدول الإسلامية، ولم يتعرض على سبيل المثال إلى إيران؟ فهل كانت خطورة أنقرة والرياض على تنظيمه أكبر من خطورة طهران؟ ومن هي القوى التي ستكون مستفيدة من دعوته إلى تدمير هاتين الدولتين؟

لا شك أن إيران هي المستفيد الأول لأنها ومنذ مجيء نظام الملالي إلى السلطة عام 1979 أعلنت عزمها صراحة على تصدير الثورة الخمينية إلى العالم الإسلامي، وخاصة الدول العربية بما يعني سيطرتها عليها بعد إسقاط أنظمتها والمجيء بأنظمة على شاكلة نظامها، وهذا ما دفع صدام حسين إلى أن يتواجه مع نظام طهران في حرب مهلكة دامت ثمانية أعوام (1980 – 1988).

ومثلما كشف هذا الخطاب زيف الادعاءات بوجود علاقة بين أنقرة والرياض مع تنظيم الخلافة، فقد أثار أيضا علامات الاستفهام حول طبيعة العلاقة التي يرتبط بها أبوبكر البغدادي مع نظام طهران بالشكل الذي منعته هذه العلاقة من أن يذكره بسوء ولو بحرف واحد، وهذا ما يدعونا إلى التساؤل عن أسباب التزام البغدادي السكوت إزاء سياسات إيران الطائفية في المنطقة العربية وتدخلاتها السافرة في شؤون أنظمتها الداخلية كما هو في سوريا ولبنان واليمن.

كان من الممكن أن تتبدد هذه التساؤلات فيما لو توقف البغدادي ولو بكلمة واحدة أشار فيها إلى حجم النفوذ الإيراني وتمدده في المنطقة لكنه لم يفعل.

سيبقى الباب مفتوحا لتنهال منه الأسئلة التي سترسم دائرة من الشك والغموض حول حقيقة العلاقة التي يرتبط بها تنظيم الخلافة، والبغدادي شخصيا، مع نظام طهران، ولن تتوقف هذه الأسئلة إلا بعد أن يخرج علينا مرة أخرى بخطاب جديد يكشف فيه حقيقة علاقته بنظام طهران، ضده أو معه، مثلما كشف خطابه الأخير زيف الادعاءات بوجود علاقة تربطه بأنقرة والرياض.

ونظن أن الوقت قد حان بعد هذا الخطاب حتى تتقدم الحكومة العراقية بخطوة جديدة إلى الأمام تعيد فيها النظر إلى سياساتها المتشنجة مع تركيا والمملكة العربية السعودية، وأن تضع في حساباتها توظيف هذه العلاقة في إطار مواجهة تنظيم داعش وهزيمته، لأن المعركة مازالت طويلة وتحتاج إلى تضافر الجهود الإقليمية مثلما تحتاج إلى تلاحم أبناء البلد الواحد.

كاتب عراقي

مروان ياسين الدليمي

)العرب( اللندنية

الخزعلي يسعى لقتل العرب

السنة في الموصل ثأرا للحسين

 

مروان ياسين الدليمي

شاهدت قبل يومين مقطع فيديو قصيرا على موقع يوتيوب مستلا من خطبة طويلة للمعمم قيس الخزعلي زعيم ميليشيا عصائب أهل الحق (ميليشيا شيعية) حيث يظهر في اجتماع كبير يضم على ما يبدو حشدا من رجال عشائر، وكان يقف أمامهم منتصبا خلف منصة وهو يرفع يده متوعدا بالقصاص من قتلة الحسين في الموصل إذ يقول “وليُّ دم الأمام الحسين هو الحشد الشعبي، بهذه العقيدة نحن نقاتل، بهذه العقيدة انتصرنا في الفلوجة وتكريت وفي ديإلى، وبهذه العقيدة سنقاتل في الموصل.. نقاتل مَنْ؟ نقاتل مَنْ؟ أقولها بصريح العبارة وليفهمها مَن يفهمها، وليشوّهها من يشوّهها، نحن نقاتل قتلة الحسين، هؤلاء القوم قتلة الحسين. هل قتلهم المختار وانتهوا؟ لا، القوم هم نفس القوم، هؤلاء هم أحفاد أولئك القوم”.

كلام الخزعلي واضح وصريح ودقيق، ولا يحتاج إلى جهد كبير لتفسيره وفك ألغازه، ولا شك في أنه يعكس إصراره على الثأر لدم الحسين من أهل الموصل، لأنهم، وحسب قناعته، أحفاد أولئك الذين تسببوا في قتله، ولأن هؤلاء القوم هم نفس أولئك القوم.

الغريب في خطبة الخزعلي هذه أنه لم يذكر تنظيم داعش في كلامه أبدا! وهنا مصدر الخطورة بما جاء على لسانه. بعد الانتهاء من مشاهدة مقطع الفيديو راودتني مجموعة أسئلة:

لماذا يسعى الخزعلي إلى أن ينتقم من العرب السنة في الموصل ثارا للحسين؟

هل أن جريمة القتل قد حدثت على أرض الموصل وارتكبها الموصليون؟

كيف سينتقم منهم؟ هل سيذبحهم جميعا؟

كم من القتلى ينبغي أن يسقطوا حتى ينتهي هذا الثأر التاريخي؟

من هم قتلة الحسين في الموصل؟ هل هم جميع العرب السنة؟ هل هم أبناء المدينة؟ هل هم القرويون؟

هل هم الأطباء، المهندسون، المدرسون، المحامون، الفنانون، الشعراء، التجار، الحرفيون، العمال، الكسبة، الفقراء، الأرامل، الأيتام، العجزة ،السياسيون، المتقاعدون؟

من هم؟

لماذا هذا الإصرار على أن الموصليين هم أحفاد قتلة الحسين؟

هل النساء مشمولات بالقتل؟

هل الأطفال أيضا ستنالهم العقوبة؟

هل الشيوخ والعجائز أيضا سينزل عليهم هذا القصاص؟

هل أنا من ضمنهم؟

وهل أهلي سيكونون من بين الضحايا؟

هل نحن فعلا من قتل الحسين وشاركنا بإرادتنا في قتله قبل 1400 عام؟

هل يوجد بين أبناء الموصل وحسب قناعة الخزعلي مَن لم يكن مسؤولا عن جريمة قتل الحسين؟

ما هي الأدلة التي يستند عليها عندما يحمِّلهم مسؤولية تلك الجريمة؟

من هم المراجع الذين يستند عليهم في حكمه القاطع هذا، سواء من كان منهم حيا أو ميتا؟

هل يوافق شيعة العراق، إخوتنا وأهلنا وأصدقاؤنا وزملاؤنا، ما جاء على لسان الخزعلي من وعيد وتهديد بالثأر من الموصليين، وعلى أنهم أحفاد أولئك الأجداد القتلة؟

خلاصة القول يا شيخ قيس الخزعلي:

إن قتلة الحسين موجودون بيننا أينما التفتنا، ليس في الموصل ولا في كربلاء فقط، إنما هـم في كل مكـان، ولن ينتهي أجلهم طالما هنالك من يسرق قوت الناس باسم الدين، ويقتل الآخرين باسم الدين، ويخون وطنه باسم الدين، ويخدع الناس باسم الدين.

كاتب عراقي

مروان ياسين الدليمي

)العرب(  اللندنية

 

ما بعد داعش، تحديات الوجود والهوية

أمام العرب السنة في الموصل

مروان ياسين الدليمي

لن تكون معركة تحرير الموصل كبقية المعارك التي سبق أن خاضتها القوات العسكرية العراقية وميليشيات الحشد الشعبي المتجحفلة معها ضد تنظيم داعش سواء في ديالى أو الأنبار أو صلاح الدين، حيث ستكون المواجهة صعبة بكل المقاييس كلما اقتربت المسافة من حدود مركز المدينة وحيث ستعلو سحب الدخان الكثيفة لتختلط أوراق اللعب بين أيادي اللاعبين، مثلما ستختلط الدروب التي تؤدي إلى أحياء المدينة.

قساوة المعركة بوجهيها العسكري والسياسي تعود إلى سعة مساحة مركز مدينة الموصل، وإلى الكثافة السكانية العالية التي تصل إلى أكثر من مليوني نسمة، وهذا ما يزيد من تعقيدها من الناحية اللوجستية خاصة وأن نهر دجلة يشطر المدينة إلى قسمين: ساحل أيمن وساحل أيسر، ويرتبط الساحلان بخمسة جسور كلها مهددة بالنسف والتفجير من قبل تنظيم الخلافة في لحظة من لحظات المعركة إذا ما وجد إلى ذلك ضرورة لعرقلة عبور القطعات العسكرية إلى الضفة الأخرى، علما بأن اليوم الأول من معركة تحرير المدينة شهد تدمير جسر الحرية حيث تعرض للقصف من قبل طائرات التحالف الدولي مما ألحق به أضرارا كبيرة، وبذلك يكون جسر الحرية أول الجسور التي تخرج من الخدمة، وعسى ألا تكون الحرية التي طالما انتظرها أبناء الموصل قد خرجت من حسابات القوى العسكرية القادمة لتحريرها.

معركة تحرير الموصل لن تكتسب أهميتها لكونها عاصمة دولة الخلافة كما سبق أن أعلنها أبوبكر البغدادي من منبر الجامع الكبير بتاريخ 5 يوليو 2014، إنما تكمن أهميتها بما يحمله تاريخها المعاصر من دلالات تلقي بظلالها الكثيفة على حاضر ومستقبل المدينة، ويبدأ هذا التاريخ من اللحظة التي انتهت فيها الحرب العالمية الأولى وأمست فيها الموصل من حصة العراق بعد أن حاولت الدولة العثمانية الاحتفاظ بها واعتبارها جزءا من ممتلكاتها بعد أن كانت قد خسرت معظم مستعمراتها في تلك الحرب، ومازالت تحتفظ بأهميتها في ذاكرة الساسة الأتراك ولم تطو صفحتها من ملفاتهم ولا يبدو أنهم على قدر كاف من الاستعداد للتخلي عن فكرة استعادتها رغم تقادم السنين وتبدل الحكومات التركية، ولهذا اعتدنا بين فترة وأخرى أن نشهد تصاعد الدعوات التي تطالب بعودتها إلى حضن الدولة التركية كلما اشتدت الخلافات بين أنقرة وبغداد خاصة عندما تكون الدولة العراقية في حالة من الضعف كما هو عليه حالها بعد 2003، هذا ما يمكن استنتاجه من اللغة المتعالية التي استعملها رجب طيب أردوغان وهو يرد على تصريحات حيدر العبادي التي رفض فيها تواجد القوات التركية في معسكر زيلكان داخل ناحية بعشيقة التابعة لمحافظة نينوى.

هناك عدد من الأسباب دفعت أردوغان إلى أن يشعر بهذه الثقة بالنفس، حتى أنه لم يتردد في استخدام لغة تحمل سخرية من كل الأصوات التي طالبته بسحب قواته ويمكن التطرق إلى البعض من تلك الأسباب.

إن الأتراك يرتبطون بعلاقات وثيقة مع قوى وزعامات اجتماعية وسياسية موصلية تمتد جذورها إلى أيام الدولة العثمانية، حيث كانت التعاملات التجارية على درجة عالية من العمق بين أثرياء وتجار الموصل واقرانهم الأتراك وترتفع درجة العلاقة المجتمعية إلى مستوى من الخصوصية مع مجتمع مدينة ماردين التركية وتجارها، وسيتفاجأ أي عراقي من غير الموصليين عندما يجد سكان هذه المدينة يتحدثون بلهجة قريبة من لهجة أهل الموصل حتى يكاد صعب التمييز بينهما.

العلاقة بين الموصل وماردين نجدها في الكثير من صورها الاجتماعية أكبر من تلك التي ارتبط بها تجار الموصل مع بقية التجار في مدن العراق على الأقل حتى نهاية العقد الخامس من القرن العشرين، وهذا يعود أولا إلى تخلف طرق المواصلات بين المدن العراقية وإلى قرب المسافة بين الموصل وماردين، ومن هنا يمكن قراءة الدوافع التي جعلت طبقة التجار والأثرياء في الموصل تقف إلى جانب ضم المدينة إلى تركيا بعد الحرب العالمية الأولى كما هو الحال مع عائلة النجيفي وهي من العوائل الثرية نتيجة عملها في ميدان الزراعة والتجارة، حيث طالب جد محافظ نينوى الأسبق أثيل النجيفي السلطة العثمانية بأن تضم الموصل إلى سلطتها وكان ذلك عام 1925 أثناء الجدل بين بغداد وإسطنبول حول إجراء استفتاء يحسم انتماء المدينة إلى العراق أو إلى تركيا، وقد صوت أكثرية السكان لصالح البقاء ضمن حدود الدولة العراقية، علما بأن الموصل آنذاك كانت تضم مدن أربيل والسليمانية ودهوك، ويشكل الأكراد في هذه المدن غالبية سكانية. من هنا كانوا حصان الرهان في ذلك الاستفتاء عندما منحوا صوتهم لصالح بقاء ولاية الموصل مع العراق وبذلك يعود لهم الفضل في بقاء الموصل جزءا من الدولة العراقية.

إضافة إلى هذا العامل التاريخي، فإن العلاقة بين تركيا وبعض القوى السياسية والاجتماعية الموصلية تستمد جرعة قوية لصالح استمرارها من خلال الأخطاء التي ترتكبها الحكومة العراقية بزعامة التحالف الشيعي بعد 2003، والتي اتسمت بارتفاع وتيرة العنف والطائفية إضافة إلى الاعتقالات العشوائية ضد العرب السنة من سكان الموصل خاصة خلال فترة حكم نوري المالكي، حتى أن تقرير منظمة هيومن رايتس ووتش عام 2010 تطرق بشكل تفصيلي إلى ما تعرض له أكثر من 400 معتقل من العرب السنة في سجن مطار المثنى من عمليات تعذيب وحشية.

كان لتلك السياسات الطائفية أثر بالغ على العرب السنة لأنهم كانوا الهدف المرصود من قبل الأجهزة الأمنية والعسكرية المرابطة في المدينة، التي لم تبخل بأي وسيلة للإساءة إليهم، وكانت نقاط التفتيش والحواجز التي انتشرت في جميع شوارع وطرقات المدينة الرئيسية والفرعية ميدانا لتفريغ السموم الطائفية على العرب السنة تحديدا.

ويمكن القول إن سجون السلطة والميليشيات وهي كثيرة جدا، قد امتلأت بهم وحدهم دون غيرهم من أبناء الطوائف الأخرى، علما بأن اختيار جميع القادة المسؤولين عن الأجهزة العسكرية والأمنية في الموصل كان يتم من قبل بغداد، وعادة ما كان يتم اختيارهم لهذه المهمة بناء على انتمائهم المذهبي، بمعنى أن جميعهم من الطائفة الشيعية وليس بالضرورة أن يكونوا عربا، وغالبية عناصر هذه الأجهزة كانوا ينتمون إلى ميليشيات طائفية قبل أن يتم دمجهم في صفوف الأجهزة الأمنية والعسكرية حسب القرار رقم 91 الصادر عام 2003 من قبل الحاكم الأميركي بول بريمر.

من هنا يمكن تفسير صور العنف المفرط الذي شهدته الموصل بحق أبنائها حيث كان ينظر إليهم، انطلاقا من رؤية مذهبية، من قبل الأحزاب الإسلاموية الشيعية الممسكة بالسلطة على أنهم من أتباع النظام السابق، وعلى أساس تلك النظرة لن يكون لهم أي ولاء للسلطة الجديدة خاصة وأن النسبة الأكبر من قادة الجيش العراقي والضباط الصغار والطيارين الأكفاء الذين شاركوا في الحرب العراقية الإيرانية كانوا من مدينة الموصل.

هذه العوامل وأخرى غيرها مجتمعة تفاعلت مع بعضها لتزيد من مساحة العداء بين العرب السنة من سكان الموصل والسلطة في بغداد، وبذلك توفرت خلف ستارة المشهد اليومي بكل فوضويته كل العناصر الممكنة لتطفو على سطح الواقع مشاعر عنف وكراهية لا حدود لها ضد كل ما يمت بصلة للنظام القائم، فكان هذا المناخ المشحون بالطائفية مناسبا لظهور وانتعاش التنظيمات الإسلاموية المسلحة المتطرفة مثل أنصار السنة والقاعدة وتنظيم الخلافة، ولم تبذل هذه التنظيمات جهدا في استقطاب قطاع واسع من أبناء المدينة من الطائفة السنية خاصة الذين ينحدرون من أصول قروية بعد أن وجدتهم معبئين بمشاعر الحقد والثأر ضد سلطة عاملتهم بقسوة وحرمتهم من حقوقهم في العيش والحياة.

بناء على هذه الظروف المعقدة واللاإنسانية التي تتحملها أحزاب السلطة، لا يمكن التقليل من أهمية وجود تيار قوي مجتمعي وسياسي، داخل مدينة الموصل بين العرب السنة يدعو أنصاره إلى أي صيغة من صيغ النأي عن سلطة بغداد خلاصا من علاقة سيئة معها باتت تفرضها عليهم، ربما تأخذ هذه الصيغة لديهم شكل إقليم في أقرب صورة واقعية لها أو الانفصال في أبعد صورة لها، وجميع الصيغ باتت مطروحة هذه الأيام ضمن إطار هذه العلاقة التي يتم تداولها بين أوساط الفعاليات المجتمعية والسياسية الموصلية طالما لا توجد في الأفق أي مؤشرات تفيد على أن هنالك تغييرا ملموسا يمكن أن يطرأ في منظومة السلطة الأيديولوجية وممارساتها القمعية تجاه العرب السنة، بل على العكس هنالك الكثير من الدلائل أفرزتها وقائع كثيرة خلال العامين الماضيين اللذين شهدا عمليات عسكرية لطرد داعش من المدن العربية السنية.

ثم جاءت عملية تحرير الموصل وما صاحب الاستعداد لها من شعارات طائفية أطلقها العديد من قادة الحشد الشعبي حيث اعتبروا فيها معركتهم في الموصل تصفية حساب مع أحفاد قتلة الحسين، فكان لتلك التصريحات وقع سيء على العرب السنة خاصة وأنها ترافقت مع تقارير صحافية واستخباراتية نشرتها العديد من الصحف والوكالات الدولية تتحدث عن عزم الحشد الشعبي الوصول إلى عدد من مناطق الموصل أبرزها فضاء تلعفر الذي يقطنه خليط من التركمان الشيعة والسنة بهدف السيطرة عليه وإحداث تغيير ديموغرافي فيه لصالح التركمان الشيعة، ليكون ممرا تصل من خلاله قوافل السلاح والميليشيات إلى الأراضي السورية دعما لنظام الأسد حيث يبعد الفضاء عن الحدود السورية العراقية مسافة 60 كلم.

إزاء الذي جرى العرب السنة في الموصل، كان من الطبيعي أن تزداد مخاوفهم من سلطة بغداد وأن تتكرس في داخلهم خيارات الابتعاد عنها، وصولا إلى خيار القبول بالحماية التركية الذي يروج له عدد من ساسة المدينة ليس بهدف حماية المدينة من التقسيم بقدر ما يرتبط ذلك بطبيعة العلاقة التي يرتبطون بها مع أنقرة وما تحققه لهم من مكاسب ذاتية.

بذلك تكون بغداد قد وفرت كل المقدمات لكي لا يطمئن إليها أبناؤها من العرب السنة في الموصل بعد أن جردتهم سياساتها الطائفية من مصداقية انتمائهم إلى وطنهم ووضعتهم بين مطرقة داعش وسندان الميليشيات.

كاتب عراقي

(العرب ) اللندنية

 

حتى لا تكون الموصل

بعد تحريرها ميدانا لثأر أعمى

 

مروان ياسين الدليمي

 

أخطر النتائج التي تمخض عنها احتلال تنظيم داعش لمدينة الموصل هي مشاعر الكراهية التي تعبأت بها نفوس الضحايا من الأقليات تجاه العرب السنة الذين يشكلون أغلبية سكان الموصل.

فما ارتكبه التنظيم من جريمة سبي الإيزيديات وتهجير المسيحيين والشَّبك، إضافة إلى استيلائه على بيوتهم وأملاكهم وما كان لهذه الأحداث من نتائج مأساوية وما حملته من أبعاد وتبعات على السلم المجتمعي، لم تعد بالتالي مسؤولية هذه الجرائم في نظر الضحايا من الأقليات يتحملها تنظيم داعش لوحده فقط، بل أصبح غالبيتهم ينظرون إلى العرب السنّة على أنهم يشاركون التنظيم هذه المسؤولية بكل تبعاتها الجنائية والأخلاقية، أولا لأنهم يتقاسمون معه الانتماء إلى دين ومذهب واحد، وثانيا لأنهم لم يواجهوه بالسلاح عندما دخل إلى المدينة واستولى عليها وربما فرحوا بدخوله، وثالثا لأن عددا من أبنائهم قد انتمى إلى التنظيم.

كل هذه الحجج تبدو منطقية للوهلة الأولى خاصة لمن لا يعرف حقيقة ما جرى ساعة دخول تنظيم داعش إلى الموصل وما شهدته شوارع المدينة من هروب مخز لأربع فرق عسكرية دون أن تتحمل مسؤوليتها في القتال، وسيقتنع بها تماما ويصطف إلى جانب الأصوات العالية المتشنجة التي تعلن، صراحة، أنّ على العرب السنة تحمل مسؤولية ما ارتكبه تنظيم داعش من جرائم بحق الأقليات، دون حساب لكل الملابسات التي سبقت عملية سقوط المدينة والتي تتحملها الحكومة العراقية وأجهزتها العسكرية والأمنية بما كانت تقترفه من ممارسات طائفية بحق العرب السنة تحديدا دون غيرهم من مكونات المدينة.

من تابع الأحداث على المستوى المجتمعي منذ سقوط الموصل في 10 يونيو 2014 يدرك جيدا أن ما أشرنا إليه من واقع بات يهيمن على تفاصيل الحياة اليومية وترك فيها تقاطعات وحواجز ومصدات سميكة بين العرب السنة والحكومة العراقية من جهة، وبين العرب السنة وبقية أقليات المدينة من الجهة الأخرى.

هذا الشرخ الكبير في العلاقات بين هذه الأطراف كشف عن نفسه بشكل واضح في مساحات مختلفة من قنوات التعبير والبوح، وتأتي وسائل التواصل الاجتماعي، خاصة فيسبوك وتويتر، في مقدمتها؛ فقد أمست صفحات هذين الموقعين ميدانا ساخنا تحتدم فيه المشاعر العدائية في ما بين المتابعين خاصة تلك الموجهة ضد العرب السنة بشكل لا يبعث على الاطمئنان إزاء مستقبل المدينة بعد تحريرها من سلطة داعش، ومجموع ما يكتبه المعلقون والمغردون يشير بأصابع الاتهام إليهم باعتبارهم شركاء لتنظيم داعش في الفكر والمذهب والجرائم التي ارتكبها بحق الأقليات.

ما يدعو إلى التساؤل أن العراق قد شهد العديد من المؤتمرات والفعاليات التي رعتها منظمات مجتمع مدني ومؤسسات حكومية لمواجهة تداعيات سقوط الموصل، إلاّ أن جميعها لم يأخذ بعين الاعتبار التوقف أمام ما أصاب العلاقة من ضرر خطير بين الأقليات وسكان الموصل من العرب السنة، بينما في مقابل ذلك نوقشت قضايا كثيرة لا يمكن التقليل من أهميتها منها ما يتعلق بالأضرار المادية التي لحقت بالأقليات، أو ما يتعلق بضمان حقوق هذه الأقليات وحمايتها بعد تحرير المدينة وعدم تكرار ما حدث بحقها من تجاوزات وانتهاكات وجرائم، وموضوعات أخرى تتعلق بالعمل على استحداث بنية إدارية جديدة في المناطق التي تتواجد فيها الأقليات بما يمنحها مساحة واسعة من الاستقلال في إدارة شؤونها وحياتها.

كل هذه القضايا التي استحوذت على اهتمام الحكومة والأحزاب ومنظمات المجتمع المدني خلال العامين الماضيين على الرغم من أهميتها الكبيرة وضرورة تناولها في مؤتمرات وندوات إلا أنها لن تكتسب أهميتها وجدواها إذا لم يتم العمل أولا على إعادة تصحيح ما طرأ على العلاقة من تشوهات بشعة بين جميع سكان الموصل نتيجة عملية الخلط العشوائي بين العرب السنة وتنظيم إرهابي مسلح لا يمكن إلاّ أن يكون شاذاً وطارئاً على تاريخ العلاقات الإنسانية بين مكونات المدينة وعلى نمط الحياة فيها، والتي اتسمت بالمحافظة والاستقرار والميل إلى التعايش، ولعل استمرار هذا التنوع الديني والقومي فيها طيلة العقود والعهود الماضية دون بقية المحافظات خير دليل على ذلك.

لن يكون للقرارات التي تخرج بها تلك المؤتمرات أي حضور مؤثر على الواقع إن لم تسبقها رؤية سليمة تتسم بالعمق وهي تفكر وتبحث في كل السبل الممكنة لإيجاد أرضية صحيحة تقف عليها جميع مكونات المدنية بعيدا عن منطق الثأر، وليس خافيا على أي مراقب لما يجري أن القوى السياسية والأحزاب كانت، ومازالت، حريصة على أن تلعب على وتر الكراهية والثأر لأهداف وغايات حزبية وانتخابية خاصة بها.

هذا المناخ المشحون بكل ما يكرسه من مواقف تطفح منها مشاعر العداء والثأر من العرب السنة وليس من تنظيم داعش، سيوفر أمام المتطرفين من كلا الطرفين كل العوامل التي تديم الصراع بينهما، وتدفع به بالتالي إلى مستويات خطيرة ربما سيكون من الصعب السيطرة عليها وتقدير فداحتها، وهذا ما حرص على إدامته أمراء الحروب من زعماء الطوائف بكل مسمياتهم طيلة العامين الماضيين، أولا لأنهم لا يملكون القدرة على إحداث التغيير المنشود في أوضاع الطوائف والأقليات التي ينتمون إليها ويدعون تمثيلها والدفاع عنها بمن فيهم زعماء وساسة العرب السنة، وثانيا لأنهم لا يريدون أن يحدثوا هذا التغيير، ومَرَدُّ ذلك يعود إلى طبيعة العلاقة الكاثوليكية التي تجمع ما بين المؤسستين الدينية والسياسية في النظام الإسلاموي القائم في العراق، والذي لم يتوان في أن يوظف منظومته الفكرية والإدارية لأجل أن يكون المواطن وقودا لنيران مصالحه الذاتية الضيقة.

أدرك جيدا أن قضية الموصل معقدة جدا وهي لا ترتبط بمسألة تحريرها بقدر ما يتعلق الأمر بمستقبل العلاقة التاريخية ما بين مكوناتها بعد أن أصيبت هذه العلاقة بضرر كبير، في الوقت نفسه لن يكون مستحيلا ترميم هذه العلاقة إن توفرت النية الصادقة والإرادة القوية، إلاّ أن العقدة تكمن في أن هذه المدينة باتت الميدان الأكبر وربما الأخير الذي تتصارع فيه وعليه القوى الإقليمية، وكل واحدة منها تسعى لأن تقتطع منه أكبر مساحة ممكنة من النفوذ والهيمنة على حساب وجود ومستقبل مكوناتها.

والأخطر في سياق هذا الصراع وبحجة الدفاع عن حقوق الأقليات أن يتم الدفع بها إلى محرقة ثأر أعمى سيأخذ منها كل شيء ولن يعطيها في المقابل أي شيء وسيكون تنظيم داعش هو الرابح الوحيد.

كاتب عراقي

مروان ياسين الدليمي

(العرب) اللندنية

 

 

القوّة الخفية

لتدمير الدولة العراقية

 

مروان ياسين الدليمي

يكاد معظم العراقيين يجمعون على ان نوري المالكي ما يزال في موقف الاقوى بين رموز المشهد السياسي العراقي بعد أن استولى على مفاتيحه رغم فقدانه الولاية الثالة لمنصب رئاسة مجلس الوزراء، ورغم الاخطاء الجسيمة التي ارتكبها وما خلفتهُ بالتالي من حمل ثقيل جدا لمن جاء بعده الى الحكم، لعل ابرزها فساد مالي واداري استشرى في كافة مفاصل الحياة لم يسبق له مثيل في تاريخ العراق الحديث، ولربما كيان الدولة العميقة اخطر مخلفات هذا الرجل التي حرص على انشائها طيلة فترة بقائه في الحكم التي دامت ثمانية اعوام.

من الخطأ الاستخفاف بالفكرة الشائعة التي تؤكد أن ايقاع المشهد ما زال رهن يديه، وان له القدرة على ان يحركه وقت يشاء بالشكل الذي يجعل موقف كافة الشركاء داخل العملية السياسية اقرب الى أن يكونوا في مأزق، ولن يجدوا امامهم من فرصة للخروج منه إلا عندما يطرقون باب قصره الفخم في المنطقة الخضراء، وهو واحدٌ من قصور كثيرة خلفها صدام حسين استولى عليها ساسة العراق الجدد.

جل ما سعى اليه المالكي أن يكون القوة الخفية التي تمسك بقدرات البلاد عن بعد بنفس الطريقة التي كانت عليها شخصية العراب في فيلم المخرج الاميركي فرانسيس فورد كابولا، فهو المهيمن على حياة المدينة بنفس القدر الذي يهيمن فيه على عصابات المافيا.

هذه ليست صورة مجازية، بل هي الاقرب لتوصيف الواقع، فلا أحد من المراقبين لخفايا المشهد السياسي العراقي بعد العام 2003 إلاّ ويدرك جيدا بأن مفهوم الدولة المتعارف عليه لم يعد له حضور بقدر ما حل محله مفهوم آخر يرتبط بطبيعة النظام القائم على تكريس الوجود المليشياوي، الذي تراجعت امامه سلطة الدولة الى الحد الذي لم يعد لها وجود إلا في حدود ما تلتقي مصلحتها مع مصلحة الوجود الميليشياوي ولا تتقاطع معه، والمالكي كان حريصا على ان يؤسس لهذا الوجود المليشياوي القوي، وان يدعمه بالشكل الذي يصبح فيه نسخة من الحرس الثوري الايراني، وسنشهد في قادم الايام تمدده وتوسعه ليس على الصعيد الامني والعسكري بل في اطار وجود اقتصادي معبر عنه في مؤسسات وشركات تستحوذ على اقتصاد العراق بدرجة كبيرة.

الدولة لم تعد تمتلك القدرة عبر جيشها ومؤسساتها الامنية على ان تتواجه مع المليشيا وعلى ان تحد من نفوذها، خاصة الحشد الشعبي الذي اسسه المالكي في اخر ايام حكمه بفتوى من مرجعية النجف، والعكس هو الصحيح، يتجلى ذلك عندما تتم المقارنة ما بين المساحة التي تتحرك فيها هذه المليشيات وتلك التي يتحرك فيها الجيش العراقي.

المالكي ومع المساندة التي يحظى بها من قبل نظام الملالي في ايران وخاصة من قبل المرشد الأعلى علي خامنئي الذي استقبله لاكثر من مرة وعبّر عن دعمه له في اكثر من مناسبة كان من الممكن ان ينال ولاية ثالثة بكل سهولة، لولا الخطأ الجسيم الذي ارتكبه في اخريات ايام ولايته الثانية عندما أمَر قوات الجيش العراقي بالانسحاب من الموصل وعدم مقاتلة تنظيم دولة الخلافة (داعش) حينما بدأ التنظيم تقدمه نحو المدينة في 8 حزيران 2014 مع ان حجم القوات العسكرية العراقية كان بحدود اربع فرق عسكرية، اضافة الى قوات الشرطة الاتحادية، اي ما مجموعه ستون الف مقاتل، يقابلهم عدد محدود جدا لدى تنظيم الخلافة لا يصل الى الف عنصر. هذا الحدث كان بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير وجعلته يتوقف مؤقتا عن السير نحو كرسي الولاية الثالثة، إلاّ أن نظره ما زال شاخصا نحوه.

بكل الاحوال سيبقى المالكي يتحمل مسؤولية الهزيمة والانهيار الذي لحق بالبلاد بعد سقوط مدينة الموصل في 10 / 6 / 2014 باعتباره القائد العام للقوات المسلحة انذاك، وليس بإمكانه التملص من هذه المسؤولية حتى بعد ان تم غلق ملف التحقيق الخاص بسقوط الموصل والذي تم بفعل الضغط الذي مارسته ايران خاصة المرشد الاعلى الذي اعتبر المساس بالمالكي خطاً احمر.

كثيرة هي ملفات الفساد في فترة حكم المالكي التي تم الكشف عنها، ولم يعد امرا مثيرا للأهتمام فيما لو طُرحت اية قضية جديدة بهذا الخصوص، لكن الواجب المهني يقتضي الاستمرار في التصدي لصور الفساد خاصة وانه ما يزال يسعى وبكل السبل من اجل العودة مرة اخرى حتى لو كان الثمن أن تذهب البلاد الى الجحيم. ولعل الاعتصامات الاخيرة في داخل البرلمان، والمواجهات المسلحة الاخيرة التي جرت في قضاء (طوزخرماتو) بمحافظة كركوك في منتصف هذا الاسبوع من شهر نيسان (ابريل ) الحالي ما بين الحشد الشعبي والبيشمركة جزءاً من خطته في استمرار مسلسل الفوضى داخل المشهد العراقي بالشكل الذي يصب في مصلحة بقائه في منطقة الرجل القادر على فتح وغلق اي ملف يشاء.

حيدر العبادي في بداية مجيئه الى رئاسة الوزراء سعى لأن يترك انطباعا جيدا لدى العراقيين يبدو فيه وكأنه عازم على البدء بمرحلة جديدة ينأى فيها عن اخطاء سلفه، فظهر متحمسا للإصلاح واراد ان يسبغ الشفافية على منهجه، ولأجل ان يتحول هذا الشعور الى شبه يقين لدى الناس بادر بالكشف عن وجود خمسين الف جندي فضائي في الجيش العراقي (فضائي بمعنى لا وجود له) وأن جميع رواتبهم تذهب الى ضباط كبار.

في حينها اثلج هذا الموقف صدور العراقيين وجعلهم يشعرون وكأنهم يقفون امام رجل جاء ليبدأ معهم عهدا جديدا قائما على احترام المال العام ومحاسبة الفاسدين، وبعد ايام معدودة عن خطابه الاول كشف ايضا وفي احدى المقابلات التي اجريت معه عن واحدة من صور الخراب التي خلفها سلفه، فقدّم ادلة يُثبت فيها بأن رواتب موظفي احدى القنوات الفضائية التي تعود ملكيتها الى المالكي شخصيا تصل الى ما قيمته مليون دولار شهريا تصرَف من ميزانية الدولة، علما بأن ما قاله العبادي لم يكن جديدا على من يتابع اخبارالفساد في الدولة العراقية فقد سبق ان نشره اكثر من موقع الكتروني وصحيفة عراقية.

إلاّ أن مثل هذه الاخبار عادة ما تضيع بين صور الفوضى الشائعة في العراق. وفيما لو جمعنا المبلغ الذي تم دفعه من المال العام الى قناة السيد المالكي منذ تأسيسها عام 2006 وحتى نهاية عام 2015 لحصلنا على الرقم الآتي: 108 ملايين دولار!

بهذا الرقم يستطيع العراق ان يبني جيشا ومؤسسات امنية تسحق التنظيمات الارهابية التي استباحت مدنه، ويستطيع ان يحفظ كرامة 4 ملايين نازح ومهجر يعيشون في اسوأ الظروف، ويستطيع ان يعيد بناء المدن المدمرة في صلاح الدين والانبار والموصل.

والسؤال الأهم الذي يطرح هنا: ما الفائدة التي جناها العراقيون من قناة فضائية كانت تكرس كل وقتها لتمجيد المالكي؟

هذه صورة واحدة من صور الفساد البشع الذي اسسسه السيد المالكي لبناء دولته العميقة والذي اصبح فيما بعد قانونا مقدسا لدى النواب والساسة، حتى انهم لما وجدوا الشعب قد ضاق ذرعا بهم وخرج الى الشوراع متظاهرا ضدهم ومطالبا باصلاح حال الدولة من هذا الفساد ركبوا موجة التظاهرات، واحتالوا على الناس المتظاهرين في الشوارع فاعتصموا داخل البرلمان بحجة محاربتهم للمحاصصة والفساد.

من يراقب الاحداث يعرف جيدا من يقف وراء هذه الخديعة، والهدف الذي يكمن وراءها، خاصة بعد ان اصدر مقتدى الصدر بيانا شديد اللهجة ضد المالكي شخصيا، متهما اياه بالسعي الى ان يكون القائد الضرورة (التسمية التي كان تطلق على صدام حسين) وبأنه يريد ان يركب موجة التظاهرات من اجل خداع الناس وايهامهم بأنه يسعى الى اصلاح احوال الدولة من الفساد، وكل ذلك من اجل ان يصل الى الولاية الثالثة.

وفيما لو وصل المالكي الى حلمه هذا، كم عدد القنوات الفضائية التي سيؤسسها ويصرف عليها من المال العام؟

ميدليست اون لاين

 

 

 

 

مشهد أول بعد سقوط التمثال

مروان ياسين الدليمي

هذه الساعة استعيد وبمرارة شديدة مشاعري في لحظة مفارقة من عمر التاريخ، كنت فيها قبل اربعة عشر عاما اتأرجح ما بين قلق غامض يعتصرني وفرح لا معنى له استشعر قدومه.

في ذلك اليوم ما بين الساعة الرابعة والخامسة عصرا كنت مع صديقي الممثل المسرحي طلال الحسيني نغادر حديقة الشهداء التي تعودنا ان نطوف اليها مذ كنا طلابا في المرحلة المتوسطة ما أن تضيق بنا الدنيا وباحلامنا، فنلجأ اليها، علنّا نبتعد بارواحنا المتعبة عن مسار القلق والاوجاع التي كانت تعيشها البلاد منذ عرفت الحروب.

قطعنا شارع حلب الذي يتوسط مدينة الموصل محاولين ان نسرع في سيرنا في محاولة منّا الوصول الى ساحة النقل العام حيث سنفترق هناك خاصة وان الاخبار التي شاعت في المدينة ان منع التجوال سيبدأ بعد الساعة السادسة مساء.

صديقي سيواصل السير على قدميه طالما ان بيته الذي يقع في منطقة خزرج لا يبعد سوى مسافة قصيرة عن وسط المدينة فلا يحتاج ان يستقل سيارة للوصول اليه، بينما كان علي ان احظى بسيارة اجرة توصلني الى بيتي الكائن في منطقة اليرموك التي تقع عند الطرف الجنوبي للمدينة وهي مسافة بعيدة تستغرق السيارة في قطعها مع شدة الازدحام اخر النهار اكثر من نصف ساعة.

لفت انتباهنا حشد من الناس يتجمهرون امام احد المقاهي المطلة على الساحة التي تنطلق منها سيارات النقل العام في منطقة باب الطوب. الجميع كانت تعلوا وجوههم علامات الاستغراب وكأن مصيبة قد حلت عليهم.

اقتربنا منهم، ذهب نظري بنفس الاتجاه الذي كانوا يحدقون فيه حيث كان التلفزيون في عمق المقهى ينقل وبشكل مباشر وعبر قناة الجزيرة الفضائية مشهدا لم يكن من الممكن استيعاب حدوثه في يوم من الايام. اعداد من العراقيين وهم فرحين يتجمعون حول جنود اميركان في ساحة تقع وسط العاصمة بغداد (تم تسميتها فيما بعد بساحة الفردوس). احد الجنود الاميركان يصعد الى اعلى تمثال الرئيس صدام ويحاول ان يغطي وجهه بالعلم الاميركي.

سحبني صديقي من يدي وقال لي:

- علينا ان نصل البيت باسرع وقت، هذه اللحظات ستكون اخر عهد لنا بالآمان، سوف نتحسّر على ما كنا ناقمين عليه.

لم اقتنع بما قاله، وشعرت ان هنالك مبالغة بهذا الاستنتاج. ولو لا ان صديقي رجل مستقل ولا صلة له بحزب البعث الحاكم ولا باي حزب آخر لقلت ان مثل هذا الكلام لا يصدر إلا عن شخص يرتبط بصلة وثيقة مع النظام.

-على العكس، اجد اننا سنكون امام مرحلة جديدة ستنفتح فيها امامنا افاق الحياة بعد ان كانت مغلقة طيلة الثلاثة عقود الماضية.

قبل ان نودع بعضنا وانا أهمُّ بالصعود الى الباص قال لي:

- مروان، حاول ان لا تخرج من البيت خلال الايام القليلة القادمة، انتظر ما ستفسر عنه الاحداث، فنحن امام مفترق طريق سنقف فيه حائرين لا ندري اي اتجاه ينبغي أن نسلكه، ولا أحد يعلم ماذا تخبئ لنا العاهرة اميركا.

في الطريق الى البيت كان الوجوم يسيطر على الركاب في الباص، كنت ارى في عيونهم المفزوعة ترقبا لحدث كبير سيقع في اية لحظة، بدوا مثل قنابل موقوتة تنتظر لحظة الانفجار.

في المقعد الذي يجاور السائق جلس رجل ملتحٍ في العقد الثالث من عمره يرتدي دشداشة بيضاء، التفت ناحية السائق وأطلق عبارة كانت اشبه بالرصاصة التي تعلن بدء سباق ماراثون طويل.

- لنرى ماذا جنى صدام بعد طغيانه؟

بتوجس التفت السائق نصف التفاتة نحوه، وبهدوء اشاح بوجهه عنه، ثم اخذ ينظر امامه. بدا السائق ساهما، في حالة من الشرود الذهني، حتى انني اصبحت على شبه يقين بأنه لم يكن يرى شيئا امامه في الطريق وان صورة الملتحي قد انطبعت امامه على طول زجاج السيارة الامامي مثلما انطبعت في مخيلته وما عاد قادرا على ان يطردها.

من المقعد الخلفي للباص جاء صوت هادئ رخيم لرجل كبير في السن عمره يصل الى الستين عاما.

- خلاص، لم يعد لهذا البلد من راع. غاب القط ليلعب الفأر.

فما كان من احدى النساء وكانت تلف جسمها بعباءة سوداء إلا ان عبّرت بصوت يحمل من الثقة الكثير بما تقول.

- هذا الذي تتكلمون عنه بعد ان كنتم ترتعدون من ذكر اسمه لا يستحق منكم هذا الكلام. صدام ليس طاغية ولا قطا.

لم يتمالك الملتحي نفسه ما أنْ انتهت المرأة من عبارتها، وكأن افعى قد لدغته، استدار نحوها وعلامات الغضب تتطاير مثل شظايا من وجهه.

- من تقصدين بأنتم؟

- انتم اصحاب اللحى، فقط الله وصدام يعلمان كم من الشياطين تقبع في لحاكم.

لم أكن اتوقع ان يقفز الملتحي من كرسيه مثل قط متجها نحو المرأة. تعالت اصوات الرجال والنساء في محاولة منهم ان يمنعوا كارثة قد تحدث في الباص. وقف شابان في العشرين من عمرهما حاجزا ما بين المرأة والملتحي، بينما كان هو يلوح بيده وهو يصرخ مهددا ومتوعدا.

- انتِ الشيطان، وامثالك من البعثيين، وقد جاءت الساعة التي سنعلِّمكم فيها بأن الله حق وما من أحد سواه.

حاول الركاب ان يعيدوا الملتحي الى هدوءه، إلاّ انه لم يكن يصغي لأحد، وبقي مستمرا في انفعاله وهو يلقي خطبة مليئة بعبارات الوعيد والقصاص بمن خرج عن الاسلام وارتضى ان يكون في عصبة الكفرة. وبعد جهد جهيد استهلك فيها السائق وبقية الركاب كل عبارات الرجاء والتوسل، اقتنع اخيرا بالعودة الى مقعده. بينما كانت المرأة تجلس مسترخية في مكانها دون ان تعير اهمية لما كان عليه الملتحي من غضب واستفزاز.

 

مروان ياسين الدليمي

ميدل ايست أونلاين

 

 

 

 

 

 

متى يعلن الصدر قيام

جمهورية العراق الاسلامية

 

مروان ياسين الدليمي

مقتدى الصدر بعد خطبته الاخيرة التي القاها يوم الاحد 27/3/2016 وسط الاف المعتصمين من انصاره امام بوابة المنطقة الخضراء والتي اعلن فيها قراره دخول المنطقة الخضراء لوحده والاعتصام داخلها كخطوة اولى للضغط على الحكومة حتى تستجيب لما دعى اليه من تغيير واصلاحات حكومية، لم يعد ممكنا تجاهل ما تهدف اليه حركته وما يحمله في داخله شخصيا من طموح كبير في ان يلعب دورا مهيمنا لا ينافسه عليه أحد في رسم مستقبل العراق السياسي.

وليس امرا مستبعدا لديه في أن يكون هذا الدور شبيها بالذي يلعبه حسن نصرالله والذي هيمن من خلاله على الحياة السياسية في لبنان، وما يلعبه كذلك عبدالملك الحوثي في اليمن.

على ذلك يمكن قراءة خطبته الاخيرة في انها تأتي بمثابة اعلان صريح للبدء في هذا المسار الذي سيمهُر العراق للفترة القادمة بختم الصدر، وسيصبح فيها على الاقل في مرحلتها الاولى صورة مصغرة عن حال الدولة اللبنانية التي تخضع لسلطة حزب الله.

المنحى الذي يأخذه مقتدى الصدر لا يخرج عن استراتيجية واضحة بدأت تعمل عليها حركات الاسلام السياسي الشيعية في المنطقة بدعم واضح من ايران منذ سقوط نظام البعث في العراق عام 2003، الذي كان يشكل عقبة كبيرة امام ما كانت تطمح اليه ايران في ان تتمدد بنفوذها السياسي في المنطقة العربية. من هنا كان الدعم الكبير الذي قدمته الى حزب الله في لبنان مما مكنه بالتالي في ان يمسك بيده ولوحده القرار السياسي لدولة لبنان، ولم يعد ممكنا ان يخرج اي قرار من القصر الرئاسي سواء يتعلق بالشأن الامني الداخلي او بسياسة لبنان الخارجية إلاّ بعد أن يحظى بموافقة حسن نصرالله. والمفارقة هنا عندما يكون المسيحيون هم الطائفة الاكبر في هذا البلد، بينما كل سياسات حزب الله ومواقفه تدفع به الى ان يكون بلدا يدور في فلك سياسات نظام طهران (سبق ان اعلن نصرالله منذ العام 1994 انه يسعى الى ان يكون لبنان جزءا من نظام ولاية الفقيه في واحدة من خطبه الشهيرة الموجودة على موقع اليوتيب) من بعد أن كانت نسائم الحرية والديموقرطية الغربية قد وجدت موطئ قدم لها في هذا البلد العربي، على الرغم من كونه محاطا بأنظمة أخضعت شعوبها لسلطة دكتاتورية وإن كانت باشكال مختلفة تفاوتت فيما بينها من حيث القسوة.

من الناحية الواقعية حزب الله يحكم لبنان، حتى ان الجيش وبقية القوى الامنية باتت في حكم الخاضعة للمسار الذي تفرضه ثوابت الحزب السياسية وما ينتج عنها من علاقات مع القوى الاقليمية والدولية.

بمعنى ان الدولة اللبنانية بكافة مؤسساتها ــ بما فيها الامنية والعسكرية ــ باتت تخضع لما يراه الحزب. فأعداؤه اعداء الدولة، واصدقاؤه اصدقائها، وليس العكس صحيحا في هذه الحالة.

هذه الصورة اتضحت بتفاصيلها بعد قيام حركة الاحتجاجات الشعبية ضد نظام بشار الاسد في 18/3/2011عندما رمى الحزب بكل ثقله السياسي والعسكري الى جانب الدفاع عن نظام بشار الأسد ضاربا بذلك ما كان يطمح اليه الشعب السوري بتغيير النظام السياسي الذي تقوده عائلة الأسد تحت غطاء حزب البعث منذ اربعين عاما. هذا الموقف لحزب الله اخذ الدولة اللبنانية معه الى حيث امست مواقفه ومصالحه تتجسد فيها وليس العكس. وهنا يكمن جوهر الخلل الجوهري الكبير الذي اقترفه الحزب بحق الدولة اللبنانية، التي تبدو كما لو انها قد اختطفت بقوة المليشيا المسلحة التي يملكها الحزب والتي تعاظم حجمها وقوتها الى الحد الذي لم يعد امام اي قوة سياسية لبنانية القدرة على أن تصطدم معه، وفي المحصلة النهائية وصل الحال بالدولة اللبنانية الى ان تكون جزءا من استراتيجية نظام طهران داخل المنطقة العربية، وقد ارتكزت هذه الاستراتيجية على دعم الحركات والانظمة والاحزاب التي تلتقي مصالحها مع مصالحه وإنْ كان يتم تسويقها للرأي العام الشعبي على انها استراتيجية المقاومة الاسلامية ضد دولة اسرائيل والمشاريع الاميركية في العالم الاسلامي.

حركة الحوثيين في اليمن لن تخرج عن هذا المسار فقد حاولت هي الاخرى بهذا الاتجاه ونجحت الى حد كبير في ان تسحب البساط من تحت اقدام جميع القوى السياسية التي كانت قد اعلنت معارضتها الشعبية لنظام علي عبدالله صالح مع بدء ما يسمى بالربيع العربي عام 2011، ومن ثم لتنفرد ولوحدها في اتخاذ القرارالذي يحدد مستقبل اليمن السياسي عندما انقلبت على السلطة الشرعية ممثلة بالرئيس عبدربه منصور هادي فاستولت على العاصمة صنعاء وامتد توسعها بشكل سريع نتيجة تواطؤ انصار الرئيس السابق خاصة الحرس الجمهوري لتصل بوجودها الى معظم مدن اليمن، رغم ان الحوثيين الذين يدينون بالمذهب الزيدي لا يشكلون في وجودهم السكاني سوى 10% من سكان اليمن.

وعلى الرغم مما تكبده الحوثيون من خسائر على الارض بعد ان اعلن التحالف العربي الحرب عليهم بقيادة السعودية (تأسس التحالف في 15 ديسمبر 2015) إلا انهم وكما يبدو لم يخسروا الرصيد السياسي الذي تمكنوا من تحقيقه على المستوى المحلي والدولي جراء صراعهم المسلح ضد قوات التحالف العربي. فقد اثبتوا قدرتهم على الصمود والقتال رغم الفارق في المعدات العسكرية الذي يميل لصالح التحالف العربي، بذلك لم يعد ممكنا في المستقبل تجاهلهم كقوة سياسية ينبغي ان يحسب لها حساب في رسم مستقبل اليمن السياسي حتى لو تمكن التحالف العربي من استعادة كافة المدن التي كان الحوثيون قد سيطروا عليها.

مقتدى الصدر لن يخرج في حركته عن تفاصيل الصورة التي اشرنا اليها، بذلك يأتي حضوره القوي والطاغي في اطار جهود ايران لإعادة انتاج نسخة نصرالله والحوثي داخل المشهد السياسي العراقي، في محاولة منها لتعويض ما كان قد لحق نفوذها من خسائر تكبدتها في اليمن بعد أن وصلت قوات التحالف العربي عند حدود العاصمة صنعاء بالشكل الذي اضطر فيه الحوثيون الى اعلان قبولهم التفاوض الذي كانوا يرفضونه طيلة الفترة الماضية التي سيطروا فيها على معظم المدن اليمنية.

كذلك ما شهده الوضع العسكري في سوريا من تغيرات، وما اصبح عليه الموقف الدولي بعد أن سحب الروس الجزء الاكبر من ثقلهم العسكري في 15 اذار مارس 2016 خاصة بعد أن كشف هذا الانسحاب فيما بعد عن تفاهم اميركي روسي ازاء مستقبل سوريا، لا يشكل فيه بشار الاسد اهمية كبيرة لدى الطرفين، وبات واضحا للمراقبين بان الروس ورغم تورطهم في الصراع العسكري إلاّ ان الاهمية القصوى لديهم تكمن في الحفاظ على مصالحهم الاقتصادية مع الحفاظ على الدولة والنظام دون ان تكون مسالة بقاء الاسد على راس السلطة في مقدمة اولوياتهم وهذا ما يتقاطع تماما مع رغبة ايران التي لا تريد سوريا من دون الاسد، لذا كان عليها ان تفكر في اتخاذ الاجراءات التي من خلالها تعوض ما ستخسره فيما لو غاب بشار الاسد عن رأس النظام في المرحلة القادمة.

هذه الاشارات على ما تحمله من تغير في رؤى القوى الكبرى للقضية السورية ستنعكس بالتالي بشكل سلبي على مستقبل حزب الله، بالشكل الذي سيرغمه على الانسحاب من سوريا بفعل الضغط الدولي، كما سيتضاءل دوره وتأثيره داخل لبنان بناء على ذلك.

ايضا علينا أن نأخذ بنظر الاعتبار ما حصل من حراك على المستوى الاقليمي وقفت خلفه المملكة العربية السعودية بعد أن امتنع لبنان التصويت على قرار مؤتمر وزراء الخارجية العرب الذي عقد في مبنى الجامعة العربية في 2 مارس 2016 الذي اعتبر حزب الله منظمة ارهابية، وقد ترتب على ذلك أن اوقفت السعودية معوناتها ودعمها المالي للجيش اللبناني. ولم يكن هذا القرار ذروة ما وصل اليه الصراع ما بين القوى العربية التي تتزعمها السعودية وبين ايران، بل جاء تأسيس التحالف الاسلامي العسكري الذي انشأته المملكة العربية السعودية في 15 ديسمبر 2015 بمثابة اعلان صريح على ان المواجهة قد بدأت ضد نفوذ ايران السياسي في المنطقة، ويبدو ان سوريا ستكون محطة رئيسة لاثبات مدى جدية هذه المواجهة في الايام القادمة.

بهذا السياق ينبغي ان لا ننسى ما كانت قد اتخذته بقية دول الخليج العربي خلال شهر نوفمبر الماضي 2016 من موقف موحد جاء منسجما مع توجهات السعودية والذي يتلخص في تجفيف المنابع التي يرتوي منها حزب الله في دول الخليج خاصة ما يتعلق بالاشخاص والشركات والجمعيات التي تدعمه، فابتدأت فعلا وبشكل سريع بتطبيق ما اتفقت عليه واقدمت على ابعاد اي شخص تثبت التحقيقات ان له صلة بحزب الله.

يبدو من الخطأ النظر الى مقتدى الصدر على انه قائد او زعيم سياسي يملك رؤية خاصة تحمل في داخلها خصوصية وجاذبية يمكن المراهنة عليها في بناء دولة تنهض على اسس متينة على انقاض دولة الفساد القائمة. والاعداد الكبيرة التي خرجت ملبية لدعوته لا يعنيها حقيقة وتفاصيل مشروع الاصلاح الذي يدعو اليه بقدر ما استجابت لدعوته انطلاقا من المكانة الدينية التي يحظى بها والتي يعود الفضل فيها الى والده محمد صادق الصدر الذي كان واحدا من المراجع الكبار لدى شيعة العراق قبل ان يتم اغتياله في فبراير عام 1999.

لو عقدنا مقارنة مابين شخصية مقتدى الصدر وبين حسن نصرالله، فمن المؤكد اننا سنخرج بنتيجة لن تكون ابدا لصالح الصدر، ولن يتمكن فيها بكل الاحوال من مجاراته. فنصرالله لا ينقصه الدهاء ولا الكاريزما مثلما هو الحال لدى الصدر، كما يمكننا القول بأن الحوثي يبدو الاقرب في تقليده لشخصية نصرالله من الصدر الذي يفتقر الى ثقافة سياسية تؤهله لكي يبدو امام العراقيين جميعا وليس امام انصاره من الشيعة فقط على انه يملك مشروعا سياسيا وطنيا بديلا عن المشروع السياسي الطائفي الفاشل الذي بناه حزب الدعوة، مع اننا يجب ان لا ننسى بأن الصدريين ممثلين بكتلة الاحرار كانوا جزءا جوهريا من التحالف الوطني الذي يتزعمه حزب الدعوة، اي انهم يتحملون مسؤولية الفساد والخراب الذي اصبحت عليه البلاد.

في رؤية ما أقدم عليه الصدر عندما نصب خيمة اعتصام له داخل المنطقة الخضراء يوم الاحد 27/3/2016، لم يكن ممكنا تجاهل ما أشرنا اليه، من هنا نستطيع القول بأن خطوته هذه بغاية الاهمية في دلالتها وبما تهدف اليه وما ستخلفه من نتائج سواء في مستقبله او مستقبل النظام السياسي في العراق. فمن خلالها اراد الصدر أن يملاء فراغا واضحا في المشهد السياسي عجز عن ان يملأه اي واحد من ساسة التحالف الوطني الشيعي الذي يمسك بزمام السلطة خاصة بعد تردي شعبية المالكي على اثر هزيمة الجيش في الموصل في اخر فترة من ولايته الثانية وما نتج عن ذلك من سقوط سريع لمحافظة صلاح الدين والانبار والحويجة في محافظة كركوك تحت سلطة داعش، وما شاع من صور الفساد المالي والاداري خلال فترة حكمه التي دامت ثمانية اعوام، خاصة وان المالكي طيلة فترة حكمه وحتى قبل سقوط الموصل في 10/6/2014 ظل يشكل الاسم الذي راهنت عليه معظم القوى الشيعية في بسط سيطرتها وامساكها لعصا السلطة نظرا لما يتسم به من تعصب طائفي واندفاع كبير باستخدام القوة المفرطة ضد القوى والشخصيات السياسية التي تعارضه خاصة تلك المحسوبة على الطوائف الاخرى.

الآن في هذه اللحظة التي يجلس فيها الصدر تحت خيمته يسجل اول خطوة في مسار تعطيل عجلات نظام سياسي تم بنائه بعد العام 2003 على اساس المحاصصة الطائفية ولم يحظَ بقبول غالبية العراقيين بعد ان منح الفرصة كاملة للصوص والانتهازيين والمجرمين حتى يتسيدوا المشهد العام. كما أن هذه الخطوة قد جعلت الصدر يضع اللبنة الاولى في اساس نظام ولاية الفقيه او ما هو على شاكلته، بعد ان نقلت عدسات الكاميرات للعالم صور الولاء والطاعة ــ وذلك بتقبيل يده ـــ من قبل جميع ضباط الجيش العراقي المسؤولين عن حماية الساسة القابعين في المنطقة الخضراء. ولنا ان نتصور كيف سيكون رد فعل هؤلاء الضباط غدا، فيما لو طلب الصدر من اتباعه المعتصمين ان يقتحموا الاسوار وأن يجتازوا البوابة وأن يحتلوا المنطقة الخضراء ليعلن قيام جمهورية العراق الاسلامية خاصة وانه كان واضحا في خطاباته برفضه التام لكل التيارات والافكار العلمانية التي وجدها تعلن عن نفسها هذه الايام، فما كان منه إلا أن دعا اصحابها الى ان يضعوها في جيوبهم او يرمونها في الحاويات مع الزبالة.

 

مروان ياسين الدليمي

ميدل ايست أونلاين

 

 

 

 

 

 

 

غداً سنضع العمامة على رؤوسنا

مروان ياسين الدليمي

 

مقتدى الصدر يعرف جيداً الى ماذا يريد أن يصل بتظاهراته، وكما يبدو أن الوقت يمضي لصالحه على الأقل في حدود المنظور وما عاد خافيا على الذين يتابعون حركته ما يحمله هدفه من اثر واضح إنْ لمس الأرض ظله، بذلك يكون قد انجز بالنيابة ما يحمله قادة التحالف الوطني في اجندتهم من حلم مشترك طالما انتظروا الوقت المناسب للبدء بتحقيقه.

هنا تكمن نقطة الافتراق الجوهرية مع جماعة التيار المدني والشيوعيين ومن معهم من قوى تُحسبُ في خانة اليسار فجميعهم يفتقرون الى الرؤية السليمة والواقعية ـ وإن كان لاينقصهم التنظير لكن في حدود التلاعب بالالفاظ ـ طالما هم يعتقدون واهمين بأن السيد مقتدى يسعى فقط الى احداث اصلاحات في جسد النظام بهدف القضاء على الفاسدين، متجاهلين او غافلين محتوى خطاباته التي يكشف فيها بصراحة ووضوح تامين الى قطع الطريق بشكل تام عن اية تطلعات في بناء دولة مدنية.

من هنا ينبغي أن ننطلق لكي نضع النقاط على الحروف لتتضح لنا الدوافع التي تقف وراء اعتصامه الذي ابتدأ اول أمس، والذي يمكن اعتباره بمثابة خطوة اولى تمهد الطريق باتجاه الوصول الى الهدف الاكبر وذلك باعلان الدولة الدينية، من هذا المنظار يمكن رؤية الاصلاحات التي يدعو اليها كمقدمة اولى.

وبعد أن تكون قد انتهت عملية اجراء التعديلات والاصلاحات وجميعها لن تكون سوى اجراءات شكلية سنكون امام لحظة تاريخية مفصلية سنواجه فيها انفسنا فإذا بنا شيئا فشيئا ونحن نقبع تحت نظام سياسي صورته اقرب الى شكل النظام القائم في ايران، هذا إن لم يكن نسخة طبق الاصل عنه.

حركة الصدر ليست تغريدة منفردة خارج السرب، ولم تكن مفاجأة في شكلها ولا مضمونها ولا توقيتها لاطراف اللعبة الرئيسيين في المشهد السياسي العراقي وتحديداً التحالف الوطني، بل هي ما كان لها أن ترى النور لو لم تكن خارجة من ادراج اجندته وتحظى بدعم كامل منه، وإن بدا لنا العكس في ظاهر المشهد.

وبطبيعة الحال تبقى ايران الراعي والداعم الرئيس لهذا التحول المرتقب الذي تسعى اليه بكل ما تستطيع وليس هناك ما يمنعها في تهيئة الاجواء الملائمة له سوى انتظار الوقت الملائم الذي لا تجد فيه ما قد ينتج عنه من احتكاك مع الموقف الاميركي بسبب رفضه له.

اما فيما يتعلق بجماعة التيار المدني اللاهثين خلف الصدريين في تظاهراتهم بطريقة تعكس عنهم صورة ليست في صالحهم ولا ترشحهم بموجبها لأن يكونوا رهانا مقبولا في احداث التغيير وبناء دولة مدنية، والغريب انهم قد ارتضوا في ان يختزلوا انفسهم على هذه الصورة عندما مشوا خلف جماعة الصدر على الرغم من ان السيد مقتدى كان قد اعلن رأيه صراحة بهم، عندما رفض ولأكثر من مرة العلمانيين ودعواتهم في اقامة الدولة المدنية، ولا أدري إن كانوا يعلمون أم لا يعلمون - وعلى الاكثر لا يعلمون - بأنهم يدقون بأيديهم اخر مسمار في نعش الدولة المدنية التي طالما حلم بها العراقيون.

ازاء ذلك ينبغي على جماعة التيار المدني بكل ألوانهم ومسمياتهم أن يتحملوا نتائج موقفهم المنخرط مع الصدريين طالما لم يدققوا فيه جيدا ولم يعيروا أهمية لحقيقة البون الشاسع الذي يفصل ما بينهم وبين الذي يدعو اليه السيد مقتدى من افكار تتعلق بشكل وجوهر النظام السياسي الذي ينشد تحقيقه، بالتالي ان يتحملوا ايضا ما سيترتب على ذلك من خسارات سيدفعونها، وفي مقدمتهم الحزب الشيوعي، مع ان حاله بعد العام ٢٠٠٣ لا يحسد عليه بالقياس الى ما كان عليه من مكانة ورصيد شعبي طيلة اكثر من نصف قرن مضى عليه منذ تأسيسه عام ١٩٣٤ إذ لم يستطع ان يحظى ولو بمقعد واحد في البرلمان.

السؤال الذي يطرح بهذا الخصوص: ما الذي دفع الحزب الشيوعي الى ان يغامر بورقته الاخيرة في لعبة يدرك جيدا قبل غيره انه لن يجني منها شيئا، هذا إن لم يخرج بخسارة كبيرة لا يمكن ان يتجاوزها مثلما تجاوز ما كان قد مر عليه من محن وتحديات خلال مسيرته الطويلة.

اما البقية الباقية ممن يحسبون انفسهم على التيار المدني فبالاضافة إلى أننا لم نستطع ان نحدد لهم لوناً او شكلاً يميزهم عن بعضهم، فهم لا يعدون في حسابات القوى المؤثرة في المشهد العام سواء حضروا أو غابوا، ووجودهم مع تظاهرات الصدريين لن يدفع بهم ولو بخطوة واحدة الى الامام، بل على العكس سيضيعون بين حشود المشهد الصدري.

المشهد القادم سيضع العراق على اعتاب مرحلة مفارقة سيتخلى فيها قادته عن التمثيل ولعب الادوار التي طالما ارغمتهم الظروف والتحالفات وخاصة مع الاميركان على أن يتشبهوا في شكلهم الشخصي وشكل نظامهم مع صورة العلمانيين والدولة المدنية وفي الحالتين يجدون انفسهم غرباء عن انفسهم.

بموجب ذلك سيتمخض عن هذه المرحلة صورة جديدة للعراق/الدولة، تبدو فيها خالية من الرتوش والمساحيق المدنية التي طالما تزين بها قادته طيلة الاعوام التي اعقبت العام ٢٠٠٣ مستعيضين عنها بأن نضع العمامة فوق رؤوسنا.

 

مروان ياسين الدليمي

 

ميدل ايست أونلاين

 

 

صورة الزعيم .....

ترسمها مخيلتنا ويحطمها الواقع

 

مروان ياسين الدليمي

 

عندما يعجز اي مسؤول كبير ــ ساعة يتولى منصبا كبيرا مثل منصب رئيس الوزراء ــ  عن اثبات كفائته خلال ثمانية اعوام (مثل نوري المالكي) وتضيع البلاد بسببه في متاهة الدم والخراب والعنف الطائفي ، ويستشري بسببه  الفساد، بمستويات غير معقولة لم تمر بها منذ تأسيسها، وتتأكل خارطة الوطن الى اقل من نصف مساحتها ، ويُرتهُن النصف الآخر ــ بتاريخه ووجوده وسكانه ــ تحت سلطة حفنة صغيرة من القتلة والمجرمين الارهابيين ، فمالذي يمكن ان يوصف به هذا المسؤول سوى  أنه فاشل ، ونتيجة ذلك يتحمل مسؤولية ماوصلت اليه البلاد من دمار .

ولنا العذر عندما نكون في حيرة من امرنا ،ونحن نبحث عن وصف ملائم يليق أن نوصم به الشعب ساعة نجده يخرج لاستقبال هذا المسؤول بالزغاريد والاناشيد الوطنية.

من لايعرفه سيسقط في دائرة الوهم ويعتقد بأن الشعب قد خرج للأحتفاء بمحرر البلاد من المحتل الغاصب وليس المسؤول عن ضياعها  وفتح الابواب مشرعة لقوى الارهاب حتى تحتلها.

أو يعتقد بأن هذا المسؤول المحتفى به قد جلب الخير والنعمة للناس وليس سارقا لقمتها .

هذا ماحصل قبل عدة ايام عندما استقبل حفنة من الصحفيين والاعلاميين والكتاب وفي مقدمتهم نقيب الصحفيين العراقيين رئيس الوزراء الاسبق نوري المالكي  . . !

عندما تُطعن البلاد من كل الجهات وبشتى انواع الاسلحة وتصبح مشلولة وعاجزة عن السير خطوة الى الامام،مالذي يدفع الناس إلى أنْ تخرج وهي تردد  شعارات التأييد والتمجيد لِمَنْ كان مسؤولا عن طعنها ؟

مالذي يدفعها لأن ترقص وتغني وتصفق مهللة به ؟

لماذا تصرالناس على  أنْ يتولى قيادتها  مرّة اخرى ؟

هل يمكن للشعوب أنْ تصل الى هذه الدرجة من الغيبوبة في  وعيها ؟

هل يمكن أنْ تكون على هذه البلادة رغم مااصبحت عليه من وضع مزرٍ وبائس ؟

وهل يمكن أن تتغاضى عن تحميله مسؤولية  ماوصلت اليه احوالها واحوال البلاد ؟

وهل الحالة المرضية هذه باتت مرهونة فقط بشعوب المنطقة العربية،أم أننا يمكن ان نجد لها مثيلا لدى شعوب اخرى ؟

أكاد اجزم على أننا نملك ولوحدنا حق الامتياز بهذا الانحدار المخيف في الوعي دوناً عن بقية الشعوب،ذلك لاننا ورغم كل ماجرى علينا من نكبات وانكسارات وهزائم، يتحمل مسؤوليتها  ساسة وزعماء مازلنا نسجد وندعوا لهم ونزحف ليل نهار خلف ظلهم وظلمهم وظنهم وضعفهم.

مازلنا لم نستيقظ مما نحن فيه وعليه من حالة انفصام عقلي ونفسي ووجداني .

الغريب بما نحن عليه أننا نتأرجح مابين اقصى درجات الغضب رفضا وشجبا واستنكارا لما نحن فيه من حال بائس عندما نختلي بانفسنا،بينما نكون في أدنى درجات الانحطاط ونزحف على بطوننا فرحا وخضوعا أمام الزعيم الفاشل  لحظة زيارته لنا فيتحول ذاك الغضب الذي نحمله بين اضلعنا طوال سني الحرمان والقهر الى فرح طاغٍ  ما أنْ تتكحل عيوننا  برؤية  المسؤول عن محنتنا  !  ؟

لماذا في مثل هذه اللحظة الخارجة عن سياق السلوك البشري الطبيعي تنسى أو تتناسى الناس ــ  هنا ــ  مصائبها ،وبدلا من أنْ تُطلق صرخة احتجاج بوجهه ، وتقذفه بالبيض والطماطم الفاسدة أو ترميه في حاوية الزبالة ،تجدها مثل القردة،في اقصى درجات الغباء والاستغباء وهي تتسابق في الرقص أمامه .

لنْ أُوجِّه خطاب السّخط  هذا ضد أولئك الذين يُطلق عليهم نخبة مثقفة،لأننا قد تعوّدنا أنْ نجدهم دائما في مقدمة المستقبلين المنبطحين،وتجاربنا القريبة وليست البعيدة،قد لقنتنا دروسا قاسية بما يكفي لكي نفهم حقيقة هذه النخبة ومدى هشاشتها.

وعليه لنْ يشملهم سخطنا،لكننا لنْ ننسى أنْ نواسيهم على ماهم عليه من بؤس طالما هُم يعيشون حالة وهَمٍ كبيرٍ،يجدون أنفسهم فيه أكبر بكثيرمن حجمهم ومن حقيقة الدور الثقافي الذي يمارسونه.

وكما يبدو فهم ليسوا سوى كائنات خاصة لاترتبط بصلة واقعية مع الحياة ، وغالبا مايكون فهمها المُعبّأ في منتوج خطابها الابداعي والثقافي لايخرج عن كونه حوار داخلي مقطوع الصلة مع الخارج،وحتى لو اكتشفَتْ هذه النخبة في لحظة ما قطيعتها هذه ،فلن يكون لديها الاستعداد لأنْ تعترف بمسؤوليتها عنها، بل سيجعلها هذا الاكتشاف اكثر نرجسية مما هي عليه، لأنها ستشعر بان لغتها ارفع بكثير من أن يفهمها العامة،وليست من مسؤوليتها ازاء هذا الحال أنْ تتنازل عن ماوصلت اليه لغتها من تكثيف وتجريد وترميز وتهليس،لترمي المسؤولية بالتالي على العامة في أن تتحمل حالة اللافهم او القطيعة القائمة بينهما .

هي اذن نخبة لديها شعورفردي متضخم ، يجعلها على قناعة عميقة بأن  سمعها وبصرها واحساسها ليس فيه مايشبه العامة بشيء .

لمدة تصل الى ربع قرن من الزمان كانت الملايين من الناس تصفق لعبد الناصر وصدام حسين والقذافي وحسني مبارك وحافظ اسد ،إنْ دخلوا حربا صفقت لهم دون أنْ تسأل لماذا ، وإنْ جاءت الهزيمة صفقت لهم من غير أنْ تسأل لماذا ، وإنْ تم اعتقالها في الاقبية والسجون والمعتقلات سنين طويلة لاتجرؤا على أنْ تسأل لماذا ، وإنْ حُشرتْ في سياسة تقشفية تجويعية طويلة لانتيجة من ورائها لنْ تجروا على أنْ تسأل لماذا ،وهاهي مصر ايضا تعيد انتاج هذه الميلودراما المملة المقرفة ،مرة اخرى مع السيسي متجاهلة ومتغافلة نضالها الذي ادهش العالم في 25 يناير ولتشطب مفردة (لماذا) من قاموس مفرداتها .

حكَّام المنطقة العربية قد اتفقوا جميعا على أن يفطموا شعوبهم على كلمة(لماذا)مَا أنْ يصل اي واحد منهم الى السلطة،مع أنَّ مابينهم من خلافات ونزاعات شديدة تجعل اي واحد منهم لايتردد في أن يدفع بجيشه ليحتل البلد العربي المجاور له.

ولمّا تحين الساعة التي لامفرَّ منها عندما يسقط الحاكم العربي بين يدي شعبه ويتلقى الاهانات والشتائم والضرب،تجده لايردد على لسانه سوى كلمة لماذا وهو يخاطب الجمهور الغاضب. . ! وكأنه لايعرف لماذا .

ولنا أن نستعينَ بذاكرتنا لنستعيد الكلمة التي كان يرددها العقيد القذافي لحظة القبض عليه .

لماذا  ..

لهذه الكلمة / السؤال ، سحر عجيب ، إذ تحمل في داخلها طاقة الخلق والابتكار،وجنوحا الى المعرفة،ولهذا يتم مصادرتها من قاموس شعوب المنطقة  لتصبح في طي النسيان .

أي مواطن لن يخطر في باله أنْ ينطق بها أمام الحاكم الفاشل فيما لو التقاه وجها لوجه، لأنه لم يتعود عليها ، ولم يعرفها ، وليست في قاموسه الذي يزخر بمفردات التهليل والتصفيق والتهريج والتزييف.

وفيما لو نطق بها شخص ما سيكون متهما إما بالجنون أو الشذوذ أو الخرف هذا إنْ لم تكن الخيانة .

(راي اليوم) اللندنية

 

 
 
 
 
 
 
 

هل أنا بكامل قواي العقلية؟

 

مروان ياسين الدليمي

 

أحيانا يداخلك الشك بما تدركه عن الواقع الذي تعيش محاطاً بظلاله وآظاليله، رغم انك بكامل قواك العقلية، ومازلت تحظى باحترام الناس وتقديرهم اينما ذهبت وحللت، ومازلت تملك حضورا مهنيا مميزا في المكان الذي تعمل فيه ولهذا مازلت تتقدم في عملك درجة بعد اخرى، وجيرانك مازالوا يستشيرونك كلما عجزوا عن حل معضلة تواجههم في الحياة، هذا يعني بأنك مازلت بكامل قواك العقلية ولم يحن الوقت بعد لتدخل عالم الشيخوخة والخرف.

إلاّ أنك وفي كثير من الاحيان ينتابك احساس قوي بأنك لست على ما يرام، وانك قد وصلت مرحلة عقلية لم تعد فيها صالحا لتفسير وتحليل الاوضاع في بلدك.

مثل هذا الاحساس يداهمك بين فترة واخرى ما أن يصلك تصريح لسياسي عراقي(نوري المالكي)يطالب العراقيين بأن "يرتقوا بافاق وعيهم وانتمائهم الوطني والانساني وان يتخلوا عن افكارهم المتخلفة والطائفية القائمة على رفض الآخر!"، رغم ان هذا السياسي يعد المسؤول الأول عن تأسيس وتنظيم الميليشيات الطائفية خلال فترة ولايته التي استمرت ثمان سنوات، والمراقبون للأحداث يدركون جيدا مارتكبته هذه الميليشيات من انتهاكات وتجاوزات تصل الى مستوى جرائم حرب اثناء مشاركتها مع قوات الجيش العراقي في عمليات تحرير المدن العراقية المحتلة من قبل تنظيم داعش خاصة في محافظتي صلاح الدين وديالى.

أمام مثل هذه التصريحات التي تستهزئ وتستخف بعقلية المواطن لابد أن تقف مذهولا! وهنا لابد لك في أن تسأل:

- من المقصود بهذه الدعوة؟

هل يُقصدُ بها المجتمع العراقي الذي لم يعرف الطائفية بصورتها البشعة والدموية إلاّ بعد أن جاء امثال هذا السياسي بعد العام 2003؟

أمْ أنَّ العراقيين طائفيون ولم يكونوا على ادراك بطائفيتهم، وأنَّ الفضل في إدراك مصيبتهم يعود لمثل هؤلاء الساسة، لأنهم ازاحوا غشاوة الجهل عنهم؟

تلازمك الحيرة ويستولي عليك الشك طالما تجد ساسة العراق لا ينفكون يمارسون على الناس دونما خجل دور المصلحين الطاهرين لاحوال الناس بعد أن أغرقوهم في الدم والفساد، وتراهم ليل نهار متأنقين على شاشة الفضائيات وهم يصرخون في حواراتهم مع خصومهم من اتباع الطائفة الاخرى عن ضرورة الايمان بفكرة التسامح والتآخي وقبول الآخر.

وفيما لو بحثت في ملامح وجوههم عن علامة واضحة تعينك على ان تتأكد بأن ما تسمعه منهم مجرد ثرثرة فارغة واكاذيب تعودوا على تكرارها في كل مناسبة يظهرون فيها فأنك من الصعوبة بمكان أن تعثر على ما تبتغيه، بل على العكس من ذلك سيزداد الشك بنفسك انت، عندما تجدهم يحلفون بأغلظ الايمان ويتمسحون بالاولياء والقديسين دعما لكلامهم.

لقد وصلت قدرات ومهارات ساسة العراق على الكذب والتزييف حدا لم يعد فيه المواطن لديه الاستعداد لأن يصرخ بوجههم متهما اياهم بالكذب، وعلى سبيل المثال نجد السيد وزير خارجية العراق ابراهيم الجعفري وفي حوار اجري معه من قبل احدى الفضائيات المصرية قبل عدة اشهر (الحوار موجود على موقع اليوتيوب) لم يتوان عن تغيير الموقع الجغرافي الذي ينبع منه دجلة والفرات من تركيا الى ايران! من غير أن يستدرك فيصحح العبارة التي وردت على لسانه، بل استمر في حديثه داعما ومؤكدا صحتها.

فهل من الممكن أن الجعفري لا يعلم بأن دجلة والفرات ينبعان من تركيا وليس من ايران؟

أم ان الامر وصل بساستنا ــ جراء كراهيتهم للنظام السابق وطائفيتهم التي لا يترددون في الافصاح عنها ــ إلى انهم يريدون تغيير كل شيء بما في ذلك الجغرافيا، وإن كان ذلك ضد المنطق والطبيعة والتاريخ، وحتى لو عرضهم هذا الموقف الى السخرية من عامة الناس؟

الامثلة على عدم الشعور بالخجل باعتبارها صفة ملازمة للساسة العراقيين ــ الذين جاءوا بعد العام 2003 باعتبارهم محررين ومنقذين للشعب العراقي من جور الانظمة السابقة ــ كثيرة جدا، وفيما لو حاولنا المرور عليها وكتبنا عنها تحليلاً وتفسيرا وتعليقا، لتراكمت امامنا مجلدات ضخمة.

وفي لحظة من لحظات الحيرة والشك الذاتي، تعود لتسأل نفسك مرة اخرى: ألا يكفي رؤية ما وصل إليه حال البلاد من انهيار تام لم تكن قد وصلت اليه خلال المائة عام الماضية في كافة مفاصل الحياة الاقتصادية والخدمية، هذا اضافة الى حالة الانقسام الطائفي الحاد التي تمكن امثال هؤلاء الساسة من زرعها بين مكونات المجتمع، للتأكد من أنك لم تكن مغيبا عن الوعي ولست بطائفي عندما حملتهم مسؤولية كل هذا الخراب؟

 ميدل ايست أونلاين

مروان ياسين الدليمي

 

 

إلى أين يذهب بنا حزب الدعوة الحاكم؟

مروان ياسين الدليمي

 

كما هي الاحزاب والتنظيمات الاسلاموية (سنية وشيعية) فإن طائفية الفكر التي تحتقن بها ايدولوجية حزب الدعوة الحاكم جعلته أعمى، لايبصر شيئا، ولا بإي طريق يمشي، وإي اتجاه ذاهب إليه، وأي مصير ينتظره وينتظرنا نحن جميعا، بعد أن خدعنا بسحر الكلام عن الديموقراطية والتعددية واخذنا معه في متاهته التي وكما يبدو ستنتهي بنا مثلما هي النهايات المتوقعة للأبطال الحمقى في المسلسلات الخيالية عندما يقفزون عاليا بينما اقدامهم من طين.

هو يدرك جيدا بؤس النهاية التي رسمها لنفسه وللبلاد التي يحكمها منذ ثلاثة عشر عاما وهذا مما لا يمكن الشك به، لأن ما هو عليه الحزب من حال واحوال هذه الايام، سبقه اليها آخرون قبله، هنا وهناك، وسينتهي هو ايضا الى نفس ما انتهوا إليه، ولن يبقى منه سوى ذكريات مُرّة تصيب الناس بالوجع كلما داهمتهم فجأة.

باعتباره حاكما لدولة العراق، التي امست بفعل سياساته على مفترق طرق كلها ستؤدي بنتيجتها الى صورة اخرى لم يكن يتوقعها اكثرنا تشائما، وفي افضلها بأحس الاحوال ستقسم الى دويلات صغيرة على اسس غير وطنية (طائفية، قومية، اثنية) وليس مهما إن كانت ثلاث دويلات او أكثر من هذا العدد، فالمهم هنا أن الدولة الواحدة التي طالما تغنت بها الاجيال في الاناشيد ودفعت ثمن بقائها عشرات الضحايا على مدى عقود ستزول من الذاكرة بقرار اممي.

وحتى اولئك الذين سيبقون حتى آخر لحظة يصرخون من اجل بقاء الدولة العراقية الواحدة الموحدة سيذعنون لما ستؤول إليه الاحداث وسيتعاملون معها في اليوم التالي وكأن لم يكن في يوم ما دولة اسمها العراق، وسيبحثون لهم عن مناصب في دويلتهم الصغيرة.

حزب الدعوة الحاكم بات وضعه صعبا جدا، اشبه بذئب جريح، لا يمكن أن يُحسده على ما هو عليه من محنة حتى اعدائه، وما من سبيل أمامه للخروج منها سالما.

هواجس الشك والخوف وانعدام الثقة من كل الذين يحيطون به، صارت تلازمه في كل خطوة يخطوها وكل قرار يتخذه قادته، لأنه قد أدرك تماما حقيقة أنه ذاهب لا محالة الى التهلكة ذاتها التي دفع خصومه إليها.

الجلوس على عرش السلطة طيلة ثلاثة عشر عاما بما وفر له من مغريات ما كان يحلم بها، مِن مالٍ وجاهٍ وسطوةٍ افقده الاحساس بالظلم، ذاك الشعور النبيل الذي كان يتشارك به مع المقهورين ايام كان يحارب ضد النظام السابق، حتى أن قادته ما عادوا ينتمون في حقيقة الأمر الى طائفتهم التي طالما تاجروا طويلا بمظلوميتها، بل على العكس نجدهم اليوم اوغلوا كثيرا في تجاهلها مثلما تجاهلوا بقية المكونات والطوائف في المجتمع العراقي، ولم يعد يشغلهم ما هي عليه من بؤس، فبقيت المدن التي يسكنوها على حالها وكأنها تعيش في زمن القرون الاولى، إذ لم تشهد اي تحول في بنيتها العمرانية والخدمية، ومازال اهل البصرة الذين يقيمون على بحيرة من النفط تعد اغنى بقعة في الارض يشربون الماء المالح من شط العرب، والكثير من اطفال الوسط والجنوب وجلهم شيعة يدرسون في مدارس مبنية من الطين.

بينما خزينة الحزب فاضت بالاموال خلال الاعوام الماضية خاصة الفترة التي تربع فيها المالكي على عرش السلطة، فامسى قادته من اغنى ساسة العالم، يملكون ارصدة وشركات ومشاريع واستثمارات كبيرة، حرصوا على ان تكون كلها خارج العراق، لأنهم يخشون على انفسهم من حسد العراقيين المحرومين من النعمة!

في مقابل ذلك نجد ميزانية الدولة قد فرغت تماما واصبحت تعاني من حالة تضخم وعجز شديدين لم تمر عليها منذ تأسيس الدولة العراقية، وهذا ما أشار إليه اكثر من خبير اقتصادي ابرزهم وزير الاتصالات السابق في حكومة المالكي، محمد توفيق علاوي في اكثر من مقال ورسالة وجهها الى الحكومة والشعب العراقي يشرح فيها خطورة ما وصلت اليه الاحوال في هذا الجانب.

قادة حزب الدعوة يملكون من الدهاء ما يراهنون به على خداع عموم العراقيين بما جبل عليه هذا الشعب من بساطة في التفكير تصل به حد السذاجة، فتجدهم ايام المناسبات الدينية الخاصة بالشيعة مثل عاشوراء، يغدقون الاموال على المواكب الحسينية وما يصاحبها من موائد.

هذا الاسلوب لن يدخل إلاّ في باب خديعة هذه الملايين الزاحفة على اقدامها حزنا على مقتل الحسين بينما تحتاج هي الى من يحزن عليها ويواسيها على ما هي فيه من حال بائس.

فكم من حسين بين هذه الجموع يُقتل كل يوم من قبل ساسة ينتمون لحزب الدعوة وبقية الاحزاب، يعرفون جيدا كيف يتاجرون بدمه ومظلوميته؟

لم يعد أمام هذا الحزب من سبيل لكي يخفف من احتقان مشاعر الرفض والكراهية الموجهة ضده من قبل ملايين الشيعة الفقراء قبل أن تكون من الآخرين، إلاّ أن يمارس دور المُضلِّل والمخادع وذلك عندما نجده يتستر بثياب الورع والتدين فيكرس كل جهده من اجل زيادة المناسبات الدينية ــ وبشكل مبالغ به ــ تلك التي يتم فيها احياء الطقوس والمواكب الشيعية، مراهنا بذلك على استغلال صدق المشاعر التي يحملها العراقيون ازاء الحسين بالشكل الذي يمتص منهم غضبهم عليه.

بينما مقابل هذه الصورة نجد مئات الاف من المهجرين والنازحين يعيشون في الخيم وتحت اسوأ الظروف المناخية والمعيشية، وبين فترة واخرى تنقل لنا وكالات الانباء اخبارا عن حالات انتحار بينهم.

هذا النهج يعكس حقيقة المأزق الذي وصل اليه حزب الدعوة سواء في علاقته مع الطائفة التي يدعي تمثيلها أو مع عموم العراقيين بعد أن اهدر اموال العراق من غير أن يقدم لهم اي شيء يحسِّن من وضعهم المعيشي والانساني (800 مليار دولار خلال ثمانية اعوام التي هي في فترة حكم المالكي) اضافة الى تسليم نصف مساحة العراق الى تنظيم داعش، وتكاثر غير طبيعي للمليشيات الطائفية التي تصاعدت وتيرة قوتها وتسليحها مقابل ضعف الدولة ومؤسساتها، خاصة الجيش العراقي.

ازاء هذا الظرف الذي يعيشه العراق والذي يتحمل مسؤوليته حزب الدعوة الحاكم اولا ومن ثم بقية الاحزاب، ينبغي أن لا نتفاجأ عندما نجد هذا الحزب مُصرّاً على ان لا يعترف بأي خطأ يرتكبه، ولا يحاسب أو يعاقب مُنحرفا من بين اعضائه، لانه قد أستشعر بأنه قد استنفد وقته، وأن فرصة النجاة من النهاية المحتومة لم تعد قائمة، وبناءً على ذلك، ليس امراً مستغربا أن يأخذ الجميع معه الى المصير الذي ينتظره، وفي المقدمة منهم اصدقائه قبل خصومه واعدائه.

موقفه هنا يشبه الغريق عندما يجد نفسه على حافة الموت، فلا يتردد ساعتها في ان يُغرقَ الآخرين معه، لانه في تلك اللحظة لا يشعر ولا يدرك ماذا يفعل.

ميدل ايست أونلاين 

مروان ياسين الدليمي

 

 

سلطة الخوف

مروان ياسين الدليمي

في بلد يغيب عنه القانون وتغيب عنه حرية الانسان – أفراداً ومجموعات - في أن لا يؤمن بفكرة المقدس عند الآخر، لكونه يخضع تحت سلطة عصابات وميليشيات طائفية متطرفة تختصر التاريخ حسب فهمها، وتختصر مفهوم الحرية بذاتها ولذاتها، والمقدس بما هو لديها من ايقونات حصراً.

من المنطقي جدا في مثل هذا المشهد الموبوء أن تلجأ الجماعات الدينية الصغيرة الى أن تشارك وبشكل مبالغ به طقوسا دينية تمثل هوية تلك الميليشيات مع انها لا تعني لها شيئا، إن لمْ تكن لا تؤمن بها أصلا، يدفعها الى ذلك الخوف من بطشها.

من غير المعقول ايضا ان هذه الممارسات تأتي من باب المجاملة! فهل يمكن القبول بفكرة ان يتحول الدين الى سلوك مجاملة بين الافراد والجماعات؟

وفيما لو قبلنا افتراضا بهذه الفكرة، عند ذاك هل يمكن أن يبقى لسلطة الدين بحضورها المهيمن والمؤثر ــ اجتماعيا وواقعيا ــ أي تأثير روحي على الانسان في مجمل سلوكه ومواقفه وتعامله الحياتي مع الاخرين؟

الثابت والمتحول

بناء على سياق هذه الفرضية من الممكن هنا أن ينتقل الدين من مكانة ميتافيزيقية الى مكانة واقعية مادية ليضاف بذلك الى قائمة المنتوجات الاجتماعية الخاضعة للتغيير بكل سهولة وفقا للتحولات الحاصلة في الواقع مثلما هي الأعراف والعادات والتقاليد التي تخضع لقانون التحول وليس إلى ماهو ثابت من القيم كما هو الحال في الدين، ويؤديها البشر وهم في حالة استجابة وتفاعل مع ما يحصل فيها وعليها من متغيرات دون أن يكون لديهم خوف داخلي كبير يجعلهم يشعرون بأنهم سيواجهون عقابا شديدا من السماء إنْ لم يكن في الدنيا فلامحالة سيكون العقاب في الآخرة.

الاعراف والتقاليد بطبيعتها ليست ثابتة ولهذا ليست مقدسة وإن كانت تلقى احتراما كبيرا، إلا أن الدين بطبيعته ثابتا ولهذا يكتسب صفة القداسة، فلا ثبات بدون قداسة ولا قداسة بدون ثبات، فالمسألة هنا اشتراطية وفيما لو فقد الثبات انذاك لن يكون هناك قداسة، اي بمعنى أن الدين سيفتقد الى ضوابطه الخاصة الجوهرية التي تحكُم وتنظِّم سلوك الناس فيما بينهم وتبعدهم عن التشابه والتماثل بسلوك الحيوان في إطار علاقاتهم الانسانية.

يمكن لسلطة الخوف أن تدفع غالبية البشر الى ان تتصرف مرغمة على غير ماتؤمن به مما هو ثابت ومقدس لديها، فيصبح المقدس بحكم المتغير لا مقدسا، فينخرط تحت عامل الخوف الى مستوى الاعراف والتقاليد والطقوس الاجتماعية المتغيرة.

التجارب الانسانية القريبة والبعيدة بهذا الصدد كثيرة جدا، فمن كان اسلاميا تجده يتظاهر على انه شيوعي أو قومي حسب هويّة القوة الغاشمة التي تحكم الشارع وهكذا دواليك. فتجد مَن كان على مذهب معيّن يدّعي انتمائه لمذهب آخر، ومن كان على دين معين يدّعى انتمائه لدين آخر، وكما يقول شكسبير على لسان هاملت "إن عقدة المسألة إنما الخوف".

في العراق هذه الظاهرة ليست بجديدة إلاّ انها باتت أكثر حضورا وهيمنة خلال الاعوام الاخيرة (بعد العام 2003) خاصة ايام الاحتفال بمناسبة عاشوراء التي عادة ما يمارس فيها الشيعة طقوسا خاصة بهم يجلدون فيها ظهورهم بالسلاسل الحديدية ويضربون رؤوسهم بالسكاكين والسيوف ويسمى هذا الفعل باللهجة الشعبية تطبير (وهي كلمة ليست عربية ولا يعرف ان كانت تركية او فارسية) إلى أن يسيل الدم من اجسادهم وسط قراءات خاصة تستذكر مأساة واقعة الطف 10 محرَّم (10 اكتوبر - تشرين الاول 680م) التي استشهد فيها الحسين بن علي بن ابي طالب مع افراد عائلته من نساء واطفال في كربلاء على يد جيش يزيد، ويستمر احياء هذه الطقوس التي تتخللها مشاهد تمثيلية يستعاد فيها تفاصيل المأساة.

نظرة تاريخية

الأراء حول التطبير اختلفت لدى الباحثين والمؤرخين في تحديد منشأه منها ما يشير إلى أنه قد انتقل من أتراك أذربيجان إلى الفرس ومن ثم إلى العرب، بهذا الصدد اشار إبراهيم الحيدري في كتابه "تراجيديا كربلاء" إلى أن "هذه الشعائر لم يكن لها وجود في العراق قبل القرن التاسع عشر وبدأ رواجها بالتدريج إلى أواخر القرن ولم يشارك العرب العراقيون فيها حتى بداية القرن العشرين فكانت تقتصر على أتراك العراق وأكراد غربي إيران." وثمة رأي آخر ورد في الكتاب المعنون "الجذب والدفع في شخصية الإمام علي" ص165، لمؤلفه عالم الدين الشيعي مرتضى مطهري (1919–1979). ويعد مطهري احد فلاسفة نظام ولاية الفقيه في ايران إذ يقول "إن التطبير والطبل عادات ومراسم جاءتنا من أرثوذكس القفقاز وسرت في مجتمعنا كالنار في الهشيم"، وهناك رأي آخر يقول بان التطبير بدأ في عهد حكم الصفويين ( 1501-1785).

إعادة استذكار حدث مقتل الحسين يستحق التوقف عنده بعيدا عن الجانب العاطفي بقدر ما يتعلق الأمر في كونه حدثا تاريخيا راح ضحيته الحسين وعدد كبير من افراد اسرته بعد أن تم الغدر بهم، سواء من قِبل اولئك البعض الذين يحسبون على عامة الناس في مدينة الكوفة عندما اظهروا للحسين الدعم والمساندة فيما لو جاء الى العراق حتى يكون خليفة المسلمين بدلا من يزيد بن معاوية بن ابي سفيان، أو من قِبل أولئك الذين ارتكبوا جريمة القتل بطريقة بشعة، وهو سلوك لا يبدو غريبا عن السياق العام لمنظومة اخلاقيات رجال السلطة في الدولتين الاموية والعباسية وكذلك بقية الممالك التي اعقبتها كالصفويين والسلاجقة والمماليك والعثمانيين.

رغم ما دَخَل الى هذا الحدث مِن مرويات شفاهية نسجتها مخيلة شعبية تتبنى مذهب التشيع توالت على حياكة تفاصيلها والاضافة اليها مع مرور الايام، تنوعت بتنوع الثقافات والشعوب التي تفاعلت وما زالت تتفاعل معها، هي لا تهدف من وراء ذلك إلاّ التعبير باقصى ما تستطيع من صورٍ وعباراتٍ بليغة عن عمق ألمِها وإيمانها.

ليس مهما البحث عن منطقية الصورة والجملة هنا في منتوج المخيلة الجماعية، بقدر ما تكمن الأهمية في قدرتهما على تحقيق قدر عال من توحيد مشاعرالألم والندم في الحس الجمعي.

ما بعد الحدث

بعيدا عن هذه المرويات/الاضافات، فقد شكل هذا الحدث علامة فارقة في التاريخ الاسلامي انعكس بتداعياته على المسلمين جميعا ماضيا وحاضرا وسيبقى تأثيره وكما يبدو يزداد قوة وحسما في تحديد واقع ومستقبل علاقة المسلمين مع بعضهم البعض.

مقتل الحسين لعب دورا جوهريا في تعميق الخلافات ما بين السنة والشيعة وزاد من اختلافهم وانقسامهم في ابسط الامور الحياتية صعودا الى اكثرها تعقيدا في شؤون الحياة والسياسة، مِن بعدِ أن كانوا قد انقسموا اول مرة في سقيفة بني ساعدة حول احقية من سيتولى الخلافة بعد وفاة النبي محمد، إذ بدأت بوادر الخلاف ساعتها تطفو على ظاهر المشهد الاسلامي عندما تولى ابو بكر الصديق امر الخلافة. ثم جاء حدث مقتل الحسين فيما بعد ليصبح الحد الفاصل ما بين الذين يؤمنون بأن تنحصر الخلافة في بيت ال محمد، وبين الذين يؤمنون بأن الخلافة تتبع مبدأ الشورى بين المسلمين.

تساؤلات

ازاء هذا الانقسام الحاد الذي فتح جرحا عميقا في الجسد الاسلامي وصل به الى مرحلة ميئوسا من علاجها، وما عاد يمنحنا اية اشارة مطمئنة تدفعنا الى الامل بشفائه، مع استمرار النزيف اليومي الذي يدفع ثمنه اتباع الطائفتين من ارواحهم. ما الذي يجعلنا ندفع اتباع الديانات والطوائف الأخرى الصغيرة منها خاصة إلى أن يشاركونا طقوس التطبير مع اننا ندرك حرص اتباع الديانات في الشرق بالانغلاق على ذاتهم الدينية، انطلاقا من فكرة عدم ايمانهم بالدين الآخر؟

أن تبقى هذه المشاركة في إطار محدود جدا ويأخذ شكلا رمزيا ستكتسب بلا شك ثقة واحتراما وقبولا أكبربكثير مما بدأنا نشهده خلال الاعوام الاخيرة من مشاركات مبالغ بها لاتباع الديانات الاخرى خاصة في العراق.

وكلما وجدنا هذه المشاركة تتسع في ظل استمرار الظروف القائمة التي تتحكم فيها المليشيات المسلحة، كلما فقدت مصداقيتها.

وكلما وجدنا مثل هذه المشاركات تتقلص لتصبح رمزية، كلما كان وقعها مقبولا ومؤثرا.

 

مروان ياسين الدليمي

ميدل ايست أونلاين

 

 

تجّار كلام أم تجّار دم

مروان ياسين الدليمي

نحن محكومون بحفنةٍ من تجار الكلام، يمارسون لعبة خطرةً مفرداتها الالفاظ لتمرير ما يخططون له من سياسات تخدم عقولهم الطائفية التي لا تنتمي الى الواقع والانسان بأية صلةٍ، بقدر ما تنتمي الى ما وراء الواقع، الى زمن الحكايات والاساطير المرويّة شفهياً على لسان العامة.

هذا النهج في الحكم يتقصد من ورائها الساسة، الهروب من مواجهة الحقائق الدامغة على الارض، والتحليق بعيدا في عالم الغيبيات، لكي يبقى الناس بعيداً عن امكانية اتخاذ الفعل المطلوب لمواجهة ما هم عليه من وضع مزرٍ، وإلاّ ما معنى أن يخصص رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي جل خطابه الذي القاه في مقر الجمعية العامة للأمم المتحدة بمناسبة الاحتفال بمرور 70 عاما على تأسيسها والتي كانت قد انطلقت في 15 سبتمبر من هذا العام، وذلك بالحديث عن واقع افتراضي بارقامه التي تشير الى انخفاض نسبة الجريمة، وانحسار العنف في العراق وعن خطط تنموية كبيرة في كافة مجالات الحياة وان البلاد لاتعاني من اية ازمة مجتمعية بقدر ما حمل المسؤولية على دول الجوار لانها فتحت الابواب لكل المتطرفين للدخول الى العراق واجهاض تجربته الديموقراطية الجديدة!

حقائق وارقام

ليس من المعقول أن يكون اكبر مسؤول في الحكومة العراقية على هذا المستوى من التجاهل والتغاضي عندما يتعلق الامر برؤيته لواقع بلاده. فهل المواطن العراقي، يعيش فعلا عصراً جديدا يُقبل فيه على مساحات من الامل والتفاؤل، وأنَّ ما يحيط به من عمليات خطف وقتل طائفي في وضح النهار على ايدي تنظيمات ميليشياوية وصل عددها الى اكثر من 50 تنظيما ً تسرح وتمرح في الشوارع على طول البلاد وعرضها لا وجود لها، وأن الوقائع التي تؤكد بأن نصف مساحة الوطن قد خرجت عن سيطرة الحكومة وامست تحت سلطة تنظيم الخلافة (داعش) مجرد حرب اعلامية يروجها اعداء الديموقراطية الجديدة في العراق، وأن التقارير الاستخباراتية التي تشير إلى أن ما يعادل عشرة مليون دولار يوميا هي واردات التنظيم من الحقول النفطية التي سيطر عليها، ما هي إلا مجرد اكاذيب!

ليس هنالك اكثر ممايثير الضحك من الذي قاله المسؤول الرفيع الآخر وزير خارجية العراق ابراهيم الجعفري عندما وقف ليلقي كلمته في مبنى الامم المتحدة في الاسبوع الماضي في نفس المناسبة وعرض خبرات بلده لحل الازمة المستعصية في اليمن، متجاهلا ما تعانيه بلاده من صراعات سياسية بين الاحزاب والكتل الطائفية والقومية منذ اكثر من ثلاثة عشر عاما، نتيجتها كانت حرب طائفية طاحنة راح ضحيتها الاف الناس! حيث اشارت منظمة Iraq Body Count ومقرها بريطانيا، المعنية باحصاء قتلى العراق جراء ما تسميها بـالمهمة النبيلة للولايات المتحدة إلى ان عدد القتلى المدنيين جراء العنف الطائفي وصل الى نحو 133، 708 مع انتهاء العام 2013، كما اقرت وزارة حقوق الانسان العراقية في تقرير ردّت فيه على "التقرير العالمي لحقوق الانسان 2014: العراق" الذي كانت قد اصدرته هيومن رايتس ووتش، قالت فيه ان "عدد القتلى العراقيين الذين سقطوا خلال العام 2013 لغاية 30 ايلول الماضي، بلغ 5113 قتيلاً، بواقع 4640 رجلاً، و251 امرأة، و222 طفلاً، وعددالجرحى بلغ 16796 جريحاً، كانت نسبتهم الاغلب بين الرجال بحصيلة 14794 جريحاً، بينما النساء بلغت الاصابات بينهن 1140 جريحة، والاطفال 1724 جريحاً".

وعود وعهود

هذه الارقام المخيفة في دلالتها تم تغييبها من قبل العبادي والجعفري في كلمتيهما امام زعماء ووزراء خارجية الدول المنضوية الى هيئة الامم المتحدة وكأن لا وجود لها.

يبدو واضحا ان سياسي العراق يعيشون في زمن آخر لا علاقة له بالزمن الذي يعيشه شعبهم.

هم يعيشون في زمن متوج بثروات وقصور تزداد يوما بعد آخر، بالشكل الذي قد لانجد مثيلا له في اي بلد آخر.

فهل يبدو زمنا معقولا عندما نجد عضو البرلمان العراقي يتقاضى عن كل 20 دقيقة عمل يقضيها في البرلمان ما قيمته 1000 دولار!؟

أمام هذه الحقيقة التي توصلت اليها صحيفة ديلي ميل البريطانية في شهر اب عام 2013 لم تترد في أن تضع مانشيتا عريضا في اعلى صفحتها الاولى يقول "البرلمان العراقي افسد مؤسسة في التاريخ!"

مع ان النظام السياسي الجديد في العراق جاء في العام 2003 حاملاً للمواطن العراقي وعودا وردية بالعيش الرغيد وحياة كريمة تُحتَرم فيها حقوق الانسان، إلاّ انه على العكس من ذلك حطم الارقام القياسية في حجم الفساد وانتهاك حقوق الانسان والجرائم الطائفية، مقارنة مع دول العالم الى غير ذلك من صور الفوضى والدمار التي لايمكن أن تتواجد إلا في امكنة تغيب عنها سلطة الدولة لتحل محلها قوانين العصابات والجريمة المنظمة.

ومع كل هذه الحقائق يقف المسؤول العراقي بكل ثقة متبجحا بقدرته على حل مشكلة اليمن، وكأنه قد نجح فعلا في تسوية كل مايعانيه المجتمع العراقي من صراعات بين القوى والاطراف السياسية والطائفية.

 ميدل ايست أونلاين

مروان ياسين الدليمي

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

أنتُم أكثر فتكاً مِن الكوليرا

مروان ياسين الدليمي

 

مَا الذي يدفعُ رجلا ً تجاوز العقد الخامس من عُمره إلى أنْ يُقدم على الانتحار؟

مَا الذي يدفعه إلى أنْ يُقرَّ بأنّه عاجز ويائس ولا يملك دافعا للعيش؟

مَا الذي يدفعه الى أنْ يتخلى عن حياته ومسؤوليته الاخلاقية في حماية عائلته واطفاله، ليتركهم فجأة أمام مصيرهم، يواجهون حياةً غير آمنةٍ عَجَزَ ـ هو ـ عن مواجهتها، فكيف بهم أنْ يواجهوها، اذا كان الرجل المسؤول عنهم قد أعلن عن عجزه وفشله امامها؟

لا يُرغِمُ الانسان على ارتكاب فعل الانتحار سوى أمرٍ جلل، خاصة إذا كان بكامل قواه العقلية، وما من شيء يُثبت بأنّه مريض في عقله أو في نفسيته..لابد أنْ يكون قد خَضَع مُكرهاً لقوّة قاهرةٍ دفعته إلى أنْ يُقرر الركوع أمَام ضَعفه.

قبل أيام معدودة تم تداول خبر انتحار المواطن الموصلي مقداد محمود عزيز النازح الى مدينة كركوك مثل الاف المواطنين بسبب سيطرة تنظيم داعش على مدينة الموصل في 10/6/2014 (عددالنازحين من الموصل مليون ونصف). المواطن المذكور انتحر ــ شانقاً نفسه ــ يوم الثلاثاء 23/9/2015 اي قبل مقدم عيد الاضحى بيومين، بعد أنْ وجد نفسه في حالة عجز تام عن تأمين ملابس جديدة لاطفاله الثمانية الصغار مع قدوم العيد.

لا شك أن المسألة ليست مرتبطة بملابس العيد التي عجز عن توفيرها، إنما هي حسرة عميقة كانت تكبر في داخله يوما بعد آخر طيلة عام كامل، هي فترة نزوحه من بيته ومدينته.

ليس أكثر اذى على الانسان مِن أنْ يجد نفسه عاجزاً لا يستطيع أنْ يمدَّ يدهُ طلبا للمساعدة، وهو الذي لم يعتد على أنْ يطلب العون من أحدٍ، لكن اللحظة التي يجد نفسه فيها وحيداً بعد أن تخلى عنه الجميع، وما مِن أحدٍ يسأل عنه، ساعتها سيشعر بوحشة قاتلة تحاصره في اليقظة وفي المنام، أينما ولىّ وجهه، الى أنْ تُنهيه.

هذا المواطن أقدم على الانتحار بعد أنْ تخلت عنه حكومته، تاركة إياه دون أنْ تقدم له العون أو تسأل عنه.

عدد من الانظمة العربية عبرت عن سخطها من تضايق الحكومات الاوروبية من اعداد اللاجئين الذين لجأوا اليها في الفترة الاخيرة مثل الاردن والسعودية والامارات ولبنان والعراق، فأدّعى بعضها (السعودية) بأنها تستضيف اضعاف هذه الاعداد، حتى أن الرقم وصل الى مليوني لاجىء حسب البيان الرسمي الذي صدر عنها!

فلماذا هذا النفور من استقبال اللاجئين؟

صحيح ان هذه الدول تستضيف لاجئين سوريين، لكن لو أجرينا مقارنة بين الحالة التي هم عليها، وبين حالهم في الدول الاوروبية، لخرجنا بنتيجة مؤلمة ليست في صالح الدول العربية، لانها لم تقدم لهم شيئا.

فهي لم تسكنهم في بيوت، ولم تقدم لهم دعما مادياً، ولم تعلم اطفالهم في المدارس، ولم تقدم لهم الرعاية الصحية، مثلما تفعل الحكومات الاوروبية التي تقدم كل هذه الخدمات للاجئين القادمين اليها.

اللاجئ في الدول العربية تكتفي السلطات الرسمية في أنْ تفتح أمامه الحدود، وفي احيان اخرى تسدّها بوجهه ليترك في العَراء، واحيانا يعامل النازح داخل وطنه كما لو انه مواطن غريب يُشكُّ بأمره، فيحتاج الى كفيل من داخل المدينة التي لجأ اليها ليتحمل مسؤوليته الامنية طيلة بقائه، وإنْ لمْ يتوفر الكفيل لنْ يسمح له بالدخول كما حصل مع نازحي محافظة الانبار عند مَعبَر بزيبز الفاصل مابين العاصمة بغداد والانبار، وحتى لو توفر الكفيل وسُمِحَ للنازح بالدخول يقال له:إذهب أنت وربُّك، فنحن عنك منشغلون، فلا شأن لنا بك، وبأطفالك.. ولسنا معنيون كيف ستدفع الايجار وكيف ستعيش.

هذا ما حصل مع المواطن الموصلي مقداد محمود عزيز الذي تُركَ وحيداً، فانهَارَ برجولته التي حافظ عليها خمسين عاما أمام نفسه وأمام اطفاله.

النائب العراقي لا شأن له بالمواطن بقدراهتمامه بشؤونه وشؤون ابنائه واقاربه وحاشيته..اصبح يفهم منصبه كنائب على أنه ينوب عن المواطن بأخذ السعادة والصحة والمال والخدمات والجاه والكرامة نيابة عنه.. هكذا يفهم معظم النواب دورهم، وإلاّ ما معنى أنْ يتجرأ أبن النائبة عالية نصيّف ــ التي ما تنفكُّ يوميا في إطلاق تصريحات طنانة عن الكرامة والسيادة وحقوق المواطن ــ في أن يأخذ معه زمرةً من حراس والدته ليخطتفوا مواطنا من محل عمله لتصليح الهواتف وسط بغداد، بسبب خلاف نشب بينهما؟

ومهما كان سبب الخلاف، فهذا لنْ يكون مُبررا مقبولا يمنح الابن المُدلل للسيدة النائبة بأن يتجرأ ويُقدِم على خطف مواطنٍ في وضح النهار ولا يلجأ الى القانون لحلِّ الخلاف.

هو لمْ يُقدِمْ على هذا الفعل الخارج عن القانون إلاّ لأنَّه يَعتقد ــ هو ووالدته ــ يمثلون القانون بشخصهم، ولا قانون يسري عليهم. ولولا تدخل قوة من الشرطة صادفَ أنْ كانت متواجدة بالقرب من مكان الحادث لاختفى المواطن، وسجلت القضية ضد مجهول.

اليوم اصبحنا ــ نحن المواطنون ــ رهائن بيد أبناء المسؤولين، وليس بيد المسؤولين الحكوميين فقط. حياتنا وأرواحنا باتت ملكا لهم، مع أنهم يأكلونَ بأسمِنا ويشربون بأسمِنا ويتنعَّمون بالمال والعز والقصور بأسمِنا ومِن دمِنا وحياِتنا. ولولانا لمَا أصبحوا على هذه المكانة التي هُم عليها، لكنَّهم وللاسف الشديد لمْ يؤدّوا ولو القليل من الشكر لنا، وللمواطن النازح العاجز المُعدَم، الذي لم يجد نفسه إلاّ أمام طرقٍ مقفلةٍ، فما كان منه إلاّ أن ينتحرأو يهاجر كما فعل الاف الشباب.

الوضع على هذا الحال أمسى خطيئة تُرتكب بحق الانسان، بحق القيم والأعراف الانسانية، بحق الاديان، بحق الانبياء والرسل.

لا معنى لصلاتكم ايها الساسة والنّواب، لا معنى لذهابكم الى الديار المقدسة لتحجّوا في بيت الله إنْ لمْ تؤدّوا واجبكم تجاه المواطن. فالدِّين عمل صالح قبل أنْ يكون عبادةً.

صلاتكم رياء لو مات الناس من القهر والجوع. صلاتكم نفاق لو مات إنسان منتحراً لقلة حيلته في أنْ يجد لقمة لاطفاله في وطنه.

أنتم مسؤولون أمام القانون عن المصير الذي انتهى اليه المواطن مقداد. أنتم الذين دفعتموه إلى الانتحار. أنتم قتلتموه مِن الحزن والحسرة والالم قبل أن يقتل نفسه. لمْ ينتحر مقداد بإرادته، لكنه انتحر بارادتكم وبدفع منكم.

البلوى التي أصبحنا عليها أكبر مِن أنْ تختصرها كلمات هي بلوى كبيرة جداً ما بين داعش والتهجير، ما بين داء الكوليرا الذي بات يفتك بالعراقيين وبين سقوط المدن بيد الارهابيين..وكأن العراقيين بحاجة الى محنةٍ أكبر مما هم عليه ليصابوا بالكوليرا! فما بهم من مصائب جاء بها ساسة الاحتلال أكثر فتكاً من كل الامراض.

 

مروان ياسين الدليمي

(ميدل ايست اون لاين)

 

العراق : حبل النجاة الاخير

مروان ياسين الدليمي *

 

خَلفَ مهرجان الشعارات والخطابات التي تشهدها ساحة التحرير في بغداد منذ يوم الجمعة 7/ 8 / 2015 وجميعها تدعو الى تطهير البلاد من الفساد،تجري عملية تطهير من نوع آخر ساحتها مدينة الفلوجة منذ سقوطها تحت سلطة دولة الخلافة قبل أكثر من عام ،ضحاياها مدنيون – نساء واطفال وشيوخ -لاذنب لهم سوى أنهم لم يتمكنوا من أن يخرجوا من مدينتهم بعد احتلالها من سلطة دولة الخلافة، ويبدو أن بقاء اي شخص تحت سلطة الخلافة في نظر من يملك زمام الحكم في بغداد يعد سببا كافياً لكي يوصم بالخيانة والانتماء الى هذا التنظيم الارهابي حسب ادعاء بغداد.

بموجب ذلك تتم عملية ابادة منظمة وممنهجة ضد المدنيين عبرالقصف العشوائي وبدم بارد،ولتصبح ذريعة محاربة داعش مبررا لعملية تطهير طائفي تجري منذ عدة اشهر بعيدا عن عدسات التصوير والقنوات الفضائية التي انساقت هي الاخرى في لعبة التظليل منشغلة هذه الايام في تغطية التظاهرات،متخلية بذلك عن مسؤوليتها المهنية والاخلاقية في رصد مايجري من تجاوزات وانتهاكات وخروقات بحق السكان المدنيين.يذكر بهذا الصدد ان صفحات الفيس بوك قد انتشرت عليها ومنذ عدة اشهر الكثير من الشعارات التي تدعوصراحة الى ازالة مدينة الفلوجة عن الوجود وهكذا مدينة الانبار.

ابشع جريمة نتيجة القصف العشوائي الحكومي على مدينة الفلوجة كانت قد وقعت صباح يوم الخميس 13 /8 /2015 نتيجتها كانت أكثر من 30 قتيلا من بينهم 25 طفلا من الخدّج،جميعهم قتلوا وهم في الحاضنات حتى تفحَّموا. وقد تم توثيق ذلك بعدد من الصور الفوتوغرافية نشرها ناشطون من المدينة على صفاحتهم في موقع الفيس بوك .

.في مقابل ذلك تمارس سلطة الخلافة هي الآخرى عملية تطهير وحشية بحق السكان المدنيين في كل المدن التي تحتلها ــ الموصل والانبار والفلوجة والحويجة وبيجي واجزاء من محافظة صلاح الدين منذ اكثر من عام ــ مستندة بذلك على ذرائع مختلفة،وكان على رأس من شملتهم عملية التطهير مَن يتم القبض عليه وهو يحاول الهروب خارج المدينة.

من هنا جاءت سلسلة الاعدامات التي نفذها تنظيم الخلافة بحق العشرات من سكان هذه المدن،آخرها في مدينة الموصل مطلع ىشهر آب الحالي 2015 وقد وصل عدد الذين تم اعدامهم إلى خمسة الاف ضحية حسب ما اعلنه تنظيم الخلافة نفسه في قوائم علقها على جداران مستشفى الطب العدلي في الموصل تضمنت اسماء المعدومين .

ونتيجة هذه الصورة التراجيدية التي اصبح عليها سكان المدن العراقية – من العرب السنة-الذين اصبحوا تحت سلطة دولة الخلافة الاسلامية منذ سقوط الموصل في 10 / 6 / 2014 لم يعد هناك من بارقة أمل يمكن من خلالها رسم صورة مشرقة للغد ،مِن بعد أن اصبحوا يقبعون بين مطرقة السلطة في بغداد وسندان دولة الخلافة،فالاثنان قد اصدرا حكما قطعيا بمثابة فتوى شرعية طالت كل من بقي في بيته ولم يستطع المغادرة،ومعظم هؤلاء من الفقراء لايملكون وسائط نقل تساعدهم على الهرب واللجوء الى اماكن بديلة ليستأجروا فيها بيتا بشكل مؤقت،اضافة إلى أن بدل إيجارات البيوت قد ارتفعت بشكل كبير في المناطق التي لجأ اليها النازحون كما هو الحال في اقليم كوردستان على سبيل المثال.فكان خيار بقائهم في بيوتهم ومدنهم هو الخيار الوحيد الذي وجدوه متاحا امامهم.

فهل من المنطق أن يعاقبوا لأنهم عجزوا عن الخروج وبينهم العديد من كبار السن والمرضى والعجزة ؟

هل هنالك سند شرعي أوقانوني يتيح لنا أن نتخذ قرار ابادتهم بعد أن حكمنا عليهم سلفا على انهم ارهابيون ؟

فإذا ماسلمنا جدلا بهذا المنطق فهذا يعني أن جميع العراقيين الذين بقوا في العراق ولم يغادروه طيلة حكم حزب البعث والتي امدها 35 عاما ينبغي أن تطبق عليهم قرارات الاعدام التي صدرت بحق رموز النظام السابق.

فهل يمكن القبول بمثل هذا الحكم الذي يبيح اعدام الملايين من العراقيين ؟

إن المنهج الذي يُشيطن الناس المدنيين العُزَّل ويحسبهم دفعة واحدة في خانة الارهابيين والذي انتهجته السلطات الحكومية العراقية ومن تجحفل معها من الميليشيات الشيعية،لم يضع في الحسبان الظرف القاهر لسكان تلك المدن ولاالحالة التي اصبحوا عليها دون ارادتهم،وبذلك تتحمل الحكومة العراقية مسؤولية نتائج هذا المنهج،وما سينجم عنه من تعقيد للأوضاع يوما بعد آخر.

بالتالي فإن هذا المسار المهلك سيدفع معظم الذين ليس لديهم ايّ قناعة بدولة الخلافة من سكان المدن المختطفة إلى أن يصبحوا شيئا فشيئا معها،ويقاتلون في صفوفها،ليس ايمانا منهم بها،بل خلاصا من حالة اليأس التي هم عليها .

فمالذي يمكن ان يفعله هؤلاء السكان العُّزل حينما يجدوا أنفسهم في موقف لايحسدون عليه وهو الاشد صعوبة من اي موقف آخر،من بعدأن تخلى الكل عنهم،وليس هناك من  طرف في الحكومة العراقية يملك مايكفي من الوعي والرؤية السليمة والضمير الانساني لكي ينصفهم ويقنع اصحاب السلطة والقرار في أن يمدوا لهم حبل النجاة للخروج مما هم فيه من ضياع .

(رأي اليوم)

 

كلمة حق يراد بها حق

عنوانها الكاتب الصحفي علي حسين


مروان ياسين الدليمي


طيلة الاعوام العشرة الماضية كان هذا الرجل يعمل على فضح فساد دولة الطائفة،بصمت وهدوء لامثيل لهما..صوته كان واضحا في كل مايكتبه من مقالات في عموده اليومي بصحيفة المدى،دون أن يتعكز على الالغاز والالفاظ المقعرة،وهذه البساطة في التعبير احدى سمات المثقف الجوهرية. فكان منهجه تسمية الاشياء بمسياتها،مُستعينا بتجارب الشعوب والقادة العظام الذين اخذوا بلدانهم الى شواطىء السلام وسط عواصف الحروب والنزاعات الاهلية مِن بعد أنْ تخلوا عن مصائد وافخاخ التاريخ والماضي بما يحملانه من الغام.
بقي راصداً وناقداً بشكل يومي لممارسات السلطة وهو يطرق بقلمه على رؤوس الفاسدين في دولة كان المالكي يبنيها طيلة فترة حكمه التي استمرت لأكثر من ثمانية اعوام بشذاذ الافاق والمعتوهين.
كنّا نقرأ ما يتلقاه من تعليقات مسئية بحقه،وتشكك بوطنيته من اناس بعضهم يقف الآن في ساحة التحرير باعتبارهم مِن رُسل التغيير !!..هذا السلوك الانتهازي لمثل هؤلاء ليس بغريب ولاعجيب في العراق،بل هو جزء من الموروث السياسي والاجتماعي اعتدنا ان نتعامل معه،وتتناقله الاحزاب والاوساط الاجتماعية وكأنه أمر طبيعي ولاحراجة في ممارسته،معه انه يشكل علامة انحطاط اخلاقي قبل أن يكون سقوطا فكريا،ولم يقتصر شيوعه على فئة معينة بل امتد ليشمل مساحات واسعة،فمنهم من كان شيوعيا ليصبح في لحظة شيعياً،ومنهم من كان بعثيا قوميا وإذا به دعوجيا،ومنهم من كان صداميا فامسى مالكياً!،فلاغرابة إّذن عندما يصبح اليوم كل هؤلاء (عباديون)،مع أنني حتى هذه الساعة لاأستطيع ان اشكك بمصداقية العبادي خاصة وانني اجده كما لو أنه يقف وحيدا وسط حلبة مليئة بالوحوش ويحاول الخروج منها
في ايامنا هذه الحبلى بما سيأتي من احداث،بعضها كبير جدا وغير متوقع وستنعكس نتائجها على المشهد السياسي العراقي بشكل عميق،والتي تستمد سخونتها من ارتفاع درجات حرارة العواطف الثورية المتصاعدة مع ارتفاع درجات حرارة مناخ العراق، ليس غريبا أن نجد شخصا مثل علي حسين ــ وآخرين كانوا على نفس منواله في كتاباتهم ــ يقف في الظل بعيدا عن عدسات التصوير،واللقاءات التلفزيونية التي اتحفتنا هذه الايام بوجوه تتحدث عن دورها الثوري في قيام التظاهرات بينما لم نعرف لها اي حضور ــ ثوري ــ طيلة الاعوام الماضية(منهم فنانون وكتاب وصحفيون )رغم انني اتحفظ كثيرا على استعمال كلمة ثوري ولا أستسيغ تداولها عندما يتعلق الأمر بالتغيير.
وخلال الاعوام الماضية التي كنّا نتابع فيها باهتمام مايكتبه علي حسين،لم نجد مايشير إلى انه يدَّعي أو يتظاهر أو يتفاخر بما يكتبه،بل مارس دوره المهني كصحفي بما تقتضيه اخلاقيات المهنة من تحمّل المسؤولية في التصدي للموضوعات التي ترتبط بحياة الناس،من غير أن يكون تفكيره منشغلا في زيادة مساحة شهرته وماسيضفي ذلك عليه من بريق،مثل ما كان عليه آخرون كانوا يعكسون في نشاطهم سلوكا هو اقرب لسلوك الباحث عن الشهرة والنجومية منه إلى مهنة الصحفي الباحث عن الحقيقة وسط المتاعب حتى لو كان ذلك على حساب المهنية والموضوعية والامانة، فمارس هؤلاء دور المخادع المُظلِل عندما ارتضوا لأنفسهم أنْ يكونوا جزءا من جوقة الطائفيين في اللحظات الحرجة من عمر الوطن،وارتضوا أن يكونوا أبواقا لدولة الطائفة أولدولة الشخص،فكانوا يبررون بكتاباتهم الشيطانية والتي عادة ماتُصاغ بعبارات زَلقةٍ ليس من السهولة على عامة الناس القبض على ماتخفيه من معان لئيمة وخبيثة،من خلالها مايحدث من انتهاكات طائفية متذرعين بشراسة المعركة على قوى الارهاب والتطرف التكفيري،فلجأوافي غالب الاحيان عبر الصحف ووكالات الانباء والمواقع الاخبارية التي يتولون ادارتها إلى التزام السكوت أو التواري عن انظار القراء أو التغاضي عن ذكر الجرائم الجماعية التي ترتكب هنا وهناك بحق المدنيين من قبل ميلشيات مدعومة من جهات حكومية،كما حدث في ديالي وكركوك و صلاح الدين والانبار. فعدم الاشارة الى تلك الجرائم وتجاهلها والتعامل معها وكأنها لم تحدث اصلا ــ كما هو منهج قناة العراقية الحكومية هذه الايام في تجاهلها للتظاهرات ــ هو بمثابة دليل إدانة على طائفيتهم الداعمة لسلطة الفساد التي يتظاهرون ضدها هذه الايام .
رغم انني اردت في هذا المقال ان اكتب عن علي حسين بأعتباره يمثل نموذجاً جديدا مع آخرين من كتاب الرأي في الصحافة العراقية إلا أنني وجدت نفسي انساق في الحديث الى الشأن العام من خلاله وهذا يعكس حقيقة كونه النموذج البديل المحترم،في مقابل ما هو شائع في الوسط الاعلامي من نماذج تتسم بالتسول والارتزاق والمشاركة في اشاعة الفساد وإن ادعت خلاف ذلك .

 

حُريّة الصحافةِ المَزعومة

مروان ياسين الدليمي

 

مِن أسوأ الصفحات التي رافقت الاعوام العشرة الماضية من عُمر العراق، تلك التي تتعلق بالدور الذي لعبه الإعلام في شحن الأجواء العامة بالمشاعر الطائفية، وتأليب مشاعر الحقد والكراهية بين ابناء الشعب الواحد واللعب على الوتر الطائفي ليكون دافعا إلى مزيد من الدم والعنف.
تعوَّدنا طيلة الاعوام التي سبقت عام 2003 على أن تكون السلطة هي المصدر الوحيد للمعلومة، ولا سبيل للوصول اليها وكشفها امام الناس بعيدا عنها، وبدون ان تكون قد مرت من مرشحات السلطة، لذا كان الاعلام يلعب على الاغلب دورا تزيفييا مخادعا غير الدور الذي ينبغي ان يضطلع به، وهو بذلك كان شريكا في الانكسارات والهزام التي ابتليت بها البلاد، وراح ضحيتها الآلاف واستحال بسببها الاقتصاد الوطني الى انقاض، بعد أن تم تدمير مجمل البنى التحتية التي انفق عليها من المال العام مليارات الدولارات. لذا يمكن القول أنْ ليس النظام السابق بأجهزته الامنية ومؤسساته السياسية وحده من يتحمل مسؤولية ما آلت إليه البلاد من خراب، بل يقف الاعلام معه على الخط والمسؤولية نفسها.
كثيرون منّا عاصروا تلك الفترة، ويعرفون جيدا شكل ومعنى الاعلام عندما يكون ناطقا باسم الحكومة فقط، ومعبرا عنها، ولا يخرج عن دوره في التلميع والتصفيق والتهليل لكل خطوة وقرار يصدر عنها، حتى لو تناقضت القرارات بين ليلة وضحاها، فالاعلام هنا لا يتردد في أن يمارس دوره التبريري والتضليلي، لكي تبدو المواقف والقرارات المتناقضة طبيعية وسليمة، وليس فيها ما يدعو الى العجب، فكان من الطبيعي وفق هذا السياق ان يهلل الاعلام عندما تلجأ السلطة الى إعدام عدد من الناس بحجة التجسس، بدون أن ينال هؤلاء حقهم في محاكمة علنية شفافة، تتيح لهم الدفاع عن انفسهم، وتتيح لنا كذلك معرفة الحقيقة من خلال سماع اقوال المتهمين (السيناريو نفسه يتكرر اليوم)، فقد تم تنفيذ حكم الاعدام بحق عدد من المتهمين بمجزرة سبايكر، التي كان تنظيم «داعش» قد اعدم فيها عشرات الجنود العراقيين في قاعدة عسكرية قرب مدينة تكريت، وقد اعترف بها التنظيم عبر الصور التي بثها في حينها عن كيفية اعدامه للجنود، بينما نجد اطرافا حكومية وحزبية متنفذه وجهت الاتهامات الى عشائر سنية معينة، تسكن تلك المناطق، ازاء هذا التشابك والتضارب في تفاصيل القضية والاقوال، كيف لنا أن نتوصل الى الحقيقة إن لم يتم اللجوء الى الشفافية؟ كيف لنا ان نثق بصحة الاتهامات إذا كانت المحاكمات قد جرت بطريقة سرية وبعيدة عن وسائل الاعلام؟ 
قبل عام 2003 كان من الطبيعي أن يهلل الإعلام وهو ينشر خبر وصول الرئيس الفلاني للدولة الفلانية، ولن يتردد في وصفه بالبطل والصديق والمناضل والمدافع عن الحق، بعد أن كان قبل يوم واحد مطعونا بشرفه ووطنيته ونسبه، وعلى انه مصدر الفتن الموجهة ضد بلدنا. هكذا بكل سهولة كان الاعلام يمارس دوره التضليلي بعيداعن شرف المهنة واخلاقياتها،لا لشيء إلاَّ لأن المؤسسات الاعلامية كانت جميعها جزءا من منظومة الحزب الحاكم ومعبرة بالتالي عن سياساته. لذا لم يكن الناس يثقون بالاعلام،وما كان للصحف أي مصداقية في اخبارها وتقاريرها، اضافة الى ان جميعها كانت متشابهة، ولافرق بين هذه الصحيفة أو تلك. 
بعد 2003 كنا نتوقع أن تكون المؤسسات الاعلامية في مقدمة المؤسسات التي ستشهد تحولا نوعيا في سياساتها، بالشكل الذي سيجعلها مستقلة وبعيدة عن هيمنة النظام السياسي الحاكم، تجاوزا ً لكل الاخطاء التي كانت تلازم العمل الصحافي والاعلامي في العراق، وليس الأمر هنا مقصورا على الاعلام غير الرسمي الذي لا يرتبط بالدولة والحكومة من حيث التمويل، بل يشمل كذلك المؤسسات الصحافية الرسمية، لكن ما يدعو الى الخيبة تلك الصورة التي ظهر عليها المشهد الاعلامي العراقي، فعلى الرغم من مساحة الحرية التي تبدو واسعة ومهيمنة في ظاهر الصورة، سواء في الاطار الرسمي أو غير الرسمي، اضافة الى العدد الهائل من الصحف والمواقع الصحافية الالكترونية والمؤسسات الصحافية التي ترصد وتراقب وتدافع عن حرية الصحافة، إلاّ أن ما اتَّسم به الاداء بشكل عام لا يدعو للاطمئنان، بل يثير الكثير من الاسئلة المقلقة وعلامات التعجب والاستهجان، وهذا يعني ان الكثير من الاخطاء التي كانت علامة بارزة في ممارسات الأداء الاعلامي قبل 2003 عادت مرة ثانية لتطفو على السطح، خاصة ان الساحة الاعلامية تم اختراقها بعشرات الاشخاص الذين لا يستطيعون التمييز بين كلمة الاعلام والاعلان، بل ان الكثير منهم بالكاد يستطيع ان يكتب اسمه بشكل صحيح، ومعظمهم شباب صغار السن لم يسبق لهم ان تتدرجوا وتتدربوا في كواليس العمل الصحافي، اضافة الى ان هناك العشرات من الاسماء التي تم تجنيدها لقاء رواتب مغرية من قبل اطراف رسمية حكومية او حزبية متنفذة، لاجل ان تكون مخالب يتم استخدامها للنيل من أي صحافي يرصد مساوئ الاداء الحكومي، ويكشف مفاسده، وهذا ما كشف عنه مكتب رئيس الوزراء حيدر العبادي في سبتمبر 2014 في «أن الأخير يواجه مشكلة كبيرة، تتلخص بتعيين رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي، أكثر من خمسة آلاف شخص أغلبهم لا يمتلكون الشهادة الثانوية بعنوان «صحافي» في الأمانة العامة لمجلس الوزراء ومكتب رئيس الوزراء ورئاسة الوزراء والمكاتب والمؤسسات المرتبطة بمكتب رئيس الوزراء، أغلبهم تم منحه درجة وظيفية من وزارة المالية على الملاك الدائم للدولة. وظيفتهم فتح صفحات على شبكة التواصل الاجتماعي «فيسبوك» والترويج للولاية الثالثة لنوري المالكي، والتعليق على تلك الصفحات فيما بينهم، مع مهاجمة صفحات الأحزاب والكتل الوطنية وقياداتها المنافسة والرافضة للولاية الثالثة».
هذه الصورة التي عبر عنها العبادي في أول ايام توليه رئاسة مجلس الوزراء تكشف حجم الكارثة التي اصبح عليها الاعلام العراقي، والدور الذي بات يمارسه ضد حرية الرأي والتعبير وتشويه الحقائق،وهذا يعني اننا خرجنا من نفق مظلم ودخلنا في آخر أكثر ظلمة. 
البعض من المسؤولين الحكوميين يتبجح مدعيا بأن العراق لم يعد يعتقل الصحافيين والاعلاميين، فيما لو كتبوا ضد سياسات الحكومة، كما كان عليه الحال ايام نظام صدام. يبدو هذا الكلام صحيحا للوهلة الاولى، لكنه لا يعكس الحقيقة كاملة، أو لا يعكس الوجه الآخر لهذه الصورة، الوجه المخيف والمرعب الذي تكشف عنه اغتيالات غامضة تعرض ويتعرض لها عدد من الاعلاميين والصحافيين والأمثلة كثيرة.
لجنة حماية الصحافيين الدولية التي مقرها في نيويورك كانت قد ذكرت في تقرير سابق لها ان «عدد الصحافيين الذين قتلوا في العراق بعد عام 2003 وحتىعام 2011 بلغ 150 صحافيا، أي ضعف عدد الصحافيين الذين قتلوا في الحرب العالمية الثانية، وكان عددهم 68 صحافيا، بينما وصل عددهم في الحرب الامريكية الفيتنامية الى 66 صحافيا». واللجنة ذاتها كانت قد اشارت في تقريرها الى أنه «لم تتم محاكمة أي فرد الى حد الان بمسؤولية قتل الصحافيين». بهذا الصدد تضاعف رقم القتلى من الصحافيين الذي ذكرته اللجنة عام 2011 الى 420 صحافيا حتى عام 2015.
عدد الضحايا من الصحافيين الذين قتلوا بظروف غامضة يعكس حجم المخاطر التي تواجها الحقيقة في العراق، بالوقت نفسه هذا الرقم يفنِّد تصريحات المسؤوليين الحكوميين، وكذلك تصريح نقيب الصحافيين العراقيين مؤيد اللامي، الذي أكد أمام وسائل الاعلام اثناء الاحتفال بالذكرى 146 لعيد الصحافة العراقية في 27 يونيو 2015 عندما قال «منذ اكثر من 6 سنوات لا يوجد في العراق سجين صحافي على عكس بلدان متقدمة، وسجون العراق خالية من المعتقلين بقضايا رأي… والعبادي الغى جميع دعاوى الصحافيين». 
لا غبار على ما قاله اللامي، وليس لدينا دليل على عدم صحة ما جاء فيه، لكنه لا يستطيع أن ينكر هو الآخر عمليات الاغتيال والتصفيات الجسدية، التي تتم بين فترة واخرى ضد صحافيين واعلاميين، بدون ان يتم القبض على القتلة، أو حتى الكشف عن اسمائهم او اسماء الجهات التي تقف خلفهم، فيما لو أعلن عن القاء القبض على واحد منهم.. لذا لا معنى لحرية القول والتعبير المزعومة التي يتم التبجح بوجودها في عراق ما بعد 2003 ، ولا صحة لوجودها اصلاً، فإن كانت الانظمة السابقة تملك من الجرأة الى الحد الذي كانت تعتقل الصحافي عندما يكتب منتقدا سياساتها ولو بالايحاء، فإن الوضع الحالي اشد خطورة من السابق عندما يتم اللجوء مباشرة الى التصفية الجسدية، بدون المرور بمرحلة الاعتقال والسجن والمحاكمة. فقد أمسى علاج من ينتقد السلطة، فيه اختصار كبير لمساحة الحوار المتاحة، الى الحد الذي تم الغاؤها نهائيا عبر القتل بكاتم الصوت . 
بلا ادنى شك إن الذي قتل الصحافيين لمْ يقرأ للضحايا كلمة ولم يسمع لهم رأي في برنامج تناولوا فيه بالنقد اوضاع الحياة والمجتمع والدولة، لكنه استلم الاسم والعنوان من الجهة التي يرتبط بها تنظيمياً ــ وغالبا ما تكون الرابطة بينهما طائفية ـــ التي استلمت بدورها المعلومات من اولئك الصحافيين الطارئين الذي تسللوا الى المهنة خلسة، ليؤدوا ادورا محددة لهم لاعلاقة لها بالصحافة لاتخرج عن الوشاية وكتابة التقارير والتسقيط لكل صوت قد يخرج منتقدا سياسات السلطة. ومما يثير الريبة في هذا الموضوع ان أمثال هؤلاء صعدوا سريعا في غفلة من الزمن ليتولوا مسؤوليات اعلامية وصحافية هنا وهناك خارج الوطن في مؤسسات تابعة للدولة. 
الحرية ليست شعارا يرفع في مهرجانٍ، ولا قيوداً ترفع أمام ما تود قوله وتصرخ به.. الحرية ممارسة فعالة حقيقية في مجمل تفاصيل الحياة.. هي شعور حقيقي بالاطمئنان يحيط بك عندما تكتب وتقول وتفعل، بدون أن تتعرض حياتك للتهديد أو القتل. 
٭ كاتب عراقي

مروان ياسين الدليمي

(القدس العربي)

هل سنكون قردة؟

 

مروان ياسين الدليمي

 

هل ينبغي علينا أنْ نشطب ذاكرتنا لنبدأ في ذاكرة أخرى؟ وكيف ستكون هذه الذاكرة/ اللاذاكرة؟ ماذا ستحمل من صور، من أصوات، من وجوه، من رموز، من أنبياء، من حكم، من قيم، من أمنيات وأهداف؟ هل كنَّا على ضلالة، ونحنُ نَسمَعُ جميل بشير وناظم الغزالي ونجاة الصغيرة؟ هل ينبغي أنْ نحرق ما نقرأه من كتب للسياب وماركيز وهمنغواي ونجيب محفوظ؟ هل سنتخلى عن كل ما يقودنا إلى اكتشاف الجمال في ذواتنا وفي كل ما يحيط بنا من صور مدهشة في هذه الحياة على الرغم ممّا فيها من مشقات؟ هل ستُمحى كل الأغاني التي ذرفنا الدمع كلَّما سمعناها..هل سيموت المتنبي .. هل سَنكرهُ صوت أم كلثوم ..هل سنحرق والت ويتمان وعلي الوردي وجان بول سارتر ونصر حامد أبوزيد؟ مَن سنحتفظ به.. بمن سنهتدي ..أي صوت سيهزُّ أحاسيسنا..أي وجه سيبعث فينا الحب .. ؟ ماذا سنقول للنساء، كيف سنقول لهن ما نريده منهن ..وهل سنحتقر العيون السود؟ هل سنكون نحن .. أمْ سنكون غيرنا؟ هل سنكون بذاكرتنا، أمْ بذاكرة سلطةٍ شطَبَت ذاكرتنا، أمْ سنكون بلاذاكرة؟ كيف سننظر الى نخيل العراق، إلى جواد سليم، إلى بهنام أبو الصوف، إلى أنجلينا جولي التي لا تكف عن احتضان اللاجئين؟ ماذا سنقول عن ساسة ورجال دين سرقوا قوت الشعب؟ هل سنصافح من هجَّر أهلنا .. واستباح مُدننا؟ مع مَن سنقف..مع الذين تاجروا بنا وبعذاباتنا .. مع الذين ارتضوا أن يكونوا عبيداً لغيرهم حتى يكونوا أسياداً علينا؟

 

هل سنكف عن كتابة الأشعار لدجلة، للحبيبة، للمدن التي نموت من أجل شوارعها؟ هل سنكتفي بمشاعر الحزن والندم والأسى على ماض تولىّ؟ ما المطلوب منّا لكي نعود مواطنين صالحين؟ هل سنعلن التوبة من وجداننا الإنساني لنلتحق في ركب الطوائف والمذاهب والقبائل؟ يبدو أنَّ غزوة أجهزة السلطة الأمنية العراقية للنوادي والفرق الموسيقية في بغداد، يوم السبت، 18/ 7 / 2015 ترسم طريقاً جديداً آخر للعراق، لمْ يعرفه طوال تاريخه الموغل في القدم، ولم تعتد عليه ثقافة إنسانه.. فكيف سنكون، غداً، فيما لو استجبنا وخضعنا ؟ هل سنكون نحن أمْ سنكون قردة .

(العربي الجديد)

 

 

 
الرئيسية || من نحن || الاذاعة الكندية || الصحافة الكندية || اتصل بنا