الرئيسية || من نحن || الاذاعة الكندية || الصحافة الكندية || اتصل بنا
 

نبيل عودة صحفي كاتب وقاص وناشط فلسطيني

 

مقالات سابقة

حقائق مذهلة من المهم

ان يعرفها المواطن العربي

اعد التقرير

نبيل عودة

* اتساع الفجوة العلمية بين العرب وإسرائيل خطر داهم على أمن العرب القومي

* واقع الأقطار العربية مثير للقلق، الاف العلماء من المستوى الأول في المهجر

* لا تنقص العقول العربية ينقص التخطيط والتنظيم والادارة السليمة

* الفكر القومي العربي لن يتطور بغياب تطوير اقتصادي وعلمي اسوة بالبلدان المتطورة وإسرائيل في مقدمتهم

 

أشار تقرير صادر عن الجامعة العربية قبل عدة سنوات، وصدر تقرير دولي مشابه أيضا من الأمم المتحدة، (الواقع اليوم اكثر سوء) الى مخاطر اتساع الفجوة التكنولوجية والعلمية بين العرب وإسرائيل، يؤكد التقرير اهتمام اسرائيل بتنمية قوتها الذاتية على خلفية علمية وتقنية جبارة، تنفق اسرائيل علي البحث العلمي بصورة لائقة تعكس تطلعاتها ورؤيتها الواعية لأدوات المعركة، بما يعد خطرا داهما على الأمن القومي للعرب، وتستقدم العلماء اليهود من مختلف أنحاء العالم وبخاصة أوروبا وأمريكا كل عام لمدة 3 شهور، للاستفادة من أبحاثهم العلمية ولحل مشكلاتهم، حيث استقدموا حتي الآن 78 ألف مهندس و16 ألف طبيب و36 ألف معلم و13 ألف عالم مختص بالتكنولوجيا المتقدمة وفقا لتقرير جامعة الدول العربية. العالم أحمد زويل عالم كيميائي مصري، أمريكي الجنسية، حاصل على جائزة نوبل في الكيمياء سنة 1999 لأبحاثه في مجال الفيمتو ثانية.  بالطبع لم تتوفر له فرصة ليقوم بأبحاثه في مصر.

تكتفي الدول العربية في علاقاتها مع العلماء العرب المنتشرين في بقاع الأرض بالطابع التشريفي، حيث تقوم مراكز الأبحاث باستضافة عدد من العلماء المصريين المهاجرين بالخارج إلي مؤتمراتها السنوية حتي يكتسب المؤتمر طابعا براقا لا أكثر، وكأنه مهرجان سينمائي مثل " كان " أو " أوسكار " الذي يتلألأ بنجومه.

تقول د. غادة الخياط- خبيرة الفضاء المصرية وكبيرة مهندسي الأنظمة المتعددة بجامعة هيوستن بالولايات المتحدة الأمريكية، التي زارت مصر في مهمة علمية في مجال تصميم سفن الفضاء متعددة الأنظمة والاتصالات والتدريب في مجال الأنظمة الهندسية لسفن الفضاء- : إن الحكومات المصرية المتعاقبة اكتفت في تعاملها مع العلماء بإرسال خطابات للمحافظات التي ينتمي إليها هؤلاء العلماء لدعوتهم في احتفالات الأعياد القومية لكل محافظة حتى يحدث نوع من الربط بينهم وبين بلدهم!

اوصت د. غادة بتخصيص ميزانيات في السفارات المصرية بالخارج للاجتماع بهؤلاء العلماء المتميزين بصفة دورية ودعوتهم للمؤتمرات العلمية، مشددًة علي أن لهم أسبقية الدعوة عن غيرهم من علماء العالم كافة ، مطالبًة بأن تقوم شركات السياحة الوطنية بدعوتهم في رحلات سياحية متخصصة، وأن تسعي كل أجهزة الدولة إلى تدعيم إحساس هؤلاء العلماء بمصريتهم حتي يمكن أن يشكل منهم "لوبي" في الخارج يدعم موقف مصر والأمة العربية في أي قضية نكون طرفًا فيها، خاصةً أن هؤلاء العلماء يحتلون مراكز مرموقة في البلاد التي يعملون بها، مع اعتبارهم سفراء لوطنهم في الخارج.

وقالت إن تعامل الحكومة المصرية مع هذه العقول كان بمنطق المشاركة الشرفية في الاحتفالات القومية، وكانت النتيجة تدني مركز مصر بين الدول في مجال البحث العلمي حتي أصبحت الهوة واسعة بيننا وبين أشد منافسينا بالمنطقة : اسرائيل ، إذ تراجع ترتيب مصر بين الدول في مجال البحث العلمي عام 2007م إلي المركز 135، بينما قفز ترتيب اسرائيل إلي الـمكان ال 14، بل تقدمت علينا دولة عربية أخري وهي الإمارات التي احتلت المركز 65 بين دول العالم، أما عام 2000م فقد كانت مصر في المرتبة الـ 114 بينما كان ترتيب الإمارات الـ 70 في حين كانت اسرائيل في المرتبة الـ 21، والسبب معروف هو أن مصر تخصص 0.8% من ميزانيتها للبحث العلمي في حين تخصص اسرائيل 5% (الحديث اليوم عن 7% على الأقل) من ميزانيتها للغرض نفسه ، بالإضافة لميزانية وزارة الدفاع التي يخصص منها جزء للأبحاث العلمية العسكرية، طبعا عدا الدعم المالي الأمريكي للأبحاث العسكرية والدعم الاقتصادي.

وصف وقتها الدكتور عصام حجي حال البحث العلمي بمصر بأنه غير صحي برغم ما تتمتع به مصر من كفاءات متميزة ونادرة جدا ووجود علماء في كثير من المجالات، مشيرا إلى أن مصر فيها عقول لا تقل عن أي دولة متقدمة لكن الفرصة ليست متاحة لهم، ومن ثَمَّ فنحن في حاجة إلى إصلاح مالي، بالإضافة إلى ضرورة ربط مراكز البحوث بمواقع الإنتاج مع استثمار النبوغ الفطري الذي يتمتع به الشعب المصري من خلال الاهتمام بالعلم قبل كل شيء.

مصر لديها مئات الآلاف من التخصصات القادرة على تغيير صورة الحياة على أرضها، حسب المعلومات التي نشرت وقتها، مثلا في الطب كان يوجد بالولايات المتحدة 47 جراحا وطبيب قلب متميزين جدا، وفي كندا 11 طبيبًا، وفي أستراليا 7 أطباء، و66 طبيباً بالاتحاد الأوروبي، أما في مجال الطب النووي يوجد ثلاثة بالولايات المتحدة واثنان بكندا ومثلهم بأستراليا وستة في الاتحاد الأوروبي، وفي تخصص العلاج بالإشعاعات يوجد بالولايات المتحدة 10 علماء متخصصون وبكندا واحد، وفي أستراليا ثلاثة أما الاتحاد الأوروبي فيوجد به ستة، هذا بالإضافة لباقي التخصصات مثل علم المناعة والسموم

ويوجد بمجال هندسة المؤثرات الميكانيكية بالولايات المتحدة 42 عالمًا مصريا و7 بكندا وواحد بأستراليا، و7 بدول الاتحاد الأوروبي، وفي هندسة المدن والسدود يعمل بالولايات المتحدة 31 عالمًا وبكندا 14 و10 في الاتحاد الأوروبي، وفي مجال المايكرو إليكترونيات يعمل بالولايات المتحدة 52 عالمًا، و14 بكندا، و8 بأستراليا، 19 بدول الاتحاد الأوروبي، فضلاً عن تخصصات الهندسة النووية واستخدامات أشعة الليزر، وتكنولوجيا الأنسجة. 

أما رجال الأعمال المتميزون بالخارج فمنهم 44 في بيوت الخبرة الأمريكية، و41 ببيوت الخبرة الكندية، و8 في أستراليا و132 بالاتحاد الأوروبي، إضافة إلى تخصصات السياحة والتصدير والاستيراد، وتخطيط الصناعة.

ملاحظة: هذه الأرقام نقلتها من تقرير صدر قبل عدة سنوات، وتقديري الطبيعي ان الواقع اليوم أكثر سوء، وإذا اضفنا تقرير مستوى الجامعات السنوي سنجد ان العالم العربي في الحضيض. لذا نشهد اليوم تفكك الكتلة العربية، والتخلي عن كل الروابط القومية والانسانية، بل والتحالف مع أخطر قوة انيط بها شل تقدم وتطور العالم العربي، وأكثر من ذلك، نهاية للفكر القومي العربي الذي لم يتطور أصلا، ولن يتطور بغياب تطوير اقتصادي وعلمي اسوة بالبلدان المتطورة وإسرائيل في مقدمتهم!!

nabiloudeh@gmail.com

 

 

دراسة قانونية اسرائيلية تدعي:

لا حق قانوني للاجئين بالعودة

نبيل عودة

(من كتاب "اسرائيليات" الجاهز للنشر)

 

نشرت جريدة يديعوت احرونوت في ملحق السبت (6/8/2010) تقريراً عن دراسة قانونية، قامت بها ثلاث خبيرات بالمجال القضائي – القانوني، من ذوات الخبرة في القانون الدولي وحقوق الإنسان، والنزاعات الدولية، وهن بروفسور يافة زيلبرشاتس وبروفسور روت غيبزون والمحامية عورن أميتاي.

دراستهن تناولت قضية اللاجئين الفلسطينيين، وبالتحديد موضوع حق العودة. والدراسة أعدت بمركز" التفكير اليهودي، الصهيوني، الليبرالي والإنساني" الوثيقة التي أعدت تحدد أن القانون الدولي لا يعترف بحق اللاجئين الفلسطينيين أو أحفادهم بالعودة إلى منازلهم.

قرأت المادة في وقته، وأصبت بصدمة، من قوة الوقاحة تحت صيغة "ليبرالية إنسانية"، على طريق "قتلت وورثت " التوراتية.

الوثيقة-الدراسة القانونية وضعت على مكتب رئيس الحكومة، وربما بتكليف منه.

لم أجد نفسي قادراً على الكتابة المتأنية الخالية من المشاعر المتضاربة ... فأجلت الكتابة، وتوقعت أن يثير الموضوع "عاصفة" نقدية عربية قانونية ولكني بحثت ولم أجد إلا الصمت!!

 لست خبيرا في القانون، لا المحلي ولا الدولي، ولكني توقعت أن اقرأ رداً من مصدر عربي يملك الخبرة القانونية والاطلاع على سوابق قانونية شبيهة بالواقع الفلسطيني، رغم أني أقول انه لا يوجد تشابه كامل إطلاقا بين مختلف حالات اللجوء التي نعرفها من التاريخ القديم أو الحديث.

نكبة الشعب الفلسطيني لها مميزات تختلف، يكشف عنها مؤرخون يهود أمثال آيلان بابه (كتابه: التطهير العرقي في فلسطين)، حين يشير إلى ارتكاب جرائم حرب في إطار عمليات التطهير العرقي التي يعاقب عليها القانون الدولي ويستهجن تجاهل العالم للجرائم التي ارتكبتها القيادات الصهيونية، ومؤرخ إسرائيلي آخر ومعروف كشف في كتاب جديد له(1949 – تاريخ الحرب العربية الإسرائيلية الأولى ) أن الحركة الصهيونية دفعت رشاوى ومارست ضغوطات اقتصادية على دول للتصويت إلى جانب قرار التقسيم، فهل انجاز مبني على تجاوزات قانونية، يمكن أن يتحجج بقانون؟

النموذج الذي نعرفه يوغوسلافيا، حيث قدم قادة صربيون إلى محكمة مجرمي الحرب بتهمة جرائم التطهير العرقي، وقد تكون جرائم القادة الصرب اقل إيلاما من التطهير العرقي ضد الشعب الفلسطيني التي بدأت في أوائل القرن العشرين. وكنا شهودا على تقسم يوغوسلافيا لتقام دول قومية، كحل للصراعات الاثنية.

لا أريد الخوض في موضوع تحركني فيه عاطفتي ولست مؤهلاً لطرح رؤية قانونية حوله واستهجن غياب الرد الفلسطيني القانوني بالتفصيل على ما نشرته يديعوت احرونوت عن دراسة "قانونيات إسرائيليات" من المستوى الأول في إسرائيل وربما في العالم أيضا.

ماذا جاء في نصوص الوثيقة التي وضعت أمام رئيس الحكومة؟

جاء: إن كل اعتراف بحق العودة للاجئين الفلسطينيين قد يقيد إسرائيل ويجر وراءه دعاوي واسعة جداً للعودة (عودة اللاجئين). مما يعني نهاية الدولة اليهودية... وعلى اسرائيل أن تواصل الإصرار على معارضة قبول حق عودة واسع للاجئين الفلسطينيين إلى داخلها، وممنوع أن تُجَّر إلى الاعتراف بحق العودة، حتى كموقف حسن نية رمزي، لان عودة لاجئين فلسطينيين وأحفادهم لداخل حدود إسرائيل، تنسف قدرة اليهود على انجاز حقهم بتقرير المصير في دولة يهودية وديمقراطية، لذا توجد مصداقية قانونية كاملة لمعارضة اسرائيلية حول هذا الموضوع، الذي قد يقود إلى إدامة النزاع".

النقاط الهامة القانونية، حسب النص  تقول ما يلي : " يوجد اعتراف دولي بأنه يُفضل تسوية كامل للنزاعات، عن الاعتراف بحقوق عودة لاجئين. وقد تقرر هذا الموقف في قرار جديد للمحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، التي تعتبر إحدى المحاكم الدولية المحترمة في العالم. المحكمة، يواصل التقرير ، بحثت حقوق اللاجئين اليونانيين الذين طردوا من شمال قبرص عام 1974، وأقرت قبل خمسة أشهر انه بسبب الوقت الطويل الذي مضى، ورغم أن قضية اللاجئين ما زالت قائمة، سيكون من الخطأ إصلاح الضرر الذي لحق بهم بواسطة إعادتهم إلى بيوتهم وطرد من يسكن فيها اليوم. وقررت المحكمة انه يجب إيجاد تسوية للاجئين في إطار الحل السياسي للنزاع، وليس في إطار الحديث عن الحقوق"

وهناك نص أخر: " التاريخ يعلم أنك إذا أرجعت أشخاصا إلى مكان يوجد فيه نزاع اثني، أنت تنتج النزاع من جديد. والاستجابة تشكل خطراً على حل قائم على أساس دولتين لشعبين".

وتوضح البروفسور غيبزون أن الاتفاقات ملائمة مع المصالح. أما الحقوق فتتلاءم مع الأشخاص. وفي واقع توجد فيه حقوق، الاتفاقات لن تصمد حتى لو كان اتفاق بين الحكومات، لأن الأحفاد وأحفاد أحفاد الموقعين، يستطيعون في أحد الأيام أن يطالبوا بتحقيق حقوقهم، وان يقرروا أن النزاع لم ينته".

بالطبع يعترفن ان وثيقتهن لا تحاول تجاهل مشكلة اللاجئين، وبالطبع لا يتجاهلنها، بل عكس ذلك: " يجب الفهم، كما تقول بروفسور زيلبرشاتس: "أن الحل المقترح اليوم في أوساط اليمين وجزء من اليسار، حول دولة واحدة بين الأردن والبحر، لا يحمل في طياته حلا للمشكلة الفلسطينية. دولة مثل هذه ستكون ملزمة بان تعطي حق العودة، لأنه لا يوجد بديل آخر للاجئين. دولة واحدة يستطيعون أن ينجزوا فيها إرادتهم بالاستقلال، وبحساب الأعداد الكبيرة من اللاجئين، بالتأكيد لا تستطيع أن تكون دولة يهودية ديموقراطية.

بالطبع هذا جزء من المادة التي اطلعت عليها، اطرحها للقارئ للتنوير حول ما يدور بغياب كامل عن رؤية قانونية بديلة، وغياب موقف عربي.

nabiloudeh@gmail.com

 

 

هل تطورت -قومية عربية-؟!

نبيل عودة

 

ملاحظة: كتبت هذا المقال بناء على نص سابق، بعد حادث مؤسف ومخجل، اذ قام بعض الزعران او المرضى الطائفيين بحرق شجرتي عيد الميلاد، امام كنيستي اللاتين والأرثوذكس، في مدينة سخنين (مناطق فلسطين 48) المعروفة كمدينة متآلفة بين جميع أبنائها، من مختلف الطوائف. الأمر اثار غضب، استهجان وانتقاد أبناء سخنين بكل طوائفهم على الاطلاق، وقاموا كجسم واحد، بإعادة إقامة شجرتي عيد الميلاد وتزيينهما باحتفال جمع كل أبناء سخنين بكل طوائفهم، الشيخ الى جانب الخوري، والمسلم الى جانب المسيحي بتأكيد التضامن والتآخي كأبناء شعب واحد يواجه اضطهادا سلطويا لا يميز بين المواطنين العرب.

طبعا المرضى النفسيين من المشوهة عقولهم بالتحريض الطائفي، اختفوا بجحورهم.

وعلية اعدت صياغة هذا المقال بفهم جديد، ورؤية جديدة، وبق الحصوة حتى لو كانت مؤلمة لي أيضا!!

******

ان نشوء وانتشار الفكر القومي برز كفكر سياسي على أثر الثورة الفرنسية (عام 1789)، والتي على اساسها طرحت المبادئ الجوهرية الرئيسية التي تبنتها فيما بعد الأمم المتحدة بإطار مبادئ حقوق الانسان، وهي مبادئ العدالة، الأخوة، المساواة، كشرط لوجود القوميات (وليس الطوائف الدينية)، وذلك بعد 200 عام من طرح الثورة الفرنسية لتلك المبادئ. ويعتبر هذا التاريخ أيضا بداية انطلاقة تشكيل الفكر القومي وتطور المفاهيم القومية، واسقاط مفاهيم الولاء للحكام والكنيسة من المرحلة الاقطاعية، مرحلة القرون الوسطى، وهنا يمكن ان نلاحظ بداية النهضة الاقتصادية والتطور الرأسمالي الصناعي وتشكيل الحدود السياسية للدول بشكل واضح خاصة في أوروبا.

تشكل القوميات بمفهومها الجغرافي والاقتصادي عمق تشكيل الدول القومية على حساب الهوية الدينية للقرون الوسطى في أوروبا. لم تتضح الهوية القومية بقوتها في أوروبا في القرن الثامن عشر، فلم يكن عند الأوروبيين الموجودين تحت سلطة النظم الملكية-الدينية فهما للهوية القومية، كعامل اجتماعي، اقتصادي ووطني يتجاوز المفاهيم الدينية التي سادت تحت سيادة وسيطرة حكام مدعومين (ومرضي عنهم) من الباباوات في الفاتيكان. بجانب أنه لم تكن هناك هوية جامعة، وما كان لها ان تنشأ بظروف كون المنتجين عبيدا للأرض، داخل اقطاعيات مغلقة.

كانت السيطرة لنظام الملك أو الأمير والنبلاء والإقطاعيين، بما فيها اقطاعية الفاتيكان، والآخرون (الفلاحين) هم عبيد مقموعين، عمال بالأرض بحصص تكفي بصعوبة لتجديد قوة عملهم. وكان معظم انتاج الأرض يذهب للإقطاعيين والأنظمة الملكية. وهنا نلاحظ بداية انطلاق المهن وبداية نشوء طبقة العمال في الورشات الصناعية، لكنهم عمال بدون ثقافة مهنية او ثقافة عامة، ووضعهم الاقتصادي لم يكن أفضل أو أكثر وعيا من الفئات الفلاحية داخل الاقطاعيات.

الظاهرة الوطنية في اوروبا هي نتاج تطور اقتصاد مشترك في إطار جغرافي محدد. ماركس أكد ذلك وكان مصيبا، الفرنسي أصبح متعصبا لفرنسا، الألماني لألمانيا، الانكليزي لإنكلترا ودواليك. لكن ماركس ذهب بعيدا بموضوع التحالف الطبقي العمالي العالمي الذي لم تثبت صحته، وصاغ نظريته عن الحتمية التاريخية، حول الصراع الطبقي بين طبقة البروليتاريا والبرجوازية والذي سيقود للثورة البروليتارية وهزيمة البرجوازية واستلام البروليتارية السلطة وبناء النظام الاشتراكي. نظريته لم تصمد بامتحان التاريخ. وفكر الصراع الطبقي تجاوزته البشرية منذ أواسط القرن العشرين، ولا بد من صياغة جديدة تتعامل مع المعطيات الاجتماعية والسياسية المتغيرة، وملاحظة هامة ان البروليتاريا كانت ظاهرة أوروبية لم تنشا خارج أوروبا، ونشوئها له أسبابه الأوروبية التي رافقت التطور الصناعي والتحول الى مجتمعات بدأت تحتل فيه الصناعة مساحات أوسع من الإنتاج الزراعي/ الاقطاعي. ان وصف العمال المعاصرين بالبروليتاريا هو مهزلة. تعبير بروليتاريا جاء من الإمبراطورية الرومانية القديمة كصفة للمعفيين من الضريبة بسبب فقرهم. واستعمل ببداية تطور الرأسمالية التي جندت فلاحين معدمين في مشاغلها. بدون وعي طبقي وبدون ثقافة وبدون مهنية.

ان من يكرر شعار "يا عمال العالم اتحدوا" يعيش عقليا بالقرن التاسع عشر. ولم يستوعب بعد ان الطبقة العاملة (البروليتاريا حسب التعبير الماركسي) اصبحت جزءا من مجتمع مدني أكثر اتساعا من الظاهرة الطبقية الضيقة او حتى من الحدود القومية التي سادت اوروبا حتى أواسط النصف الثاني من القرن العشرين. عمال اليوم أصبحوا تكنوقراطيين ومشغلي تكنولوجيا صناعية متطورة، وفئات بمستوى تعليمي علمي وتكنولوجي وقانوني راق جدا، يضاهي الفئات الاجتماعية الرأسمالية ويتجاوزها.

المفاهيم الطبقية تتلاشي وتختفي في المجتمعات المتطورة اقتصاديا. والحدود تتهاوى امام نشوء مجتمع مدني يشمل المواطنين على قاعدة أكثر اتساعا من الحدود الطبقية الضيقة. لدرجة بات من الصعب وصف فئات عمالية بأسلوب عملها بطبقة عاملة، لأن مداخيلها مرتفعة جدا وتوفر حياة ثرية جدا. وهذه ظاهرة تتسع في الصناعة التي ارتبطت بتطور العلوم والتقنيات، ومع تعمق التطور الرأسمالي فرض التطور احتياجات لعمال مهنيين وتقنيين واداريين فاتسع التعليم العلمي والتقني حيث لم يعد العامل مجرد أداة وعضلات، بل عامل مهني او مهندس او باحث يتعامل مع اعقد الأجهزة التكنولوجية ويطور وسائل انتاج أرقى ومردودها الربحي أضخم. وارتفع مستوى التعليم وباتت فئات عمالية تدير شؤون الدول اقتصاديا وعلميا، ونظام الحكم في العالم الرأسمالي لم يعد "اقتصاد وسلطة"، كما كان في بداية التطور الرأسمالي، بل أضيفت له مع تعمق التطور والتعليم قوة ثالثة فأصبح: "اقتصاد، سلطة ومجتمع المدني"، والمجتمع المدني يشمل كل الطبقات الاجتماعية وراء رؤية مشتركة ومصالح مشتركة. انتهى عمليا عصر الاقطاع الذي ساد أيضا بداية التطور الرأسمالي. وكل النظريات التي بنيت على أساس تلك المرحلة المتقدمة من نشوء وتطور الطبقة العاملة أصبحت اشبه بكتاب دين انتهى زمنه.

هذا هو الغائب الكبير في المنطقة التي يشملها تعريف العالم العربي. عالم أقرب لبدايات القرن العشرين بتركيبته الاجتماعية والدينية. ووجود اقتصاد وثروة نفطية لم يغير من العلاقات الاجتماعية او يطور طبقة عمالية قادرة على التأثير على أنظمة حكم اقطاعية وعائلية ودينية، اجزم انه لا قومية لها عدا الثرثرة بالانتساب لمصطلح لا يفقهون مصدره ولا تاريخه ولا تحولاته. وأصبح التدين والانغلاق الديني، ولا أقول الدين، تيارا سائدا على حساب أي فهم قومي عام وشامل للمجتمع.

عالمنا العربي يفتقد للمعايير الوطنية، وتسوده روح دينية مغلقة. وتنتشر فتاوى متناقضة وبعضها غير عقلاني. والمسألة الوطنية تكاد تكون شعارا غير ذي تأثير او قيم واضحة المعالم. ولا ارى تطور وطنية عربية ما دامت الدول العربية متخلفة اقتصاديا وغير متحدة لبناء اقتصاد عربي مشترك، بأسلوب اليابان او الصين الشعبية او حتى روسيا الجديدة. واجتماعيا المجتمع العربي (أقول العربي مجازا) منقسم بين اتجاهات دينية بعضها متعصب ومتطرف يلحق الضرر والدمار بالمجتمعات التي يقال عنها "مجتمعات عربية".

الدين له دور ايجابي مؤثر إذا حث على العلم والتطور الصناعي والتكنولوجي والاعتراف بالحقوق المدنية للمواطنين والمساواة بين الجميع بغض النظر عن التنوعات الدينية والاثنية والجنسية والتعددية الفكرية، وأحيانا مدمر بظاهرة الدواعش، او أي تطرف ايماني ولا أقول ديني.

الم تنص صورة البقرة انه " لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ"؟

اللغة ايضا لا تصنع قومية، هي عامل قد يكون مساعدا لتطوير الترابط القومي. ولكن اللغة لا تخلق قومية ولا انتماء قومي. الاقتصاد هو الزنبرك لنشوء القوميات. وبدأ ظهور القوميات مع تقسيم القارة الأوروبية جغرافيا وبدء تطوير اقتصاد داخل الحدود الجغرافية لكل دولة، وتطوير اللغات الخاصة بعد ان كانت اللاتينية هي اللغة السائدة.

لا ارى اليوم قومية عربية، بل قوميات جزئية غير متواصلة وغير فعالة الا بالشعارات احيانا.

الانسان الجائع يريد رغيف خبز وليس وطنا او لقبا قوميا.

الانسان المتعصب دينيا يكره كل مختلف عن دينه او له رؤية منفتحة وغير متزمتة ومتحرره من المفاهيم الدينية المتناقضة لنفس الدين من أوساط لا رقابة جادة على ما تنشره وتدعو له. والقومية كما جاء بكتب التعليم السعودية: هي مؤامرة استعمارية صهيونية صليبية ضد الاسلام. والمضحك ان هذا الفكر لم يمنعهم من التحالف مع الاستعمار (الصليبي طبعا) وصنيعته الصهيونية.

حتى الدول المتطورة اقتصاديا، اي دول النفط، لا يمكن اعتبار اقتصادها اقتصاد انتاجي صناعي. بل انتاج يرعي. نفط تبزقه الأرض ويجري بيعه وهذا ليس اقتصادا صناعيا. والأهم ان مدخولاته تذهب لجيوب السلاطين والأمراء والملوك وكل الفاسدين في جهاز الدولة الفاسد والمتخلف. ولا يجري استغلاله لبناء اقتصاد صناعي وعلمي وتكنولوجي. بناء ناطحات سحاب وشوارع وقصور لن يطور قومية.

بناء الأبنية الشاهقة لا يعني انه يتطور اقتصاد، بل تصرف اموال طائلة ولا اعرف ماذا سيفعلون بهذه الأبنية حين ينتهي عصر النفط / دولة الامارات نموذجا!!

من هنا ما يجري بين اسرائيل والدول العربية، مصر سابقا ثم الأردن واليوم الامارات العربية والبحرين والمغرب والسودان والمخفي أعظم، هو نتاج غياب فكر قومي، وهو فكر لن ينشأ بالإعلام والدعايات بل بالبناء الاقتصادي والاجتماعي والثقافي للإنسان أيضا، فأين نحن من ذلك؟

ان تطوير العلوم وتطوير التكنولوجيات للصناعة والزراعة، وتطوير الابحاث التي تخدم الاحتياجات الملحة للدولة هي الطريق لنشوء دول عربية لها وعيها لقضاياها القومية، وليس مجرد دول تبحث عن حماية المستعمر وحلفائه في المنطقة، هذه مغامرة لها ثمنها عاجلا ام آجلا.

نحن امام ظاهرة انتحارية لعالم يسمى عربيا زورا ولا شيء عربي فيه الا الثرثرة اللسانية والمظاهر التي قرفنا منها لأمراء وسلاطين يمارسون الحكم المطلق والقمع المطلق، ولا يترددون بقتل من يعارضهم حتى خارج بلدانهم، كما جرى مع الخاشوقجي.

ان اغراق الجماهير بالدين ليس تدينا وليس ورعا، بل لشل التفكير وشل العقل وشل ارادة التغيير!!

يؤسفني ان أقول انه في الظروف السائدة فيما يسمى العالم العربي لا أرى فرصا للتغيير وإذا حدث سيبدل فاسدين جدد بدل الفاسدين السابقين.

حقا نجح عبد الناصر بتحريك الحلم العربي. لكنه بقي بإطار الحلم ولم يتطور كأداة لها قاعدة اقتصادية لا يمكن اسقاطها.

واليوم تحدث ردة أكثر خطورة. يحدث استسلام أطراف عربية يغطون على نهجهم بتهريج وتحريض ضد الضحية الفلسطيني في المناطق المحتلة او في معسكرات التشريد التي يحافظ عليها العالم العربي كأنها تحف فنية، وهناك رفض لإعطاء اللاجئين أي حقوق مواطنة تستحق الاحترام، او تحررهم من التركيز المهين بمخيمات فقيرة ومكتظة بالسكان وتفتقد لأسباب النشاط الاقتصادي والدخل، ومعزولة عن محيطها العربي أيضا. مخيمات أشبه بحظائر الدواب!!

من هنا رؤيتي ان ما يسود مجتمعاتنا، هو الفكر الإيماني المناقض لجوهر الدين أحيانا.

nabiloudeh@gmail.com

 

 

مأساة أطفال فلسطين

تحت حراب الاحتلال

 

نبيل عودة

 

*اتفاقية حقوق الطفل هي اتفاقية وقعت عليها 191 دولة في العشرين من نوفمبر1989، لكنها حسب منطق الاحتلال، لا تخص الأطفال الفلسطينيين،

 لأن كل طفل فلسطيني هو مخرب محتمل في المستقبل!!*

*********

اعلن الجيش الإسرائيلي، حسب خبر نشرته صحيفة هآرتس العبرية قبل أسبوع، أنه يجرى اعتقالات عديدة واستدعاء قاصرين فلسطينيين للاستجواب، وان المئات اعتقلوا ليلاً بشكل غير متوقع. لكنه لا يقدم تفسيرا لنتائج هذه الحملة المناقضة للوثائق الدولية التي تتعلق بحقوق الطفل.

لا يقوم الجيش الإسرائيلي بنشر تفاصيل او بيانات منظمة عن الاعتقالات والتحقيقات مع الاطفال الفلسطينيين، التي بدأت في عام 2014، ولم يحدد حتى أهدافًا له منها. في السنوات الست الماضية، حسب خبر هآرتس، تم استدعاء 128 قاصرًا فلسطينيًا للاستجواب مسبقًا - وهو أقل من العدد المفاجئ للمعتقلين في عام 2019 وحده.

وجاء في تقرير صحيفة "هآرتس" (02-12-2020) عن الاعتقالات الواسعة لشبان فلسطينيين (أطفال قاصرين) انه "بعد ست سنوات من إعلان الجيش الإسرائيلي أنه بدأ يسرع استدعاء قاصرين فلسطينيين مشتبه بارتكابهم جرائم (!!) للاستجواب، يتبين انه يواصل اعتقال المئات من الشبان الفلسطينيين دون سابق إنذار، عادة يعتقلهم في منتصف الليل. وبشكل بالغ السرعة، ولم يتم نشر معايير نجاحه أو فشله من هذه الاعتقالات، جنبًا إلى جنب مع أهدافه من حيث عدد المعتقلين.

هذا الخبر اعادني الى تقرير سابق لصحيفة هآرتس، نشرته الصحفية الشجاعة عميرة هيس، نشر قبل بضع سنوات عن موضوع اعتقال ومحاكمة الأطفال الفلسطينيين وعلاقة ذلك بالقانون الدولي، وهذه اهم تفاصيل ما ورد بذلك التقرير الهام. الذي يفضح أسلوب التعامل المنافي لأبسط قوانين تتعلق بحقوق الأطفال. ويبدو ان الأمر يزداد سوءا وتجاهلا لبنود القانون الدولي لحماية الأطفال.

في البداية تعالوا نتخيل حالة عبثية: مسؤول في السلطة الفلسطينية يعلن ان كل طفل يهودي في إسرائيل يجب التعامل معه كجندي محتل.

أضع هذا التخيل العبثي في مواجهة ما قاله مدّعٍ عسكريٍّ إسرائيليٍّ عام لوفد قضائي بريطاني موَّلتْه وزارة الخارجية البريطانية، جاء يحقق في اعتقال وإصدار أحكام ضد أطفال فلسطينيين يُشتمُّ منها ان إسرائيل تخرق وثيقة حقوق الطفل للأمم المتحدة.

تنكر النيابة العسكرية الإسرائيلية شكوى الأطفال الفلسطينيين عن سوء معاملتهم، وقالوا للوفد البريطاني "أضحكتمونا" وأضاف ضابط كبير من النيابة العسكرية بصراحة للوفد البريطاني المشكّل من تسعة رجال قانون "ان كل طفل فلسطيني هو مخرب محتمل".

حسب صحيفة هآرتس، في تقرير لها عن الموضوع، نشرته الصحفية الشجاعة عميرة هيس، قرات هذه التفاصيل.

الوفد فحص وحقق بالقانون والتصرفات الإسرائيلية بكل ما يتعلّق باعتقال وصدور أحكام ضد أولاد فلسطينيين.

زيارة الوفد المذكور جاءت بعد ان طرح الموضوع أمام بيتي البرلمان البريطاني للبحث، وتعتبر الزيارة خطوة الى الأمام في التحقيق مما يجري مع الأولاد الفلسطينيين في محاكم الاحتلال الإسرائيلية. والجدير بالذكر ان اتفاقية حقوق الطفل هي اتفاقية وقعت عليها 191 دولة في العشرين من نوفمبر 1989.

الوفد أصدر تقريرا من 36 صفحة، بصياغة دبلوماسية لطيفة جدا (يبدو ان ذلك من خصائص الغرب بكل ما يتعلق بإسرائيل). من ضمن ما جاء بلطافة دبلوماسية: "من المحتمل ان بعض التردد بمعاملة الأولاد الفلسطينيين، حسب النهج الدولي سببه من القناعات التي طرحت امامنا من مدعي عسكري بان كل طفل فلسطيني هو مخرب محتمل. هذا الموقف يبدو لنا انه نقطة الانطلاق الحلزونية لغياب العدل، الذي لا يستطع احد ان يغيره الا إسرائيل نفسها بصفتها قوة الاحتلال في الضفة الغربية".

المدعيان العسكريان الإسرائيليان اللذان تحدث الوفد البريطاني معهما هما المدعي العسكري الرئيسي الكولونيل روبرت نويفيلد ونائبه الميجر رونين شور. الوفد لا يذكر من قال الجملة التي تشكل منطلق النيابة العسكرية الإسرائيلية (ربما الأصح الفكر الاحتلالي الإسرائيلي) بان كل طفل فلسطيني هو مخرب محتمل. وهو الأمر الذي يشكل العلاقة بين الأولاد الفلسطينيين والجهاز العسكري الإسرائيلي، او دولة الاحتلال للدقة بدون لطافة دبلوماسية.

كما جاء في بداية مقالي، حاولت ان أتخيل مسؤولاً فلسطينياً يقول ما يشبه هذا التقييم عن الأولاد اليهود. تخيل ميتافيزيقي لا أستطيع ربطه بواقع إنساني. ولم أكن لأتردد باعتبار كل تصريح مشابه نفياً لإنسانية كل من يطلقه، ورفضي لاعتباره ممثلا حتى لخطوط المجاري الفلسطينية.

الوفد كشف في تقريره وجود روايات إسرائيلية عسكرية متناقضة حول منهج اعتقال ومحاكمة الأولاد الفلسطينيين حسب القانون العسكري. الجهاز الإسرائيلي الرسمي له روايته. منظماتٌ ونشطاءُ فلسطينيون وإسرائيليون ممّن يتابعون مسألة اعتقال ومحاكمة الأولاد الفلسطينيين وحتى الأولاد أنفسهم لهم رواية مختلفة. الوفد لم ير ضرورة لقبول رواية ما، حسب لسان التقرير. بل سجل الروايات المتناقضة دون تأكيد صحة قبول رواية طرف من الأطراف، ولكن، وهنا الشيء الأساس، سجّل الوفد في تقريره تبريراً لموقفه بعدم الفصل بين الروايات، بأن "الفروقات المثبتة في القانون بين الأطفال الفلسطينيين والإسرائيليين التي أشغلتهم في فحصهم، هي فوارق موثقة بالفعل، وانه حسب الوقائع الموثقة، التي لم يستطع المتحدثون الإسرائيليون نقضها او إنكارها، وجد الوفد ان إسرائيل تنقض ستة بنود من وثيقة حقوق الطفل للأمم المتحدة. وهذه البنود هي:

البند2 – التمييز بين الأولاد الفلسطينيين والإسرائيليين.

البند 3- مصلحة الولد مقابل مصلحة الاحتلال.

البند 37 ب – ايجاد حجّة مسبقة لاعتقال الأولاد.

البند 37 ج- عدم فصل الأولاد عن المعتقلين الكبار.

البند 37 د- عدم الوصول فوراً لمحام (الاحتلال لا ينفذ هذا الأمر).

البند 40 – التقييد بسلاسل حديدية في المحكمة (الظاهرة الشائعة).

والتزاماً منه بعدم اعتماد أيٍّ من الروايات، يسجل الوفد انه اذا كانت التقارير والشهادات التي وصلتهم من منظمات إسرائيلية وفلسطينية حول اساليب الاعتقال صحيحة، فان هذا يعني ان إسرائيل تخالف بند يمنع التصرف بعنف مع الأطفال، وبأساليب غير إنسانية او مهينة حسب البند 37 أ في الميثاق.

وتسجل الصحفية هيس رأيها بوضوح، متخلية عن اللطافة الدبلوماسية، انه بالاعتماد على ما نشرته "هآرتس" من مراسليها، والتي تشمل عشرات الشهادات حول اعتقال أطفال فلسطينيين، نسمح لانفسنا، كما تكتب عميرة هيس، "ان نكون أقل مجاملة وتردداً، ونقرُّ ان المعاملة القاسية، وغير الإنسانية، او المهينة، هي المعيار. الجيش يتصرف بشكل دارج (روتيني) في اعتقال الأولاد الفلسطينيين في منتصف الليل. وبشكل دارج يُضربون، صفعاً او رفساً أثناء الاعتقال. وفي ثلث الحالات، حسب فحص المنظمة العالمية للدفاع عن الأولاد، يطرح الأولاد على أرضية السيارة العسكرية، أثناء قيادتهم للاعتقال. وبشكل دارج رجال الشرطة يحققون معهم قبل التحقيق الرسمي. وتقريبا بشكل دارج أيضا التحقيق يجري قبل ان يسمح للولد ان ينام، وبشكل دارج لا يحضر والداه في وقت التحقيق معه".

حجّة ممثلي وزارة الدفاع ومنسّق العمليات في المناطق المحتلة، الإنكار أولاً ، وهو تقليد إسرائيلي دارج، ثم قولهم ان "الجنود هم جنود". هذه الملاحظة أقلقت الوفد البريطاني، كما جاء في تقريرهم. وطبعاً قال ممثلو الاحتلال إن الأولاد بإمكانهم تقديم شكوى حول المعاملة المسيئة لقسم التحقيق مع الشرطة.

اقتراح عبقري!!

نحن مواطني إسرائيل يضحكنا هذا القسم الذي يحقّق مع نفسه، من معرفتنا لنزاهته الكبيرة.. الذي يقرر عادة، بشكل دائم ومتوقع، انه تبين بعد الفحص ان الشكوى غير صحيحية!!

تبرئة جاهزة. أليس الأطفال الفلسطينيون مخربين محتملين في المستقبل؟ هل يمكن تصديق المخرب الفلسطيني المقبل وتكذيب الجندي او الشرطي "محرري" الأرض من "مغتصبيها" الفلسطينيين؟!

لمن تقدم شكوى على قسم التحقيقات الذي يبرئ بشكل مطلق تقريباً تصرفات الاحتلال؟

هل يعي الأولاد مضمون اعترافاتهم؟

تقرير الوفد يذكر باستهجان منضبط جدا، فقط لدى البريطانيين يمكن ان يكون الاستهجان منضبطاً جدا او بكل ما يتعلق بالتعامل مع تجاوز إسرائيلي. يذكر حقيقة ان الجهاز العسكري القضائي، لا يسمح لمحامي ان يلتقي مع الأولاد قبل بدء المحاكمة ليمثلهم بشكل معقول وكامل. يذكر التقرير بمرارة منضبطة (هذه ايضا مرارة بريطانية او غربية جاهزة تخصّ إسرائيل فقط) ان لوائح الاتهام المقدمة للمحاكم العسكرية تعتمد على اعترافات الأولاد، واعترافات أولاد على رفاقهم. يشير التقرير ان الجهاز العسكري يدفع الأولاد لاعترافات بالتُّهَم والوصول الى "صفقة ادّعاء" طبعاً بدون وجود محامٍ يمثل الأولاد، أي لا تجري محاكمة حقيقية للأولاد. ومن المؤكد أن الأولاد المرعوبين لا يفقهون ما تخبّئ لهم الصفقة، وربما لا يفهمون هذا التعبير ومحتواه القانوني، وكل ما يهمُّهم هو التخلُّص من الوضع الغريب والمخيف الذي وجدوا أنفسهم بلا وعي داخله بصفتهم مخربين محتملين مستقبلاً. هذه الظاهرة ليست جديدة، بل وردت في عشرات التقارير للجان حقوق الإنسان والطفل إسرائيلية وفلسطينية ودولية ويردّدها دائماً نشطاء فلسطينيون وإسرائيليون، وأوردها المحامون الذين يدافعون عن المعتقلين الفلسطينيين وخاصة عن الأولاد، وقدّموا صورة مذهلة عن المحاكمات التي تصدر أحكاما بالجملة بدون استماع لـ"المخربين الصغار" وبناء على ما تقدمه النيابة العسكرية من "صفقات" جاهزة "توصلت" اليها مع الأولاد، وكأن الأولاد على فهم لمضمون ما يدور حولهم، بغياب أي دور للمحامين لتقديم دفاعهم، اذ يسمح لهم بالظهور في معظم الحالات اثناء المحاكمة فقط، دون ان يتمكنوا من فهم ما يجري مع موكليهم من "المخربين" الصغار. وهناك سيف الاعتقال حتى انتهاء الإجراءات القانونية (وهي صيغة هلامية، تعني بقاء الأولاد في الاعتقال حتى المحاكمة). الحديث يبدو وكأنه عن أشخاص بوعي كامل يتصرفون بناء على فهم وتخطيط، وليس عن أولاد لا يفقهون ما يجري حولهم، ولا يعون معنى لتصرفاتهم حتى في حال قيامهم بالمشاركة بمخالفات مثل قذف الجنود بالحجارة، وهي المخالفات الدارجة مع الأولاد عادة، نتيجة استفزاز يومي يرتكب بحقهم او بحق مجتمعهم وأقاربهم وأبناء وطنهم، يرى فيها الاحتلال "تهديداً لأمنه واحتلاله وجريمة أمنية بالغة الخطورة" والوفد البريطاني التقى مع القضاة العسكريين ومنهم ضباط كبار بدرجات مرتفعة وحملة ألقاب أكاديمية رفيعة جداً ومنها لقب بروفسور مثلاً.

تقرير الوفد القضائي البريطاني يلاحظ أمراً مقلقاً يتوسّع به تقريرهم، حول شكل "محاكمة" الأولاد حيث "يشجع" (ربما الأنسب والأصحّ كلمة "يفرض") الجهاز القضائي العسكري على الأولاد المعتقلين (هل هم بقدرة مواجهة المحققين الإسرائيليين؟) الوصول الى صفقة مع النيابة العسكرية، الأمر الذي يعني عدم إجراء محاكمة حقيقية، في مثل هذه حالة عدم الوصول الى صفقة، يعني انه على النيابة العسكرية ان تُحضِر شهوداً وإثباتاتٍ للتهم التي توجه للأولاد، أيَّ عمل مرهق وشبه مستحيل. وعلى الأغلب لا شهود ولا إثباتات، أي محاكمات "لفلفة" وليس من الصعب إيجاد وصف لهذه المحاكمات في مقالات كتبها المحامين أنفسهم الذين تلخّص كل دورهم بأن يكونوا حضوراً في مسرحية قراقوشية. والأمر المرعب أكثر ان النيابة العسكرية قد تطلّب ايضاً اعتقال الأولاد حتى انتهاء الإجراءات القانونية، وهو أمرٌ تترتّب عليه أضرارٌ نفسية وجسدية هائلة للأولاد، اذ قد يكون الاعتقال حتى انتهاء "الاجراءات القانونية" أكثر امتداداً من العقاب نفسه. هذا الجانب طرح بمئات التقارير المنشورة في الانترنت أيضا.

الوفد البريطاني قدّم 40 توصية للجهاز العسكري الاحتلالي، من أبرزها ان القانون المدني الإسرائيلي يمنع اعتقال أولاد (القصد أولاد من إسرائيل) تحت سن الـ 14 سنة وانه يجب تطبيق هذا القانون على الأولاد الفلسطينيين ايضا.

الفلسطيني مدان حتى يثبت العكس

في تصريحات ل"CNN" قالت عضو وفد المحامين البريطانينن باتريشا سكوتلند، التي شغلت في السابق رئاسة الادعاء العام في بريطانيا، وساهمت في وضع التقرير: "ما فعلناه هو أقرب إلى تقديم تقييم تحليلي قانوني للوضع هناك، لدينا روايات متضاربة حول ما يحصل فعلياً، ولم نقم باستنتاجات حول تلك الروايات، بل لجأنا إلى تحليل نصوص القانون الإسرائيلي، ولذلك نعتبر أن الأدلة التي أشرنا إليها لا تقبل الشك". وأضافت: "استخدمنا القانون الإسرائيلي كنموذج لمعرفة حقوق الطفل الإسرائيلي، وتساءلنا حول السبب الذي يمنع تطبيقها على الطفل الفلسطيني، ونظرنا بالقوانين التي تطبق على الطفل الإسرائيلي، وتلك التي تطبق على الطفل الفلسطيني، ووجدنا أنها مختلفة (مختلفة كلمة في منتهى اللطافة).. وقد سألنا عمّا إذا كان هناك سبباً شرعياً لهذا التباين، فلم تكن هناك إجابة"

الوفد لم يعتمد على تقارير المنظمات الحقوقية الإسرائيلية مثلا، وعلى رأسها منظمة "بتسيلم – مركز المعلومات الإسرائيلي لحقوق الإنسان في الأراضي المحتلة" التي نشرت وفضحت آلاف الممارسات غير القانونية حتى في المفهوم القضائي العسكري الإسرائيلي الممارس ضد الأطفال الفلسطينيين، ووثّقت الكثير من التجاوزات بأفلام مصورة بوقت وقوع الاعتداء على الأطفال او الكبار في الكثير من الحالات.

ولنفحص تقارير منظمات إسرائيلية أخرى.

جاء في تقرير اعدته ونشرته منظمة "يش دين" الحقوقية الإسرائيلية ان المحاكم العسكرية التي يمْثلُ أمامها المعتقلون الفلسطينيون تصدر قرارات بإدانة ما نسبته 99.7% منهم فيما لا تستمر جلسات تمديد الاعتقال حتى نهاية الإجراءات أكثر من دقيقتين فقط، ووصفت الأمر بانه "شيك مفتوح"!!.

وأضاف تقرير "يش دين" ان المحاكم العسكرية والنيابة الإسرائيلية تمتنعان عن ترجمة لوائح الاتهام المقدمة ضدّ الفلسطينيين للغة العربية، فيما مثل أمامها العديد من الأطفال والقُصَّر الفلسطينيين الذين جرت محاكمتهم كبالغين. وقدَّر محققو المنظمة متوسط الوقت الذي تستغرقه محكمة تمديد اعتقال فلسطيني حتى نهاية الإجراءات القانونية بدقيقة و 54 ثانية فقط.

وفسّر المحامي جواد بولس، المتفرّغ تماماً لمهمة الدفاع عن المعتقلين والأسرى الفلسطينيين، ظاهرة نسبة الإدانة المرتفعة بالقول: "إنني أعتقد بان كل فلسطيني يمثل أمام المحاكم الإسرائيلية مدان حتى يثبت عكس ذلك".

 

 

 

شعر المقاومة بين المضمون

السياسي والمضمون الأدبي

نبيل عودة

 

السؤال الذي أشغلني خلال العقود الأخيرة: هل شهرة أدب المقاومة كانت شهرة أدبية في مضمونها، ام شهرة سياسية؟

بصيغة أخرى: هل يمكن اعتبار شعر المقاومة حدث أدبي ام حدث سياسي؟

 ترددت كثيرا قبل ان اتناول هذا الموضوع الذي اشغلني فكريا منذ وقت طويل، لكني امتنعت عن الخوض به من قناعتي أن موقفي لن يكون مقبولا لدى اوساط واسعة من عشاق شعر تلك المرحلة المبكرة التي وصفت بشعر المقاومة وأطلق لقب شعراء المقاومة على الشعراء، وكان الاهتمام من نصيب اربعة شعراء، هم محمود درويش، سميح القاسم، سالم جبران وتوفيق زياد. طبعا لن اخوض بأسباب تجاهل أسماء أخرى، ولكني اود ان أشير ان الشعراء الأربعة المذكورين هم من اعضاء الحزب الشيوعي، ومن العاملين بصحافته، وهي الصحافة السياسية والثقافية الوحيدة تقريبا التي كانت لفترة طويلة مسيطرة على الاعلام داخل المجتمع العربي في اسرائيل، والصحف الأخرى مثلت السلطة او احزابا سلطوية. الى جانب ان الحزب الشيوعي لعب دورا تاريخيا لا يمكن انكاره بمواجهة سياسة التجهيل والحصار الثقافي، والرقابة العسكرية على المنشورات، لذا شكلت صحافة الحزب الشيوعي نافذة هامة وشبه وحيدة على الابداع الثقافي العربي. ولا ابالغ بالقول ان الحزب وصحافته كانوا الجامعة الثقافية والسياسية التي تخرج منها أبرز الأدباء والمناضلين.

 أيضا لا بد من اشارة هامة، ان منابر الحزب الشيوعي ومهرجاناته السياسية، ابرزت الشعراء اعضاء الحزب وابرزهم هم الشعراء الأربعة المذكورين، رغم وجود اسماء أخرى لها تجربة هامة، سابقة ولاحقة، وبعضهم نشطاء بالحزب الشيوعي أيضا. لكن أسمائهم طويت ولم تحظ بالشهرة، رغم ان شعرهم لا  يقل بمضامينه السياسية والوطنية عن الشعراء الأربعة،  شعراء شيوعيين أيضا، مثلا الشاعر والكاتب المخضرم حنا ابراهيم، والشاعر عصام العباسي والشيوعي سابقا الشاعر حنا أبو حنا.. والعديد من الشعراء المبدعين الآخرين.

 طبعا لا انفي القدرات الابداعية للشعراء الأربعة وقدراتهم التعبيرية التي اثارت حماس الجمهور. حيث كانت القصيدة اهم من خطاب سياسي، ودمج الشعر بالمهرجانات السياسية التي نظمها في وقته الحزب الشيوعي.

 لا بد لي الا ان أشير الى ان بعض النقد السلبي الذي يوجه للمرحلة المبكرة من قصائد شعراء المقاومة، هو كون شعرهم أكثر مهرجانية، شعرا منبريا، خطابيا او شعارتيا، ورؤيتي كانت ان نقاد هذا الشعر لم يعيشوا المراحل التاريخية التي فجرت قصائد شعرائنا. ان تبرير هذا الشعر وعظمته، تنجلي بقوتها اذا كشفنا النقاب عن خلفية الأحداث التي فجرت هذا اللون الشعري ولا اعرف شعرا عربيا بمستواه وبقدرته ان يصبح سلاحا قويا بأيدي مليون عربي يعانون من الاضطهاد القومي، يعاملهم العالم العربي (في تلك الفترة) كخونة، او شبه صهاينة، حتى كانت حرب عام 1967 ليكتشف اولا الكاتب الفلسطيني الشهيد غسان كنفاني كنوزنا الشعرية، ويصعق العالم العربي بشعر مقاوم متحد يواجه المخرز بكفه العزلاء بجرأة وقوة ولا يتردد بدفع حريته الشخصية  ومستقبله، ثمنا للدفاع عن وطنه وحقوق شعبه وفضح ممارسات النظام العنصري الابرتهايدي وممارساته الاجرامية ضد اقلية عربية محاصرة ومعزولة عن محيطها، ينظر اليها العالم العربي بعين الشك والازدراء، لكنها تهب بقوة دفاعا عن شرعية وجودها بوطنها وتهز الأرض ضد الممارسات الاجرامية للنظام الصهيوني.

 

اليوم نظرتنا للأدب بدأت تتغير، واقعنا تغير أيضا، التواصل مع الثقافة العربية حطم الحواجز، نظرتي أيضا للأدب تجاوزت حماسة تلك الحقبة التي شكلت مضامين شعر المقاومة. اليوم نظرتنا أصبحت فكرية فلسفية وادبية جمالية ابداعية، لم يعد الشعر المهرجاني المباشر يثير حماستنا، تلك مرحلة هامة، لكنها مرحلة سياسية وليست مرحلة أدبية بمضمونها الأساسي.

 

النماذج كثيرة لذلك الشعر السياسي او المهرجاني. وهذه بعض النماذج:

 

 محمود درويش في "بطاقة هوية" يقول:

 

سجل

 أنا عربي

ورقم بطاقتي خمسون ألف

 وأطفالي ثمانية

 وتاسعهم سيأتي بعد صيف

 فهل تغضب

 سالم جبران في قصيدة “القائمة السوداء” يقول:

 سجل اسمي في القائمة السوداء

 سجل اسم أبي، أمي، إخواني

 سجل .. حتى حيطاني!

 في بيتي لن تلقى إلا شرفاء!!

 سميح القاسم في قصيدة "تقدموا" يقول:

 تقدموا

 تقدموا

 كل سماء فوقكم جهنم

 وكل ارض تحتكم جهنم

تقدموا

 يموت منا الطفل والشيخ

 ولا يستسلم

 

وتسقط الام على ابنائها القتلى

 ولا تستسلم

 تقدموا

 توفيق زياد في قصيدة "شيوعيون" يقول:

 قالوا: شيوعيّون…

 قلتُ: أجلهم

 حمراً بعزمهم الشعوب تُحرّرُ

 قالوا: شيوعيّون

 قلت منيةٌ موقوتةٌ للظالمين تُقدّرُ

 قالوا: شيوعيّون

 قلت: أزاهرُ بأريجها هَذي الدّنيا تتعطّرُ

 قالوا: وهم عملاءُ

قلت: تأمركت لُسُنٌ

 وأضحت للدّولارِ تُؤجّرُ

 

لا أنفي اهمية هذا الشعر في واقعنا بعد النكبة، كان شعرا يمدنا بالإصرار على النضال وتحدي السلطة الغاشمة.

 انما اكرر ان ما اطرحه ليس علاجيا نقديا لتلك الفترة، انما تقييما لا بد منه لتلك القصائد، لا شك لدي بقوة الصياغة وبراعة المعاني الثورية في هذا الشعر. انما أتساءل: هل يمكن اعتبار القيمة الأدبية لقصائد تلك المرحلة تتفوق على القيمة السياسية؟ حقا كانت القصيدة سلاحا تعبويا تثويريا للجماهير، هذا دور يجعلنا نضعها بمرتبة تاريخية هامة نتيجة الدور الذي لعبته في صراعنا السياسي ومواجهتنا لسياسة عنصرية قمعية.

 ما ادعيه ان ما غاب عن الدارسين لقصائد تلك المرحلة، هو تناول الجانب الأدبي، الجمالي والابداعي، لأن النص السياسي المباشر حتى لو صيغ شعريا يبقى خطابا سياسيا. يمكن ان نصفة انه رائع، وشعر مقاوم، كان الشاعر مناضلا ويتعرض للسجن ويواصل التحدي بالكلمة الموزونة الثورية. لا اقلل من قيمة شعر تلك المرحلة وضرورتها، لكن هذا لا يعني ان نتجاهل القيمة الأدبية. وما زلت انا شخصيا ادخل في نوستالجيا (حنين) كلما قرأت قصائد شعراء المقاومة في تلك المرحلة. كانوا شعراء سياسيين وشعر السياسة الذي أبدعوه كان قريبا لنفسيتنا واصرارنا على النضال من اجل حقوقنا.

 

اكرر ان قصائد تلك المرحلة كانت لها جماليتها الخاصة، وتغلغلت بنفوسنا وحفظناها ورددناها في لقاءاتنا، ووصفها بقصائد سياسية لا يقلل من اهميتها التاريخية الثقافية. لذلك التساؤل الذي طرحته في مقدمة مقالي يبقى مفتوحا لآراء القراء والنقاد: هل شهرة أدب المقاومة كانت شهرة أدبية في مضمونها، ام شهرة سياسية؟ وما هي نسبية العلاقة بين السياسي والأدبي؟

 

 nabiloudeh@gmail.com

 

 

 

هل تفقد اللغة العربية

مكانتها في اسرائيل؟

نبيل عودة

 

في جبهة أخرى غير جبهة الصراع القومي الفلسطينية - الاسرائيلية. نجد صراعا لا يقل أهمية خاصة بين المواطنين الفلسطينيين العرب داخل الخط الأخضر في مواجهة سياسة غير معلنة رسميا لإسقاط اللغة العربية من مكانتها القانونية ومكانتها الفعلية كلغة 20% من المواطنين. كثيرا ما سمعنا اوساطا سلطوية وعنصرية تتحدث عن "التهديد الديموغرافي" او "خطر الثنائية القومية " او "ترانسفير العرب في اسرائيل" كما تفوه بصورة واضحة رئيس الحكومة نتنياهو بحديثه عن الاحتجاج على مقتل الشاب من كفركنا ، الى جانب فبركته لشروط تعجيزية في المفاوضات مع الفلسطينيين، مثل الاعتراف ب "يهودية دولة اسرائيل"، جاءت تصريحاته الأخيرة لتكشف ان سياسة ممارسة أفظع أشكال القمع بما في ذلك القتل بدم بارد، لا تتناقض مع نهجه وفكره من رؤيته لعلاقة الدولة مع مواطنيها العرب. قال ان الطريق مفتوحة امام المحتجين والداعين الى اقامة دولة فلسطينية في المناطق الفلسطينية المحتلة ليذهبوا الى السلطة الفلسطينية ولن تضع حكومته عراقيل على انتقالهم.

اود ان أشكر نتنياهو انه "بقانون قوميته"كشف وجهه الحقيقي ومواقفه الحقيقية بدون رتوش واضعا نفسه في أقصى الخارطة السياسية يمينيا في اسرائيل.. هو بحق الأكثر يمينية في اسرائيل.. ويبدو مع امكانية اقتراب اجراء انتخابات جديدة وخوفا من منافسيه اليمينيين ، قرر ان يتخلى عن بقية اتزانه الذي يحاول ان يظهر به اعلاميا، وان يطابق بين تصريحاته وما ينفذه بالواقع على الأرض من سياسة استيطانية ليقنع الجمهور المستوطنين ان بينيت وليبرمان مجرد يمينيان صغيران. طبعا ليس سرا على احد ان حكومة نتنياهو هي حكومة المستوطنين!!

طبعا نسي ان العرب في اسرائيل يشكلون 20% من المواطنين أصحاب البلاد الأصليين والمتأصلين بأرض وطنهم، وانه لا يمثل كرئيس حكومة الا اليمين المتطرف الفاشي الفاقد لأي منطق سياسي او قدرة على اخفاء بشاعة نهجه السياسي والسلطوي. المأساة ان ما يسمى "يسار – مركز" في اسرائيل لا عمود فقري له وينجرف بدون منطق وراء تبرير سياسات اليمين ، بكل ما يتعلق بالصراع الفلسطيني الاسرائيلي.

الجماهير العربية داخل الخط الأخضر تجاوزت ما هو أبشع من سياسة نتنياهو، في ظروف بالغة الصعوبة والخطر على هويتها القومية وثقافتها وما زالت تعاني من سياسات الإضطهاد القومي والتمييز العنصري في كل مجالات حياتها. آمل ان يستيقظ ابناء الشعب اليهودي لما يخططه لهم رئيس حكومتهم من مستقبل اسود ... عدوهم ليس العربي المتظاهر ضد سياسة حكومة منفلته عنصرية .. بل عدوهم الأساسي سياسة تقودهم الى مستقبل غامض لا تبشر الا بجحيم أسود لجميع مواطني الدولة عربا ويهودا!!

حكومة نتنياهو هي حكومة المستوطنات وليست حكومة المواطنين داخل الخط الأخضر!!حتى بوباء الكورونا يتصرف وكانه يتعامل مع قضية سياسية وليس حالة صحية بالغة الخطورة على الجميع. من الواضح ما يهمه انقاذ نفسه من الجلوس في معسياهو!!

مكانة اللغة العربية

المستشرق البروفيسور أمنون كوهين ( من الجامعة العبرية) ، تساءل في مداخلة له اذا كانت " ثنائية اللغة" تختصر الفجوات وتخفي الخلاف بين متكلمي اللغتين ، او انها على العكس ، تشكل اداة لابراز خلاف الرأي .

وطرح سؤال :" هل الثنائية اللغوية تهدد الخصوصية الثقافية للمتحدثين باللغة العربية الذين يعيشون داخل بحر يتحدث بالعبرية في اسرائيل؟ .. وماذا حققت اللغة القديمة – الجديدة ( العبرية) للستة ملايين مواطن يهودي في الدولة الشابة ، للغة ( العربية ) المتأصلة في افواه 250 مليون شخص"؟

في دولة اسرائيل اليوم، اتقان اللغة العبرية هو شرط اولي لنجاح عربي اسرائيلي في جميع المجالات. اللغة العبرية هي لغة العمل والأكاديميا والتجارة والتعامل مع معظم مؤسسات السلطة. معرفة اللغة الانجليزية هي شرط للتقدم الاكاديمي، اليوم بعد الهجرة الروسية الكبيرة أصبحت اللغة الروسية أكثر استعمالا في المؤسسات من اللغة العربية، الروسي يجد من يترجم له، العربي يجب ان يعرف اللغة العبرية. اللغة الام العربية ، لغة الوطن الفلسطيني ، تنحسر الى المكان الثالث او الرابع ، والهامشي في المجتمع الاسرائيلي ومكانتها ضعيفة ايضا في المجتمع العربي نفسه.

المؤرخ الدكتور عادل مناع مدير "المركز لابحاث المجتمع العربي" في معهد فان لير في القدس ، تحدث عن تجربته الاولى كابن للأقلية العربية في الجامعة ، قال انه حتى وصل للاكاديميا ، تعلم وتحدث بالعربيةوان الواقع الذي التقى به في الأكاديميا كان بعيداً عن وعود وثيقة الاستقلال" - ( جاء في ميثاق استقلال دولة اسرائيل :" الدولة تقيم المساواة التامة في الحقوق اجتماعياً وسياسياً بين جميع رعاياها من غير تمييز في الدين والعنصر والجنس وتؤمن حرية الأديان والضمير والكلام والتعليم والثقافة")

اضاف مناع:" ان اتقان اللغة العبرية والنجاح في الدراسة ، ليسوا ضمانة لنجاح العربي في الاكاديميا الاسرائيلية " . وواصل يقول:" حتى اليوم لم يعين أي عربي كمحاضر كبير في قسم الشرق الاوسط او حتى في قسم اللغة العربية في الجامعة العبرية "، أضاف :" ماذا كنتم ستقولون لو انه في قسم تاريخ الشعب اليهودي في برينستون او ييل لا يوجد أي محاضر يهودي؟" .

وقال:" انه يعرف اكثر واكثر اكاديميين عرب ، يفكرون بالعبرية حين يتحدثون بالعربية " وانه كان شاهداً لموقف مخجل عندما حاضر عربي اسرائيلي يعد للدكتوراة امام جمهور عربي ، ولم ينجح بان يلفظ حتى جملة واحدة بالعربية ، دون اصطلاحات عبرية "، رغم ان العريف عاد واكد للمحاضر مرات عدة انه في القاعة مواطنين من المناطق (الفلسطينية ) لا يعرفون العبرية، رغم ذلك معد الدكتوراة لم ينجح ان يخرج الكلمات الصحيحة باللغة العربية واخيراً جمع اوراقه وغادر المنصة " .

ولا بد من الاشارة الى ان سيطرة اللغة العبرية في اوساط الدروز والبدو أعمق كثيرا من سيطرتها على لسان الأوساط العربية الأخرى.

للوهلة الاولى يمكن تفسير ذلك بسبب خدمتهم بالجيش الاسرائيلي ،لكن هذه الحجة واهية تماما. لا بد من دراسة هذه الظاهرة بشكل يأخذ أيضا برامج التعليم، خاصة تعليم اللغة العربية، مستوى هذا التعليم، جاهزية المعلمين وقدراتهم على التعليم.

كنت شخصيا قد شاركت، قبل سنوات قليلة، بيوم اللغة العربية في مدرسة ابتدائية في الناصرة (عاصمة الجماهير العربية كما تسمى ولكن يبدو ان اللغة العربية ليست ضمن صلاحية هذه العاصمة؟)، وقع من نصيبي الصف السادس، توقعت من الطلاب مستوى معرفة فوق المتوسط ، حين كنت في جيلهم قرأت نجيب محفوظ، احسان عبد القدوس، توفيق الحكيم، محمد عبد الحليم عبدالله، جبران خليل جبران، ميخائيل نعيمة، مارون عبود وغيره من أهم ممثلي الثقافة العربية ، كذلك قرأت الكثير من الأدب السوفييي المترجم وعشرات روايات الهلال المترجمة وصحف ومجلات ثقافية وسياسية عربية. فوجئت ان طلاب الصف السادس لا يلمون حتى بقراءة نص واحد بشكل صحيح ( مثلا قصة للصغار)، فهمهم للمقروء يعاني من التباسات حادة، تبين لي انه عدا وظائفهم المدرسية لا يقرأون شيئا، بعضهم كشف ان مكتبة المدرسة مغلقة. المعلم المتواجد في الصف أصر انها مفتوحة دائما للطلاب، الطلاب تكلموا باندفاع وحماس ان المكتبة لم تفتح ابوابها منذ منتصف السنة الدراسية الماضية . بالطبع المكتبة المدرسية ليست هي الحل للمشكلة، البيت أيضا يفتقر لمضامين هامة في التربية. بيت بلا مكتبة ليس بيتا لأبناء البشر. هذا الجيل سيكون أسوأ من آبائه، نحن ممارسي الكتابة نعيش هذه المأساة، أحيانا تجعلنا نفقد كل توهج للدخول في ابداع جديد، النشر يكلف ولا يوجد مردود لتجديد قدرتنا على نشر اعمال جديدة ، فلمن نكتب؟

كذلك لا يمكن تجاهل ظاهرة الفضائيات العربية التي تضاعف الجهل والغيبية ببرامجها، شبكة الانترنت أيضا تستعمل في اتجاهات غير تربوية وغير تعليمية بغياب التوجيه الصحيح وأحيانا غياب الرقابة من الأهل لأن بعضهم لا يعرف استعمال الحاسوب وبعضهم يتوهم ان ابنهم مجتهد في دراسته والحاسوب عالم يزيد من معارفه. من المؤكد ان ضعف برامج التعليم والحالة المزرية للعديد من المدارس هي من العوامل الحاسمة في تضعضع مكانة لغتنا العربية. لا انفي وجود سياسة تمارس بصمت. لذا أجد نفسي مضطرا هنا للمصارحة.

حررت خلال سنتين مجلة للطلاب الابتدائيين، كان يشارك بكتابة موادها الأساسية الطلاب انفسهم . عبر المواد التي كانت تصلني للمجلة انكشف بسهولة أمامي واقع التعليم ومستواه. تبين لي ان المدارس الأهلية، مدارس الارساليات المسيحية في الناصرة والى حد ما حيفا، هي الأفضل والأرفع في مستوى التعليم والطلاب. بشكل عام مستوى المدارس الحكومية في الناصرة مقبول نسبيا.. كذلك الوضع في مدارس بعض قرى وبلدات عربية في الجليل والمثلث مثل كفرياسيف والرامة وام الفحم وباقة الغربية وغيرها مع تفاوت كبير في مدارس نفس البلدة، بعضها ما دون المتوسط وما دون الحد الأدنى المطلوب لمدارس ابتدائية .. طبعا هناك تفاوت بين الطلاب أنفسهم .. نجد طلابا بمستوى عشر نقاط حتى في مدارس متدنية بمستواها بشكل عام، بنفس الصفوف نجد طلابا لا يتعدون النقاط الخمسة الأولى..وأميل هنا لرؤية تأثير البيت وأهميته في تطوير قدرة الطالب. هذا ينسحب على المواد العلمية وعلى اللغة العربية وتأصلها في ذاكرة الطلاب ولسانهم. اكتشفت ان بعض المدارس جعلت موضوع المطالعة العامة نهجا مكملا للتعليم، بالفعل كان طلابها الأبرع في الكتابة والتعبير اللغوي والابداع الأدبي وأيضا الابداع العلمي في كافة المواضيع. بعض المدارس خاضت تجارب فريدة من نوعها، اذ أدخلت موضوع الموسيقى الكلاسيكية مع معلمين مستقلين ومنهم المهاجرين الروس الجدد الذي وصلوا الى اسرائيل ويتمتعون بمستويات موسيقية راقية جدا واسلوب تعليمي ممتاز، كان من الممتع ان تسمع الطلاب في الصفوف الابتدائية المتقدمة يشرحون قطعا موسيقية لكبار الملحنين الكلاسيكيين، قاد هذا البرنامج الى اكتشاف عشرات الموهوبين موسيقيا، بعضهم اليوم من الأسماء التي تنطلق الى آفاق حدودها السماء، أيضا من لم يختر الموسيقى حقق تقدما في سائر المواد التعليمية، لم تشكل الموسيقى عبئا جديدا على التعليم، بل نافذة ثقافية حضارية وسعت عالم الطلاب ومداركهم وقدراتهم على التعبير والكتابة والتقدم العلمي والانفتاح على ثقافتهم والثقافات العالمية.

أسرلة اللغة؟

بعض الكلمات العربية دخلت العبرية بلفظ مشوه لدرجة ان العرب باتوا يستعملون اللفظ المشوه في حديثهم باللغة العربية بدل ان يحافظوا على اللفظ الصحيح.. اوساطا عربية واسعة خاصة العمال العرب يستعملون في حياتهم العملية اللغة العبرية فقط وهذا الوضع بدأ يترك ترسبات اجتماعية بخلط تعابير عبرية مع اللغة العربية داخل المنازل وفي الشارع وفي مختلف العلاقات العامة في مجتمعنا العربي. المجتمعات التي فرض التجنيد عليها او نشاهد حركة تطوع واسعة بين أفرادها نجد سيطرة أوسع للغة العبرية في العلاقات اليومية، لدرجة تبدو العبرية لغة ام . حتى لو تحدثت مع احدهم بالعربية يرد عليك بالعبرية او بكلمات مختلطة من اللغتين..

حتى اللافتات الكبرى في البلدات العربية نجد ان بعضها يخلوا من اللغة العربية.

هل هزمت اللغة العبرية اللغة العربية في اسرائيل؟

بالطبع لست في باب اعطاء الجواب الحاسم..انما أطرح جوانب مختلفة من هذه الاشكالية المرعبة بكل المقاييس. لا بد من التنويه ان هذا يترك آثاره السلبية على الأجيال الناشئة.

انا مثلا اكتسبت ثقافتي العربية بجهدي الذاتي، بتشجيع ودفع من والدتي بالأساس، حتى اتقنت القراءة وعشقتها وانا في الصف الثالث ابتدائي، لكني واصلت دراستي الثانوية بمدرسة عبرية/ عربية، زملائي العرب بنفس الصف غير قادرين اليوم على صياغة رسالة بعشرة اسطر بلغة عربية غير مكسرة وبجمل واضحة مكتملة .

حقا لا أعرف غير القليل جدا من القواعد العربية او قواعد النحو والاعراب، قدراتي اللغوية الصياغية لا لبس فيها، معظم ما أنشره لا يمر على مصحح لغوي، لذلك أواجه أحيانا بانتقادات حول أخطاء يقع فيها من هم أكثر معرفة مني بقواعد اللغة.. أعرف ان لغتي جيدة، ورغم ان عملي كان يفرض علي استعمال اللغة العبرية لأكثر من 10 ساعات يوميا الا اني عندما اتحدث بالعربية لا استعمل أي تعبير عبري اطلاقا. وهذا بدأ كنوع من التثقيف السياسي والفكري. أحترم اللغة العبرية واستعملها بطلاقة، كتابة وقراءة وحديثا. لكن لي لغتي التي تشكل شخصيتي القومية أيضا. انسان بلا لغة قومية هو كيان يفتقر للهوية الوطنية والانسانية. من هنا رؤيتي ان محاولات افقار اللغة العربية واسقاط شرعيتها، وافقار مكانتها في مجتمعنا الهدف منه هويتنا القومية بالأساس.

في دراسة فريدة من نوعها ، للمحاضر في قسم اللغة العربية في جامعة تل أبيب بروفسور سليمان جبران، حملت عنوان " على هامش التجديد والتقييد في اللغة العربية المعاصرة" طرح العوامل المؤثرة سلبا وايجابا .

يطرح سليمان جبران تساؤل زميل مترجم مواد تعليمية من العبرية الى العربية ، يسأل :" كيف تطورت اللغة العبرية، في مدة قصيرة نسبيا ، من "لغة ميتة" الى لغة عصرية تماما، بينما تعرج لغتنا وراء الحضارة المعاصرة بصعوبة؟"

ويضيف الزميل :"أترجم من الإنكليزية الى العبرية أجد عشرات بل مئات من المصطلحات الحديثة وجدوا لها البديل العبري حتى شاع على الألسن ، بينما يصعب وأحيانا يتعذر علي ايجاد البديل العربي المناسب رغم استعانتي بكل القواميس المتاحة ".

يكتب الدكتور جبران :" الواقع ان العبرية تعاني أيضا كثيرا في لحاقها بالثورة الفكرية والتكنولوجية المعاصرة، غالبا ما يدور الجدل هناك أيضا بين المجددين والمحافظين، بين من يتبنى المصطلح الأجنبي بعلاته ومن يحافظ على العبرية و"نقائها" دون هوادة .... علينا الاعتراف ان العبرية تطورت فعلا أكثر من العربية في المئة سنة الأخيرة .... الدليل على ذلك ان الترجمة من اللغات الأجنبية، الانجليزية مثلا الى العبرية ، أسهل بكثير من الترجمة الى العربية، سواء من حيث المصطلحات أو مباني الجمل أيضا".

يستنتج :" السبب الأول في رأينا ، وليس الأهم بالضرورة ، ان العبرية أكثر طواعية من العربية، فالعبرية " تخلصت " منذ عهد بعيد من حركة الآخر وعلامات الاعراب الأخرى ، كما حدث في لغتنا المحكية. علاماتى الاعراب ، كما لا يخفى على كل مهتم باللغة العربية، عبء على الكاتب والقارئ والمترجم. ثم ان نحو العبرية الحديثة سهل طيع، تكاد تصوغ الجملة فيه كما ترغب، دونما خوف من الوقوع في "الممنوع " أو غير المألوف على الأقل".

ويقول: "ان نحو لغتنا الفصيحة بقي صارما ، تحكمه القواعد التي وضعها سيبويه وأقرانه منذ مئات السنين، فيما عدا تغييرات طفيفة أملتها الحياة المعاصرة، ويعتبرها " الغيورون" خروجا على اللغة طبعا".

ويواصل د. جبران: " السبب الثاني ، وهو الأهم في نظرنا ، هو سبب انساني ، فالقائمون على اللغة ، والفكر عامة في اسرائيل ، يتصلون بالغرب واللغات والثقافات الأجنبية اتصالا مباشرا، ونقل الحضارة الغربية من تكنلوجيا وثقافات وآداب ، يكاد يتزامن مع نشوء هذه الحضارة في مجتمعاتها الأصلية هناك" .

يقارن ذلك مع وضع اللغة العربية المختلف .:" عالم مترامي الأطراف . اذاعات وفضائيات وصحف لا تعد ولا تحصى، مجامع لغوية بدل مجمع واحد مشترك وصوتها لا يكاد يسمع" . يستنتج ان اللغة العربية لا تتطور بمساعدة المؤسسات والهيئات ، بل يمكن القول انها تتطور رغم المؤسسات ورغم "اللغويين" الذين يعترضون على كل تجديد في المعجم أو النحو كانما التجديد عمل منكر".

اذا كانت هذه هي حال اللغة العربية في موطنها ، فماذا تنتظرون ممن واجه سياسة تجهيل مريعة في السنوات الاولى للدولة يوم كان يفصل كل معلم وطني أو لا يتماثل مع السلطة ولا يلتزم بما اعدوا له من مواد التدريس؟

كان النشاط الثقافي الحزبي (الشيوعي في وقته) واسعا ومربيا ومعوضا على نقص وشح المصادر الأدبية العربية، جعل من الثقافة الوطنية مهمة سياسية اجتماعية حضارية لها اولوية عظمى، فأصدر أفضل مجلة ثقافية عربية، مجلة " الجديد " - من أبرز محرريها المؤرخ والناقد والقائد الشيوعي اميل توما ، الباحث والمفكر جبرا نقولا ،الشاعر والكاتب عيسى لوباني الشاعر محمود درويش ، الشاعر والمفكر سالم جبران، الشاعر سميح القاسم وباقة كبيرة من الأدباء والمفكرين البارزين من العرب في اسرائيل، كذلك كانت صحيفة "الاتحاد" (الشيوعية أيضا)منبرا ومدرسة ثقافية أدبية سياسية فكرية نقدية. كانت منظمة الشبيبة الشيوعية مدرسة نضالية وتعليمية للغة العربية والثقافة والفكر والمجتمع للشباب الطلائعيين.

ان مساحة اللغة العربية في حياتنا داخل اسرائيل لا تتعدى 20% من ساعات يومنا ، وعلى الأقل 50% من وقتنا نفكر ونتحدث بالعبرية مع بعض الخلط لكلمات عربية . هذا عدا اعتمادنا على الأخبار والتقارير الاخبارية الراقية والمثيرة بالعبرية ، حيث النقد وعدم الصمت على تجاوزات المسؤولين الرسميين او غير الرسميين ولا أظن ان ذلك له مثيلا حتى في الغرب الدمقراطي.

السؤال الرهيب أكثر: هل حال اللغة العربية في مواطنها العربية أفضل من حال اللغة العربية في اسرائيل ؟

كم من المواطنين العرب ملمين بلغة عربية سليمة؟

ما هي نسبة المواطنين العرب الذين يعرفون لغة الصحافة ( اللغة العربية الفصحى السهلة ) ويفهونها ؟

عندما يكون 80% من سكان العالم العربي فقراء أو تحت خط الفقر فهل يحتاجون الى تعلم لغة ما عربية أو غيرها؟

عندما تصل نسبة الأمية في القرن الحادي والعشرين ، قرن الحضارات المنطلقة للفضاء الكوني بكل اتساعه الى 60% في العالم العربي (النسبة أعظم بين النساء ) ، فأي قيمة تبقى للغة ، حتى بالنسبة لمن يفكون الحرف ويحسبون مع غير الأميين ..؟

وماذا نسمي اكاديميين لا شيء يربطهم بلغتهم وثقافتهم ؟

حالة العرب في اسرائيل ، حيث نسبة الأمية تكاد تقترب من الصفر، ونسبة التعليم الجامعي مرتفعة ، الا ان لغتهم لا تشكل تحديا حضاريا للغة العبرية ، للأسباب التي ذكرتها. ما زلنا نبحث عن المصادر الممتازة بالعبرية، ليس فقط لعدم وجودها بالعربية، انما لأن العبرية أكثر دقة في الترجمة وسهولة الفهم، وكنت قد كتبت سابقا عن حالة واجهتني مع كتاب الاستشراق لادوارد سعيد ، ترجمه بروفسور عربي للغة العربية ، لم انجح بفهم طروحات سعيد ولغة الكتاب العربية المعقدة، فقرأته بالعبرية بلغة سهلة وواضحة . الى جانب حقيقة ان أجمل ابداعات الأدب والفكر والأبحاث والعلوم تصدر بالعبرية فورا بعد ظهورها في اللغات الأجنبية . واذا صدرت متأخرة باللغة العربية ، فهي كثيرا ما تكون بلغة متعبة للقراءة.

ان تطوير اللغة العربية يتعلق بتغيير الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي للعالم العربي، نحو نهضة اقتصادية اجتماعية علمية و ثقافية ولغوية. في واقعنا المحلي نواجه يوميا تحديات خطر اضعاف العربية وتقليص دورها في حياتنا مما يعني تشويه لهويتنا القومية. وهذا ما يجب ان نعيد حساباتنا لمواجهته.

nabiloudeh@gmail.com

 

 

وداعا للشاعر الكاتب

والمناضل حنا إبراهيم

نبيل عودة

 

احد الوجوه الأدبية والنضالية البارزة في تاريخ شعبنا الفلسطيني

تلقينا يوم الخميس (15/10/2020) نبا وفاة الشاعر، ابن قرية البعنة، ورئيس مجلسها المحلي سابقا، حنا إبراهيم عن عمر ناهز 93 عاما قضاها منضالا من اجل حقوق شعبه، ولم يرعبه السجن والملاحقة البوليسية في احلك سنوات مرت على الجماهير العربية بعد النكبة.

عرفت حنا إبراهيم من نشاطه الإبداعي والإعلامي والشعري عبر صحافة الحزب الشيوعي ومن مهرجانات الشعر، التي كانت تعقد في بلداتنا، ومن مشاركته النضالية بكل النشاطات الشعبية، وكان من حسن حظي ان تعرفت عليه شخصيا عبر عمله في صحيفة الأهالي التي صدرت في سخنين بين 2000 - 2005، وكنت نائبا لرئيس التحرير المرحوم سالم جبران، وجاء وقتها حنا إبراهيم ليساعدنا في التحرير والتصليح اللغوي، وعرفت به الانسان المخلص وقوي الشكيمة، لكني عشت حزنه أيضا، اذ كان حزبه الشيوعي قد فصله من عضوية الحزب، عام 1989 بفصله، بدون أي تفسير رسمي، وكان يطالب دائما من رفاقه ان  يبرروا سبب فصله ويجرون له محاكمة حزبية، وهو الشيوعي المناضل الذي وقف دائما في الصفوف الأولى بكل معارك شعبنا، ولم ترهبه هراوات الشرطة ولا الإقامة الجبرية ولا السجن. ورغم الفصل الأحمق لشيوعي عريق انضم للحزب منذ عام 1948، وكان رئيسا للسلطة المحلية في البعنة عبر قائمة الحزب الشيوعي. وما زلت اذكر إصراره وهو يعمل معنا في صحيفة الأهالي، بانه ماركسي رغم انف الذي فصلوه. ودافع بقوة عن النظرية الماركسية وان الخطأ في فهمها وتطبيقها وله جملة شهيرة كان يكررها: " أنا آخر الشيوعيين الماركسيين الصادقين".

خلال النكبة ومع انسحاب جيش الانقاذ، وزع حنا إبراهيم مع رفاقه الشيوعيين منشورا، هو صاغ نصه، يدعو اهل بلده والبلدات المجاورة بعدم ترك منازلهم وقراهم، والصمود مهما كانت الظروف والمخاطر.

اصدر خلال حياته العديد من الأعمال الشعرية والقصصية والروائية والمذكرات التي تنقل واقع الجماهير العربية.

ولا بد هنا ان اشير الى كتاب هام جدا ومميز جدا، كتاب "ذكريات شاب لم يتغرب" وهو كتاب مذكرات ، سأقتبص منه لوحة هامة تعبر عن شخصية الراحل ودوره النضالي. وبالأخص مذكراته التي سجلت مرحلة هامة من تاريخ النضال السياسي للعرب في إسرائيل والتي تعرف  ب "معارك الهويات".

معارك الهويات، كانت نضالا بطوليا خاضها رفاق الحزب الشيوعي والجماهير العربية والمحامي حنا نقارة الذي أطلق علية الناس لقب "محامي الشعب". هي قصة لا بد ان تسجل كرواية في يوم من الأيام، كان ابناء شعبنا بعد النكبة ينشدون الأهازيج الوطنية لحنا نقارة وحزبه الشيوعي فرحا بتحصيله للهويات الزرقاء عبر المحاكم الأمر الذي كان يعني البقاء في الوطن وعدم اعتبار الفلسطيني "متسللا" (أصحاب الهويات الحمراء) يجب قذفه وراء الحدود، وتحديا أيضا للحكم العسكري الذي فرض على العرب الفلسطينيين الباقين في وطنهم. وهذه نماذج من الأهازيج الوطنية التي اشتهرت في تلك الفترة واعتقد انها من يراع حنا ابراهيم:

طارت طيارة من فوق اللية الله ينصركو يا شيوعية (اللية: اسم مكان في الجليل)

حنا نقارة جاب الهوية غصبا عن رقبة ابن غريونا (اول رئيس لحكومة اسرائيل):

ويكتب حنا إبراهيم شارحا: كانت تمنح هويات حمراء لمن يعتبروا " ضيوفا " بالتعبير الاسرائيلي، أي المرشحين للطرد من الوطن. أما غير الضيوف فكانوا يحصلون على هوية زرقاء. ويذكر حنا ابراهيم أغاني التحدي التي كانت تنشد في حلقات الدبكة، ومنها:

يا أبو خضر يللا ودينا الزرقات والحمرا ع صرامينا (ابو خضر: اسم شرطي ترك ذكريات سوداء بعنفه - "الزرقات والحمرا" اشارة الى الهويات)

هذا وطنا وع ترابه ربينا ومن كل الحكومة ماني مهموما

يقطع نصيب ال قطع نصيبي لو انه حاكم في تل أبيب

توفيق الطوبي واميل حبيبي والحزب الشيوعي بهزو الكونا

ويتلقف الشبان الكرة ويعلو نشيد المحوربه:

لو هبطت سابع سما عن حقنا ما ننزل

لو هبطت سابع سما عن أرضنا ما نرحل

حنا ابراهيم ليس اديبا آخر في ثقافتنا، انما هو الأديب الذي أرسي بمشاركة روادنا الثقافيين، جذور أدبنا، وصيغنا النضالية، وتمسكنا بأرض الآباء والأجداد، عبر تحد سياسي بطولي نادر في تاريخ الشعوب.

المعركة العملاقة التي خاضها جيل حنا ابراهيم جعلت منا شعبا متراص الصفوف، جريئا في النضال ومقاومة الاضطهاد القومي وارهابه، في أكثر الظروف سوادا بتاريخنا، بعد نكبة شعبنا الفلسطيني.

جيل حنا ابراهيم قاوم سياسة التجهيل بلغتنا وتراثنا وأرسى نهجا ثقافيا نضاليا كان الفاتحة والقاعدة الصلبة لتطور أدبنا ووصوله الى ان يصبح أحد ابرز ممثليه، محمود درويش .. أهم شاعر عربي معاصر .. الى جانب ادباء وزملاء اسسوا لنهج ثقافي نضالي صار نموذجا ومثالا ثقافيا وسياسيا للشعوب.

حنا ابراهيم ليس أديبا فقط، وليس مناضلا سياسيا فقط، انما هو سجل شامل لتاريخ شعب، وتاريخ نضال، وتاريخ ثقافة .. ومن المؤسف ان هذا السجل يبقى "داخل الحصار" غائبا عن الأجيال الجديدة .

بظل أبطال مثل حنا ابراهيم نشأ جيلنا وتثقف سياسيا على رعد قصائد حنا ابراهيم وزملائه الطلائعيين، في مهرجاناتنا السياسية والشعرية ارتبطنا بثقافتنا وبدأنا خطواتنا الأولى كأدباء امامنا أفضل نموذج يمكن أن يحلم عليه الأدباء الناشئين. وحقا أثبت هذا النموذج أهليته وأهميته ومضمونه التربوي والثقافي والسياسي.

وهنا لا بد ان اذكر حادثة من عام 1958، يومها حاولت حكومة إسرائيل منع مظاهرة اول أيار في الناصرة، فهبت الناصرة متحدية وكان اكبر صدام بتاريخ الأقلية العربية بين المواطنين والشرطة، استمر الصدام من ساعات الصباح وحتى ساعات المساء المتأخرة، وجرى اعتقال ما يقار 400 شخص من الناصرة والقرى العربية التي تسلل رجالها الى مدينة الناصرة للمساهمة بالمعركة من اجل حق شعبنا بالتظاهر وخاصة في يوم اول أيار.

لا اعرف اذا اعتقل حنا إبراهيم لكنه وصل الناصرة بعد ان أوقفت الشرطة وسائل النقل التي جاؤوا بها من قراهم، فتسللوا لمدينة الناصرة واشتركوا بالصدام ويمكن القول انها اول معركة تواجه بها شرطة إسرائيل حجارة المتظاهرين، واذكر ان بلاط الشوارع التركي كان الشباب يقتلعونه ليقذف على الشرطة، فاضطرت البلدية فيما بعد لتزفييت الشوارع بدل البلاط الذي اصبح سلاحا بايدي المتظاهرين. في ذلك اليوم انشد المتظاهرون مقاطع ارتجلها حنا ابراهيم اذكر منها مقطعا واحدا:

الناصرة ركن الجليل   فيها البوليس مدحدل.

رحم الله الشاعر، الأديب والمناضل حنا ابراهيم وستبقى ذكراه عطرة دائما وابدا بتاريخ شعبه ونضاله.

nabiloudeh@gmail.com

 يوميات نصراوي:

سالم جبران – اديب،

اعلامي ومفكر طليعي

نبيل عودة

توجد بين اوراقي عشرات التسجيلات عن نشاطي الإعلامي والفكري مع الشاعر والمفكر والإعلامي سالم جبران. عمليا أستطيع ان أقول إني منذ بداية عام 1962، ارتبطت نشاطا وفكريا واعلاميا بسالم جبران. كنت وقتها في الصف التاسع، نشرت قبل ذلك قصة قصيرة في مجلة الجديد، وكنت أصغر الكتاب المحليين الذين تنشر لهم مجلة الجديد الثقافية قصة قصيرة في ذلك الوقت.

بداية تعرفي على سالم كانت حين قدت نضالا طلابيا في المدرسة الثانوية المهنية "اورط عمال"، اذ كمدرسة عربية لشبكة يهودية، لم يجر تجهيز المدرسة بماكينات لأشغال الحدادة الفنية. كان سالم محررا لمجلة الغد الشبابية الشيوعية، حضر لمدرستنا ليكتب عن الاضراب، تعرفت عليه وعرفني من قصتي ودعاني للتواصل معه في مجلة الغد، ثم جندت عددا من الزملاء للقاء اسبوعي في نادي الشبيبة الشيوعية في الناصرة، حيث قدم لنا سلسلة محاضرات تثقيفية وفكرية أثرتنا واثرت على خياراتنا السياسية فيما بعد.

بدأت، بناء على طلبه، احضر الاجتماع الشهري لهيئة تحرير مجلة الغد ومقرها في حيفا، وكلفت بعدة مهام سهلة، مثل الكتابة عن النشاطات المسرحية والغنائية والندوات المختلفة التي كانت تعقد في الناصرة (اليوم تلاشت تقريبا) وعن بعض الكتب التي صدرت وقتها، أي أدخلني لعالم النقد، الأمر الذي ترك أثره على تطوري الثقافي والإعلامي والصياغي اللغوي، حيث أنى اكتب حتى اليوم دون المام جيد بقواعد اللغة العربية. نشاطي تحت اشرافه بمجلة الغد أثرى قدراتي التعبيرية واللغوية، الى جانب استيعابي لمفاهيم فكرية وثقافية جديدة، بعد فترة من نشاطي الصحفي، كلفت بكتابة تقارير صحفية عن واقع المجتمع العربي، هدم المنازل، مصادرة الأرض، اضرابات ومشاكل طلابية تعليمية مختلفة، الى جانب مواد أدبية نشرت بعضها في الغد.

سالم ليس مجرد كاتب آخر، انما سياسي مجرب تمرس في أعظم مدرسة سياسية عرفها العرب في اسرائيل، والتي تخرج منها أبرز المثقفين والأدباء والصحفيين والمناضلين، ومنهم اولئك الذين يغنون اليوم بصوت نشاز موالاتهم القومية او النضالية المدعية والتي وجه لها سالم صفعة مدوية في مقالاته المختلفة، طبعا نشأ سالم في مدرسة الحزب الشيوعي وصحافته السياسية والثقافية والفكرية، وقد تلاشت هذه الصحافة (بقيت صحيفة الحزب اليومية "الاتحاد") وضعف الحزب والتنظيم الشيوعي. بدأت مرحلة اضمحلال الحزب وسيطرة الشيخوخة الفكرية والثقافية على كوادره القيادية ونهجه وتنظيمه. وكان استبعاد سالم عن رئاسة قائمة الجبهة/ الحزب الشيوعي، للكنيست هي المفصل الحاسم ببدء اضمحلال مكانة الحزب الشيوعي وجبهته.

عملت معه في مجلة الغد لمدة ثلاث سنوات، أي فترة كوني طالبا ثانويا، ثم واصلت دراستي لهندسة الميكانيكيات لسنتين قبل ان يوفدني الحزب الشيوعي لدراسة الفلسفة والاقتصاد السياسي والعلوم الاجتماعية في موسكو. بعد دراستي عملت محترفا حزبيا حتى استقلت لأسباب لا مجال لأوردها هنا، ودخلت سوق العمل بالصناعات الثقيلة كمدير عمل وفيما بعد مديرا للإنتاج، رغم أنى كنت أتوقع اختياري للعمل الإعلامي بعد انتصار الجبهة في انتخابات بلدية الناصرة. لكن يبدو ان ما ناضلنا لإسقاطه سياسيا واداريا من فساد، استبدلناه بما هو أشد فسادا وانتهازية، مما دفعني لسوق العمل بالصناعة وليس بالإعلام او الحصول على وظيفة او التعليم. طبعا خلفيتي الهندسية كانت أكبر مساعد لي للتقدم المهني والإداري.

عام 2000 أقيمت صحيفة جديدة هي صحيفة "الأهالي" (لصاحبها علي دغيم من سخنين)، وكنت بتلك الفترة مصابا بحادثة عمل. دعاني سالم للانضمام اليه في تحرير صحيفة "الاهالي" التي صدرت أسبوعيا ثم نصف اسبوعية، ثم ثلاث مرات في الأسبوع. وقد أصر سالم على صاحب الجريدة ان يقع الخيار على شخصيا وليس على صحفيين لهم اسمهم وتجربتهم في الصحافة المحلية، وليس مدير عمل في الصناعات المعدنية كما كنت اعرف وقتها.

عملي مع سالم في الأهالي، وانا كاتب متمرس وورائي مئات النصوص الأدبية والنقدية والسياسية، ككاتب مستقل، كشف امامي قدرات سالم ومواهبه النادرة، وأفخر بالقول أنى تخرجت من جامعة سالم جبران الصحفية والفكرية، ولا اظن انه توجد جامعة في مستوى جامعتي. حقا حملت القلم منذ كنت في الخامسة عشرة من عمري، عندما نشرت قصتي الاولى، الا انني لا أستطيع القول أنى اصبحت صحفيا، وصاحب رأي مستقل، الا بعد عملي مع سالم في تحرير " الاهالي " التي حولناها، الى منبر مميز، والى تجربة صحفية لا سابق لها في الصحافة العربية في اسرائيل على الأقل، اثارت قلق كل الفلق الحزبية من قومية وشيوعية واسلامية، فاتحدوا في الضغط على صاحب الجريدة لإبعادنا عن " الأهالي" او اغلاقها.

كان يفرحنا عندما يتصل معنا رفاقنا الشيوعيين الكبار في السن، ليقولوا لنا انهم يقرأون الاهالي لمعرفة الموقف الشيوعي الصحيح. وكانت تلك أحسن شهادة لصحة فكرنا ومواقفنا، وأعظم اجر يعوضنا عن معاش الفقر الذي قبلنا به على مضض في سبيل بناء منبر فكري متنور وغير مهادن للعفن الفكري والسياسي. وربما يتفاجأ البعض إذا قلت ان عدد الصحفيين العاملين في "الاهالي " لم يتجاوز الأثنان، سالم جبران ونبيل عودة.

سالم جبران يذكرني بالمفكر الشيوعي الايطالي الرائع " غرامشي "، وقد حثني على قراءة كتاباته، التي طرح فيها رؤياه الفكرية الماركسية المبدعة، بدون اجترار دوغماتي للمقولات، كعناصر دينية غير قابلة للتحسين والاضافات. وعالج بجرأة ورؤية حديثة في وقته، للعديد من القضايا الملحة للمجتمع الايطالي، وللمسائل الفكرية العامة للماركسية. وقدم نموذجا للمفكر الماركسي المنفتح على مجمل الحركة الفكرية بلا تزمت ماركسي -ديني. وللأسف الشديد، عنما اعود الى غرامشي وكتابات ما يعرف بالتيار الماركسي الغربي أجدهم أرقي بمراحل هائلة عن الفكر والمناهج الشيوعية التي ما زال البعض يرددها كالببغاوات منذ مطلع القرن العشرين. وما زالت معظم الاحزاب الشيوعية الشرقية تسجن نفسها داخل غرف مغلقة بإحكام، خوفا من "الانحراف" عن التوراة "الماركسية – اللينينية -الستالينية". واكاد اكون واثقا مما اقوله، بأن الكثيرين من القيادات التي تحسن الضجيج، هم اشباه اميين ماركسيا، والمامهم لا يتعدى بعض المفاهيم السياسية والشعارات التي عفى عنها الزمن.

الماركسية الغربية تشكلت من مجموعة مفكرين ماركسيين رفضوا فكر السيادة المطلقة للدولة السوفييتية، وانطلقوا بنضال عنيد من أجل “ماركسية صحيحة” ثورية إنسانية جوهرية، ضد كل التشويهات التي شهدتها الماركسية في الشرق والغرب. وبرز خلال سنوات العديد من المفكرين الماركسيين، أمثال جيورغ لوكاتش (هنغاري) وكارل كورش (ألماني) وانطونيو غرامشي (ايطالي) وارنست بلوخ ( ألماني) وروجي غاروديه (فرنسي) وغيرهم.

رأيت من واجبي ان الفت النظر لهذا المفكر الطليعي البارز، سالم جبران، لما شكله فكره من رؤية عقلانية متزنة، ومن تجربة حياتية فكرية وسياسية نادرة، انعكست في كتاباته ونشاطه الفكري والسياسي المتشعب في الوسطين العربي واليهودي.

الى جانب نشاطاته الإعلامية كان الشعر معشوقة سالم الأولى. وسالم شاعر مبدع، وكان ضمن شعراء المقاومة الذين أشار إليهم الشهيد غسان كنفاني.

اريد ان اكشف انه بعد انقطاع قسري عن الابداع الشعري، تحت عبء المسؤوليات السياسية والتثقيفية والصحفية التي قام بها وهو في الحزب الشيوعي، عاد الى الابداع الشعري اثناء نشاطه كمحرر لصحيفة الأهالي، وانا شخصيا مارست الضغط عليه ليبدأ بنشر جديده الشعري، كنت ارجوه ان يبدأ بنشر قصائده، نشرت له قصيدتين، احداها رثائه لمحمود درويش والتي كتبها أصلا باسم سعيد الحيفاوي. والثانية بعد انسحابه من الحزب الشيوعي على أثر الانقلاب ضده، وموقف قيادة الحزب المتخاذل، الذي كان بداية تفكك وضعف التنظيم فكريا وسياسيا. سمى تلك القصيدة باسم "عاشق النهر".

كنت اتمنى ان أقرأ قصائده منشورة على المواقع الى جانب كتاباته السياسية والفكرية …

للأسف كتاباته الشعرية التي كتبها اثناء تحريره للأهالي مفقودة حتى اليوم، وخاصة ديون غزلي قراته، وقرأ مقاطع منه امام عدد من الأصدقاء بجلسة خاصة، لكنه رفض ان ينشر قصائد منه وقال انه سيؤجل ذلك لوقت مناسب أكثر، لكن الحياة لم تمهله، وعبثا بحثنا انا وزوجته عن ديوانه المفقود.

وثيقة: قصيدة "عاشق النهر" لسالم جبران

عندما تدافعوا إلى المنصّة

مثل قبيلة مندفعة إلى الثأر،

فيهم العربيد والمهرّج

فيهم اللاعق والسارق

فيهم السكران والنصّاب

فيهم الحثالات التي تطرب لصوت تصفيقها

فيهم الهتّافون المحترفون

فيهم مشلولو التفكير العاجزون عن الحلم –

قرّرتُ أن أنزل عن المنصّة

لا مهزوما ولا هاربا

بل رافضا أن أشارك في المهزلة

رافضا المشاركة في المسؤوليّة عن الفضيحة

هم صعدوا إلى رقصة الانتحار

وأنا لم أنزل، بل صعدت

صعدتُ إلى ذاتي الحرّة، صعدت إلى جبل الحريّة

بقيتُ مع الناس، واحدا من الناس

الشمس في قلبي

لم أستبدل حلمي بحلم آخر

بل نفضتُ عن حلمي الغبار

ليس عندي وقت حتى لاحتقار

القبيلة التي اندفعتْ للثأر

بعد انعتاقي فقط،

أعرف تماما الفرق بين المستنقع والنهر

أنا حليفُ النهر

أنا عاشق النهر!

nabiloudeh@gmail.com

 

 

ابنة الناصرة

بروفيسور كلثوم عودة

نموذج يحتذى للمرأة

 العربية المصممة على التقدم

نبيل عودة

 

قصة حياة المرأة العربية من الناصرة كلثوم عودة (1892-1965) أصبحت نموذجًا يحتذى للمرأة المصممة على التقدم. وهنا أقدم مسيرة حياة لامرأة ناضلت وتحدت المستحيل ووصلت الى أرقى مستوى علمي لتكن أول امرأة عربية تحصل على لقب بروفسور.

كلثوم عودة هي ابنة لعائلة معروفة من الناصرة (هي بالصفة أيضا عائلتي) ولدت في 2 نيسان عام 1892 في دار "نصر عودة" في حارة الروم، كانت البنت الخامسة لوالدها نصر عوده الذي كان يأمل بولد يخلد اسمه وفوق كل ذلك لم تكن البنت جميلة.

كتبت كلثوم عودة سيرة حياتها نفسها بقولها: "لقد استقبل ظهوري في هذا العالم بالدموع. والكل يعلم كيف تُستَقبَل ولادة البنت عندنا نحن العرب، خصوصا إذا كانت هذه التعسة خامسة اخواتها، وفي عائلة لم يرزقها الله صبيا. وهذه الكراهة رافقتني منذ صغري. فلم أذكر أن والديَّ عطفا مرة عليَّ وزاد في كراهة والدتي لي زعمها أني قبيحة الصورة. فنشأت قليلة الكلام كتوما أتجنبُ الناس، ولا همَّ لي سوى التعلم، ولا أذكر أن أحدا في بيتنا دعاني في صغري سوى "يا ستي سكوت" أو "يا سلولة"، وانكبابي على العلم في بادئ الامر نشأ من كثرة ما كنت أسمع من والدتي "مين ياخدك يا سودة. بتبقي طول عمرك عند امرأة أخيك خدَّامة". وكان ثمة شبحٌ مهولٌ لهذا التهديد، إن عمتي لم تتزوج، وكانت عندنا في البيت بمثابة خادم. فهال عقلي الصغير هذا الأمر، وصرت أفكر كيف أتخلص من هذا المستقبل التعس، لم أر بابا إلاّ بالعلم ولم يكن سوى مهنة التعليم في ذلك الوقت تُباح للمرأة. وقد كانت العادة قبل الحرب أن من يكون أول تلميذ في المدارس الروسية الابتدائية يتعلم في القسم الداخلي مجانا وبعدها يحصل على رتبة معلم. فعكفت على العمل وبلغت مُرادي. والفضل في هذا لوالدي، إذ إن والدتي المرحومة قاومت بكل ما لديها من وسائل دخولي المدرسة. فهل كنت سعيدة في حياتي؟ نعم. إني وجدت في نفسي خُصلتين هما من أهم العوامل في هناء عيشي: الإقدام على العمل مع الثبات فيه، والمحبة، محبة كل شيء، الناس والطبيعة والعمل. هذه الخصلة الثانية هي التي تساعدني دائما في أحرج مواقف حياتي. إن تذليل المصاعب لبلوغ المراد هو أكبر عوامل السعادة. فإذا اقترنت هذه بسعادة من يحيط بنا أيضا، فهناك هناء العيش حقا. قضيت خمس سنوات بين أولئك البنات اللواتي كنت أعلمهن. وقد أحببتهن حبا ساعدني على أن أعيش مع كل واحدة منهن بعيشتها الصغيرة، وأن أساعدهن على قدر طاقتي. وقد قابلنني بالمثل، فكنت دائما أرى وجوها باسمة ضاحكة وكن يرافقنني في كثير من نزهاتي. وأذكر أني زرت مرَّة إحدى صديقاتي وكانت ابنتها تتعلم عندي ولها اثنتا عشرة سنة من العمر. ووجدت صديقتي في الفراش. فأخبرتني في أثناء الحديث بأنها غضبت أمس على ابنتها إذ قالت لأبيها: إذا ماتت أمي فتزوج معلمتي، فهي تكون لي أما... شعرت بسعادة لم أشعر بمثلها من قبل ملأت قلبي، إذ إن أولئك الصغيرات يحببنني كما أحبهن. وفي وقت فراغي كنت أزور أطراف المدينة، حيث يعيش الفلاحون، وأتفقد أطفالهم الصغار المهملين وقت الحصاد، وكان قلبي يتقطع ألما عندما أرى تلك العيون الملتهبة بالرمد، فأغسلها بمحلول حامض البوريك، وبعد تنظيفها أنقط محلول الزنك عليها. أظن أن بعض الأطباء الذين لم يجعلهم الزمن آلهة بل ظلَّوا بشرا، يدركون تلك السعادة التي كنت أشعر بها. عندما كنت أرى بعد أيام تلك العيون سليمة صافية، وتلك الأيدي الصغيرة تطوق عنقي. هذا الشعور كثيرا ما كان ينسيني تعبي، عندما كنت في ساحة الحرب في البلقان وفي روسيا. ألم أكن سعيدة لتعافي كل جندي، أو لتخفيف آلامه!

ألم يرقص قلبي طربا عندما كنت أزور المريض وأراه متجها إلى الصحة، وأرى عائلته سعيدة لشفائه؟ بلى إني كنت أحب الجميع فأتألم لآلام كل فرد وأفرح لفرحه، ولهذا لم تشعر نفسي أنها غريبة، مع أن لي مدة طويلة في الغربة. والأمر الثاني، وأهميته لا تقل عن الأول وهو حسباني أن كل عمل شريفا، فلست أخجل من أي عمل كان، ما دام غير ماسِّ بشرفي ولا بشرف غيري. ولا أذكر من قال من الروسيين: ينبوع الحياة في داخلنا. فيا لها من حكمة بالغة. نعم، إن ينبوع الحياة فينا، فإذا قدرنا أن نروي جميع مظاهر حياتنا به، صارت حياتنا وردة زاهرة تتغلب برائحتها العطرة وجمالها على الأشواك التي هي كثيرة جدا في طريقنا. فلا تؤلمنا هذه الأشواك كما لو كانت وحدها. ومن لا يرتوي لا بُدَّ له من أن يقف كالعطشان فتجف حياته وتصير صحراء، والسعادة كالسراب فيها يركض وراءه فلا يصل إليه ولو كانت لديه الملايين. تعلمت أن أجد الجمال في كل ما يحيط بي، طبيعيا كان أو من صنع البشر، فجمال الطبيعة كان دائما يسَكِّن اضطراب نفسي، لأنه رمز الخلود، وأما صنع البشر فإنه كان يجدد قواي ويكسبني إعجابا بعقل الإنسان، فأنكب على العمل كالنملة. فأنا، ولا مبالغة، كنت في جميع أطوار حياتي سعيدة أشتغل راغبة لا مُلزَمَة".

أنهت كلثوم عودة المدرسة الابتدائية ثم انتقلت إلى "السمينار الروسي" في قرية (اليوم مدينة) بيت جالا في الضفة الغربية وكانت داراً للمعلمات، ومن أساتذتها المرحوم خليل السكاكيني أحد أعلام الأدب العربي الفلسطيني الذي أثر في توجيهها.

كانت في السادسة عشرة من عمرها حين أنهت دراستها، وعادت إلى الناصرة لتبدأ التدريس في مدارس الجمعية الروسية في الناصرة (المسكوبية) وكان يزور مدارس الجمعية في ذلك الوقت مفتشون مبعوثون من قبل الجمعية الروسية. التقت أثناء عملها بالتعليم المستشرق الروسي المشهور كراتشكوفسكي الذي زار فلسطين بين أعوام (1908-1910) وذكر ذلك في كتابه "مع المخطوطات العربية"، حيث كتب: قابلت كلثوم عودة في الناصرة ذاتها، وكانت آنذاك معلمة ناشئة إلى جانب عملها في المجلات العربية. أما فيرا كراتشوفسكايا عقيلة المستشرق، فقد كتبت عن زيارة زوجها إلى الناصرة بأنه تعرف على معلمتين من مدارس الجمعية الفلسطينية أنهتا تعليمهما في مدرسة السيمنار في بيت جالا، وقد شاركتا في جولاته في ضواحي الناصرة وأحداهما هي كلثوم عودة والتي تزوجت عام 1913 من الطبيب الروسي الذي عمل في مستشفى الجمعية في الناصرة ايفان فاسيليف".

تعرفت كلثوم عودة أثناء عملها بالتعليم على الطبيب الروسي ايفان فاسيليف وأحبا بعضهما واتفقا على الزواج، عارضت العائلة مشروع الزواج بشدة. وروت كلثوم عودة للشاعر الفلسطيني عبد الكريم الكرمي (أبو سلمى) عندما التقى بها في موسكو سنة 1957، بأن بعض أفراد أسرتها العتاة طلب من أحد الشبان أن يدفعها من أعلى سطح البيت لتستريح العائلة منها ومن عارها، وفقط بفضل ابن عم والدها نجيب عوده الذي وقف إلى جانبها، وذهب هو وإياها والدكتور ايفان فاسيليف إلى القدس، حيث تزوجا في الكنيسة الروسية في مسكوبية القدس، وعاد بها وبزوجها إلى الناصرة واضعا والدها وأسرتها أمام الأمر الواقع.

سافرت كلتوم مع زوجها الروسي إلى روسيا، وبعد ثورة أكتوبر ونشوب الحرب الأهلية في روسيا السوفياتية، تطوع الدكتور ايفان، زوج كلثوم عودة، كطبيب مع الجيش الأحمر وأصيب عام 1919 بمرض التيفوئيد ومات تاركًا زوجته وثلاث بنات صغار. فعملت كلثوم بفلاحة الأرض من أجل إعالتهم، وواصلت دراستها الأكاديمية بمساعدة لفيف من المستشرقين الروس وعلى رأسهم كراتشكوفسكي الذي تعرف عليها في فلسطين.

كلثوم لم تستسلم، بل واصلت دراستها وعملها، وأصبحت محاضرة للغة العربية في جامعة لينينغراد (بطرسبورغ اليوم)، ثم أسست معهداً للهجات العربية في جامعة موسكو، وكانت أول امرأة عربية تحصل على لقب بروفيسور.

كلثوم عودة كانت جريئة في الدفاع عن شعبها، وعندما اعترف الاتحاد السوفياتي عام 1948 بدولة اسرائيل أرسلت رسالة حادة اللهجة للرفيق ستالين الذي رد عليها بسجنها. كان السجن في فترة ستالين بابا لإرسال المغضوب عليهم بتهم بائسة ومحاكمات صورية الى المنفي السيبيري الرهيب المشهور باسم "الغولاك" حيث من القلائل يبقون احياءا في ظروف السجن والبرد القارص والطعام السيئ.  

تدخل أصدقائها من المستشرقين الروس وعلى رأسهم المستشرق المشهور كراتشكوفسكي، لإطلاق سراحها مبررين رسالتها بكونها ابنة للشعب الفلسطيني الذي تشرد وخسر وطنه. وحسب معلومات تعرفها العائلة، اعتقلت كلثوم مرة أخرى على الأقل في زمن ستالين، هناك ومعلومات تتحدث عن اعتقال ثالث لكنها غير مؤكدة.

كلثوم عودة معروفة في الأوساط الأكاديمية في روسيا ولها عدة كتب لتعليم العربية، وقامت بترجمات عدة من اللغة العربية الى الروسية ونشرت سلسلة مقالات في مجلات عربية أبرزها مجلة الهلال المصرية.

أسست بروفسور كلثوم عودة في موسكو معهدا خاصا للهجات العربية، كان من طلابه الموفدين السوفييت للعمل في السفارات السوفيتية في العالم العربي. ولم يحالفني الحظ لألتقي بحفيدها خريج نفس المعهد الذي عمل في دمشق، وجلب لي هدايا من عم لي يعيش في دمشق وارسلت له هدايا من موسكو، فكان يصل الي عبر شاب روسي يعلمني انه موفد من حفيد كلثوم عودة ليوصل لي الهدية من دمشق او لتسليمه الهدية لعمي في دمشق. وعبثا رجوته ان يخبر حفيدها أني مشتاق جدا للقائه والتعرف عليه وعلى من بقي من عائلتها إذا أمكن، لكن اللقاء لم يحدث، واترك التفسيرات لأنها لم تعد تفيد.

في أوائل سنوات الاربعينات زارت كلثوم عودة فلسطين لتطمئن على أهلها وزارها كبار الشخصيات الفلسطينية في وقته، وعلى رأسهم المرحوم الحاج أمين الحسيني الذي أرادها أن تبقى وتعمل في وزارة المعارف الفلسطينية. وسألته كلثوم ما الضمانة إذا بقيت بأن يقبل بي الانتداب البريطاني المرعوب من مجرد زيارتي ويلاحقني كأنني جاسوسة؟؟

فأجابها الحاج أمين الحسيني وهو يضع يده على ذقنه: "يا ابنتي لا ضمان معهم حتى على هذه الذقن". فقفلت عائدة الى روسيا.

لم يسعفني الحظ بلقاء كلثوم عودة أثناء تواجدي للدراسة في موسكو، إذ وصلت بعد وفاتها بسنتين، وقد زرت ضريحها في مقبرة مشهورة للشخصيات الهامة في موسكو. ولكني التقيت مع عدد من طلابها، وأحدهم المحاضر الاقتصادي مولود عطالوف، قدم لي بشكل شخصي بصفتي طالبا وحيدا في الصف، سلسلة من المحاضرات حول دراسة قام بها عن اقتصاديات الدول العربية (المتحررة)، كان كتابه يحمل عنوانا هو "سير الدول العربية للاستقلال الاقتصادي بعد الاستقلال السياسي"، بالطيع حتى سياسيا كما تبين ، بقي العالم العربي تحت الهيمنة الاستعمارية الا في فترة عبد الناصر القصيرة.  بالطبع التقيت مع العديد من المترجمين الروس، الذين تخرجوا من معهدها.

الدكتور عمر محاميد الحاصل على درجة بروفيسور من جامعة ليبتسك في روسيا. يستعرض في كتابه "كلثوم عودة من الناصرة إلى سانت بطرسبورغ" سيرة حياة هذه المرأة البطلة التي واجهت مصيرًا صعبًا، وصمدت حتى وصلت إلى أعلى المرتبات العلمية.

يعد كتابه توثيقًا هامًا لحياتها وأعمالها، وقد علق على الكتاب عدد من الكتاب والباحثين المعروفين.

يقول الدكتور لطفي منصور مدير كلية إعداد المعلمين في بيت بيرل، عن هذا الكتاب: إن من يطالع كتاب الدكتور عمر يلمس بنفسه الجدية في البحث والجهد الكبير الذي بذله المؤلف في التنقيب عن وثائق كانت لا تزال مجهولة للسواد الأعظم من المثقفين العرب، الذين لهم عناية بأدب الاستشراق وتاريخه وأصوله الذي انبثق منها منذ عهد روسيا القيصرية وحتى أيامنا هذه.

كتب الدكتور نبيه القاسم، الكاتب والناقد الأدبي: لم يكتف الدكتور عمر بالتاريخ لحياة كلثوم عودة ولا بالمعلومات الموثوقة الذي استقاها من أقرب الناس إلى كلثوم عودة إنما راح ليفتش ويبحث ويدقق في الأرشيفات الموثقة، ومن ثم في المقارنة والتأكيد بعد التنقيب الدقيق بين الوثائق والأوراق التي ألحقها بالدراسة، والتي تؤكد على جدية البحث واهتمام الباحث بكشف المعلومات التي يملكها ليستفيد منها القارئ العادي، كما يستفيد منها الباحث الجدي.

وكتب الشاعر والصحفي والمفكر سالم جبران: إن سيرة حياة كلثوم عودة هي سيرة حياة إنسانة عظيمة موهوبة، مجتهدة وهبت عمرها كله لبحث الثقافة العربية الكلاسيكية، وبناء جسر اللقاء الحضاري بين روسيا والعالم العربي.

قرأت كتاب الدكتور عمر محاميد، بشوق واهتمام شديدين، أولاً لكون كلثوم عودة ابنة الناصرة، وابنة عم والدي، والتي كانت تذكر في جميع مناسباتنا العائلية، وقد كانت على علاقة دائمة مع عم لي في دمشق حيث كنا نتلقى أخبارها، والسبب الرئيسي للعلاقات "المتجمدة" معنا أن أبناء أخيها، بعضهم هاجر للولايات المتحدة وبعضهم الآخر يستعد للهجرة، تعني أي علاقة مع شخصية سوفياتية في ذلك الوقت رفض دخولهم للولايات المتحدة. وثانياً لاطلاع بروفسور عمر محاميد الجيد والعميق على نشاط كلثوم عودة المتشعب، ومعرفته الشخصية بها، مما جعله يدرك عظمة هذه الانسانة من زاوية رؤية روسية ايضًا.

قضت كلثوم أياماً صعبة في زمن الحرب العالمية الأولى، ثم الثورة الروسية، وانتقلت مع زوجها قبل وفاته إلى ليننغراد (بطرسبورغ) وهناك اجتمعت بالمستشرق الكبير كراتشوفسكي ثانية، وأصبحت مساعدة له في عمله. وقد نقل محاميد عن المستشرق قوله "أما مصير مساعدتي الثانية فقد كان جد معقد. فهي عربية من الناصرة أنهت مدرسة المعلمات في بيت جالا قرب بيت لحم. وكنت قد قابلتها في الناصرة ذاتها، وكانت آنذاك معلمة ناشئة إلى جانب عملها في بعض المجلات العربية. وانتهزت العطلة الصيفية سنة 1914 فسافرت الى روسيا، ثم نشبت الحرب الأولى وحالت دون عودتها فبقيت عندنا في روسيا طول الحياة. وصارت تعلم في ذلك المعهد منذ العقد الثالث من هذا القرن أي القرن العشرين".

انتهى الأمر بكلثوم عودة فاسيليفا إلى الحصول على شهادتي الماجستير والدكتوراه، وعينت بروفسورة في جامعة ليننغراد، وكانت خدمتها للاستشراق الروسي كبيرة من حيث تعريف المستشرقين بالأدب العربي الحديث، إذ أن كتابها "نصوص في الأدب العربي الحديث" سرعان ما أصبح مرجعاً للطلاب المحاضرين. وينقل محاميد عن كراتشوفسكي قوله: "إن تعليم اللغة العربية في معهد الاستشراق يعتمد عليها وأن كتابها الدراسي في الأدب العربي الحديث كان عاملاً محفزاً لدراسة الأدب العربي في أوروبا".

ويؤكد محاميد أهمية الدور الذي قامت به "لدرجة أن الحكومة السوفياتية وأثناء الهجوم النازي على الاتحاد السوفياتي أثناء الحرب العالمية الثانية تقرر أن تكون كلثوم بين الذين تم إجلاؤهم إلى المؤخرة حفظاً على حياتهم، ومن ثم منحها وسام الشرف في عيد ميلادها السبعين" – اعتقد في فترة خروتشوف.

اعتمد عمر محاميد، في سبر سيرة كلثوم عودة على أرشيف أكاديمية العلوم الروسية، والأرشيف الشخصي لكلثوم نفسها المحفوظ عند ابنتها، ولقاء مع ابنة كلثوم ومع الكاتب نبيل عودة من الناصرة (أي معي شخصيا) وقريب لكلثوم.

* * *

ذكرت زوجة كراتشكوفسكي أن كلثوم قد أنشدت عند وداع زوجها أغنية تقول كلماتها:

أحبابنا قد وقفنا كي نودعكم

وقلبنا بلهيب الحزن يشتعل

حان الفراق فها أنا أودعكم

تذكروني حتى لفظت بخاطركم

وزودوني أيا عيني برؤيتكم

هيهات عيني بعد الآن تنظركم

خذوا فؤادي يذوب لوعة معكم

وغادروا قلبا يشكو من فرقتكم

فهل أودّع روحي أم أودّعكم

فسيروا بأمن فإن الرب يحفظكم

عملت كلثوم كممرضة في الصليب الأحمر خلال الحرب العالمية الأولى، وبعد وفاة زوجها عملت في فلاحة الأرض كما واصلت مسيرتها الأكاديمية، وحصلت على شهادة الدكتوراه في عام 1928، وكانت أطروحتها عن اللهجات العربية، وتعتبر كلثوم عودة أول امرأة عربية تنال لقب بروفسور من الاتحاد السوفيتي.

وقد عملت في مجال الترجمة من اللغة الروسية للعربية وبالعكس، فترجمت رواية "الأرض واليد والماء" للكاتب العراقي ذو النون أيوب إلى اللغة الروسية، كما ترجمت كتاب "محمد عياد الطنطاوي" للمستشرق كراتشكوفسكي إلى اللغة العربية.

كما تعتبر كلثوم عودة أول امرأة عربية شغلت مركز عضو في جمعية العلاقات الثقافية السوفيتية مع البلدان العربية، وقد نالت وسام الشرف عام 1962 بمناسبة عيد ميلادها السبعين، وأحرزت الميدالية الذهبية مرتين تقديراً لجهودها العلمية.

وقد تم منحها الوسام السوفييتي "الصداقة بين الشعوب" تقديراً لدورها الثقافي والسياسي في روسيا، كما منح اسمها وسام القدس للثقافة والفنون عام 1990.

فازت بجائزة مسابقة مجلة الهلال المصرية سنة 1947 والتي كانت بعنوان "كيف يعيش المرء هنيئاً".

كما قامت بكتابة بعض المقالات ونشرها في مجلات عدة مثل "النفائس العصرية" في حيفا و"الهلال" في القاهرة و"الحسناء" في بيروت.

قالت عنها المؤرخة السوفييتية د. نتاليا سيرجيفنا لوتسكايا: "لقد علمتنا كلثوم عوده الكثير الكثير فقد غرست في قلوبنا حب الشرق وحب فلسطين، لقد غرست في قلوبنا محبة شعبكم الذي ناضل وما زال يناضل من أجل حريته واستقلاله، لقد تعلمنا الكثير من كلثوم التي كنت ترى دوماً في عينيها الشوق والحنين للوطن الأم فلسطين، وكانت كثيرا ما تتذكر الأيام الصعبة التي مرت بها عند انتقالها مع زوجها للعيش في روسيا، وأصبحت كلثوم مثالاً لجميع من عرفها".

وكتب الشاعر توفيق زياد عنها: "إن اسم كلثوم عودة معروف على أوسع نطاق في الأوساط السوفيتية ذات الصلة بالاستعراب والعمل الدبلوماسي والأدب العربي والبلاد العربية عموماً، إن أعداداً كبيرة من المستعربين قد درسوا اللغة العربية جيلاً بعد جيل على يديها".

على الرغم من ابتعاد كلثوم عن فلسطين إلا أنها كانت تحمل دائماً في قلبها حبها لبلدها وفخرها بكونها عربية فلسطينية، فقد زارت فلسطين عام 1928 وشبهت مدينة يافا بمدينة باريس، وقابلت العديد من أدباء ومثقفي فلسطين، كما قابلت الحاج أمين الحسيني الذي أبدى لها رغبته في بقائها في البلاد ولكنها رفضت بسبب الضغوطات التي تعرضت لها، وفضلت العودة إلى روسيا وذكرت ذلك في مذكراتها: "إن روسيا لم تعد غريبة عني وقد أحببتها وأحببت الشعب الروسي ووجدت مكاني أن أحيا في هذه البلاد في الثورة التي أحسستها في تلك الأعوام بقلبي أكثر مما فهمتها بعقلي".

كان لها الفضل في تعريف الروس على الثقافة العربية وبناء جسر حضاري بين الاتحاد السوفيتي والعالم العربي حيث ساهمت في تأسيس مدرسة الاستعراب الروسية.

من أعمالها:

- حضارة العرب في الأندلس (ترجمة).

- دراسات في تاريخ الأدب العربي (ترجمة).

- اللغة العربية للروس.

- المنتخبات العصرية لدراسة الآداب العربية.

- الأدب العربي الحديث.

- تصوير حياة المرأة العربية المعاصرة في القصة.

- اللغة المسرحية في الأدب العربي الحديث.

- حول تاريخ تطور اللغة في البلدان العربية.

وقد توفيت في الاتحاد السوفيتي في 24/11/1965، ودفنت في مقابر العظماء في موسكو.

nabiloudeh@gmail.com

 

 

سياسة نتنياهو: تفاهة

الأعمال وعظمة الأوهام

نبيل عودة

 

الواقع السياسي الإسرائيلي يعاني من حالة ابتذال سياسي تعاظم مع صعود رئيس امريكي جعل الابتذال السياسي نهجه الدولي، وطبعا لن يجد أفضل من بيبي نتنياهو، وابتذاله السياسي، حليفا سياسيا لنهجه وابتذاله. وبرز هذا الابتذال بأكثر صوره بشاعة، حين صرح نتنياهو في الانتخابات السابقة بأن الباصات تنقل العرب للتصويت، لإرهاب المصوتين اليهود وحثهم للتصويت لصد ما ادعاه عن الباصات التي تنقل العرب للتصويت، مما يشكل خطرا على يهودية الدولة، أي لصيانة سلطته الشخصية، وسلطة اليمين الاحتلالي المتطرف.

كان أبرز ما عاشه مواطني إسرائيل من هذا الابتذال السياسي والأخلاقي هو ما جرى في الانتخابات الأخيرة، بعد فشله في تشكيل حكومة برئاسته، اوعز لمقربيه ان يطرحوا اقتراح قانون على الكنيست بإجراء انتخابات جديدة، بدل ان يعيد التفويض لرئيس الدولة، وتكليف شخصية غير بيبي نتنياهو لتشكيل الحكومة الجديدة. أي ان ابتذاله السياسي هنا وصل لقمة جديدة برفضه، تكليف شخصية غيره لتشكيل الحكومة، وادخل الدولة بدوامة انتخابات جديدة، تكلفتها مليارات الشواكل، من اجل الفوز (بناء على حساباته، او اوهامه) والعودة لتشكيل حكومة برئاسته، لكن يبدو ان العتمة لا تجيء دوما على قدر يد الحرامي، رغم أنى لا استهتر بقدرته على تعمية السماوات بالعماوات لدى جمهور المصوتين اليهود.

استعملت تعبير "الابتذال" وهو تعبير من عالم الأخلاق، لوصف اخلاقيات السياسة الإسرائيلية، التي يفرضها نتنياهو على المجتمع الإسرائيلي. المستهجن أكثر هو ان كل شخصيات حزب الليكود، اصابهم الخرس، كأنهم أطفال في حضانة أطفال يديرها السيد نتنياهو. الأمر الذي سيترك أثره السلبي على كل شخصيات حزب الليكود، حتى الذين يعرف عنهم انهم أكثر عقلانية وعلى خلاف مع بيبي نتنياهو حول مسائل مختلفة. مع مثل تلك الشخصيات (المرعوبة) لا يمكن بناء سلطة تحترم مواطنيها وقادرة على اتخاذ قرارات مصيرية خاصة في المشاكل الشرق أوسطية وعلى راسها المشكلة الفلسطينية. أي تبنوا الابتذال واخلاقه السياسية، ووفروا الحماية البرلمانية (المؤقتة كما آمل) لاستمرار سلطة نتنياهو، وبرزوا ايضا أيضا بالابتذال الشخصي والسياسي، الذي أتوقع ان يقضي على مستقبلهم السياسي.

يصف فيلسوف الاشتراكية الثوري كارل ماركس أخلاق الابتذال بأنها " تفاهة الأعمال وعظمة الأوهام"، وهو تماما ما نشاهده اليوم في اللعبة السياسية الإسرائيلية، التي يتصرف فيها نتنياهو حسب مزاجه المتقلب. حيت يجري تحويل المنطق العقلي الى تفكير سوقي مبتذل، والهدف ليس سرا، بل ان يفرض سيطرته من جديد على السلطة، وهو موضوع بات واضحا الهدف منه، الحصول على قرار برلماني يوفر له الحماية من القضايا الخطيرة المتهم بها. أي انقاذ جلده من السجن إذا ثبتت التهم عليه.

لا أستطيع ان افهم كيف يقبل أعضاء الليكود، تحقير أنفسهم وإبراز ابتذالهم السياسي والأخلاقي، قد يفيدهم هذا الأمر لمرحلة قصيرة قادمة، لكنه سيجردهم من أي مكانة سياسية او أخلاقية يمكن اعتمادها لتشكيل سلطة سياسية نظيفة، بعد التخلص من نتنياهو ونهجه السياسي المبتذل.

ان نهج الابتذال السياسي للفوز بالسلطة، هو نهج مدمر مهما كان شكله ناجحا في مرحلة ما، رغم كل الدلائل التي يحاول نتنياهو ان يجندها لصالح نهجه، الا انها تشير الى ورطة نتنياهو الكبيرة من إعادة الانتخابات، التي فتحت عليه جبهة انتخابية لم تكن متوقعة، خاصة بعودة رئيس حكومة ووزير دفاع سابق، وشخصية عسكرية لها مكانتها في المجتمع اليهودي، وأعني عودة اهرون براك للسياسة، وبدئه بتشكيل قائمة انتخابية بهدف مركزي أعلنه، اسقاط سلطة بيبي نتنياهو. الى جانب ان قوى أخرى ستزيد حسب استطلاعات الرأي قوتها التمثيلية في البرلمان، وهي ليست محسوبة على نتنياهو، وخاصة القائمة العربية المشتركة التي نأمل ان تجمع صفوفها من جديد، والمتوقع ان تضاعف قوة التمثيل العربي في الكنيست، الى جانب قوى أخرى لها حساب عسير شخصي مع نتنياهو.

ان نهج الابتذال الأخلاقي في عالم السياسة، يبرز أيضا في الغطرسة السياسية والدوغماتية، والجمود الفكري والعقائدي، وفرض نمط سياسي يحاول ان يبرز كل المنافسين ما دون الأخلاق السياسية، باستعمال اصطلاحات سخيفة وتافهة بحد ذاتها، بإطلاق نتنياهو صفة "اليسار" على كل منافسيه حتى اليمينيين الفاشيين، وكأن اليسار جريمة سياسية، هذه الصفة بمجتمع يفقد تنوره الفكري وتسوده روح عنصرية عدائية لمواطنيه العرب وللشعب الفلسطيني برمته تلعب دورا ما، خاصة ضد القوى العقلانية سياسيا، من اليسار والمركز، بحيث يجري ايهام المواطنين البسطاء بان ضم أراضي فلسطينية احتلت عام(1967)، وضم مناطق احتلت أيضا من دول عربية(الجولان السوري مثلا) وليس بدون دعم امريكي، بانه هو الأمر الذي سينهض بدولة إسرائيل واقتصادها ومكانتها الدولية وأمنها، هذا ليس مقامرة، بل مغامرة مجنونة ستقود حتما الشرق الأوسط الى انفجار لا احد يعرف مداه واتساعه ودماره على الجميع. ان وصف كل رافض لنهج نتنياهو حتى بقضايا غير سياسية، بانه يسار، أضحى امرا مبتذلا ومثيرا للسخرية. هذه الفظاظة التي يصف بها كل معارضيه بأنهم يسار، هو منطق ليس مبتذل فقط، بل منطق مريض وقمة في التفاهة السياسية.

ماركس سخر في وقته من الابتذال السياسي والاجتماعي للبرجوازية الصغيرة (في اسرائيل من الصعب التمييز بين البرجوازية الصغيرة والبرجوازية الخنزيرية الكبيرة الأولى تخدم الثانية ومندمجة بها)، وصفها ماركس بانها "سطحية، مواقفها ثرثرة لا رادع لها، تتميز بالتصلف والتبجح والفظاظة في التهجم، ولديها حساسية هستيرية تجاه فظاظة الآخرين في ردهم عليها".

ترى هل كان ماركس يتنبأ بشخصية سياسية جعلت من الابتذال نهجا سياسيا وشخصيا ناجحا ومجندا لمئات الاف الأصوات الانتخابية؟

nabiloudeh@gmail.com

Attachments area

 

 

حقيقة عصرنا:

الرأسمالية طريق

للتطور والديموقراطية

 

نبيل عودة

 

لفت انتباهي موضوع التطور الاقتصادي وارتباطه بتطبيق الديموقراطية، لدرجة اني بت استنتج الكثير من المواقف التي لم اطرحها بوضوح كامل بعد، خوفا من التسرع قبل الفهم الكامل لما يجري من تحولات في عالم اليوم، خاصة بعد فشل التجربة الاشتراكية، وهذا الفشل بجوهره هو فشل اقتصادي، وفشل سياسي وفشل فكري لنهج وإدارة اقتصادية، اجتماعية وسياسية ..

بعض الأفكار التي تراودني منذ فترة، كلما تعمقت بالاطلاع على تطور الدول وارتباط التطور الاقتصادي المؤكد بتطور النظام الديموقراطي، يجعلني على قناعة اننا عبرنا سنوات عجاف فكريا (النظرية الاشتراكية)، بتأثير مفاهيم إنسانية في طابعها، لكنها غير قابلة للتطبيق لأسباب عديدة وهامة وكثيرة تحتاج مني الى المزيد من المراجعات.

ما أعنيه ان الفكر الماركسي الاشتراكي كان بجوهره حلما طوباويا، اكثر مما هو مفهوم لبناء مجتمع جديد أكثر عدلا، أي اكثر ديموقراطية بالمقام الأول .. لذلك وصف اشتراكية ماركس بالعلمية هو اشبه للضرب في المندل!!

من هنا قمت في السنوات الأخيرة بمراجعة فصول أساسية من كتاب "رأس المال " لكارل ماركس، وكتابات مختلفة أخرى منها "البيان الشيوعي"، وكتاب "المجتمع المفتوح واعداؤه"" لكارل بوبر، ومقاطع من كتاب "الرأسمالية -المثال" لأيان راند، للأسف أقول انني اكتشف اننا كنا ضحية حلم جميل، حلم انساني، لم تنشأ الظروف، او القاعدة المادية والثقافية لتطبيقه .. بل ويبدو لي ان أسلوب عرض النظام الرأسمالي حسب الادبيات الفكرية الاشتراكية، كانت تفتقد لرؤية الحقائق الاقتصادية لنظام الرأسمالي التي تدفع المجتمعات نحو نهضة شاملة تطول السياسة أيضا، وتغير الواقع الاجتماعي من واقع فقر الى واقع نمو لا يتوقف، من واقع نظام قمع الى واقع نظام سياسي يطور الشكل الديموقراطي بما فيه توفير الحماية للمواطنين. لذا نقد الرأسمالية الناشئة كان أقرب لحلم انساني يراود مجموعة من الثوريين الانسانيين في مرحلة متقدمة جدا من بداية المرحلة الرأسمالية، دون فهم ان النمو سيقود المجتمع الى واقع سياسي واجتماعي ورفاهي غير مسبوق. مرحلة لا شك ليست سهلة، وغير واضحة المعالم بمسارها التاريخي، طبعا اقرت مواقف وايديولوجيا دون ان تأخذ حقائق أساسية .. ودون ان يجري تطوير المفاهيم بناء على التغيرات العميقة التي بدأت تبرز بقوة واتساع.

 الفكرة التي طرحها ماركس في كتابه "رأس المال" (عام 1867) لم يجر تطويرها بناء على فهم التغيير الاجتماعي الهائل الذي أحدثه الانتقال الى الاقتصاد الرأسمالي (لنقل الصناعي أيضا) من حيث مضاعفة الثروة الاجتماعية، وانعكاسه على النظام من حيث تعميق التحولات الديمقراطية. ما جرى كان مواصلة اتهام الرأسمالية باستغلال الضعفاء، وخلق اغتراب اجتماعي، ونهج غير انساني ومدمر للمجتمع .. بتجاهل كامل ان الرأسمالية كانت تحقق إنجازات اجتماعية ورفاه انساني غير مسبوق يتجاوز النظام الاشتراكي.

كان تجاهلا تاما من ان الأسلوب الاقتصادي الوحيد الذي عرفته الإنسانية (الرأسمالية في بداياتها) حيث الثراء لم يكن بالنهب (كما كان حال المجتمع الاقطاعي) انما بالإنتاج والتجارة (طبعا باستغلال فوة العمل وهل من طريقة عبقرية أخرى لدي المنظرين الماركسيين؟). هنا بدأ ينشأ داخل المجتمع الرأسمالي نظام دولة يوفر شروطا أولية لحماية الانسان وحقوقه، طبعا تلك كانت البدايات، لكن لم يجتهد المنظرين الاشتراكيين بفهم مجراها التاريخي، واتجاهها نحو بناء مجتمع ديموقراطي يضمن بقوانينه حماية حقوق هامة للعمال والمواطنين عامة. وتواصل التعامل مع المجتمعات الرأسمالية بنفس الذهنية المشوهة التي سادت المرحلة المبكرة للرأسمالية التي تناولها ماركس في نظرياته. 

 النظام الرأسمالي لم يكن نظاما يستند الى نظريات مسبقة جاهزة، النظريات الاقتصادية للنظام الرأسمالي جاءت بمرحلة متأخرة من بداية بروز الانتاج الرأسمالي.  

الرأسمالية نظام تطور ويتطور ضمن الممارسة والتجربة، مما يلزم المفكرين الماركسيين بالأساس، الى إعادة عقلنة الكثير من المفاهيم التي ثبت بالتجربة انها بعيدة عن الواقع الرأسمالي كما ارتسم بالأدبيات الماركسية في القرن التاسع عشر والعشرين وبعضة متداول بعقلية مغلقة حتى أيامنا، إذ تواصل تصويره حتى اليوم قوى تسمى باليسار، وخاصة اليسار الماركسي، بطريقة سلبية جدا لا تتمشى مع الواقع، رغم اني على قناعة انه لا شيء كامل تماما في المجتمعات الرأسمالية .. لكن بالمقارنة مع النظام الاشتراكي، التفوق الحاسم كان للرأسمالية، ليس فقط بتطور نظام ديموقراطي، بل بمضاعفة الثروة المادية للمجتمع التي وفرت شروطا لم تنشا اطلاقا بالنظام الاشتراكي من حيث مستوى الحياة والحرية الشخصية.

اعتقد أكثر من ذلك ان اكتشاف ماركس للقيمة الزائدة، لم يكن اكتشافا عبقريا، لأنه مسالة تلقائية لكل انتاج كان، ولا يمكن احداث نهضة اقتصادية بدون المردود الذي يسمى بالقيمة الزائدة ــ وللتسهيل تعالوا نسميها الأرباح .. هل من منتج ومستثمر وتاجر يبني يوظف أمواله بدون حساب الأرباح .. والقيمة الزائدة على رأسها؟

يواصل اليسار الماركسي الترديد بشكل ببغاوي لصياغات لم يعد لها مكانا في عالمنا الذي تسوده الرأسمالية اليوم، بصفتها النظام الاقتصادي والسياسي الوحيد الذي يواصل التطور ويوفر نظاما ديموقراطيا، رغم كل السلبيات التي يمكن سردها (وهي كثيرة).. لكنها مهما كانت تلك السلبيات، الا أن ما كان يجري في الأنظمة الاشتراكية، كان أكثر سوءا واستبدادا وقمعا بما لا يقاس .. لذا سقطت الاشتراكية وسادت الرأسمالية ..  ومن المهم الإشارة ان رأسمالية اليوم ليست رأسمالية ماركس من القرن التاسع عشر. وهنا الفرق العظيم!!

أقول بوضوح، وهو قول اولي، ان الأسلوب الرأسمالي، اثبت انه الأسلوب الاقتصادي والسياسي والاجتماعي الأفضل والأكثر عدلا ورقيا ودفعا للمجتمعات نحو الرفاه الاجتماعي من أي نظام اشتراكي منافس. والدولة في النظام الديموقراطي اخذت على عاتقها توفير الحماية للمواطنين، وهذا ما يجب ان يتطور أكثر... 

من ناحية إنسانية أيضا، الرأسمالية كنظام اقتصادي وسياسي، كانت الأكثر عدلا، لا يمكن الحكم على بدايتها، مرحلة المانيفاكتورة مثلا، او الصناعة ببداياتها. ارتكبت تجاوزات مؤلمة؟ أجل .. لكن البداية لا تشكل اليوم قاعدة فكرية لكيل التهم لنظام يوفر الرفاهية والديموقراطية والأمان لمواطنيه... حتى لو تضاعف مردوده من "القيمة الزائدة" .. لأنها بحد ذاتها تشكل ثروة اجتماعية يوظف جزء كبير منها، عبر النظام الضريبي لضمان نظام رفاه اجتماعي ومختلف التأمينات الصحية والاجتماعية.

واجب الدولة يجب ان يتعمق أكثر بأن تكون الضامن باتجاه توزيع عادل للثروة الاجتماعية. هنا يجب ان يبرز دور اليسار الاجتماعي.

الأنظمة الرأسمالية المتطورة أصبحت قبلة لجميع المضطهدين والمقموعين والفقراء، الى جانب رجال العلم والأبحاث الذين يهجرون اوطانهم المتخلفة باقتصادها ونظامها الديموقراطي الى البلدان الرأسمالية المتطورة ..   

طبعا الموضوع أوسع مما اطرحه الآن كفاتحة لمقالات قادمة، وخاصة بما يتعلق بموضوع الشركات العملاقة، لكني أوكد أمرا جوهريا، ان النظام الرأسمالي سياسيا واجتماعيا كان وما زال الأكثر عدلا من أي نظام آخر بما في ذلك النظام الاشتراكي الذي انهار دون أن تهب الجماهير وجيشها الاشتراكي للدفاع عنه.

في قول مشهور من عام 1994 للرئيس الأمريكي الأسبق ريتشارد نيكسون حول الصين، التي عمليا تخلت عن مبادي المفاهيم الاشتراكية في الاقتصاد وتطبق نظاما رأسماليا لا يخجل أكثر الدول الرأسمالية تطورا (اقتصاد السوق) قال:" القوة الاقتصادية الصينية اليوم، تجعل محاضرات الولايات المتحدة للصين عن حقوق الإنسان عملاً وقحاً، وفي خلال عقد من الزمان لن يكون لها لزوم، وبعد عقدين ستكون شيئاً مضحكاً".

وهي بالفعل أصبحت شيئاً وقحاً ومضحكاً في نهاية القرن الماضي.

السؤال الذي يفرض نفسه، ليس كون الولايات المتحدة والدول الغربية الاخرى، ترى نفسها بمثابة القيِّم على تنفيذ مبادئ الديمقراطية. إنما ما هي العوامل التي تجعل من الديمقراطية امراً يفرض نفسه ولا يستورد من الخارج بشكل هجين، ولا يمكن تصديره، كما تصدر الأفلام الأمريكية مثلاً؟!

إن تشكيل رؤية عامة عن آفاق الديمقراطية في مختلف دول العالم، يشير بوضوح الى أن التنمية الاقتصادية، هي محرك أساسي لدمقرطة الأنظمة، بينما استمرار تعثر التنمية، مرتبط بظواهر تفشي الاستبداد وتقليص فظ لحقوق الإنسان.

ان طرح شعار دمقرطة الانظمة الذي بادرت اليه إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش، تظهر غباء تلك الإدارة، إذ لم تطرح مفهوم التنمية الاقتصادية كشرط لدمقرطة الأنظمة.

تجربة العديد من الدول، خاصة في جنوب شرق آسيا، تشير بوضوح الى أن التنمية، فرضت المزيد من الديمقراطية بشكل تلقائي.

من الواضح ان هناك تأثيرات ثقافية ودينية ايضاً، ولكني لا أرى أنها المقرر الحاسم في دمقرطة النظام، إنما هي عوامل قد تسرع أو تعرقل المسار الديمقراطي.

إن انتشار الديمقراطية، لن يتحقق بظل غياب التنمية الاقتصادية، ولا اعرف اليوم تنمية أفضل وأكثر انطلاقا من الأسلوب الرأسمالي، حيث نشهد تحولات ديمقراطية، سنجد أنها نتيجة طبيعية لزيادة قوة البرجوازية والطبقات الوسطى، وليس بسبب التحدي الذي الطبقي الذي يثرثر به اليسار الماركسي، لأن الديمقراطية في هذه الحال، تشكل قاعدة تنموية مناسبة للبرجوازية وليس لأن النظام قرر تغيير نهجه او تبنّي عقائد جديدة.

هذا الاتجاه نلاحظه اليوم مثلاً في الصين، التي فتحت أبوابها للمستثمرين، والكثير من الاستثمار في الاقتصاد الصيني في العشرين سنة الأخيرة، جاء من مصادر من خارج الصين.

أكثر من ذلك اندفع رجال الأعمال الأمريكيون والاوروبيون بلهفة كبيرة لتوسيع تجارتهم واستثماراتهم مع الصين ودول ما يعرف باسم "النمور" في جنوب شرق آسيا، التي تميز اقتصادها بالنمو السريع. بل نقلت صناعات كاملة للصين ودول عديدة من الدول الرأسمالية.

بالتالي نجد اليوم أن مساحة الديمقراطية تتعمق مع تعمق النمو الاقتصادي وتطور العلوم والتكنولوجيا وازدياد قوة الدول الاقتصادية وانعكاس ذلك على مكانة المجتمع المدني والرقي الحضاري للمجتمع.

nabiloudeh@gmail.com

 

 

الهوية القومية

واضطهاد الأقليات

نبيل عودة

 

*العديد من الأقليات تعيش بظروف العنف والقمع وعلى رأسها الشعب الكردي، الشعب الفلسطيني، المسيحيون في العالم العربي، مسلمي الروهينا وغيرهم *

 

ظاهرة الانشغال بالهوية القومية، وتطوير خطاب سياسي حول الهوية القومية، يمكن رصده في الفكر السياسي، منذ 300 سنة على الأقل، وهي بارزة بحدة في الأدبيات السياسية المعاصرة التي تختص في حل النزاعات الاثنية والقومية والدينية.

وقد أصبح هذا الموضوع يثير اهتمام الباحثين بفعل اتساع دائرة التطورات كبيرة الأثر على الساحة الدولية، التي طرحت قضايا الأقليات وما ارتكب ويرتكب بحقها من تمييز وجرائم وانتهاكات لأبسط الحقوق الانسانية، الأمر الذي جعل قضايا الأقليات وهوياتها تطرح بحساسية خاصة، على الساحة السياسية والحقوقية الدولية.

وكثيرا ما قادت قضايا اضطهاد الأقليات وارتكاب الجرائم ضدها الى فعل دولي وصل أحيانا الى استعمال أقصى درجات العنف لوقفه (يوغوسلافيا مثلا) او الى فرض عقوبات مختلفة، أو ممارسة الضغوط السياسية والاقتصادية لوقف ممارسة العنف ضد الأقليات (السودان مثلا)، ويمكن القول ان الرأي العام الدولي، ومنظمات حقوق الانسان والامم المتحدة بهيئاتها المختصة، باتت تلعب أدوارا متعاظمة (لغويا على الأقل) في تشديد الرقابة على احترام حقوق الأقليات وخاصة حقهم في الحفاظ على تميز هويتهم القومية والثقافية والدينية.

لكن مع الأسف ما يجري على أرض الواقع هو بالاتجاه المعاكس ..  ويمكن رصد واقع العديد من الأقليات التي تعيش بظروف العنف والقمع وعلى رأسها الشعب الكردي، الشعب الفلسطيني في المناطق المحتلة، المسيحيون في العالم العربي، مسلمي الروهينا، وجرائم تنظيمات إرهابية مثل تنظيم الدولة الإسلامية، ضد أبناء ملتهم أيضا او المختلفين بانتمائهم الطائفي .. ويدمرون بدون تردد الآثار التاريخية والحضارية.

يمكن القول ان موضوع الهويات القومية تحول الى ما يمكن تعريفة في الفكر السياسي بـ"سياسة الهويات القومية"، وهو موضوع سياسي وحقوقي يطرح الحلول للنزاعات القومية على اساس مبدأ رفض السيطرة القومية المطلقة من طرف قومي على طرف قومي آخر (أو ديني) ويطرح مبدأ المصالحة، أو "الاعتذار والمسامحة" (مثل ظاهرة اعتذار العديد من دول شرق اوروبا، بعد سقوط أنظمتها الشيوعية، للشعب اليهودي عن تعاونهم مع مشروع الابادة النازي أو عدم مساعدتهم لإنقاذ مواطنين يهود).

بالطبع لا يمكن حصر الموضوع بأشكال محددة، بل نجد اساليب متعددة في الوصول الى حلول بين الجماعات المتنازعة، ومن هنا جاءت ألأهمية التي بدأ يكتسبها خطاب الهويات السياسي، خاصة في العقود الثلاثة أو الأربعة الأخيرة.

أهم ما يطرحه خطاب الهوية القومية، هو موضوع "الأنا" مقابل "الآخر"، وربما من هنا تكتسب ظواهر العنف الكلامي الذي يميزه، ويدفع بحالات كثيرة الى العنف بمختلف أشكاله الاجتماعي والسياسي.

لم أجد في التاريخ السياسي، ان موضوع الهوية القومية طرح بمثل ما يطرح في العقود الأخيرة من حدة واهتمام دولي. ويبدو ان وراء ذلك اسبابا وجيهة جدا بأساسها ان مفهوم الهوية لم تكن له في التاريخ الانساني، مثل ما يتمتع به اليوم من مركزية حقوقية وانسانية، تفرض نفسها على السياسة الدولية بقوة. ولا نبتعد عن الصواب اذا ربطنا ذلك بظاهرة العولمة التي حولت عالمنا الى قرية صغيرة في الكثير من الجوانب الانسانية أيضا.

وقد وجدت الكثير من الدراسات الأكاديمية التي تتناول الموضوع من زوايا علمية متعددة، ولكن نظريات الهويات وتميزها التي يطرحها الأكاديميون، مع كل أهميتها بما تكشفه من حقائق، لا تقود بالضرورة الى اعتمادها في الرؤية السياسية والتخطيط السياسي، في المجتمعات التي تواجه نزاعات قومية، رغم اعتراف النظام السياسي أحيانا بانه يجب اصلاح الوضع، ويبدو انه بين الاعتراف بواقع التمييز بين الهويات القومية المختلفة، وتحقيق المصالحة والمساواة، مسافة كبيرة، تتجاوز ما يفكر به العديد من السياسيين، وتحتاج الى صياغة متأنية وحذرة لخطاب سياسي غير تقليدي (بالأساس للأقلية)، يفرغ العوائق الفكرية والاثنية والنفسية والحقوقية من مفاهيم الطرف الآخر (الأكثرية).

تجارب الشعوب مليئة بأساليب متعددة للخروج من الصدام القومي الى التصالح، رغم ان الأمور ليست بالضرورة واضحة وثابتة ولا غبار عليها كما في النصوص، ولكن من المهم صياغة نهج سياسي يقود نضال الأقلية القومية، الى المساواة الكاملة في الحقوق، والميزانيات والتطوير.

ليس بالصدفة ان الخطاب القومي تحول الى الخطاب المركزي في الطرح السياسي العربي في اسرائيل، رغم إني ارى انها ظلت حركة مثقفين وبعض المتثاقفين، بمعنى ان الطرح لم يرق الى مستوى فكري وسياسي واضح المعالم للمتعاملين مع طروحاته.

 منطلقات أوساط واسعة من دعاة الهوية القومية للعرب في اسرائيل، هي منطلقات اثنية مغلقة لا تختلف عن منطلقات الأكثرية. أي ان مقارعة اثنية الأكثرية وعنصريتها بإثنية الأقلية وعنصريتها لا يقود الى جعل الهوية القومية موضوعا يصلح للحوار السياسي الجاد نحو ايجاد حلول أو حلول جزئية للأقلية العربية في اسرائيل، كمرحلة أولى في الطريق للحل الشامل للقضية القومية الفلسطينية بالأساس، بل يقود الى تحصن غبي للمتنازعين، كل وراء متراسه، لدرجة يبدو ان الأقلية (في حالتنا الأقلية الفلسطينية في اسرائيل) وقادتها، الذين يتحكمون بالمواقف، متمسكون بواقع التمييز والاضطهاد، وكأنه خيار سياسي مريح لنشاطهم الحزبي، ويرفضون البحث الموضوعي، مع الأكثرية (السلطة وأحزابها مثلا) للتقدم نحو بدء التغيير العميق في واقع التمييز، حتى عبر خطوات أولية لا تعطي الحلول الكاملة والمطلوبة، متجاهلين ان أي حل لن يكون فوريا وقاطعا. انما هي عملية تاريخية يجب ان تبدأ، والطريق اليها في حالتنا مليئة بالعوائق الصعبة التي تحتاج الى انتباه شديد في الخطاب السياسي، ولا أقصد التنازل عن الحقوق في المساواة وحقوق الانسان، انما طرح سياسي لا يثير خوف اوساط سياسية مختلفة في المجتمع اليهودي، يمكن تجنيدها لصالح مطالب المساواة وحقوق الانسان للفلسطينيين في اسرائيل.

ربما من هنا لاحظنا ان سياسة الأحزاب العربية والأجسام السياسية المختلفة، ترفض اوتوماتيكيا تقريبا كل اقتراح حكومي يحمل ذرة من امكانية التغيير للأفضل، وقد يكون أحسن نموذج على ذلك قرار حكومة اسرائيل السابقة (حكومة أولمرت) "بالتمييز الاصلاحي "في قبول العرب في خدمات الدولة (وظائف مختلفة) الذي رفض بصراخ سياسي عربي مستهجن وغير مفهوم حتى للمتابع للسياسات العربية في اسرائيل، وأهمل تنفيذه من السلطة أيضا بغياب سياسة ملاحقة عربية، ومن المستهجن أن صحيفة "هآرتس" العبرية، التي تعتبر صحيفة الفئات المثقفة والأكاديمية في اسرائيل، هي التي توجهت للمحكمة العليا لمعرفة مدى تنفيذ حكومة اسرائيل لقرارها المذكور.

الملاحظ أيضا ان طرح موضوع الهوية القومية في الخطاب السياسي العربي في اسرائيل، انطلق كخطاب شخصاني (اندفديوالي) متطرف، وتاريخيا أيضا هو خطاب اندفدوالي متطرف انطلق مع انتشار الفكر الليبرالي والأنظمة الدمقراطية في اوروبا، ربما ليس بالصدفة أن مطلقه في الواقع العربي في اسرائيل كان الدكتور عزمي بشارة، المتأثر حتى النخاع في العديد من طروحاته، بالفكر الليبرالي الأوروبي، ولكنه يحاول ان يخضع ليبراليته الفلسفية داخل خطاب قومي شخصاني مغلق لم يعد يلائم عصرنا، ولو انطلق في اوروبا اليوم لما اختلف عن خطاب الأحزاب القومية الفاشية الاوروبية.. في النهاية غادر وطنه الى امارة قطر (قاعدة للقوة الجوية الأمريكية والمخابرات الأمريكية).. ربما قطر هي مهد الفكر القومي لعزمي بشارة!!

قد يكون وراء هذا الطرح للهوية القومية في الواقع العربي في اسرائيل الرغبة الملحة أيضا في طرح سياسي مختلف عن القوة السياسية المركزية التي سيطرت لوحدها خلال العقود الأولى لدولة اسرائيل، على السياسة العربية في اسرائيل، وأعني الحزب الشيوعي بطرحه السياسي والفكري "الأممي والطبقي" شكليا.

في المجتمع العربي في اسرائيل أيضا يمكن ايجاد ترابط بين طرح الهوية القومية، والطرح الماركسي للهوية الطبقية، الطرح الذي تحول الى الخطاب الشيوعي المركزي في كل الأحزاب.

لا شك ان النكبة الفلسطينية فرضت قوتها في الطرح السياسي القومي على الحزب الشيوعي وفكره الطبقي، في الواقع العربي في اسرائيل، وفي العديد من الدول حيث تعاني الأقليات القومية من اضطهاد مبني على اسس اثنية.

كان الطرح القومي الشيوعي يتمترس، أو يغلف نفسه بالفكر الطبقي، ويحاول ان يوفق بين الطرحين. ومع ذلك كحزب ثنائي القومية (اليوم هو حزب قومي مع بعض الأفراد اليهود) خاض نضالا نظريا وتثقيفيا وسياسيا في جعل الفكر الطبقي والأممي البوصلة السياسية في تحليل الواقع السياسي، وفي طرح المهام النضالية. لا يمكن تجاهل انجازات الشيوعيين التاريخية ودورهم في صيانة الشخصية (الهوية) الوطنية للعرب في اسرائيل، بل وتطويرها وتعميق الوعي بها. وهنا لعب الشيوعيين دورا قوميا وليس طبقيا!!

  *****

لا يمكن ان نتجاهل ان مفاهيم الهوية، باتت تشكل نقطة ارتكاز لدى الأقليات في الكثير من المجتمعات على امتداد العالم الواسع. ليس لأن الهوية لم تكن مطروحة دائما كمعيار سياسي وثقافي واثني للحفاظ على الانتماء، بل لتحول الموضوع الى خانة تشغل حيزا كبيرا تتزايد مساحته في التفكير السياسي والاجتماعي، وبات يشكل اداة تأثير سياسية قادرة على تغيير العديد من المفاهيم السياسية السابقة، وانتاج اخلاقيات انتماء مختلفة، ورؤية فكرية جديدة لمفهوم الانتماء، وحدود هذا الانتماء، تؤثر على ولادة قيم جديدة، ودوافع جديدة لإقامة تنظيمات على قاعدة اثنية – وطنية او دينية وقومية شكلا.

 هذا الشكل يبرز كنقيض للرابط الانساني الاونيفيرسالي، ويميل للتركيز بـ"الأنا"   الفردي مقابل الآخر المختلف. ونجد في الكثير من الحالات، شبه توافق وتداخل في الهويتين القومية والدينية، او ان الواحدة تكمل الأخرى، الحالة اليهودية مثلا.

يزيد من قوة هذا الترابط الارتداد الى التاريخ والذاكرة التاريخية، والثقافية المشتركة، الأثنية والدينية. وكثيرا ما يجري تجاهل حقائق تاريخية في التشكيل والابداع الثقافي لصالح التواصل القومي والديني في تشكيل هويات مجتمعية.

في نفس الوقت نلاحظ تراجعا حادا، حتى الاختفاء في الفكر الطبقي، ولم يعد يشكل الانتماء الطبقي عاملا اجتماعيا أو سياسيا مؤثرا.

لا يمكن الاستهتار اليوم بمفهوم الهوية، في دولة مثل اسرائيل، ترفض الاعتراف بهويات قومية غير الهوية اليهودية، وتدفع نحو احتقان قومي لدى أقليات اثنية وقومية داخل اسرائيل، كالأقلية العربية الفلسطينية مثلا.

ليس سرا ان الهوية اليهودية الاسرائيلية تشكلت على اساس من الفكر اليهودي الليبرالي البرجوازي الأوروبي، وكان هناك رفض حاد لدى أوساط يهودية شرقية واسعة جدا من قبول هذا الفكر .. لكن الأجيال الجديدة اندمجت بهذا الواقع وتتخلى شيئا فشيئا عن تراثها الشرقي. ولا ابالغ إذا قلت انه ينعكس أيضا على واقع العرب في إسرائيل.

صحيح ان الفرق شاسع بين المجتمع اليهودي الأوروبي في اسرائيل، وبين المجتمع اليهودي الشرقي. ولكننا نكون أغبياء مطلقين إذا تجاهلنا ان الفكر الأوروبي الأكثر تنورا وتقدما وغناء وسيطرة على مؤسسات الحكم والاقتصاد، وهو متنبه الى ان الهجرة اليهودية حملت متناقضات عميقة في الهويات اليهودية نفسها. تناقضات اثنية وثقافية ولغوية وعلمية وحضارية بل ودينية أحيانا.

لكن الغباء الكبير أيضا الاستنتاج ان هذا دليل على تفسخ المجتمع اليهودي، ووقوعه بتناقضات غير قابلة للتجسير. ما أثبته المجتمع الاسرائيلي بأذرعته المختلفة، التعليمية والأكاديمية والأمنية والاقتصادية وشبكة واسعة من المؤسسات المتخصصة، بانه قادر على جعل هذه التناقضات ثانوية، وثانوية جدا، وتذويبها وصهرها، عبر خلق شروط اجتماعية انتجت جيلا اسرائيليا جديدا عن جيل الآباء المهاجرين، خاصة لدى يهود الشرق. أصبح مندمجا تماما في الهوية الاسرائيلية اليهودية الأوروبية، وأعتقد ان ظاهرة التنظيمات اليهودية الشرقية (الدينية الاثنية المحافظة) هي الصرخة الأخيرة في التمسك ببقايا الرموز المتهالكة أمام التطور الغربي العاصف الذي يشهده المجتمع الاسرائيلي في جميع المجالات.

واقع العرب في اسرائيل يختلف من منظار الهوية القومية المختلفة أيضا، ومن النظرة الرسمية اليهم كأقليات يريدونها أن تبقى على هامش المجتمع الاسرائيلي، ان مجرد عدم الاعتراف بالأقلية العربية في اسرائيل كأقلية قومية، لها هويتها القومية المميزة، يقود الى تشكيل براكين من الغضب والكراهية، لا تقل خطورة عن براكين الغضب من سياسة التمييز في الاستثمارات والميزانيات الرسمية وانتشار البطالة الواسع بكل ما يخص المجتمع العربي في اسرائيل.

لا اثق اليوم بالطروحات الحزبية القائمة حول الهوية الوطنية، ولم يفسر أي حزب شيئا عما يفهمه من هذه الهوية، عدا الشكليات. وارى انها ترمي الى الربح السياسي السهل في مجتمعها، بل والى الحفاظ على التمييز القومي والاضطهاد كعامل مريح لنشاط الأحزاب العربية السياسي.

هذه الفكرة طرحها العديد من زملاء يهود أيضا يؤيدون بكل قوتهم المساواة الكاملة للعرب والمشاركة الكاملة في السلطة للجماهير العربية في اسرائيل، والى الاعتراف بأن العرب في اسرائيل ليسوا مسلمين ومسيحيين وبدوا ودروزا، بل أقلية قومية عربية فلسطينية.

nabiloudeh@gmail.com

 

الناصرة مدينتي:

شهادة معاصرتاريخية وسياسية

نبيل عودة

  

*يمكن خدمة الناصرة بغض النظر إذا كان رئيس البلدية علي سلام او غيره*

شعب الناصرة شعب اصيل وطيب، شريف وشهم، ويعاقب من يستحق العقاب*

نبيل عودة

 نحن اليوم امام انتخابات غير عادية لبلدية الناصرة، الموضوع يهمني ليس من زاويته العامة فقط، بل من كوني ناشط ومساهم في تشكيل جبهة الناصرة الديموقراطية، وفي مجمل الحملات الانتخابية التي خاضتها منذ تأسيس الجبهة قبل الانتصار الهام عام 1975.

سأتحدث عن صحة الطريق التي قادتنا لتأسيس جبهة الناصرة، ومراجعة النفس، وعدم تزييف التاريخ إذا أردنا حقا مواصلة خدمة الشعب !!

 بين اوراقي تسجيلات عن احتفال بالذكرى 31 لانتصار جبهة الناصرة الدمقراطية، وانا كأحد الرواد الاوائل، نشاطا وتنظيما واعلاما، من حقي البديهي مراجعة النفس وان أقول كلمة حق (حسب التسجيلات والمقالات التي نشرتها آنذاك)، ولا انتظر دعوة أحد لأقول رأيي الصريح في هذا الحدث التاريخي العظيم في حياة مواطني الناصرة، الذين أسهموا في بناء الجبهة وانتصارها وجعلوا من هذه التجربة السياسية بوصلة لتغيير الواقع الاجتماعي والسياسي في المجتمع العربي داخل اسرائيل.

في اجتماع عقدته جبهة الناصرة عشية الاحتفال بالذكري 31 لانتصار الجبهة، ساهم فيها بالأساس المهندس رامز جرايسي، رئيس بلدية الناصرة آنذاك، الذي قال انه "علينا التأكيد على صحة الطريق ومراجعة النفس وكشف القناع عن كل مزوري تاريخ جبهتنا وشعبنا".

كلام سليم. هل نفذ منه شيء؟

التأكيد على صحة الطريق وعدم تزوير التاريخ كان مجرد جملة عابرة!!

كما ذكرت في مقالاتي السابقة، ساهمت بدوري المتواضع او غير المتواضع في جعل هذا البرنامج السياسي، بناء تحالف جماهيري واسع يوحد كل الفصائل السياسية والاجتماعية في الناصرة من اجل انقاذها من الواقع المأساوي الذي وصلته، اذ كانت مدينة مهملة، متخلفة عن تطوير مرافقها العامة وبناها التحتية، تعاني من نقص رهيب في تطوير المدارس والمراكز الصناعية، المدينة العربية الاولى وعاصمة الجماهير العربية، لكنها مدينة مهملة متسخة الشوارع، مرافقها التجارية يهددها الخراب .. وهي اشبه بالقرية البدائية .. تسودها الفوضى ويسيطر عليها التسيب وضرائب الأرنونة الباهظة رغم غياب الخدمات الأساسية.

من الطبيعي وقتها، ان يقود الحزب الشيوعي، التنظيم السياسي الأقوى والمؤثر الوحيد في الوسط العربي، وفي الناصرة خاصة، هذه المعركة لإخراج الناصرة من المصير الأسود الذي كانت تواجهه.

في تلك الايام العاصفة، كنت سكرتيرا للشبيبة الشيوعية في الناصرة وعضو قيادة الحزب الشيوعي في الناصرة، وتحت قيادة وتوجيه قائد الحزب الشيوعي في الناصرة الرفيق طيب الذكر غسان حبيب .. خضنا شيوعيي الناصرة واصدقاءهم وكل صاحب رؤية سياسية ثاقبة وكل القلقين على واقع الناصرة، معركة صدامية ضد "اللجنة المعينة" في البلدية ومن اجل ان تقر وزارة الداخلية موعدا لانتخاب مجلس بلدي جديد يخرج المدينة من الاهمال المترسب عبر سنوات طويلة ..

صحيح ان الاحتفال المذكور يتحدث عن الانتصار ال 31 للجبهة، ولكن ليسمح لي المهندس، رئيس البلدية الجبهوي آنذاك رامز جرايسي، الذي اعزه وأقدر مساهمته الهامة في وضع خطط التطوير للناصرة وتنفيذها، منذ كان نائبا للرئيس، وقدرته الممتازة في تجاوز الكثير من الأزمات البلدية، ليسمح لي ان اختلف معه حول مسألة هامة غابت عن الانظار.

الموضوع الاهم في مسيرة جبهة الناصرة، ليس انتصارها فقط، انما النجاح بتأسيسها وبنائها ورص صفوف الجماهير في هذا التنظيم السياسي، الاجتماعي والبلدي الرائع. هذا ما حقق النصر .. وبألم أقول ان تفكك هذا التنظيم على كل المستويات، المحلية في الناصرة والقطرية في اوساط الجماهير العربية، هو المأساة السياسية والاجتماعية التي تجعلنا ننظر الى المستقبل بقلق وحزن شديدين بضياع هذا الانجاز التاريخي وتحويله الى وقف على شخص فرد، واحتلال الشخصانية للدور المقرر في التنظيم السياسي، والتصفيق لمن يتربع على القيادة حتى لو قال كلاما مهينا وفظا ضد رفاق وحلفاء الامس.  هل واقع الجبهة اليوم، محليا في الناصرة، وقطريا في اسرائيل، يبشر بالتفاؤل السياسي؟ كان الانتصار من اجل تطوير الخدمات في الناصرة. واليوم من الخطأ إقرار المواقف بناء على من هو الرئيس. الناصرة هي الأهم بغض النظر إذا كان رئيس البلدية هو علي سلام او غيره، ان تحويل موضوع الرئاسة الى خلافات وصراعات شخصية لا يخدم الناصرة ولا أهلها. 

ان مراجعة النفس والنهج هي ضرورة إذا كانت الجبهة تحترم نفسها ومسؤوليتها حقا، لكني لا ارى هذه المراجعة تتحقق. بل عنجهية واستمرار في المبالغة والانتفاخ الفارغ رغم "قصر ديلك يا أزعر"!!

ان ما حدث لم يكن خطأ عابرا، بل كان نهجا ديكتاتوريا تسلطيا مدمرا .. حوّل النهر الشعبي الجارف الذي عشناه في بداية الطريق والانتصار الكبير عام 1975، الى حلقة بائسة تتآكل باستمرار، وضعها اليوم هو وضع العزلة والتيبس واجترار الشعارات وكسب الأعداء والعداوات.

تعالوا يا رفاقي، أمس وكل يوم، نتصارح.

 ماذا بقي من جبهة الناصرة؟

قامت الجبهة بعد نضال جماهيري وميداني لا يعرف التردد او الكلل .. الحزب الشيوعي، الذي قاده غسان حبيب في تلك الايام، خاض نضالا على مدار الساعة .. بدون مبالغة .. هناك ليال لم نعرف فيها النوم ونحن ننتقل من عمل الى آخر، من اجتماع مع مجموعة الى اجتماع مع مجموعة اخرى .. من نقاش حول خطط واساليب عمل يمتد الى اعماق الليالي، الى دراسة متأنية مسؤولة عن ملاءمة برنامج التحالف لكل الاطراف النصراوية وأخذ مصالحها بالاعتبار، الى دراسة جادة حول تشكيل القائمة التي تستطيع اولا كسب الشارع لتحقيق الانتصار .. لم نفكر بمكانتنا ومكاسبنا الشخصية، طرحنا مصلحة الناصرة واهلها وفي سبيل ذلك الغينا حتى انفسنا ..  واستعراض الاسماء التي شكلت القائمة الجبهوية الاولى هي أفضل شهادة لما اسجله في شهادتي التاريخية والسياسية هذه.

ساهم الحزب الشيوعي بعقلانية وتصميم عبر نشطائه واصدقائه المجندين، في بناء الاجسام الجبهوية التي شكلت فيما بعد الجسم الجبهوي الموحد الذي عرف باسم "جبهة الناصرة الديمقراطية"، اقيمت رابطة الجامعيين ابناء الناصرة، واقيمت لجنة التجار والحرفيين في الناصرة، واقيمت لجنة الطلاب الجامعيين ابناء الناصرة، عمليا شكلوا سوية مع الحزب الشيوعي تحالفا نصراويا شاملا. عملية اقامة وبناء المؤسسات المشاركة في تأسيس الجبهة في الناصرة، شهدت نهوضا سياسيا وثقافيا جبارا امتد عبر كل الوسط العربي، وحول الناصرة الى ميدان تجربة لما هو جديد وطليعي ... بل والكثيرين من الجامعيين والطلاب من خارج الناصرة تجندوا تلقائيا في التيار السياسي الجارف في الناصرة وبدأوا يقيمون التنظيمات الموازية في بلداتهم استعدادا للسير على طريق الناصرة الجبهوي .. الى جانب قضية البلدية جرى تنشيط الحياة الثقافية في الناصرة، عقدت عشرات الندوات الثقافية، محاكم شعبية طرحت فيها قضايا متنوعة تخص مجتمعنا العربي. أين نحن اليوم من ذلك؟ حتى المسرح الذي كان ناشطا في المركز البلدي (مركز محمود درويش اليوم) بإنتاج مسرحي واسع، ويحضر عروضه الاف المواطنين، جرى شله وحرقت كل ديكوراته .. واضطر مديره المخرج المسرحي القدير صبحي داموني الى مغادرة الناصرة الى فرنسا حزنا ويأسا (ولي عودة لهذا الموضوع)!!

الأكثرية الساحقة جدا من شعب الناصرة التفت حول هذا الإطار الوحدوي الجبار، وكان الانتصار التاريخي الباهر عام   1975علامة فارقة على بداية عصر جديد. وصلت الجبهة الى قيادة بلدية الناصرة، أكبر مدينة عربية في اسرائيل، والعاصمة السياسية للعرب في إسرائيل، ولأول مرة يقام جهاز بلدي لا يتبع أحزاب السلطة.

 السؤال المؤلم والاساسي في محاسبة النفس التي دعى اليها المهندس رامز جرايسي في الاحتفال ال 31 لانتصار الجبهة، تتعلق بما حدث بعد عام 1975.

بعد استلام ادارة البلدية بستة اشهر، بدأ التصدع .. وفيما بعد خرجت رابطة الجامعيين من الجبهة ..  لا اريد ان اذكر اسماء الحلفاء نواب الرئيس واعضاء البلدية واعضاء قيادة الجبهة الذين ابتعدوا عن الجبهة .. او اسماء الشخصيات الجبهوية من الأكاديميين ورجال الدين الذين هوجموا واهينوا بغير وجه حق. واستمر التفكك .. تفككت، او حلت، لجنة التجار والحرفيين، وتبعثرت رابطة الطلاب الجامعيين، وطرد المرحوم غسان حبيب، الدينامو الذي ساهم بالدور الاساسي في اقامة الجبهة وتنظيم مخيمات العمل التطوعي (الأعراس الوطنية لكل أبناء الشعب الفلسطيني من الجماهير العربية في إسرائيل والمناطق الفلسطينية المحتلة) طرد غسان حبيب بشكل مهين وغير ديموقراطي كان بسبب خلافه على الطريق الذي ساد نهج تفكيك التحالفات التي تشكلت الجبهة على أساسها .. لا اقول ان غسان بلا اخطاء، ولكنها اخطاء شق طريق جديدة عبر التجربة والتصحيح ..

بعد التخلص من غسان حبيب انسحب المئات من الشيوعيين والجبهويين ومن كل فئات السكان ..  وتحولت الجبهة الى مجموعة مغلقة .. بلا آفاق سياسية .. وكنت على ثقة ان بقاء ادارتها في البلدية مسألة وقت!!

انا شخصيا لا استطيع ان ابقى على الحياد لأني مرتبط بمصير مدينتي وشعبي ..  تنازلت عن الكثير من انتقاداتي، وتجندت، اعلاميا في عدة معارك بلدية مصيرية الى جانب الجبهة .. ومراجعة لأرشيف صحيفة "الاتحاد" (صحيفة الحزب الشيوعي) وصحيفة "الاهالي " (التي عملت فيها كنائب لرئيس التحرير) هي الشهادة الحية للدور الاعلامي الذي لعبته أنا شخصيا في الانتخابات البلدية، قبل ان تبدأ مقاطعتي الغبية. قمت بدور التسويق والدفاع عن الجبهة رغم عدم قبولي للتصرفات التي قادت الى تفكيك هذا الإطار السياسي الجبار.

لماذا انفض الحلفاء الجبهويين بالعشرات والمئات وشكلوا قائمة بديلة (التقدمية) أنجزت نجاحا هاما؟ والأهم ان الخلافات عمقت التباعد والتفكك والخلاف بين أبناء الناصرة.

 الا يستحق هذا الامر فحصا دقيقا ومصارحة بالأسباب، نقدها وإعادة رص الصفوف على القاعدة الفكرية والسياسية والتنظيمية التي بنيت الجبهة في الناصرة على أساسها؟

 ربما انا شخصيا لا اعرف كل التفاصيل او لا اذكرها بدقتها اليوم .. ولكنها كانت الحد القاطع بين تاريخين. تاريخ الإطار الوحدوي وتاريخ التخلي عن الحلفاء الذين معهم صنعنا اهم صفحات في التاريخ السياسي الحديث لشعبنا ولمدينتنا -مدينة الناصرة بكل ما تحمله من مكانة مركزية للعرب في اسرائيل.

لا بد لي من القول ما هو مؤلم لنا جميعا، ان الانحسار الحاد والمذهل للجبهة كان عقابا طبيعيا من الشعب للجبهة .. التي تحولت اليوم الى جسم غير اساسي ولا يتجاوز الاجسام الاخرى بتأثيره السياسي او الاجتماعي او الثقافي .. ان تحويل الجبهة الى تنظيم لا هم له الا التصفيق للزعيم قتل الجبهة .. ان ما جرى خلال السنوات الثلاثين الماضية، ليس تراجعا، ليس انحرافا، بل للأسف الشديد، هو اغتيال للتجربة الوطنية الدمقراطية الشعبية، الشعب كان هو البطل الحقيقي، وليس القادة، وهنا من الضروري الفهم الكامل والواضح للأدوار التي لعبها جيل المؤسسين وقادة البلدية .. اذا اردنا حقا ان لا نزور التاريخ، لأن تزويره يعني اعداد النعش لهذه التجربة التاريخية الفريدة والعظيمة. هل حقا وصلنا الى هذه النقطة المفصلية؟

هناك ضرورة اليوم، بعد سقوط الجبهة من إدارة بلدية الناصرة، لتلخيص التجربة على أمل ان نرى نهضة جديدة لهذه التجربة .. والاسباب ليست سرا على أحد .. رغم إني اعتقد ان ما اتوقعه هو من باب الاحلام.

ان شعب الناصرة شعب اصيل وطيب، شريف وشهم، ويعاقب من يستحق العقاب ..

 ان الشجاعة السياسية تعني اجراء المراجعة للمسيرة باستقامة، إذا كنا حقا نريد مواصلة النضال لخدمة الشعب، وخدمة هذه المدينة التي تستحق كل تضحية وكل عطاء ... وليس فقط الوصول لكرسي رئاسة البلدية.

رئاسة البلدية هي وسيلة وليست هدفا فقط. خسرتم رئاسة البلدية؟ هل جرى بحث جاد للتجربة الجبهوية، سابقا وحاليا؟

يمكن خدمة الناصرة بغض النظر إذا كان رئيس البلدية هو علي سلام او غيره.  رئيس جبهوي ليس هو الهدف بل ناصرة يعمل الجميع على تطويرها وخدمة مواطنيها. وهذا للأسف ما نفتقده!!

nabiloudeh@gmail.com

 

اسطورة

"الجماهير الشعبية"

نبيل عودة

 

 

يمكن القول ان انتخابات السلطات المحلية في البلدات العربية قد ابتدأت.

في مدينة الناصرة، المدينة المركزية للعرب في اسرائيل، أعلن عدد من الأشخاص عن جاهزيتهم لخوض انتخابات بلدية الناصرة، طبعا الهدف رئاسة البلدية وليس أي دافع تطويري.. هذا مؤجل لما بعد فرز الأصوات !!.

من المؤكد ان الوضع في القرى العربية اكثر حرارة حيث تجري المنافسة  بين مرشحي العائلات بالأساس، وطبعا لا اتجاهل تأثير التنظيمات الاسلامية ودورها في هذه الانتخابات.

السؤال الذي يطرح نفسه: أين دور الأحزاب السياسية، خاصة الجبهة، التجمع، الديمقراطي العربي وغيرهم من تنظيمات (غير الطائفية)،  نعرف نشاطها لكن دورها  يتلاشى في أخطر وأهم قضية  في مجتمعنا: انتخابات السلطات المحلية.. اذا انها تفقد تأثيرها المباشر وهي ليست ذات دور في إدارة شؤون الحكم المحلي..أعني انها فقدت في السنوات الأخيرة مكانتها الرائدة في إدارة السلطات المحلية العربية!!

لا بد من التأكيد ان المشاركة في المنافسة على مقاعد ورئاسة السلطات المحلية، هي حق ديموقراطي لا غبار عليه، لكني اتساءل ، هل الهدف هو خدمة البلدات العربية وتطورها ام ان المنافسة لها طابع قبلي ،عائلي او ديني بات يسود مكان الطابع السياسي؟

المعيار العقلاني والسليم هو انتخاب الشخص المناسب القادر على ادارة جهاز بلدي والتخطيط للتطوير، وليس مجرد تحويل كادر السلطة المحلية الى كادر للرئيس المنتخب... وهي ظاهرة سادت حتى تحت ادارة الأحزاب السياسية. لذلك لوم القوائم العائلية هو نوع من رفع العتب. اذ لا ارى أي نشاط سياسي ضد العائلية السياسية والطائفية السياسية، وهي ظواهر لا تخدم مجتمعنا بالمفهوم الاجتماعي الواسع، بل تقود الى زيادة ظواهر الشرذمة وربما تعميق ظاهرة العنف أيضا!!

هناك حقيقة لا يمكن نفيها، وهو ان وصول رئيس على اساس عائلي او طائفي، لم يغير من واقع السلطة المحلية ، لم تتوقف المشاريع، لم يجر تراجع في النشاط البلدي وربما التغيير كان في كادر السلطة المحلية فقط.

ما زلنا نسمع حتى اليوم قوى اليسار الراديكالي، والحركات القومية تطرح شعارات حول ما تسميه "الجماهير الشعبية". وتدعي انها قاعدتها السياسية  والنضالية.  

يبدو لي بثقة ووعي كامل، ان مفهوم "الجماهير الشعبية" هو وهم موروث، او حلم سياسي رطب لم يثبت نفسه اطلاقا، بل هو غير قائم الا في مخيلات قادة انتهى زمنهم وبات من الصعب ان يستوعبوا ان احلامهم الرطبة هي مجرد احلام غير قابلة للتحقق. الملاحظة الهامة هنا ان تلك المفاهيم الوهمية أضحت تشكل جزء كبيرا من الفكر السياسي للقيادات الجديدة. طبعا دون ان يفكر أي منهم ان كانت تلك النظريات صالحة اليوم ايضا رغم انها تاريخيا لم تكن الا تخيلات ذهنية.

هل كلامي بعيد عن الواقع؟

اذن فسروا لي كيف خسرت الأحزاب السياسية مكانتها الطليعية بإدارة السلطات المحلية، رغم مئات أعضائها ونظرياتها ودورها السياسي والاجتماعي في بلداتها؟ كيف فقدت مكانتها القيادية في السلطات المحلية؟ كيف هُزمت من افراد لا احزاب وكوادر نشطاء منظمين تدعمهم؟

النماذج امامنا ولا تحتاج الى تكرار.

هذه الانتخابات أيضا ستجري بظل الفقدان الكامل للتنظيمات الحزبية لدورها في السلطات المحلية، حتى المدينة الأكثر مسيسة في الوسط العربي، لم تعد "الجماهير الشعبية" للتنظيمات الحزبية قادرة على حسم المعركة الانتخابية لصالحها.. لأنه بصراحة لا توجد هذه الجماهير الشعبية الا في المخيلات !!

صحيح ان قوة هذه الأحزاب تبرز في كوادرها المنظمة. لكن لا شيء أبعد من ذلك. لا شيء يجعلها مميزة... خاصة بعد تجربة رؤساء ليسوا من تنظيمها، اثبتوا انه يمكن ان تدار السلطة المحلية بشفافية ووضوح وابواب ليست مغلقة امام "الجماهير الشعبية"!!

اذن هل من وجود حقيقي في الشارع الشعبي لما يسمى "الجماهير الشعبية" ؟ لنفترض انها موجودة. هل نجحوا حقاً في تجنيدها بمعاركهم السياسية؟

 

نبيل عودة

 

 

 من أجل عقلنة

 مفاهيمنا الثقافية

نبيل عودة

 

إتهمني بعض المثرثرين شعرا ونقدا بحوار في برنامج ثقافي بالراديو ، باني فقدت البوصلة ، ولم اعد أجاري عصري  ومن هنا نقمتي على الإبداعات الحديثة ، خاصة الشعر.. الذي يملأ صحافتنا.

ساءني أني لم أعط الفرصة لأفهم تهمتي وأقدم دفاعي ... كنت قد شاركت  بمداخلة قصيرة عبر التلفون، انتقدت فيها استعمال اصطلاحات لم تنشا القاعدة المادية لتصبح جزءا من ثقافتنا وخاصة مصطلح  الحداثة، الذي صار شرشوحة من كثرة استعماله  دون فهم الواقع الثقافي والاجتماعي الذي نشأ به هذا الاصطلاح، وإطلاقه على كل نص أدبي غير واضح  ومفكك. اتهمني احدهم ان مشكلتي اني لم استوعب الحداثة وتفاعلاتها في الأدب الحديث ، وكل ما نجحت في إيصاله للزميلين ، الضميرين المستترين ، بأن مفهومهما للحداثة عقيم ، وإذا كانت الحداثة تعني قطع التواصل بين القارئ والأدب ، فبئس مثل هذه الحداثة ... ولن أصوت لها في الانتخابات !!

اعترف ان الزميلين تكلما معي باتزان وهدوء ، ولا أريد كشف الأسماء لأن ما يهمني ليس الأشخاص بل الجانب الفكري والثقافي من الموضوع. ...

عدا قلة من المبدعين يكاد يكون غياب كامل للأعمال الأدبية المثمرة على صفحات الجرائد ... واعترف أني حين عملت نائبا لرئيس التحرير ومحررا أدبيا في صحيفة "الأهالي " رفضت بقوة نشر اي عمل أدبي مما سماه الزميلان وراء الأثير بالحداثة الأدبية او الشعرية .

إقرأوا مثلا هذا المقطع:

" سأحمل حبك سرا صغيرا

يؤانس قلبي الحزين الكسيرا

فهل تقبلين ،

بقلبي الكسير

يتوج بين يديك أميرا؟!"

هذه احدى قصائد الشاعر حسين مهنا ( من قرية البقيعة الجليلية ) نشرت في العدد الثالث من مجلة "المستقبل " ( مجلة فكرية ثقافية شهرية أصدرها وحررها نبيل عودة بالتعاون مع الكاتب والمفكر المعروف سالم جبران )

من يستطيع ان يقول أنها ليست شعرا ؟!

وفي قصيدة أخرى نقرأ هذا المقطع :

"وتمر يداي

على جيدك المرمري

فيزهر ورد وجنتيك

وينطق صمت

يفوق بيان الكلام  

وسجع الحمام

وهمس المطر.. "

هذه مقاطع لو طاوعت نفسي لنشرتها كاملة لأدلل على ما افهمه من الحداثة ، وعلى ما لا يفهمون .. إقرأوا معي هذا التجلي لحسين مهنا :

"سألتك : لا تقتلي الشعر عمدا

بطول التمني

وبعد الرجاء

ولا تتركيني أسيرا لطيفك هذا المساء

وكل مساء

تعالي فما زال في القلب بعض اخضرار

سينزف وردا

يعيد إلى الحب ما ضيعته الدروب

وللشعر قيثارة الحب والكبرياء "

هذا الشعر يحمل من الحداثة بمفهومها الأدبي أكثر من كل القصائد الغيبية لغة ومضمونا. والأهم انه لا يحتاج الى جهابذة النقد لتحليله ، لأنه شعر يتدفق كالماء بلا ضجيج، ويتغلغل بجماله ورونقه في وعي القارئ وأحاسيسه. وهو ، وهذا الأساس ، لا يحتاج الى مثقف عبقري ( نابغة عصره ) ليفهمه ويشرحه للقراء المساكين ،إذ ما قيمة الشعر حين تصبح قراءته مثل حل لغز الكلمات المتقاطعة؟...  

أردت أن استعمل بعض "الجواهر" التي تقصفنا بها "الفانتومات الأدبية" ب "أم القنابل" ، ولكني لا اقصد التشهير ، وأخاف ان تبدو مقارنتي بين شاعر حقيقي مثل حسين مهنا ، وناظمين بلا شعر .. تشهيرا فيهم ، أو إقلالا من قيمة شعر حسين مهنا . المقارنة لا تجوز إلا بين أنواع من نفس القيمة ، واترك المقارنة للقارئ الذي ما زال يجرؤ على المغامرة ...إذا تبقى لدينا مثل أولئك القراء ولم "يطفشوا" بعد .

تيار الحداثة او تيار ما بعد الحداثة ... هي تيارات تستعمل في ثقافتنا  خارج مسارها . الحداثة هي بجوهرها عملية تنوير اجتماعي وثقافي وفكري. مجتمعنا ، وكل المجتمعات العربية عامة ، ما زالت على ضفاف الحداثة، وعدا بعض المثقفين ... وقليل من الأدباء المبدعين ، ما زلنا اجتماعيا وفكريا نعيش في مجتمعات تحت سيطرة او تأثير وتحكم الفكر الأصولي المتطرف . وحتى على المستوى السياسي تتحكم بمجتمعاتنا قوى تفتقد للتوازن السياسي والفكري والثقافي . السيطرة للأسف ليست لحركة الإصلاح والتنوير العربية، إنما للقوى الظلامية ... ما زلنا نبحث ونتعارك حول السماح للمرأة بقيادة السيارة ... ولا نقبل الآخر المختلف، نفجره إذا استطعنا،  ونعاني من الرقابة الفكرية المتخلفة على الأعمال الأدبية، ويصل الأمر الى سجن المبدعين ومصادرة أعمالهم، وما زلنا نعلم طلابنا في الهندسة ان "المتوازيان لا يلتقيان إلا بإذنه تعالى" (حتى بإذنه لا يلتقيان!!) ، وما زلنا نطالب بإصلاح التعليم وتحرير عقل الطالب من أسلوب التلقين والإيمان الأعمى بلا وعي، ومجتمعاتنا ما زالت في أدنى مستويات الفقر دوليا، وتعاني من انتشار هائل للأمية ،خاصة بين النساء، هل يمكن تربية جيل جديد متنور بأحضان أمهات جاهلات؟

ونتحدث عن الحداثة ... وما بعد الحداثة ؟! نملأ صحافتنا شعرا لا شعر فيه ونقدا لا نقد فيه... هذا ليس دليل الحداثة إنما دليل انفصام ثقافي مع مجتمعنا ، بدل ان نوقفه نزيده اتساعا ب " العبقريات الفريدة " التي تطغى على النشر . ان ثقافة الحداثة أعزائي الأدباء لا تجيء ببضع خربشات شعرية او نثرية او نقدية ،إنما هي معركة تنوير ما زلنا على ضفافها ... استغرقت أوروبا مئات السنين من الصراع مع الأصولية المسيحية للقرون الوسطى ، ومع ذلك ما زال الغرب يعاني من أزمة معنى الحياة ومعنى الوجود ، مما يعني ان التطور الاقتصادي والأكل والمشرب والمتع الجسدية ، ليسوا كل شيء ، وهي مشكلة تختلف مع مشكلة الإنسان العربي   الذي ما زال يبحث عن إشباع جوعه أولا.

ان المحاولة للتقدم دون فهم أهمية عصر التنوير (الرينيسانس)الذي حرر الإنسان من التخلف الاجتماعي والعلمي والقوى الظلامية ، ووضع مستقبله بين يديه، وغير أولويات حياته ، وحرره من القيود على تطوير الفكر والعلوم والاقتصاد والثقافة وضاعف أوقات راحته وقدراته الاستهلاكية بمختلف أنواعها ، هي محاولة عقيمة ومحكومة بالفشل .

 أصبح مصطلح الحداثة تبريرا لغموض الكثير من النصوص الأدبية وغياب المضامين منها، وأصبح الغموض تقليعة نعلق عليها كل غسيلنا الأدبي الوسخ وكل عاهاتنا الإبداعية ونبرر بها أزمتنا الأدبية بمصطلح الحداثة.

ماذا تعني الحداثة؟ ولماذا تطورت في أوروبا وليس في شرقنا التعيس؟

 ان الحداثة هي وليدة مجتمع بشري متطور اقتصاديا ، ثقافيا، فلسفيا وعلميا، وهو ما لم تنشا له قاعدة مادية في ثقافتنا ومجتمعنا، وما كان للحداثة ان تنشا بدون الثورتين البرجوازية والليبرالية، وبدون الفكر الثوري الذي أطلقة كارل ماركس..

 ان الثقافة لا تعني الإبداع الأدبي فقط، بل أيضا إنتاج الخيرات المادية التي يحتاجها الإنسان. رجاء لا تقحموا الحداثة وانتم تجهلون نشأتها، تجهلون القاعدة المادية والاجتماعية التي شكلت مضامينها، وتجهلون الفكر والنظريات الفلسفية  التي انطلقت منها.

إن مفاهيم الحداثة ليست مميزا للأدب فقط ... وهذا ما يجب أن نستوعبه قبل ان نثرثر ونضفي الحداثة على أعمال غير ناضجة!!

nabiloudeh@gmail.com

 

 

 

 

 

شذرات فلسفية

 

نبيل عودة

رؤية

الفلسفة هي الوعي.. وتمثل الأساس النظري لرؤية ومكانة الانسان في العالم. والفلسفة هي الاشارة الأولى لانفصال عالم العمل الذهني عن العمل الجسدي. بمعنى آخر، بالتفكير الفلسفي يمكننا إدراك حقائق عن الكون والحياة عبر إدراك ماهية الأشياء. أي لا يمكن ان ندرك شيئا يفتقد للمنطق. لا يمكن ان نصدق ان الإنسان قادر على الطيران بدون آلة. لا يمكن ان نصدق ان البقرة تلد حماراً. لا يمكن ان نصدق ان هناك إنسان يعيش على ثاني أكسيد الكربون.

 

الادراك

الإدراك هو تكوين صورة متكاملة لكل مواصفات الشيء، مثلا طاولة، لها مواصفاتها.. أي اختلاف في الشكل لا يلغي المواصفات.. هذا يعتبر إدراكاً لشيء، أي ان الإدراك يتّسم بالثبات والاستقرار النسبي وهو غير ممكن بدون وعي الانسان.

 

اللوجيكا

العلم كما تعلمون هو ميدان يبحث في مختلف جوانب الحياة بصفتها نسقاً متكاملاً، وهو أحد أهم ميادين النشاط البشري. لكن للعلم منطقه، منطق العلم... تعبيره اللاتيني "لوجيكا". اذن اللوجيكا هي المنطق العلمي.. والمنطق العلمي يرفض أي منطق آخر لا يعتمد على المعرفة والإثبات المدرك وليس بالاعتماد على اللغو والحكايات والتخيلات مهما كان مصدرها ومهما كان تقييمها عظيماً من البعض.

لا توجد ظاهرة في الطبيعة او الحياة او العلوم أو المجتمع، او عالم السياسة.. لا تفسير لها.. قد يكون تفسيراً ناقصاً، لكن له اسسه التي تقود الى اكتمال معرفة الظاهرة. من هنا اهمية الفلسفة أيضا لأن الفلسفة هي انتصار العقل على النقل والتأويل. اتركوا الحكايات للعجائز، لا شيء يخسرونه ولا شيء جديد يكسبونه. اما ابناء الجيل الجديد فقد يخسرون عقولهم وتقدمهم نحو القمة اذا لم يجعلوا من "اللوجيكا" – المنطق العلمي... مقياسا للحقيقة وقاعدة عقلية في قبول او رفض الطروحات المختلفة.

 

الطريقة الانديكتيفية

تعتبر الطريقة الانديكتيفية افضل الطرق للوصول الى الحقيقة، تعني هذه الطريقة دراسة المعطى الواحد وصولاً الى سائر المعطيات، البحث في تفاصيل كثيرة ومقارنتها ببعضها البعض، من أجل استخلاص القاسم المشترك بين كل المعطيات التي تجمع. مثلا جمع التفاصيل المختلفة من ساحة جريمة ما، مقارنتها يقود الى استخلاص نتائج معينة تقود الى كشف الحقيقة او تعطي الاتجاه المطلوب للوصول الى الحقيقة. بذلك مثلا برع المحقق الاسطوري شارلوك هولمز في حلّ ألغاز الجرائم المعقدة. صحيح ان شارلوك هولمز من عالم الخيال القصصي ولكن نفس الطريق متبعة اليوم في أقسام الشرطة التي تحقق بالجرائم. نفس الطريقة متبعة اليوم في العلوم الطبيعية على الأخص، اذ عبر التجارب والمراقبة واستخلاص القاسم المشترك للظاهرة أو الظواهر الطبيعية، نصل الى إقرار قواعد وقوانين علمية. اذا اتبعتم نفس الطريقة في تفكيركم بالأشياء والقناعات الموروثة او الطارئة ستصلون الى حقائق جديدة. بدون ذلك تفتقدون لأهم مميزات التفكير.. عقلكم مصادر لأساطير وحكايات عجائبية تلغي فائدة عقولكم...تستصعبون التخلص من الأساطير والقصص الغرائبية؟ اذن اذهبوا لتكنيس الشوارع...

 

فلسفة المعنى

لو تحدثنا عن معنى "فلسفة المعنى" فإننا سنواجه اتجاهات عديدة متناقضة، سأشرحها لكم بجملتين: "المرأة ترتب البيت قبل حضور الشغالة، الرجل يرتب السرير بعد مغادرة الشغالة". اذن لكل حالة او شخص معنى مختلف من الشغالة.. ودلالة المعنى تظهر في تصرفاتهم.

اذن معنى فلسفة المعنى يختلف. تماما كما ان المرأة تحب ان تسمع كلمة "أحبك" بينما الرجل يحب ان يسمع كلمة "أريدك". هنا يجب ان ننتبه للمدلولات المختلفة من وراء المعاني المختلفة أيضا.

كيف نوفق بينهما؟ هل يتوهم شخص عاقل انه يمكن التوفيق بين المعنيين والمدلولين؟!

ستفشلون عندما تحاولون. ماذا يعني الزوج لزوجة ملت من زوجها بعد سنوات طويلة؟ ماذا ستقول له حتى لا تكون غبية وفظة؟ عليها ان تختار مدلولاً مناسباً لمعنى مللها. ستقول له: آه يا زوجي الحبيب، انت تذكّرني بالقارب البحري الذي ركبناه أثناء شهر العسل قبل ربع قرن. ليس لزرقة عينيك الشبيهة بزرقة البحر، وليست بسبب قمصانك الواسعة الجميلة التي تشبه شراع القارب، وليس بسبب شعرك الغزير الناعم الذي يتطاير في الريح، والسبب يا زوجي الحبيب اني كلما أراك أصاب بالغثيان الذي اصابني بالقارب.

 

الشهوة

1-  العقل عدو الشهوة، الانسان الذي تحركه شهواته لا عقل له.

2-  سيطرة الانسان على شهوته تبدأ بالمأكل والمشرب.

3-   من تقوده عيناه يتميز بعقل منفعل وليس فعالا.

4-  ابقراط- فيلسوف اغريقي قال: من المفضل فحص الشهوات حسب السؤال التالي: ماذا يحدث لي اذا استجبت للشهوة وماذا يحدث اذا لم استجب؟

5-  ديمقريطوس- فيلسوف اغريقي قال: اذا عرفت كيف تتوجه لأعماق نفسك تجد ثروة من القوة التي تمنعك من مجمل شهواتك السيئة.

6-  أرتور شوبنهاور (1788 – 1860) فيلسوف ألماني تشاؤمي قال: مقابل كل شهوة حصلت عليها تبقى على الأقل عشر شهوات غير محققة!!

 

الانسان

1-  ارسطو فيلسوف اغريقي قال: الانسان هو المواطن في المدينة (الدولة).

2-  افلاطون فيلسوف اغريقي يقول: على الإنسان - الذي ينتمي إلى عالمين أن يتحرر من الجسم (المادة) ليعيش وفق متطلبات الروح ذات الطبيعة الخالدة.

3-  فرانسيس بيكون ( 1561 - 1626) فيلسوف إنجليزي، معروف بقيادته للثورة العلمية قال: بنو الانسان ليسوا الحيوانات التي تمشي بقامة منتصبة، انما آلهة من ابناء الموت.

4-  مارتن هايدغر - فيلسوف ألماني (1889 - 1976) قال: اقرار ماهية الانسان لن تكون اطلاقا مجرد جواب بل هي دائما السؤال.

  5 - ديفيد هيوم (1711 - 1776)، فيلسوف واقتصادي ومؤرخ اسكتلندي قال: الانسان هو العدو الأكبر للإنسان.

6     -يعقوب كاتسكين - (1882 – 1948) فيلسوف يهودي (روسيا) قال: أكثر مما يعرف عن قيمة الانسان الكبرى يعرف أكثر بصغائره.

7     رأيي الخاص: الإنسان هو الإله ... لكنه نسي ذلك وعبد إله آخر.

 

الأخلاق

1-  فرانسيس بيكون قال: كل فلسفة أخلاقية جيدة، ليست الا خادمة للدين.

2-  يشعياهو ليبوفيتش قال: الحكم الأخلاقي يتعلق بالفعل نفسه وليس بنتائجه.

3-  المفهوم الماركسي: الأخلاق هي شكل من اشكال الوعي الاجتماعي، مؤسسة اجتماعية تقوم بتنظيم سلوك الناس في كافة ميادين الحياة.

4-  الأطيقا (كلمة يونانية تعني علم الأخلاق) بدأت تتشكل منذ العصور القديمة وكانت تعتبر جزءا من الفلسفة (علما فلسفيا)، شهد تاريخ فلسفة الأخلاق صراعا واسعا بين المفاهيم التي تقول ان الأخلاق تتحدد بناء على ارادة ربانية (أي لا تفسير منطقي لها او انها تتحدد بناء على تطور الوعي الفردي والجماعي للإنسان وعلاقته بالوسط المحيط به.

5-  ثراسيماخوس فيلسوف اغريقي قال: أن الأخلاق ما هي إلا مجموعة قرارات وقيود  يفرضها أصحاب السلطة والقوة على شعوبهم

6-  سقراط فيلسوف اغريقي  قسم نظريته الأخلاقية إلى قسمين. الأول  يقول بأن مشكلة الأخلاق يمكن أن تحل عندما نفهم طبيعة النفس البشرية. الثاني، يقول بأن فهم طبيعة النفس البشرية تكون ممكنة، عندما نقوم بدراسة المدينة أو المجتمع.

7-  رأي شخصي: ما هو صحيح أخلاقيا أمس لم يعد صحيح بمجمله  اليوم، وما هو صحيح اليوم سيتغير الكثير منه في المستقبل .

 

الأمل

1-  رالف أمرسون  (1803-1882) أديب وفيلسوف أمريكي قال: ان قلة الأمل والشك هما انتحار بطيء

2-  فرانس بيكون قال: الأمل هو وجبة افطار جيدة ولكنها وجبة عشاء سيئة.

3-  جوزيف زوبر (1754 - 1824) كاتب فرنسي قال: الأمل هو الحصول على قرض من السعادة.

4-  سانكا فيلسوف روماني (ولد4 سنوات قبل الميلاد) قال: الخوف رفيق للأمل

5-  يعقوب كالتسكين الأمل هو الروح الإضافية للمساكين.

6-  شبينوزا فيلسوف يهودي هولندي(1632 – 1677)قال: لا يوجد أمل بلا خوف ولا خوف بلا أمل.

7-  راي شخصي - معظم الآمال هي أحلام .. لا تتحقق الا في النوم !!

 

الهدف

1-  اينشتاين عرف "الهدف" بهذه الكلمات: تطوير الوسائل وخلط الأهداف هو ما يميز زمننا !!

2-  وصف الفيلسوف الاغريقي ارسطو الهدف بقوله: من السهل اخطاء الهدف ولكن من الصعب اصابته!!

3-  الفيلسوف فرانسيس بيكون قال: ليس من المحبذ الركض بمسار محدد عندما لا يحدد الهدف نفسه بدقة!!

4-  الفيلسوف الفرنسي ميخائيل دي مونتين(1533- 1592): النفس التي لا هدف ثابت لها تفتقد للطريق !!

5-  الكاتب الروسي تولستوي قال: يجب العيش من اجل هدف مشترك ، هكذا تعيس ذوات الأجنحة ، وهكذا تعيش النباتات.

6-  قاموس الفلسفة الماركسي: الهدف هو استباق مثالي  وذهني لمجمل النشاط وسبل بلوغه بواسطة ادوات معينة.

 

الحب

1-  قال احد الفلاسفة ان الجنون هو الطريق للحب...ويقول مثل روسي ان الحب هو مجنونان يصنعان الثالث.. إذن الجنون مرض لا شفاء منه للإنسان!!

2-  الحب لا يعني التسلط والاخضاع .. بل التحليق في فضاء الحرية والابداع.

 

رؤية حضارية

1-  الغطرسة تصبح خطرا ليس عندما تسود أخلاق الناس العاديين بل عندما تسود اخلاق السياسيين ..

2-  الانسان الحر هو الانسان الذي لا تضلله الخرافات والعجائب والأساطير.. حتى لو رأسوا عليها ملك العجائب.

3-  الاتساع الكبير المتواصل بلا توقف في علوم الطبيعة يهدم بتواصل الضحالة الفكرية التي تميز المؤسسات الدينية ورجالاتها!!

4-  يبدو اننا كمجتمع نتحرك الى الخلف.. تضييق متواصل لمساحة حرية الرأي وحرية الابداع. اواجه ذلك مع كل عمل ادبي غير تقليدي، اذا اقتربت من الدين ببعض المنطق فانت على ضلال. يجب ان تخضع لمن وضعوا انفسهم مقررين (باسم الله طبعا حتى بدون تفويض رسمي) ما يجوز وما لا يجوز للعقل العربي ان يطرق ابوابه. تسقط عليك المواعظ مثل المطر وانا على ثقة ان اصحابها لا يفقهون سوى حرفيتها.

5-  رؤية في التنبلة: في الثرثرة لا يسبقنا احد. لا تعجبك جملة؟.. خذ عشرة غيرها. لا يعجبك موقف؟.. نحن كرماء وانت تستحق.. خذ عشرين غيره. لا يعجبك اللقب الذي انزلناه عليك..؟ نجد ألقابا أخرى تميل اليها نفسك.

6-  رؤية سياسية: المنطق ان لا يواجه العاقل الأغبياء . بل ان يبتعد بذكاء لأن ايقاظ العقل النائم لدى الأغبياء يحتاج الى مسيرة تاريخية لم تبدا بثقافتنا بعد.

7-  لا تقلد عدوك بجرائمه ، حتى لا تصبح عدو انسانيتك..

8-  اكليل الغار للأدباء هو نسخة من اكليل الشوك الذي وضع على رأس المسيح!!

9-  اقصى درجات العدل .. لا شيء عادل فيها، اوسطها هو أعدلها!!

 

Nabiloudeh@gmail.com

 

 

 

شعر المقاومة بين المضمون

السياسي والمضمون الأدبي

 

نبيل عودة

 

السؤال الذي أشغلني خلال عقود عديدة: هل شهرة أدب المقاومة كانت شهرة أدبية في مضمونها، ام شهرة سياسية؟

بصيغة أخرى: هل يمكن اعتبار شعر المقاومة حدث  أدبي  ام حدث سياسي ؟

ترددت كثيرا قبل ان اتناول هذا الموضوع الذي اشغلني فكريا منذ وقت طويل ، لكني امتنعت عن الخوض به من قناعتي أن موقفي لن يكون مقبولا لدى اوساط واسعة من عشاق شعر تلك المرحلة المبكرة التي وصفت بشعر المقاومة واطلق لقب شعراء المقاومة على الشعراء ، وكان الاهتمام من نصيب اربعة شعراء، هم محمود درويش ، سميح القاسم، سالم جبران وتوفيق زياد. طبعا لن اخوض بأسباب تجاهل أسماء أخرى، ولكني اود ان أشير ان الشعراء الأربعة المذكورين هم من اعضاء الحزب الشيوعي ، ومن العاملين بصحافته، وهي الصحافة  السياسية والثقافية الوحيدة تقريبا التي كانت لفترة طويلة مسيطرة على الاعلام داخل المجتمع العربي في اسرائيل، والصحف الأخرى مثلت السلطة او احزابا سلطوية. الى جانب ان الحزب الشيوعي لعب دورا تاريخيا لا يمكن انكاره بمواجهة سياسة التجهيل والحصار الثقافي، والرقابة العسكرية على المنشورات، لذا شكلت صحافة الحزب الشيوعي نافذة هامة وشبه وحيدة على الابداع الثقافي العربي. ولا ابالغ بالقول ان الحزب وصحافته كان الجامعة الثقافية والسياسية التي تخرج منها أبرز الأدباء والمناضلين.

أيضا لا بد من اشارة هامة ، ان منابر الحزب الشيوعي ومهرجاناته السياسية، ابرزت الشعراء اعضاء الحزب وابرزهم هم الشعراء الأربعة المذكورين., رغم وجود اسماء أخرى لها تجربة هامة، سابقة ولاحقة، لكن أسمائها طويت ولم تحظى بالشهرة، رغم ان شعرهم لا  يقل بمضامينه السياسية والوطنية عن الشعراء الأربعة،  شعراء شيوعيين أيضا، مثلا الشاعر والكاتب المخضرم حنا ابراهيم، والشيوعي سابقا الشاعر حنا أبو حنا.. والعديد من الشعراء المبدعين الآخرين.

طبعا لا انفي القدرات الابداعية للشعراء الأربعة وقدراتهم التعبيرية التي اثارت حماس الجمهور. حيث كانت القصيدة اهم من خطاب سياسي، ودمج الشعر بالمهرجانات السياسية التي نظمها في وقته الحزب الشيوعي.

لا بد لي الا ان أشير الى ان بعض النقد السلبي الذي يوجه للمرحلة المبكرة من قصائد شعراء المقاومة، هو كون شعرهم أكثر مهرجانية، شعرا منبريا، خطابيا او شعارتيا .. ورؤيتي كانت ان نقاد هذا الشعر لم يعيشوا المراحل التاريخية التي فجرت قصائد شعرائنا. ان تبرير هذا الشعر وعظمته، تنجلي بقوتها اذا كشفنا النقاب عن خلفية الأحداث التي فجرت هذا اللون الشعري ولا اعرف شعرا عربيا بمستواه وبقدرته ان يصبح سلاحا قويا بأيدي مليون عربي يعانون من الاضطهاد القومي، يعاملهم العالم العربي ( في تلك الفترة) كخونة، او شبه صهاينة، حتى كانت حرب عام 1967 ليكتشف اولا الكاتب الفلسطيني الشهيد غسان كنفاني كنوزنا الشعرية.. ويصعق العالم العربي بشعر مقاوم متحد يواجه المخرز بكفه العزلاء بجرأة وقوة ولا يتردد بدفع حريته الشخصية  ومستقبله ، ثمنا للدفاع عن وطنه وحقوق شعبه وفضح ممارسات النظام العنصري الابرتهايدي وممارساته الاجرامية ضد اقلية عربية محاصرة ومعزولة عن محيطها، ينظر اليها العالم العربي بعين الشك والازدراء، لكنها تهب بقوة دفاعا عن شرعية وجودها بوطنها وتهز الأرض ضد الممارسات الاجرامية للنظام الصهيوني.

اليوم نظرتنا للأدب بدأت تتغير، واقعنا تغير أيضا، التواصل مع الثقافة العربية حطم الحواجز.. نظرتي أيضا للأدب تجاوزت حماسة تلك الحقبة التي شكلت مضامين شعر المقاومة. اليوم نظرتنا أصبحت فكرية فلسفية وادبية جمالية ابداعية، لم يعد الشعر المهرجاني المباشر يثير حماستنا، تلك مرحلة هامة ، لكنها مرحلة سياسية وليست مرحلة أدبية بمضمونها الأساسي.

النماذج كثيرة لذلك الشعر السياسي او المهرجاني. وهذه بعض النماذج:

محمود درويش في "بطاقة هوية" يقول:

سجل

أنا عربي

ورقم بطاقتي خمسون ألف

وأطفالي ثمانية

وتاسعهم سيأتي بعد صيف

فهل تغضب

سالم جبران في قصيدة القائمة السوداء يقول:

سجل اسمي في القائمة السوداء

سجل اسم أبي، أمي، إخواني

سجل .. حتى حيطاني!

في بيتي لن تلقى إلا شرفاء!!

سميح القاسم في قصيدة "تقدموا" يقول:

تقدموا

تقدموا

كل سماء فوقكم جهنم

وكل ارض تحتكم جهنم

تقدموا

يموت منا الطفل والشيخ

ولا يستسلم

وتسقط الام على ابنائها القتلى

ولا تستسلم

تقدموا

توفيق زياد في قصيدة "شيوعيون" يقول:

قالوا: شيوعيّون

قلتُ: أجلهم

حمراً بعزمهم الشعوب تُحرّرُ

قالوا: شيوعيّون

قلت منيةٌ موقوتةٌ للظالمين تُقدّرُ

قالوا: شيوعيّون

قلت: أزاهرُ بأريجها هَذي الدّنيا تتعطّرُ

قالوا: وهم عملاءُ

قلت: تأمركت لُسُنٌ

وأضحت للدّولارِ تُؤجّرُ

لا أنفي اهمية هذا الشعر في واقعنا بعد النكبة، كان شعرا يمدنا  بالإصرار  على النضال وتحدي السلطة الغاشمة.

انما اكرر ان ما اطرحه ليس علاجيا نقديا لتلك الفترة ، انما تقييما لا بد منه لتلك القصائد، لا شك لدي بقوة الصياغة وبراعة المعاني الثورية في هذا الشعر. انما أتساءل : هل يمكن اعتبار  القيمة الأدبية لقصائد تلك المرحلة تتفوق على القيمة السياسية؟ حقا كانت القصيدة سلاحا تعبويا تثويريا للجماهير، هذا دور يجعلنا نضعها بمرتبة تاريخية هامة نتيجة الدور الذي لعبته في صراعنا السياسي ومواجهتنا لسياسة عنصرية قمعية.

ما ادعيه ان ما غاب عن الدارسين لقصائد تلك المرحلة، هو تناول الجانب الأدبي، الجمالي والابداعي.. لأن النص السياسي المباشر حتى لو صيغ شعريا يبقى خطابا سياسيا. يمكن ان نصفة انه رائع ، وشعر مقاوم،  كان الشاعر مناضلا ويتعرض للسجن ويواصل التحدي بالكلمة الموزونة الثورية. لا اقلل من قيمة شعر تلك المرحلة وضرورتها.. لكن هذا لا يعني ان نتجاهل القيمة الأدبية. وما زلت انا شخصيا ادخل في نوستالجيا (حنين) كلما قرأت قصائد شعراء المقاومة في تلك المرحلة. كانوا شعراء سياسيين وشعر السياسة الذي ابدعوه كان قريبا لنفسيتنا واصرارنا على النضال من اجل حقوقنا.

اكرر ان قصائد تلك المرحلة كانت لها جماليتها الخاصة، وتغلغلت بنفوسنا وحفظناها ورددناها في لقاءاتنا، ووصفها بقصائد سياسية لا يقلل من اهميتها التاريخية الثقافية. لذلك التساؤل الذي طرحته في مقدمة مقالي يبقى مفتوحا لآراء القراء والنقاد: هل شهرة أدب المقاومة كانت شهرة أدبية في مضمونها، ام شهرة سياسية؟ وما هي نسبية العلاقة بين السياسي والأدبي؟

nabiloudeh@gmail.com

Attachments area

 

 

 

خمس سنوات على رحيل

الشاعر والمفكر سالم جبران

ترك بصماته

القوية على ثقافتنا وفكرنا

نبيل عودة

    

في 19/ 12/2016 تكون قد مضت خمس سنوات على رحيل الشاعر الكاتب والمفكر سالم جبران ، ابن قرية البقيعة الجليلية. رحل في (19/12/2011)

لفت سالم جبران الانتباه والاهتمام بشعره قبل ان ينتقل للعمل الاعلامي والسياسي مناضلا ومثقفا ثوريا، متميزا باسلوبه وقدرته على الخوض في المضامين الجوهرية للمواضيع التي تناولها في كتاباته. وقد شكلت مساهمات سالم جبران الفكرية والسياسية قفزة اعلامية للإعلام العربي في اسرائيل خاصة ، وللإعلام العربي على وجه العموم .

سالم ليس مجرد كاتب آخر ، انما سياسي ومفكر وانسان مجرب تمرس في النضال اليومي والنشاط الحزبي السياسي والاعلامي والتنظيمي، ترأس رئاسة تحرير مجلة الشباب "الغد" ، ليبرز بقدراته على معرفة ما يهم الشباب العربي ولا نبالغ بالقول ان الأجيال التي تثقفت على مقالات سالم ومحاضراته، هي حتى اليوم الوجه الناصع لشعبنا، والأكثر تحملا للمسئولية والتضحية.

في فترة رئاسته لتحرير جريدة "الاتحاد" شهدت الصحيفة قفزة اعلامية كبيرة . وكذلك حرر مجلة الجديد "الثقافية" ويمكن القول بلا تردد انها فترة "الجديد" الذهبية من حيث المضمون والانتشار الواسع.

استقال سالم من عضوية الحزب الشيوعي، واستقال من رئاسة تحرير صحيفة الحزب "الاتحاد" في حدود العام 1993 لأسباب سأذكرها بسياق المقال. لكنه ظل سالم صاحب المواقف السياسية الواضحة ، والمفكر القادر على التأثير الاعلامي والفكري على المجتمع العربي وعلى اوساط واسعة جدا من المجتمع اليهودي.

سالم عرف بشعره الانساني، وهو من مؤسسي القصيدة الوطنية في شعرنا، كان الحب معياره للثورة وليس بالكلمات الكبيرة الفارغة من المضمون، وللدلالة قصيدته القصيرة الرائعة "حب":

كما تحب الأم

طفلها المشوها

أحبها

حبيبتي بلادي

على أثر نكسة حزيران 1967 كتب :

هزّي من الأعماق، يا عاصفة الهزيمة

عالمنا الشّائخ

فليدمر الإعصار كلّ التّحف القديمة ناسا وأفكارا

ليحرق لهب الثّورة كلّ أراضينا

كي لا تحاك، من جديد، فوقها مهزلة

كي لا تعاد، من جديد، فوقها جريمة

عملاق هذا العصر، هبّ اطلع النّصر

فكلّ السّابقين أطلعوا الهزيمة

لم ينشر سالم جبران من مقالاته وقصائده على الانترنت ، الا بعضها القليل، لأنه من جيل لم تتح له الفرصة والوقت للتعامل مع هذه الشبكة من المؤسف ان الكثير من اعماله الفكرية ومقالاته لم تجمع بعد وتحتاج الى جهد كبير جدا لجمع بعضها

خطاب سالم جبران السياسي كان خطابا مميزا ليس من السهل مواجهته ، وقد برز بمحاضراته في الوسط اليهودي ومقالاته التي نشرها في الصحف العبرية. حيث استحوذ على اهتمام يهودي واسع جدا رغم مواقفه النقدية غير المهادنة للسياسات التي تمارسها المؤسسة الحاكمة والأحزاب اليمينية ضد الجماهير العربية.

اعتمد في طرحه السياسي الحقائق والنهج العقلاني غير المهادن، الأمر الذي أكسبه انتباه اوساط واسعة جدا في المجتمع اليهودي. ويمكن القول انه مفكر كان يخاطب العقل وليس المشاعر.

تقييم مسيرة سالم جبران ، الفكرية والاعلامية والثقافية تحتاج الى مداخلات عديدة نشرت بعضها ضمن سلسلة اكتبها بعنوان يوميات نصراوي.

ارتباطي الفكري، السياسي والثقافي والإعلامي الواسع مع سالم جبران بدأ منذ عام 1962 حين كنت طالبا في ثانوية أورط عمال الثانوية الصناعية في الناصرة، حضر يومها سالم وكان محررا لمجلة الغد، ليغطي اضرابا طلابيا اعلناه بسبب نقص في وسائل التعليم.

من هنا بدأت معرفتي وصداقة العمر والزمالة الاعلامية والثقافية والفكرية مع سالم جبران.

كنت وقتها كاتبا قصصيا ناشئا، نشرت عام (1962)وانا في الصف التاسع ، اول نص قصصي لي في مجلة "الجديد" الثقافية الشيوعية (التي كان يرأس تحريرها في ذلك الوقت المرحوم صليبا خميس، وهو من الشخصيات السياسية والإعلامية البارزة، لم يعط أيضا الدور الذي يستحقه وفصل من الحزب، ثم رأس تحريرها كما اذكر محمود درويش بعده سميح القاسم ثم سالم جبران).

ضمني سالم لهيئة تحرير مجلة "الغد" وأنا في الصف التاسع، لأبدأ التدرب على العمل الصحفي في مدرسة إعلامية لا اعتقد ان الجامعات توفر فرصا أفضل منها لدراسة الصحافة او الإعلام نظريا وتطبيقيا.

عام (1993) كان سالم مرشحا لرئاسة قائمة الحزب الشيوعي (الجبهة الديمقراطية) للكنيست، وحدثت مخالفات تنظيمية فظّة، أسقطت سالم بطريقة لا تليق بالأخلاق الشيوعية التي أشبعونا تغزلا بشعاراتها، لكنها لا تخص المتنفذين بالقرار. استأت من الانقلاب على سالم ورأيت فيه بداية مرحلة جديدة لحزب لا استطيع ان أكون عضوا فيه... مرحلة تحول الحزب الى حزب شخص واحد ورأس واحد يتصرف ويقرر بما يراه مناسبا له. فقدمت استقالتي من الحزب والجبهة منتقدا ما جرى بحِدَّة

انتقدني سالم جبران بشدة على استقالتي من الحزب الشيوعي والجبهة (1993)، اثر إقصائه بانقلاب يليق بالانقلابات العسكرية العربية، كان ظنه انه يمكن النضال من الداخل اذ كان محررا لصحيفة الحزب اليومية "الاتحاد" وهو عمليا المفكر البارز الوحيد في صفوف الحزب.. والناطق السياسي الوحيد والمعتمد في وسائل الإعلام العبرية والعربية، والوحيد الذي يشارك بالندوات في الوسط اليهودي، إلمامه موسوعي في مختلف المواضيع، ولغته العبرية سليمة لدرجة ان محررة لغوية لإحدى الصحف العبرية التي كان ينشر فيها مقالات بالعبرية قالت لي أثناء اشتراكها بإحدى ندوات سالم انه "الكاتب الوحيد الذي لا أجد في مقالاته العبرية ما يستلزم التصحيح". بعد فترة قصيرة جدا لم تتجاوز اسبوعين دعاني سالم للحضور في إحدى الأمسيات الى بيت أخيه الدكتور سليم جبران في الناصرة، ليتلوا علينا قرارا هاما اتخذه قبل توزيعه على الصحافة، أيقنت ان سالم لم يعد مستعدا لتحمل مسؤولية تفكُّك التنظيم وتحوُّله إلى تنظيم الشخص الواحد وان البيان هو بيان استقالته، وقد تأكد ظني!!

بالتلخيص أرى نهاية حقبة تاريخية مشرفة على المستوى الفكري والنضالي، لشخص تبوأ بنفس الوقت العديد من المناصب المركزية في حياة الحزب الشيوعي وجبهته وإعلامه، يحتاج كل منصب إلى أكثر من بولدوزر بشري. كانت آلام سالم أكثر من قدرة إنسان عادي على الاحتمال. حافظ على آلامه داخل صدره.

كتب سالم قصيدة هامة يعبر فيها عن غضبه من الانقلاب عليه، لم ينشرها في الصحافة، لكنها ظلت في جواريره وأضيفت بعد وفاته لكتاب يشمل كل أعماله الشعرية وهذا نصها:

عاشق النهر

شعر: سالم جبران

 

عندما تدافعوا إلى المنصّة

مثل قبيلة مندفعة إلى الثأر،

فيهم العربيد والمهرّج

فيهم اللاعق والسارق

فيهم السكران والنصّاب

فيهم الحثالات التي تطرب لصوت تصفيقها

فيهم الهتّافون المحترفون

فيهم مشلولو التفكير العاجزون عن الحلم

قرّرتُ أن أنزل عن المنصّة

لا مهزوما ولا هاربا

بل رافضا أن أشارك في المهزلة

رافضا المشاركة في المسؤوليّة عن الفضيحة

هم صعدوا إلى رقصة الانتحار

وأنا لم أنزل، بل صعدت

صعدتُ إلى ذاتي الحرّة، صعدت إلى جبل الحريّة

بقيتُ مع الناس، واحدا من الناس

الشمس في قلبي

لم أستبدل حلمي بحلم آخر

بل نفضتُ عن حلمي الغبار

ليس عندي وقت حتى لاحتقار

القبيلة التي اندفعتْ للثأر

بعد انعتاقي فقط،

أعرف تماما الفرق بين المستنقع والنهر

أنا حليفُ النهر

أنا عاشق النهر!

في دراسة هامة للناقد المرحوم د. حبيب بولس حملت عنوان "سالم جبران شاعر الأرض والمقاومة" أكد الناقد حبيب بولس ان سالم جبران هو أحد الشعراء الذين أسّسوا للقصيدة الوطنيّة الملتزمة المقاومة ، وأحد الذين تسلّحوا بالنظرية الماركسية العلمية التي منها انطلقوا في بلورة افكارهم ومواقفهم ومسيرتهم وكتاباتهم. هو معلّم وقائد فكري صقل بكتاباته واشعاره وآرائه شخصيّتنا ،تعلّمنا منه الكثير بحيث صارت له بصمات تسم جيلا كاملا.

ويضيف: كرّس سالم جبران معظم شعره لمقاومة الاحتلال ورفضه وتعرية أساليبه وممارساته، لذلك فالحديث عن شعر سالم يعني الحديث عن المقاومة فالمقاومة تغطّي مساحة كبيرة في دواوينه الثّلاثة المنشورة بين الأعوام 1975- 1967   والدواوين هي كلمات من القلب، قصائد ليست محدّدة الإقامة  ورفاق الشّمس.

عاش سالم  مأساة النكبة والتهجير وهذا ما نجده في قصيدة "بقاء":

الأرض خناجر

تحت الأقدام الوحشيّة

والأرض مقابر

  للأحلام الهمجيّة

   سأظلّ هنا  

في بيت يبنى من أحجار

في كوخ مصنوع

من أغصان الأشجار

أو في إحدى مغر بلادي

يا جزّار

سأظلّ هنا

أمسك جرحي بيد 

وألوح بالأخرى لربيع،

يحمل لبلادي

دفء الشّمس وباقات الأزهار.

وفي قصيدة "أغنية" ، يمجّد سالم جبران الشّعب الّذي يلملم جراحة رغم نكبته:

كالسّنديان هنا سنبقى

كالصّخور

كعرائس الزّيتون فوق ربى بلادي

كالنّهور

كحمائم البريّة الخضراء 

أنا سوف نخفق فوق أرضك

يا بلادي  

كالنّسور .

ويواصل اصراره ،فينشد:

سأظلّ فوق ترابك المذبوح يا وطني

مع المزمار، أنشد الرّبيع

وأقول للباكين والمتشائمين

إنّ الشّتاء يموت فابتسموا

ولا تتخاذلوا تحت الدّموع

هاتوا اياديكم، فمعركة البقاء

تريدكم سندا ومعركة الرّجوع

 ما قدمته هي نماذج قليلة جدا من شعر نضالي لعب في وقته دورا سياسيا وتثقيفيا كنا بحاجة له مثل حاجة الظامئ للماء في الصحراء.

شكل الشعر في نهج سالم جبران هاجسا يوميا عبر فيه عن تجربته الحياتية بدءا من النكبة التي عاشها طفلا في بداية وعيه مرورا بكل الأحداث العاصفة التي عمقت الام شعبنا خاصة بعد احتلال كامل التراب الوطني الفلسطيني ورغم ذلك تميز سالم برؤية إنسانية تقدمية. لكنه غرق أكثر بالعمل الاعلامي والتثقيفي وتوقف تقريبا عن كتابة الشعر.

لا يسعني في هذه العجالة الا ان أذكر عن علاقة الصداقة المميزة طويلة السنين بين سالم جبران ومحمود  درويش. علاقة امتدت من فترة الدراسة الثانوية كطالبين في نفس الصف، وانتقالهما للنشاط السياسي والثقافي باطار الصحافة الشيوعية. يصف المحامي الأستاذ جواد بولس زيارة محمود الأخيرة للبلاد وخاصة زيارته لصديق عمرة سالم جبران ، وذلك قبل توجهه لاجراء عملية القلب في الولايات المتحدة والتي توفي على اثرها.. وأقتبس ما سجله جواد بولس عن اللقاء:

" وصلنا بيت أبي السعيد (سالم جبران) وبدأنا بهبوط درجاته. محمود، وبدعابة مألوفة بين أصدقاء "عتاقى"، أخذ ينادي: سالم يا سالم، أبو السعيد ...ثوان كنا في صالون أبي السعيد. كان سالم يحاول أن يجيب على النداء بالنداء، لكن الصدر خانه والصوت كان عاجزًا خنيقًا. تقابلا، نسمة على كتف نسمة، فكان العطر فواحًا. لا دمع في المآقي، لكنّه، هكذا شعرت، تصبب بين الحنايا وعلى أطراف الضلوع. تحدثا، صديقان لم يقوَ الزمن على قطع ما عقداه من حبل للمودة، وعهد لم يفسده طول بعاد، ودرب أقوى من الشتات، وهمٍّ أعند من الشقاء.

كان اللقاء خاصا وحميميًا. لم يتحدثا عن قضايا العصر الكبيرة. سالم، بهدوء زائد عن هدوئه العادي وباختصار، شرح عن تردي حالته الصحية وسأل باهتمام واضح وقلق بادٍ عن حالة محمود، ومحمود أجاب بقصاصات حقائق ليعود إلى سالم ليطمئنَّ وليُطَمئِن.

لعبة الألغام أسميتُها فمحمود يعيش ولغم في صدره لا يعرف أحد ميعاد انفجاره، وسالم بعد عملية كاسحة ومزيلة للألغام من صدره. كلاهما يسعى لإبطال وتسخيف لغمه ليضمن سلامة شريكه/رفيقه".(انتهى الاقتباس)

وفاة محمود درويش وقعت كالصاعقة على سالم جبران. وقد آلمه أكثر ما لا اريد ان اكتبه انما اترك قصيدة سالم برثاء محمود تقوله، وقد احتفظت بنسخة من القصيدة التي رفض سالم ان ينشرها الا بعد ضغط كبير مني والحاح لم يتوقف بل وتهديدي ان انشرها بدون اذنه فتنازل بأن سمح لي بنشرها لكن  باسم "سعيد الحيفاوي".

قصيدة لم يكتبها محمود درويش

شعر : سعيد حيفاوي ( سالم جبران)

 

" القطارُ الأخير توقْفَ عند الرصيف الأخير "

هنالك ليلٌ أشَدّ سوادا

" هنالك ورد أقلُّ ُ"

" أنا يوسف يا أبي "

أمامي طقوس ٌ كثار ٌ وليلٌ طويلٌ طويلْ

" أنا يوسف يا أبي "

ويسعدني ان بحرا من الناسِ حولي

من الطيبين ،

من البسطاء ،

من الصادقين

ولكنني يا أبي في امتعاضٍ حزين

فكل الذبابِ يحاول ان يتقدم

وكل الذئابِ تحاول أخذ مكان

بجانب نعشي ، وتتلو صلاة الغياب

يريدون ان يأخذوا صورة حول نعشي

ولو بازاحة أمي واخوتي الطيبين

وحولي من الزعماء اناسٌ

يريدون ان يأخذوا صورة حول نعشي

ولو قَدروا اقتلعوا بعض رمشي

ليبقى لهم

وبه يعلنون ارتباطي بهم

عندما يقرب الانتخاب

ولو قدروا مزقوا لحم روحي

انا يوسف يا أبي

انا طيب ، غير اني

قليل السذاجة ، يا أبتي

مثلما كنتُ دوما قليل العتاب

انا يوسف يا أبي

كل الناس بلادي وكل بلاد

رفاقي وأهلي

ولكنني لا أزال وسوف أظل الى أبد الآبدين

عدو الذباب !

nabiloudeh@gmail.com

 

 

 

نحو رواية فلسطينية

وقضايا ثقافية أخرى

نبيـل عـودة

 

من إشكاليات أدبنا الفلسطيني داخل إسرائيل، محدودية الجانر الروائي في إبداعنا المحلي. لا اعني بتعبير محدودية عدم وجود أعمال روائية أو غياب الجانر ألروائي إنما ما أعنيه ان الرواية في أدبنا الفلسطيني داخل إسرائيل لم تأخذ مكانها كلون أدبي له وزنه ومكانته، كما هي الحال في القصة القصيرة عامة والشعر على وجه التحديد.. وخاصة في التصدي للرواية الصهيونية!!

يمكن الإشارة إلى عدد من المحاولات الروائية الجيدة في إبداعنا المحلي مع ذلك يبقى الفن الروائي بعيدا عن أن يشكل تيارا ثقافيا يمكن الإشارة إليه..وأعتقد ان غياب الرواية لا يعني  أننا نفتقد لنصوص روائية، ولا أتحدث هنا عن قيمتها الفنية، وهي قيمة هامة، إنما أعني ان روايتنا لم تدخل بعد في المواجهة للرواية الصهيونية.

عالج الناقد الدكتور حبيب بولس (1948 – 2012) موضوع الجانر الروائي في ثقافتنا داخل إسرائيل، بمٌقالين متتابعين أولهما "لماذا لا نملك جانرا روائيا؟" والثاني "عود على قضية الكتابة الروائية".طبعا تناول المفهوم الأونيفرسالي للرواية، وهو مفهوم هام للغاية، جاء في مقال د. حبيب بولس في رأيي أن الأسباب الرئيسية التي تقف عائقا أمام تطور هذا الجانر تنقسم إلى فئتين: أسباب عامّة، أعني بها الأسباب الخارجة عن إرادة المبدع وأخرى خاصّة نابعة عن المبدع نفسه. من الأسباب العامّة سببان هامّان هما طبيعة الظروف التي نعيشها أولا وقلّة المرجعية لهذا الجانر محليّا وفلسطينيا ثانيّا. أمّا السبب الرئيس الخاص فيعود إلى عدم قدرة المبدعين لدينا لغاية الآن الموازنة بين الخطابين: التاريخي/ الأيديولوجي/ الواقعي والخطاب الإبداعي/ الروائي/ التخيلي..”

صحيح ان الدكتور حبيب بولس حدد الإشكالية الأساسية في إطار  الخطابين التاريخي- الواقعي والأدبي الإبداعي.

الخطابان(التاريخي والأدبي) ليسا وقفا على الجانر الروائي ، إنما هما إشكالية لكل إبداع أدبي  قصصي أو شعري أو فني آخر.

ألسؤال هنا: هل التوازن بين الخطابين هو قاعدة مطلقة؟ وكيف نتعامل مع الخطابين؟ وما هي الشروط اللغوية لتطوير جانر روائي يمكن ان يرسي هذا الفن في أدبنا داخل إسرائيل؟

من البديهيات ان الخطاب الأدبي (الفني ، طبعا بما في ذلك اللغة الروائية)، أو الحدث التاريخي (الأيديولوجي) يشكلان جوهر الإبداع وليس شرطا عبر استيعاب المبدع لهذه ألمعادلة، هذا يبرز في أدبنا الروائي عبر عدم فهم العلاقة التفاعلية بين الخطابين لدى أوساط واسعة من المبدعين.. في معظم الحالات نجد ان الإحساس الذاتي للمبدع هو المنهج السائد.. أي يفتقد للمعرفة.

ان التوازن أو التعادل  بين الخطابين في صياغة النص ليست مطلقة، كما قد يفهم مما ورد في مقالة الناقد بولس.. أو ما سبق وورد في مداخلتي.

في حديث لي مع د. حبيب بولس قبل وفاته وافقني ان العلاقة بين الخطابين هي علاقة نسبية، تتعلق إلى حد بعيد بقدرة المبدع نفسه في فهم نسبية هذه ألعلاقة أين يعلى خطابا على حساب خطاب وما هي محدودية كل خطاب ، أي تبقى عملية الكتابة الروائية أو الإبداعية، مسألة ترتبط بالقدرات الذاتية والتجربة الذاتية والحس الذاتي.

 هنا لا بد لي من ملاحظات للتفكير أراها هامة جدا، الملاحظة الأولى ان القارئ العربي  لا يتفاعل مع النص السردي كما يتفاعل مع النص الشعري. الملاحظة الثانية هل عقلنا متحرر لنعيد تشكيل اللغة وتحريرها من ظاهرة الاستهلاك التي تفتقد للتفاعل؟ الملاحظة الثالثة، كثيرا ما يستعمل نقدنا صفة الحداثة في وصف نصوص أدبية، وأنا أرى ان هذا التوصيف ينبع عن جهل تام بمفهوم الحداثة التي هي بامتياز ظاهرة ثقافية فكرية واجتماعية غربية لم تنشأ بعد القاعدة الفكرية والمادية لتتطور في مجتمعنا، ليس بالأدب فقط إنما بالفكر الاجتماعي ومبنى واقعنا السياسي ، الاقتصادي واللغوي، الحداثة هي بالتعريف الأوسع فكر فلسفي معرفي، أي ليست مجرد وسيلة تعبير لغوية او أدبية. الملاحظة الرابعة ثقافتنا العربية عامة ما زالت بعيدة عن خلق فكر يتفاعل بعمق أكبر مع الثقافة والإبداع الأدبي. الملاحظة الخامسة لا أرى أننا خرجنا من حلقة الذاتية إلى الفضاء الأوسع إلا بحالات منفردة.. بل ويمكن القول أننا في حالة تراجع ومن الضروري الدمج بين الذاتي والموضوعي في ثقافتنا.

ما لم يطرح بما يستحقه من اهتمام ، هو إنتاج رواية فلسطينية داخل إسرائيل كرواية مضادة للفكر الصهيوني. حتى على مستوى العالم العربي، الذي يتعرض أيضا للذراع الإسرائيلية الطويلة، لم أجد، وآمل اني على خطأ... ان للرواية المضادة المساحة أو الاهتمام التي يستحقها موضوع الرواية المضادة.

إذن يمكن القول أننا أمام حالة ابستمولوجية سلبية (الأبستمولوجيا هي فرع من علم المعرفة في الفلسفة متخصص بدراسة طبيعة ألمعرفة مداها وحدودها والحقيقة المرة انه لا إبداع أدبي أو فني أو فكري خارج المعرفة بمفهومها الفلسفي الواسع، وليس بشكلها كحالة من التطور الطبيعي للإنسان.

أي إننا نواجه معضلة فكرية وليس روائية فنية فقط.. مشكلتنا في التشتت الفكري، في فكر الانتقائية، في السطحية الفكرية، وهي حالات لا تخص مجتمعنا العربي الصغير داخل إسرائيل فقط، بل حالة شاملة للمجتمعات العربية بنسب تفاوت لا تؤثر بعمق على المجموع . توجد رواية عربية .. رواية فنية راقية، لكننا في مربع الصراع الحضاري، الذي نواجهه بظل التفوق الإسرائيلي، نفتقد للسلاح الروائي بصفته سلاحا مضادا للرواية الصهيونية، وهذا الواقع يعيشه الشعب الفلسطيني منعزلا.. في الفترة الأخيرة قرأت أعمالا روائية للدكتور أفنان القاسم، وجدت فيها عناصر روائية لم أجدها في روايتنا الفلسطينية بساحة المواجهة الفكرية والروائية.. كالعادة النقد ليس حاضرا لتناولها!!

المعرفة بكل اتساعها ، الفكري ، التاريخي، الفلسفي والسياسي هي المعيار السحري لكل إبداع أدبي في حالتنا..

صحيح القول ان الخطاب ألتاريخي الأيديولوجي ، أي الحدث أو الفكرة ، والخطاب ألأدبي الفني، أي القدرات اللغوية، هما القاعدة لأي إبداع أدبي روائي ، قصصي ، شعري أو مسرحي أو فني  ولكنه موضوع مركب أكثر إذا تناولناه من زاوية المعرفة، المعرفة تعني القدرة على التوازن النسبي وليس المطلق  وتطوير  قدرات المبدع في فهم هذه العلاقة ونسبيتها. بكلمات أوضح : أين يجب ان يعطي المبدع مساحة أكبر لأحد ألخطابين وما هي حدود هذه المساحة حتى لا تصبح سلبية وقاتلة للجانر الروائي أو غيرة من أشكال الإبداعات  الأدبية والفنية ومدى الإدراك الذاتي للواقع التاريخي ، الاجتماعي ، السياسي، الأخلاقي والثقافي.

قال هيغل: “ان ما هو معقول هو ما يمتلك إمكانية دخول الحياة- من هنا رؤيتي ان الرواية المعقولة، لا يمكن في واقعنا ان تكون إلا الرواية المضادة.  

ان اللغة في النص تشكل مرتكزا هاما .. والموضوع ليس معرفة اللغة فقط ، معرفة اللغة أمر هام، والأهم تطوير القدرة على إنتاج لغة مناسبة للجانر الأدبي  الروائي أو القصصي أو الشعري.

 وهنا نسأل: هل اللغة الروائية مجرد إنشاء سردي؟

حسب مقولة هيغل نستنتج ان الرواية تحتاج إلى  لغة روائيه بدونها مهما كانت الفكرة عبقرية تظل بعيدة عن المعقول ألروائي، وأضيف ان اللغة بدون فكر هي ثرثرة فارغة!!

ان معرفة عرض الخطاب التاريخي قد يقود إلى كتابة ريبورتاجية صحفية بغياب الخطاب اللغوي الروائي (اللغة الدرامية) ، معرفة الخطاب الأدبي قد يقود إلى كتابة نص مليء بالفذلكة اللغوية والنحت الصياغي وصولا إلى تركيبة جمالية لا تقول شيئا للقارئ ، إلا ان الكاتب يعرف النقش باللغة إذن ما ينقص الخطابين ، هو خطاب ثالث: “الخطاب ألتخيلي القدرة على مقاربة الواقع بالنص ألروائي وخطاب رابع: “الخطاب ألدرامي أي القدرة على بناء الأحداث المتخيلة التي تعبر عن الخطاب التاريخي ليس بشكله في الواقع اليومي، وتغذي اللغة النص بأبعاد درامية جمالية وليس  مجرد النقش اللغوي الأقرب للرسم بالريشة. اللغة الدرامية بحد ذاتها تشد القارئ تماما كما تشده صياغة ألحدث ولكن دورها ان تعمق الناحية الدرامية للحدث الروائي.

نجد في ثقافتنا المحلية (وفي الثقافة العربية عامة) مئات ناظمي الشعر، السؤال كم عدد الناظمين الذي نجحوا بجعل نظمهم قصائد شعرية حقيقية ؟ هنا نجد ان المئات يُختصرون لأفراد قلائل. في القصة القصيرة نجد عشرات الناثرين السؤال: كم ناثر نجح بأن يصل لإنتاج قصصي فني؟

في مراجعاتنا النقدية للإبداع الأدبي بالداخل لا نقول كل الحقيقة حول التركيبة الإبداعية ، لأسباب مختلفة ، أهمها إعطاء دفعة وتفاؤلا للناثر أو الناظم لعل التجربة القادمة تكون أكثر اكتمالا.. طبعا هذا لا يمكن فصله عن مستويات الإبداع العامة لمجتمعنا.. ومقياسنا لا يمكن ان يكون حسب الإبداعات العربية أو العالمية.. حلمنا ان نصل ، لكن الحلم يحتاج إلى الكثير من العناية الغائبة من أجندة مؤسساتنا الرسمية والشعبية.. ومن غياب فكري قادر على خلق الرد على الرواية الصهيونية.

هناك لاعبون في ساحة النقد، يرتكبون جريمة بحق المبدعين حين يوهمونهم برعونة تفتقد لأوليات الفكر النقدي والمعرفي أنهم بلغوا القمة ولكنه موضوع آخر!!

النظرية والتحليل النقدي النظري جيد لتحليل العمل، تقييمه ونقده وليس ليدرسها المبدع ويطبقها. ان عملية الإبداع مركبة ومتداخلة بعناصر إنسانية وعقلية ومعرفية (ابستمولوجية) وتجريبية واجتماعية واقتصادية وتاريخية أكثر اتساعا من مجرد فكرة تصلح لنص روائي أو قصصي أو شعري.

اعتقد ان مشكلة الجانر الروائي ترتبط بتطوير ألمعرفة ، وهذا ما نفتقده بكثافة في مسيرة روايتنا المحلية.

اني أدعي ان معظم الروايات التي ظهرت في أدبنا العربي داخل إسرائيل ، تفتقد أكثريتها لعناصر روائية أساسية، تكاد تكون خطابا تاريخيا مجردا من القدرة على القص والدهشة وجعل اللغة طيعة متدفقة مثيرة ومتفجرة. طبعا لدينا نصوص روائية جيدة لكنها من القلة بحيث لا تشكل تيارا أدبيا روائيا.

الإبداع الحقيقي، نثرا أو شعرا، لا يعني نقل حدث تاريخي أو انطباعي بلغة سليمة. أو بديباجة مليئة بالفذلكة والألعاب الصياغية . الموضوع ليس إنشاءا لغويا بسيطا أو فخما جدا . هناك لغة للقص تختلف بتركيبتها عن لغة المقالة . تختلف بتركيبتها عن لغة الريبورتاج ، تختلف بتركيبتها عن لغة الشعر. لغة تفرض نفسها على كل قوانين اللغة وقيودها، ويبدو لي ان نشوء لغة عربية  حديثة يخضع في معظمه لتطور الأدب القصصي والشعري الحديث ، ويمكن رصد البدايات الثورية لهذه اللغة الحديثة في الأدب العربي الذي طوره أدباء المهجر. اليوم تلعب الصحافة ولغتها ومفرداتها دورا هاما في تطوير لغة عربية سهلة ممتعة سريعة الاندماج مع المناخ الثقافي وفرضها على اللسان العربي!!

يجب ان لا ننسى ان الرواية هي وليدة عصر تحرير إرادة الإنسان. الإنسان ولد ليكون حرا، هذا ما أثبتته حركتنا الشعرية الفلسطينية داخل إسرائيل التي ولدت في ظروف تسلط قمعي وإرهابي وحصار ثقافي .. قبل ان تبدآ لأسباب لا مجال لها الآن بالتراجع.

رغم الانفتاح الواسع على الثقافة العربية والعالمية وما أنجزته من أعمال روائية راقية جدا إلا ان روايتنا لم تحدث تلك العاصفة التي أحدثها شعرنا.

بالطبع أرى أهمية ما طرحه الناقد الدكتور حبيب بولسحيث كتب : ” في مجتمع كمجتمعنا وفي ظروف كظروفنا نجد أن الرواية دائما تخاتل طموح كتابة التاريخ الفني للمخاض ألسياسي الاجتماعي في فلسطين إبان ألنكبة، قبلها، في خضمها، بعدها ومحليا أيضا،وهذا أمر من الممكن أن يشكّل منزلقا للكتابة الروائية في ظروفها الاجتماعية المعيشة. فعلى ألكاتب أي كاتب أن يحذر التاريخ، وأن يعرف كيف يقيم توازنا بينه وبين الإبداع، إذا أراد فعلا كتابة رواية فنية. وكم كان محقا ذلك الكاتب المفكر ألمغربي عبد الكبير ألخطيي حين قال: “التاريخ هو الوحش المفترس للكاتب، وهو يقصد بذلك أن صوت التاريخ الواقع- الايدولوجيا ، حاضر على الدوام في شغاف قصصنا، يبرز بطرائق وأساليب مختلفة متنوعة ، جهيرا حينا- خافتا حينا أخر”.

الناقد بولس استمر في تحليل الواقع الموضوعي ، إذا صح هذا التعبير الحائل بين تحول الإبداع الروائي إلى جانر مركزي في ثقافتنا. وهو تحليل علمي نقدي سليم تماما . انا ككاتب قصصي وروائي أيضا ، (أصدرت ثلاث روايات ومسرحية) ، أواجه مشاكل مستعصية لا تبقي في نفسي الرغبة لتجربة روائية جديدة، بل فقط للكتابة الثقافية العامة، كتابة المقال الفكري والسياسي والمراجعات الثقافية (النقد كما تسمى مجازا) وكتابة القصة القصيرة ، أي لا أجهد نفسي لأكتب رواية رغم توارد عشرات الأفكار الروائية الجيدة. دور النشر غائبة أو تستغل الكاتب لتحلبه. لا مؤسسات ترعى المبدعين. هناك تسيب ثقافي، الكثير من النصوص إنشائي يفتقد للغة الإبداع الأدبي، وبعض نقادنا سيجعلوا من كل نص إبداعا لا مثيل له في الأدب رغم انه لا يستحق القراءة.

كل واقعنا هو واقع مريض. القراءة تكاد تتحول الى كماليات، مؤسساتنا غائبة عن الفعل الثقافي . ثقافتنا بنيت بظروف عصيبة من التحدي البطولي ، ومن معارك الحفاظ على لغتنا وثقافتنا وانتمائنا القومي ، ضد سياسة القمع والحكم العسكري البغيض.

الرواية كانت تاريخيا ، معيارا لتطور المجتمعات الرأسمالية ، وكما كتب المفكر الفلسطيني الكبير ادوارد سعيد في كتابه الهام والمثير الثقافة والامبريالية بأن التطور المبكر للروايتين الفرنسية والانكليزية يتعلق بكون فرنسا وانكلترا شكلتا الدولتين الاستعمارين الأساسيتين ، وأن تطور الرواية الأمريكية تأخرت حتى بداية القرن العشرين مع بدء انطلاق الامبريالية الأمريكية إلى السيطرة على العالم.

يُفهم من طرح الدكتور ادوارد سعيد أيضا ، ان الرواية شكلت أداة إعلامية لظاهرة الاستعمار.. لتبريره أخلاقيا (رواية روبنسون كروسو مثلا ، حيث يصل الأبيض إلى جزيرة مجهولة ويجد شخصا أسود ويبدأ بتثقيفه وإعادة تربيته وجعله أنسانا راقيا أي نقل له الحضارة باستعماره لأرضه وتحويله إلى خادم له ، وهي تشبه الواقع الفلسطيني مع مغتصبي وطننا) لكن الرواية ، هذا الفن الراقي والرائع ، الذي أنتجه الاستعمار المتوحش والجشع ، خلق الرواية المضادة، أو ألأدب المقاوم بمفهوم آخر.. وهذا ما نفتقده لأسباب تحتاج إلى بحث واسع، أشرت إليه تلميحا فقط.

لوكاتش ، المفكر الماركسي التنويري الكبير يصر بأن الرواية ( الأدب القصصي ) ليست إلا ملحمة البرجوازية التي ظهرت على مسرح التاريخ في أعقاب النهضة ألأوروبية وبالتحديد بعد الثورة الصناعية التي جعلت منها الطبقة السائدة في المجتمعات ألأوروبية، يمكن ان نستخلص هنا ان التطور الاجتماعي  وتطور الطبقة البرجوازية ، بكل ما يشكله ويشمله هذا التطور من مضامين هو من ضروريات انطلاقة ألرواية وهي حالة لم تقف أمام تطور الشعر مثلا .. وتاريخيا لم يكن الشعر بحاجة لها.

إذن ظهور الرواية الفلسطينية داخل إسرائيل بدأ عمليا مع تطور المجتمع العربي وبدء اندماجه بالمجتمع الصناعي عملا وفكرا لذلك نجد ان الرواية المضادة للرواية الصهيونية كان لها السبق (نسبيا رواية المتشائل لإميل حبيبي مثلا)، لكن الرواية بمفهومها الاجتماعي، الفكري والسياسي الشامل ، ما زالت تتعثر.. وأمام الرواية الصهيونية الاحتلالية العنصرية لم ننجح بعد بإنتاج رواية مضادة  والقصد رواية فلسطينية داخل إسرائيل !!

الفت انتباه القارئ لروايتي "حازم يعود هذا المساء"    http://www.syrianstory.com/amis-3-26.htm

وهي محاولة للرد على الرواية الصهيونية.

nabiloudeh@gmail.com

 

 

 

يوميات نصراوي:

ذاكرة مبعثرة

ايام مع سالم جبران- 1

(قصيدة سالم في رثاء

محمود درويش - 9 آب 2008)

نبيل عودة

خبر وفاة محمود درويش كان أشبه بكارثة تسونامي. لدقائق جلست بلا حراك. بلا قدرة على استيعاب صحة الخبر. بعد لحظات بدأت أتنقل بين مواقع الانترنت.بدأت صورة محمود درويش تحتل الصفحات الأولى. بدأت أستوعب قساوة الخبر. كان يشغل فكري في نفس الوقت احد أكثر المقربين لمحمود درويش والذي لا ينفك يحدثني بحب غير عادي لمحمود وشعره وانسانيته وشفافيته والطفل الذي يشكل جانبا كبيرا من شخصيته. حدثني عن زيارة محمود الأخيرة له في بيته قبل توجهه لاجراء عملية القلب الخطرة في أمريكا. كان قلقه على محمود أكبر من قلقه على وضعه الصحي الشخصي.ولم يكن وضع سالم الصحي مطمئنا إطلاقا. انه سالم جبران.. احد رواد حركتنا الثقافية والاعلامية.

حضر اللقاء الأخير بين سالم ومحمود المحامي جواد بولس، ويبدو ان ما سجله جواد بولس هو الوثيقة التي تنقل تفاصيل اللقاء الأخير وعليه أقتبس ما سجله جواد بولس عن ذلك اللقاء:

" وصلنا بيت أبي السعيد (سالم جبران) وبدأنا بهبوط درجاته. محمود، وبدعابة مألوفة بين أصدقاء "عتاقى"، أخذ ينادي: سالم يا سالم، أبو السعيد ...ثوان كنا في صالون أبي السعيد. كان سالم يحاول أن يجيب على النداء بالنداء، لكن الصدر خانه والصوت كان عاجزًا خنيقًا. تقابلا، نسمة على كتف نسمة، فكان العطر فواحًا. لا دمع في المآقي، لكنّه، هكذا شعرت، تصبب بين الحنايا وعلى أطراف الضلوع. تحدثا، صديقان لم يقوَ الزمن على قطع ما عقداه من حبل للمودة، وعهد لم يفسده طول بعاد، ودرب أقوى من الشتات، وهمٍّ أعند من الشقاء.

كان اللقاء خاصا وحميميًا. لم يتحدثا عن قضايا العصر الكبيرة. سالم، بهدوء زائد عن هدوئه العادي وباختصار، شرح عن تردي حالته الصحية وسأل باهتمام واضح وقلق بادٍ عن حالة محمود، ومحمود أجاب بقصاصات حقائق ليعود إلى سالم ليطمئنَّ وليُطَمئِن.

لعبة الألغام أسميتُها فمحمود يعيش ولغم في صدره لا يعرف أحد ميعاد انفجاره، وسالم بعد عملية كاسحة ومزيلة للألغام من صدره. كلاهما يسعى لإبطال وتسخيف لغمه ليضمن سلامة شريكه/رفيقه.

رغم محاولته إخفاء ذلك، إلا أن الوَهن كان باديًا على أبي السعيد. أقلقَنا ضعفه وأخافنا حزنُه البادي. نبرة من يأس خالطت حديثه الممتع وكلما حاول إبعادها عاودَت وسقطَت من طرف لسانه غمّة وهمًّا.

بعد أكثر من ساعة غادرنا بيتَ سالم.الذي تمنى لمحمود عودة سليمة وهو معافى من مرض ومن منفى، ومحمود تمنى لسالم شفاءً كاملًا وراحة بال مصحوبة بسيادة جسد. كانا كنحلتين في مهب الريح محلّقتين على جناحي قدر". انتهى الافتباس.

سالم نقل لي مشاعره اكثر من تفاصيل اللقاء التي اوردها جواد بولس في مقاله. كان يتحدث شعرا عن محمود وصفاته الانسانية ويستعيد ايامهما المشتركة، أيام الدراسة والشباب المبكر والعمل بالصحافة واللقاء الفكري الأيديولوجي الذي وحد بينهما، والهم الوطني الذي شكل مسارا لابداعهما الشعري والسياسي. واللقاءات بعد انتقال محمود للعالم العربي ..

وكان سؤالا محرجا يستفزني؟

هل سمع سالم الخبر ؟ وكيف سيستقبل رحيل رفيقه ؟

كنت بحاجة الى شخص انقل اليه الخبر . كان اكبر من أن أحتمله وحيدا. ولم يكن في ذهني الا سالم جبران، وكنت أعرف وضعه الصحي الحرج .. ولكنه أقرب الناس الى محمود درويش. قلت لنفسي ساحاول ان أبلغه بان الخبر غير مؤكد. ليبحث بنفسه ويعرف الحقيقة المرة. ومع ذلك كان شيئا يقول لي ان سالم على علم بالخبر المفجع.

بتردد اتصلت تلفونيا بسالم. تعوق في الرد. ثم جاءني صوته باكيا ، بل يجهش بالبكاء. لم اعد اعرف ماذا علي ان أقول. حبست دمعي. وخفت ان نطقت بكلمة ان انفجر انا ايضا بالبكاء. بعد ان تغلبت على حزني قلت: هناك خبر مؤلم ، محمود مات. وصلني صوت سالم : اجل مات. وغابت كل الكلمات من ذهني فاغلقت التلفون.

*******

سافرنا في اليوم التالي لتقديم التعازي لأهل الراحل محمود درويش المقيمين في قرية الجديدة، التي لجأوا اليها من قرية البروة بعد ان هُدمت مثل اخواتها البلدات العربية الخمسمائة، كعلامة لا تنسى على بشاعة وحجم النكبة الفلسطينية.

لم يسق سالم . بل سلمني مقود السيارة وهو يقول: لا استطيع التركيز على الشارع   وأضاف: أحلم ان أصل بيت أهله ليقولوا لنا ان الخبر غير صحيح.

كان سالم يحلم باستحالة الموت المبكر لرفيقه وصديق عمره محمود درويش. لأول مرة اشاهد سالم يتعلق بوهم ، ويستغرق به بكل وجدانه.

تحدثت مع سالم يوميا تقريبا،لأطمئن على وضعه، عدا زيارته في المستشفى بسبب مشاكل في القلب. شعرت بعد زيارة التعزية ان شيئا يعذبه ويغضبه. فاجأني بعد اسبوع بقوله أنه كتب قصيدة عما يؤلمه من وفاة صديقه. قرأها على مسمعي عبر التلفون بصوته الضعيف المبحوح. طلبت منه ان يعطيني نسخة لأوزعها. قال :"ليست للنشر".

اصررت يوميا تقريبا ان أحصل على نسخة، وانه على ضوء ما يكتب عن محمود درويش في وسائل الإعلام يجب نشرها، ليفهم القارئ العربي ان هناك مبالغات وأكاذيب وأوهام أكثر من الحقائق.

كان يصر على رفض النشر. أُصبت بحالة يأس. وبدأت التنازل عن إصراري على نشر قصيدة سالم.

كنت اخبره بما اقرأ في مواقع الانترنت عن تدفق المقالات التي تبني محمود درويش كما يحلو لها، محمود درويش آخر أكاد أجهله. لم تكن دراية لسالم باستعمال الشبكة العنكبوتية، وكان اعتماده الأساسي علي ثم على زوجته بمرحلة متأخرة.

بعد اسابيع قليلة ، قال لي سالم انه سينشر القصيدة. قلت متحمسا: ممتاز، ساوزعها بشكل واسع. قال: ولكني لن أنشرها باسمي. قلت الأفضل باسمك، واذا كان ذلك يمنعك من نشرها فلا بأس باسم مستعار. قال: سأنشرها باسم "سعيد الحيفاوي".

هذه القصيدة لم تدخل في كتاب الأعمال الشعرية الكاملة لسالم جبران ، الذي صدر بعد وفاته. وهذا نصها كما وزعتها على مواقع الانترنت:

قصيدة لم يكتبها محمود درويش

شعر : سعيد حيفاوي ( سالم جبران)

" القطارُ الأخير توقْفَ عند الرصيف الأخير "

هنالك ليلٌ أشَدّ سوادا

" هنالك ورد أقلُّ "

" أنا يوسف يا أبي "

أمامي طقوس كثار وليلٌ طويلٌ طويلْ

" أنا يوسف يا أبي "

ويسعدني ان بحرا من الناسِ حولي

من الطيبين ،

من البسطاء ،

من الصادقين

ولكنني يا أبي في امتعاضٍ حزين

فكل الذبابِ يحاول ان يتقدم

وكل الذئابِ تحاول أخذ مكان

بجانب نعشي ، وتتلو صلاة الغياب

يريدون ان يأخذوا صورة حول نعشي

ولو بازاحة أمي واخوتي الطيبين

وحولي من الزعماء اناسٌ

يريدون ان يأخذوا صورة حول نعشي

ولو قَدروا اقتلعوا بعض رمشي

ليبقى لهم

وبه يعلنون ارتباطي بهم

عندما يقرب الانتخاب

ولو قدروا مزقوا لحم روحي

انا يوسف يا أبي

انا طيب ، غير اني

قليل السذاجة ، يا أبتي

مثلما كنتُ دوما قليل العتاب

انا يوسف يا أبي

كل الناس بلادي وكل بلاد

رفاقي وأهلي

ولكنني لا أزال وسوف أظل الى أبد الآبدين

عدو الذباب !

******

البعض كالعادة السائدة منذ فترة غير قصيرة، حملني تهمة كتابة القصيدة وأضاف اسم سعيد الحيفاوي لأسماء عديدة تنسب لنبيل عودة. واليوم انزل عن كتفي اسما عزيزا على نفسي. كنت اتمنى لو كنت قادرا حقا على كتابة نص شعري بهذا التألق.

القصيدة ترجمت أيضا للعبرية ونشرت بالعربية والعبرية في موقع "زاوية أخرى زافيت أحيرت" العبري.

ديوان شعر غزلي مفقود

كتب سالم جبران بين عامي 2003- 2004 ، اثناء عملنا سوية في تحرير جريدة "الأهالي" مجموعة قصائد غزلية، احتفظ فيها بدفتر مدرسي عادي. وقد قرأتها وهي خارجة من "الفران"، وقرأها سالم امام عدد من الأصدقاء الأدباء في جلسات خاصة.

ورغم محاولتي الحثيثة على اقناعه بالبدء بنشرها في جريدة "الأهالي" التي كان يرأس تحريرها، الا انه أصر انه لن ينشر شعرا غزليا وقد قارب من السبعين. قلت : "الدهن في العتاقي". وبررت ضرورة النشر بان كل شعراء العربية واصلوا كتابة الغزل وهم بعد السبعين. وها هو نزار قباني على رأس شعراء الغزل . هل يضر به الأمر أم يزيده تألقا شعريا؟

لم يتحرك عن رفضه.

القصائد كتبها سالم باسلوب الشعر المنثور. واعتقد كما أسر لي ذلك كل من سمعها، انها من أجمل قصائد سالم، وان نشرها قد يشكل نقلة شعرية نوعية في شعر سالم وفي شعرنا المحلي، وفي شعر النثر العربي كله. لديه صور شعرية مبتكرة، وخروجا عن النمطية في اللغة والصياغة، وقوة الصور الشعرية وموسيقى الكلمات تعانق الروح .

كلامي لم يساعد ولم انجح باقناعه على نشر أي قصيدة . وسالم عندما يصر على موقف لن يغيره الا بعد ان يقتنع بشكل شخصي بدون تدخل "قوى ضغط خارجية".

وظلت نثرياته الغزلية في كهف الدفتر.

بعد وفاته بدأت العائلة تجمع أعماله الشعرية، وجدت زوجته ، الى جانب دواوينه الثلاثة، عددا من القصائد تشكل ديوانا رابعا. الا الدفتر. لم يُعثر عليه.

رغم البحث في مكتبته، واوراقه، ما زال دفتره الشعري الغزلي مفقودا.

هل اكذب نفسي؟ هل يكذب من استمع الى قصائده الغزلية أنفسهم ؟

كنت الشاهد الأول على ميلاد تلك القصائد.وعبثا حاولت ان اقنعه بنشر بعضها حتى باسم مستعار. وحثثته مرارا ان يطبع قصائده النثرية بملفات وورد ويحضرها للإصدار في كتاب للمستقبل، فلدينا في "الأهالي" فني غرافيكا ..هكذا يحفظها جاهزة للوقت الذي يقتنع فيه بنشرها.

لم تنجح جهودي.

اسجل هذه الحادثة، لعل الدفتر يقع بيد أمينة، او لعله ما زال تائها في مكتبته.

nabiloudeh@gmail.com

 

 

 

 

 

 

بحث توثيقي للباحث نادر زعبي*:

حكاية.. أرض وصمود!!

 

نبيل عودة

 

الكتاب: حكاية.. ارض وصمود

الكاتب: نادر زعبي

إصدار جمعية ربوع الخير كفر مندا - 2015

يتناول الباحث نادر زعبي في كتابه المذكور تصدي السكان العرب في الجليل لمخططات مصادرة أراضيهم خلال فترة الحكم العسكري بين الأعوام 1949- 1966، كما جاء في تصديره للكتاب.

يحوي الكتاب مواد توثيقية هامة جدا لمن يريد دراسة وفهم واقع الجماهير العربية في إسرائيل وما واجهته من تحديات بالغة القسوة والعنف بعد نكبة شعبهم الفلسطيني، عمليا يوضح الكتاب ان البقية الباقية من الشعب الفلسطيني فوق تراب وطنها كانت أشبه بالناطور لحماية الوجود الفلسطيني وتشريشه في ارض الوطن والدفاع بكل الوسائل النضالية الممكنة عن الأرض وعن مختلف الحقوق المدنية والإنسانية، في فترة كانت الأشد سوادا التي واجهتها الجماهير العربية الباقية في وطنها.

الباحث تناول أكثر السنوات التي تعرضت فيها الجماهير العربية الفلسطينية لسياسة ابرتهايدية بالغة الشراسة والعنف، وكان واضحا ان بقاء هذه الأقلية لم يكن في حساب القيادات الصهيونية.

يفتتح الباحث كتابة بتقديم عرض عام عن نتائج حرب عام 1948 وانعكاسها المأساوي على الجمهور العربي الذي تفسخت عائلاته ودمرت بلداته وفقد معظم أراضيه. والحديث عن مجتمع فلاحون أي لا حياة له بدون الأرض. مجتمع وجد نفسه في عاصفة أفقدته كل مقوماته كمجتمع وشعب وهيئات.

ضمن هذا العرض يوضح الباحث انه من مجموع (1.970.000) مواطن فلسطيني، بقي بعد النكبة (150) ألف عربي فقط، موزعين كالتالي: 65% في الجليل، 22% في المثلث و 13% في النقب. يوضح الباحث ان هذا التحول الديموغرافي الذي حول أصحاب البلاد من أكثرية إلى أقلية مضطهدة منكوبة، شكل ضربة قاصمة للعرب المتبقين في وطنهم. القيادات الصهيونية والسياسية للدولة الإسرائيلية اعتبرت العرب خطرا أمنيا ففرضت عليهم قوانين الطوارئ الانتدابية ومن ضمنها جهاز الحكم العسكري، عمليا هو جهاز حكم خاص بالجماهير العربية فقط. تحكم هذا الجهاز بحياة الأقلية العربية، قيد حقها بالتنقل داخل وطنها للبحث عن عمل ولقمة خبز ، سيطر على مختلف الوظائف الرسمية خاصة جهاز التعليم. كما يوضح الباحث ان السلطة الإسرائيلية اعتبرت العرب في إسرائيل "طابورا خامسا"..

طبعا رغم الواقع السياسي الحرج والأحكام العسكرية وخنق المجتمع العربي بحرمانه من ميزانيات تطوير، وغياب فرص عمل ، وإرهاب بوليسي ضد أي محاولة احتجاج، إلا ان الجماهير العربية قامت بعمليات احتجاجية ومقاومة، وهي كما يوضح الباحث لم تحظ بأي بحث جدي وشامل. ويقدم الباحث في كتابة وثائق هذا النضال وتشعبه وأشكاله وتطوره.

من المواضيع الهامة التي يطرحها الباحث أساليب مصادرة الأرض العربية وتهجير أصحاب تلك الأرض أحيانا لبناء بلدات يهودية على أنقاض البلدات والأراضي العربية.

يوضح الباحث ان قوانين مصادرة الأراضي في إسرائيل هي من فترة الانتداب البريطاني، ومنها قانون مصادرة الأرض للصالح العام (اقرأ لصالح اليهود فقط) وتقدر مساحة الأرض المصادرة حتى عام 1966 بمليون دونم .يتميز القانون الإسرائيلي بشبكة واسعة من القوانين والأنظمة التي أقرت بهدف نهب الأرض العربية، منها قوانين الطوارئ، قانون أملاك الغائبين، أي الفلسطينيون الذين طردوا من وطنهم أو هربوا خوفا من المجازر، قانون تركيز الأراضي، وغير ذلك من صلاحيات مختلفة لوزير المالية.. عمليا دولة إسرائيل الصغيرة وضعت قوانين أراضي مختلفة وكأنها إمبراطورية لا تغيب الشمس عن أراضيها. هذا الأمر ادخل تغييرات ديموغرافية واسعة لتخفيض نسبة المواطنين العرب في مراكز تواجدهم ورفع نسبة المواطنين اليهود.

الكتاب يوثق المساحات المصادرة وأشكال الاحتجاج التي مارستها الأقلية العربية، ومعظمها كانت عرائض ورسائل واجتماعات شعبية.

الكتاب يتناول بالتفصيل مصادرة أراضي المواطنين العرب الذين لم يغادروا أوطانهم ، ولا يشملهم قانون الأموال المتروكة أو الحاضر غائب، وهو قانون يسمح بمصادرة أملاك من غادر وطنه وعاد متسللا بعد إعلان الدولة ، لذلك يعتبر انه حاضر الآن وكان غائبا مع إعلان الدولة أي ليس مواطنا له حقوق أو أملاك. كذلك لم يشمله إحصاء السكان، فمنح هوية حمراء وتعني انه مقيم وليس مواطن وهو معرض للطرد وراء الحدود، وكانت هناك معارك قضائية واسعة للحصول على الهوية الزرقاء التي تعني عدم إمكانية الترحيل، وقد اشتهر وقتها المحامي الشيوعي حنا نقارة الذي أخذ على عاتقه تحصيل الهويات الزرقاء.

ولم يحظى الكثير من العائدين بعد أحداث حرب 1948 بهويات زرقاء، مما كان يعني تعرضهم للطرد من الوطن، أو القتل كمتسللين، أو الحصول على هوية حمراء تعني أنهم مقيمون ( أو "ضيوف" حسب الصيغة الرسمية حتى ايجاد حل منه الطرد من الوطن) وليسوا أبناء هذا الوطن.

كما قلت اشتهر وقتها المحامي الشيوعي حنا نقاره، وأطلق علية الناس لقب "محامي الشعب" ، وكانوا ينشدون له الأهازيج الوطنية فرحا بتحصيله للهويات عبر المحاكم الأمر الذي كان يعني البقاء في الوطن وعدم اعتبار الفلسطيني "متسللا" ( أو ضيفا) مرشحا للطرد وراء الحدود.

من تلك الأهازيج النضالية :

طارت طيارة من فوق اللية الله ينصركو يا شيوعية (اللية اسم مكان في الجليل)

حنا نقاره جاب الهوية غصبا عن رقبة ابن غريونا ( بن غوريون أول رئيس لحكومة إسرائيل)

وتطورت ثقافة شعبية غنائية كجزء من النضال والصمود ضد التشريد، يذكرها الشاعر والمناضل حنا إبراهيم ( كتابه: ذكريات شاب لم يتغرب )وهي أغاني تحدي كانت تنشد في حلقات الدبكة والمهرجانات النضالية ومنها:

يا أبو خضر يللا ودينا الزرقات والحمرا ع صرامينا (أبو خضر هو اسم شرطي مارس العنف ضد العرب، والزرقات والحمر هي الهويات)

هذا وطنا وع ترابه ربينا ومن كل الحكومة ماني مهموما

يقطع نصيب ال قطع نصيبي لو انه حاكم في تل أبيب

توفيق الطوبي وإميل حبيبي والحزب الشيوعي بهزو الكونا (من أبرز قادة الحزب الشيوعي آنذاك)

ويتلقف الشبان الكرة ويعلو نشيد المحوربه ( نوع من الغناء الشعبي الفلسطيني) :

لو هبطت سابع سما عن حقنا ما ننزل

لو هبطت سابع سما عن أرضنا ما نرحل

طبعا هذا الجانب النضالي أبدع فيه الحزب الشيوعي بقياداته الطليعية في ذلك الوقت.

هذه لمحة أضفتها لفهم الواقع الذي ساد المجتمع العربي الفلسطيني ، واقع تعيس ، لكن أبناء الشعب الفلسطيني لم يرفعوا أيديهم مستسلمين، وكان يوم الأرض (1976)عاصفة غضب شلت فكر الاستمرار في مصادرة ما تبقى من أراضي وهي قليلة جدا، إذ تقدر مساحة الأرض بملكية عربية اليوم أقل من 3.5% وكانت أكثر من 95% قبل قيام دولة إسرائيل..

هذا الكتاب وثيقة هامة ضرورية لكل مثقف وقارئ يريد ان يعرف حقائق الواقع من مصدرها الأول وبدون مزايدات سياسية.

*- نادر زعبي كفر مندا باحث في موضوع الجغرافيا السياسية وعلوم البيئة ويواصل دراسته للقب الثالث ولدية العديد من الأبحاث والوثائق الهامة التي ستنشر قريبا.

nabiloudeh@gmail.com

 

 

 

درس في علوم السياسة!!

قصة: نبيل عودة

من هو الزعيم ؟ فاجأ استاذ العلوم السياسية طلابه بهذا السؤال المباغتكيف تجدوا القاسم المشترك  بين زعيم وقرقعة؟

اشغلهم اسبوعا كاملا بتفسيرات كادت تشعرهم بالندم لاختيار موضوع العلوم السياسية. تساءلوا ما العلاقة بين العلوم السياسية وهذه الدوامة التي ادخلهم بها استاذهم؟ كيف يقارنوا بين زعيم وقرقعة؟ ما علاقة القرقعة بالحياة السياسية؟ كيف يمكن الربط بين قرقعة وشخصية تملأ أخبارها وسائل الإعلام. القرقعة تعيش في الوعر والزعيم ينشأ داخل حزب سياسي. القرقعة تتغذى على النبات والزعيم على الهبر والطيبات من أجود انواع اللحوم . قيمة نعل الزعيم  مصروف عائلة من عشرة أنفار لشهر كامل وبيت فاخر وفيلات وفنادق والقرقعة تجيء لعالمنا وبيتها وعلى ظهرها، تنظيف بيت الزعيم هو ميزانية نظافة لسلطة محلية كبيرة. الزعيم متزوج من زعيمة  تبتلع يوميا زجاجة نبيذ على الأقل قيمة كل زجاجة أكثر من الف دولار. الزعيم له مؤهلات تجعله يتبوأ الصدارة بين مجموعة من الناس او داخل حزب ما. هناك مميزات أقرب للخيال عن رحلات الزعيم وزوجته بغرف خاصة في الطائرات، والحصول على غرف فنادق بقيمة تكلفة يومية للغرفة تكفي لإقامة احسن حفل زفاف لعشرة عرسان!! الزعيم لا يتنازل حتى عن الزجاجات الفارغة التي ثمنها بعض القروش ولا تكفي لشراء عشرة ساندويشات شوارما لأولاد جائعين. فكيف نربط بين قرقعة لا حول ولا قوة لها وبين جبار يده تطول ما لا يطوله نصف جميع أعضاء حزبه سوية؟

المستهجن كما عبر احد الطلاب ان المقارنة هي بين عنصرين لا شيء يربط بينهما. رد الأستاذ:

-      انا متفاجئ من تفكيركم الضيق.. افتحوا أدمغتكم وفكروا بأسلوب ابداعي وليس بطريقة تقليدية من داخل صندوق مغلق.. اخرجوا الى شمس الفكر .. الى التفكير الابداعي .. لا تخافوا من الخطأ.. بدون خطأ لا تقدم في التفكير.. ستظلون تجتروا التقليد ...من هو الزعيم اذن وما علاقة ذلك بقرقعة؟

 حاول الطلاب مناقشة جميع جوانب الموضوع. احدهم ادعى انه لكي تصبح زعيما سياسيا يجب ان تكون غنيا. آخر قال المال لا يصنع الزعيم، يجب ان يكون وراءه حزب  قوي . طالب ثالث ادعى ان الزوجة هي التي تصنع الزعيم، بتوفيرها للجو المناسب كي ينشط ويتقلد المناصب المرموقة. طالبة ادعت انه يجب ان يكون مثقفا وخبيرا في قضايا السياسة والمجتمع.. واخرى قالت انه يجب ان يكون ذكيا وسريع الخاطر. طالب اعترض ان الاستقامة هي ابعد ما يكون عن الزعماء.

أستاذ العلوم السياسية سخر من هذه التفسيرات ووصفها بالصبيانية والتقليدية والخارجة من صندوق مغلق.

تحمس طالب وقال ان السبب باعتقاده هو تمتع الزعيم بجينات خاصة ترفع من شانه. ضحك المعلم وقال ان اكثرية الزعماء المطلقة أغبياء .. وربما يداروا عن طريق رجال أقوياء ووضع الزعيم بينهم مشابه للقرقعة، الرجال الأقوياءهم الحكام الحقيقيين والزعيم واجهة، قرقعة، واضاف ان معظم الزعماء هم أشخاص من مستويات متوسطة، وصلوا بالصدفة الى منصب هام بعد ان فرغ من زعيم سابق بسبب مواهبهم في التملق. وان الموضوع لا يعبر عن ذكاء او استقامة او حسن ادارة للسياسة..

طالب لم يعجبه قول استاذه فقاطعه: كيف يمكن مقارنة زعيم يتصرف بمصير الملايين بقرقعة؟

قال الاستاذ ان هذا الكلام يليق بصفوف ابتدائية وليس بطلاب جامعة.

-      اذن ما الجواب؟

 سالته طالبة.

-      هذا ما اردت ان اسمعه منكم .. ان يكون لكم جواب غير تقليدي.

-      تذكرني بجدي الذي يقول ان الزعيم مثل القرقعة على عامود خشب.

-      الآن دخلنا في علوم السياسة.. هذا جواب هام .. لكنه ناقص، ونريد ان نسمع تفسيرا عن التشابه بين الزعيم والقرقعة فوق عامود خشب.

بعد تردد وبسبب تشجيع أستاذها قالت:

-      جدي يقول انه من الصعب ان نفهم كيف وصلت القرقعة لقمة عامود الخشب، حتى من الصعب ان نصدق أعيننا انها على قمة العامود...والأهم لا يمكن ان نتخيل انها وصلت بقواها الذاتية لقمة العامود بدون مساعدة من شخص أو أكثر لهم مصلحة بالقرقعة ان تكون على رأس العامود.. والأهم ان وجود قرقعة على قمة العامود أمر غريب ومستهجن لأنها أصلا لا يجب ان تكون فوق... السبب ان القرقعة لن تستطيع ان تقوم بأي عمل مفيد لنفسها او لأبناء جنسها ما دامت على قمة العامود.. ويقول جدي ، بالضبط هذه هي حال الزعماء... قرقعة على قمة عامود!!

nabiloudeh@gmail.com

Attachments area

 

 

 

يوميات نصراوي:

عن الثقافة والتثاقف

نبيل عودة

 

زارني في بيتي في الناصرة صديق عزيز وشاعر مبدع اثبت نفسه على الساحة الأدبية، قال لي بمجرد ان اراح جسمة على المقعد في الصالون انه في سبيله لإصدار ديوانه الشعري الجديد.

 قلت له بلا تردد، ان ذلك بشارة خير لعلها تساعد القارئ على التمييز من جديد بين الغث والسمين مما ينشر من شعر في بلاد صار الشعر فيها عقاب للقارئ.او كما قال أحدهم:"كثر الشعر وقل الشعراء"!!

 قال لكني خائف من النقد .

 استهجنت خوفه .. فسارع يقول : لا أقصد الخوف من النقد الادبي ، إنما احتقر النقد الذي يسود صحافتنا ويسود بياض صفحاتها .

 قلت : اذن اكتب مقدمة للديوان اذكر فيها ان نقد الديوان ممنوع إلا لمن يحصل على إذن مسبق من الشاعر ، كل من يتجاوز ذلك سيجازى قضائيا بتهمة التشهير وتجاوز الحدود .

 ضحك حتى كاد يختنق ..

 عندما استعاد انفاسه اضفت : كنا في مشكلة ادبية واحدة فأصبحنا في مشكلتين .

 سأل ماذا تعني ؟

 أوضحت كنا نتحدث عن فوضى الشعر في بلادنا ، المستوى المتدني لما ينشر ، فبرز من يحول الفوضىوالشعر المتدني الى شعر عبقري وإبداعات لا مثيل لها منذ فجر الحضارة ، حتى تبدو الياذة هوميروس بجانب الشعر غير الناضج الذي شحذ اقلام نقادنا "الأوادم" وسحرهم  عملا ضحلا ساقطا .

 وواصلت القول وهو مصاب من جديد بالإغشاء ضحكا : حتى محمود درويش لم يحظ بمثل هذا المديح المنفلت وهو في قمة عطائه قبل ان يغادرنا .. لا أذكر ان شعراءنا المعروفين، بدءا من توفيق زياد وسميح القاسم وحنا ابو حنا وحنا ابراهيم وجمال قعوار وفوزي عبدالله وسالم جبران وغيرهم ، حظوا بمثل هذا التقييم كعباقرة الشعر، كما يحدث اليوم في ما يسمى نقدا .

 التقط انفاسه وسأل : الحل ؟

 قلت بلا تردد: أن نشترك بالتهريج !!

 - كيف ؟

 

من تجربتي الخاصة ، اعرف أن المصارحة لا تنفع وتحولك الى عدو لئيم وحقود... لذلك الحل بإضافة المدائح بلا حساب ، جعل الناقد قمة العبقرية .. والمنقود أبرع المبدعون وألمعهم.

 - أي التخريب ..؟سأل . فأجبت :

 - الكلمة الصادقة لا تفهم .. المبالغة بلا منطق وبلا عقل هي أفضل تنبيه للمجزرة الأدبية التي ترتكب دون عقاب.

 عبر عن خوفه من أن ذلك يقود إلى مزيد من الغرور ، لدى من لا يفقهون معنى الأدب والإبداع الأدبي ، ممن يحملون صفة الشعراء عنوة ، أو يركبون حمار النقد بالشقلوب .. هذه المدائح الساخرة تزيدهمغرورا .

قلتربما.. لكن القارئ سيفهم، هذا هو المهم وأضفت: أحد أصدقائي المقربين والقريب من آرائي الثقافية أيضا، يمارس على موقع من مواقع الانترنت المديح المبالغ فيه... الموقع ينشر والمهزلة مستمرة ... بعض ردود الفعل التي وصلته تشير الى ان "السبت فات بقفا اليهودي"  (تعبير نستعمله بمعنى ان المسألة صارت من الماضي ). بدأ البعض يستهجن المديح .. ويبدو ان المدح بلا شواطئ أفضل من الكلمة الصادقة في عصرنا الشعري المريض ..

 - " لكن من يستوعب ان المبالغة في المدح هي ذم ؟" وأضاف :

 - المهم كيف سأحل مشكلتي بأن لا يتعرض لديواني من أحسنت وصفهم ...؟

 قلت: كن جريئا واطلب مباشرة ممن لا تراه أهلا لمراجعة ديوانك أن يبعد شره عنك.. وإلا صنع منك شاعرا كبيرا,، هذا أنت تستحقه بجدارة.. ولكنك كبيرا مع خنافسه الشعرية، بأسلوب ممجوج خلو من الفكر الثقافي والنقدي واللغوي.

قال بحزن : أنا في مشكلة .

 سألتههل تريدني أن أقوم بالمهمة بدلا منك.. أنا لا أتردد..؟

 تأخر في الاجابة، فسارعت أقول : هل اعتبر صمتك صمت العروس ؟

فأجاب بحيرة واضحة: لا أستطيع أن أكون فظا.

 غضبت : هل تعتبرني فظا ؟

 اعتذر اطلاقا لا،  أعتبرك أجرأ من حمل القلم .. أتمنى أن يكثر أمثالك.

 قلت: لا تمدحني أكثر من اللزوم حتى لا يصبح مدحك ذما..

 انهينا الحديث، وصديقي الشاعر المبدع الأصيل، حائر كيف يطلب من بعض مهرجي النقد أن لا يكتبوا عن ديوانه الجديد.

 

nabiloudeh@gmail.com

 

 

 

 

عيد البشارة

عيد كل النصراويين

نبيل عودة

 

تحتفل الناصرة بمناسبة هامة في تاريخها، عيد بشارة العذراء مريم وهو عيد الناصرة الأهم عبر كل تاريخها، هو العيد الذي كان يوحد ابناء الناصرة بكل طوائفهم*

نبيل عودة

 

يعتبر إعلان علي سلام رئيس  بلدية الناصرة، في السنة الماضية عن اعتبار عيد البشارة عيدا نصراويا لفتة إنسانية هامة جدا، يعيد فيها للناصرة أحد أهم أعيادها ، بذكرياته التي لا يمكن ان تمحى من تاريخ مدينتنا وتقاليدها وتعاضد اهلها وذاكرتها الشعبية.

الموضوع يتجاوز الجانب الديني ( ولا اقلل من اهميته) الى تقليد نصراوي اجتماعي، له مكانته في تاريخ مدينتنا، وفي الذاكرة الشعبية... وهو ما اود تسجيله بهذه المناسبة حتى لا ننسى تاريخنا!!

وللذكرى: حضرت قبل سنوات مناسبة بالجامع الأبيض شارك فيها المطران اللاتيني ماركوتسو الذي يتحدث العربية كأحد ابنائها، رحب فيه السيد عاطف الفاهوم القيم على الجامع البيض معتبرا المطران ماركوتسو إماما للجامع الأبيض، وكن رد ماركوتسو على الترحيب باعتبار عاطف الفاهوم مطرانا لكنيسة البشارة. هذا هو ابرز ما يميز التلاحم والتآخي النصراوي.

*****

من ذكرياتي عن عيد البشارة:

يا عدرا يا ام المسيح ارفعي عنا التصاريح

 

الناصرة مدينة المسيح كما تعرف، لها عيد خاص هو عيد البشارة، "عيد الناصرة" كما يسمى... حين بشّر الملاك جبرائيل العذراء مريم انها ستلد ابن الله يسوع المسيح.

لهذا العيد قيمة خاصة في الناصرة.. كانت تجري الاحتفالات في كنائس الناصرة بمشاركة جماهيرية واسعة تشمل كل طوائف المدينة وكل حاراتها.

بسبب التقويمان الغربي والشرقي كانت تجري احتفالات الناصرة بعيد البشارة مرتين، مرة حسب التقويم الغربي وأخرى حسب التقويم الشرقي، الذي نأمل ان ينتهي وتتوحد أعيادنا أما من الناحية الشعبية فكانت مشاركة اهالي الناصرة تشمل كل الطوائف بالمناسبتين المختلفتين للإحتفال  الديني، لكن ابرز ما في الاحتفال جانبة الشعبي الجماهيري

صحيح اني بجيلي الصغير نسبيا أتذكر أكثر الاحتفال في ساحة كنيسة البشارة للروم الأرثوذكس، حيث كان يحضر البطريرك الأورتوذوكسي من القدس، واهم ما في الاحتفال ليس طابعه الديني اطلاقا، انما طابعه الشعبي الفولوكلوري، اذا صح هذا التعبير.. وهو ما تشرش في ذاكرتي.

 عادة بعد الصلوات الرسمية يقام احتفال في ساحة الكنيسة الرحبة يحضره كل مواطني الناصرة من كل الطوائف، هذه هي أبرز قيم ذلك العيد وأعياد الناصرة التي لم تعرف التفرقة بين مسيحي ومسلم. أصلا من كان ينتبه الى كون ذلك الشخص مسيحيا او مسلما؟ لاتينيا او كاثوليكيا او اورتوذكسيا؟ كنا ابناء وطن واحد منكوب، أعيادنا واحدة، فرحنا واحد وألمنا واحد..

كانت تعقد دبكة في ساحة كنيسة البشارة ، نفس الأمر كان يجري في كنيسة اللاتين، يشارك بها المئات من كل الطوائف وكيف لا والناصرة بلد التفاهم والمحبة. كان الاحتفال يتميز بشعبيته، تقوم حلقات الدبكة، والمميز الأكبر كان مشاركة سيافان من عائلة مزاوي النصراوية يرقصان بشكل فني بالسيوف لتصبح السحجة حولهما حلقة واسعة يشارك فيها اهل الناصرة كتفا الى كتف.. وكانت تتوارد قناني العرق من أهل حارة الروم وخاصة من طيب الذكر اسحق كردوش.

تفتح القناني ويخلط بعضها بالماء لتدور على الجميع، الجميع يشرب، وأعني المسلمين والمسيحيين... والسحجة تصبح اكثر حماسية، السيافان يبدعان بـ"القتال" الراقص.. والعرق يتدفق من كل النواحي.. ثم تبدا المسيرة من ساحة الكنيسة الى دير المطران (كنيسة القلاية) يتقدّمها كشّاف الروم الذي يضم شبابا مسيحيين ومسلمين يسيرون امام موكب المطران وضيفه البطريرك الي دير الروم في مدخل سوق الروم، ووراءَهم المئات او الآلاف في سحجة اولها وصل قرب دير الروم وآخرها ما زال قرب كنيسة البشارة.

 المسيرة (السحجة) التي بدأت كاحتفال ديني تتحول بدون مقدمات الى تظاهرة سياسية يطرح فيها المحتفلين هموم حياتهم ويعبرون عن غضبهم من الظلم والتمييز العنصري بأبشع صوره في تلك الأيام، خاصة نظام الحكم العسكري الذي يضيق الخناق على عمال الناصرة (والعرب في اسرائيل بشكل عام) بقانون التصاريح التي تقيّد حركتهم وتستعمل أحيانا كجهاز للانتقام من "السلبيين" الذين لم ترهبهم الاعتقالات والتضييق على الأرزاق.. وواصلوا نضالهم ضد تعسّف السلطات العنصرية رغم الثمن القاسي الذي دفعوه هم وأبناء عائلاتهم.

كان عيد البشارة مناسبة للتعبير عن واقعنا الصعب ايضا.. وتمجيدا للمسيح في مدينته التي أعطيت فيها البشارة بميلاده.

بدون مقدمات تنطلق الهتافات المحبوسة بالصدور ضد الحكم العسكري وتعسُّفه وتصاريحه.. وتنطلق الأهازيج الوطنية والزغاريد وتتحول الدبكة التي يصطف فيها الرجال والنساء جنبا الى جنب الى تظاهرة عفوية... كانت صفوف السحجة تمتد من ساحة كنيسة البشارة حتى مدخل دير المطران.. أكثر من 3 كيلومتر.. ويرقص المحتفلون بعيد البشارة ويطلقون إغاثة للعذراء مريم سيدة البشارة:

يا عدرا يا أم المسيح ارفعي عنا التصاريح

ستي يا عدرا نجينا من الحكم العسكري خلصينا

يا عدرا احمينا احمينا احنا الك التجينا (أي التجأنا)

يا عدرا يا أم القدرة زتي العسكر لبرا

هذه بعض الأبيات التي أتذكرها. سألت كبار السن لعلّهم يتذكرون المزيد، للأسف ضاعت بقية الأبيات وليت من يحفظ بعضها يرسلها لي على ايميلي!!

بعد ان تفرغ قناني العرق، التي لا تخلو منها السحجة والتي لها حصتها في الغزل مثل:

"اللذة مش من اول كاس اللذة بقاع القنينة"

وغيرها من أغاني الغزل بالعرق يبقى الهم الوطني...

ما بقي ان أذكره ان الشرطة لا بد ان تعتقل مساء بعض المتظاهرين الذين بحت اصواتهم وهم يهتفون ضد الحكم العسكري ويناشدون ام المسيح ان ترفع عنهم التصاريح!

مثل هذا العيد هو عودة الى أجمل ما في تقاليد الناصرة... ويستحق علي سلام ان نشكره لإقراره عيد البشارة عيدا رسميا.

nabiloudeh@gmail.com

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

وداعا للفنان، الرسام

والمسرحي سهيل ابو نوارة

 

نبيـــل عـــودة

 

 

فجعنا يوم السبت (12-03-2016) برحيل الفنان والكاتب المسرحي سهيل ابو نوارة من الناصرة عن عمر  (76) سنة. قلائل جدا من ابناء شعبنا عرفوا أعمال سهيل الفنية خاصة، فهو رسام مبدع له عشرات اللوحات، لكن من المؤلم انه كان يعمل بصمت ولا يلتفت لتسويق نفسه، كان أشبه براهب منعزل في سومعطته  ويعطي كل طاقته لفنه، ألوانه وكتاباته.

برز المرحوم سهيل ابو نوارة بعمل مسرحي فريد من نوعه، هو مسرحية "زغرودة الأرض"، التي كتبها ونشرها في اواخر سبعينات القرن الماضي نشرت المسرحية في وقته في مجلة "الجديد" ، وقد اعتبرها الشاعر محمود درويش، الذي كان في تلك السنوات محررا لمجلة "الجديد" الثقافية التي كان لها الدور المصيري والبارز في  تطوير الثقافية العربية  للمواطنين العرب داخل اسرائيل في سنوات الحصار الثقافي والعسكري على المجتمع العربي، بأنها أبرز عمل مسرحي في ثقافتنا المحلية ، واضيف بدون وجل انه لم تكتب حتى اليوم في ثقافتنا المحلية، أي مسرحية بمستوى "زغرودة الأرض".

سهيل لم يكتب بعدها أي عمل مسرحي جديد، نشر بعض القصص والقصائد والخواطر، وغرق بالرسم الفني ومن المؤسف انه ظل بعيدا عن الأضواء، وقد تعرفت على لوحاته وقدراته في الدمج بين الألوان منذ زمن بعيد جدا.. وكاد يلفه النسيان. من المعروف ايضا ان والدته كانت رسامة موهوبة ترسم لنفسها وكأني بسهيل قد ورث انعزاله الفني عن والدته.

اليوم نودع هذا الانسان الذي فضل الانعزال  والتواضع بدون ان يقلق لمكانته الفنية ، وهو أمر بالغ فيه لدرجة ان معظم الفنانين أيضا بالكاد يعرفون عن إبداعاته الفنية.. وآمل من مؤسسات شعبنا ان تهتم بالكشف عن كنوزه الفنية وإعطائه الاعتبار الفني الذي يستحقه.

سهيل ترك لنا  واجبا ، ان نعمل على كشف أعماله الفنية أمام الجمهور، وهي مهمة سأحاول ان أنجزها بالتعاون مع اهل بيته ومؤسسات الناصرة المختصة بالثقافة والفن. وانا على ثقة ان بلدية الناصرة ستعرف كيف تكرم هذا الفنان  "الصامت"!!

حين نشر سهيل مسرحيتة "زغرودة الأرض" اثارت موجه واسعة من الاهتمام، وقد أُخرجت المسرحية بعد نشرها (سبعينات القرن الماضي) ولاقت نجاحا منقطع النظير.. وقد كتبت عرضا  عن هذا العمل الفني الكبير. وها انا اعيد نشر القسم الأهم عن المسرحية لتذكير ابناء جيلي وابناء الأجيال الجديدة عن ابداعات مهدت الطريق لتطوير ثقافتنا وتعزيز مكانتها على خارطة الثقافة العربية بشكل عام.

ملاحظة تعرض الكاتب المسرحي والرسام  سهيل ابو نوارة، في نيسان (2010)  إلى اعتداء آثم،  في منزله في الناصرة، من ملثمان بلا أخلاق طعنوه بمختلف أنحاء جسمة طعنات صعبة جدا كان يمكن ان تكون قاتلة وظل يعاني من آثار تلك الطعنات حتى آخر ايامه.

وصف سهيل ابو نوارة الاعتداء عليه بقوله: "كنت اجلس لوحدي في البيت أمارس هوايتي في القراءة. تفاجأت بدخول شابين الى الغرفة احدهما دخل من الشباك والثاني قام بخلع الباب، وقاما بطعني  ما أدى الى اختراق احد السكاكين لرئتي اليسرى. "واضاف :"انا شخصيا لا يوجد لدي أي اعداء ولا اشك او اشتبه بأي احد اعرفه. حقيقة ان الحادث غريب ولا اعرف خلفيته وسببه".

من المؤسف ان الشرطة لم تنجح بالوصول الى المعتديان ولا يوجد بعد أي تفسير لهذا الاعتداء الاجرامي على فنان مسن لم يؤذ  بحياته أي شخص!!

 

زغرودة الأرض- صرخة شعب على المسرح

 تمهيد: شهد مجتمعنا العربي نشاطات مسرحية مباركة في سبعينات القرن الماضي ،حيث تشكلت ونشطت فرق مسرحية عديدة، حولت الحياة المسرحية والفنية الى  ظاهرة تثقيفية نشيطة ومؤثرة، في الناصرة برزت اعمال "المسرح الناهض" الذي أنشأه المخرج والممثل صبحي داموني وقدم اعمالا مسرحية متنوعة ومختلفة من المسرح الاغريقي  والفرنسي والعربي ..ولا يمكن ان انسى اعمال الموسيقار المرحوم مارون أشقر ومسرحياته الغنائية  الرائعة القريبة من أسلوب المسرح الغنائي الرحباني ، مارون أشقر كتب نص المسرحيات والأغاني ولحنها واليوم تلف أعماله النسيان. علمت من أقرباء المرحوم ان له الحان مختلفة لأغاني  ومسرحية غنائية ملحنة لم تقدم حتى اليوم. وقدم المخرج رياض مصاروة عدد من المسرحيات خاصة المقتبسة من روايات غسان كنفاني، في حيفا برز "المسرح الحر" الى جانب اعمال فنية مسرحية مختلفة  وهناك نشاطات أخرى عديدة تحتاج  الى جانب ما ذكرته الى دراسة توثيقية".

مسرحية المرحوم سهيل ابو نوارة، زغرودة الأرض، قدمها "المسرح الحر" بالتعاون مع "المسرح الشعبي" على مسرح قاعة "فرانك سيناترا" (الهستدروت) قي الناصرة وذلك في سبعينيات القرن الماضي. جرى اخراج جديد للمسرحية قبل عدة سنوات ، سبب مواجهة قضائية بين مؤلفها سهيل ابو نوارة و"مسرح الميدان" الذي قدمها عام 2001، اذ ادعي المرحوم سهيل ابو نوارة أن توجيهاته و ملاحظاته المتكررة لطاقم مسرح الميدان جرى تجاهلها وأضرت بالعمل ومؤلفه وتسيء إلى سمعته ككاتب ومؤلف وفنان...

اذكر ان مسرحية قدمت في أواسط السبعينات من القرن الماضي، وها انا انقل بإيجاز للقراء نص ما كتبته وقتها عن هذا العمل المسرحي المميز.

******

لم أكن انتظر عندما ذهبت لمشاهدة مسرحية زغرودة الأرض أن أكون أمام عمل أقل ما يقال عنه انه قنبلة..استطاعت هذه المسرحية ان تحصل على عواصف من التصفيق المتواصل، انها في الواقع أول عمل مسرحي يعالج حياتنا وواقعنا اليومي، وهذا هو "السر" الأول في نجاحها الكبير.

سهيل في مسرحيته ليس مقلدا، بل هو مجدد، قد تبدو المسرحية لمن يقرأها على انها رمزية، لكن الرمز فوق المسرح يتحول الى سكين يفتح جراحنا ومآسينا، رمز يسلط الضوء عليها ليستفزنا ويثير مسؤوليتنا.

الرمز في زغرودة الأرض  ليس فكرة ولكنه إطار شفاف، شاعري، يقودنا الى عقدتنا. سهيل نجح بالتكتيك الذي اتبعه في إبراز فكرته  وتسليط الضوء عليها في جميع مواقف المسرحية.

استطاع المخرج أنطوان صالح ان ينقل الفكرة بقوتها الكاملة على خشبة المسرح. مشاهد المسرحية يعيش الفكرة بحواسه ويقاسم أبطالها مشاعرهم. صمم الديكور الفنان عبد عابدي وأعطى للمسرحية خلفية مطابقة لروح النص وأجواء الموضوع الذي تطرحه.

تتكون المسرحية من ثماني شخصيات، لكن لو تعمقنا أكثر لوجدنا الشخصية التاسعة وهي الأرض.ان الأرض لا تتكلم لكن لها من يتكلم عنها، الأرض لا تتحرك فوق المسرح لكن لها من يتحرك عنها، الأرض لا تثور لكن لها من يثور عنها، الأرض لا تشيخ بل هي الشباب المتجدد.. هي الحياة، هي الحب الذي يربط الناس مع بعضهم، هي الماضي والحاضر والمستقبل، هي السعادة وهي الشر، اذا لم نعرف كيف نصنع السعادة منها.هي الكلمة وهي الصمت، هي الرمز وهي الحقيقة، هي الدم وهي القلب. الذي يستطيع ان يسلبك أرضك حتى لو لم تزرعها انت، يستطيع ان يسلبك كل شيء، ان لم تستطع الحفاظ بثبات على أرضك، حتى لو كانت تقيد لك أحلامك وتعيق لك مصيرك، فستفقد الحق حتى بالتشرد، يبقى ضياعك عارا وغربتك مذلة ، كما قال الأب: الأرض هي الزغرودة، هي الكرامة والحرية،.. "يبقى الإنسان حرا كريما ما دام له بيت يحق لع الرجوع إليه، ما دامت بقيت له أرض يزرعها ان أراد".

شخصية الأب (الممثل يوسف فرح)هي الشخصية الأساسية في المسرحية، هو الأرض نفسها، هو الناطق بلسانها، الأرض لا تعطي من يهملها، دور الأب مليء "بالتناقض" ان صح التعبير، مليء بالمواقف المتغيرة بين لحظة وأخرى، هو الأرض وهو الأب، استطاع يوسف فرح ان يتقمص دوره بشكل مدهش. كانت شخصيته مسيطرة على خشبة المسرح، بحث أصبح نجاحه بدوره هو نجاح المسرحية والعكس صحيح. كان بارعا لدرجة السيطرة الكاملة على جميع مشاهد المسرحية.

مشكلة الأب هي ابنه عزيز (الممثل جورج ناصر) الذي علمه وأصبح أستاذا في المدينة ، يتنكر للأرض، للقيم النابعة عنها، يحاول إقناع والده ان يترك الأرض وينتقل  للسكن مع العائلة في المدينة.

دفع الأب أولاده لكي يتعلموا.التراب هو الذي علمهم..الأرض هي التي علمتهم..أرادهم ان يعودوا اليها بعلمهم، لكنهم بدلا من ذلك يريدون إنتزاعه منها، ليبقى بلا جذرو، بلا كرامة، بلا حرية، الأرض هي التاريخ،هي تكاتف الناس وتعاضدهم في أفراحهم وأحزانهم، أولاده لا يعرفون الحب الذي تمنحه الأرض، لقد تكسرت أحلام الأب عندما رأى ان أولاده لم يعودوا قطعة من الأرض، لم يعد لهم الحق في التشرد.

من الواضح هنا ان الرمز الأب الأرض على أنه الوطن... يستصرخ أبنائه ان لا يغادروه، فهو بحاجة الى سواعدهم والى علمهم. السعادة يجدونها إذا أرادوا ذلك، تلك هي المسألة وليس الهرب من الواقع. لذلك ينفجر غضب الأب عندما يجيء عزيز لأخذ أصغر إخوته آخر أمل للأب بتحقيق حلمه بأن يبقى أحد أولاده مخلصا للأرض، لكي يبقى التجدد...لكنه لا يستطيع ان يفعل شيئا، هكذا الأرض أيضا، الخيار بيد الإنسان، هذا المخلوق الذي يستطيع ان يتجرد من كل القيم، من الماضي، من الروابط، من العلاقات، من المستقبل المرئي، ليتعلق بحبال المستقبل الخيالي، البعيد عن جذور الأرض، الجذور هي الكرامة، هي الحرية، الأب يتحدث بالنيابة عن الأرض، انه لا يستطيع ان يمنع اولاده ولا يستطيع ان يوافق، يحاول أن يقنع أبنائه بأفضلية أرضهم."فهنا اذا قلت "أخ" يهرع إليك الجميع، اذا زغردت تجد الكل حولك، فما هي قيمة الحياة اذا تجرد الإنسان عن الأقارب والأصدقاء والمعارف .. اذا تجرد من الأرض؟!

ان الأرض ، رغم ان ابنائها يغادرونها تحبهم، فها هو الأب يقول لزوجته (الممثلة بشرى قرمان)ان تزغرد عندما يرقص أولادها في الفرح، لعل المؤلف يريد ان يقول لنا هنا بأن هذه الزغرودة هي زغرودة الوداع الأخير، كالزغرودة للميت مثلا؟ّ!

ان الأرض لن تبقى خالية، سيخرج جيل آخر وآخر.. الذي يترك أرضه (وطنه) لا يخسر الا نفسه ولو ربح مال الدنيا كله.. ها هو الأب يوافق أخيرا على اقتراح زوجة ابنه خليل (بدور الزوجة غادة وهبة وبدور خليل مصلح فرح)بان تجيء بأولادها للسكن معهم- الارتباط بالأرض... والزغرودة هنا تزدوج، فهي تنطلق ترحيبا بالجيل الجديد، ووداعا أخيرا للجاحدين للأرض.

ملاحظة: اسقطت الحديث عن التمثيل وسائر تفاصيل الاخراج . المادة نشرت في كتابي "بين نقد الفكر وفكر النقد"(صفحة 175)  الصادر عن دائرة الثقافة العربية - حزيران 2001 !!

nabiloudeh@gmail.com

 

 

 

 

 

 

وداعا للأديب الفلسطيني سلمان ناطور

نبيل عودة

 

 

بحزن كبير تلقينا صباح الاثنين (15-02 -2016) الخبر المؤلم عن وفاة الأديب الفلسطيني سلمان ناطور (67 عاماً) وهو بقمة عطائه الثقافي.

ولد سلمان ناطور في دالية الكرمل عام (1949). بعد أنهاء دراسته الثانوية واصل دراسته الجامعية في القدس ثم في حيفا. درس الفلسفة العامة وعمل في الصحافة. حرر مجلة "الجديد" الثقافية التي كانت تصدر في حيفا وحرر مجلة "قضايا إسرائيل" التي تصدر عن المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية في رام الله.

صدر للفقيد حوالي 30 كتاباً في مواضيع ثقافية مختلفة.

بهذه المناسبة المؤلمة اعود الى احد كتبه الهامة  "يمشون على الريح او هي عودة الى بيسان" .. انها عودة الى رحم المأساة  التي تعطي فكرة عن احد الجوانب الابداعية للمرحوم سلمان ناطور.

******

 احتل الكاتب سلمان ناطور مكانة بارزة في ثقافتنا الفلسطينية، سلمان ابن الطائفة العربية المعروفية، يعتبر بلا منازع من أبرز أدباء الكتابة التاريخية التوثيقية بما فيها التحقيقات الصحفية التاريخية، في الأدب العربي داخل اسرائيل وفي الأدب الفلسطيني عامة. . وما زلت أرى ان أبرز تحقيقاته التوثيقية هو ما كتبه عن المجازر التي ارتكبت في عشرات البلدات العربية الفلسطينية  في حرب عام 1948، واقامة دولة اسرائيل، وأعني كتابه"ما نسينا" .

كذلك عرفناه كاتبًا قصصيًا، مسرحيا ومترجمًأ!

في كتابه "يمشون على الريح" أو "هي عودة الى بيسان" يعيدنا سلمان الى رحم المأساة من زاوية غير متوقعة.

الكتاب صدر قبل عدة سنوات ، ومع ذلك السنين لم تفقده حرارته ، واليوم عندما أعيد قراءته من جديد ، أعيش مرة أخرى أجواء النكبة ، ولكن من زاوية غير متوقعة .. ينجح سلمان في تجسيمها أمامنا ، عبر مأساة شخصية لفلسطينية تحلم بالوطن، الذي لا تعرف من تفاصيله عير الانتماء والألم والحب الذي لا ينتهي   وأمنية ان تصبح جزءا من ترابه وأشجاره وسمائه  بعيدا عن الكراهية للآخر .. الذي يحتل بيتها وأحلامها.

الكتاب مقسم الى عشرة مقاطع روافد، تلتقي في مصب واحد، اسمه بيسان، تلك المدينة المرهقة من كثرة مغتصبيها عبر التاريخ ، خاصة أشرسهم ، الذي يحاول ان يزور تاريخها وانتمائها  ويمحو من ذاكرتنا الجماعية مكانتها .انها  بيسان التي يربو عمرها على ستة آلاف عام خلدت  فيروز بيسان بأغنية تخترق اعماق الذاكرة وتجعلها نابضة بالحياة .. وتجعل من مأساتها  تجسيما لاحدى أكبر جرائم التاريخ: "كانت لنا من زمان بيارة جميلة/ وضيعة ظليلية ينام في أفيائها نيسان/ ضيعتنا كان اسمها بيسان/ خذوني الي بيسان / الي ضيعتي الشتائية/ هناك يشيع الحنان"

أحيانًا تبرز بيسان  باسمها الروماني "سكيتربوليس" وأحيانًا باسمها الفلسطيني "بيسان" وأحيانًا باسمها الجديد "بيت شان" ... واختلاف التسمية لم يكن صدفة، انما لنقل الواقع والموقف والتغيير الحاصل...

تبدأ الحكاية من باريس وروما... حيثُ التقى سلمان ناطور بشاعرة ورسامة فلسطينية، اسمها فدوى حبيب.

والفنانة فدوى في العقد السادس من عمرها، والأصل من بيسان، هربت مع أهلها من الموت المباشر، الى الموت البطيء في عواصم رمادية، بلا هوية وبلا كيان تنتسب اليه< عبر تدفق كلمات مونولوج مأساتها الخاصة، يتجدد في نفوسنا ما بدأ يتلاشى في الذاكرة، ترجع لمخليتنا المأساة بوحشيتها، تتجسد النكبة باسقاطاتها، نلمس معاني التشرد والشوق للوطن المفقود، وتبقى مسألة غير مستوعبة، أصعب من ان يهضمها العقل... حقيقة الانسان بلا وطن، بلا ملاعب الطفولة ، بلا ذكريات .. ربما نتخيل معنى ذلك، ولكننا لن نفهم صعوبة هذه المعاناة ووحشيتها المجسمة بالضياع في متاهات لا تنتهي... كما يعيشها ابناء شعبنا ، المحرومون من وطنهم وذكرياتهم وتواصلهم مع تاريخهم وأرضهم .

سلمان يعيدنا عبر فدوى، عقودا عدة الى الوراء، الى بيسان المدينة التي تحمل عبق التاريخ بامتداداته الكونية ، وتتحول بيسان، بيسان الفلسطينية  الفيروزية ، الى محور لهذا الكتاب، الى ملتقى المصائب... ملتقى الأحزان، يتركنا سلمان، ربما بقصد... نكتشف عمق الجريمة التي ترتكب، والاغتصاب المتواصل لتاريخنا وانسانيتنا وذاكرتنا وكرامتنا.

فدوى تزوجت من مغربي، والده كان شريكًا لتاجر يهودي، أولاد اليهودي غادروا المغرب الى اسرائيل، ربما يسكنون في بيت فدوى، في بيسان. تقول فدوى لسلمان:

-        "إذهب والتقِ هؤلاء الناس، تجتاحني رغبة جنونية لأعرف ماذا يقولون، وكيف يشعرون، وبماذا يفكرون؟ وهل استطيع أن أكون مطمئنة من أن الذي قتلني وورثني، لا يكرهني؟

هل هناك انسانية أعمق وأكبر من انسانية فلسطينية صودرت أحلامها ، ونكبت بوطنها ، ويقلقها ان لا يكرهها قاتلها  ومغتصب ملاعب صباها ؟

وها هو سلمان ينفذ رغبتها، يتجول في بيسان، ويحاول أن يدمج بين الماضي والحاضر.

المقطع الثاني يتحدث عن الشاعر العبري الإنساني "عمانوئيل بن سابو" الذي اشتهر بقصائده الاحتجاجية ضد الاحتلال ونشاطه في دعم الحقوق الفلسطينية، وكان  ينشر قصائده في صحف عبرية، ويوقعها باسم "خميس توتنجي"، وهو اسم سائق تكسي فلسطيني قتله متطرفون يهود عام 1985 قرب مفرق "معليه ادوميم" انتقامًا لمقتل سائق تكسي يهودي.

سابو نشأ نشأة دينية، وتربى تربية صهيونية، بكل ما يحمله هذا التعبير من معنى، ساهم مع "تساحي هنجبي" وأمثاله بمحاولة "إنقاذ" أرض إسرائيل الكبرى، ورفض الانسحاب من سيناء المصرية في وقته ، ونشر سابو ديوان شعره الأول عام 1982، وكان ديوانًا يطفح بالقصائد الشوفينية المتطرفة، ولكنه سرعان ما اكتشف ضلاله وأنقذ إنسانيته، ورفض النهج الشوفيني، نهج غوش إيمونيم الاستيطاني وارض اسرائيل الكاملة  وسائر الفاشيين الغلاة، وانحاز الى جانب الانسان ، الى جانب الحق،الى جانب السلام والمساواة والعدل. الى جانب الحقوق المشروعة والانسانية للشعب الفلسطيني.

يجمع سلمان بين مصائر الناس، يدفع سابو للقاء عائلة خميس المقدسية ، عائلة سائق تكسي  قتله المستوطنون الفاشيون ، وينقل نتائج اللقاء... ربما هي صورة صغيرة لضرورة اللقاء بين الشعبين، وليسَ بين أفراد فقط ، انها شهادة على طيبة الإنسان،بغض النظر عن انتمائة الاثني أو الديني .. اذا ما عاد الى انسانيته.

ومع ذلك لي بعض الملاحظات...  صحيح انني أتحدث عن مأساة قديمة ، ولكن التاريخ لا ينسى ولا يهمل المآسي ما دامت  أسبابها قائمة وترتكب كل يوم جرائم بشعة..

سلمان يحاول أن يجعل من كتابه لوحة ل "بيت شان" – الجرح الفلسطيني الذي لم يندمل .. وفعل حسنًا حين انهاه "بعرس في السماء" عن مقتل فتاتين، فلسطينية من نابلس ويهودية من بيت شان، في اسبوع عرسهما، كأنه يحذر من حلقة سفك الدماء المغلقة. وكأني به يقول، ها هو الجرح الذي لا يزال مفتوحًا، رغم الزمن  ... وينتظر أصحاب الضمائر ليضعوا حدًا له ، ولكن حقيقة المؤلمة ان ما كان هو حلقة في سلسلة نشهد كل يوم مأساة جديدة من حلقاتها ، التي لم تتوقف بعد .

سلمان ناطور يقدم لنا في كتابه عملاً هامًا يحمل نكهة خاصة، ويثير الكثير من الخواطر والمشاعر، ويجدّد بالنفس مرارة وحزن الضياع، الضياع في الغربة، والضياع في الوطن، والذهول أمام أطلالنا، وتاريخنا الذي تبعثره الرياح.

ويبقى كتاب "يمشون في الريح" عملاً يحمل الكثير من الخصوصيات، يضاف لرصيد سلمان ناطور... وهو ، وهذا المهم ، يبرز انسانية الفلسطيني في مواجهة قاتله. وكأني به يرمز الى أهمية الغاندية ( اسلوب غاندي في مقاومة الاحتلال البريطاني للهند سلميا ، الذي حقق الحرية والاستقلال للهند ) في نضال الشعب الفلسطيني .

 

نبيل عودة كاتب ، ناقد واعلامي الناصرة

 

nabiloudeh@gmail.com

 

 

 

 

جمال عالم الطفولة

بتجربة الأديبة عايدة خطيب

 

نبيل عودة

 

ضمن برامجه الثقافية ، قام "نادي حيفا الثقافي المجلس الملي الوطني الأورتوذكسي : بتنظيم حفل تكريم للأديبة عايدة خطيب، من مدينة شفاعمرو، وهي كاتبة معروفة للأطفال وشاعرة، لها عشرات الاصدارات الأدبية للكبار والصغار. وهذا نص كلمتي في حفل تكريمها.

*****

نلتقي اليوم بمناسبة هامة أعتبرها علامة مميزة لمسار ثقافي هام، تكريم الأدباء وهم احياء وعدم تجاهل المبدعات من النساء وإنتاجهم الأدبي.

في السنوات الأخيرة ألاحظ أن المرأة تأخذ حيزا يتزايد باستمرار في المشهد الأدبي

العربي داخل اسرائيل.

للأسف هناك عوائق كثيرة تشكل الكثير من العوامل السلبية على تطور ثقافتنا بمجملها، سأذكرها بدون توسع:

1.         مشكلة النشر والتوزيع

2.         غياب الصحافة ألثقافية، هناك محاولات آمل ان تنجح وان نرى مجلة ثقافية فكرية كما كانت مجلة "الجديد" في وقتها.

3.         غياب نسبي كبير للصفحات الثقافية من الصحف المطبوعة.

4.         مؤسسات الجماهير العربية بكل انواعها وتشكيلاتها لا تقدم لتطوير الحياة الثقافية أي دعم . وغير ذلك الكثير...

تعرفت على عايدة خطيب عبر نشاطها الثقافي وبالتحديد بكتاب " اشعار للأطفال" الذي وقع تحت يدي بالصدفة، فشدني بروحه وصوره الشعرية التي نقلتني لعالم الطفولة المذهل بجماله ألرائع، برونقه، بالوانه وكان أول كتاب محلي للأطفال أقرأه .. ليس قصورا مني انما لم أجد ما يشدني ضمن مشاغلي الكثيرة لأتعرف على هذا الجانر الأدبي ، الذي لا اقلل من أهميته وقيمته الإنسانية والجمالية لتطوير وعي أطفالنا.

في السنوات الاخيرة تعرفت على ابداعات كتاب آخرين.. وأستطيع القول ان الكتابة للأطفال اصبحت ساحة مخترقة من عدد كبير من الأسماء بعضها رائع حقا وبعضها لم اجد به ما يخدم الهدف من الكتابة للأطفال...

هل التهافت على الكتابة للأطفال ، الذي تشهده ثقافتنا العربية داخل إسرائيل هو تهافت طبيعي ام يخفي وراؤه اهدافا لا تخص النشاط الثقافي ومتطلبات تطوير أجندة تخص عالم الطفولة؟

أقول بوضوح، ما عدا قصص قليلة ولأسماء قليلة جدا من كتاب الأطفال لم أجد إلا كتابات تتراوح بين الإجادة والإجادة المتوسطة من جهة والثرثرة المؤسفة والمضرة من الجهة الأخرى.

يهمني بهذه المناسبة أن اتناول بعض المميزات لدى الأديبة عايدة خطيب في تناولها لعالم الطفل وهو عالم مركب جدا ، آسر جدا بجماله، تتحكم فيه أجمل المشاعر الانسانية وأكثرها براءة ونقاء. اقول بثقة ووضوح ان عايدة خطيب فاجأتني وأعادتني طفلا وأنا أقرأ اول كتاب لها "أشعار للأطفال". وقد لاحظت انها تعمل بلا كلل على تطوير تجربتها في الكتابة القصصية والكتابة الشعرية للأطفال.. وقد اصدرت حتى اليوم اكثر من اربعين قصة وديوان شعر يخص الأطفال.

المميز الهام لدى عايدة خطيب هي قدرتها على الدخول الى عالم الطفل وتفكيره وردود فعله، حيث استطاعت ان تحافظ على رونق عالم الطفولة مثلا قصيدتها "أحب اللعب بالكبريت" نقرأ:

" أحب أن العب

بعلبة الكبريت

فتفزع أمي

تصيح يا عفريت...

كم لاعب بالنار

أحرق كل الدار

وحينما تذهب

أمي الى المطبخ

لتطبخ الطعام

وتشعل الكبريت

أعدو وراءها وأصيح

يا عفريته..."

من منا لم يعش هذه القدرة الطفولية على الربط بين الظواهر وليس بين المضمون. من هنا ينبع جمال عالم الطفولة الذي عرفت عايدة ان تتسلل اليه وتنقله لنا.

لغة عايدة تتميز بالبساطة والسهولة وتضفي لونا اضافيا على النص ما هو أهم من اللغة هي القدرة على دخول عالم الطفولة المسحور والأسطوري والكشف عن نمو شخصية الطفل وتكوينها. ان اسلوب اكتشاف الأطفال لذاتهم، لواقعهم وإدراكهم لعالمهم ليس أمرا سهلا. في قصيدة "أحبكم ان تسمعوني" تقترب عايدة أكثر للتفكير الطفولي:

" حين تموء قطتي

وتطلب الطعام

انهرها بشدة

فنحن بالصيام"

في قصيدة موجهة بالأساس للأهل، عبر الرؤية بعيني طفلة، وكأني بها توبخ الكبار خاصة بموضوع التفضيل الذي يحظى به المولود الذكر عن المولودة الأنثى، في قصيدتها "لماذا أمي حزينة" تمس عايدة قلب ألمشكلة بكلمات تنغرز بالقلب بألم:

"يظل فكري حائرا

أياما كثيرة

فأمي تبدو دائما

تعيسة حزينة

لأن أمي أنجبت

أختي أمينة

ولا أخ في بيتنا

ونشتهي البنينا"

أعترف ان أدب الأطفال بدأ يشدني منذ قرأت "أشعار للأطفال " للأديبة عايدة خطيب، حيث اكتشفت الكثير من الأفكار والعمق الانساني الذي بدأنا نفتقده في عالم "الشاشات الألكترونية" التي تملأ كل زوايا بيوتنا. في بعض ما يكتبه الكبار للصغار بدأت ألمس تطور "النص الألكتروني".. ضجيج لا يقول شيئا.. ربما لغويا لا بأس بالنص.. لكنه خطاب لا يصل للعنوان الصحيح.

على عكس ذلك عايدة خطيب نجحت بنقل عالم الطفولة بتوهجه . الموضوع ليس لغة فقط مع أهمية اللغة والمفردات التي نختارها لمخاطبة ألطفل انما النجاح بتقمص تفكير الطفل الساحر والأسطوري ولنحلم بلا خجل كالأطفال ، ربما عندها نستطيع ان نحلم كالكبار، فبدون ان نحلم لا معنى لكتاباتنا. الكتابة في جوهرها هي العلاقة بين الحلم والواقع. اتمنى لعايدة خطيب ان تواصل الحلم مع الأطفال وتمنحنا كبار وصغارا لحظات من الجمال والمتعة.

لن اطيل الحديث عن ديوانها الشعري للكبار " أحلام مؤجلة" انما بعض الملاحظات. في ديوانها شعرت انها لم تعد بحاجة لقدراتها الخاصة في اختراق عالم الطفولة فهي تنشد لعالم تعيشه بصعوده وهبوطه ، بأمله ويأسه، ببؤسه وفرحه، فتلاشت من الديوان الكثير من الأحلام او انها أجلتها كما اعلنت بالاسم الذي أطلقته على مجموعتها الشعرية للكبار "أحلام مؤجلة".

وهل تؤجل الأحلام ؟ هل نؤجل الشعر الذي كله أحلام؟ وماذا ينفع الشعر للإنسان اذا صار قدريا؟

انت تعرفين الجواب يا عايدة فما بالك تتعثرين؟ الشعر لا يعرف التردد والحياة لا تعرف التردد، الحياة لمن يروضها كذلك الشعر.

رغم ذلك في قصائدها للكبار ظلت تحمل تأثرا واضحا من قصائدها للصغار. من هنا جاءت بعض التعابير نثرية مباشرة، كان بإمكانها ان تلجأ للشفافية أكثر وان تتركنا نحن الكبار نجتهد لنفهم ما وراء الكلام ، الست انت التي تقولين في "خمائل وجدانية":

" اتسعي ما شئت

بل عانقي الغمام

ان أردت"

في الديوان عدد من القصائد العامية ، أعتقد انها أكثر حرارة وأكثر حركة وتمردا لاقترابها اكثر من البساطة كما في قصيدة اعتراف

"وشعري على كتافي

ربيته الك"         

وهي قصيدة تكاد تكون وحدة متكاملة حتى وجدت صعوبة في اقتطاع مقاطع للدلالة عليها.

انهي مداخلتي بالإشارة الى قدرات عايدة على الصياغة اللغوية المنسابة بهدوء واطمئنان وقدرتها على الاستعارة و حتى النحت باللغة. تتميز بعض مقاطعها بما يسمى "اللغة ألتصويرية" لكن اكثر ما لاحظته هو خيط رفيع من الحزن لا ينقطع ، يرافق القارئ من بداية الديوان وحتى نهايته، بحيث يبدو الفرح في بعض القصائد كإعلان للتمرد الذي سرعان ما يذوى وراء الحزن المتواصل في الديوان. بعض القصائد زخرت بالشعاراتية وهو حقا موقف صادق لكنه لا يخدم الشعر. اما المميز لأكثرية قصائد الديوان فهو انسيابها ألهادئ الخجول أحيانا، ربما "الطفلة" عايدة تشعر بارتباك عند مخاطبة الكبار ومن المثير معرفة نفسية الشاعرة في الحالتين. وكما كتبت عايدة على الغلاف الأخير "يحق لنا ان نسافر بأحلامنا".. وبشعرنا أيضا فهو هويتنا وهو "حكم القدر، اذا وجد مثل هذا الشيء!!

nabiloudeh@gmail.com

 

 

غياب المفاهيم

الجمالية عن النقد الأدبي

نبيل عودة

 

*نقدنا لا يتعامل مع حركتنا الثقافية بتعدد وجوهها الإبداعية،

 إنما بانتقائيـة لا تعبّـر إلا بشكـل جزئـي عـن ثقافتنـا*

 

كيف يمكن تقييم حالتنا النقدية في العقدين الأخيرين؟

كانت رؤيتي ومازالت ان النقد يشبه الإبداع ويحركه ليس فقط ردُّ الفعل السلبي أو الإيجابي من قراءة النص، إنما الرؤية الثقافية الشاملة والمتكاملة التي تتفجّر تلقائيا وتتناول العلاقة الشرطية بين الإبداع بكل صياغته وجماليته والواقع الإنساني، وما عدا ذلك كل ما يكتب يقع في باب الإنشاء البسيط.

لم أجد في النقد الأدبي إلا أجوبة جزئية عن تساؤلاتي.. للأسف تحوّل معظم النقد إلى اتجاه انتقائي لا يعكس واقع ثقافتنا. تأويلات بعض النقاد لا علاقة لها بالمضمون الإنساني للنصوص الأدبية، يذهبون بعيدا خارج الثقافة لإيجاد تبريرات وتركيبات نقدية لا أراها ذات قيمة أو أهمية تذكر.. إلا نوعاً من تطبيق نظريات لم تنشأ أصلا في ثقافتنا، يحاول فيها الناقد تطبيقها على ثقافتنا التي تختلف في مبناها وتطورها عن النظريات المستوردة، والتي لم تنشأ الظروف الفكرية  لتصبح ضمن مشاغلنا الثقافيةَ!!

لأكون أكثر وضوحا أقول إني مازلت أرى بمنهج مارون عبود النقدي، الأقرب والأكثر اندماجا مع أجواء ثقافتنا ومدلولاتها.

من ناحية أخرى يمكن القول، وبشكلٍ نسبيٍّ كبيرٍ، إن نقدنا لا يتعامل مع حركتنا الثقافية بتعدّد وجوهها الإبداعية، إنما بانتقائية لا تعبّر إلا بشكل جزئي عن ثقافتنا.

 هل الناقد على اطّلاع على مجمل ما ينتج في ثقافتنا؟

 أنا بقناعة كاملة ان هناك انقطاع جزئي كبير بين إبداعاتنا ونقدنا الأدبي.

في دراسة أكاديمية جديدة صدرت بطباعة "سوبر أنيقة" وجدت ان الناقد مازال عالقا بنسبة كبيرة من متابعته لأدبنا بسنوات السبعين والثمانين من القرن الماضي، الذي يشكل معظم ما يتناوله ويبني عليه نظرياته النقدية (التي ينقلها عن الثقافة الغربية)، دون أي جهد ليطّلع على التحولات الكبيرة سلبا أو إيجابا في إبداعنا الأدبي الحديث. كنت أودُّ ألا أقول أني أكاد أكون واثقا انه لا يقرأ، الا القليل مما ينشر وبانتقائية لا تبريرَ لها لمن يدّعي انه يُقيم حركة ثقافية، يؤسفني ان أقول انه يجري تجاهلُ أسماء لها دورها ومكانتها، ولا أريد الإفصاح أكثر حتى لا أثير الظن بأن موضوعي شخصيٌّ، رغم انه من حقي ان أتساءل أيضا عن ذلك. طبعا ليس هذا ما يهمني بالمكان الأول، إنما يهمني أكثر ان يكون الناقد منصفا ومطّلعا بدون حواجز أقامها حوله متجاهلا مجمل إبداعنا وربما أهم وأبرز ما به، أقول هذا بلا تردُّد وقد يعتبرها البعض وقاحة... إن من يصمت هو أشبه بالسمكة الميتة التي تنجرف مع التيار!!

طبعا احترم الكتابات الثقافية حول الإصدارات الجديدة (ولا أراها نقدا) وأراها أقرب للتقارير الصحفية. لذلك أنبه إني أميز بين الدراسات النقدية وبين العرض الثقافي للإصدارات الجديدة..  

القضايا الثقافية لمجتمعنا الصغير، المجتمع العربي داخل إسرائيل، ولمجتمعنا الأكثر اتساعا، المجتمعات العربية... تلفت انتباهي واهتمامي من زوايا مختلفة، بصفتها مقياسا لتقدم المجتمع المدني أولاً، كقاعدة لا يمكن تجاهل دورها في الرقي الحضاري، الذي يشمل تطوير التعليم، القضاء على الأمية، تطوير اللغة لملاءمتها لعصر الحضارات والعلوم والتقنيات.. وبالطبع الإبداع الأدبي هو الجانب الروحي من حضارة المجتمعات البشرية... غيابه وركوده والفوضى التي تسود حقوله المختلفة، تشكل معياراً آخر لمستوى تقدمنا الاجتماعي والثقافي، أو تراجعنا.

العقل السوي المدرك يفهم ان المجتمعات البشرية تستهلك الثقافة بصفتها قيمة روحية تثري عالمها بجماليات مختلفة، تثري الإنسان على المستوى الشخصي، فكراً ومعرفة، توسع مداركه لحقائق الحياة، لأساليب بناء العلاقات الاجتماعية والتواصل الإنساني داخل المجتمع الواحد، بدل حالة التشرذم والعداء التي تسود للأسف الشديد مجتمعاتنا على قاعدة فكرية ودينية واثنيه، إلى جانب أنها تعمق وعيه الفلسفي والجمالي والأخلاقي حول مجمل القضايا المطروحة

الثقافة بكل أشكالها الروحية (أي الإبداع الأدبي) والمادية (أي الإنتاج الصناعي والتقنيات والعلوم) كانت دائماً معياراً صحيحاً لتطور المجتمعات البشرية، ومازال المؤرخون يعتمدون الثقافات القديمة، كأداة لفهم طبيعة تلك المجتمعات ومدى رقيها وتطورها.

أشعر ببعض الامتعاض من بعض الكتابات التي تتعامل مع ثقافتنا من خارج الفكر الثقافي، تنحو نحو الكتابة دون اعتماد العقل والمنطق والقدرة على الربط بين النص والواقع وقدرة النص على ان يشكل قوة جذب وإضافة للقارئ.

هناك هوة غير قابلة للتجسير بين التشجيع، دون ان نثير الوهم بالإكتمال، وبين ادعاء النقد الذي يرتكب فيه الناقد خيانة لثقافته ولجمهور القراء. بكلمات أخرى يفقد شرعيته الثقافية.

حين نُغيّب العقل نُغيّب الفطنة، ونستبدلها بكليشيهات جاهزة، ملّها المتلقي (القارئ) وبالطبع في هذه الحالة يصبح الادعاء ان واقعنا الثقافي يشهد نهضة ثقافية وانتشارا واسعا للثقافة، نوع من السخرية السوداء.

مثلا قرأت قبل فترة رواية للكاتب والناقد الدكتور أفنان القاسم بعنوان "أبو بكر الآشي" (قرأت له أعمالا أخرى أيضا وهو يواصل نشر رواياته على صفحات "الحوار المتمدن") لكن تلك الرواية بشكل مميز سحرتني بأجوائها وتفاصيلها وتساءلت كيف لم تصل إلى القارئ العربي، هل هناك تعتيم على أسماء ما؟ أفنان القاسم كاتب فلسطيني مخضرم وله عشرات المؤلفات. لكني لم أجد ان القارئ أو نقاد الأدب العربي متنبّهون لأعماله الكثيرة والمميزة. هل المشكلة في أفنان نفسه أم بواقعنا الثقافي المغلق؟

"أبو بكر الآشي" (منشورة على شبكة الانترنت) من أجمل الروايات العربية وغير العربية التي قرأتها!!

عندما أقرأ نقدا يتناول مسائل هامشية تماما، مثلا كم مرة ذكر الكاتب كلمة حيفا في روايته، كم مرة ذكر كلمة سيارة، كم مرة ذكر كلمة تفاح، لا اعرف ما علاقة النقد الأدبي بذلك، ماذا يضيف لموضوع النقد (النص) أو للقارئ؟ ما هي الأهمية الإبداعية بتعداد الأمكنة التي تناولها الكاتب في نصه (رغم ان المضمون نفسه هو التعبير عن المكان). أو انه ذكر مكان ما ويندفع الناقد في تأويل ذكر المكان رغم ان المكان لم يلعب أي دور في النص القصصي، والمضحك انه يجعل من ذلك ثيمة خاصة للكاتب، رغم ان المكان لا أثر مميز له، على الأغلب... في المضمون القصصي موضوع نقده. لنفترض ان حدث ما جرى في الناصرة، لكنه يمكن ان يكون في حيفا أو سخنين أو ايلات دون ان يؤثر (أحيانا) على موضوع النص. السؤال ماذا أضاف المكان للنص، من يهم هذا الأمر؟ ما هو دوره في تقييم النص؟ هل تكرار الكاتب مثلا لذكر الساعة (الزمن) يغير من المضمون الانساني او الفني للنص؟ 

  هناك نقّادٌ يحاولون تطبيق نظريات نقدية غربية على إنتاجنا الأدبي. لاحظت ذلك وامتنعت عن الكتابة عنهم وكنت متأكدا ان الناقد يكتب دون ان يثير النص لديه أي حاسة جمالية. هل حقا هم واعون إلى الفجوة بين مفاهيمنا الثقافية وتلك النظريات..؟

 قرأت دراسة في الأيام الأخيرة تناولت موضوع "العنوان". ما الذي أعطته هذه الدراسة للكتاب وللقراء؟ العنوان هو نتاج النص وليس النص هو نتاج العنوان. ولا أرى ان العنوان يستحق مثل هذا الجهد رغم أهميته، أضعت يومين أو أكثر في قراءة كتاب نقدي لا اشك بقدرة مؤلفه، ولولا اسم الناقد ومكانته لما أتممتُ القراءة، من يخدم هذا النقد؟ صحيح ان ما لفت انتباهي أيضا إني كنت غائبا عن دراسته رغم يقيني اني أحد البارزين (والأبرز إطلاقا وأقولها بدون تردد وبدون تفاخر) في اختيار العناوين لقصصي. ولا أريد ان أقول ان نصوصي القصصية الجديدة أحدثت فيها نقلة كبيرة في الفكرة واللغة والتكنيك والنهاية عن الأسلوب الكلاسيكي (التقليدي) الذي يميز أكثرية قصصنا. بصراحة لا أرى ان العنوان يستحق الوقوف وإعداد دراسة تعتمد نظرية غربية لثقافة مختلفة بمضامينها واهتماماتها.

تأويل العناوين كان مناقضا للمفاهيم الثقافية الإبداعية التي بدأت تتشكل في وعيي وفلسفتي الثقافية عبر تجربتي الطويلة الممتدة منذ العام 1962 بلا توقف.. وهو ان إسناد العمل الأدبي لموضوع سياسي (وطني أو غير وطني)، هو إسناد يشوه العمل الأدبي. الأدب في تناوله للواقع هو تعامل إنساني وجمالي وليس سياسي أو أيديولوجي، كلنا تورطنا بمفاهيم "الواقعية الاشتراكية" في مرحلة هامة من نشاطنا الإبداعي، أعاق ذلك انطلاقتنا الفكرية والجمالية، مازالت آثار الفكر الدوغماتي الأدبي تسود الكثير من كتابات البعض وتفكيرهم.. أنا شخصيا تحررت من دوغماتية جعل الأدب خطابا سياسيا أو أيديولوجيا، عبرت إلى مفاهيم "أدب إنساني" و"أدب لا إنساني وكل المدارس الأخرى يجب تصنيفها ضمن هذين الاتجاهين.. مثلا في قصة لي اسمها "الحاجز".. أول قصة إطلاقا كتبت عن انتفاضة الحجارة الفلسطينية... أرى اليوم جانبها الإنساني والفني بدون أي علاقة بالموضوع السياسي والصراع القومي.. هذا لا ينفي قوتها التعبيرية عن واقع إنساني قائم لكني لا أرى أهمية جعل العنوان تعبيرا أيديولوجيا، وكأن المحرك للإبداع الأدبي هو محرك سياسي أو وطني فقط.. هذا غير صحيح، المحرك دائما إنساني جمالي فني ومن هنا قوة العمل وقيمته، وإلا أصبح النص خطابا سياسيا فجّاً، وما أكثر القصص الفجّة التي كتبت عن الانتفاضة والاحتلال والقمع.. بتجاهل لأهمية فنية العمل وإنسانيته.

عندما يبدأ ناقد ما بتفسيره السياسي للإبداع يشوه القيمة الفنية، الجمالية، الأدبية  والإنسانية للإبداع. لذلك العنوان رغم انه رمز لواقع سياسي والقصة تتناول واقعا سياسيا، إلا ان نجاح العمل الأدبي (القصة في حالتنا) هو مدى استيعاب الكاتب للجانب الإنساني، الجمالي والفني في بناء نصه وليس الخطاب السياسي الذي لا يختلف عن المقال، هنا يجب الفصل الكامل بين النص الإبداعي والمقال السياسي..

من هنا النقد الذي يجعل من دراسة العناوين هدفه الجوهري وتأويله سياسيا.. لا أراه  إلا خطابا يفرغ الأعمال الأدبية من مضمونها الأهم.. جماليتها وفنيتها الصياغية!!

أنا لا أحيا في الثقافة الأوروبية، أتأثر بها بلا شك، ولا أرى أن نظرياتهم وتطبيقاتهم النقدية يمكن نقلها كما هي لتطبيقها على أدبنا.

 مجتمعنا مازال يحبو وراء الحداثة التي انتقلوا في الغرب إلى مرحلتها الجديدة: "ما بعد الحداثة" ونحن مازلنا نطرح اصطلاح الحداثة بنصه وليس بمضمونه واصلا لم تنشا الظروف الاجتماعية والاقتصادية والثقافية لتطور مفاهيم الحداثة في مجتمعاتنا القبلية، التي مازالت الماضوية هي أبرز وجوهها والقوة الدافعة لها إلى التخلف.

 الحداثة ليست في الظاهرة الأدبية فقط، إنما هي ظاهرة حضارية تشمل مجمل الحياة الاجتماعية والعلمية والاقتصادية، وكم يضحكني استعمال مثقفين لهذا الاصطلاح بمفهومه الضيق جدا وكأنه مفهوم نشأ للأدب فقط.. متناسين أن الأدب هو انعكاس جمالي لمجمل الواقع الاجتماعي.

يبقى السؤال: أين نقدنا من ذلك؟؟  

nabiloudeh@gmail.com

 

 

 

 

 

لم أعرفك بشكلك الجديد!!

 

قصة: نبيل عودة

 

 

أشرقت الشمس دافئة لطيفة من بين الغيوم، فارتاحت نفسية مملوك القباطي، قل توتره، وقف يتلقى أشعة الشمس بشاربيه المنحدرين بدرجة انحدار لا تتجاوز أل 20% لتعطيه مظهرا يقربه من شخصيات اشتهرت بشواربها  وعلى رأسها الرفيق ستالين العظيم.. وذقنه المنقولة نسخة طبق الأصل عن ذقن لينين.

كان مملوك يطمح ان يتوج كاتبا عظيما لذا قرر ان يبدأ مشواره نحو التتويج.  

ذكاء مملوك الذي نسيه كتاب جينيس للأرقام القياسية، كان محط إكبار، وهو الأمر الأهم لكاتب يطمح بالجلوس على أعلى قمة الثقافة في زمنه ولو على خازوق.

بعد تفكير وتخطيط استراتيجي  قرر مملوك ان يبدأ مسيرة حياته نحو قمة مكانته الثقافية.

أولا، سيتطاول على كل صاحب قلم وعلى رأسهم ذلك النبيل الذي اصطف ضد شخصياته الكاريكاتورية.

ثانيا،قرر ان يغير أسلوب حياته .. سيبدأ بتغيير حياته  وشكله من البداية إلى النهاية...

ثالثا، بدا بتغيير برامج حياته اليومي، متبعا خطة تخفيض الوزن الجسدي والعقلي على حد سواء.

رابعا، قص شعر رأسه قصة شبابية حديثة، عبأ الفراغات وشعرات الشيب ببعض الأصباغوخصل الشعر.

خامسا، استأجر حراثا خبيرا لنكش حقل شاربيه وذقنه  وتعشيب النباتات الضارة من وسطهما.

خامسا، ذهب سرا إلى مونيكور نظفت له ما تحت الأظافر من قذارة مترسبة طال عهدها.

سادسا، وصل لطبيب أسنان وطلب ان ينظف له القذارة الصفراء التي تراكمت فوق أسنانه بفعل التراكم الجرثومي.

سابعا، فكر بتفصيل بدلة جديدة يتمختر بها مثل الطاووس بين المثقفين والمثقفات، خاصة وان البدلة جزء لا يتجزأ من المكانة الثقافية الرسمية. سأل عن خياط  جيد، قالوا له ما لك إلا خياطي سوق الناصرة، هم ألأفضل بين العرب... وصل فورا إلى السوق، بعد الاستفسار أرسلوه لزقاق يسمى "زقاق الخياطين"، كان هناك أربعة خياطين. نظر للمخيطة الأولى ووجد نصا يقول: "أحسن خياط في الناصرة"، حين قرر الدخول انتبه إلى ان الخياط الثاني كتب على زجاج مخيطته نصا يقول: "أحسن خياط في الدولة"، حمد ربه لأنه لم يدخل لأحسن خياط في الناصرة، فأحسن خياط في الدولة هو المراد.. وضع رجله على عتبة المدخل.. حين قرأ ما فاجأه على مدخل مخيطة الخياط الثالث الذي كتب على باب مخيطته: "أحسن خياط في العالم". أمسكته الحيرة .. واستغفر الله وتمنى لو كان معه من يستشيره بهذا الأمر. كان في حيرة من أمره: أي خياط هو أفضل؟ سار نحو مخيطة الخياط الرابع، ويا هول ما قرأ، كانت تلمع فوق واجهة محله جملة مثيرة تقول: "أحسن خياط في هذا الزقاق".

 

الله أكبر .. الشطارة والذكاء بارزان من الواجهة، فاندفع إلى مخيطته مسرورا بأنه اختار الأفضل بين خياطي زقاق الخياطين، انفرجت أساريره سعادة، ولولا ما يتميز به الخياط من ذكاء موروث  لما استطاع ان يفهم مطلب مملوك القباطي من شدة ما أمسك الفرح بتلابيبه.

 

أخذ الخياط المقاييس المطلوبة، قال له ان يرجع بعد يومين ليخرج من المخيطة مملوكا جديدا لامعا.

 

جاء اليوم الموعود، كان مملوك القباطي متوتر الأعصاب ينتظر بدلته الجديدة على أحر من الجمر. كان واثقا ان البدلة الجديدة ستجعله سوبر ستار بين المثقفين والمثقفات وستجلب له النور والبخور وترفع من قيمته الثقافية ومكانته الكتابية!!

لبس البدلة، تأمل نفسه أمام المرآة.. وجد ان أكمام البدلة أطول من اللازم  بخمسة سنتيمترات على الأقل .

-                    أيها الخياط  الغالي، ألا ترى ان الأكمام أطول من اللازم ؟

-                    إطلاقا لا... قال الخياط بثقة ، وأضاف :

-                    عندما تثني مرفقي يديك يا مملوك، سترى ان الكمين يصبحان  بالمقاس الصحيح. لأن ثني المرفق يسحب الكم إلى الخلف.

ثنى مملوك مرفقه الأول فقصر الكم فعلا.. أصبح بالمقاس، فثنى الثاني.. لكن عندها تحركت القبة نحو الخلف بشكل يسيء لشكل البدلة.

-                    انظر أيها الخياط العظيم.. القبة بهذه الحالة تنسحب نحو الخلف بشكل سيئ؟

-                    ما الغرابة عزيزي مملوك.. ارفع رأسك جيدا وشده إلى الخلف انت انسان ثوري.. يجب ان تفخر أنك تلبس بدلة جديدة.. بالضبط.. تماما مثل زعماء حزبك، الآن أنت  رائع، تستحق الدعوة لتكريمك، حضر قصيدة لهذه المناسبة العظيمة.

تأمل نفسه بالمرآة .. وامتعض :

-                    يا أمير الخياطين.. بهذا الوضع كتفي الأيسر منخفض عن كتفي الأيمن بعدة سنتيمترات؟

-                    عزيزي الرفيق مملوك، أنت بين يدي أحسن خياطي العالم.. لا تقلق ..  هذه مشكلة سهلة .. انحني من وسطك بشدة نحو الجهة اليمنى ، وسيبدو كل شيء رائعا. هكذا بالضبط، الآن الكتفان بنفس المستوى ... رأيت ؟

 بمرفقين مثنيين بزاوية 90 درجة ورأس مرفوعة بشدة إلى الخلف، وخصر منحن بقوة نحو اليمين، خرج مملوك مرتديا بدلته الجديدة مستصعبا السير، شاعرا أنه يقلد البطة العرجاء في مشيتها وكل ذلك حتى تبدو البدلة مطابقة تماما لمقاسه.

مر على شخصين يشربان فنجاني قهوة في احد المقاهي ، لفت مملوك انتباههما ببدلته الجديدة ومشيته الغريبة، وجسمه المعوج بشدة وغرابة.

قال الأول : أنظر إلى هذا المشوه المسكين .. يؤلمني قلبي لحالته الصعبة.

قال الثاني : هذا صحيح مؤلم، لكن خياطه الذي فصل له بدلته عبقري، أنظر كيف فصل البدلة ملائمة تماما لجسمه المشوه !!

كان مملوك القباطي سعيدا بالتغيير الكبير وكأنه ولد من جديد. ها هو يخطو بسعادة وثقة في الشارع، لولا الضيق الذي اجبره عليه الخياط ليبدو كامل الأوصاف بالبدلة الجديدة.

كان سعيدا بما أنجزه ينتظر ان يصل إلى البيت لينشر صورته ببدلته الجديدة في الفيسبوك، فجأة وقع حادث .. صدمة قوية رمته أرضا وآلام شديدة عنيفة اخترقت جسده وأحالته إلى كومة دامية أمام عجلات سيارة  لم تنتبه إليه وهو يقطع الشارع، نظر إلى السماء متسائلا:

-        لماذا يا الله؟

قبل ان يقفل عينيه للمرة الأخيرة، سمع همسا في أذنيه:

-         آسف يا مملوك، لم أعرفك بشكلك الجديد...؟

 

 

nabiloudeh@gmail.com

 

 

 

 

العبــــور

نبيل عودة

 

(كتبت هذه القصة بمناسبة ذكرى السنة الميلادية الاولى لحرب رمضان والغفران – 1974)

                                 

(1)

لا تعرف ماذا حدث بالضبط. ولا الطريقة التي جرى بها الحادث. وهل كان يمكن ان تختلف الامور؟ وما هي علاقة الاشياء ومؤثراتها؟ وكيف وصلت الى هنا؟ تحاول ان تكون صورة او فكرة. ربما تهذي.. وليس ما يمر في ذهنك الا صحوة الموت؟ يقولون ان للموت صحوة يستعيد بها الانسان كامل وعيه للحظات. مجرد التفكير بصحوة الموت يطمئنك. الذي يواجه الموت لا يمكن ان يعرف او يفكر بشيء كصحوة الموت. ليندا قد تكون هي السبب؟.. لو اخرتك قربها للحظات لاختلفت تطورات حياتك.. وليندا هي الشيء الذي تفتقده.. وربما تفتقد أشياء اخرى لم تتذكرها بعد؟.. كم من الوقت مضى على وجودك بهذه الحالة؟ لو انك تستطيع فقط ان تحل العقد الصغيرة..؟ كل ما تذكره انك كنت مع ليندا..امرأة في جيل امك.. ولكنها كلحم العلب المحفوظ.. لا يطولها التغيير بسهولة. تركتها قبل ساعات.. عن اي يوم تتحدث؟ وما هو تاريخ هذا اليوم؟ هل مضت عليك ايام هنا؟وهنا ماذا تعني؟ ما هو مضمونها؟ ما هو إطارها؟ هذه المجاهيل الصغيرة والبسيطة تضع سدا بينك وبين الحقيقة. الحقيقة هي ما يجيء بعد تعميرة مضبوطة. عندها تظهر الاشياء على بساطتها وحقيقتها. ابدا البساطة والحقيقة شيئان لا ينفردان، على شرط ان يكون الانسطال قاعدة مشتركة لهما. سيجارة ملغومة قد تساعدك على التفكير. استنباط الواقع له اصوله. تسطيلة كيف درجة اخيرة تحل لك كل أسئلتك.. وعلى ابسط وجه. الان انت متأكد انك تعود الى وعيك. بدأت تفهم الحقائق الأساسية. ما زلت مؤهلاً لمواصلة الحياة.. حتى وانت في وعيك لا تبعد عن الحقائق التي تكتشفها اثناء انسطالك. ليندا لا يكفها عشرة رجال، وانت بعد تعميرة على الاصول افضل من عشرة رجال..

لماذا انت هنا؟ وهل حدث تطور ما دفع بك الى هذا المكان؟ القاسم المشترك الأعظم لحالات الوعي او الانسطال التي تمر بها هو علامات السؤال المبحلقة بك من كل اتجاه. مضت فترة استسلمت بها لاغراء النوم.. ربما لزمن طويل.. ربما ليوم؟ او ليومين..؟ او لأكثر..؟ تغمض عينيك مرة اخرى.ان حساسيتك القوية لما يدور حولك، وعجزك عن التعبير عن موقفك.. بل خوفك، ضعفك النفسي، ضعفك العصبي، انهيار حبك الاول، النكسة، القلق المتصاعد، اليأس، مرارة أيامك والفراغ القاتل، كل ذلك تجمع عليك في لحظة واحدة فلم تجد بدا من اختيار اسلوب التسطيل. من يستطيع ان يتهمك باللامبالاة؟ لو وجدت الى اللامبالاة سبيلا لتغير نهج حياتك. هل حقا تود لو تغير نهج حياتك؟ وهل تستطيع ان تبتعد عن جلسات الكيف المجنونة؟ هل لديك القدرة على التغير؟ حتى وانت تستطلع مستقبلك لا تكف عن طرح الأسئلة. لو انك قادر على تحليل واقعك ومستقبلك بدون اسئلة؟.. ربما تخرج بنتيجة..؟ كل الاحداث التي تهز عالمك الفوقي تثيرك. حتى وانت في عز الانسطال. بل كثيرا ما دفعتك الاحداث المؤلمة الى نوبات عصبية لا علاج لها الا سيجارة ملغومة.. وبعدها كنت تشعر بالسعادة وتطرح القلق جانبا.بدأت التحشيش بعد نكسة العرب الكبرى في العصر الحديث. ومن لا يعرفها؟ دمرت كل ما بقي في نفسك من كبرياء. مزقت ظلالك الانسانية. حبست نفسك لأشهر طويلة في منزلك.. تبكي عربك.. وتبكي حبك الضائع.. ولم يخرجك من سجنك الا سيجارة ملغومة على الاصول، اشعرتك بنوع من الراحة لم تعهدها منذ وقت طويل.. ووجدت الطريق سهلا.. دفنت كل ما بقي في نفسك من قلق في غرفة يكسو سقفها دخان ابيض ذو رائحة رائعة كالبخور. وارتبط مصيرك بشيء، اصبح لواقعك تبرير كاف في نظرك، وجدت شيئا يسوى ان تعيش من اجله. وعندما حننت الى امرأة.. بعثت بك الجماعة ممثلا وسفير شرف فوق العادة عنها.. والتقيت بليندا. انتظرتها في نفس غرفة التسطيل.. اسمها الأصلي بحبوحة، اسم غريب.. ولوضع الامور في نصابها، او بمعنى اوضح.. لاعطاء صفة عصرية للجنس، اختارت لها الجماعة اسم ليندا.. وبحبوحة هذه امرأة فقيرة.. دفع بها الفقر الى احضان عجوز نصف عاجز، فقست منه ذكرين.. وهبط كليا.. وانطلقت هي وراء اللقمة لها ولزوجها ولولديهما..

فتلقفتها الجماعة، وجرى العرض والطلب، بكل حرية، سوق رأسمالية حرة، لا احتكار من احد، واصبحت الغرفة غرفة عمليات تجارية، ترتفع فيها الاسعار وتنخفض، بورصة من نوع خاص، تكثر البضائع وتقل، حسب ميزانية الزبون، المهم ان لا يحتكر البضاعة احد.. ان يتمتع الجميع.. والدين ممنوع والرزق على الله..!! هل توجد ابسط من هذه الحكاية؟ انها تشبه حكايته اذا اخذناها من جانب آخر. هذه التفاصيل لا تقودك الى حقيقة وضعك.. المهم ان تعرف اين انت وما الذي جاء بك الى هنا، وما حدث لك بالضبط؟

 

(2)

أخذت مجددا تحاول تدريج الاحداث في ذهنك. ما هو الأساسي وما هو غير الأساسي؟ انت الان متأكد ان الموت بعيد عنك. البداية يجب ان تبدأ بشيء آخر. يحسن بك ان تتمهل قبل صياغة تسلسل الحدث الذي أوصلك الى هذا المكان المجهول شكلا ومضمونا. هل تبدأ من نكسة العرب الكبرى في العصر الحديث؟ أنت بهذا الشكل لن تصل الى الحقيقة. التفاصيل من ذلك التاريخ حتى يومنا هذا معدومة من ذهنك. آلام جدية تعيق عليك تفكيرك. لو انك تتمكن من العودة الى الوعي الكامل لفهمت كل الامور على حقيقتها. ربما غيابك المزمن عن الوعي جعل لغياب وعيك قوة استمرار ساحقة. هذه مأساة ان تحققت.. قد ترغب يوما بأن تبدأ حياتك من جديد، بعيدا عن الغرفة والبخور وليندا.. ان تعبر هذه الفترة وتصل مستقبلك بالماضي الذي تعشقه.. كما تعشق اليوم سيجارة ملغومة.. او حقنة من مادة غير مغشوشة.. انت لم تعد تميز بين الافضليات. فكرك يموت وذهنك يتحجر. أنت بقية من العصر الحجري... شبيه بالانسان.. ربما لست بشرا..؟

كيف تطورت الاحداث حتى وصلت الى هنا؟ وهنا ماذا تعني؟ ما هي مميزاتها؟ ما الذي حدث لك؟ لو انك تملك جوابا على هذه المسائل البسيطة لانحلت العقدة الكبيرة. هل تستطيع ان تسلسل الاحداث قبل ان تكتشف حقيقة المكان الذي انت فيه؟ ربما انت ميت، وما يمر بذهنك هو بعينه ما يواجهه الاموات؟ لكن لا يمكن للميت ان يشعر بالاشياء التي حوله.. وربما يشعر؟! انت مثلا تشعر بما حولك.. تشعر بانفاس أخرى.. بحركة دائمة.. وهذه الحقيقة لا تساعدك على فهم اي شيء!!.. كل ما هنالك انك تهذي وتعذب نفسك.. ورغم ذلك لا تستطيع الكف عن التساؤلات او الاسترسال وراء الصور الماضية.

هناك حقيقة واحدة تتذكرها، ربما لاختلافها عن بقية أحداث حياتك.. لكن من التجني على الحقيقة أن ندمج كلمة أحداث بحياتك، حياتك هي حدث واحد لا يتغير.. انسطال ليمتد محدود الضمان، برأسمال قدره كتلة بحجم حبة الزيتون، تلغم بها السجائر، او تعمر بها الجوزة، او قنينة مكسورة العنق، او حقنة من مادة مضمونة.. حسب النفسيات والظروف والطلب..

ونعود الى الحدث الذي بدأ يداعب ذهنك.. قبل أن تفقد من جديد طرف الخيط.. رغم كثرة الضباب المحيط بالحدث نفسه، الا انك ترى الصورة الأساسية... البلد كلها خرجت عن بكرة ابيها.. منظر لم يشهده في حياته.. لاول مرة منذ نكسة العرب الكبرى في العصر الحديث يشعر بسموه.. كان قد اخذ نفسين من زميل له.. لا اكثر، وعيه نصف نصف، ولكن الحدث كان اقوى حتى من الانسطال الكامل.. شعر بانسانيته بشكل صعب على التصديق.. لأول مرة منذ سنوات يشعر انه كائن بشري.. حدث معه أمر عجيب.. نزل عليه شيء من الفضاء.. السعادة دغدغت كل اطرافه وهو يندمج بالسيل البشري الجارف.. سعادة ودموع وقوة.. تمنى ان يستمر هذا التدفق البشري الى ما لا نهاية.. شعر بمعنى ان يكون المخلوق انسانا. بح صوته وهو يهتف من اعماق اعماق نفسه، كان يبكي بشكل يشعره بارتياح عظيم، شعر بنظافة نفسية.. نظافة طال حنينه اليها.. منذ النكسة لم يحلم بلحظات كهذه..

الآن تبدو له الاشياء مختلفة. العرب خرجوا من كل مكان وفي كل مكان.. تبدو وكأنها مسيرة واحدة عبر المدن والدول والقارات.. كان وداعا لرجل واحد.. رغم النكسة، كان المعبر الوحيد عن الجديد والنظيف في حياة الملايين، هو الطريق الذي خرجوا لتأكيده في ظل العتمة والخوف.

 

يومها هاجم البوليس التيار الجارف من جميع الاتجاهات.. على امل ان يحصر المتظاهرين في منطقة صغيرة خوفا من وصولهم الى اكوام الحجارة، او مخازن الاسلحة كما تسمى، وهي، لمن لا يعلم، السلاح الوحيد المرخص به طبيعيا للعرب، والوحيد الصالح للاستعمال في كل الظروف، لا يطوله الفساد، ولا يحتاج لصيانة، ولا يمكن حجزه في مخازن الأسلحة، والاهم انه السلاح الوحيد الذي يستطيعون، ان ارادت السلطة او لم ترد، التعلم على استعماله، ونقصه الوحيد انه لا ينفع في اسقاط الطائرات.

اشتد يومها حصار الشرطة وبطشها لتفريق المسيرة العاصفة.. والمحاصرون، المصرون على التظاهر، لا يملكون الا ذخائر قليلة لا تفي بكسر الحصار.. ويومها تفتق عقله عن حل. هل كان مسطولا؟ أبدا. وجد الحل. هل يكون العكاويون اقل حذاقة من النصراويين الذين عملوها في ايار المشهور عام 1958؟

وماذا فعل أهل الناصرة؟

الحكاية ان الناصرة تزفتت شوارعها الرئيسية، وشوارع بعض الاحياء أيضا، بعد اول ايار 1958.. والسبب بسيط، استعمل يومها المتظاهرون في الناصرة بلاط الشوارع.. كانت فرق تقتلعه بمساعدة المفكات وقطع الحديد المختلفة، وفرق تكسرة الى قطع ملائمة، ويسلم جاهزا للاستعمال الى الشباب في المقدمة حيث يرشقون به كل ما يشتبه ان بوليسي... وخوفا من تكرار الحوادث المشابهة، ولتقليل كمية الذخائر المتوفرة للعرب، بحيث تصبح غير كافية لخوض حرب حجرية عصرية، قررت السلطات يومها تقليع كل البلاط الذي رصف به الاتراك شوارع الناصرة، وتعبيد الطرق.. وهكذا، كما تسجل في التاريخ.. تبدل بلاط شوارع الناصرة بالاسفلت الاسود العصري، اما الاتربة فلا خطر منها، فبقيت كما هي..

 هذا هو قانون التطور الذي خدم العرب في اسرائيل في العديد من اتجاهاته.. اذن لماذا لا يفعلها العكاويون بعد 12 سنة، والبلاط متوفر والحصار شديد؟

يا عرب..

 

(3)

وكان ما كان.. خذوا الحكمة من افواه المساطيل.. الفرق صغير جدا بين المجانين والمساطيل.. كلهم يبتعدون عن الوعي. ما يميز المساطيل هو عودتهم للوعي بين وقت وآخر.

عقلك أصبح ثخينا. والبرهان انك لا تستطيع معرفة ماذا حدث لك..؟ وكيف وقع الحادث؟؟ تشعر بألم ودوخان وضيق في التنفس... اعصابك مشدودة بتوتر شديد.. تريد سيجارة.. ولكنك لا تعرف كيف تحصل عليها. تريد ترويقة.. شمة عابرة.. شيء يريح اعصابك..

لا لم يجر لك شيء في تلك المعركة. عدت تسطل بعد نصف يوم. المهم انك صمدت هذه المدة الطويلة. بشارة خير فائدتها لم تجن. متى بدأت تفكر في العودة الى عالم الواقع؟ هذا السؤال الوحيد الذي تستطيع ان تحدد له جوابا واضحا على نحو ما. حدث ذلك بعد ان "لمك" البوليس في مساء ذلك اليوم. جاء الى الغرفة "التجارية".. قلوبكم تجمدت، ولكنه لم يكثرث للرائحة الطيبة المنبعثة في فضاء الغرفة.. وللعيون نصف المغلقة.. سحبوك الى مركز الشرطة بكامل وعيك.. وبكامل اعصابك.. فتعميرتك لم تكن قد حضرت بعد.

ساد الاعتقاد بان المخدرات هي السبب.. لذلك اسرعت جماعتك، كما علمت فيما بعد، بتنظيف الغرفة من الذخائر.. وفتح النوافذ للتهوئة، وتعليق صور زعماء الدولة والحكومة على حيطان الغرفة، استعدادا لما قد يأتي في اعقاب اعتقالك.. والاستعداد لمواجهة الموقف ببراءة يعجز عنها الاطفال.

رموك في غرفة قذرة، وتركوك تتعذب حتى فجر اليوم التالي. لم يغمض لك جفن.تعترف انك ارهقت وارتعبت.. اولا، انت حشاش قبض عليه متلبسا بالجرم، وكنت تظن ان الشرطة جمعت الأدلة الموجودة في الغرفة.. واعتقلت بقية الشلة.. وثانيا، وهذا الابلى، اشتراكك الفعال في مظاهرة الأمس.. ودورك الطليعي في الوصول الى سلاح فعال لم يؤخد من جانب البوليس بالحسبان. حقا هو سلاح قديم، سلاح الفقراء والمظلومين.. سلاح حجري في عصر الفضاء، ضم اليه بلاط الشوارع، الذي لم يفكر فيه بوليس عكا من قبل، على اعتبار ان عكا بعيدة عن الناصرة.

في الفجر قادك شرطيان الى غرفة الشاويش. كل ما استحوذ على ذهنك هو شيء تسكن به اعصابك.. سيجارة بنت اصول.. مهدئات.. المهم ان تعود لهدوئك.كل ما تتذكره ان الشاويش قدم لك سيجارة لم تستطع ان ترفضها.. ثم وضع علبته تحت تصرفك.. كان وجهه ضحوكا، ينظر اليك من فوق أنفه، وكرشه الكبيرة تتكئ على الطاولة.. وأنفه الافطس قليلا ضخم وأحمر للغاية.. يلوح من بين عينية كالبيرق.. او.. كتمت ابتسامة كادت تفضحك، اذ ذكرك الأنف الافطس بشيء يحمله الجحش، فكدت تضحك.. كان يتكلم العربية بثقة، رغم انه يشوهها بأخطائه التي لا تحصى، ومما قاله تتذكر:

-        نحن لا نريد ان نسبب لك المشاكل.. لا نريد ان نؤخرك عن أصحابك.. نحن نعرف كل شيء عنك وعنهم.. لا تنكر.. كن معنا نكن معك يا حبيبي.. انت انسان واع (كدت تضحك مرة أخرى).. لماذا اشتركت مع الشيوعيين في رمينا بالحجارة؟ هذه اجرتنا لاننا لا نتدخل في شؤونك؟ انت تفهم ما اعني.. اريدك ان تبقى عاقلا.. ان تعاوننا.. من الذي حرضك على الاشتراك بالمظاهرة؟.. من قال لك ان ترمي الحجارة؟ ومن هم المنظمون؟.. ومن اعتدى على الشرطي شمعون؟.. من حشرة داخل برميل الزبالة؟ تكلم يا حبيبي.. ساعدنا لنساعدك..

بعد ان استعصى فك لسانك ضربت بالعصي حتى الاغماء.. ثم حررت.. وفهمت ان اعتقالك لا جدوى منه لأنك لا تتعامل بالسياسة.. انجرفت مع "القطيع".. وهي حالة نادرة مع امثالك.. والدرس الذي لقنوك اياه مع وسائل الايضاح التي كسرت اضلاعك ولونت جسدك بالكدمات الكحلية، ستبقى ماثلة ان شاء الله لكل العمر.. الحساب معك انتهى!!

وعدت الى الاصحاب.. حدثتهم بما حصل فاطمأنوا الى وضعهم وأمنهم. أما أنت فشعرت بتفاهتك وحقارة حياتك. وتنامى حقدك وغثيانك من واقعك.. حقا لم ينجحوا بفك عقدة لسانك.. مما يشعرك ببعض الكرامة والزهو، ولكن حالتك لا تبعث على الزهو، ولا شيء من الكرامة فيما تمارسه.. لا شيء انساني في حياتك التافهة، تعرف ذلك، تثور نفسك، وتدخل الى متاهات لا نهاية لها.. وتتخلص من عذابك بالانسطال.. المهرب المضمون من وعيك ومتاهات نفسك.. كنت تتذكر حالة التجلي مع الجماهير.. تطمع بالتخلص من واقعك، فلا تجد الجرأة، وفي لحظات وعيك القليلة تبكي حنينا الى حياة نظيفة.. ثم تتخلص من وجع فكرك بالانسطال من جديد. ربما كان يجب ان يحدث ما هو أكبر، ما هو أخطر.. حتى تستطيع العودة الى اصولك الانسانية. يجب ان تعود.. حقيقة تكبر في داخلك، تشتد في ضغطها على ذهنك... تستعيد لحظات التكاتف مع الرجال.. الصوت الواحد.. القدم الواحدة.. الساعد الواحد.. للآلاف.. للملايين.. كيف لا تصير من هذا التيار؟.. كيف لا تعود.. الى انسانيتك؟ فقط ان تضع قدمك على اول الطريق.. وستواصل وحدك؟.. حقا؟!

 

(4)

وسرعان ما عدت الى الاستسلام.. وعادت الايام الى طبيعتها الخاملة..تقضيها غائبا عن عالمك، او بين احضان ليندا.

الجديد الذي حصل هو كثرة العودة لصراع افكارك بين الدفع للعبور فوق واقع التسطيل، لربط مستقبلك بما انقطع من ماضيك، وبين الاستمرار فيما أنت فيه.. أما أفضل جواب لديك، فبقي كما كان.. رغبات تدفنها عميقا في نفسك.. افكار تقمعها بالسموم.. نوايا تعذبك فتهرب منها الى احضان ليندا...

 

(5)

تشعر الان انك تسيطر على افكارك بصورة افضل، أصبح هناك تسلسل منطقي، لكن ليتك تستطيع ان تسلسل الأحداث الأخيرة التي قادتك الى هنا.يبدو ان بعض الظلال تخترق فكرك المتحجر. المخدرات تركت أثرها عليك،، ومع ذلك لم تستطع فراقها. هي الحبيبة، هي الحياة، هي الخبز، لو أخرتك ليندا لما حدث لك هذا.. ولكن لماذا حدث؟ الآن تلمس جيدا، او هذا ما تريد ان تتصوره، ان هذه الاسئلة تقودك الى سيل الرجال الجارف. الى الحجارة والبلاط المقتلع.. الى الانعتاق الانساني. الانعتاق الذاتي. التحرر من الخوف. امتلاك الارادة. الرؤية الضميرية.. والتصرف بما يمليه الضمير.. الى التفجر الذي يجيء بعد الكبت الطويل.. الى التنفس بحرية من الهواء الطلق.. الهواء المعطر بعرق الرجال الى الارتباط بشيء له معنى، له واقع، له اطار، له مضمون.. الى شيء ربطك وانت في مطلع شبابك بقضية كبيرة احببتها.ولكنك خفت ان تجاهر بها. خاف والدك على وظيفته، وخافت امك على وظيفة زوجها.. وخافت عائلتك عليك.. الخوف هو الذي جعلك مسطولا حتى في وعيك.. مجتمعك كله كان مسطولا.. لولا الخوف لكنت شيئا آخر.. وفي نفس الوقت انت لا تريد الابتعاد عن غرفة المواهب وليندا.. والصراع هو بين لذة الوعي والعمل في سبيل شيء واضح، وبين لذة الانسطال والتحليق في فضاءات واسعة ممتدة. لو تأخرت قرب ليندا لتغير وضعك الآن.

شيء غريب شد أفكارك ووعيك.. يبدو انك اكتشفت طرف الخيط. كنت نصف نصف.. ليندا كانت خائفة وتريد العودة الى ولديها. قالت ان الحرب اشتعلت. لم تفهم شيئا.

-        العرب هجموا..

-        وانا سأهجم عليك..

-        اريد ان ارجع الى الاولاد.. سيرتعبون.. انا خائفة عليهم.

هل تتحدث هذه المرأة بعقل؟ حرب؟ حتى ليندا تفكر وتخاف على شيء تملكه.. اولادها؟ من أجلهم هي هنا؟!.. وانتم.. كلكم.. حيوانات.. كيف لم تكتشفوا ذلك من قبل؟ كيف لم تفكر انها انسانة الا الآن؟ والقلق الذي يعلو وجهها..؟ والرجاء المنطلق من عينيها.. تخاف ان تخسر رزقها.. رزقها المجبول بنذالتكم.. انها اشرف منك.. اشرف منكم.. اشرف من عائلتك.. اشرف من مجتمعك.. تعطي نفسها حتى لا يجوع ولديها.. يا لهول ما يعتريك.. هل هي صحوة ضمير؟.. صحوة الانسان المخبول في داخلك؟

بردت كل اعصابك بشكل فجائي لم تعهده من قبل.. وسألتها ان كانت قصة الحرب جدية؟ قالت امورا صعبة على التصديق.. لم تستوعب كل ما قالته.. هل يعقل ان يتعلم العرب الهجوم؟ خافت منك.. لا تعرفك الا مسطولا.. اما ان تطرح سؤالا جديا.. ان تهتم بمسألة فوقية كهذه؟.. هذا تغيير مقلق.. بل مرعب بالنسبة لها.

تراجعت خوفا منك واخذت تتعرى بيأس وخوف، وطبقة من الدموع تطلي عينيها.

-        ارتدي ثيابك.

امرتها بشكل جعلها تطمئن قليلا. امرأة لا مورد لها.. تعيل طفلين وزوجا مقعدا.. والحيوانات أمثالك تستغلها..؟ وأنت بالذات كيف قبلت؟اين كان ضميرك؟ سؤال مضحك عن الضمير.الضمير هو اول من ينسطل.. حتى بدون مخدرات. وبعد ذلك تجيء التطورات.. فينسطل ما بقي من فكر ووعي.. وكلها اسماء لشيء واحد هو العقل. وصحوات العقل كثيرة، ولكنه مسطول من كثرة الراحة والخمول.وهو قليلا ما يصلح للاستعمال. ولكنه أحيانا يرتكب نوادر غريبة. ينشط ويثير أسئلة وأجوبة.. ويعذبك حتى تنسطل وتسطله معك. حكاية معروفة تتكرر. والآن تشعر ان صحوته لن تمر على خير.ربما في اعماق نفسك لا تريده ان يعود الى خموله. وهناك سبب كاف.. القرف والجريمة والنذالة التي تنكشف امامك.. استمتاعكم بمآسي غيركم.. وحنينك لان تصبح وتبقى ابدا واحدا من الرجال الذين عرفتهم في اعظم مسيرة في التاريخين القديم والحديث.. ان يكون لك اطار ومضمون.. انت بحاجة فقط الى المساعدة.. لا تعرف كيف تحصل عليها.. هل انت مسطول الآن ام في قمة وعيك؟ وما هو التطور الذي جعلك ترقد هنا؟ والآلام العنيفة التي تجتاحك؟ والعرق الذي يغمرك؟ وأعصابك المشدودة المتوترة؟ الان تتكون في ذهنك تفاصيل اكثر وضوحا.. ما مضى من وقت هو اقل من ساعتين.. ومن اين لك ذلك؟.. ربما مضت عليك ايام.. فالصدمة كانت من القوة بحيث دحرجتك عدة امتار فوق الاسفلت الاسود.. الان تعرف سبب الألم.. انت لست بخائف.. المهم انك بدأت.. وعليك ان تواصل.. ان تصمد !! هل ستفعلها؟؟

 

(6)

 

لم تكن قد كونت فكرة كاملة عن الخبر الذي نقلته لك ليندا.. ولكنه جعلك متسمرا، متعلقا بين الخوف من الماضي الذي لا يزال يعذبك، ومتعشقا للجديد الذي ان حدث كما تريد فقد ينقذك. ربما تتعلق بالاوهام.. انت تقر بضعفك.. اذ لولا ضعفك ما وصلت الى المخدرات.تركت ليندا وخرجت. الان تعلم انه لا ذنب لها بما حدث. عند اول مقهى وقفت تلتقط السمع.. وجوه الناس متغيرة، شيء جديد توحي به الوجوه.. او ربما نظرتك بوعي الى الوجوه هي سبب التغير الذي تلحظه وتحس به؟.. الهدوء غريب، ولكن الاغرب هي الثقة التي يتحدث بها الناس. هل حدث كل هذا في لحظات؟ اين كنت انت؟ في اي كهف اعتزلت؟

كان جهاز الراديو يبث من كل موجاته ومحطاته موسيقى عسكرية واناشيد.. والناس يملؤهم الهدوء والثقة. هل اصبحوا مساطيل بعد ان عدت انت الى وعيك؟ غريب ما يحدث.. الجو مشحون بخبر لم تعه على حقيقته بعد سمعته مقطعا من مصدر غير مؤهل.. من ليندا.... تنتظر كلمة من المذياع لتفهم ما يجري.. تتذكر الاجواء بعد النكسة،ايام ذل لا تنسى، تتذكر الاحباط الشامل والشعور بالضياع، تتذكر العار الذي اغرقك واغرق الناس، تتذكر الالم غير الانساني الذي مزقكم ومزق احلامكم وقهركم واحالكم الى اشخاص بلا قيمة.. هل نسي الناس النكسة؟.. هل حقا تكفي سنوات ست لتغيير الحال من ضياع الى أمل؟ من عار الى فخر؟ الثقة التي تملأ وجوه الناس، ونظراتها التي تلمع بصمت، مشاعر غريبة وتبعث على الرهبة.. أمر جلل قد وقع.. وترامى اليك صوت المذيع.. حتى الصوت يختلف عما تعودت على سماعه منذ النكسة.. والقوة بالتعابير عبر الأثير لها طعم لم تعهده من قبل.. هل نمت كل هذه المدة، فلم تلحظ التغيير من اوله؟ ام ان التغيير كان فجائيا؟ الجميع يتصرفون وكأن شيئا لم يحدث. وكأن ما يذاع هي مجرد تمثيلية.. وها هم يقفون تحت الشمس لتكشفهم. يخرجون الى الضوء باعتزاز..وسمعت احدهم يهمس في اذن زميله ضاحكا:

-        لم اعد شقفة عربي.. اصبحت من اليوم عربيا كاملا!!

تريد ان تقول له كلمة.. ولكنك تخاف ان تقولها.. لم تتعود ان تتكلم وانت في وعيك.. ويقطع صوت المذيع ما انت فيه من حيرة وشوق للفهم:

-        عبرت قواتنا قنال السويس واحتلت خط بارليف..

شيء يجعلك تقفز كالمجنون داخل المقهى.. تنظر بانبهار للناس.. تشعر بالانفاس المتهدجة حولك.. تشعر بانسطال حقيقي لم تعهده من قبل ابدا.انت الان تحلق.. العيون ترميك بنظرات الريبة.. كل تلك السنين لم تعلمك اصول التصرف؟ السؤال واضح. بل هو مكتوب على ثنيات الوجوه.. وفي نظرات الاعين.. وعلى الشفاه التي تحبس الابتسامات.. اثارك جمودهم.. ربما ما يسمى بالعقل عندك لم يعد سليما؟ نظرت اليهم تريد ان تعانقهم فردا فردا. ربما لم يفهموا الحدث.. الا يذكرون العار الذي خردقهم قبل ست سنوات؟ لقد عبرناه.. وبدون وعي تعالى صراخك:

-        عبروا!!

 انت الذي عبرت واقعك ويأسك. وانطلقت في الشارع. لا شك ان الانسطال المزمن ترك اثره على تفكيرك وتصرفاتك. كنت تصرخ بفرح.. أشياء مفهومة وأشياء لا معنى لها.. كانت السعادة أكبر من حجمك ومن عقلك ومن طاقتك.. حتى عندما رأيت سيارة الشرطة لم يهتز لك رمش.. صرخت بهم:

-        عبروا..

واندفعت أمامهم. طاردوك. ركضت.. واجهدك العرق وبح صوتك وانت تصرخ:

-        عبروا..

وغمرتك الراحة والسعادة.. وشعرت بانسانيتك تتجلى.. تسمو الى الآفاق..

- عبروا...

لم تلتفت للخلف.. واصلت الصراخ بفرح.. فرح تحررك من واقعك.. فرح العودة الى اصولك. فرحة الانسان الذي وصل بر الامان بعد معاناة مع البحر الهائج المائج.. انت الان تعبر معهم.. انت تحلق بعيدا بعيدا في الفضاء..

وبعد.. صدمتك سيارة.. على الاغلب سيارة الشرطة. فتدحرجت على الاسفلت، انت وافكارك وصراخك، يجمعكم رابط الفرح والألم.

وها انت تستعيد وعيك. كم مضى عليك هنا؟ هل هذا مستشفى؟.. سجن..؟ او كلاهما معا..؟

ولكن هل ستصمد؟ وارتسمت ابتسامة كبيرة فوق شفتيك.. ورفعت قبضتك.. وصحت من اعماق روحك:

-        عبروا !!

 ******

 

 

 

 

ملاحظات ثقافية

حول القصة القصيرة جداً

 

نبيل عودة

 

أعترف أن بعض ما قرأته مما يسمى قصصاً قصيرة جميل.. ولكنه جمال سريع العبور والتلاشي، لحظة بعد قراءة النص. وبعض النصوص مجرد ثرثرة بلا معنى ولا فكرة ولا رؤية، ولو أراد كاتب متمرس مثلي لأنتج مجموعة قصصية من القصيرة جداً كل يوم، وربما بمضمون وروح دعابة، وفكرة فلسفية، ونص شاعري، أجمل من كل ما قرأت من قصص قصيرة جداً.

 انا لست مقتنعاً من أمرين بكل ما يسمى القصة القصيرة جداً، أولاً من كون هذا اللون ينتمي لعالم القصة، وثانياً من رؤيتي ان التسمية قصة قصيرة جداً هي تسمية دخيلة على عالم القصة. القصة القصيرة هي قصة قصيرة وقد تكون ومضة حقاً ولا أرى ان المساحة هي المقررة، انما المضمون، وما يسمى بدون وجه حق قصة قصيرة جداً، القليل منه فقط، يمتلك عناصر القصة... والباقي ليس قصة وليس أدباً حتى..!!

 هل هذا يعني ان قصة قصيرة مصوغة بكثافة روائية تصير، حسب هذا المنطق "رواية قصيرة جداً؟". قناعتي ان هذه التسمية عبثية!!.

القصة القصيرة جداً تفتقد للمبنى القصصي بحكم مساحتها، وغياب عناصر هامة مثل الخطاب التاريخي والخطاب الفني، وبناء الحدث، وبناء سيكولوجية الحدث وأبطاله، أي بمفهوم أوضح دراسة العوامل النفسية للفكرة الدرامية ولشكل تصرف الأبطال. ربما ينفع نص ما يسمى قصة قصيرة جداً ليكون حالة معينة داخل قصة.

أعرف ان موقفي سيثير رفضاً واسعاً، لأن الكثيرين من الذين فشلوا في صياغة قصة قصيرة يبحثون عن تغطية ثقافية.. ولكني لم أتعود ان ابقي رأيي طي الكتمان.

 

لا أطرح ما أطرحه لأنتقص من قيمة اي كتابة أدبية إبداعية. وكما قلت بعض ما يسمى القصص القصيرة جداً قرأتها بمتعة، رغم اني لم أدخل في نوسطالجيا القصة القصيرة، او أجواء الدهشة والإحساس بالحدث، وشعور التواصل والرفض لمواقف أبطال النص القصصي، او القناعة الفكرية بموقف او نهاية. وخلافي ليس حول قدرات إبداعية لبعض كتابها، لأن الأكثرية المطلقة من كتّاب هذا اللون، صاروا تماماً مثل شعراء آخر زمان، الذين هبطوا على الشعر بدون فهم ادوات الشعر، ولغة الشعر وصياغة الصور الشعرية، ووجدوا بالمنثور غطاء تنكريا، بينما الشاعر الوحيد الذي اثبت نفسه في الشعر المنثور هو الشاعر محمد الماغوط. وقد نجد القليل عند غيره من المنثورات الجيدة.. ولكنها لا تشكل حالة ثقافية.

 لذلك نرى الكثير من حاملي صفة شعراء وكتاب قصة قصيرة جداً، او حتى قصة قصيرة، ولا نجد بينهم الا عدد نادر من الشعراء والكتاب، وبالكاد لديهم روح أدبية تستحق الالتفات.

يقلقني تماماً ان حالة من التسيب والسهولة التي وجدها البعض في هذا اللون من الكتابة، قد تقود الى تعميق أزمتنا الأدبية.. بحيث تصير الكتابة القصصية القصيرة جداً ملعباً للكثير من الفاشلين قصصياً، تماما كما ان الشعر المنثور أضحى لعبة يمارسها الفاقدون حتى للحس اللغوي وليس لبحور الشعر وأوزانه فقط..

أفهم ان شاعراً مجيداً مثل محمود درويش او نزار قباني كتبا قصائد النثر، او ظهرت نثريات في قصائد بعضها موزون. لدرجة ان القارئ العادي، او المثقف أكثر، يستصعب أحياناً الفرز بين الموزون والمنثور او فهم ان بعض الشعر، رغم انه على المسطرة من ناحية الوزن الا انه يبدو لغير الملمين بالأوزان الشعرية، نثراً.

أحد الأدباء العرب داخل اسرائيل، الدكتور فاروق مواسي أصدر مجموعة قصص قصيرة جداً حملت عنوان "مرايا وحكايا" قرأتها وأعجبتني روحها الأدبية.. ولكني لا أستطيع قبولها كقصص، لا قصيرة ولا قصيرة جداً. تفتقد لمبنى القصة. ربما كتابة ذكية ببعضها روح الدعابة. لذا امتنعت من الكتابة عن مجموعته رغم رؤيتي انها لوحات كتبت بذكاء وحس أدبي جميل. واليكم نموذج، وهي القصة الأولى في المجموعة:

 

سمك

سألته وهي تهاتفه: أي الطعام أحب اليك؟

أجابها بلا تردد: سمك!.

ولم تكن تحب السمك...

وألِفت نفسها بعد أيام تكثر من شراء السمك للعائلة، تقدمه مقلياً ومشوياً وتأكله بشهية..

وتساءلت العائلة: ما سر شراء السمك بهذا القدر... ترى هل رخص السمك؟!.

***

 

أعترف انها فكرة جميلة، وهي أجمل قصة برايي في المجموعة، ولكن السؤال،ألم يكن من الممكن تطوير عقدة قصصية من نفس هذه الفكرة السريعة، وجعلها أكثر جمالاً وأكثر اندماجاً بجو قصصي يعيش لفترة أطول في ذهن القارئ، ويخلق انفعالات درامية تدوم في ذاكرة القارئ لفترة أكثر امتدادا؟.

سيقولون لي عصر السرعة. هذه حجة تولد ميتة. اذن تعالوا نجعل الرياضيات والفيزياء والكيمياء والعلاج الطبي يخضع لفكرة السريع جداً، أو القصير جداً..؟.

فكرة القصير وارتباطها بعالمنا السريع، هي تدمير للأدب.

ربما تكون قصة قصيرة لا تتعدى الخمسين كلمة. أو أقل، ولكنها ليست قاعدة إطلاقاً. وتحويلها الى قاعدة يبنى عليها تحمل في داخلها ميكروبات قاتلة للأدب.

الأدب متعة نفسية وجمالية وفلسفية وأخلاقية وتطويرية ونقدية.. ورحلة في عالم الانسان والطبيعة والجماليات، لا يمكن اختصاره الى قصة قصيرة جداً، تكتب خلال دقيقتين.

من هذا الشكل مثلا قصة كتبتها خلال دقيقتين بدون فكرة مسبقة، من أجل ان أثبت لنفسي أولاً عبث فكرة القصة القصيرة جداً. وقدرة كاتب متمكن من مهنته، ان يصوغ عشرات من النصوص، من هذا النوع، خلال جلسة واحدة قصيرة. واليكم النموذج:

 

أضف الى رجائك ورقة ياناصيب

 

كان يصلي لربه ان ينقذه من تدهور حالته الاقتصادية، بأن يجعله يفوز بمليون دولار بسحب اليانصيب. وتمضي الأيام والأسابيع، والله لا يستمع لندائه. أخيراً وقف يصيح بأعلى صوته: ألم تقل على لسان ابنك: اقرعوا يفتح لكم؟ ابحثوا تجدوا؟ أكاد أموت جوعاً وانت لا تسجيب لندائي بأن أفوز ياليانصيب!".

وجاءه صوت مجلجل من السماء: "عليك ان تقوم بخطوة كي تساعدني على مساعدتك، اشتر أولاً ورقة يانصيب".

 

وقصة أخرى:

 

كتابة تافهة..؟

 

جلس يهودي متدين في عيد الفصح في حديقة، وكان يأكل المصّة (خبز بلا خميرة كثير القدوح). جلس بقربه رجل أعمى، قدم له اليهودي قطعة من المصّة، تلمّس الأعمى المصة بأصابعه من الجهتين وسأل بحيرة: "من كتب هذه التفاهات؟"

 

وقصة أخرى:

 

من تصدق؟

 

دخل بيته ووجد زوجته وأفضل أصدقائه عاريين في السرير. قبل ان يفتح فمه قفز صديقه من السرير قائلا: "قبل ان تقول شيئا أخي، فكّر جيداً، من تصدق، صديقك ام عينيك؟".

 

هذه القصة قد تبدو نكتة عابرة ولكنها فلسفياً تطرح موضوعاً هاماً: "على أي نوع من المعلومات عن عالمنا يجب ان نعتمد؟"

 

هل تريدون ان أواصل؟

 

 إنسانية

"الإنسانية؟

ليست ان يبصق صدرك دماً

من طلقة مدفع

 في يد عدو.

الإنسانية؟

ان تزغرد رصاصاتك فرحاً بالنصر!!"

 

هل يمكن وصف هذا المقطع بالقصة؟

 

مقاومة

 

انت في مهمة، ومهمتك تطبيقية، مهمتك ان تضغط باصبعك الى الوراء، بعد ان يكون الصليب المنبعث أمام عينك عبر منظار البندقية، قد تعلق كوسام الشرف فوق صدر الذي احتل ارضك"

 

غضب أيوب

 

فقام ايوب ومزّق جبته وجزَّ شعر رأسه وخرّ على الأرض ساجداً.

قال ايوب: عرياناً خرجت من بطن امي وعرياناً أعود الى هناك، الرب أعطى والرب أخذ، فليكن اسم الرب مباركاً".

وقتلت فلسطين!!

 

بعد نكسة 1967 كتبت مجموعة قصص جو" تحوي عشرات المقاطع المستقلة في إطار قصصي واحد، بإمكاني تحويلها الى أكثر من 50 قصة قصيرة جداً. ولكني لا أشعر بأني أبدع كتابة قصصية، انما فذلكة نصية لا أكثر.

 

وأنهي بهذا المقطع:

 

الموجات الثلاث

وصلت قبل ايام، كنت في رحلة الى بحر هائج. أضعت هناك ثلاث موجات، وعندما وصلت ميناء النهار اكتشفت اني أضعت ايضا نصف البحر وحبيبتي التي كانت تحتضنني بين وديانها وجبالها.. آه من ألمي. حملتني الريح بعيداً عنها.. وها انا أبحث عنها حتى اليوم.

***

مثل هذه القصص لا تحتاج الى الدخول في مشكلة التكنيك القصصي، وضبط الخطابين الأدبي الفني من جهة والتاريخي الأيديولوجي من الجهة الأخرى لصياغة قصة فنية متوازنة، وانتاج نص يشد القارئ ويثير دهشته.. مثل هذه "القصيرة جداً" لا تحتاج الى التفكير بخلق عالم البطل وشخصيته، ودراما واقعه، مثل هذه القصة لا تحتاج الى خلق أحداث حياتية ونص متماسك يأسر بدهشته القارئ، وتكريس تفكير وجهود فنية لجعل الفكرة أكثر كثافة في ذهن القارئ، وأكثر عمقاً اجتماعياً، وأبعد في صياغتها من مجرد خبر كتب بروح الدعابة السوداء او البيضاء.

لاحظت ان بعض الزملاء يعلقون على القصص القصيرة جداً بكلمة مكررة "كثافة" هل حقاً يدركون مفهوم التكثيف في الأدب او في النص اللغوي او في الطرح الفكري؟ رجاء لا تدمروا هذا التعبير باستعماله في غير مكانه، يكفينا ان مفهوم الحداثة صار يطبق على كل كتابة مفككة وهابطة لغوياً وفنياً.. وبجهل كامل لمعاني التعابير والاصطلاحات ومضامينها ومصادرها الفكرية.

القصة القصيرة جداً ليست تكثيفاً لشيء، بل هي اختصار لفكرة وتجزيئها. لا افهم ما هو التكثيف في النص القصصي، الا اختراعاً لإصطلاح للتغطية على الفقر القصصي.

هذا رأي.. لست متمسكاً ومتعصباً له، او لأي رأي آخر، لأن عالمنا متحرك متغير متطور، عاصف بأفكاره ومعاييره، ممتد بعمقه واتساعه بكل الاتجاهات، وفقط الملقّنون (بفتح القاف) يتمسكون برأي ثابت لا يتغي..

هذه هي قناعتي، حتى هذه اللحظة على الأقل!!..

 

Nabiloudeh@gmail.co

 

 

 

حتى نجدد مشروعنا الثقافي!!

نبيل عودة

تابعت الحركة الثقافية من ابداع أدبي ومسرحي وفني في البلاد منذ بداية وعيي ..ونشرت تقارير صحفية، مقابلات ومراجعات نقدية للنشاط المسرحي والموسيقي والغنائي خلال فترة طويلة جدا بدأت مع بداية العام (1964).  أقول بأسف شديد اليوم، ان عدم وجود مؤسسات عربية محلية قادرة على استيعاب الدور الحضاري المؤثر للحركة الثقافية وسائر الفنون الثقافية والفنية، أسفر عن ضياع جهود الطلائعيين الذين قدموا تضحيات شخصية في إرساء القاعدة للتطور الثقافي متعدد الجوانب في أصعب مرحلة من تاريخنا.. لكنهم أهملوا وأفشلوا مع كسر الحصار السياسي والثقافي وصعود القوى التي كنا نحلم ان تعطي قفزة كبيرة للثقافة والفنون.  

بعض الموهوبين المسرحيين أصيبوا بحالة يأس واعتزلوا النشاط المسرحي الخلاق الذي بدأوا به مسيرة حياتهم .. وكانوا قد كرسوا أحلامهم لرؤية تطور مسرح محترف وجماهيري ، منهم مثلا المخرج والممثل الموهوب صبحي داموني من الناصرة ، الذي قدم حتى نهاية السبعينات من القرن الماضي مجموعة كبيرة من الأعمال المسرحية إخراجا وتمثيلا، شكلت في وقته هبة ثقافية مسرحية غير مسبوقة، بعض المسرحيات عرضت عشرات المرات ليشاهدها آلاف المشاهدين من الناصرة والوسط العربي كله. أقول بمسئولية وثقة ان صبحي استطاع ان يرفع دور المسرح الاجتماعي والثقافي الى مرحلة متقدمة ومؤثرة!! 

المفارقة المستهجنة ان صعود اليسار والقوى الوطنية  لقيادة السلطات المحلية العربية داخل اسرائيل وتحريرها من سيطرة السلطة، وخاصة في الناصرة، لم يقد ، كما هو متوقع ومنطقي، الى تطوير النشاط المسرحي والثقافي، بل إلى شلله وتقزيمه في محاوله لجعله بوقا دعائيا يخدم تنظيمات سياسية. هذا ما دفع ثقافتنا إلى أوهام ثقافية، فردية وجماعية، لم نخرج منها حتى اليوم.

اسس صبحي داموني مثلا، مع مجموعة فنانين طلائعيين متعددي المواهب الفنية والثقافية "المسرح الحديث" في الناصرة قبل ان يقع ضحية للفكر الحزبي  الذي حاول تأطيره وتحويله الى مجرد داعية يقدم "طقطوقات" تخدم نهجا. فأغلق مسرحه يائسا من واقعنا الثقافي، الذي تراجع بدل ان يتقدم، كما كان حلمه وحلمنا وترك وطنه ليستقر في باريس.

لعبت الصحافة كذلك دورا هاما لا أراه اليوم ، نقدا واستعراضا وتغطية صحفية. كان الإقبال على المسرح والأدب إقبالا جماهيريا منقطع النظير، نوع من التحدي السياسي أيضا في مفهوم ما. كانت الندوات الشعرية والثقافية تعقد أسبوعيا وفي مختلف البلدات العربية وبحضور متفاعل ونشيط من المئات، كانت المحاكم الشعبية لمختلف القضايا الوطنية أو الثقافية تقليدا يشد آلاف الحضور.. كانت الندوات الشعرية يحضرها الآلاف وتتحول إلى مهرجانات شعرية - سياسية. للأسف (وأقول هذا مستهجنا) صعود قوى يسارية لإدارة مؤسساتنا الرسمية  انعكس سلبا ودمارا على الثقافة. بدأت ثقافتنا تترهل وتتهاوى، بدل ان يجد جيل المثقفين الطلائعيين، الأدباء، رجال المسرح وسائر الفنون الدعم والرعاية.. وجدوا الصد ومحاولات تقزيمهم وإخضاعهم سياسيا، فاعتزل من اعتزل وأبرزهم بالطبع صبحي داموني. نفس الحال جرت في الأدب والندوات الثقافية، اليوم نحتاج إلى محفزات وتأثير شخصي لإنجاح ندوة أدبية.

بالطبع الحياة لن تتوقف ، رغم الكبوة الطويلة التي طالت ثقافتنا .. بدأنا  الانطلاق من جديد، لكننا خسرنا تجربة عظيمة وقاعدة شعبية هامة، لا اعرف اذا كنا قادرين على تجديدها بنفس قوة التضحية والاندفاع

الدرس الهام الذي تعلمته، هو ان تحويل الثقافة والفن الى التزام سياسي هو غباء كبير ومدمر. الأدب هو أدب، هو معيار إنساني ، أي محاولة لجعله خطابا سياسيا أو قوميا أو انتخابيا هي عملية تدمير للمضمون الإنساني للثقافة.

اعترف اني كنت كاتبا مجندا لفكر سياسي، أقول بوضوح اليوم ان كل التسميات لهذا التيار، مثل "الواقعية الاشتراكية" هي تسميات غبية. حتى تروتسكي (من قادة ثورة اكتوبر ومؤسس الجيش الأحمر) اثبت في كتابه العبقري عن "الأدب والثورة" بطلان هذا الوهم عن خلق أدب واقعي اشتراكي اليوم عبر تجربتي الكتابية التي بدأت مع أول قصة نشرتها عام (1963) اعرف أني أضعت سنوات هامة من عمري في أوهام الأدب الملتزم، رغم ان حسي الثقافي أنقذني بحالات كثيرة من القيود الدوغماتية التي وضعت نفسي داخلها

لا بد أن اشير الى ان الأديب المفكر والناقد ، المحاضر الجامعي المتقاعد من السوربون، الدكتور افنان القاسم، ساعدني بشكل كبير في التخلص من الكثير من أوهامي عبر عشرات الملاحظات وبعض المراجعات النقدية لقصصي

الأمر الذي يقلقني حقا اليوم هو غياب التخطيط الثقافي من مؤسساتنا الوطنية الشعبية والرسمية، وغياب الفهم العميق لأهمية هذا التخطيط وانعكاساته على مجتمعنا

الثقافة هي معيار صحيح لقياس تطور المجتمع .. وغني عن القول ، ان المسرح يعتبر من أهم الأدوات ، وأكثرها فاعلية  في إثراء الحياة الثقافية الاجتماعية ، والتأثير عليها .

  شاهدت في السنوات الأخيرة مجموعة  من المعارض الفنية، من الكونسرتات الموسيقية الغربية، ومن العروض الموسيقية والغنائية الشرقية .. أما المسرح فهو الغائب الكبير، ولا بد ان أسجل ان الأكثرية المطلقة من تلك البرامج كانت تخطيطا وتنفيذا لمبادرات طلائعيين وليس لمؤسسات قيادية غائبة عن الهم الثقافي والفني ، واتهمها أنها عاجزة عن فهم الدور العظيم الذي باستطاعة الثقافة والفنون ان تنجزه لشعبنا. حتى مسرح مناسب لهذه النشاطات لم يبنى في الناصرة وقدمت معظم النشاطات الهامة على مسارح البلدات اليهودية القريبة من الناصرة (الآن تعمل بلدية الناصرة على بناء قاعة ثقافية ومسرح عصري).

صحيح ان تلك النشاطات هي إثراء هام لحياتنا الثقافية والفنية. بالمقابل لا أرى تنامي الوعي (والرغبة في المكان الأول) لدى مؤسساتنا، واعني المؤسسات السياسية والسلطات المحلية وبعض مؤسسات الثقافة التي تحصل على تمويلات من مصادر عديدة، لتبني دورا في تنشيط الحياة الثقافية والفنية، إلا إذا اعتبرنا ان بنود برامجها التي تشمل الثقافة هي مجمل ما تستطيع تقديمه!!.

ان للثقافة والفن دورا تربويا حاسما في تنشئة الأجيال الجديدة ، التي نريدها ان تنشأ منتصبة القامة، صلبة العود، فخورة بانتمائها الوطني والحضاري ، وأن ترى بالثقافة والفنون والعلوم مقياسا لحضارة مجتمعنا. وليس بتمجيد أفراد - أصنام لدرجة العبادة في زمن سقوط الأصنام والأوهام حولها.

اني ارى الترابط العضوي الكامل بين الحديث عن الإبداع الثقافي، وطرح قضايا وإشكاليات هذا الإبداع  والقصور الذاتي في توفير وسائل الدعم .

ان غياب اي برنامج ملموس في برامج الهيئات الرسمية ، للموضوع الثقافي (واذا وجد يبقى حبرا على ورق)، هو إشارة حمراء للواقع المتهاوي ثقافيا الذي نندفع اليه بدون وعي.

استطعنا ان نطور ثقافة إبداعية بهرت العالم العربي .. ووصلت الى العالمية ..في فترة سيادة أبشع أشكال الحكم العسكري وقيوده على حقنا بالعمل والحياة الكريمة والتواصل مع تراثنا وثقافتنا العربية خاصة وعالمنا العربي عامة وفرض الحصار الثقافي والاضطهاد القومي بأبشع وأقذر صورة  والذي استمر الى أواسط السبعينات من القرن الماضي.

 ان مجتمعا لا ثقافيا هو مجتمع من السهل هزيمته، تفسيخه .. وعزله عن محيطه الطبيعي .. وجعله مجتمعا يعيش في محميات طبيعية، أشبه بمحميات الهنود الحمر في الولايات المتحدة الأمريكية . هل نستطيع ان ننسى ما تفوه به لوبراني مستشار رئيس حكومة إسرائيل الأول ، دافيد بن غوريون للشؤون العربية ، عن رؤيته ، وعمليا رؤية السلطة الاسرائيلية .. بان المخطط تحويل الأقلية العربية الباقية في وطنها الى " حطابين وسقاة ماء" ؟!

يومها كان الاتحاد السوفييتي قد اطلق رائد الفضاء الأول يوري غغارين الى الفضاء الكوني ليدور حول الأرض، فخرجنا بهتاف :"يا لوبراني حطابين بمطارق غغارين"!!

اليوم ارى اننا أصبحنا حطابين بمطارق الطائفية..!!

فقط عبر الرؤية النهضوية الفكرية والثقافية، استطعنا ان نهزم سياسة التجهيل، وأن ننطلق في أجواء المعرفة والثقافة والعلوم، لنتحول الى أقلية عربية متماسكة .. اليوم نتراجع، التهريج صار أهم من الفكر النهضوي. الغيبيات تحتل الساحة وتشل العقل. كل هذا ينعكس سلبا عن تطور ثقافتنا. ليس بالصدفة اني كتبت قبل سنوات انه لدينا الكثير جدا من الشعراء ولكن قلة في الشعر..

الظن ان معركتنا انتهت .. هو خداع للنفس. نحن في صراع دائم ومتواصل .. للأسف واقعنا أيضا يتغير للأسوأ.. ربما بسبب المساحة الديمقراطية الواسعة التي بتنا نتمتع بها، بدل ان نستغلها لتعميق الانتماء والإبداع أضحت تخلصا من الانتماء واستهتارا بالإبداع والانضواء تحت فكر طائفي فئوي. تنمية الانتماءات الطائفية اأفرزتنا الى مجموعة جماهير نفتقد للكثير من الروابط بيننا.. خاصة الانتماء القومي، هذا ينعكس أيضا على تطوير مفهوم متقدم لأهمية الفعل الثقافي !!

الثقافة ليست الإبداع الأدبي والفني فقط ، إنما الإبداع المادي أيضا بإنتاج ضروريات استهلاكية للإنسان  وهذا ما نفتقده بالمستوى اللائق والكميات الكافية .

عندما نتحدث عن "حضارتنا العربية" نغرق في نوسطالجيا الماضي الصحراوي متوهمين انه كان ذروة التقدم، محاولين الاستعاضة به عن واقعنا "غير الحضاري" اليوم ، بذلك نلغي مستقبلنا أيضا.

ماذا ينفعنا تاريخنا إذا كنا غير قادرين على استئناف ما توقفنا عنده ؟!

من هنا رؤيتي ان للثقافة والتنوير أهمية عظمى في إحداث انطلاقة ثقافية حضارية. ومن هنا اقف ضد أبقاء العقل العربي خاملا مخدرا بأننا نملك العلوم ، وما هي الا "زغلول نجار" آخر ونصبح مصدري علوم وتكنولوجيات برائحة النفط!!

كفى ثرثرة حول إعجازات وهمية ندعي اننا سبقنا بها الغرب . متجاهلين أن علومنا " المخبأة" (ومن أبرزها أن الأرض مسطحة وليست كروية) فات عهد صلاحيتها ، ولم تعد تنفع للتسويق ، في الوقت الذي تحولت العلوم الى قاطرة تنطلق بالمجتمعات الغربية، وتتركنا مترهلى العقل والجسد ، نجتر الماضي ونختلف في تأويله !!

nabiloudeh@gmail.com

 

 

فلسفة مبسطة: ما هي الفلسفة؟

 

نبيل عودة

"علامة" من المفكرين الدينيين ( لا ضرورة لتحديد هويته الطائفية) رفض مقالاتي الفلسفية بقوله " ان الفلسفة هي ابتكار صليبي استعماري يجب ان لا نعتمدها في فكرنا، لأننا نملك ما هو أهم وأعظم من فلسفة الكفر التي يروجها الصليبيون". رددت  عليه : تطورت الفلسفة في بلاد الإغريق  قبل ميلاد المسيح ب 600 عام، وقبل ظهور الحملات الصليبية بأكثر من الف وخمسمائة عام. تعاملت الفلسفة الإغريقية مع الظواهر الطبيعة وفسرتها بدل إقامة اله لكل ظاهرة طبيعية، لذلك عرفت باسم "الفلسفة الطبيعية".   الفلسفة ليست تيارا دينيا،  تعني "حب الحكمة" وليس حب المسيحية او المسيح او الصليبيين. الفلسفة اليوم هي موسوعة التجربة الإنسانية وتطور العقل الإنساني،  وهي الحد الفاصل بين العتمة التي عاش بها الإنسان سابقا وبين النور الذي تعيش فيه البشرية اليوم.

 هل باستطاعتك أيها العلامة ان تفسر لي كيف تطور الفكر الإنساني؟ ما هي المراحل التي قطعها الفكر في التاريخ البشري؟ هل يمكن الفصل بين تطور الفكر والعلوم، الفيزياء، الرياضيات، علوم الفلك، علوم المجتمع، الانسنة  وتطور الفلسفة؟  هل خوفك من الفلسفة هو بسبب ما تطرحه من الأسئلة الأكثر أهمية في حياة الإنسان " هل تخاف من انتشار هذه الأسئلة في محيطك الاجتماعي؟ مثلا تطرح الفلسفة سؤالا هاما ما زال يشغل الفلاسفة والعلماء الذين يتعاملون مع العلوم عن نشوء الأرض، عن تطور الإنسان وليس مثل حضرتك علامة بتفسير الخرافات  والغيبيات. الفلسفة تبحث في مسالة كيف خلق الكون. بالنسبة لك هذا السؤال ليس ضروريا، من يسأله يجب جلده مائة جلدة لأنه لم يحفظ ما لقن في المدرسة مع أساتذة مشلولي العقل هناك أسئلة ممنوع طرحها، التفكير فيها ضلال ما بعده ضلال ، مثلا هل الأرض كروية أم مسطحة؟ ام تقف على قرني ثور ام تسبح فوق المياه؟ ما الذي يجعل الأرض سابحة في الفضاء؟ لا ذكر لذلك في التوراة مثلا. كل ما ذكرته التوراة ان الله خلق الأرض؟ كيف خلقها؟ كروية؟ مسطحة؟ بيضوية؟   هل جعلها مركز الكون؟ أم جعلها كوكبا آخر من ملايين او مليارات الكواكب؟ بعضها بحجم الأرض وبعضها أكبر من الأرض؟ هل صنع الله كل ذلك بسبعة أيام ؟  ما دام خلق الله الأرض إذن ارادته المؤكد ان تكون مركز الكون.. فخلق لها النجوم والقمر والشمس التي تدور من حولها؟ نقض هذا الأمر كلف عالم الفلك العظيم الراهب المسيحي كوبرنيكوس حياته لأنه عارض الكنيسة  باكتشافه مركزية الشمس وأن الأرض تدور حولها وتدور حول محورها، أي خالف إرادة الله حتى غاليلو جرى احتجازه حتى موته، بعد ان تراجع شكليا عن مركزية الأرض في الكون، وإلا كانوا سيسلقونه بالماء المغلي لكفره بتعاليم الكنيسة التي كانت تصر ان الأرض هي مركز الكون والشمس هي التي تدور حولها. . تماما كما نسخ عنها الآخرون! من يقول ذلك اليوم سيتهم بالجنون.هناك شيخ مفتي سعودي (الباز) كتب "كتابا عظيما" اسمه "الصقر المنقض على من ادعى كروية الأرض"! لأن الأرض حسب يقينه وعلمه مسطحة مثل عقله والشمس تدور من حولها!!

الحياة البشرية كانت مليئة بالتساؤلات. التفكير لم يتوقف في محاولة متواصلة لإيجاد أجوبة يقبلها العقل.مثلا كيف تغيب الشمس وكيف تشرق؟ هل توجد حياة بعد الموت؟ هل هناك اله واحد أم عشرات الآلهة؟ او لا يوجد اله إطلاقا؟ كيف ينبت الزرع؟ لماذا تتغير الفصول؟ كيف يحدث البرق والرعد؟ هل من اله مسئول عن البرق والرعد؟ عن البحار؟ عن الأسماك؟ عن الزراعة؟ هل زيوس ما زال اله الشمس؟ هل من  اله للحرب واله للسلم؟ هل من اله شر واله خير؟ هل من اله للحب؟ هل من اله (او إلهة) للجمال؟ آلاف الأسئلة التي تعتبر اليوم بديهية؟ لكنها كانت أسئلة مصيرية في تطور الإنسان والعقل البشري تطور الفلسفة الإغريقية الطبيعية قاد الى تخلي الإنسان عن مئات الآلهة .. راجعوا الميثولوجيات الإغريقية والرومانية..  

ليس بالصدفة ان من مميزات الفلسفة إدهاش الإنسان بالحقائق، وحتى تصبح فيلسوفا، او عاشقا للفلسفة، يجب ان تندهش من عالم الفلسفة الواسع.

من المؤكد ان الأسئلة الفلسفية تشغل البشر، لكن من يصبحون فلاسفة هم أقلية. هم أولئك الذين يملكون القدرة على التفكير العقلاني والتعمق بالمواضيع  والجرأة في اكتشاف الحقائق الجديدة.

الفلسفة الحديثة لم تتوقف أمام ما أنجزته الفلسفات القديمة، بل تواصل بلا كلل تطوير المفاهيم وتوسيع الوعي المعرفي للإنسان.

هناك مسائل تبدو بديهية لا تحاج إلى فلسفة. الواقع ان كل تصرف هو بناء على وعي فلسفي، قد يكون وعيا مضطربا، وقد يكون وعيا على اسس عقلانية او علمية سليمة،  مثلا حسام يبحث عن فتاة يحبها وتحبه. هل هي فلسفة أيضا؟

 الجواب أجل بدون تردد.

 لا أهمية لنجاح حسام أو عدم نجاحه بتحقيق حلمه. بدون فلسفة لا يوجد إنسان، بل دواب تأكل ، تجتر، تجامع، تقاتل وتموت بدون هدف إنساني، عندما تكتشف أنها ضُلت أو ضللت، سيكون الوقت متأخرا !!

 

 حسام يبحث عن الحب / نبيل عودة

 

حسام مأزوم.كوابيس الحب عذبته. يبلغ من العمر 23 سنة ولم يعرف حتى الآن فتاة تحبه ويحبها.. الشوق يتفجر في قلبه كلما لمح ظل أنثى.. بات التعرف على فتاة شغله الشاغل، بل كابوس حياته الذي لا يفارقه في نومه أو في يقظته. أخوه التوأم يبدل كل أسبوع صديقة ويختار أخرى جديدة.. دائماً تلفونه الخلوي رنان.. يختلي

في غرفته وترتفع ضحكاته... دائماً يحدثه عن مغامراته، مما يثير الغيرة في نفسه والحسرة في قلبه.

كاد حسام يصاب بالجنون. كلما اقترب من فتاة "تعطيه ظهرها"... تجرأ مرة مع فتاة أعطته ظهرها. قال لها:

- الوجه جميل ولكن الظهر يأخذ العقل.

التفتت إليه غاضبة وصفعته بقوة حيث استمر رنين الصفعة في أذنه ليوم كامل.

كان يخجل من مصارحة أخيه بعجزه للوصول إلى قلب فتاة، وبما انهما توأمان متشابهان بالشكل وكأنهما نقطتا ماء، فكر أن يقترح على أخيه أن يتعرف هو على فتاة، ثم يستبدلان الأدوار، بحيث لا تعرف أنها مع الشق الثاني من التوأم، وليس مع الشخص الذي سبى قلبها.

تردد وخاف من عواقب نظريته الفلسفية للوصول الى فتاة أحلامه... ثم حسم أمره وتردده وخجله واعترف لأخيه بمشكلته في الوصول إلى قلب فتاة واحدة، سيخلص لها كل العمر...

- أنت تعشقها بالكلام وأنا أعشقها بالفعل...

- ما هذا الهراء يا حسام؟ أنا لن أقبل لك هذا الوضع.. أنت لا تختلف عني.. لا ذكاء ولا علماً ولا شطارة.. 

- أكاد أطق.. لا أعرف كيف أتصرف، وبتُّ أجفل من تلقي صفعة جديدة.

- لا عليك يا أخي.. سأرشدك لأساليب تكفل الوصول لهدفك.. وبعد أول مرة ستجد الطريق مفتوحة مثل الاوتوسترادا السريعة...

- كيف..؟

- إذا التقيت بفتاة ضعيفة الجسم، فعليك الإهتمام بثلاث نقاط أساسية، أولاً امدح نحافتها الرائعة وقدرتها في الحفاظ على جسد متناسق تتمناه عارضات الأزياء... بعد ذلك اسألها عن عائلتها، لتفهم انك جاد لا مجرد مغامر يريدها لنزوة.. ثم اسالها عن عائلتها لتفهم انك جاد ولست مغامرا.. وأخيرا اظهر لها اتساع ثقافتك وأنك كامل العقل، وتفهم الفلسفة!!..اسألها مثلا عن الفلسفة الميتافيزيائية. أما إذا كانت ممتلئة، أو تميل إلى السمنة، فهي بالتأكيد تحب المأكولات الجيدة والدسمة، هذا يعني أن تسألها عن الطعام والمأكولات الفاخرة التي تحبها، مثلاً دجاج محشي، رقبة خروف محشية، قص خروف محشي، محمر، مسخن، مشاوي، وكل ما يخطر على بالك من الأكل الفاخر.. ولا تنسَ بعد ذلك أن تسألها عن عائلتها لتفهم انك تهتم بها وتفكر بها جدياً.. وانهِ اللقاء بالحديث عن الفلسفة لتفهم انك مثقف واسع الاطلاع.. وأعتقد انك أشطر مني في هذا الموضوع. وسترى انك بارع وساحر للجنس اللطيف..

سجل حسام الملاحظات على ورقة ثم دسّها في جيبه ليحفظ تفاصيل الخطط للوصول إلى قلب فتاة أحلامه.

وخرج للصيد...

لمح من بعيد فتاة ضعيفة الجسم، تنطبق عليها المواصفات الأولى..، قرأ ملاحظاته في الورقة وتمتم مردداً: "جسد عارضة أزياء،الماكولات، عائلتها والفلسفة".

اقترب منها. نحافتها شديدة لدرجة أن عظم صدرها يكاد ينجلي. لا بأس.. التغذية ستصلح حالها.. وباشرها بدون مقدمات:

- مرحبا

- مرحبا

- ردت عليه باستغراب.

- هل تحبين أن تكوني عارضة أزياء؟

لم تفهم ما قال، ولم تفهم ما يريده منها.. فلم ترد.

- هل تعيشين مع والديك؟

- والداي توفيا.. وأعيش في ملجأ؟

- هل تحبين مقلوبة الزهرة؟

- لا احبها !!

- هل لك اخوة؟

- لا أخوة لي.

- لو كان لك اخ هل كان سيحب مقلوبة الزهرة؟

نظرت اليه بفراغ صبر وعبست ، فسارع يسالها:

- كيف تفسرين القانون الفلسفي "تحول الكم إلى كيف" في حياتك العملية؟

فصفعته صفعة جعلته يشعر أن خده الأيمن انتقل إلى الجهة اليسرى من وجهه، ابتعدت عنه غاضبة تثرثر بشيء لم يسمعه لأن رنين الصفعة المدوية أغلق منافذ اذنيه!!

عاد إلى البيت خائباً باكياً، أخرج كيس ثلج من البراد، لفه بفوطة، ووضعها على خده ليبرد حرارة الصفعة وحرارة الخيبة...

مساء اليوم التالي استعاد ثقته وتصميمه.. وانطلق بقرار مسبق أن يبحث عن فتاة ممتلئة، وحتى لو كانت تميل إلى السمنة..

بحث ووجد ضالته... فتاة في جيله كما يبدو، تجلس أمام طاولة في مقصف وتلتهم البوظة بشراهة واضحة.

اشترى حبة بوظة واقترب منها...

- البوظة رائعة وشهية.. أليس كذلك ؟

التفت إليه ولم تعره اهتماماً... واصلت التهام بوظتها.

- آنستي الرائعة... هل تحبين أكلة أل... أل..

غابت أسماء المأكولات الفاخرة عن ذهنه وكان من المعيب والمهين له أن يخرج ورقة الملاحظات من جيبه أمامها.. وأخيرا، تذكّر ما أعدّته والدته للغذاء اليوم، فعاد يسأل:

- هل تحبين أكلة المجدرة؟

نظرت إليه والبوظة تملأ فمها مما منعها من النطق، ولكن كانت هناك إشارات ضحكة كبيرة بثقت من عينيها.

- المجدرة يا آنستي مع فحل بصل وزيت زيتون، أكلة رائعة، لا شك انك تحبينها.. ها..؟

نجح أن يجعلها تبتسم ابتسامة أكبر.. غير قادرة على بلع البوظة أو الضحك بصوت مرتفع.. خوفاً من التشردق بالبوظة. غمرته السعادة والنشوة انه على الطريق الصحيح.. ها هي تبتسم، بل تضحك سعيدة، وما هي إلا خطوة صغيرة أخرى حتى تكون برفقته في جولة داخل الحديقة القريبة، يتبادلان الحديث عن عائلتها والفلسفة.

- أمي تطبخ مجدرة ممتازة، كل من ذاق مجدرتها يقول أنها أحسن طباخة مجدرة في الحارة. مثلاً جارتنا التحتا تقول أنها أفضل طباخة مجدرة في المدينة كلها، وجارتنا الفوقا تقول أنها أحسن طباخة مجدرة في الدولة كلها، وخالتي التي تسكن بقربنا تقول انها أفضل طباخة مجدرة في العالم، ولكن أمي تقول لهم ببساطة أنها أحسن طباخة مجدرة في هذه الحارة.

ارتفع ضحك الصبية بعد أن التهمت ما تبقى من بوظتها.. وكانت تضحك دون قدرة على التوقف.. وعيناها تدمعان سعادة، وهو منفعل ويسوق الحجج عن شطارة والدته في إعداد المجدرة.. التقطت أنفاسها وسألته وهي تهتز من كثرة الضحك:

- هل تريد أن تحدثني عن شيء آخر أحبه غير المجدرة؟

- هل لديك أخوة ؟

- لي ثلاث اخوات.

- هل يحببن المجدرة..؟

انتابتها نوبة ضحك قوية جديدة، لدرجة أن وجهها احتقن من الضحك الشديد وعدم قدرتها على التقاط أنفاسها. هذا أسعده وأشعره انه سيد الموقف وفارس العشاق.

وهل يحبان والديك المجدرة؟

لم تستطيع التوقف عن الضحك لترد عليه، تكاد تختنق من الضحك ولا تقوى على التقاط انفاسها، يا له من انجاز عظيم لم يتوقعه بهذه السهولة قال لنفسه : "حان وقت الفلسفة".

- آنستي الرائعة.. هل تعرفين الفرق بين ديالكتيك هيغل وديالكتيك ماركس؟

انفجرت بنوبة ضحك أخرى غير متوقعة لسؤال فلسفي بكلمات معقدة لم تسمعها بحياتها. خبطت بيديها على الطاولة وهي في نوبة ضحكها ملفتة نظر جميع رواد المقصف.. كانت تحاول أن تقول شيئاً لمن يجلسون على الطاولة المجاورة.. ولكن الضحك الشديد يمنعها، وعندما هدأ ضحكها بعض الشيء، التفتت للطاولة القريبة ونادت أحدهم:

- سعيد.. تعال ابعد هذا المجنون عني.

الحمد لله.. عاد إلى البيت هذه المرة بدون صفعة!!

nabiloudeh@gmail.com

 

 

في ذكرى رحيل

الناقد د. حبيب بولس

 

نبيل عودة

 

تحل هذه الايام ذكرى رحيل الشخصية الثقافية الفلسطينية ،الناقد الدكتور حبيب بولس الذي رحل عنا في  (04-07-2012) وهو في قمة عطائه الثقافي. كان من الصعب التصديق ان حبيب قد رحل، رغم معرفتنا بمرضه العضال الذي لم يمهله طويلا. كنا نحلم ان نراه يعود الى كامل نشاطه الثقافي والنقدي في رصد حركتنا الثقافية ومتابعة الإبداعات الأدبية المحلية بقلمه الناصع والمسئول والجاد.

تنوعت الإصدارات الثقافية والتعليمية والسياسية  للناقد والمحاضر الجامعي حبيب بولس، ومن أبرز مؤلفاته، "انطولوجيا القصة العربية الفلسطينية المحلية القصيرة" وعشرات الكتب النقدية حول الشعر والقصة والمسرح  والكتب الثقافية والتعليمية والسياسية المختلفة التي أصدرها خلال مسيرة حياته، ومن بينها كتابه الرائع "قرويات" الذي يمكن تصنيفه بين الأعمال البارزة والهامة في ثقافتنا الفلسطينية بمضمونه المميز.

أصدر حبيب بولس كتباً نقدية تناولت مجمل النشاط الإبداعي للأدباء العرب في إسرائيل، الى جانب مراجعات ونقد للنشاط المسرحي، عدا كتب تعليمية مختلفة، ونشر كتابين عن قضايا اجتماعية وسياسية ملحة.

تابعت باهتمام نشاط حبيب بولس منذ كتاباته الأولى التي لفتت انتباه حركتنا الثقافية، ثم في إصداراته اللاحقة، وأرى بنشاط الدكتور الناقد حبيب بولس الإبداعي قيمة ثقافية هامة، خاصة بما يتعلق بالثقافة المحلية (الأدب العربي الفلسطيني في إسرائيل) الذي كرّس له معظم جهده النقدي، أكثر من أيّ ناقد آخر، والأهم ما ميّز نقده من وضوح واستقامة في الطرح، ويمكن القول ان حبيب بولس بأسلوبه ومضامين نقده، بنى تياراً نقدياً خاصاً. واليوم لا يمكن كتابة تقييم أدبي عن الأدب العربي الفلسطيني في إسرائيل، دون الاعتماد على مراجعات الدكتور حبيب بولس.

اعتنق حبيب الفكر الماركسي الذي أثر على اتجاهه النقدي ولكنه الى جانب الفكر الماركسي كان يتمتع بحس لغوي وذوقي مرتفع جدا، ولم يلتزم بالمفاهيم الدوغماتية للفكر الماركسي، كما برز ذلك بالجدانوفية (جدانوف كان قوميسارا للثقافة في فترة ستالين، وكانت رؤيته للثقافة لا ثقافية اطلاقا) بل كان لذوقه الشخصي دورا كبيرا ومتزايدا في تقييماته النقدية.

بعض مقالاته أثارت ضجيجا كبيرا، اذ طرح فيها ظواهر سلبية انتقدها بحدة وسخرية، ولم يشملها حبيب في كتبه. نشرت تلك المقالات في جريدة ألأهالي (2000 – 2005) التي كنت نائبا لرئيس تحريرها الكاتب والشاعر المرحوم سالم جبران، الذي قال عنه حبيب انه كان وراء تحوله الى النقد، اذ رصد قدرات حبيب النقدية وحثه على الانخراط في النقد. قال لي حبيب مرات عديدة انه ناقد بفضل "المعلم سالم جبران" كما كان يصفه حبيب.

*******

مراجعة كتاب "قرويات" لحبيب بولس: حتى لا نفقد ذاكرتنا الجماعية

 

"المفارقات بين واقعنا وماضينا".. هذا ما يتجلّى للوهلة الأولى أمام قارئ كتاب "قرويّات" للدكتور حبيب بولس. لكن الإبحار مع نص "قرويات" يكشف لنا نوستالجيا غير عادية عايشها حبيب بولس في قروياته، مسجلاً تفاصيل بدأت تختفي من أجواء قرانا ومدننا العربية، من علاقاتنا وممارساتنا اليومية، من شوارعنا وبيوتنا، من ألعابنا وتسالينا، ومن وسائل تنقِّلنا، من مدارسنا، من معلمينا، من أفراحنا وأتراحنا، من مفاهيمنا السياسية ووطنيتنا، من مواسمنا وسهراتنا، من أعيادنا وعقائدنا الدينية، من ثقافتنا وفنوننا ونضالاتنا.

التغيير الذي يرصده حبيب كان أعمق من الشكل، لدرجة انه شكل لنا مضامين جديدة، أفكاراً جديدة، رؤية سياسية جديدة، ثقافة جديدة، أطعمة جديدة، بل ولغة جديدة أيضاً في مفهوم معين. كأني به يرصد التاريخ والعوامل "التاريخية" والثقافية التي غيّرت مسقط رأسه، قريته الجليلية "كفرياسيف" بشكل خاص وغيّرت واقع بلداتنا كلها بشكل عام وغيرتنا نحن (الناس) في الحساب الأخير. الى حدّ ما تذكِّرني "قرويَّات" حبيب بولس بكتاب للروائي السعودي عبد الرحمن منيف عن مدينة "عمّان".. حيث يعود بذاكرته الى عمّان في سنوات العشرين من القرن الماضي ليعيد تشكيلها.

حبيب في قروياته يرسم "لوحة نثرية" ان صحَّ هذا التعبير، لقرية عَلَمٍ من قرانا، كانت عَلَماً سياسياً وعلماً ثقافياً، وهو بذلك يضيف لها بعداً جديداً، علماً تراثياً أصيلاً، وربما يريد ان يقول لنا ان هذه الأصالة التي عرفتها كفر ياسيف، هي أصالة دائمة لا تنتهي، انما تتحول وتنطلق نحو أصالات جديدة دوماً.

 

أصالة حقيقية

حبيب في قروياته يريد ان يقول لكل واحد منا ان في داخله أصالة حقيقية، يجب ان يخرجها من داخله ويورثها لأبنائه. وهذا بالضبط ما يفعله حبيب بولس، وهو بالطبع يختار ابنه، ليورثه أصالة أجداده وأصالة قريته، وأصالة شعبه.. يختار ابنه ليورثه أهم ما يملكه الانسان في حياته، ذاكرته الخصبة.. وليملأه بالكرامة وعزة النفس، مقدِّماً نموذجاً شخصياً، استفزازيا لكل واحد منا، ولكنه استفزاز طيب وانساني، يحثنا بسياقه على الكشف عن جذورنا الأصيلة، عن نقاوتنا، عن قيمنا المغروزة بأعماقنا الانسانية، عنى جوهرنا الطيب الذي كان العنصر الحاسم في صيانة شخصيتنا الوطنية والانسانية أمام ما يجري في مجتمعنا من ردّة حضارية، وتعصّبات قبلية وسياسية ودينية حمقاء، هذه هي المفارقة الاخرى التي يصدمنا بها حبيب في كشفه عن جوهر اللؤلؤة المكنونة كفر ياسيف، بصفتها نموذجاً وطريقاً وتاريخاً. هذا النص الأدبي يتجاوز الكتابة التسجيلية التاريخية، ويقترب من النص الثقافي الحكائي، البطل فيه هي قرية كفر ياسيف وأهلها، والهدف حفظ الذاكرة الجماعية لكفر ياسيف، ولعلها الخطوة الاولى لبدء حفظ ذاكرة شعبنا الجماعية في كل أماكن تواجده. "البطل" الآخر في هذا النص هو الراوي نفسه، وكأني به يعود الى الأيام الخوالي، ليتقمّص شخصية الراوي التي عرفتها قرانا وسهراتنا ايام زمان، وليجعل من هذه الشخصية ذاكرة للزمن ايضاً، يستعين بها الراوي- الكاتب لينقل للأجيال الجديدة، ابنه في المفهوم الضيق، وأبناء كفر ياسيف، وكل ابناء شعبنا من الأجيال الناشئة في المفهوم الواسع، أصالة الماضي وأصالة الانسان، وأصالة الشعب وليس فقط الحنين الذاتي (النوستالجيا ).

 

نوستالجيا

ربما هي نوستالجيا فعلا، ولكنها نوستالجيا لأبناء جيلنا الذي حان الوقت ليسجلوا ذاكرتهم حفظاً من الضياع. حبيب اختار اسلوباً جيداً ليروي لنا روعة الماضي، عبر المقارنة الدائمة مع الواقع اليوم، وذلك ليعمق، ليس روعة الماضي فحسب، بل روعة الانسان الذي اجتاز المأساة الوطنية وصمد، وواجه القمع القومي بأبشع أشكاله، ولم يفقد بوصلته الانسانية.. وبدأ يبني نفسه من جديد وينطلق الى آفاق رحبة من العلوم والثقافة والتطور والصمود. في قروياته نكتشف حبيب بولس الآخر، حبيب الحالم، نصاً ولغة، فنراه يقترب من لغة القص في سرده، ليتغلب على السرد التوثيقي والتاريخي، ونراه يستطرد في إعطاء النماذج والحكايات ليجعل قروياته أكثر قرباً للرواية والدهشة الروائية وعناصر التشويق الحكائية، وليس مجرد تسجيل توثيقي للذاكرة.

 

رواية من نوع جديد

وأقول بلا وجل: هي حقاً رواية من نوع جديد بطلتها قرية بناسها وأحداثها. قد لا يوافقني بعض الزملاء على تصنيفي لقرويات حبيب بولس ضمن النصوص الروائية، قد يكونوا صادقين شكلياً، وأقول شكلياً، اذا التزمنا المفاهيم المتعارف عليها في التعريفات الأدبية. ولكن من يملك الحق في جعل التعريفات قانوناً، وهل يعترف الإبداع بقوننة جنونه؟

الأمر الأساسي، هل من قيمة للتصنيف الأدبي؟ وهل يضيف التصنيف لقيمة العمل؟ ألا يكفي الكاتب، انه أعطى القارىء نصاً لا يفارقه بعد طيّ الصفحة الأخيرة؟ حبيب في قروياته، أعطانا عملاً توفرت فيه العديد من المركبات الناجحة، اللغة اولاً، الفكرة ثانياً، والأسلوب.

كتاب "قرويات" يسد فراغاً كبيراً بمضمونه المميز، وهو ليس مجرد نوستالجيا (حنين) بل كشف عن ثراء شعبنا وأصالته وعمق جذوره في هذه الأرض الطيبة. ولعل قرويات يكون فاتحة لتسجيل التاريخ الشفهي، والتراث الشعبي المتوارث شفهياً، وسجل نضالنا الأسطوري الذي يملأ صفحات، اذا ما سجلت ستشكل ثروة اجتماعية سياسية ثقافية، عن بقايا شعب، لم يفقد ثقته بنفسه، واجه المستحيل وانتصر.. واجه الضياع وبنى ذاته من جديد، ليقف اليوم في مرتبة متقدمة بين الشعوب، فخوراً معتزّاً متفائلا..  وأخيرا : ادعو مؤسسات شعبنا الى اعادة طباعة أعمال الراحل خاصة كتابه الهام قرويات لما فيه من نقل للتجربة الحياتية الغنية والمثمرة نضالا وابداعا ادبيا .  حبيب خاطب ابنه في نص قرويات، وهو يعني ابناء كل أب وكل ام يعز عليهم ابنائهم ومستقبلهم ووطنهم وكرامتهم.

nabiloudeh@gmail.com

 

 

الحمير تعقد قمة طارئة..!!

ساتيرا قصصية: نبيل عودة


1 -  

كثيرا ما ادعى الحمار الأبيض بقدرته على التمييز بين الخواص ذات القيمة والخواص الطارئة. طرح على عموم حمير الخان وحمير البلد والحمير من الزوار والبلدات الشقيقة، تفسيرا قريبا لما طرحه الفيلسوف الإغريقي أرسطو عن نفس الموضوع. الحق يقال ان الحمار الأبيض لم يسمع بأرسطو، أرسطو نفسه لم يفكر ان حمارا ما قد يصير قائدا لنظام خان عربي وفيلسوفا في زمن قادم  ويكون من الحكمة والذكاء على قدر يجعله بموازاة أرسطو نفسه.
ذكاء الحمار الأبيض أصبح حديث الحمير في البلدات المختلفة، بل وتناقل أخبار ذكائه أصحاب الحمير، كما يتناقل الناس اليوم أخبار الدواعش. صحيح ان بعض الحمير عبروا عن استهتارهم بهذا اللغو البشري، لو عرفوا النطق  كما يعرفون النهيق لأوصلوا الرسالة لأصحابهم ولينقلب فرحهم غضبا.. المسألة لم تعد تفرق مع حميرنا التي تعاني من اضطهاد وتقييد في حريتها،  تشغيل بالسخرة مقابل بعض العلف الذي لا يتغير ولا يضاف إليه ما يفتح الشهية..  لذا ليس بالصدفة ان يعرف الحمار باسم " أبو صابر". غير ان المقلق كما يتبادل الحمير الأسرار فيما بينهم ، بلغة مشفرة يعجز عن فك طلاسمها أشطر الناس .. ان يكون وراء ذكاء الحمار الأبيض الذي تزعمهم عنوة، حقيقة غيرت أسلوب التعامل معه، فحظي دونهم بما يحلم به سائر الحمير.. معاملة محترمة من أسياد العالم الملقبين ب "البشر" ، فقد بلغ بهم السيل الزبى من القهر والعنف غير الضروري.
حسب المعلومات المنقولة من خان الحمير، حيث بات الحمار الأبيض يعامل باحترام حتى من مسئول الخان وعمال النظافة، بحيث لا يحملوه أوزانا مرهقة كما هي حال الحمير السوداء..ربما بسبب لونه الأبيض ؟ ربما بسبب فهمهم انه حمار على درجة من الذكاء النادر في عنصر الحمير؟

الواقع ان المسئول عن الخان ، قد يكون فك طلاسم هذه اللغة التي يتبادلها نزلائه بعد يوم عمل شاق، بسبب تواجده معهم يكاد يكون معظم ساعات الليل ، مستمعا لثرثرتهم من غرفته المجاورة لمدخل الخان .. إذ ليس من المعقول في عالمهم ان يعامل الحمار إلا بالعنف والضرب .. فلماذا هذه التخصيص والتكريم والاعتبار للحمار الأبيض ؟ هل ذلك بسبب اكتشاف مسئول الخان تميزه وعبقريته وقدراته العقلية ولغته الخاصة التي تشبه لغة الثقافة بوقعها على الأذن ، حيث ان نهيقه بالغ الأناقة كنهيق سائر زعماء ، ملوك وقادة  لا يتبدلون إلا بالعنف أو بقضاء الله؟  .. رغم ان السبب غائب عن فهم حتى زملائه الحمير ، فكيف يفهمها البشر أو حتى مسئول الخان ؟ معضلة لم يتوصل إليها مجلس الحمير الموقر إلى تفسير.

كان من عادة الحمار الأبيض ان يقف في الزاوية البعيدة داخل الخان ، مراقبا انتظام الحمير في أماكنهم ، شاعرا انه مميز عن سائر الشعب ،  يجيل نظراته بين حمير خانه ، قبل أن يخطو خطوتين للأمام ويبدأ حديثه المنمق شارحا فحوى فكرته الجديدة ، جاهدا لتفسيرها بلغة بسيطة وسهلة ، قائلا : ان الخواص القيمية هي التي لا يمكن ان يوجد الشيء بما هو عليه بدونها. ويسال :
-
مفهوم ..؟
ويرد الشعب مهموما من الجهل والإرهاق بعد يوم عمل من شروق الشمس حتى مغربها:
-
مفهوم !!
الشعب لم يفهم بالتأكيد. لكنه موقف احتياطي حتى لا يتورطوا بالتحقيقات الجنائية والسياسية لدى مجلس التأديب داخل الخان ويتهموا بالعمالة لأعداء الوطن، فتنهال عليهم العصي أثناء راحتهم أيضا. ويواصل:
-
أما الخواص الطارئة فهي التي تقرر كيف يكون الشيء وليس ما هو الشيء.

ينظر بحدة بعيني حمير خانه منذرا من اللغط المتزايد دون ان ينبس ببنت شفة ، يمشي الخيلاء دائرا حول نفسه.. عارضا لونه الأبيض المميز . عندما يسود الصمت الكامل يقف مسلطا نظراته القاسية على الجمهور المحتشد  ويسأل :
-
الشرح واضح ؟
-
واضح، واضح تماما  يا سيدنا...
ينهق الحمير بببغاوية مستصعبين استيعاب كلام ملكهم الأبيض .  لكنهن لا ينسون للحظة واحدة ان الطاعة واجبة لمن يولى عليهم حتى لو كان حمارا!!

 لا أحد يعرف هل تلقى الحمار الأبيض الولاية بمرسوم من صاحب الخان، قاده تلقائيا لهذه المرتبة السامية ، حتى بدون تصويت ديمقراطي ؟
حتى مسئول الخان الذي وقف دون أن يراه الحمار الأبيض متأملا نهيقه الأنيق ، مثل حديث زعماء المعمورة الذي سمعه مرة في الراديو ... فشل في فهم أسرار كلامه.. والآن لا تسعفه خبرته بالمزيد من فهم ما يدلي به حمار خانه الأبيض.. تأمل ذهول سائر الحمير أمام شموخ الحمار البيض، أصابته الحيرة من  تصرفاته. كان هو المحبوب من عمال النظافة ، هو معشوق عموم أهل البلد .. لما يجلبه عليهم من حظ جيد عندما تكون مهمته في أحيائهم كما يروون.

  ليس سرا ان نساء الحارة وأطفالها المتواجدين خلال ساعات النهار في بيوتهم ، يخرجون لاستقبال الحمار الأبيض وملامسة عنقه وإطعامه الخبز الناشف أو بعض القمح وعرض الشرب عليه من مياه نظيفة ، بل ومد عامل النظافة ببعض أرغفة الخبز أو بعض القروش حتى لا يسرع بإبعاد الحمار الأبيض، ليفرح الأولاد بهذا اللون النادر للحمير ..وربما لهذا السبب تستمر زعامته على خان الحمير.

 صحيح تماما ان مسئول الخان صار يعرف من علاقته طويلة السنين مع حمير الخان ، نهيق الغضب من نهيق الغرام ونهيق الألم من نهيق الفرح ونهيق المعاشرة من نهيق الرفض. ونهيق المرض من نهيق الصحة .. ولو كان يعرف الكتابة والقراءة لوضع قاموسا بلغة الحمير الصوتية، بحيث يصير التفاهم كاملا وشاملا بين البشر وأبو صابر..
لكن مثل هذا الحمار لم يشهد في حياته . الحق يقال انه يدير الخان بانضباط شديد ولا يقصر بالواجبات التي يكلف بها، وإلا لصار لحمه أزرق من العصي ولصارت عظامه مورمة من الحمولات المرهقة والركض من حي إلى حي لجمع الفضلات التي لا تنتهي من الأحياء .
صحيح انه في الشهر الأخير قصر في واجباته بسبب ضغط الموضوع الجديد على دماغه. لكن بغل جديد انضم لنزلاء الخان أنقذ الوضع بسد بعض العجز في عمل الحمار الأبيض ، حتى صار العمال أنفسهم يستثنوه من العمل المرهق ، ولا يجروه إلا لأحياء الفيلات الفاخرة ، حيث تبقى الشوارع نظيفة ، ولكن لا أحد يخرج لملاقاته والتربيت على عنقه وإطعامه وسقيه الماء .. والحق انه كان يفضل الأحياء الفقيرة وساكنيها رغم الإرهاق الزائد في العمل .

2 – 


لكل مضرة فائدة .. الراحة فتحت للحمار الأبيض المجال لتطوير نظريته ،  بدأ يجد الوقت ليحدث بها مسئول الخان الذي ينصت لنهيقه كما ينصت الحمير محاولا فك طلاسم لغته.

بدأ الحمار الأبيض يكرس وقت أكبر ليشرح للحمير الأشقاء العابرين من أمام الخان ما توصل إليه من معرفة. فيتعوقون رغم غضب راكبيهم وضربات العصي وصرخات " حاحا يا سايب " لحثهم على المشي .. لأن الاستماع للحمار الأبيض زعيم الخان المشهور، فيه من المتعة والفائدة العقلية ما يعلوا حتى عن آلام الضرب. بل وظن بعض الأغبياء من الراكبين ان الحمار الأبيض مجرد أتان شبقه ، لكن بان السبب وبطل العجب حين مرت قرب الخان أتان في عز توحمها ، لدرجة أن الحمار الأبيض نسي نظرياته والطابع الهادئ  لتصرفاته وقفز عليها موقعا راكبها أرضا ، وقامت طوشة كبيرة بين مسئول الخان وصاحب الأتان ، ولما انتهت الطوشة كان الحمار الأبيض قد قضى وطره منها وعاد لمجلسة هادئا سعيدا بأنه لم يفوت الفرصة السانحة..
وقد منح الحمار الأبيض تبعا لذلك شهادة تقدير من خان البلدة المجاورة ، مشيدين بدورة الوطني في خدمة القضية الوطنية العادلة.. إذ ان الأتان التي قفز عليها ولدت حمارا ابيض صغيرا وجميلا من صنف الزعماء ، لا بد ان يصل للزعامة بعد ان يرى الله أمره في والده ، وصار للخان ما يفخر به مثل خان حمارنا الأبيض. بل وأوعز لمجلس الأمة في الخان ان يمنح الحمار الأبيض شهادة بروفسور فخرية .. وقد راقت حمارنا هذه الفكرة ، وهذا ما كان فعلا. فصار الحمار الأبيض زعيما وبروفسورا وملكا على الحمير وفيلسوفا، أدامه الله .. وأدام عزه وأكثر نسله حميرا بيضاء ذكية لخدمة الوطن.
إرضاء لحمارهم الأبيض كرر حمير الخان أقواله ، التي انتشرت لسائر خانات الحمير في الوطن ، لدرجة ان أحدا لا يعرف هل كان التكرار عن فهم واستيعاب ، أم عن مراضاة لولي الأمر ملك الحمير الزعيم القائد الفيلسوف وبروفسور في العلوم من جامعة الحمير الوطنية ؟ كذلك أشادوا بمناسبة وبغير مناسبة بفكره العظيم . بل وقام بعض الحمير بكتابة دراسات معمقة وطويلة عن فلسفة الحمار الأبيض وتحفيظ سائر الحمير مقولاته ونظرياته خاصة كيفية إدارة نظام الخان ، ودور الحمير في مجتمع الخان، كيف تعامل أنثى الحمار وما هي حقوقها ، هل يصح ظهورها المكشوف أمام الحمير الغريبة؟

 يقال انه أقيم مركز أبحاث خاص لدراسة عبقرية الحمار الأبيض ، جرى نشر ابحاثه أيضا للفائدة العالمية في الخانات الدولية .. ووصل بعضها إلى أوروبا ...  لكن لأمر غير مفهوم لم يجدوا حميرا في دول أوروبا المتخلفة والغارقة بالجهل، فقيرة العقل والدين، إلا في حدائق الحيوان. مع ذلك نشر فكر الحمار الفلسفي بين الحمير في حدائق الحيوان ، تحضيرا لانتفاضة تعيد أوروبا إلى عصر الحمير ، بعيدا عن ضياعها الذي سيقودها إلى نار جهنم.

ازدادت حمير حدائق الحيوان ذكاء ويبدو ان انتفاضتها قاب قوسين او أدنى مما يتوقع الحمار الأبيض، لدرجة ظن بعض أطباء البيطرة ان الحمير في الحديقة أصيبوا بجنون البقر المشهور.او يستعملون الشيفرا لضمان سرية التحضيرات لإعادة أوروبا حميرية بدل ضلالها وكفرها!!


3 – 


في الواقع ان مسئول الخان رغم إعجابه الشديد بنزيل خانه الأبيض وانصياع سائر الحمير التلقائي لتوجيهاته السامية ، إلا انه لم يستوعب استعلائه حتى عليه ، كأن الأدوار تبدلت بينهما. عندما يدخل لإطعامه يبقى منتصبا في مكانه وكأنه يستعرض جحافله المقاتلة .. مع ان الخان فارغ من وسائل القتال .. وفكر مسئول الخان ان يكسر عصاه الغليظة على ظهر هذا الثرثار.. ليرى كيف تصير حاله .. لكن السؤال الأساسي كان عن مدى الارتباط العاطفي بين الحمير السمراء وحمارهم الأبيض ، خاصة ما لاحظه من صد الاتان لإصرار الحمير السمراء على الاقتراب منهن، والتنافس بينهن  للاقتراب من الحمار الأبيض، الذي يبدو انه أرهق بواجباته الوطنية، غير ان المستهجن ان معظم الجيل الجديد كان اسمرا، أو موشحا ببعض البياض؟ لكن الأمل ان يجيء الأحفاد بلون الجد .
كان خوف مسئول الخان ان يسبب نكسة عاطفية للحمير، إذا استعمل العصي لإرجاع الحمار الأبيض إلى مكانته الحميرية، فيخسر أكثر مما يربح. فبدل ان ينقذ حميره من مُنظر، مُتذاكي ويتصرف كملك متوج ، يعرضهم لحزن شديد وطويل مسببا الفوضى والتسيب في  نظام حكم الخان ، وربما الى إضراب تباطؤي .. والانعكاس السلبي على إنتاجية العمل بالنظافة ... وقد يُحمل مسئولية الإضراب التباطؤي للحمير ، ويعزل من عمله  ويعين  بديلا له في إدارة خان الحمير.
  تساءل مسئول الخان :
-
لماذا يخلق الله الحمير ؟ .. هل للعمل الشاق والنهيق فقط ؟.. هل من فائدة أخرى لهم ..؟ حتى لحومهم لا تؤكل .. يمكن الاستغناء عنهم بعربات لا تجرها الحمير ... إلا يفهم هذا الأبيض انه جسم زائد في هذه الدنيا ؟ فلماذا هو مشغول دائما مثل أم العروس، لا شيء يعمله إلا القفز على الأتان وإطلاق نهيقه القوي مثل ساعة المنبه؟
كان الحمار الأبيض يتأمل مسئول الخان وهو يفكر .. ويقول لنفسه: " آه ما أتفهكم أيها البشر.. هذا ما يشغلكم كل نهاركم.. كم نقلة سيقوم فيها الحمير اليوم .. أما أن تفكروا وتستعملوا دماغكم، فهذا مرهق للعقل. ربما حان الوقت يا الهي لتتغير الأدوار. هم في الخان ونحن طلقاء .. لكن هل بقدرة البشر القيام بمهمتنا ؟..


4–  



في فجر أحد الأيام وصلهم خبرا مزعج. بأن اعتداء آثما وقع على خان أبي علاء في الحي المجاور من ذئاب داشرة .. على أثره جرت اتصالات عاجلة بين كبار الحمير للتشاور، وقر رأي الأكثرية على عقد مؤتمر قمة طارئ لزعماء الحمير من مختف الخانات في الوطن.. رغم ان التشاور لم يقد إلى موقف واضح بينهم.
جرت الاستعدادات لاستقبال الحمير الأشقاء في خان الحمار الأبيض، الحائز على لقب بروفسور فخري.
نبه الحمار الأبيض على أتان خانه بلهجة تحذيرية بأن لا يظهرن أمام الحمير الوافدة لحضور القمة، منعا لوقوع المحظور. ان التي تتهاون بتحذيره ستتعرض لمائة رفسة  وينسب نفوقها للذئاب.
تجمع الأشقاء لتدارس الوضع .. ورغم أهمية الحدث إلا ان عيونهم لم تتوقف عن البصبصة شمالا ويمينا.. لعل وعسى تظهر لهم حورية من خان الملك الأبيض ، ربما لها طعم مختلف عما اعتادوا عليه ، الأمر الذي جعل الحمار الأبيض بارزا على الجميع في دنيا الحمير  وشهرته عمت الشرق والغرب ..
افتتح الحمار الأبيض مؤتمر القمة  داعيا الجميع لإدانة العدوان وإعلان التضامن والأسى الشديد على الحمير النافقة في عدوان الذئاب الوحشي .. وذلك تنفيذا لأبسط بنود اتفاق الدفاع المشترك. وأعلمهم انه توصل لرؤية سياسية جديدة تماما في هذا الظرف المأساوي ، وقبل ان يسمع أي تعليق بدأ يشرح سياسته رغم زيغان عيون الأشقاء وراء مؤخرات أتانه ، اللواتي أخفين وجوههن حسب تنبيهاته .. .وقال شارحا، والله أعلم إذا أنصتوا لحديثه:
-
الخواص ذات القيمة هي الخواص التي تجعلني أنا نفسي الحمار الأبيض الذي أمامكم. صاحب الفكر والقدرات الصوتية والعقلية . إخواني، بدون عقلي لن أكون أنا نفسي. لو نزعتم لوني الأبيض الزاهي الجميل، لن يتغير الواقع، سأظل أنا نفسي. أما الخواص غير ذات القيمة فهي تتعلق بالشكل والحالة. من هنا اعتداء الذئاب على خان الجيران الأشقاء لم يغير مضمون الحمير في الحارة أو في البلد. ظل مضموننا سليما.. ما تغير هو الشكل والكم وهذا نتجاوزه بزيادة جهودنا المشتركة مع جماهيرنا الاتانية. قتل الذئاب 23 حمارا، الله لا يعطيهم عافية، لكن، وهذا المهم والجوهري.. ولد في الخان نفسه في نفس ليلة الاعتداء الإجرامي الغاشم، أكثر من 29 حمارا صغيرا جميلا يفرح قلوبنا جميعا.. لذا نحن لم ننهزم . بل انتصرنا على الذئاب، لأن القيمة الأساسية لم تتغير ولم تسقط. بل ازدادت. وهذا نصر عظيم !!
قام نهيقا كبير عاصف تأييدا لهذا الموقف السياسي القومي الجريء.
هذه الفلسفة المستحدثة في القمة الحمارية الطارئة أرضت جميع الحمير .. لدرجة ان عيونهم لم تعد تبصبص شمالا ويمينا. فقد وجد الحمار الفيلسوف الكلمات الدقيقة للتعبير عن الموقف السياسي الطارئ وإيجاد التعابير التي تلاءم الموقف الحميري المسئول . ومن لم يفهم صمت خوفا من فضيحة جهالته وقصر نظره !!
أعلن الحمير أنهم مساهمة في تعميق هزيمة الذئاب سيبدؤون بإعادة بناء ما تهدم من الخان ..
وتساءل حمار تبدو عليه الوقاحة والجرأة، عرف نفسه كمراسل لإحدى الفضائيات:
-
وإذا هوجم الخان مرة أخرى.. ما هي خطط المستقبل أيها السادة ؟
-
سنعيد البناء مرات حتى تفهم الذئاب اننا لن نتخلى عن الأشقاء.. لأن النصر يجر النصر .
-
لكن انتم سالمين بأجسادكم ، لا تتعرضون للتمزيق بأنياب المعتدين ، وعظامكم لا تكسر مثل عظامهم  وانتم لا تتعرضون لأي خطر في خاناتكم ؟
-
هل تظن يا مراسل ان الانتصار يتحقق بدون تضحية ؟ وإذا تعرضنا للخطر من سيعقد حسب رأيك مؤتمر القمة القادم ؟ هل نستورد حميرا أوروبية أو صينية أو هندية لتعقد المؤتمرات نيابة عنا ؟
-
هل التضحية هي من نصيب خان الأشقاء فقط ؟
-
الله أكبر.. تستهتر بالشهادة أيها الزنديق ؟ .. هذا كفر.. هذه عمالة للذئاب ..
صرخ الحمير صرخة واحدة.  لكن الحمار المراسل أصر متشجعا من تأييد الحمير المنكوبة:
-
ما رأيكم ان تستبدلوا مكانكم بمكانهم لتعاركوا انتم الذئاب وتفخرون بالنصر القادم؟ ألستم أولي الأمر الأقوياء والشرسين ذوي الحوافر القاتلة ؟
-
وقاحة .. خيانة قومية..
صرخ المؤتمرون الحمير. انتظر الحمار الأبيض  حتى هدأ غضب المؤتمرين . وقف متأملا جرأة المراسل مفكرا ، ترى لو رفسة بحافريه كيف ستصير حاله ؟ وقال :
-
سيدي المراسل .. قلوبنا تبكي على إخواننا الحمير النافقة.. فلماذا هذه الأسئلة الاستفزازية التي تخدم أعداء الأمة..؟ اجتمعنا لنتخذ قرارات حاسمة ، مثل هذه التضحية لن تجدوها في خانات حمير الغرب الفاسدة . لذا نحن لا نتشبه بهم . إلا تعلم أيها المراسل ان للشهداء جنان لا يدخلها إلا معشر الصالحين ؟ اني أدعوك لنشر هذا الموقف وضمان آخرتك أنت أيضا. .
-
يا سيدي أنت تتحدث من الصبح ولم نفهم إلا ان موت الحمير الأشقاء انتصارات.. ولكن الحمير المنكوبة تقول انها تريد الحياة وان لا يتكرر غزو خانهم وقهرهم وذبحهم من جديد ، فهل هذا مستحيل ؟
فغضب حمار من المؤتمرين ونهق :
-
هذا استهتار بالنصر التاريخي .. هذه اهانة للنافقين الشجعان .. هذا استهتار  بانتصاراتنا القادمة..
وقام نهيق عظيم :
-
لا تستهتر بالانتصار.. يجب طردك من الخان .. اذهب لخان أوروبي يا ملعون.. اسحبوا ترخيصه الصحفي هذا المغرور.. انه يعمل لصالح العدو..
علت الأصوات تشجيعا لهذا الموقف الثوري . واستنكارا لأسئلة المراسل الصحفية الاستفزازية.
وانتهى مؤتمر القمة بقرارات حاسمة. . على رأسها قرار لا يقبل التأخير.. استنكار وشجب قناة الفضائية غير الملتزمة بقضايا النصر ومراسلها الوقح، وسحب ترخيص عمله في وطن الأبطال.. وإدانة وشجب العدوان الذئبي ، والاستعداد لاستقبال أتان الخان المنكوب في ضيافة خانات الحمير المنتشرة في الوطن .. بذلك يستفيد الجميع ويكرس الحمير الأشقاء طاقات يومهم ونهارهم في إنشاء جيل جديد يسير على الدرب البطولي الذي شقه الآباء والأجداد النافقين .
وكلف الحمار الأبيض بصياغة نشيد قومي يعبر عن المرحلة الجديدة من التضامن والتآخي بين خانات الحمير!!
وانتهى المؤتمر بعاصفة النهيق الحماسي ...

nabiloudeh@gmail.com
 

 

خبر عاجل من البي البي سي

(ساتيرا)

نبيل عودة

 

كانت أخبار الصحافة السوفيتية في اغلب الأحيان متخلفة، يتأخر نشر الأخبار بسبب الرقابة القوية على الصحافة وأحيانا لا يخلو النشر من تزييف للحقائق. أصبح لدي المواطن السوفييتي شكا كبيرا بكل المعطيات الرسمية التي تنشر. صحافة الاتحاد السوفييتي (حين كان في قمة مجده) لها صوت واحد ولون واحد، مجندة تثير امتعاض القارئ السوفييتي وسخريته. هذا ساهم في وقته  بخلق الطرائف التي تسخر من واقع الصحافة.. من أجمل تلك الطرائف التي حدثني بها أستاذ الاقتصاد السياسي ونحن نسير في الشارع،وكان الشارع افضل مكان للقاء والحديث الصريح بيننا، "لأن الحيطان لها آذان" كما كان يهمس لي، مشيرا الى ان المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوفييتي قلق جدا لأن "البي بي سي" وصوت أمريكا والوكالات الأجنبية تنشر عن الأحداث السوفييتية قبل ان تُقر صيغتها ونشرها بواسطة دوائر الإعلام الحزبية الرسمية. الرفيق بريجينيف (كان الأمين العام للحزب الشيوعي ، عمليا أعلى سلطة في الدولة ، يمكن القول " آية الله الرفيق بريجينيف") دعا إلى اجتماع طارئ للمكتب السياسي للحزب الشيوعي أعلن فيه ان "احد أعضاء المكتب السياسي يتجسس لحساب البي بي سي وسائر وكالات الاستعمار وينقل أخبارنا قبل ان تنشرها صحافتنا".

قال: علينا كشف الجاسوس يا رفاق .

 كان الصمت شاملا. قال: لن نغادر الاجتماع قبل ان نكتشف من هو!!

حاول بعض الرفاق التلميح بأن الجاسوس  يمكن ان يكون من صفوف هيئات حزبية أدنى درجة؟ رفض بريجينيف الأمر. سوسولوف (فيلسوف الحزب كما كان يعرف) شعر بأن مثانته لم تعد تتحمل الضغط. طلب الإذن للخروج إلى الحمام. فورا اتهموه ان هناك حدث جديد ستذهب يا سوسولوف لتبليغ الغرب والإذاعة البريطانية به . فتشوا الحمامات. لم توجد  وسيلة اتصال بالامبريالية، عملها سوسولوف ببنطاله. عجوز آخر من قادة الحزب شعر أيضا ان الوضع بات حرجا، لم يجرؤ على طلب الإذن.. أفلتها ببنطاله "حبة حبة" ، هكذا مضى الوقت والرفاق "العواجيز" أعضاء المكتب السياسي يرطبون بناطيلهم... خوفا من اتهامهم بالعلاقة مع الإعلام الامبريالي !!

بريجينيف شعر ان المسالة لدية أيضا أصبحت غير محمولة، بل حرجة جدا وليس من اللائق للأمين العام للحزب الشيوعي السوفييتي العظيم ان يعملها في بنطاله. قال لهم: لننهي الاجتماع، يبدو ان الجاسوس ليس من المكتب السياسي.

 رد سوسولوف بغضب:هل ستذهب لإبلاغ الغرب عن آخر أخبارنا؟
 
طبعا الأكثرية مع سوسولوف بسبب البنطلونات التي رطبتها مثاناتهم. بريجينيف حاول ان يقنعهم ان الجاسوس قد يكون حقا من هيئة أدنى. وكان يتلوى بسبب ضغط البول في مثانته!!

أصروا: أبدا يجب ان ننتظر..!!

الضيق وصل أقصاه لدى الرفيق بريجينيف.. فجأة حضرت مساعدته الليلية تحمل له وعاء لتفريغ البول.

سألها باستغراب، كيف عرفت اني بحاجة للتبويل؟!

 ردت المساعدة: أيها الرفيق بريجينيف قبل قليل سمعت خبرا عاجلا من "البي بي سي" يقول ان الرفيق بريجينيف في اجتماع مغلق وانه بحاجة ماسة ليبول!!

nabiloudeh@gmail.com

 

 

دراستان هامتان:

 اليهودية والتلمود

 

نبيل عودة

*دراستان علميتان رصينتان للباحث د.عمر أمين مصالحة تلقيان الضوء على الفكر الديني اليهودي ومصادره

ومدارسه وتناقضاته وأصول التشريعات الاجتماعية الحياتية ويلقي الضوء على نشوء التيارات الإصلاحية*

 

الكتاب الأول: " اليهودية ديانة توحيدية أم شعب مختار "

قدم للكتاب البروفسور يوسف غينات واصفاً الكتابة عن الديانة اليهودية من قبل باحث عربي "كخطوة جريئة ويمتدح عدم تحيز الكاتب وأسلوب البحث العلمي للكتاب.

يقول غينات بحق ان المكتبة العربية تفتقد لكتاب يصف مبادئ الديانة اليهودية بشكل علمي.

الكاتب عمر مصالحة ، أعد الدكتوراه في موضوع "الصحافة الفلسطينية في العهد العثماني" في جامعة سانت بطرسبرغ (لينينغراد سابقا) وبنفس الوقت أعد رسالة الماجستير في التربية الاجتماعية في جامعة بار ايلان في تل ابيب. وهو من مواليد1956 ، من قرية دبورية الواقعة على الطريق إلى جبل الطور المشهور في الديانة المسيحية (جبل الطور أو طابور هو الجبل الأعلى في القسم الجنوبي للجليل الأسفل في فلسطين يقع شمال مرج ابن عامر. يبلغ ارتفاعه حوالي 588 متر فوق سطح البحر وحسب الإنجيل هو موقع تجلي السيد المسيح لتلاميذه)، د. عمر مصالحة مترجم وباحث في الشؤون الفلسطينية والإسرائيلية ومتخصص أيضا في الديانة اليهودية. له العديد من الأبحاث المنشورة في الصحافة العربية والعبرية، إلى جانب ترجمة العديد من الكتب الدراسية وقصص الأطفال ويعمل مدرسا في ثانوية "عمال" في الناصرة.

أنهى تعليمه الإعدادي والثانوي في مدرسة عبرية - يهودية... الأمر الذي وضعه بمواجهة الديانة اليهودية والتعرف على تعاليمها ،حيث درس التوراة والتلمود والكتب الدينية المختلفة.

بحق يمكن اعتبار هذا الكتاب موسوعة أو بيلوغرافيا شاملة عن الديانة اليهودية، أصولها، خصوصيتها، معتقداتها  ومواقفها من سائر القضايا المتعلقة بنظرتها الدينية، مثلا حول من هو اليهودي، أساليب تعاملها مع الاغيار (أي غير اليهود حسب تعبير الدين اليهودي) ، وموضوع الطعام الشرعي (الكشير ).

يستعرض الكتاب بشكل شامل نشؤ المدارس والاتجاهات اليهودية المختلفة ، وتفسيرات للعديد من الظواهر في الدين اليهودي ، لم يبق اي موضوع يتعلق بالدين اليهودي واتجاهاته إلا شرحه بوضوح وحيادية علمية، بدون ان يطرح الكاتب آرائه الخاصة ، هناك شرح عن اليهودية الارثوذكسية ومدارسها ونشوئها ، تيار الحريديم اليهود السود المتعصبين تعبير سود من لباسهم الأسود من البرنيطة حتى الحذاء والصراع بين الجديد والقديم ، بين التطور والانغلاق، نشؤ الأحزاب الدينية ، نشوء التيارات "الحسيدية" وهي تيار روحي اجتماعي يهودي نشأ في أواسط القرن ال – 18 في أوروبا ، يعرف بتعصبه وانغلاقه الديني ولها مدارسها المختلفة، يطرح أيضا مكانة المرأة في الدين اليهودي ولدى مختلف التيارات، بالطبع لا ينسى ان يعطينا شرحاً لنشؤ التيارات الحديثة- التيارات الإصلاحية .

هذا الكتاب يجيء في وقت تحتاج فيه المكتبه العربية إلى تعميق معرفتها بالدين اليهودي، لفهم طابع وخلفية هذا الدين. د. عمر حسناً، بأن ترك الحقيقة المجردة للقارئ، لم يتدخل ليلقن القارئ كما نلاحظ في مؤلفات مختلفة أقحمت النزاعات السياسية أو الاختلافات الدينية في مواقفها من الديانة اليهودية خاصة ومن اليهود عامة. هذا الكتاب يعد مرجعاً ممتازاً لمن يريد حقاً ان يتعرف على المجتمع اليهودي في إسرائيل أيضا بكل مركباته وتناقضاته غير القابلة للتحسير احيانا، كذلك تركيبته الفكرية وصراعاته العقائدية  داخل المدارس الدينية وداخل التيارات السياسية الدينية  والمراحل التاريخية التي قطعتها هذه التيارات

 ليس سرا ان بعض "الساحات" الدينية ("حاتسروت" بالعبرية وهي تتبع لحاخام معين أشبه بالنبي في سطوته وسيطرته على جماعته بكل ما يخص حياتهم ومواقفهم وتفكيرهم وتصرفاتهم) لها موقف عدائي من الدولة نفسها والمثال على ذلك مجموعة " ناطوري كارتا" ، احد قادتهم الدينيين كان مقربا من الرئيس الفلسطيني المرحوم ياسر عرفات .. وشاركوا مثلا في مؤتمر طهران قبل عدة سنوات حول المحرقة اليهودية .. ولكن تأثير هذا التيار في إسرائيل هامشي جدا .

الكتاب يشد بوفرة المعلومات التي يضعها الكاتب أمام القارئ العربي، وبما يميز الكتاب من أسلوب مبسط في الطرح بحيث لا يبق اي موضوع يتعلق بالعقيدة الدينية اليهودية وتشعباتها وانقساماتها عبر التاريخ دون توضيح وشرح ... انه حقاً كتاب هام، تفتقد له المكتبة العربية ،خاصة بموضوعيته، مرجع لا بد منه لفهم القاعدة الايمانية، الخلفية الفكرية التي تشكل اليوم ما يعرف بالدين اليهودي ، بل وأكثر من ذلك دور التيارات الدينية في المجتمع الإسرائيلي وفي السياسة الإسرائيلية .

الكتاب الثاني :التلمود - المرجعية اليهودية للتشريعات الاجتماعية

بعد كتابه الأول عن "اليهودية- ديانة توحيدية ام شعب مختار" الذي صدر قبل سنة ، يعود الباحث عمر أمين مصالحة إلى اليهودية من زاوية أُخرى ليكمل الصورة أمام القارئ العربي، بتناول خبايا الديانة اليهودية وأصول التشريعات الاجتماعية الحياتية في الديانة اليهودية  المعروفة باسم "التلمود"، في بحث جديد شامل يحمل اسم "التلمود-المرجعية اليهودية للتشريعات الاجتماعية". 

ما يميز أبحاث عمر مصالحة موضوعيته العلمية، اعتماده على المصادر الأصلية لمواضيع بحثه، هذا ما جعل كتابة الأول من أفضل الدراسات عن اليهودية التي كتبت باللغة العربية،  تميزت بالمصداقية والدقة العلمية  دون التدخل والتعليق واستنتاج مواقف شخصية، بذلك اثبت نفسه كباحث ثقة  يمكن الاعتماد عليه في فهم اليهودية.

يطل علينا اليوم بكتاب هام جدا لقراء العربية، حول التلمود كمرجعية للتشريعات. يبدو ان هذا البحث  غير مسبوق في اللغة العربية، بموضوعه من حيث الإلمام والشمولية وبموضوعيته غير القابلة للتهاون بنفس الوقت .

يشرح عمر مصالحة ان التلمود، يتشكل من عنصرين: الأول هو الجانب التشريعي والقانوني (هلاخي) الذي يذكرنا بأحكام الفرائض والتشريعات الواردة في أسفار الخروج والاويين والتثنية، الثاني: العنصر القصصي الأسطوري (أجادي) بما يشمله من أقوال مأثورة وأخبار وخرافات وخيال إلى جانب السحر والتراث الشعبي.

في الفصل الأول  يمهد الباحث عمر مصالحة لبحثه باستعراض نشوء أصول التشريعات اليهودية بدءا من الموقف في جبل سيناء، حين تسلم النبي موسى، حسب القصة التوراتية... الوصايا العشر من الله، ثم دخول اليهود ارض فلسطين  وبدء مرحلة القضاة (هشوفطيم) في التاريخ اليهودي، وصولا إلى إقامة مملكتي إسرائيل- المملكة الشمالية والتي سميت "مملكة إسرائيل والمملكة الجنوبية والتي سميت "مملكة يهودا". يستعرض الكتاب أسماء ملوك مملكة يهودا، وصولا إلى هدم الهيكل وإعادة بنائه وهدمه من جديد، والأحداث التاريخية التي عصفت بالمملكتين منذ ذلك التاريخ، مثل الاحتلال المختلفة... وتشتت اليهود - سبيهم!!

يطرح الباحث أجزاء "المشناة" وهي كلمة عبرية معناها بالعربية يُثنٌّي أو يكرر، ثم أصبحت الكلمة تشير بشكل محدد إلى دراسة الشريعة الشفوية  التي تشمل مواضيع واسعة للغاية،  الكتاب يستعرض أسماء مؤلفي المشناه والتلمود حيث بدأها الحاخام هليل الأول في بابل. ويستعرض الباحث ما اشتملت عليه المشناه وهي ستة بنود:

1- الزراعة وقوانينها - ويشمل الري والحرث والحصاد، الموضوع الزراعي في المشناة يكاد يكون برنامجا زراعيا كاملا، بالطبع له جانبه الديني، حيث يرتبط بالعبادة اليومية والتبريكات .

2- العبادات والمواعيد - عن تبجيل السبت والعبادة فيه ومواعيد الصيام والأعياد والاحتفالات والتقويم العبري .

3- النساء - ويشمل قوانين الزواج والطلاق والجنس بين الزوجين.

4- الجنوح والجنايات - ويشمل التشريعات المدنية ومسلكيات التصرف اليومي، أنواع العقاب ونظم التجارة والسياسة .

5- المقدسات - مخصص لأعمال الضحايا (القرابين) مهام رجال الدين وواجباتهم.

6- الطهارة - ويشمل أمور التطهر من النجاسة، يتحدث هذا البند عن الصلة بين بني البشر والإنسان اليهودي والكائنات الأخرى  وما يجوز أكله من الحيوان.

يبين الباحث الخلافات والتناقضات في التشريعات اليهودية ، مع ذلك تحولت هذه التناقضات إلى شرائع مقدسة لدى المجتمعات اليهودية. ثم يعالج أقسام المشناة الستة "سدريم" (هي التوراة الشفوية والقصد النقاط الستة التي ذكرناها سابقا) وأسفار كل قسم، التي تشمل كل تفاصيل حياة الفرد اليهودي في جميع مناحي حياته اليومية والعامة.

يوضح الباحث للقارئ العربي جذور الدين والعقيدة اليهودية، التي لا تدع للفرد مساحة للاجتهاد.. إنما أمورا جاهزة وفرائض نهائية. صحيح ان الباحث لا يعالج وقع هذه الفرائض على الإنسان المعاصر، لكن القارئ يستطيع ان يصل إلى النتيجة الأساسية ، بان الدين اليهودي يتعامل مع الإنسان بأحكام وعقلية لم يعد شيء يربطها بالواقع الإنساني المعاصر، وهذه إشكالية تبرز في ديانات أخرى أيضا، ربما كون الديانة اليهودية ديانة محدودة بالعدد، يجعلها أشبه بالمحمية الطبيعية، مع ذلك نجد في الغرب والى حد ما في إسرائيل، تيارات يهودية لم تعد تستطيع التماثل مع القيود الدينية العتيقة، المتصلبة والمزعجة، فأنشأت اتجاهات حديثة ليبرالية، تقوم بينها وبين التيار الديني اليهودي المحافظ ( الاورتوذكسي ) حرب عنيفة، لدرجة عدم الاعتراف بيهوديتهم ورفض التعامل معهم على كل المستويات.

أما اسم التلمود فهو مشتق من الجذر العبري "لمد" أي درس، تعلم وهو نفس الأصل السامي لكلمة "تلميذ" العربية. يشرح الباحث ان التلمود من أهم الكتب الدينية عند الشعب اليهودي، هو الموجه والمنظم للحياة الاجتماعية، هو الثمرة الأساسية للشريعة الشفوية، أي تفسير الحاخامات للشرائع التوراتية.

يؤمن بعض اليهود المتعصبين خاصة، ان نصوص التلمود أوصي بها من الروح القدس نفسه (روح هكودش) باعتبار انها مساوية للشريعة المكتوبة (التوراة).

ليس من السهل استعراض الكتاب بكل تفاصيله. الكاتب لا يترك أي فرغ للتأويل، بل يطرح جميع التفاصيل بتناقضاتها أحيانا، ليوضح جذور الدين اليهودي، ببحث واسع لم يغفل أي تفصيل.

الكتاب يثري المكتبة العربية بمرجع هام جداً وضروري لفهم إحدى أقدم الديانات، مصادرها، طرق تفكيرها، بعيداً عن الاستنتاجات الارتجالية وبهذا يخدم الباحث الحقيقة العلمية المجردة.

 

nabiloudeh@gmail.com

 

 

 

 

من يريد استعادة زوج مثل هذا؟

 

قصة:نبيل عودة

وصلت مدام نديم برفقة صديقتها الى محطة الشرطة، قلقة ومضطربة وتكاد الدموع تتدفق من عينيها.. ولولا صديقتها المخلصة التي تتأبط ذراعها وتمسح عرقها وتهمس لها مطمئنة: "سنجده.. ستجده الشرطة.. لا تقلقي"، لسقطت على الأرض مغشيا عليها.

كانت متوترة للغاية.. وفورا توجّهت للشرطي المناوب:

-         زوجي ضاع.. خرج ولم يعد.. اريد أن تجدوه لي.. اذا لم يتناول دواءه اليومي قد يموت!!

فورا أدخلت الى غرفة ضابط مسؤول.

-         ارتاحي يا سيدتي واهدئي.. انا سأعالج الموضوع.

-         الموضوع لا يحتاج الى علاج.. اريد ان تجدوا زوجي.. خرج صباحا ولم يعد.. ليس من عادته.. انه مريض.. ويجب ان يتناول دواءه والا.. آه.. يا ويلي..

-         حسنا سيدتي اطمئني.. لا داعي للقلق.. هذه وظيفتنا أن نجد المفقودين.. عليك ان تعطينا بعض التفاصيل..

-         زوجي ضائع وانتم تريدون تفاصيل.. تفاصيل مفاصيل.. من يهتم للتفاصيل.. اريد ان تجدوا زوجي وكفى.

حاولت صديقتها ان تهدئ من روعها..

-         مدام نديم يا صديقتي.. أنت مضطربة.. الضابط يريد وصفا للسيد نديم حتى يجدوه..

قال الضابط بفراغ صبر:

-         اهدئي ياسيدتي.. سأجلب لك كوب ماء.. خذي راحتك..

قدم لها الضابط كوب ماء بارد. فأفرغته دفعة واحدة. قال:

-         اطمئني.. سنجدة.. بالطبع نحتاج منك الى معلومات حول عاداته وشكله و..

قاطعته:

-         أقول لك زوجي ضائع وانت تقول لي معلومات..؟

جففت دموعها..

-         ما اسمه يا سيدتي؟

-         نديم.. السيد نديم.

-         صفيه لنا..

نظرت مدام نديم بوجه الضابط، فكرت، انتعشت قليلا وبان بعض الهدوء على محياها

-         زوجي طويل القامة..

 قاطعتها صديقتها:

-         مدام نديم.. يا صديقتي..

اشارت اليها بيدها بحركة غاضبة ترفض المقاطعة:

 - يا صاحبتي.. أنا أعرف زوجي أفضل منك..

احمرت وجنتي صاحبتها وصمتت.. ولكن في وجهها بان عدم الإرتياح.

-         زوجي طويل القامة..

 قالت بحيوية وارتياح وكأنها لم تكن قلقة مضطربة قبل لحظات. تابعت:

-         طوله.. أظن حوالي مترين.. اليس كذلك يا صديقتي..؟

الصديقة تبدو مصدومة وغير مصدقة ما تسمع.. وتمتمت بما يفهم ان الوصف صحيح.

-         جسمه رياضي.. أسود الشعر.. قوي العضلات.. اسمه نديم.. نسكن قرب العين الفوقا.

-         قلت انه مريض... وقد يموت.. وهذه صفات لرجل قوي لا يعرف المرض..

-         أجل أجل.. يتناول دواء يوميا.. بسب رشح خفيف ألم به.

-         أي لا يوجد خطر الموت.. حسنا.. متى خرج وما هي عاداته اليومية؟

-         كان يجب ان يعود ظهرا.. ليس من عادته أن يفوت وجبة الغداء ظهرا. ها نحن في المساء ولم يعد.

بانت الحيرة على وجه الضابط.. خاصة وان الصديقة بدت مرتبكة وشيئا ما يجعلها أكثر اضطرابا من مدام نديم. ألقى قلمه على المنضدة، تأمل مدام نديم، تأمل صاحبتها.. هزّ رأسه بعدم استيعاب.. وسأل:

-         لكنك تصفين انساناً مسؤولاً وعاقلاً وغير مريض، ربما انشغل مع بعض أصدقائه..

-         أصدقاء.. لا أصدقاء لزوجي.

بانت الحيرة على وجه الضابط.. وسأل بعدم اهتمام:

-         ماذا كان يرتدي؟

-         بنطالاً رمادياً، حذاءً رياضياً وقميصاً أزرق اللون..

حاولت الصديقة أن تقول شيئا، فأشارت لها مدام نديم ان تصمت. قال الضابط بملل:

-         اعطني رقم تلفونك.. ونأمل خيرا.. هل تحملين صورة له؟

-         وتريدون صورة له.. هل صار مشهورا مثل مايكل دوغلاس؟ لا أحمل صورته معي..

-         سأرسل شرطيا لأخذ صورة له.. الصورة تساعدنا على ايجاده بسرعة.

-         لا أعرف أين صوره.. لا أعرف..

- عودي الى البيت.. وابحثي عن صورة.. سيحضر شرطي لأخذ الصورة.

 قالها بطريقة توحي ان المقابلة انتهت. أعطته رقم تلفون المنزل وغادرتا مبنى الشرطة وهي تردد:

-          جدوه بسرعة.. لا أريد ان يتعرض لمكروه.

خارج مبنى الشرطة نطقت الصديقة ببعض الحيرة والعتاب:

-         تفاصيل زوجك ليست صحيحة.. كيف سيجدونه؟

-         هل تعرفين زوجي أكثر مني؟

-         يا صديقتي ماذا جرى لك.. زوجك طوله متر ونصف وأقرع وله كرش ضخمة، مصاب بمرض النسيان ولا رياضي ولا بطيخ.. يدبّ على عصا ويسير بصعوبة؟

نظرت مدام نديم باستهجان لصاحبتها وقالت بحزم:

-         ومن يريد استرجاع زوج مثل هذا؟!

 

نبيل عودة كاتب وناقد واعلامي فلسطيني الناصرة

nabiloudeh@gmail.com

 

فلسفة مبسطة: المضامين

 

"لا يمكن ان يحمل أي إنسان مضمون جوهر الإنسان إذا

اختار الصمت على الجرائم التي ترتكب ضد أخيه الإنسان"

(وقصة: لقاء بعد عشرين عاما)

 

نبيل عودة

 

تميزت الفلسفة منذ ظهورها في بلاد الإغريق بقدرتها على الفرز بين المضامين الجوهرية والمضامين العرضية (غير الجوهرية)!!

الفيلسوف ارسطو ( 384 ق.م - 322 ق.م ) ميز بين شكلي المضامين Essentialism)) وأوضح ان المضامين الجوهرية هي المضامين التي بدونها لا يكون الشيء ما هو عليه، والمضامين العرضية، هي التي تقرر كيف هو الشيء وليس ما هو. رأى أيضا بنفس العلاقة مع المضامين الجوهرية ان العقلانية ضرورية من اجل ان تكون كائنا بشريا، وربط ذلك مع ماهية العقل. أي بكلمات أخرى عالم عظيم مثل نيوتن، الذي أحدث ثورة في العلوم، لن يكون هو نفسه بدون مضامينه الجوهرية(عقله مثلا) أما المضامين العرضية قد تحدد شكل انفه، طوله، وزنه، لون بشرته حركاته،  هذه مضامين عرضية لا تقرر عبقرية نيوتن.

المضامين إذن هي مفهوم فلسفي يبحث في الموضوع الوجودي( ما هو موجود) أي ما يتبع للواقع وما هو قائم يطلق على ذلك تعبير اناطولوجي (ontologist ).

بناء على ذلك ما يقرر تعريف الشيء أو الظاهرة هو مضمونها الجوهري.

من هنا حاجتنا أيضا لتطبيق المفهوم الفلسفي للمضامين على الواقع السياسي، من منطلق ان لكل فعل توجد فكرة ذات مضمون جوهري، ومنها يأخذ الأفراد أو المجموعات، أو الأحزاب، أو الدول مضامينهم الجوهرية. المجموعات او الأحزاب او الدول حين تصبح مضامينهم عرضية، تعتمد على الانتماء ألاثني أو الديني ..هذا يعني انهم يعيشون على حسب زمن ضائع!!

 في عصرنا الحديث نجد ان فلسفة المضامين اخترقت العلوم الاجتماعية بمفهوم ان البنى أو العوامل الاجتماعية هي ذات مضامين تسبق تعريفها الاجتماعي المضامين في عصرنا تشمل جميع النظريات الحديثة وجميع الأيديولوجيات الأهم التي ظهرت في التاريخ البشري.. وعلى رأسها ابرز ثلاثة أيديولوجيات في عصرنا:

1- مضامين الأيديولوجيا النازية (الفاشية عامة)- تطرح مفهوم انه للقومية يوجد واقع (وجودي) كان قائما كل الوقت، يوجد له طابع ومن اجله يمكن التضحية بكل شيء.

2- الايديولوجيا الليبرالية - ترى المضامين في اصطلاح حقوق الإنسان، يشمل ذلك الافتراض انه توجد حقوق طبيعية للإنسان وهي ضمن الحقوق الجوهرية لكونهم بشرا.

3 - الأيديولوجيا الاشتراكية وبالأساس في الطرح الماركسي - تطرح مفهوما يرى بالقومية، الدين وغير ذلك من الهويات الشخصية أنها  بمثابة "مضامين كاذبة" وان الانتماء الطبقي هو الذي يوحد بشكل حقيقي وجوهري  بين البشر.

لا بد من إشارة عابرة ان المفهومان النازي والماركسي لم يثبتا صحتهما الفكرية والفلسفية، ولا بد من إضافة أراها هامة: اكتسب الفيلسوف الألماني نيتشة شهرة كبيرة عندما صرح ان الله قد مات، وكان قصده واضحا انه يعني  فقدان الأخلاق والحقيقة معا. فهل يمكن تحت شعارات وعود إلهية خرافية سحق مجموعة بشرية، بسبب انتمائها ألاثني أو الديني ؟!

 ما أعادني لهذا الموضوع هو احتفال إسرائيل بيوم استقلالها. هل هو ضمن المفاهيم الجوهرية لحقوق الإنسان بسحق حقوق إنسان آخر، أم هي ظاهرة عرضية غير جوهرية بحكم كونها جاءت ضمن رؤية اقرب للرؤية القومية (الفاشية) المتحالفة مع الأسطورة الدينية؟

الحرب العالمية الثانية التي انطلقت من المفاهيم القومية النازية، دفعت فيها شعوب العالم عامة والشعب اليهودي ضمنها، ثمنا رهيبا لا يمكن تخيله هل هذا الثمن يبرر ان يدفع شعبي الفلسطيني ثمنا مأساويا لا يتوقف منذ سبعة عقود تقريبا، ضمن نظرية قومية شوفينية دينية اصولية  لا تقع بعيدا عن الفكر القومي النازي والفكر الإيماني السلفي سوية؟!

هذا يجعلني أعيد التفكير بجوهر الإنسان المعاصر. لا يمكن ان يحمل صفة إنسان من يفتقد لجوهر الإنسان بصمته على جرائم ضد الإنسان؟ ان كان في فلسطين أو العراق أو سوريا أو نيجيريا أو اليمن أو ليبيا أو أفغانستان أو اوكراينا أو أي مكان يجري فيه سحق المضمنون الجوهري للإنسان!!

في القصة التالية ، التي كتبتها في (15-02-1968)،بشكل تلقائي لأديب ناشئ تناولت المضامين التي تصور واقعا بلا مضامين إنسانية. بلا أخلاق  وبلا حقيقة. حاولت ان أصور مأساة شعبي الذي وعيت والمآسي تتقاذفه. هل هذا ضمن المضامين الجوهرية لمرتكب الجريمة؟ أم ضمن عالم فقد الأخلاق والحقيقة وفقد المعايير الإنسانية في تعامله مع قضايا الإنسان؟!

إلى أين ينحدر عالمنا بتخليه عن مضامينه الجوهرية، وعلى رأسها مضمون العقلانية!!

*****

لقاء بعد عشرين عاما !!/ قصة نبيل عودة

 

ترامت نظراته فوق الصورة، حدق بالوجه الجامد الذي يطل منها. وجه كان حظه من التاريخ الإهمال في زاوية من زوايا الأرض.. تجعد بالطول وتجعد بالعرض، أصبح أشبه بلوحة للرسم البياني.. لوحة مربعات بدون أي تنسيق هندسي... عبر هذا التاريخ بثقله، بإهماله وآثاره فوق هذا الوجه، يلحظ الناظر آثار تشير إلى جمال سابق وفتنة ماضية.

كانتا عيناها عميقتان بائستان إلى ما لا نهاية، تحتهما أنف.. ليس كأنف كيليوبترا، لذلك لم تتغير أوضاع العالم ولا حتى أوضاع المنطقة التي تعيش فيها. كانت التجاعيد التي تجعل الوجه أشبه ما يكون بلوحة رسم بياني كافية لإخفاء ذلك الأنف بشكل يعجز عنه حتى فنان متجرد. هل هي حقا كذلك؟

سقطت دمعة بلورية فوق الصورة فسارع يزيلها بطرف ثوبه، محاولا إخفاء وجهه، في لحظات انسابت أمامه ذكريات عشرين عاما.

عشرون عاما أحالوا بينه وبين رؤية هذه المرأة التي هي...أمه!!

كان الصمت ثقيلا حتى انه لم يتحمل ذلك.

رفع عينيه عن الصورة، نظر نحو الرجل الذي جلس بجانبه، أخوه فيصل.. فيصل الذي كان تلميذا في تلك الأيام السوداء. مرت بخاطره صور متلاحقة من الماضي.. كان يود لو كان الماضي غير ما كان وكان يود لو كان الحاضر غير ما هو عليه الآن.

أخذ نفسا طويلا، عصر المستنقعين الواقعين تحت جبينه العريض محاولا تجفيفهما.

كان فيصل ما زال يجلس قربه على الكنبة العتيقة، في ناحية أخرى من الغرفة كانت زوجته.. وجهها شاحب حزين.. وعلى ذراعها طفلهما الذي استيقظ قبل لحظات وراح يبكي ويصرخ... إن موعد أكله قد حان ولكن أمه لم تعطه شيئا في غمرة هذا اللقاء القاسي.

لماذا لا يفهم ويكف عن البكاء؟

منذ عشرين عاما لم يلتقوا، لماذا لا يفهم الطفل هذا؟ منذ عشرين عاما... فقط اليوم.. والى جانبها كان بكرها فوزي، يضغط على أعصابه ويتمالك نفسه حتى لا تنفجر دموعه...وبجانبه  انتشر باقي أفراد الأسرة.. سمير ،جمال ، نجوى وفؤاد...

الطفل ما زال يصرخ ويحطم إطار الصمت. لأول مرة شعرت به يثير حنقها. ماذا تستطيع أن تفعل له؟ إن الحليب قد جف في صدرها من الرعب الذي اجتاحها منذ أن رأت على مسافة غير بعيدة عن قريتهم الطائرات وهي تنقض على كتلة اللحم والحديد المتراجعة، فلا تتركها إلا وقد مزقتها بالنار. كان دائما يخيل إليها ان ابنها فوزي بينهم، لكنه لم يكن بينهم.. فقد عاد، عاد منهكا، عاد محطما، عاد والدموع معجونة في وجهه وعينيه... عاد، عاد ، عاد.. تلك هي الحقيقة التي أثلجت صدرها في أيام الرعب، تلك هي...

قطع صوت زوجها استرسالها وهو ينظر لصورة والدته :

- لماذا لم تحضرها؟

نفس السؤال عاد يكرره بعد صمت طويل. لماذا لا يغير الحديث؟ لماذا يبكي الطفل؟ لماذا يصرخ بهذه القوة؟

- في الأسبوع القادم.. ان شاء الله !!

في الأسبوع القادم... هل نطق فيصل بذلك ..؟ انه لا يذكر تماما.. ولكن أذناه التقطتا تلك الكلمات.. وعاد ينظر إلى الصورة أمامه.

أخذ صراخ الطفل وعويله يشتد .. فلم تجد الأم بدا من تلقيمه حلمة ثديها .. ودخلت نجوى تسخن الحليب .. لماذا لا يكبر الأطفال بسرعة؟!

 

******

أخيرا اقترب موعد اللقاء الذي طال حتى ابتعد عشرين عاما. اليوم سيلقاها. يعتريه شعور متوتر كلما فكر بلحظة لقاء أمه بعد عشرين عاما من الانقطاع. كانت المراسلات عبر أثير الراديو لا تشفي الشوق بلقاء أهله الذين فرض الفراق عليه وعليهما.

كانت شمس أواخر حزيران تسطع بقوة.. وكان الأب يشعر بدبيب الاضطراب، فازدادت حركته في البيت، على غير عادته... وما انفك ينظر من النافذة عبر الشارع المتعرج الممتد إلى الأفق.. ومع كل سيارة تظهر يتخيل وجه والدته داخلها، وجهها كما كان يعرفه قبل الفراق، فيخفق قلبه بقوة.

هل ستعرفه بعد هذا العمر؟ هل هي حقا كما رآها في الصورة منذ أسبوع؟ .. إنها أمه، ويريد أن يلقاها..مهما بدت غريبة عنه اليوم... كان الوقت يمر ببطء شديد فتمدد على الكنبة العتيقة، نفس الكنبة التي جلس عليها في الأسبوع الماضي بقرب أخيه فيصل.. كم يود ان يرى أولاد أخيه.. ولكنه لا يصدق ان ذلك الرجل هو فيصل نفسه ، بالأمس فقط كان طفلا صغيرا ... كأن عشرين سنة مرت بغفلة من الزمن...

لا يزال يذكر صوتها الأمومي وهي تحذره ، بسرور طفولي بعد زواجه من انها ستطرده من البيت هو وزوجته اذا خلفا لها بنتا... وإنها لن تقبل بأقل من ولد... تسميه على اسم زوجها الذي مات سنوات قليلة بعد زواجهما. كان لها ما أرادت، غير أن القدر رفض أن يعطيها الفرصة لترى حفيدها... فرقتهم النكبة!!

عاشت العمر كله تنتظر يوم اللقاء... وعاش يحلم بالعودة ولقاء الأحبة..

انتبه الأب لأصوات كلاب تنبح.. اراد ان يتحرك من مكانه.. لكنه تجمد عندما رأى ابنته نجوى تندفع نحوه صامتة ووجهها قد فقد لونه واصفر..

- أبي.. إنهم هم !!

ماذا يعني ذلك؟ هل يمكن ان يحدث مثل هذا الأمر ...

- لا تخافي..

همس من بين شفتيه بصوت مرتعش.. واندفع للخارج .. أطلت الأم بوجهها المتصبب عرقا من حر المطبخ، تبحث بعينين اتسعت حدقتاهما عن زوجها... ثم اندفعت خلفه.. كان أولادها قد ذهبوا إلى السوق لشراء الخضار والفواكه لهذا اليوم العظيم!!

ماذا حدث بعد ذلك؟ كل ما حدث يبدو غريبا...

لقد جاءوا برفقة الكلاب النابحة..!!

لم يفهم احد شيئا في بادئ الأمر.. ما كاد يطل الأب من الباب حتى دفعه جنديان بعيدا عن البيت!!

ما كل هذا؟!

بعد لحظات كانت تقف بقربه زوجته وابنته..الضابط قال بأن البيت سينسف؟!

- لماذا..؟

- الفدائيون مروا من هنا!!

- ما علاقتنا بذلك؟

- النقاش ممنوع!

- أين أذهب بعائلتي؟

- اخرس!!

- لكنه بيتي...

- اقفل فمه أيها الجندي..!!

جمد الخوف الأم والبنت وربط لسانيهما !.. الأم تقول لنفسها "الحمد لله لأن فوزي ليس هنا.. كان من المحتمل ان يشتبك معهم.. أو يعتقلوه لأنه شاب.. ثم كيف سيهتدون لأثره في سجونهم؟.. ولكن بيتهم .. أثاثهم.. واتسعت عيناها أكثر وأكثر.. يا الله .. انه نائم في الداخل. أطلقت صرخة مروعة:

- طفلي.. طفلي نائم في الداخل!!

حاولت الاندفاع نحو البيت، لكن إعقاب البنادق اعترضت طريقها.. أما الأب فانطلق كالقذيفة نحو البيت..

- عد...عد...

ارتفع صوت الجندي مرفقا بطلقات رصاص في الهواء.. صرخت نجوى:

- با ... با ...

انهارت على الأرض .. وعاد الجندي يصرخ:

- عد ... عد ..

وانطلقت رصاصات أخرى...

أحس الأب بظهره يحترق. حاول ان يركض. كان الألم ينهش جسده. حاول ان يقفز .. تجمد في مكانه. شيء غريب يمتزج مع ذاته. لكن طفله في الداخل. خطى خطوة.. رغم أن الأرض تدور به بشدة. انه يرى أمه بوجهها الذي يعرفه، بل بالوجه الذي أطل عليه من الصورة.. المربعات.. شيء لا يستطيع ان يفهمه. ماذا يريد؟ لماذا هذا الألم؟ لماذا الأرض تدور هكذا؟ لماذا يبدو البيت مائعا أمام عينيه؟ فجأة لاح له وجه الطفل... والبيت سينسف. اعتصر كل قواه في لحظة. جر قدميه.. صرخات حادة تخترق أذنيه ، يجب ان ينقذ الطفل.

انحنى على الأرض ثم فتح عينيه، .. لقد احتاج إلى قوة خارقة ليفعل ذلك. رن في سمعه صوت أعاده إلى ذكرى الحنين واللقاء... كان ذلك صوت سيارة.. إنها قادمة.. أمه التي انتظرها عشرين عاما.

نسي الألم .. نسي كل شيء.. كابوس من الغموض يملأ افقه.. أفكاره.. الصراخ يدو في رأسه.. "طفلي" صراخ رهيب.. ابنه في الداخل والبيت سينسف. السيارة تقترب.. جر نفسه خطوة.. وخطوة.. وخطوة.. وهدير السيارة يملأ سمعه ويعلو.. والألم يشل كل ذرة في جسمه... والدوران يشده نحو الأرض.. انحنى على ركبتيه... خليط غريب من الأصوات يخترق سمعه.. خليط غريب من الألوان يملأ المناظر أمامه.. ميوعة .. دوران.. وقوة خارقة تشده أكثر نحو الأرض... وترغمه ... آه .. طفله؟.. والبيت سينسف .. أمه.. السيارة تقترب.. اعتصر كل قواه.. كل عضلة في جسمه، حاول ان ينتصب بقوة، فالتصق بالأرض!!

 

nabiloudeh@gmail.com

 

 

وفاة  الأديب الألماني غونتر

غراس  الذي أثار غضب إسرائيل

نبيل عودة

 

توفي يوم الأحد (13/4/2015) الشاعر والروائي الألماني غونتر غراس عن عمر 87 عاما. حصل غونتر غراس  على جائزة نوبل في الآداب 1999 ، وأثار حصوله على الجائزة غضب إسرائيل وانتقادها  للجنة جائزة نوبل والطلب منها سحب الجائزة منه باتهامه بالعداء لإسرائيل، والمفروغ منه أيضا اتهامه بالعداء للسامية وكل اسطوانة الدعاية الإسرائيلية المملة المعروفة والجاهزة دائما، والتي تنطلق مثل صواريخ القبة الحديدية، لإسقاط كل نقد يشتم منه رفض للسياسات الإسرائيلية العدوانية والعنصرية والاستفزازية .

وتُعتبر رواية "طبلة التنك"، أو "طبلة الصفيح"، من أروع الروايات لغونتر غراس التي تلخص القرن العشرين كله.

 وكنت في حينه قد نشرت مقالا تعقيبا على غضب اسرائيل تحت عنوان: "الساميّة مكشوفة على حقيقتها جاء فيه:

نشر الشاعر الألماني غونتر غراس قصيدة أثارت غضب إسرائيل ووقاحتها ، لدرجة التوجه الإسرائيلي للجنة جائزة نوبل السويدية بطلب سحب الجائزة منه باتهامه بالعداء لإسرائيل  والعداء للسامية وكل اسطوانة الدعاية الإسرائيلية المملة المعروفة والجاهزة دائما.

إسرائيل سارعت باتخاذ قرار يمنع دخول الشاعر الألماني إلى إسرائيل ، الأمر الذي أثار انتقادات ضد هذا القرار لدرجة ان صحيفة مثل "لوس انجلوس تايمز" انتقدت بحدة هذا التصرف وكتبت :" ان قرار منع غراس من دخول إسرائيل يلائم دولة مثل إيران ولا يلائم إسرائيل الديمقراطية والمنفتحة".

قصيدة غونتر غراس لا تتضمن أي انتقاد على أساس اثني أو ديني، أي لا علاقة لها بالعداء لليهود،  بل لا تتجاوز تصريحات مسؤولين أمنيين إسرائيليين حذروا بقوة وعلنا من حرب ضد إيران ،ووصف مئير دجان (قائد المخابرات في وقته) الحرب ضد إيران بأنها أكثر شيء جنوني يسمع  به، وحذر قادة سياسيين وعسكريين وصحفيين وأدباء وأكاديميين من نتائج كارثية على إسرائيل والشرق الأوسط والعالم من مغامرة إسرائيلية ضد إيران.

تعالوا أولا نقرأ قصيدة غونتر غراس حتى نصبح أكثر فهما لمضمونها وأهدافها، ولعلها توضح بالتالي  العقلية التي تتصدر أعلى مستويات القرار في إسرائيل، ولعلها تنورنا في فهم ما هي السامية حسب فكرهم السياسي:

ما ينبغي ان يقال

قصيدة للشاعر الألماني غونتر غراس

لماذا اصم، / لقد صمت طويلا/عما هو واضح ،/وما تمرست على محاكاته/ بأننا نحن الذين نجونا/ في أفضل الأحوال في النهاية/ اننا الهوامش في أفضل الأحوال/ انه الحق المزعوم بالضربة الأولى/ من قبل مقهور متنمر/ وابتهاج منظم يمكن توجيهه لمحو الشعب الإيراني/ لاشتباههم انه يصنع قنبلة نووية/ لماذا امتنع عن تسمية ذلك البلد الآخر/ الذي يمتلك ومنذ سنوات -رغم السرية المفروضة-/ قدرات نووية متنامية لكن خارج نطاق المراقبة،/ لأنه لا يسمح بإجراء الكشف عليها/ التستر العام على هذه الحقيقة/ وصمتي جاء ضمنه/ أحسها ككذبة مرهقة لي/ وإجبار، ضمن عقوبة الرأي،/ عندما يتم تجاهلها،/الحكم بـ «معاداة السامية» المألوف/ لكن الآن، وذلك لأن بلدي/ ومن جرائمه التي تفرد بها / والتي لا يمكن مقارنتها يطلب منه بين حين لآخر لاتخاذ موقف،/ وتتحول إلى مسألة تجارية محضة،/ حتى وان/ بشفة فطنة تعلن كتعويضات،/غواصة أخرى إلى إسرائيل/ يجب تسليمها،/قدرتها تكمن،/بتوجيه الرؤوس المتفجرة المدمرة/إلى حيث لم يثبت وجود قنبلة ذرية واحدة،/ ولكن الخوف يأخذ مكان الدليل،/ أقول ما يجب أن يقال/ ولكن لماذا حتى ألان؟/ كما قل، // بلدي مرهون لعار لا يمكن التسامح فيه، / يمنع.../  هذا الواقع باعتباره حقيقة متميزة/ أرض إسرائيل، وبها انا مرتبط / وأريد ان أبقى هكذا/ لماذا أقول الآن/ شخت وقطرات حبر قليلة/ ان إسرائيل القوة النووية تهدد /السلام العالمي الهش أصلا؟/لأنه لا بد أن يقال/ وغدا سيكون الوقت متأخرا جدا/ أيضا لأننا - كألمان مثقلون بما يكفي-/لنكون موردين لما يعتبر جريمة /وأضيف: لن اصمت بعد ألان،/لأني سئمت من نفاق الغرب/ مثلما لدي الأمل/ بأن يتحرر الكثيرون من صمتهم/ ويطالبوا المتسبب في الخطر المحدق/ لنبذ العنف/ بنفس الوقت/ أصر على مراقبة دائمة وبدون عراقيل/ للترسانة النووية الإسرائيلية/ والمنشآت النووية الإيرانية/ ما يجب أن يقال ،/ من قبل هيئة دولية ،/أن يتم السماح بها من قبل البلدين/ عندئذ فقط،/الجميع،/ الإسرائيليين والفلسطينيين/ وأكثر من ذلك،/ كل الذين يعيشون بجنون العداء/ مكدسين في مناطق متجاورة/ بالنهاية سيساعدونا./ الذي يمكن التنبؤ به، سيكون تواطئا/ حينها لن تعود الأعذار المعتادة/ كافية للتكفير عن الذنب .

هذا النص الشعري الإنساني لم أجد فيه ذرة لاسامية أو عداء لليهود أو حتى عداء لإسرائيل الدولة بل يقول :" أرض إسرائيل، وبها إنا مرتبط /وأريد ان ابقي هكذا". أي دفاع واضح عن حق إسرائيل بالوجود كدولة الشعب اليهودي.

هناك نقد في القصيدة  لسياسة المغامرة تنتهجها حكومة السيد بنيامين نتنياهو، حتى الحليف الوحيد الباقي لإسرائيل يحاول التملص من حرب مجنونة ضد إيران قد تكلف الأمريكيين أضعاف تكلفة الحربين المجنونتين ضد أفغانستان والعراق، وربما نضيف إليهما تكاليف الحرب القديمة ضد فيتنام أيضا. والعالم كله متوجس من مغامرة عسكرية إسرائيلية لا يمكن معرفة عواقبها على مستقبله، حتى لو نجحت في وقف اندفاع إيران لبناء سلاح نووي، سيكون الأمر مؤقتا وسيجر ردود فعل لا يمكن معرفة امتدادها وعنفها وتكاليفها مستقبلا.

إذن هل صار نقد نتنياهو وليبرمان وسياسة حكومة إسرائيل، عداء لاساميا يجب معاقبة من يجرؤ عليه؟

هل صار الطلب بقبول إسرائيل للمراقبة الدولية على مفاعلها النووي وإنتاجه عداء للسامية ؟

حتى كُتاب يهود في الصحافة الإسرائيلية كتبوا ما هو اعنف ألف مرة من كلمات قصيدة جونتر غراس.

من المفهوم تماما ان شاعرا عالميا له مكانته الكبيرة ، يشكل موقفه الإنساني ضد الحرب وضد سياسة نتنياهو وحكومته التي تدفع العالم كله إلى أزمة مخيفة، نقطة تحول أكثر تأثيرا على صناع القرار من الضغط الإسرائيلي، لأنه يخاطب العقل الإنساني السليم في مجتمعات تشكل فيها الثقافة قوة أخلاقية جارفة لا يمكن تجاهلها هذا بحد ذاته ضوء أحمر يخلق عرقلة للاندفاع الإسرائيلي يجب إزاحته بدون تمهل و"بضربة قاضية" تعطي درسا للمثقفين وأصحاب الفكر والسياسيين الغربيين بان معارضة سياسة حكومة إسرائيل تعني حرمانهم من المكانة الأدبية وإسقاط الجوائز عنهم ، ونبذهم سياسيا، واتهامهم القاتل باللاسامية، وهي تهمة ليس من السهل احتمالها في أوروبا والعالم الحضاري الذي بات حساسا لقضايا الإنسان ورفض التعامل مع البشر على أساس اثني وديني وجنس ولون، خاصة في المسألة اليهودية لأسباب تاريخية تثقل على الضمير الأوروبي كما لا تثقل عليه كل جرائم الاستعمار ضد شعوب آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية  .

هناك حلول طرحها غونتر غراس في قصيدته، وطرحها مفكرين وأكاديميين وكتاب يهود، بان تعلن إسرائيل تخليها هي أيضا عن السلاح النووي وتفتح المجال أمام الرقابة الدولية. كتب غراس:" أصر على مراقبة دائمة وبدون عراقيل/ للترسانة النووية الإسرائيلية/ والمنشآت النووية الإيرانية". موقف مثل هذا سيغير واقع الشرق الأوسط كله، فما الجريمة التي ارتكبها الشاعر لكي تشتكيه إسرائيل للجنة جائزة نوبل وتأمرها بوقاحة ان تسحب الجائزة منه "؟؟!!" ، وتمنع دخوله ل "جنة الديمقراطية" في إسرائيل؟"

اليوم إيران وغدا ستضطر دولة عربية حرة وديمقراطية ان تضمن أمنها ومصالحها بسلاح نووي إذا لم يقفل هذا الموضوع نهائيا بتجريد الشرق الأوسط من كل أسلحة الدمار الشامل وفرض حلول تضمن استقلال  وحرية كل شعوبه .

هنا يكمن الحل وليس بالشروط التعجيزية التي تطرح على إيران وتتجاهل ان إسرائيل حسب وسائل الإعلام الغربية،هي قوة نووية كبرى تشكل خطرا على كل الأمن العالمي والشرق الأوسط خاصة.

ان ما تقوم فيه إسرائيل بات مكشوفا. توجيه تهم اللاسامية بهذا الشكل يعني ان الصهيونية تنتقل إلى مرحلة تحويل إسرائيل نفسها إلى "يهودي العالم يهودي الشعوب"، مكان ما ساد سابقا لاسامية ضد الأقليات اليهودية  المنتشرة في مختلف أرجاء العالم.

ما يكشفه الهجوم الإسرائيلي الرسمي على غونتر غراس وقصيدته الإنسانية المعادية للحرب، ان إسرائيل الرسمية تأخذ على نفسها دور "يهود الشعوب". كل نقد لسياستها تعتبره ماكينتها الإعلامية الجيدة ، تحريضا عنصريا لاساميا على اليهود. أي إسرائيل هي اسم مرادف لليهود، من ينتقد سياستها أو شخصيات السلطة فيها حتى على أساس سياسي، هو بالتأكيد لاسامي.

حتى موقف سياسي بسيط وقانوني ضد الاحتلال والاستيطان واستمرارهما رغم الجهود الدولية للوصول إلى حل سلمي، تسميه إسرائيل عداء لاساميا. حتى انتقاد حرق مسجد أو إدانة  قلع أشجار الزيتون الفلسطينية على أيدي سوائب المستوطنين، أو قتل مواطنين أبرياء، هو موقف لاسامي بالتفكير الرسمي الإسرائيلي!!

لا أظن ان هذا يعبر عن ذكاء، ربما تذاكي ممل من سياسة تقودها حكومة يمينية متطرفة .

أرى ان الهجوم غير المبرر على الشاعر غونتر غراس وقصيدته الإنسانية، المعادية للحرب على إيران وللحروب عامة، وضد السلاح النووي الإيراني والإسرائيلي على حد سواء ، يكشف ان داوود لم يعد ذلك الفتى الطيب الذي يواجه جوليات المتوحش، وان السامية حلقة ضرورية لإستراتيجية الصهيونية السياسية بأكثر تياراتها اليمينية المتطرفة.

nabiloudeh@gmail.com

 

 

 

وداعا جورج غريب

صديقا ، مناضلا وأديبا

نبيل عودة

 

*جورج غريب كان إلى جانب نضاله، كاتبا قصصيا مرموقا أصدر مجموعة قصصية حملت عنوان"حكايات من بلدي"*

 

فقدت الناصرة يوم السبت الماضي (04-04-2015) احد المناضلين البارزين في تاريخ الناصرة، الذي أعطى زهرة شبابه في العمل اليومي من اجل الدفاع عن شعبه وتوجيه الشباب العرب نحو الاصطفاف السياسي الوطني في صفوف الشبيبة الشيوعية التي كانت حركة شبابية مؤثرة في المجتمع النصراوي، لها مكانتها كتنظيم سياسي أخذ على عاتقه مهمات التوعية والتثقيف ونشر فكر العدالة الاجتماعية ومقاومة طغيان الحكم العسكري في وقته، والدفاع عن حقوق العمال الشباب خاصة والعمال العرب عامة في مدينة الناصرة، وما زلت اذكر انه نشط لإقامة تنظيم عمالي مهني للدفاع عن حقوق العمال في مشاغل الناصرة.

كان جورج غريب أيضا عازفا على آلة نحاسية في فرقة الجوقة للشبيبة الشيوعية التي عرفت باسم "فرقة الطليعة" ذات التاريخ الفني المجيد،  التي للأسف نفتقد اليوم لمثل هذا النشاط الفني السياسي الراقي، لدرجة ان نعي الفقيد من رفاق الأمس يبرز كم هم جاهلون بنشاط جورج غريب ، أيضا يجهلون  ان جورج غريب كان من أوائل كتاب القصة القصيرة في الثقافة العربية داخل إسرائيل.

 مراجعة لمجموعة جورج غريب القصصية "حكايات من بلدي"

(نشر هذا النص قبل عقدين تقريبا مع صدور المجموعة القصصية)

بحماس خاص استقبلت  مجموعة قصص الكاتب جورج غريب من الناصرة والتي أعطاها اسم "حكايات من بلدي" وقد عشت حيرته في تسمية الكتاب واعتقد انه أعطاه الاسم المناسب. حكاياته (قصصه) تنقل نبضه الشخصي ومعايشته لقضايا شعبه وارتباطه السياسي والاجتماعي مع أهل بلده وقضاياهم عبر ثلاثين عاما وهي المساحة التاريخية التي تفصل بين القصة الأولى والأخيرة، نلاحظ من تواريخ كتابة قصصه فترة صمت طويلة امتدت من سنة 1967 حتى سنة 1989.

نستطيع ان نحدد اننا أمام مرحلتين في إبداع الكاتب، الأولى تمتد من عام 1963 وحتى عام 1967، والثانية من عام 1989 وحتى توقفه عن الكتابة .. وهي الفترة التي اشتعلت فيها انتفاضة الشعب الفلسطيني (شعبنا) المشهورة باسم "انتفاضة الحجارة"، المعروف انه كان لها فعل كفعل الصدمات الكهربائية لإعادة تنشيط عضلة القلب- الإبداع الأدبي في حالتنا.

تعرفت على جورج غريب، النشيط السياسي في صفوف الشبيبة الشيوعية وانا في مطلع شبابي،وقد شدتني قصصه بحسها الإنساني والاجتماعي المرهف، باختياره الواضح معسكر المسحوقين، ثم جمعتنا فيما بعد الزمالة الأدبية والتوافق الفكري حول الكثير من المسائل السياسية والحياتية، وها انا اليوم أقف حائرا ، هل من الصائب أن أقيم عملا أدبيا لزميل عايشت إبداعه بكل ما في الإبداع من ارتعاش وأحاسيس جياشة متدفقة؟!هل استطيع ان أضع نفسي خارج عالم جورج الأدبي والفكري؟ هل استطيع ان اكتب عن قصصه بتجرد من العلاقة الشخصية والصداقة الطويلة بيننا ؟

عايشت الكثير من قصص جورج غريب وشعرت مع إعادة قراءتي لها انها تكاد تكون جزءا مني، خاصة قصص المرحلة الأولى..فانا عشت أيضا انفعالاته التي قادته لإبداعها.

تناقشنا مرات عديدة حول اختياره للجملة المعينة ورسمه للشخصية المعينة واختياره للنهايات، فهل استطيع أن أتجرد من كل ما يربطني بشكل شخصي بإبداعه  لأكتب نقدا،وانأ لست بناقد، أو حتى لأكتب استعراضا ثقافيا دون أن أتأثر من معايشتي الأدبية لولادة قصصه؟ أو فقدان مصداقيتي الثقافية بسبب صداقتي الطويلة معه، خاصة واني كنت المشجع الوحيد له ليطبع مجموعته القصصية ؟ شعورا كان وما زال ان قصص جورج قريبة مني بكل ما يحيطها من أفكار وسرد وأحاسيس.

رغم ذلك لا بد  من كلمة حق، جورج كان يعرف كيف يتغلغل لأعماق النفس البشرية بحسه الإنساني، محاولا ان يكشف أعظم ما في الإنسان من أفكار ومشاعر ومواقف، احيانا كثيرة تبدو قصصه تاريخا بلغة الأدب، أبطاله وبطلاته التقيناهم ونلقاهم في أحياء الناصرة وأسواقها وشوارعها، أوضح نموذجا على ذلك شخصية سعدية، برأيي ان جورج أبدع وخلد إحدى الشخصيات المسحوقة بقصة مليئة بالحس الإنساني والفهم العميق للواقع الاجتماعي المشوه الذي أفرز مثل هذه الشخصية وغيرها، في قصة  أخرى بعنوان "خيانة زوجية" يقدم نموذجا عشناه لتصرفات السلطة  ولتصميم شعبنا على تلقين زلمها درسا.

اعتقد ان القسم الأول (المرحلة الأولى) من قصص جورج غريب أجمل ببنائها الدرامي  وعفويتها من القسم الثاني، قد يكون صمت جورج الطويل ، الممتد من عام 1967( عام نكسة العرب ، ترى ما دورها بانتكاس الكاتب عن الإبداع؟)وحتى بشائر الانتفاضة في عام 1989 سببا في ذلك.

التوقف الطويل يضعف قدرات الكاتب وفنيته، يحد كثيرا من عفويته الأدبية، وهي أزمة واجهها عدة كتاب كنت للأسف أحدهم  ولكنه موضوع آخر.

قصص جورج عن الانتفاضة رغم جهده لتحديد هويته الفكرية، وجهده لمحاولة رؤية ضميرية، وتفاؤله الواضح من انتصار قضية الشعب الفلسطيني، كانت اضعف فنيا من قصص المرحلة الأولى، بقيت تدور في إطار الكتابة الحماسية عن الانتفاضة، وهو مميز للأكثرية الساحقة من قصص الانتفاضة لمعظم الكتاب. أقول ذلك رغم انه ينجح في مقاطع كثيرة بتقديم لوحات جميلة فنيا، محاولا كعادته الكشف عن عمق إنسانية المنتفضين.

لم ينشر جورج في مجموعته كل أعماله القصصية، بل ذهب إلى الاختيار، وأنا أريد ان افهم من ذلك انها إشارة بأنه يفكر بإصدار مجموعة أخرى(لكنه لم يفعل) . حقا انه مكسب هام لأدبنا المحلي ان يطلق جورج سراح قصصه، فهو كاتب يمثل مرحلة هامة من مراحل تأسيس قصتنا المحلية القصيرة. كان من أوائل الكتاب الذين تعاملوا مع القصة القصيرة بصفتها لونا قائما بذاته، عمل على تطوير فنية القصة القصيرة، من الأسلوب الشبيه بالريبورتاج الذي ميز الكثير من السابقين ، إلى بدايات هامة في تطور القصة القصيرة الفنية، وهي من العلامات المميزة لهذه المجموعة القصصية ، والمؤسف انه تأخر كثيرا في إصدارها.

آلمني جدا نسيان الناقد د. حبيب بولس في كتابه "انطولوجيا القصة المحلية القصيرة" لأسم جورج غريب وقد وعدني بإصلاح ذلك في الطبعة الثانية التي لم تصدر وفارقنا الناقد بولس قبل سنوات وهو في قمة عطائه. نفس الأمر ينسحب على كتاب "تراجم وآثار" تأليف د. محمود عباسي وشموئيل موريه، كذلك كتاب "أعلام من أرض السلام" لعرفان أبو احمد، بينما شملت الكتب الثلاثة  من هم ما دون إبداع جورج غريب في الكم والكيف.

بالتلخيص: نحن أمام مجموعة قصص غير عادية في ثقافتنا المحلية، تحمل نكهة فنية خاصة، تحمل معاني خاصة كثيرة  أدبيا، سياسيا وتاريخيا هي جزء من التاريخ الأدبي والفني لقصتنا المحلية القصيرة، جورج بإطلاق سراح حكاياته، بعد اسر طويل يقدم خدمة لقصتنا المحلية ولأدبنا المحلي  ولحركتنا الثقافية، أمل ان يكون إصدار هذه المجموع محركا ودافعا للكاتب جورج غريب على تجديد نشاطه الإبداعي ، لعلها فاتحة بعودة عدد لا بأس به من فرسان القصة القصيرة، الصامتين منذ فترة طويلة للنشاط مجددا.

            nabiloudeh@gmail.com

 

 

اعلان عيد البشارة

عيدا رسميا في الناصرة

عودة الى اجمل ما في تقاليد الناصرة

نبيل عودة

 

*لفتة علي سلام هي لفته انسانية هامة جدا*

 عيد بشارة العذراء مريم هو عيد الناصرة الأهم عبر كل تاريخها

*صفحة من يومياتي عن عيد البشارة:يا عدرا يا ام المسيح ارفعي عنا التصاريح*

 

نبيل عودة

 

فاجاني مجلس الطائفة الارثوذكسية في الناصرة باعلانه انه ليس من صلاحيات رئيس البلدية علي سلام الاعلان عن البشارة عيدا رسميا للناصرة. اعتقد ان المجلس يذهب بعيدا في مواقف غير جوهرية الهدف الظاهر منها الوقوف ضد رئيس البلدية على سلام. هذا الموقف لا يعبر الا عن مواقف لا تمت بصلة لمجمل مواطني الناصرة.

علي سلام انتخب رئيسا بفارق 10400 صوت عن الرئيس السابق الذي نعتز به أيضا وبما انجزه لمدينة الناصرة، الهدف ليس مناطحة رئيس البلدية ببيانات رفض وادانة، انما مد اليد والتعاون لما فيه خلق اجواء انسانية تسهل على البلدية خطواتها في خدمة المواطنين.

ان لفتة علي سلام هي لفته انسانية هامة جدا ، يعيد فيها للناصرة احد اهم اعيادها.

الموضوع أعزائي ليس دينيا كما طرحه مجلس الطائفة الأورتوذكسية في الناصرة. عيد بشارة العذراء مريم هو عيد الناصرة الأهم عبر كل تاريخ مدينتنا.. وعبر كل تاريخ ظهور المسيح والدين المسيحي وانتشاره العالمي..

قد تكون ذاكرتكم قصيرة.. لكن الناصرة كانت دائما تعتبر هذا العيد من أهم اعيادها وأكثره فرحا انسانيا وتكاملا اجتماعيا بين كل اهلها من جميع الطوائف.تاريخ الناصرة هو تاريخ البشارة اذا صح هذا التعبير. وكل خطوة تقوم فيها بلدية الناصرة لإضفاء صفة رسمية على عيد البشارة عيد الناصرة المميز، هي خطوة مباركة وهامة.

تعالوا احدثكم عن قيمة يوم البشارة في حياة الناصرة وجميع اهلها من كل الطوائف.

*****

من ذكرياتي عن عيد البشارة

يا عدرا يا ام المسيح ارفعي عنا التصاريح

 

الناصرة مدينة المسيح كما تعرف، لها عيد خاص هو عيد البشارة، "عيد الناصرة" كما يسمى... حين بشر الملاك جبرائيل العذراء مريم انها ستلد ابن الله يسوع المسيح.

لهذا العيد قيمة خاصة في الناصرة.. كان يجري الاحتفال البارز في كنيسة البشارة للروم الأرثوذكس ، يحضر البطريرك الأورتوذكسي من القدس، عادة بعد الصلوات الرسمية يقام احتفال في ساحة الكنيسة الرحبة يحضره كل مواطني الناصرة من كل الطوائف، هذه هي ابرز قيم ذلك العيد واعياد الناصرة التي لم تعرف التفرقة بين مسيحي ومسلم. اصلا من كان ينتبه الى كون ذلك الشخص مسيحيا او مسلما؟ لاتينيا او كاثوليكيا او اورتوذكسيا؟ كنا ابناء وطن واحد منكوب ـ اعيادنا واحدة ، فرحنا واحد وألمنا واحد..

كانت تعقد دبكة في ساحة كنيسة البشارة يشارك بها المئات من كل الطوائف وكيف لا والناصرة بلد التفاهم والمحبة.كان الاحتفال يتميز بشعبيته ، تقوم حلقات الدبكة، والمميز الأكبر كان مشاركة سيافان من عائلة مزاوي النصراوية يرقصان بشكل فني بالسيوف لتصبح السحجة حولهما حلقة واسعة يشارك فيها اهل الناصرة كتفا الى كتف.. وكانت تتوارد قناني العرق من اهل حارة الروم وخاصة من طيب الذكر اسحق كردوش.

تفتح القناني ويخلط بعضها بالماء لتدور على الجميع، الجميع يشرب، واعني المسلمين والمسيحيين... والسحجة تصبح اكثر حماسية، السيافان يبدعان ب "القتال" الراقص .. والعرق يتدفق من كل النواحي.. ثم تبدا المسيرة من ساحة الكنيسة الى دير المطران (كنيسة القلاية) يتقدمها كشاف الروم الذي يضم شبابا مسيحيين ومسلمين يسيرون امام موكب المطران وضيفه البطريرك الي دير الروم في مدخل سوق الروم،وورائهم المئات او الآلاف في سحجة اولها وصل قرب دير الروم وآخرها ما زال قرب كنيسة البشارة.

 المسيرة (السحجة) التي بدأت كاحتفال ديني تتحول بدون مقدمات الى تظاهرة سياسية يطرح فيها المحتفلين هموم حياتهم ويعبرون عن غضبهم من الظلم والتمييز العنصري بأبشع صوره في تلك الأيام، خاصة نظام الحكم العسكري الذي يضيق الخناق على عمال الناصرة(والعرب في اسرائيل بشكل عام) بقانون التصاريح التي تقيد حركتهم وتستعمل احيانا كجهاز للانتقام من "السلبيين" الذين لم ترهبهم الاعتقالات والتضييق على الأرزاق.. وواصلوا نضالهم ضد تعسف السلطات العنصرية رغم الثمن القاسي الذي دفعوه هم وأبناء عائلاتهم.

كان عيد البشارة مناسبة للتعبير عن واقعنا الصعب ايضا.. وتمجيدا للمسيح في مدينته التي أعطيت فيها البشارة بميلاده.

بدون مقدمات تنطلق الهتافات المحبوسة بالصدور ضد الحكم العسكري وتعسفه وتصاريحه .. وتنطلق الأهازيج الوطنية والزغاريد وتتحول الدبكة التي يصطف فيها الرجال والنساء جنبا الى جنب الى تظاهرة عفوية... كانت صفوف السحجة  تمتد من ساحة كنيسة البشارة حتى مدخل دير المطران.. أكثر من 3 كيلومتر.. ويرقص المحتفلون بعيد البشارة ويطلقون اغاثة للعذراء مريم سيدة البشارة:

يا عدرا يا أم المسيح ارفعي عنا التصاريح

ستي يا عدرا نجينا من الحكم العسكري خلصينا

يا عدرا احمينا احمينا احنا الك التجينا ( أي التجأنا)

هذه بعض الأبيات التي أتذكرها. سالت كبار السن لعلهم يتذكرون، للأسف ضاعت بقية الأبيات..

بعد ان تفرغ قناني العرق ، التي لا تخلو منها السحجة والتي لها حصتها في الغزل مثل: "اللذة مش من اول كاس اللذة بقاع القنينة" وغيرها من أغاني الغزل بالعرق يبقى الهم الوطني...

ما بقي ان أذكره ان الشرطة لا بد ان تعتقل مساء بعض المتظاهرين الذين بحت اصواتهم وهم يهتفون ضد الحكم العسكري ويناشدون ام المسيح ان ترفع عنهم التصاريح!

مثل هذا العيد  هو عودة الى اجمل ما في تقاليد الناصرة ... ويستحق علي سلام ان نشكره لإقراره عيد البشارة عيدا رسميا.

 

nabiloudeh@gmail.com

 

 

 

 

 

 

 

 

 

هل التطرف الديني بديل

 لعصر التنوير العربي؟!

نبيل عودة

 

*الثقافة العربية نقلت مفهوم الحداثة بشكله وليس بمضمونه* اصوات الفئات المتنورة لا تصل لمن نشأ في ظل نفي العقل* ما يشغل العالم العربي ليس العمران انما الحد من التطرف الديني* الحداثة هي حرية الإرادة* الاستبداد السياسي يندمج مع استبداد ظلامي يتحدث باسم السماء* صراخنا حول تراثنا وحضارتنا هو تمويه للحقيقة وخداع للنفس*

 

بقلم: نبيل عودة

 

ظهر مفهوم الحداثة في الحضارة الغربية قبل حوالي قرن من الزمان، حيث أطلقت العقل من قيوده، محدثة أهم نهضة في تاريخ البشرية. حررت الفكر من الكهنوت الديني ومحاكم التفتيش وقمع العلم، اعتمدت المنطق العلمي والبحث طريقا  وتخلصت من فكر الخرافات والخوارق

الثقافة العربية نقلت مفهوم الحداثة بشكله وليس بمضمونه، بل والبعض "سبق" المصادر التي انطلقت منها الحداثة  وفسر ما لم يفسر بعد في الغرب، طرح مفاهيم جاهزة اعتمدت الاجتهاد اللغوي بالأساس، لدرجة يبدو ان الحداثة نقلها الغرب عن العرب وليس العكس.

المطلع على فلسفة التنوير الأوروبية ولو خطفا، يجد ان ما قام به بعض انصار الحداثة العرب هو أشبه بعملية اغتصاب فاشلة لفكر لم يجر تجهيز القاعدة المادية الاجتماعية والفلسفية لاستيعاب مفاهيم التنوير أولا ثم الحداثة بشموليتها.

أشغل موضوع الحداثة بال قلة من المثقفين والمفكرين في العالم العربي ، معظمهم  مثقفين تأثروا بالتنوير الأوروبي الذي انطلق مع عصر النهضة (الرينيسانس) قطعا ما كان للحداثة ان تنشأ وتنتشر بدونه. المجتمعات العربية  ركزت اهتمامها  الجوهري  بجانب من التنوير يتعلق بالإبداع الأدبي تحديدا، بسبب غياب فرص الحداثة الاجتماعية، الإقتصادية والسياسية، بالتالي جرى فصل مفهوم الحداثة عشوائيا عن جغرافيتها  وبيئتها ومسيرتها الحضارية  وما أحدثته الحداثة من انتشار واسع لفلسفة التنوير،  يبدو انهم حاولوا استباق العملية التاريخية المفترض ان تبدأ بعصر تنوير عربي، كانت له بدايات لم تكتمل بدأتها مجموعة من التنويريين العرب، لتحرير العقل العربي من قرونه الوسطى.

  كانت تعابير الحداثة  التي أطلقها المثقفون العرب في مجتمعاتهم أشبه بالحلم للتخلص من الماضوية التي تعيق انطلاقة المجتمعات العربية نحو آفاق حضارية جديدة.. الملاحظة الصعبة ان ما يشغل العالم العربي ليس العمران انما الحد من التطرف... ومن العصبية الدينية .التي أفرزت أخيرا ظاهرة "الدواعش" ومرفقاتها...

 الوعي الجماعي غائب عن الصورة. اصوات الفئات المتنورة لا تصل الى عقول نشأت في ظل نفي العقل لحساب النقل والتلقين. احيانا من المستحيل ان نفهم انضواء أوساط أكاديمية في تحصيلها تحت لواء التطرف الديني الأكثر بشاعة وإجراما!!

ان الحداثة في الادب والفكر والحياة ، لم تكن وليدة ظاهرة شكلية ، انما نتيجة عملية تغيرات وتطورات شملت العلوم، الثقافة، الاقتصاد والمجتمع البشري نفسه، بحيث احدثت نقلة نوعية غيرت كل افكار ومفاهيم  القرون الوسطى البالية باكثريتها وطرحت مكانها افكارا وموازين تعتمد على العقل والمنطق والعلم والمعرفة لذا ليس بالصدفة ظهور فلسفة التنوير الأوروبية بفلاسفتها العظام ديكارت، هيغل، فولتير، كانط ، سبينوزا، لوك، نيتشه، سميت، ماركس وغيرهم  كمحرك عاصف للتغيير اعادوا بناء الوعي الاجتماعي والعلمي والديني والثقافي واعتماد منطق التغيير والرقي بدل منطق الارتداد الماضوي وانتظار الفرج من السماء بوهم انه طريق الخلاص

في الثقافة العربية ينتشر خلط مضحك بين المفاهيم والاصطلاحات التي لم تنشأ اصلا في الفكر العربي ، بالتالي  ظاهرة الحداثة لم تخترق بقوة محركاتها المجتمعات العربية  التي ظلت على جهل مريع بمفاهيم الحداثة التي تقودنا جذورها التاريخية الى عصر التنوير الاوروبي،  الذي بدأ قبل 300 - 400 سنة بينما  مفهوم الحداثة  واصطلاح الحداثة نفسه ظهر في المائة سنة الأخيرة فقط.

مثلا لماذا لا نقول ان الحداثة هي حرية الإرادة؟ الم تكن حرية الارادة منقوصة تحت سلطة الكهنوت الديني في اوروبا حين كان المجتمع الأوروبي يعاني من التخلف والاستبداد السياسي والديني؟ بالتالي لم يكن الانسان يتصرف بناء على ارادته الحرة.. وهي حالة لم تغب  من مجتمعاتنا العربية اليوم ، انما تزداد عمقا خاصة بسقوط الربيع العربي بأيدي كانت هي نفسها حليفا ومنتجا للواقع الفاسد الذي جعل الجماهير تخرج غاضبة تطالب بإسقاط الأنظمة التي أملقتها حتى النخاع..أطلق عليه اسم الربيع العربي، لكن هل من ربيع بدون ان يسبقه عصر تنوير حتى لو كان ضد النظام السياسي السائد؟

رؤيتي متشائمة أكثر بسبب تعمق ظاهرة الإملاق والاستبداد بسيطرة ما هو أسوأ من الاستبداد السياسي ، استبداد ظلامي يتحدث باسم السماء ولا يتردد في اعتبار معارضته خروجا عن الإرادة الإلهية ويمارس أبشع أنواع الجرائم ضد الإنسان وضد التاريخ.

لا بد من التحديد أن تحرير الارادة هو ما يجعل الانسان كائنا أخلاقيا، لأن حرية الإرادة تعني بالأساس ان الانسان قادر على تحديد تصرفاته بنفسه، وقادر على التمييز بين الخير والشر  والأخلاقي واللاأخلاقي  وتحمل مسؤوليته عن نشاطه وابداعه بالمفاهيم الأكثر شمولية للمجتمع.

 اهتمت فلسفة التنوير بموضوع حرية الارادة، اعطت تفسيرات عديدة لا مجال لبحثها هنا ونلاحظ ان مفهوم الإرادة كان ضمن اهتمامات الفلسفة الإغريقية القديمة ايضا.

في العالم العربي نتحدث عن اصلاح برامج التعليم التي تفتقر للتحديث ولم تعد تلائم حياتنا المعاصرة وتنشئة جيل قادر على مواجهة تحديات القرن الحادي والعشرين يعاني العالم العربي من فجوة علمية آخذة بالاتساع مع عالمنا اليوم.

مجتمعاتنا العربية تفتقد لأول شروط الحداثة : تحرير ارادة الانسان العربي أولا، نشر الديمقراطية  وحق التعددية الثقافية ، الدينية والسياسية . ما يقلق ان الربيع العربي يُخطف من قوى ترفض التنوير وترفض كل المفاهيم الديمقراطية والتعددية الفكرية والثقافية.. وتستبدلها بسكينة الذبح لكل من هو مختلف .

مع الأسف ارى ان الحداثة  بمفهومها الاجتماعي ،السياسي ، المادي ، الحضاري والديني ظلت مستبعدة  وغير قادرة على اختراق الحواجز العقائدية المتصلبة الماضوية للمجتمعات العربية

المحافظون المتعنتون يحاربون الحداثة، اي يحاربون التغيرات الاجتماعية والثقافية بالتمسك، كما يدعون.. بالاصالة والتراث والتقاليد ...(بعضهم باستعمال الخنجر) السؤال : هل تتناقض الحداثة مع الاًصالة والتراث ؟ اليس التراث واصالته  هو نتاج حداثي في عصرة ؟

هناك قاعدة اساسية للحداثة ،هي قدرتها على نقد ذاتها بعد كل مرحلة ، تصويب الخطأ ومواصلة الانطلاقة . الفكر الحداثي لا يطرح نفسة كفكر نهائي ثابت معصوم عن الخطأ، بل كمرحلة مرافقة للتنوير، حررت ارادة الانسان وأطلقت طاقاته الإبداعية في جميع مجالات الحياة .

هل يمكن تحقيق الحداثة بدون حرية اجتماعية وفكرية؟ بدون مساواة وتعددية ثقافية؟ بدون تطوير العلوم والتعليم؟ هل يمكن تحقيق الحداثة بدون دولة مؤسسات ورقابة واستقلال السلطات عن بعضها البعض؟ 

ما زلنا في الشرق نعيش على ماضينا نجتره ونحوم حوله، كل صراخنا حول تراثنا وحضارتنا هو تمويه للحقيقة وخداع للنفس ، ما زلنا عالقون في "الصواب الموروث".... والصورة تبدو سوداوية , لكن الصورة لم تكن اقل سوداوية في اوروبا القديمة قبل بداية عصر التنوير!!

nabiloudeh@gmail.com

 

 

 

 

 

 

 

 

نتنياهو قوميسار

 ثقافي جديد في إسرائيل

 

نبيل عودة

 

رغم ان جائزة إسرائيل للآداب لا تخصنا نحن المواطنين العرب، إلا ان الطريقة التي تصرّف فيها رئيس الحكومة بيبي نتنياهو تشير إلى ما هو أكثر خطرا وأبعد كثيرا من مجرد جائزة أدبية. تبرز التفكير الفاشي الذي يسود مؤسسات سلطة نتنياهو بكل ما يتعلق بالثقافة وحرية التعبير وحق الرأي وحق الاختلاف.

على إثر تدخل مكتب رئيس الحكومة نتنياهو في تركيبة لجنة جائزة إسرائيل للآداب، وقيامه بفصل اثنين من أعضاء لجنة التحكيم، لأنهما ضد الاحتلال وضد الخدمة العسكرية الاحتلالية، تفكّكت اللجنة إثر استقالة أعضائها احتجاجا على سلوك نتنياهو وإقحامه لمعايير غريبة عن الثقافة في إجراءات اختيار اللجنة وأسماء الذين يستحقون الفوز بالجائزة. كتب المستقيلون إلى المسؤول عن جائزة إسرائيل في ديوان نتنياهو، دافيد فلابر، ان تدخل نتنياهو هو تسييس لأهم جوائز إسرائيل، وأعقب ذلك سحب أبرز الأدباء الإسرائيليين لترشحهم لجائزة "نتنياهو" ومنهم سامي ميخائيل ودافيد غروسمان.

العاصفة التي أثارها قوميسار الثقافة نتنياهو لم تتوقف هنا. وعقب الصفعة التي وجهها نتنياهو للثقافة والمبدعين أصدر كبار الكتاب والأدباء الإسرائيليين عريضة ضد قرار نتنياهو، من بين الموقعين عليها دافيد غروسمان، ايغي مشعول، حانوخ بارطوف وحاييم غوري. طالبوا فيها نتنياهو بالتراجع عن قراره والسماح لجائزة إسرائيل بالبقاء محترمة تحترم الأبحاث والإبداع في الثقافة الإسرائيلية”.

هذا التصرف أعاد إلى ذاكرتي مرحلة بائسة من العهد السوفيتي، حين كان مستشار ستالين للثقافة أندريه جدانوف ينظّر بطريقة مماثلة للآداب والثقافة عامة تتطابق تماما مع تفكير ونهج السيد نتنياهو، الذي يريد ان يفرض نهجه الديكتاتوري على الإبداع الأدبي والثقافي في إسرائيل بجعل الإبداع الأدبي متماثلا مع سياسة اليمين المتطرف، مع سياسة الاحتلال، الحصار، القمع  وسياسة التمييز العنصري. جدانوف وصم مرحلة كاملة باسمه وصفت بـ "الجدانوفية"، فرضت على الأدب السوفييتي نهجا انغلاقيا ألحق الضرر بالدولة السوفيتية واشتهر جدانوف بصيغة "قوميسار الثقافة" وهو تعبير عسكري.

من موبقات نهج تأميم العقول وقمع الإبداع الثقافي السوفيتي الذي تواصل بعد ستالين ايضا (الذي يكرره نتنياهو بصيغة إسرائيلية) كان طرد وتجريد  الكاتب الكبير سولجينتسين من جنسيته السوفيتية عام 1974 وهو في منفاه، وتعرض الشاعر والروائي بوريس باسترناك لحصار شديد لقيامه بكتابة روايته الرائعة "دكتور جيفاكو" التي منعوا نشرها في وطنه وكان تبريرهم في منعها أنها تسيء إلى الثورة البلشفية، المضحك ان منعها صدر عن المنظر الأيديولوجي للحزب ميخائيل سوسلوف من دون ان يقرأها وإنما اعتمد على إيجاز لها كتبه احد قوميسارات الثقافة  فاضطر أصدقاء باسترناك إلى تهريب "دكتور جيفاكو" إلى الغرب ونشرت الرواية هناك ومنح باسترناك جائزة نوبل للآداب عنها، ثم تحولت الرواية إلى فيلم سينمائي قام ببطولته عمر الشريف. الرواية لم تكن أبدا معادية للثورة البلشفية، إلا إذا اعتبرنا نقد التصرفات الغوغائية عداء.

قوميسارات الثقافة وانغلاقهم وحصارهم لكل ما يكتب وينشر كان وراء انتحار  الشعراء سيرغيه يسنين، آنا اخماتوفا وماياكوفسكي، عدا نفي وسجن عشرات المبدعين ومنع نشر أعمالهم.

اشتهرت الجدانوفية في العالم كرمز للقمع الثقافي وقمع المبدعين الذين لا يلتزمون بتوجيهات وقيود جنرالات الثقافة.

تميز اندريه جدانوف مثل نتنياهو بنظرته المتصلبة للثقافة والإبداع الثقافي والفني، في وقته طرح رؤية سياسية طبقية متزمّتة للأدب اعتمد فيها  شعار الفن في خدمة المجتمع/ نتنياهو يطرح رؤية متصلبة ضد الأدب الذي لا يخدم الاحتلال والعنصرية الإسرائيلية. جدانوف كان قصده خدمة النظام القمعي القائم، تدخّل في الكثير من الأعمال الأدبية والفنية لفرض شخصية البطل من مفهومه الطبقي الستاليني المنغلق، الذي ألحق الضرر بالفكر الماركسي نفسه، منع نشر عشرات الروايات السوفيتية الرائعة، التي لقيت رواجاً كبيراً عند نشرها، بعد فترة ستالين. نتنياهو ديمقراطي، لا يمنع نشر الأدب الذي ينتقد سياسته واحتلاله، كل ما هنالك انه لا يريد الأدباء المعارضين لنهجه اليميني المتطرف في المشهد الثقافي الإسرائيلي، بالتالي لا يستحقون جائزة إسرائيل للثقافة لأنها يجب ان تكون جائزة القوميسار نتنياهو للثقافة.. ربما يريد ان يحول الأدباء إلى جامعي قناني فارغة للبيع...

الجدانوفية في الأدب والفنّ أصبحت تعبيراً عن قمع حرية الإبداع وحرية الفكر وحق التعددية الثقافية وألحقت الضرر بالأدب السوفيتي وبنظرة العالم للدولة الاشتراكية/ نتنياهو لم يقع بعيدا عن مفاهيم جدانوف الثقافية بظنه انه المؤهل للتنظير الثقافي، فخرج بصبغة استبدادية جدانوفية ضد أدباء أصحاب ضمير يرفضون الاحتلال وقمع حقوق الإنسان ومن أجل المساواة والتحرر.

أكاد أرى جدانوف يتحرك في قبره، ويتمنى أن يجد وظيفة في مكتب رئيس الحكومة نتنياهو إذا فاز مرة أخرى بالعودة لرئاسة الحكومة..

nabiloudeh@gmail.com

 

 

 

نصوص قصصية متمردة

نبيل عودة

 

ملاحظات: أشغلني موضوع القصة القصيرة جدا تنظيرا وحوارا مع مواقع عدة، وقمت بتجارب تخلصت من معظمها رغم انها بنظر زملاء مقربين فيها من روح القصة أكثر مما ينشر من نفس اللون طبعا نشرت عدة قصص قصيرة جدا تحت تسمية "قصقصات". في هذه القصص تجاوزت حدود القصير جدا. احدهم قال لي ان مشكلتي هي جهلي بتكثيف اللغة. سألته ما هو التكثيف؟ فأورد كلاما غيبيا مضحكا حول الجمل القصيرة وعدم الإطالة، ومبنى الجمل الذي يشمل أفكارا مضغوطة بكلمات قليلة.. قلت له يا مكثف اللغة، انت تطرح موضوعا لا علاقة لك به، لا يوجد أي كاتب يصيغ نصوصه إلا بأجمل ما يقدر عليه من لغة قصصية درامية وقصة تكثيف اللغة اصطلاح فارغ من المضمون.. يستعمله بعض من لا يفهمون دور اللغة في النص القصصي. لا توجد لغة عادية ولغة مكثفة. يوجد من يعرف استعمال اللغة على أحسن وجه، ومن يغرق بالديباجة القاتلة للغة القصصية ، ومن لا يستوعب ان للقصة لغتها الدرامية حتى لو كتبت بلغة الأخبار الصحفية (وقد جربت هذا الأسلوب في قصة "انتفاضة" وغيرها).. اللغة تكشف أسرارها  لمن يعرف كيف يتعامل معها ويطوعها. عندما اكتب قصة استعمل أفضل ما لدي للتعبير القصصي ، وعندما اكتب مقالا ثقاقيا، فكريا او سياسيا اشدد على وضوح رؤيتي بما اطرحه مستعملا أكثر المفردات دقة ووضوحا طبعا القصة القصيرة جدا لم تثبت نفسها من الناحية الفنية والدرامية. هذه نصوص بدأتها كنصوص قصيرة جدا، فتمردت على خالقها...أصبحت غير قصيرة جدا!! 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 - ملـــوك خالـــدون

 

تنشقت الرياح السامة، بلغت الأفق ولامست السماء. تدحرجت وراء الأضواء المتشابكة الألوان

غابت الشمس بقفزات.. وساد ظلام.

تضخمت المسيرة وتضخمت. علت هتافات من كل الأطراف. جمعت الكلمات .. فتاهت مني المعاني

سرت في متاهات الأرض. خضت في الشبق الإعلامي. توسمت النصر من عروش الأرض وسلاطين العرب.

انتظرت. ما زلت انتظر.. ماذا أنتظر؟!

ذهبت لعرافة في عاصمة باردة.

أشعلت النار وفنجرت عينيها. أرغت وأزبدت. حامت حول نفسها وحولي وحول النار. تمتمت بكلمات مفهومة وكلمات غير مفهومة. ثم زعقت رافعة يديها إلى الأعلى:

- لن يبقى إلا أربعة عروش لأربعة ملوك... 

- ملوكنا يا سيدتي؟

- بسبب ملوككم يا أغبياء ستسقط كل العروش.. وتبقى ملوك الورق.

- وجمهورياتنا الملكية يا سيدتي..؟ 

سألت كأبله. سح عرقها وهي تتأملني بغضب. طردتني من بيتها. أوصدت الباب دوني وهي تزعق:

- ملوك الورق خالدون... لا شيء غير ملوك الورق

فحرت في أمري.. أعيتني معاني الكلام ، فجلست أستريح وأتأمل!!

 

2نرسلها لك بسعادة....

 

رن التلفون في آخر الليل، كان المتحدث "زامر المسلح"، فقيه الأدب، ما كدت أقول حرفاً إلا وكلماته تتدفق.

وصلت لصانع شواهد القبور؟

أجل، لكن ما العجلة لتتصل في هذه الساعة؟

أريد أن تجهّز لي شاهد قبر.

حسناً تعال غداً...

ولكن المرحومة عزيزة علي، وأريد أن أطمئن إلى أني في العنوان الصحيح.

يا حبيبي، هل تعرف كم الساعة الآن، الصباح رباح... نحضر لك بدل الشاهد شاهدين.

لا فقط واحد... هل انقلك النص ؟ رأيت أن الشخص بالطرف الآخر لا يسمع إلا صوته، قلت:

هات... ماذا نكتب؟!

أكتب: هنا ترقد الزوجة الغالية نيروز، رجاء يا الهي استقبلها بسعادة مثل ما أرسلها لك بسعادة!!!

 

3 -هنا يرقد رامي سعيداً

 

 كان رامي يحب الحياة ويحب المناصب ولو على خازوق.

تقدم به العمر وهو مكانك عد.

كان ينظر حوله ويشتاط غضباً. كلهم صاروا حملة ألقاب وهو ما زال قطروزاً رغم شعوره أنه أفضل من الجميع، وشهاداته تملأ حيطان الديوان.

كان يغضب حين يقال أن فلاناً أنهى الجامعة ونال لقب جامعي وما هي إلا بضع سنوات واذا هو في القمة... وأنت يا رامي مضت سنوات عمرك بلا فائدة، رغم شهاداتك وثرثرتك.

كيف ينجح الآخرون، وانت مكانك عد؟!

قضى جل أيام عمره غاضباً. ربما لهذا السبب تعقدت دروب الحياة أمامه أكثر.

عندما تقدم به العمر، وبات يتحرك بصعوبة، فكر وقال لنفسه لا بد أن أجعل من موتي حدثا لا ينسى اخوزق به الجميع ، عندها سيعرفون ان رامي كان ذكيا جدا.

قبل موته بيومين انتهى من كتابة وصيته، ولأول مرة يشعر بالرضاء عما أنجزه، قال المعزون:

أخيراً انتقل إلى ربه راضياً مرضياً.

المفاجأة كانت في وصيته التي فتحت بعد انتهاء مراسيم العزاء. كتب كلمات قليلة:

انقشوا على شاهد قبري كفة يدي مضمومة الأصابع إلا الاصبع الأوسط بارزاً إلى أعلى وتحتها "هنا يرقد رامي سعيداً"!!

 

4احذر أن تقربه

 

كان الحوار حاداً حول الميت المسجّى. زامر توفاه الله: وهم أهله الوحيدون فهل هم مكلفون بأجره ودفنه بسبب رباط العائلة؟

البعض اعترض وقالوا أنهم براء من زامر حتى اليوم الآخر، لقد نهب بيوتنا وسطى على أموالنا وأملاكنا، وأبقانا على البلاطة، لتأكل لحمه القطط والكلاب، الأمر لا يخصنا.

قال كبيرهم: يا جماعة الخير مهما كان في دنياه حسابه عند ربه، انه يحمل اسمنا، ونحن نقوم بواجبنا نحو عائلتنا، صحيح أنه نهبنا، ولنعتبر ان مصروفات دفنه هي سرقته الأخيرة لنا.

بل يسرقنا حتى في مماته!!

وبتردد ، وبسبب ضغط كبير العائلة ، دفع كل فرد حصته مجبراً لتغطية مصروفات الجنازة والأجر.

دفنوه، وسارعوا ينهون أيام العزاء بأقل من يومين، لقلة عدد المعزين. كان واضحا ان زامر لم يترك أحدا بعيداً عن شره. كانت يده تطول جميع أهل البلد.

عندما طرح كبير العائلة ضرورة إقامة شاهد على قبره استهان الأقارب بذلك وتذمروا ، قال أحدهم:

اسمه مثل الزفت، حتى لعزائنا بموته لم يحضر إلا نفر قليل، والشاهد يوضع لمن يعزّ على أبناء عائلته.

أصرّ كبير العائلة أنه يعرف ما يعتمل بالصدور، وللعائلة اسمها وكرامتها ولا يمكن أن تتخلى عن شخص يعد من أبنائها، ستصبح سمعتنا في الحضيض.

وهكذا أقنعهم، أو ملّوا النقاش، ووضع كل منهم ما يقدر عليه، وأوصوا له على شاهد لقبره، وقرر كبير العائلة حتى يبرئ ذمته أمام الخالق عندما يحين أجله بأن يكتب على شاهد القبر:

نرسل لك أيها الرب ابن عائلتنا زامر، الذي أفرغ جيوبنا وسرق أملاكنا، نحن غفرنا له ونطلب أن تغفر له أيضا، ولكن إذا غفرت له احذر ان تقربه من عرشك!!.

 

5 - لقاء في الجامعة

 

 

بعد سنوات طويلة من الفراق ، التقى الصديقان اسامة وغالب في الجامعة . اندفعا لعناق بعضهما بشوق .

اهلا اسامة .. مر وقت طويل منذ افترقنا

ثلاث سنوات وكأنها دهر كامل يا غالب

ليتها تعود ايام زمان

ونستعيد ايام الشباب الباكر .

أيام الدراسة الثانوية والعابنا بالحارة

انت غادرت حارتنا

ومنذ ذلك الوقت افترقنا

ماذا تفعل في الجامعة اليوم ؟

وصلت امس يا غالب وهذا يومي الأول ، امامي اربع سنين حتى نهاية الدراسة ، وانت كم تبقى لك لتنهي الجامعة ؟

بقيت  لي الحمامات في الطبقة الأخيرة وانهي ..

 

nabiloudeh@gmail.com

 

 

 

 

 

 

حسين مهنا شاعر يتدفق شعره

كالماء بلا ضجيج ويتغلغل

كالماء في وعي القارئ وأحاسيسه

 

نبيل عودة

 

رصدت ابداعات الشاعر الرائع حسين مهنا، ابن قرية البقيعة قرية الشعراء الجليلية، منذ بدأ ينشر قصصه باسم مستعار في مجلة "الغد"، كنت ارى في قصصه روحا تتجاوز النص الدرامي الى النص الشعري، لم يمض وقت طويل حتى كشف عن اسمه والتزم الشعر منهجا وطريقا، رغم اني كنت اتمنى لو طور ادواته القصصية ليظل معي في ساحتي التي أعشقها أكثر. مع ذلك وجدتني مغرما بنصوص حسين الشعرية،التي تتميز بالبساطة في اللغة والتعابير، القوة في البناء الشعري، الثراء في الصور الشعرية وهو الأهم في تركيبة القصيدة حسب مفاهيمي.

من هنا رؤيتي الأساسية بأن المكانة الشعرية والأدبية التي يتمتع بها الشاعر حسين مهنا، ابن بلدة البقيعة الجليلية، ليست وليدة الصدفة، ليست وليدة علاقات عامة أو ظروف سياسية أو غيرها دفعته نحو الطليعة. فهو لا يحسن تسويق نفسه، انما ما دفعه للطليعة الشعرية في ثقافتنا المحلية، جهد واتقان وعشق للكلمة والنغم واستقامة شخصية وموضوعيته الثقافية. هناك قول لطيف لعلي بن ابي طالب يقول فيه: " لا تطلب سرعة العمل واطلب تجويده، فان الناس لا يسألون في كم فرغ من العمل  وانما يسألون عن جودة صنعته".. وكاني بعلي بن ابي طالب يقصد أيضا حسين مهنا بهذا القول!

في الأيام الأخيرة من كانون أول 2007 صدر للشاعر حسين مهنا ديوانين شعريين.

 الديوان الأول: " تضيق الخيمة... يتسع القلب " ويشمل عشر قصائد وخمس منثورات.

يفتتحه بقصيدة يقول مطلعها:

كأني أراكم

كما قد رأتكم دمائي

على باب ( عاي)

 تشدون خيلا

وتعدون خلفي

ويوم صرختم بباب ( اريحا ):

- تموت... تموت

وراحاب تحيا..!!

حملت الحياة على راحتي

وسرت على مهل أنثر الحب والشعر

سرت.. سرت.. سرت..

انا استزيد الحياة حياة

 وانتم تشدون خيلا

وتبغون حتفي...

 

الديون الثاني: "الكتابان" - ويبدأ بالثاني وينتهي بالأول.

يقول في قصيدة: "تمرين أو لا تمرين.."

تمرّين أو لا تمرّين

قلبي تعود طول انتظارك

انت تعيدين للقلب

 ما قد تناثر،

فوق دروب الحياة

ليصبح شكل الحياة

 جميل التفاصيل،

كي لا تصير الدماء مدادا

وكي لا يظل الحبيب رهين القصيدة.

 

وفي قصيدة: "سموت بحبك.." يقول:

سموت بحبك العذري خلقا

وزدت حضارة وصفوت ذوقا

وطهرني غرامك من ذنوب

تحاصر مهجتي وتشد طوقا

واودع بي جمالا بعد ظرف

وشوقا للحياة فصار عشقا

وعلمني بأن الحب عدل

فلا أشقى ولا المحبوب يشقى

 

هذه مقاطع اخترتها عشوائيا، انا أؤمن ان القصيدة الجيدة لا تحتاج الى "مفسر أحلام"، بل تتسرب كالماء الى وجدان القارئ وتدمجه بأحاسيس الشاعر.

حسين مهنا يثبت ان الشاعر المتمكن من فنه وبصفته، مثقف موضوعي مرتبط بقضايا شعبه، الى جانب مهنيته الشعرية، قادر على الابداع حسب كل الأساليب الشعرية المعروفة... من الشعر الموزون والمقفى وشعر التفعيلة حتى الشعر المنثور. من الاسلوب الكلاسيكي حتى أحدث الأساليب الشعرية الجديدة.

حسين مهنا في ابداعه الجديد يشكل مدرسة ومقياسا للشعر الجيد وللشاعر المبدع  وللمثقف الحقيقي الذي يعيش ويتفاعل مع مجتمعه وعالمه. بهذه المناسبة المخصصة للشاعر حسين مهنا، يروقني ان اعود لديوان سابق له "انا هو الشاهد"، ما زلت اراه من الابداعات البارزة في شعرنا المحلي وقد شدني ذلك الديوان واعادني الى صفحاته مرات عديدة  ولعلي اعود الى ديوانيه الآخرين لاحقا.

ديوانه "أنا هو الشاهد" - صدر عن الأسوار عكا (2001) – يشمل ( 14 ) قصيدة من نتاجه الشعري منذ عام ( 1997)، وهذا بحد ذاته يثبت ان حسين مهنا شاعر يعيش أجواء قصيدته، بحيث تتحول القصيدة الى مهمة يعيشها لمرحلة زمنية، تنمو "بوسائل طبيعية" دون استعمال مسرعات النمو، أو الانتاج "داخل دفيئة"، بحيث نغرق بمنتوجات شعرية قبل موسمها انتجت بوسائل غير طبيعية ربما هنا احدى مشاكل "البضاعة" الشعرية التي تملأ الأسواق، بعضها بلا طعم ولا نكهة، أو أدخلت علية "جينيات" أخرى  فصارت "الشيء وضده".

حسين بديوانه "انا هو الشاهد" هو مدرسة، ليست شعرية فقط، انما حضارية خلقية، الى أن الشعر ليس للدنيا فقط، ليس للآخرة ايضا، انما هو صنعة للارتقاء بالانسان، تطوير فكره وحسه وفهمه وصقل ارادته. هذه مهمة لا يجوز الاستهتار بها، اذا اردنا حقا أن نسمي المولود باسمه.. لأنه لا أجمل من أن يكون الانسان شاعرا، أو مبدعا تبعث لمساته الحياة حتى بالجماد.

على غلاف ديوانه يؤكد حسين مهنا ما أرمي اليه، انما بلغته، لغة الشعر، الذي أثمر على شجرته، دون أن ترهق الشجرة بالمبيدات وتسريع النمو:

على هذه الأرض نبني

كما لا يحب الغزاة

ونرعى على مهل مجد أجدادنا.

 

ويقتبس حسين من انجيل "يوحنا" في كتاب "العهد الجديد"، قوله: "وأيضا في ناموسكم مكتوب ان شهادة رجلين حق، أنا هو الشاهد لنفسي ويشهد لي الرب الذي ارسلني"، فهل يستطيع أحد بعد ذلك أن ينفي صفة الشاهد عن حسين مهنا؟

حقا حسين هو شاهد، شاهد على حكاية وطن تمزق شغاف القلب:

 

كانت هنا قرى تعبق بشذا فلسطين

قرى تفردت بعرائش سطوحها..

بكرومها..

بأهلها الطيبين.

 

هذا ما جاء في بداية قصيدته الاولى "في البدء" وانظروا الى العلاقة هنا بين "أنا هو الشاهد"، والمرافعة دفاعا عن كونه شاهد، مستندا لانجيل "يوحنا واسم القصيدة الاولى "في البدء"... و"في البدء كانت الكلمة" - افتتاحية التوراة وصولا الى فلسطين، الكلمة الاولى في قاموس اهلها الباقين والصامدين والمقاومين، لكن بنفس الوقت نشعر في قصيدته هذه روح البكاء على الأطلال: "قرى بلادي وقصائدي".

أما قصيدته الثانية "يورثون الحياة انتصارا" فهي نقلة نوعية من حالة حزن الى حالة فرح وغناء وحب يتدفق كالشلال. قرأت هذه القصيدة مرات ومرات.. بطرب حقيقي. ينجح حسين هنا بأخذ القارئ/ المتلقي الى رحلة في ذات محب:

 

وأذكر يوم وثبت لأقطف زهرة القرنفل

كيف نقزت وكنت وراء الأصيص

وصحت:

تلطف!!

فما هكذا يؤخذ الورد يا ذا؟!

 

انتبهوا هنا للطافة وملاءمة تعبير "نقزت" (جفلت) العامي، وأظن أن هذا الاستعمال فرضه نمو القصيدة واكتمالها نضجها الطبيعي وغير المصطنع.

ويواصل رحلته:

فوددت لو اني اقبل دارك...

 

هذه الجملة تذكرني بعنترة العبسي الذي خاطب حبيبته بقوله:

فوددت تقبيل السيوف لأنها / لمعت كبارق ثغرك المبتسم.

 ويواصل حسين:

ستأتيك امي قبل الغروب

لتقطع قول الوشاة

وليت أباك يقرّ بأني "شيخ الشباب"

واني جدير بزين الصبايا

ونفرح

نفرح

هذا الجليل يحب الزغاريد.

 

وهنا يكاد يقول انه لولا ان الجليل يحب الزغاريد  لما كان الحب..

ويقول:

هذا التراب الزكي شغوف

بمن يزرعون

ومن يحصدون

ومن يعشقون

ومن ينجبون

ومن يورثون الحياة انتصارا

لجيل جديد

 

هذا الحب يعيدنا الى انسانيتنا، الى الزمن الذي كان فيه الفتى يطوف حول بيت حبيبته عاما كاملا يفرح ان رأى وجهها، فاذا ظفر منها بمجلس، تشاكيا وتناشدا الأشعار. أما اليوم، وهذا يبرز في الكثير من شعرنا الحديث، فاذا التقاها، لا يشكو حبه أو ينشد الشعر، انما يطلب الوصل، بحيث تحول الحب في معظم شعرنا الى بضاعة، يقرر سعرها العرض والطلب، بينما الحب الذي يختلج بأعماق حسين لا يباع ولا يشترى.

قصيدته "أراك كما لا تراك العيون" هي قصيدة غزل في قريته البقيعة:

"البقيعة قريتي وكل قرية في بلادي بقيعة"

 

 ومع ذلك:

وآها لتلك السنين الخوالي العذاب

قريبا من القلب

نبض فلسطين كان

 

هذه القصيدة تركت لدي شعور انه في حبه الكبير لقريته، هناك نوع من الألم والمرارة أيضا، على تلك القرية التي تيتمت من "نبض فلسطين ومن آلام "جرح الجليل".

يذكرني هنا بقصيدة الشاعر الراحل سالم جبران:

"كما تحب الأم

طفلها المشوه

احبها

حبيبتي بلادي"

 

ربما ليس بالصدفة ان سالم من البقيعة ايضا. في القصيدة جوانب أخرى، منها مثلا قدرة حسين أن ينقلنا من الحلم الشعري الى الواقع الشعري. من حلم البقيعة الى واقع البقيعة  وبكلمات بسيطة:

ترى أين غابت

بساتين خوخ وتين؟!

وجوز ولوز

ورمان عيد الصليب

 

في الشطرة الأخيرة يعرفنا على البقيعة، على أهلها، بحيث لا يبقي البقيعة حلما طائرا، بل حقيقة شعرية ملموسة. من المعروف ان الرمان في بلادنا يثمر في فترة عيد الصليب عند المسيحيين. وأي فلاح فلسطيني، مسلم، درزي او مسيحي، عندما يسال عن موعد قطف الرمان يقول يقطف مع حلول عيد الصليب!

الغنائية الحالمة تميز الكثير من قصائد الديوان، في قصيدة "ستر عاشق يظلل ليلنا الريفي":

تحبني..؟!

اذن تعال كي نصالح القمر

أمس اشتكى

يا طول ما اشتكا!

 

 وأكاد أشعر في هذا المقطع أجواء فيروزية.

وينشد في "لنا فوق الجليل":

لنا فوق هذا الجليل

تراب جليل

عليه نقيم

ومنه نبتنا كما ينبت العشب

والاقحوان.

وبين يديه تركنا طفولتنا

والشباب.

لنكبر فيه ويكبر فينا.

 

اذن هو ليس مجرد عشق لطبيعة ساحرة، انما هو عشق للمنزل، للمنبت، للأنتماء. وشاعرنا العربي يقول:

نقِّلْ فؤادَك حيث شئتَ من الهوى / ما الحــب الا للحبيــب الأول

الحبيب الأول، على امتداد مساحة ديوان حسين  هو الجليل.. لم يكتشف حبيبا غيره.. حتى تلك التي "نقزت" هي جزء من الجليل. قصيدة "سأجلس ذات مساء" فيها الكثير من الايماء والتكثيف. يقول:

سأجلس ذات مساء بعيد

 وحيدا..

وأفتح قلبي

على شرفتين

وراء الغمام

لعل رفوف اليمام

تجيء

وتلقي السلام علي

وتغفو قليلا على راحتي

لأكتب أغنية

عن بلادي.

 

بعد قراءتي لقصيدة "تركنا على كل درب" اعتراني شعور أن حسين لا يكتب قصائد منفردة، انما قصيدة واحدة متواصلة، تكاد تكون هذه القصيدة هي مهمة حياته كشاعر، فها هو يقول مثلا ما يمت بصلة لقصائد سابقة:

وقد اورثونا

محبة هذا الجليل

وحب الحياة

وعشق قرانا

ونذكر اننا ولدنا هنا.

 

أما قصيدته "بي شوق لأحيا"، فهي نشيد لتجدد الحياة بعد أن رزق بحفيده محمد / وهي قصيدة لها مناسبتها، تكاد تكون استراحة وسط قصيدة / قضية شعرية متواصلة وواحدة.

وانا ورثنا الصباح الجميل

 وهذا الجليل

وفجرا تلفع بالياسمين.

 

(قصيدة: وانا ورثنا الصباح الجميل)

في قصيدة "اسمعني صوتك".. كتبها كما فهمت لحفيده في ميلاده الأول.. ونراه يورث حفيده ما يملكه الشاعر:

اسمعني صوتك

عربيا

لا يتلجلج في شفتيك

ويوصيه:

واخرج من جلبات الزمن المهزوم

جوادا عربيا

ينقل للريح

صهيل الفرح القادم

 

وأيضا:

اضرب جذرك يا ولدي

اسمعه كيف تدوزن صوتك

فوق مفاتيح اللغة العربية

 

ويصر على حفيده:

أسمعني صوتك

كي اسمع وطني

يتجدد لحنا عربيا

 

لا بد هنا من ملاحظة هامة.. في هذه القصيدة اصرار على عروبة ابناء الطائفة المعروفية (الدروز)، التي تحاول السلطات الاسرائيلية قطعهم عن جذورهم العربية وجعلهم فئة سكانية لا ترتبط بالهم الوطني العربي او الفلسطيني...

اذن كما قلت، حسين مهنا أخذ على نفسه ابداع قصيدة / قضية وطنية انسانية وجمالية ممتدة.في ديوانه هذا نراه يكتبها على مدى ثلاث أو اربع سنوات.ربما حقا على كل شاعر أن يأخذ موضوعا لشعره حتى يوفيه حقه حسين يثبت أن ذلك لا يعني الانغلاق داخل حدود مرسومة.ان البقيعة مثلا، ليست مكانا جغرافيا له حدوده الجغرافية. الشعر لا يعترف بالحدود الجغرافية، أو كما يقول حسين مهنا: " كل قرية في بلادي بقيعة ".

حين أقرأ اسم حسين مهنا يجلس على راس قصيدة اعرف اني سأقرا شعرا حقيقيا واني سأتمتع بجماليات شعرية صارت من القلة.

هل يريد الشاعر أكثر من ذلك؟ ان يتدفق شعره كالماء بلا ضجيج ويتغلغل كالماء في وعي القارئ وأحاسيسه؟

 

nabiloudeh@gmail.com

 

 

 

نصوص ثقافية سابقة

ثقافتنا الغائبة او مثقفنا الغائب؟!

نبيل عودة

 

"الكتابة أيًا كانت هي الفصل بين العالم القديم والعالم الجديد، وعندنا العالم الجديد هو قديم، قابل للتدمير، وعلى الرغم من ذلك يبقى واقفًا على قدميه، لمعجزات كثيرة أهمها المعجزات الدينية" – د. افنان القاسم

نبيل عودة

هل واقع مجتمعنا يتماثل مع أحلامنا الابداعية ؟ هل استطاعت ثقافتنا ان تفرض حلمها الأخلاقي التنويري على مجتمعنا؟ هل مثقفينا جادون في تطبيق رؤيتهم ، ام صارت الثقافة تسلية وألقاب تُلحق ببعض الأسماء؟هل من دور للمثقف في واقعنا الاجتماعي؟ هل من حركة ثقافية تتمرد وترفض الواقع المفروض من قوى انتهازية وماضوية على مجتمعنا؟ لماذا هذا الاستسلام المخجل امام الفكر الغيبي والعجائبي والانتهازي؟ هل استطعنا كمبدعين ان نتحول الى الصوت المعبر عن واقعنا  والمؤثر على صيرورتنا الفكرية؟هل يمكن ان تتطور ثقافة متنورة في ظل واقع فكري وثقافي ماضويته اقوى من تنوره، حتى لو ظهر ممثلوه بأحدث طراز أوروبي ثيابا وسيارات؟

أعرف ان كلامي يثير غضب الكثيرين، لكني لست ممن يكتبون أو يتحدثون  من أجل رفع أسهمهم، أو لأحصل على شهادات ايجابية من بعض المتثاقفين وبعضهم "أدباء كبار كما يصرون على وصف انفسهم وكأن صيغة "أديب الكبير" الملحقة باسمائهم هي ضمن اسم العائلة بهويتهم (خاصة الاسرائيلية في حالتنا)، وكل انجازاتهم انهم ضاعفوا احباط ثقافتنا.. ويساهم في هذه الهرطقة الأدبية ما يسمى اعتباطا في ثقافتنا ب "النقد الأدبي". لكني لا افهم ضرورة النقد اذا فصل عن الرؤية الفلسفية العامة للمجتمع والإنسان .

اين هو النقد ؟ اين هي الدراسات الأدبية والفكرية الجادة؟ اين هي المفاهيم الفكرية لجذور ثقافة النقد؟ هل النقد مجرد مدائح بلا شطئان  وكأننا نشجع فريق رياضيا في ملعب لكرة القدم؟

 لا تنظروا الي باستهجان، فانا اعترف اني لست ناقدا بل "عارضا ثقافيا" ( كما وصفني الأديب والناقد د.افنان القاسم، فوفر علي تفسير كتاباتي الثقافية) دخلت هذا الملعب عنوة تحديا للتجاهل الذي كان حصتنا انا وابناء جيلي لحساب جيل فرض سطوته الثقافية (والسياسية) المطلقة على حلقة ضيقة من الأتباع...مرتكبا بذلك جريمة أدبية بحق ادبنا وادبائنا.

لا اريد ان اكون "مقياسا نقديا" له طوله وعرضه المعروف والثابت في "حلقة الذكر" النقدية، نقد يصح وصفه بأنه "مديح وإعجاب مع سبق الإصرار والترصد" أو "نقدا عشائريا " بمفهوم ما.

أعرف ان تمردي الثقافي  يجد دعما وتأييدا من الأكثرية الصامتة والمتألمة لحالتنا الثقافية، اتلقى ملاحظات ايجابية، لكني أريد  صوتهم المدوي المتمرد وان يوقفوا الهرب من المواجهة  التي لن تظل مواجهة ثقافية  كما يبررون صمتهم، من تجربتي أعرف أنهم صادقون ولكني لا اقبل موقفهم الصامت... صمتهم يترك الساحة للاختلال الثقافي


لا أقبل الصمت من أي مبدع أو صاحب رأي، المثقف الصامت هو ليس مثقفا. المثقف هو المرتبط عضويا بقضايا مجتمعه،  الثقافة تحتل حيزا كبيرا وأساسيا في صيرورة المجتمع البشري. ليس بمفهومها الأدبي الضيق فقط، انما بمفهومها الشامل لكل ما ينتجه الإنسان من خيرات مادية أيضا.. او ما يسمى ب: "الحضارة"!!  

نحن نهرب من الحضارة بدل ان نشد الخطى اليها  نترك الميدان للقديم المدمر ولا نتقدم نحو الجديد الناهض.

الذي اريد ان أقوله باختصار بعد هذا العرض الاستفزازي  مع معرفة ، ان حياتنا الثقافية تفتقد للفعل الثقافي. نفتقد لحياة ثقافية نشطة ولحركة ثقافية قادرة على التأثير، حركة لها كيان وصوت وقرار


تابعت في الأشهر الأخيرة نشاطات ثقافية عدة  لم تزدني تفاؤلا بقدر ما أشعرتني بعمق أزمتنا. على رأس هذه الأزمة اندماج العديدين من أصحاب القلم والرأي الثقافي والفكري بالتحايل الثقافي بعيدا عن النقد الثقافي، أو ببساطة جارحة  بالتزوير الثقافي، متناسين أن صفة المثقف التي يلتصقون بها لا تكتمل بدون الاستقامة الشخصية والمصداقية الثقافية
ان غياب المصداقية من فعلنا الثقافي له إسقاطات سلبية ، آنية وعلى المدى البعيد على تطور حركتنا الثقافية وجعلها حركة فكرية، اجتماعية وسياسية لها صوتها المسموع والمؤثر.


هل نتجاهل ان صوت المثقف في مجتمع حضاري أقوى من البنادق في التأثير على الرأي العام؟


للأسف هذه ليست حالنا .. هنا في المجتمع العربي داخل اسرائيل او في العالم العربي. حقا بعض المثقفين العرب باتوا يشكلون خطرا على أمن "الفساد الحاكم" أو " الحكم الفاسد " (ما الفرق ؟). المثقفون يحاكمون ويدانون آخرهم الكاتبة والشاعرة المصرية فاطمة ناعوت، لأن مقالا كتبته تسخر فيه من مجزرة الخراف في الأعياد، اعتبرته الهيئات الدينية اهانة للدين"؟!!" المثقفون يسجنون، يقتلون ، يتعرضون لسيف الإرهاب ألسلطوي والديني الغيبي .. لكن المستهجن هو الهزيمة العميقة للمجتمع العربي. لم اسمع الا نادرا اصواتا ترفض الهزيمة ، لكنها خارج أوطانها. الأدباء العرب لا يتحركون لوقف هزيمة مجتمعهم، هل هو امتداد للهزيمة بفكرهم؟

نعم انه اشارة لمجتمع مهزوم وادباء مهزومون!!


ما قيمة الثقافة اذا لم تحدث حركة اجتماعية ؟ .. حركة فكرية ؟..حركة تمرد سياسية ثقافية؟  نقدا صريحا .. نقاشا ... حوارا .. تعدد آراء .. تعدد أذواق .. تعدد مفاهيم .. تعدد تجارب  وتعدد تحديات ؟

هناك اصوات تبرز بين فينة وأخرى، لكنها شبه معزولة. بدل ان يلتف حولها المثقفين  تترك لتحكم الاستبداد الديني، حليف السلطة السياسية المستبدة أيضا.


ما قيمة المثقف اذا كان ما يكتبه يذهب للدفن بلا مراسيم ، وبدون فتح ديوان للتعازي ؟ ما قيمة الكتابة اذا "ولدت ميتة " على صفحات وسائل الإعلام، وكل أثرها أنها تعبئ فراغا ..؟

في مقال جريء كتبه الأديب ، الناقد والمحاضر الجامعي د.افنان القاسم   تحت عنوان "ملاحظات بلا غضب حول أدب العرب" جاء: الكتابة أيًا كانت هي الفصل بين العالم القديم والعالم الجديد، وعندنا العالم الجديد هو قديم، قابل للتدمير، وعلى الرغم من ذلك يبقى واقفًا على قدميه، لمعجزات كثيرة أهمها المعجزات الدينية، معجزات تنتمي إلى الخيال العلمي للعصر الحديدي، اجتاحت حدود اللغة، وحالت دون حق اختيار الكاتب للاحدوده!!


من هنا رؤيتي ايضا لواقع أزمة ثقافتنا العربية في اسرائيل ، بوجود قطيعة شبه كاملة في العلاقات بين حياتنا الثقافية والفكرية من جهة ، وبين القارئ  والمجتمع الذي يدعي الكثيرون انهم يمثلوه في ابداعهم ونصوصهم المختلفة. ما يزيد أزمتنا غياب واسع للثقافة النقدية، لكن من تجربتي أعرف ان مجتمعنا متعطش للصدق مهما كان مؤلما .. متعطش للنقد بكل مجالاته وامتداداته.


نحن مجتمع متهم أيضا انه لا يعطي للمثقفين دورا ، ومعروف ان أصحاب الأدوار وصلوا بدون وجه حق  وفي غفلة من الزمن، عبر تسلق أجسام سياسية، وهم بالكاد يمثلون رأيا يستحق الإجماع  أو الإنصات إليه . أصحاب الأدوار الاجتماعية أو السياسية بحالة انقطاع متواصلة عن الفكر الثقافي، تشغلهم مكانتهم حتى حولوا مفهوم القائد الى مفهوم شخصاني  ومفهوم الأديب إلى مفهوم وظيفي


من المؤسف أن الثقافة في حياتنا لا تشكل الا بندا غير قابل للتنفيذ في أجندة المؤسسات والأحزاب، وهي نتيجة تلقائية الرؤية التي ينطلق منها أصحاب المؤسسات والأحزاب، لا أستثني أحدا ، بغالبيتهم لا يرون أهمية الدور الاجتماعي والحضاري للثقافة ، أهمية دورها التربوي ، قيمتها في النضال الاجتماعي والسياسي ، ودورها في صيرورة إنسان المستقبل وتشكيل عالمه الفكري


الأدب والثقافة لهما وظيفة اجتماعية ، ومهمة انسانية عامة . عبر الإبداع الأدبي أنت تقوم بنشاط جديد . نشاط لذاتك، نشاط لمجتمعك، نشاط للعالم الخارجي حولك ونشاط للعالم الأكثر اتساعا من رقعتك المحدودة جغرافيا قد يشكل الإبداع ولادة حقيقية جديدة للمبدع ، نقلة نوعية  فكرا، موقفا وإبداعا.


الإبداع هو فعل هادف منظم ومسؤول نحو هدف. ادوات المبدع هنا هي اللغة والفكر، لكن اللغة لوحدها ليست هي الهدف، كما لاحظت في كتابات كثيرة. لا شك ان استعمال اللغة ومفرداتها  هو فن بحد ذاته  ويضفي على الإبداع الحقيقي جماليات خاصة تعمق قيمة الإبداع وأثره
الانسان الذي لا يملك هدفا في الحياة ، هو بنفس الوقت لا يملك مشروعا ثقافيا ، حتى لو كان أستاذا في علم اللغويات


يقتضي ان يكون للأديب أو المثقف  مشروع حياة يرتبط بقضايا مجتمعه وعالمه.
ما هو العالم الذي يريد ان يعيش فيه ؟ هل يريده مجتمعا مغلقا أم مجتمعا مفتوحا؟ مجتمعا حرا أم مجتمعا خاضعا؟ مجتمعا يكفل حقوق الإنسان أم يميز بين البشر؟


لا يمكن نفي ذاتية المبدع ، خصوصياته... ولزوم تطويره  لآفاق أكثر اتساعا في تفكيره وقدرته على التأثير


أفتقد  في الأكثرية المطلقة مما ينشر من إبداعات شعرية أو قصصية ، من نقد أدبي ومحاورات فكرية وثقافية... وحتى من مقالات ومواقف سياسية المواضيع والأفكار التي ترفض الهزيمة، تتبنى التمرد. تطرح التغيير والتجديد. تنظر الى مستقبل بعقل متحرر.

 
ان ما نحتاجه ليس المثقف الخامل ، الباحث عن المصفقين .. انما المثقف النقدي ، المثقف الذي ينقد ذاته وتجربته ،وان يكون ارتباطه الأساسي مع الثقافة بمفهومها الكوني وليس القبلي العشائري أو القومي المتعصب. ان يكون مثقفا متحررا من التبعية أي كان نوعها وشكلها الفكري او السياسي أو الاجتماعي.
 

nabiloudeh@gmail.com

 

 

 

 

فلسفة مبسطة: الديالكتيك

مجتمع بدون فلسفة هو مجتمع مشلول العقل!!

 

نبيل عودة

 

كثيرا ما يصطدم القراء، خاصة الجيل الشاب والطلاب باصطلاحات تطرق آذانهم لأول مرة، لكن لا يجدون لها تفسيرا، أو إذا وجدوا يكون التفسير أكثر تعقيدا من الاصطلاح نفسه.

مثلا اصطلاح الديالكتيك؟ قد يجدون بجانبه تفسيرا/ ترجمة عربية مثل كلمة "الجدل". السؤال هل يكفي هذا الاصطلاح بترجمته إلى العربية ليفسر المضمون الفلسفي للموضوع؟ الكلمة يونانية الأصل وتعني "أناقش" ... "أتحدث".لكن ذلك لا يعطي مضمون اصطلاح الديالكتيك.

من هنا أرى أهمية العودة إلى بعض الأسس الفلسفية العامة لطرحها بلغة مبسطة، واضحة ولا تحتمل الخوض بعمق الموضوعات وتعقيداتها. إنما طرح فهما واضحا للموضوع، بأسلوب ميسر وسهل يعطي، خاصة للجيل الناشئ، فهما لبعض القضايا الفلسفية، لعل في ذلك إفادة لمن يهتم بطرق آفاق جديدة خارج العلبة المقفلة التي تميز الواقع الاجتماعي والفكري الرسمي للعالم العربي... إن مجتمعا بدون فلسفة هو مجتمع مشلول العقل، يفتقد إلى الدافع للتنوير، التغيير والتقدم.

إذن ما هو الديالكتيك؟

 

 يقول لينين(قائد ثورة أكتوبر ومؤسس الاتحاد السوفييتي) " إن الديالكتيك في معناه الأصلي هو دراسة التناقص في صميم جوهر الأشياء".

الجواب المختصر والأبسط: الديالكتيك هو علم التطور. يدرس هذا العلم القوانين العامة لتطور الطبيعة والمجتمع والفكر.

لماذا يجري التطور؟  ما هو المصدر والقوة الدافعة للتطور؟ بأي أشكال يجري التطور؟ ما هي العلاقة والنسبة بين القديم والجديد؟

ذكرت ان الديالكتيك له قوانين عامة. مثل أي علم آخر.الكهرباء لها قوانينها العامة، الكيمياء لها قوانينها العامة.. الفيزياء لها قوانينها العامة،  علوم الهندسة ، العلوم الإنسانية، التاريخ ، الرياضيات، البيولوجيا.. الخ، لا يوجد علم بدون قوانين عامة.

إذن ما هي قوانين الديالكتيك؟

هناك عدد من قوانين الديالكتيك: 1- تحول التغيرات الكمية إلى كيفية وبالعكس.

2– قانون وحدة وصراع الأضداد.3- قانون نفي النفي. وهناك مقولات فلسفية أخرى: الماهية والظاهرة، الضرورة والصدفة، الإمكان والفعل، العلة والمعلول .. الخ!

سنتحدث عن اول هذه القوانين: قانون "تحول الكم الى كيف".

هذا القانون يجيب عن السؤال حول الأشكال التي يجري به التطور، مجال الفلسفة تشمل جميع العلوم. لذلك نجد اليوم اصطلاحات مثل فلسفة العلوم، فلسفة الرياضيات، فلسفة التربية والتعليم، فلسفة الديانات.... هذا يعني أن الفلسفة هي العلم الذي يعالج مجمل العلوم الإنسانية ومنها تتفرع مجموعة واسعة جدا من الفلسفات ذات الاختصاصات المحددة.

لنبسط الموضوع، تعالوا نفسر أولا تركيبته اللغوية؟

ما هو الكيف (أو النوعية)؟

كيف نميز بين شيئين مختلفين؟ مثلا كيف نميز النجمة عن الكوكب؟ كيف يختلف الرعد عن الزلازل؟ كيف نميز الإنسان عن الحيوان؟ كيف نميز سفينة الصحراء ( الجمل) عن القارب البحري؟

الإشارة لهذه المميزات سهل جدا لأنها ملموسة.هذه الصفة تسمى "كيفية".أي أن الكيف هو كل ما يميز الموضوع المعين عن المواضيع الأخرى. الشكل ، الطول، الحجم ، اللون،طرق الاستعمال، الفائدة المرجوة .. ويمكن سرد عشرات الصفات الأخرى.

إذن "الكيف" هي الصفة التي من دون وجودها لن يكون الشيء هو نفسه. مثلا ألإنسان لا يستطيع ان يوجد بدون قلب. هل هذه صفة كيفية للإنسان تميزه عن الحيوان مثلا؟ طبعا خطأ، الحيوان أيضا له قلب.

إذن هناك صفات جوهرية وصفات غير جوهرية.أو صفات كيفية بدون وجودها لا توجد الكيفية التي تميزها. وهي الصفات التي لا يوجد الموضوع بدونها.

مثلا: مجموعة الصفات الجوهرية للإنسان (الكيفية) تختلف عنها لدى الكلب.. أو حيوان آخر.

الإنسان نشأ نتيجة الحياة الاجتماعية والنشاط الاجتماعي العملي. الإنسان يملك الوعي والقدرة على التفكير، على الإنتاج  والإبداع على التخطيط المستقبلي، على القدرة لتبادل الخبرات وتطويرها، على تطوير اللغات وتعلمها ، على الكتابة والرسم والقراءة والتمثيل...الكلب أو الحيوان يتصرف حسب غريزة لا واعية (والمثل العربي يقول "الحمار حمار ولو بين الخيول نشأ). النجوم والكواكب تختلف عن بعضها جوهريا.النجوم هي أجرام سماوية ترسل الإضاءة والحرارة. الكواكب أجرام سماوية لكنها لا ترسل الضوء وتدور في مدارات معينة. إذن هنا توجد كيفيتان  مختلفتان للأجرام السماوية.

متى يبرز الكيف؟  فقط عندما تقام المقارنة بين المواضيع المختلفة. متى تبرز كيفية أخلاق الناس؟ تبرز بالعلاقة مع الآخرين وبدون ذلك لا يمكن معرفة أخلاق الفرد أو الجماعة.

الجانب الثاني: "الكم".

الكم يمكن ان يكون صغيرا،  كبيرا ، قريبا، بعيدا ومئات الصفات الأخرى المختلفة والمتنوعة.مثلا الكواكب.. أقربها للأرض هو المريخ وهو أكبر قليلا من القمر. هناك المشترى أكبر بكثير من المريخ .. من الناحية الكيفية كلها كواكب من نوع واحد. الكمية (الحجم) يختلف.

الناحية الكمية تختلف وليست ثابتة مثل الكيفية. الإنسان يكون طفلا. كيفيته عن الإنسان الكبير لا تختلف. لكنه ينمو، يكبر أي يتغير من ناحية الكم. إذن الكم يدل على العدد، الحجم، الوتيرة،  المقياس،  الوزن.. الخ!

الكمية والكيفية هما صفتان للموضوع الواحد ومترابطتان. الكيفية لا تتغير، الكمية تتغير. هذه الوحدة بين الكم والكيف تسمى في الفلسفة "المعيار" وهي الحدود التي يحتفظ الموضوع داخل نطاقها بصفاته الأساسية.داخل هذا المعيار يمكن ان تجري التغيرات الكمية ( نموذج نمو الإنسان من طفل إلى شاب إلى رجل التغييرات هنا ليست بالكيف بل بالكم.).

مثال من الطبيعة: الماء بدرجة حرارة صفر بارد جدا بحرارة 100 مئوية فوق الصفر حار جدا. إذن معيار الماء يتراوح بين صفر و 100 درجة. اذا سخنا الماء فوق ال 100 درجة (101) مثلا، تبدأ نقطة تحول الماء إلى بخار، أي إلى كيفية جديدة. إذا بردتاه تحت الصفر يتحول إلى جليد. حالة كيفية جديدة أيضا ومختلفة عن البخار أو الماء السائل.

تعالوا نأخذ نموذجا آخر: القنبلة الذرية. يستعمل في صنعها يورانيوم 235 .هذه المادة لا توجد في الطبيعة جاهزة بل تصنع في المفاعلات النووية بالتحويل من كمي إلى كيفي. لو أخذنا قطعة يورانيوم واحد سنتيمتر، مهما ضغطنا عليها وضربناها بالشاكوش أو وضعناها داخل النار لن تنفجر. تطلق بالطبع أشعة خطيرة. لو أضفنا لهذه الكمية كميات أخرى حتى نصل إلى كمية 1100 غرام يورانيوم 235 عندها سيحدث انفجار نووي (القنبلة الذرية بمضمونها هي تجميع كمية 1100 غرام يورانيوم 235 لذلك لا تجمع مثل هذه الكمية  سوية داخل القنبلة الذرية، بل كميات اقل من 1100 غرام  تُفصل عن بعضا بالزنك الذي لا يسرب الإشعاع وتفجيرها يتم عبر تجميع اليوروانيوم داخل القنبلة بشكل ميكانيكي هكذا تتحول الكمية إلى كيفية (في هذه الحال كيفية سلبية). التحول هنا يحدث عن طريق القفزة.طبعا العلوم رصدت قفزات سريعة وأخرى بطيئة.

عملية انفصال الإنسان عن عالم الحيوان استغرقت مليون سنة على الأقل.. والتحول هنا إلى كيفية جديدة تتميز بالوعي في جذورها، بإنشاء مجتمعات بشرية، العمل المشترك، الدفاع المشترك، بتطوير الزراعة ونشوء اللغة.. الخ.. وصولا إلى الحضارات والحداثة التي نعيش تفاصيلها اليوم.هل توقف التطور؟ إطلاقا لا كل يوم نواجه إبداعا جديدا.. فتحا جديدا ، وهذا يشكل إضافات كمية جديدة. لكن الإنسان يبقى من الناحية الكيفية نفسه كما كان قبل مليون سنة من حيث مبناه البيولوجي.

 من الخطأ الإشارة إلى نوعين من القفزات فقط، لأن القفزات لا تحدد بشكلين سريع أو بطيء. بل لها أشكال كثيرة جدا. يمكن ان يجري التحول بقفزة واحدة أو بعملية قفزات عديدة تستغرق زمنا أطول. طبعا الظروف الخارجية أيضا تؤثر على شكل التطور: سرعته، بطئه ، عمقه، امتداده... الخ!

نقطتان أخيرتان: بين الكم والكيف ارتباط ديالكتيكي  (جدلي) والتغيرات تجري باتجاهين، من كمية إلى كيفية وبالعكس، هذا أولا، ثانيا:هناك كيفيات أولية وكيفيات ثانوية.الكيفيات الأولية هي كيفيات موضوعية ، توجد مع الشيء إما الكيفيات الثانوية فهي كيفيات مكتسبة.

 آمل أن أكون قد أعطيت فكرة واضحة أولية وعامة عن الموضوع.

nabiloudeh@gmail.com

 

 

 

 

 
الرئيسية || من نحن || الاذاعة الكندية || الصحافة الكندية || اتصل بنا