الرئيسية || من نحن || الاذاعة الكندية || الصحافة الكندية || اتصل بنا

 

·         كاتب  وصحفي  وناشرعراقي مؤسس  (دار بابيلون – براغ)  مؤسس ومدير مركز الجواهري في براغ

 

عن مآثـر ومبادئ الامام الحسين،

في بعض قصيد الجواهري، ونثره

رواء الجصاني

  * لم يقتصر ما بين الجواهـري والإمام الحسيـن على ما فاضت به الفريدتان الشعريتان: (عاشوراء) و(آمنت بالحسين) وغيرهما، بل تعداها إلى نثــر رصين بيّن في معناه ومبناه، وفي ما اراد التأشير اليه وحوله من مغازٍ جلى، علانية مع سبق الاصرار..

* وقصيدة “عاشوراء” المنظومة والمنشورة عام 1935 كانت بثمانية وستين بيتاً، استعرض في الجواهري، ووثق خلالها العديد من الاحداث التاريخية، الثورية والماساوية في ان واحد ، وبالاسماء المقرونة بالاوصاف التي تليق – بحسب رؤاه- بالمضحين من اجل المبادئ، من جهة، وبمعارضيهم، بل ومحاربيهم وقتلتهم، من جهة ثانية

 

هيَ النفسُ تأبى أن تُذَلّ وتُقهَرا… ترَى الموتَ من صبرٍ على الضيم أيسَرا
وتخـتارُ محموداً من الذِكرِ خالداً…على العيش مذمومَ المَغَـبّـة مُنكَرا


* واذ جاءت “عاشوراء” في زمانها، والجواهري انذاك في عقده الثالث وحسب، مباشِرة في المعاني والتصريح، واقرب للتوثيق التاريخي، هدر الشاعر الخالد بعد ذلك باثني عشر عاماً، بعصماء “امنت بالحسين” التى فاضت بالتعبير عن المواقف والمفاهيم الطافحة بالإباء والشموخ، والممجدة للفداء والتضحيات، كما هي الحال في الخوالد الجواهرية العديدة، وان اختلفت في الصور والاستعارة:

 

فـداء لمثـواك من مضـجـعِ … تـنـوّر بـالابلــج الأروعِ
ورعياً ليومـك يوم “الطفـوف” … وسـقياً لأرضك من مصرع
تعـاليت من مُفـزع للحتـوف … وبـورك قبـرك مـن مَفزع


* لقد سبق ان أرخنا للقصيدتين في كتابات سابقة، نشرناها في فترات زمنية متفاوتة، وفي وسائل اعلام عديدة .. ثم، وفي مسارات بحثنا في اصدارات ونثريات الجواهري، وصحفه، راحت امامنا مادة جديدة تعنى بذات الموضوع، ونعني به مآثر الامام الحسين، واستلهامات الجواهري الخالد منها وعنها… ومن ذلك ما نشرته جريدته "الجهاد" في عددها 128 بتاريخ 30/ أيلول/1952 مقالا افتتاحيا بتوقيع الجواهري تحت عنوان: “تضحيات الحسين صورة لم يخلق إطارها بعد”… ومما جاء فيه:

ومع هذا كله فستظل تضحية البطل الحسين بن علي، سيدة التضحيات، وسيظل هو بحق وجدارة سيد الشهداء. نقول ذلك غير مغالين. ونقول – ولا نغالي أيضاً- أن تضحية الحسين دوت بذكراها في كل بقاع الدنيا أياً كان جنسها ودينها… وإنها لكانت اليوم كذلك، لو أردنا لها نحن المسلمين أن تتحرر من هذا الإطار الديني الضيق، الذي يراد حصرها فيه، بل لو كتب لهذا الدين الاسلامي نفسه على الأقل أن يتحرر هو من بدعه وشوائبه ومن زيغ فئة غير قليلة من المتظاهرين باحتضانه، والمتزيين بزي النافحين عنه، وأن نتخلص من سوس التفرقة والتعصب والتضليل مما أضاع له كل رونق وكل أثر ومما أفقد ما يصطبغ به من التضحيات الجسام رونقها…”


* اخيرا، وفي سياق تأرخاتنا لقصائد الجواهري، وعنها، نوثق بان مآثر الامام الحسين، وجلال مواقفه ومبادئه، تكرر في عديد اخر من قصائد الشاعر العظيم ومنها:

- في قصيدة “تحية الوزير” عام 1927 وجاء فيها :حبّ “الحسين” الذي لاقاه مغترباً، من الشآم، وما لاقاه محتربا

 - وكذلك في قصيدة “ناغيت لبنانا” عام 1947 حين قال: وحنت عليك ذؤابة رعت "الحسين" و”جعفراً” و”عقيلا

- وايضا في قصيدة “يا آبن الهواشم” تحية للملك حسين،عام 1992 وقد ضُمنتا بضعة ابيات من قصيدة “ناغيت لبنانا”عام 1947المشار لها قبل سطور، ومن بينها :

شدت عروقك من كرائم هاشم ٍ، بيضٌ نميّنَ “خديجة” وبتولا

وحنت عليك من الجدود ذؤابةٌ، رعت “الحسين” و” جعفراً” و “عقيلا”..

------------------------------------------------------
مع تحيات مركز الجواهري

 www.jawahiri.net

 

ربـع قرن على رحيل

الجواهري العظيم ...

رواء الجصاني

 

يموتُ الخالدونَ بكل فــجٍ، ويستعصي على الموتِ الخلودُ


قبل خمسة وعشرين عاماُ، وفي صبيحة الأحد، السابع والعشرين من تموز عام الفٍ وتسعمئة وسبعة وتسعين، تحديداً، استنفرت وكالات أنباء ومراسلون وقنوات فضائية وغيرها من وسائل اعلام، لتبث خبراً هادراً، مؤسياً، هزّ مشاعر، ليس النخب الثقافية والسياسية فحسب، بل والألوف الألوف من الناس في شتى الارجاء :

"الجواهري يرحل إلى الخلود في احـد مشافي العاصمة السورية - دمشق، عن عمر يناهز المئة عام"..

    وهكذا يطبق "الموت اللئيم" اذن على ذلك المتفرد الذي شغل القرن العشرين، على الأقل، ابداعاً ومواهب، ثم لتروح الأحاديث والكتابات تترى بعد الخبر المفجع، عن عظمة ومجد الراحل العظيم :

المتميز بعبقريته التي يتهيّب أن يجادل حولها أحد..

- السياسي الذي لم ينتم ِ لحزب، بل كان "حزباً" بذاته، يخوض المعارك شعراً وفكراً ومواقف رائدة...

- الرمز الوطني الذي أرخ للبلاد وأحداثها بأتراحها وأفراحها من داخل الحلبة، بل ووسطها، مقتحماً ومتباهياً:

أنا العراقُ لساني قلبه ودمي فراته وكياني منه اشطارُ

- وذلك الراحل الخالد، نفسه: حامل القلم الجريء والمتحدي الذي "لو يوهب الدنيا بأجمعها، ما باع عزاً بذل المترف البطر".. ناشر صحف "الرأي العام" و"الجهـــاد" و"الثبات" .. ورفيقاتهن الأخريات...

- منوّرٌ متميزٌ من أجل الارتقــاء، صدح مؤمناً على مدى عقـود حياته المديدة :
لثورة الفكر تاريخٌ يحدثنا، بأن ألفَ مسيح دونها صلبا..

- صـاحب "يوم الشـهيد" و"آمنت بالحسين" و"قلبي لكردستان" و"الغضب الخلاق" و"الفداء
والدم"... شامخ، يطأ الطغاة بشسع نعل ٍ عازبا..

- والجواهـري ايضا وايضا: متمرد عنيد ظـلّ طـوال حياتـه باحثاً عن "وشـك معترك أو قرب

مشتجر".. كيّ "يطعم النيران باللهب"!..

- مبدعٌ بلا حـدود في فرائـد "المقصورة" و"زوربـا" و"المعـري" و"سـجا البحـر"و"أفروديـت" و"أنيتـا" و"لغة الثياب" و"أيها الأرق" وأخواتهن الكثار ... وهو قبل كل هذا وذاك "أحب الناس كل الناس، من أظلم كالفحمِ، ومن أشرقَ كالماسْ"". كما انه "الفتى الممراح فراج الكروب" الذي "لم يخل من البهجة دارا" ..


-
 رائدٌ في حب وتقديس من "زُنَّ الحياة" فراح يصوغ الشعر "قلائداً لعقودهنَّ" ... و"يقتبس من وليدهن نغم القصيد" ..

- وديع كالحمامة طبعاً لا تطبعا، ومنتفض كالنسر، حين يستثيره "ميتونَ على ما استفرغوا جمدوا.."

-  وهو لا غيره الذي قال ما قال، وما صلى " لغير الشعر من وثـنِ " ... فبات الشعراء يقيسون

قاماتهم على عمود قامته الشامخ...

- انه وباختصار: ذلك الطموح الوثاب الذي كان، ومنذ فتوته "يخشى أن يروح ولم يبقِ ذكرا" ... فهل راحت قصائده - حقا - "ملؤ فم الزمان"!! وهل ثبتت مزاعمه بأن قصيــده "سيبقى ويفنى نيزك وشهاب" وهو القائل:

وها هو عنده فلكٌ يدوي..... وعندَ منعمٍ قصرٌ مشيدُ

يموتً الخالدونَ بكل فـج ٍ .. ويستعصي على الموت ِ الخلود

ترى هل صدق بما زعم ؟؟!!... التاريخ وحده من انبأنا، وينبئنا عن الامر،
ويا له من شاهد حق ٍ عزوفٍ عن الرياء!!

-------------------------------------------------------* رواء الجصاني 2022.7.27

 

 

 

بمناسبة الاعلان عن قرب

افتتاحه متحفا، ومركزا ثقافيا...

هذا هـــو "بيـت الجواهــري"

الأول والأخير في العراق

 

رواء الجصاني

 

    * من بين ابرز الفعاليات المتميزة لاحياء الذكرى 25 لرحيل الجواهري، التي تصادف في 2022.7.27 اعلنت امانة العاصمة العراقية - بغداد مؤخرا (حزيران 2022) التوجه لافتتاح بيت الشاعر الخالد، نواة متحفٍ لاثاره، وتراثه، ومركزا ثقافيا وطنيا، وعسى ان يكون الامر جدياً هذه المرة، اذ سبق ان قامت الامانة، بل واعلنت، مرات سابقات عن"وعود" و"مواعيد" عديدة عن ذلك الشأن، ولكن لم يتم الالتزام بالمواعيد والوعود، لاسباب تنسجم مع الحال العراقية، المعروفة، ولا نزيد !!..    

  *  وهذا والموعد الجديد يأتي  بعد نحو احد عشر عاما مرت على  اطلاق كتابات ومطالبات وحملات اعلامية داخل البلاد وخارجها، بادر اليها مركز "الجواهري" في براغ، وتابعها، ليعلن بعدها أمين العاصمة الاسبق، صابر العيساوي، عام 2011  قراراً باستملاك بيت الشاعر العظيم في بغــداد، الواقع في منطقة القادسية / حي الصحفيين، بهدف منع بيعه تجارياَ، ودثره.. وعوض ذلك العمل على تحويله ارثاً ثقافياً ووطنياً، وتحويله إلى متحف يضم ما تبقى من مقتنيات وآثار شاعر الأمتين، العراقية والعربية، التي تناهبتها الأحداث، والمغتربات، وآخرهما تعترابه في العاصمتين التشيكية والسوريـة: براغ ودمشق...

    *  وبعيداً عما نشر بهذا السياق، في وسائل الاعلام العراقية، والعربية، من مقالات وتصريحات واستكتابات متنوعة ومتباينة، لنا عنها، وحولها، كثير من التساؤلات والتوضيحات المؤجلة لحين قريب كما نتمنى ... نقول بعيداً عن ذلك: ان البيت المعني هو الوحيد، ولنقل: الأول والأخير، الذى تملكه الجواهري في العراق، عبارة عن مبنى اعتيادي تبلغ مساحته مع حديقته:  540 متراً مربعاً، ، شيّــد على قطعة من الأراضي التي وزعتها الدولة، ذات زمان، على الصحفيين ... وقد انجزت اعمال بنائه أواخر العام 1971 بشكل متواضع، وغُطيت نفقاته بين تمويل ذاتي، وقرض من البنك العقاري، وديون شخصية... وقد سكنه الجواهري وهو رئيس اتحاد الأدباء والكتاب العراقيين آنذاك، منتقلاً إليه من الدار التي استأجرها له نجله "فلاح" أواخر العام 1968 في حيّ الداوودي، عند عودة شاعر البلاد العراقية إليها، بعد "سبع عجاف" قضاها اضطراراً في اغترابه الأول إلى بـراغ، بدءاً من عام 1961 حين "لم تكفل له الأوطان دارا"...

  *  وبيت "ابن الفراتين" الذي نتحدث عنه ليس سوى بناء تقليدي كما اسلفنا، يضم ثلاث غرف نوم، وواحدة للاستقبال، وأخرى للجلوس، مع المرافق الضرورية... وقد شهد طوال عقد السبعينات الماضية أحداثاً ووقائع وتفاصيل متشابكة لمديات بعيدة في الشؤون والشجون الوطنية والثقافية والشعرية وما إليها، وما بينها...

* وذلكم البيت، ونكرر انه الأول والأخير، والوحيد، على ما ندري ونؤكد بيقين، تملّكه الجواهري، بعد ترحال وإقامة واغتراب، وتغرب، وهو لا يحمل معه غير "منقار وأجنحة" على مدى نصف قرن ... وفي ليالي ذلك البيت، ونهاراته، أينعت العبقرية الشعرية قصائد ومطولات عديدة،  فيها ومنها الانساني، والوطني والاجتماعي والوجداني، ولافكاك بينها من التداخل والتلازم مع الهموم والانشغالات الفكرية والسياسية والاجتماعية وما إليها...

   * وعلى مدى السنوات العشر – تقريباً – وللفترة (1971-1980) تحديدا، التي عاشها الرمز العراقي في بيته الذي نعني، عصفت بالبلاد وأهلها محنٌ هنا، ومآسٍ هناك، تحت سلطة الحزب الواحد فالعشيرة، فالعائلة فالفرد... وقد كان الجواهري يعيش تلك الأجواء الأليمة، بكل صبر، وان تغلفت أحياناً ببراقع، وترقيع، تفاءلَ بها البعض، غير القليل، بآمال وتمنيات ولحد المبالغة في أحايين عديدة...

* وبهذه الحال كان ذلك البيت ذاته – لا غير – مزار أطياف ونخب سياسية متباينة الرؤى والمسؤوليات، وحتى الوفاء احياناً، فبعضها صادق أمين، وآخر متزلف متدثر بألف زيٍ وزيّ، ولكنها كانت جميعاً، في حضرة الجواهري – على ما نشهد - دعاة تآلف ومحبة، وان راحت احياناً في الأقوال وحسب...

* كما ان البيت الذي نعنى، بات ملتقى للنخب الفكرية والثقافية والشعرية، من كل النحل والرتب، تؤم مقام الجواهري: مودة وتلمذة وتباهياً، دعوا عنكمو الآخرين الذين كانوا يريدون صكوك الغفران. وكم يطول التعداد، ويعرض، ويعلو، لمن زار، وأحـبَّ، وتبارك بزيارة أو لقاء أو حديث مع الشاعر الرمز...

* وإضافة لكل ما تقدم، شهد ذلك "البيت" التاريخي منح الجواهري جائزة "لوتس" عام 1975 وولادة أول جمع وتدوين لتراثه الشعري في مجموعة هي الاولى من نوعها حتى اواخر السبعينات، ونعني بها الأجزاء السبعة (1973-1980) التي أشرف عليها، مع حفظ الالقاب: مهدي المخزومي وعلي جواد الطاهر وابراهيم السامرائي ورشيد بكتاش... كما راحت تترى من البيت ذاته مختارات الجواهري لعيون الشعر العربي، أواسط السبعينات لتنشرها صحيفة الجمهورية البغدادية بمتابعة محمد حسين الأعرجي ... ذلكم إلى جانب ما شهده – البيت- من مقابلات وحوارات تاريخية مع الجواهري ومن أهمها على ما نزعم الحواران التي انجزهما محمد الجزائري عام 1975 وحسن العلوي عام 1979...

* ومن ذلك البيت الذي نوثق له، وعنه، كانت انطلاقات الجواهري لعواصم عربية وعالمية عديدة: رئيساً لوفود أدباء العراق في مؤتمرات ومشاركات رسمية، أو ضيفاً أول على فعاليات ومهرجانات عديدة: شعرية وثقافية وغيرها، ومنها في دمشق وتونس وصوفيا وموسكو والدوحة والكويت وابي ظبي وعديد سواها، اضافة الى براغ التي بقيّت "جنة الخلـد" عنده ... ذلك الى جانب " فراره " من البلاد لفترات متفاوتة الى القاهرة والرباط واثينا،... مخاصماً وغاضباً ومغاضباً، مسؤولين وحساد وحاقدين، بل وحتى محبين "علهّم كانوا حيارى في مفترق الطرق" ..

   * وفي ذلك البيت الذي نعني، اينعت روائع جواهرية، ومقطوعــــات وجدانيـــة ووطنية واجتماعية عديدة، نحصر منها : مطولة "حبيبتي" عن زوجته آمنة... مناجاة "يا فرحة العمر" عن شقيقتـــه نبيهة ... مقطوعة "ابا مهند" إلى نديمه مهدي المخزومي ...  بائية "إلى وفود المشرقين" في تجمع عالمي ببغداد...  دالية "أزح عن صدرك الزبدا" المجلجلة في احتفاء اقيم له في النجف...  " فتى الفتيان" عن صديقه "المتنبي" في مهرجان مهيب ببغداد ... ولامية  "أم الربيعين" خلال احتفال تكريمي خاص به في جامعة الموصل ...

   * كما، في ذلك "البيت " ايضاً لا غيره " نُظمت " قصائد مجاملة، كان بعضها استجابة لمناشدات – كنا شهود عيان على بعضها – وذلك من شخصيات وطنية، لكي يلقي شاعر البلاد، ورمزها العظيم، بثقله، ويحاول تأخير انقضاض سلطات البعث - ولو لبعض الوقت - على الأحزاب والقوى الوطنية "المتحالفة" معها أو "المعارضة"... ومعلوم طبعاً ما جرى خلال عقد السبعينات الماضية من عسف وقمع وارهاب شمل الالاف، ومن بينهم ً نجل الجواهري "كفاح" اعتقالاً وتعذيباً، وكذلك ابنته الوسطى "خيال" احتجازاً وتخويفاً... ثم، ومن ذلك البيت الذي نؤرخ له، لجأ الجواهري إلى الاغتراب مجدداً، غضباً، وموقفاً من سياسات وتوجهات السلطات الحاكمة، فغادر إلى براغ أولاً مطلع العام 1980 ثم ليتناصف الاقامة بينها ودمشق منذ عام 1983 وحتى رحيله عام 1997…

* ثم دعونا نوثق بايجاز مما توفر لنا سريعا بهذا السياق، فننقل عن " أميرة " ابنة الجواهري الكبرى في حديث خاص معنا في دمشق (آيار / مايو 2000) : ان والدها لم يفكر يوماً بتملك بيت، طيلة أربعين عاماً تقريباً وحتى عام 1971... وكان التنقل في بيوت الايجار ( في الحيدرخانه، الجعيفر، الاعظمية، الكرادة ... وغيرها من مناطق بغداد) سمة مميزة تنسجم ومزاجه المتمرد والكاره للرتابة.... وقد توفرت له فرص للتملك إلا انه "ضيعها" غير آسف عليها"..

* وفي الموضوع ذاته يقول حسن العلوي في كتابه "الجواهري رؤية غير سياسية" الصادر عام 1995: في العام 1979 اصطحبت معي الى بيت الجواهري بعثة صحفية لقضاء يوم كامل على غير موعد معه فسجلت عدسة المصور الفنان الراحل "محمد علي حسن" زوايا لم تكن مخفية على عيون زائريه... ودخل حتى غرفتي النوم والمطبخ ... ولم يجد مكتبة، لكنه وجد رفوفاً. ولم يجد مطبخاً ولكنه وجد قدرين من الألمنيوم القديم... كما ولم تكن للجواهري غرفة نوم مستقلة، وكان يضع ملابس الشتاء في حقيبة تحت سريره، ويعلق على الحائط ملابس الصيف. ويفعل العكس في الشتاء....

* كما نشير بهذا الصدد لما نشره فوزي كريم (الشرق الأوسط اللندنية 4/11/1991) في موضوع مسهب عن الجواهري في السبعينات، نقتطع منه: "كان بيت الجواهري متواضعاً، كنا نقتحمه احياناً آخر الليل، أنا وسعدي يوسف، مدفوعين بأكثر من هاجس شيطاني، قراءة لبيت مثلاً: "الحمد للتاريخ حين تحولت …تلك المرافه فاستحلن متاعبا" او عبارة واحدة "با نبتة البلوى" يخاطب بها جياع الشعب. أو كلمة "تقحم" او "خسئوا".. وكان الجواهري يستقبلنا دون ترحاب معظم الأحيان قائلاً : "الساعة الواحدة يا جماعة. ويتأمل ساعته ونحن نبصبص تحت الطاولة. لا تخلو طاولة الشاعر في الليل. كنا نعرف ولكن من يجرؤ في ساعة كهذه أن يسأل. ونسترضي ابا فرات، نقول: "أنت تعرف محبتنا " ونغني له طربين من شعره... فيستجيب ..."

* اخيرا نختتم الحديث متمنين، وطامحين - مثلما هي حال كل المتنورين- فنقول: ان اكتمال المرام  ليس بوضع لبنته الاولى، اي حفل  افتتاح "بيت الجواهري" وحسب، ولكن في انجاز الهدف الطموح، من خلال توفير المتطلبات الناقصة، وتهيئة الاجواء المطلوبة لمثل هذا الاثر الوطني، ثم - ولعل ذلك يأتي اولاً- : حسن التنظيم والادارة، وحرص المعنيين من الذين يتحملون المسؤولية عن هذا المنجز، المميز، وصيانته وادامته، في عاصمة لعراق جديد، اؤمل ومرتجى !!-------  رواء الجصاني رئيس مركز "الجواهري" للثقافة والتوثيق

---------------------------------------------------------------------------------

الصورتان المرفقتان: الاولى لبيت الجواهري في السبعينات، والثانية عشية افتتاح البيت أثرا وطنيا، ممقرر ان يكون بتاريخ 2022.7.27

 

 

 

 

الجواهــري يغضب من  بغــداد،

ويغاضب بعض أهلها !!!

  رواء الجصاني

 

... وهذه هي عصماء أخرى من قصائد الجواهري الوجدانية، الثائرة على النفس والمجتمع، والمقاييس السائدة في البلاد، نظمها خريف عام 1962... وقد ضمها، كاملة ولأول مرة، ديوان "بريد الغربة" الصادر في براغ، بدعم من اللجنة العليا للدفاع عن الشعب العراقي الذي ترأسها الشاعر العظيم فور تشكيلها بعد انقلاب شباط الدموي عام 1963... وقد جاء مطلعها جواهرياً كالعادة في فيضه الجامح، مما جعل الكتاب يقرأ من عنوانه ، موسوما "يـا غـريـب الــدار":

 

من لِهَمٍّ لا يُجارى ، ولآهاتٍ حَيارى

ولمطويٍّ على الجمرِ سِراراً وجِهارا...

مَنْ لناءٍ عاف أهلاً وصِحاباً ، وديارا

تَخِذَ الغربة دارا إذ رأى الذلَّ إسارا

إذ رأى العيشَ مداراةَ زنيمٍ لا يُدارى

 

... وفي مختلف مقاطع القصيدة التي تجاوزت أبياتها المئة والعشرين، يهدر الجواهري متباهياً بمواقفه التنويرية، مبرزاً سمات وقيماً تبناها، ولم يخشَ ما يترتب عليها من أذى المعوزين والظلاميين، بل وراح يكررها في عديد كثير من شعره... إلا انه هنا شدد على الشموخ والاصرار، ولعله أراد بذلك مقدمة لما سيلي من مواقف وحقائق:

 

ياغريبَ الدار لم يُخْلِ من البهجةِ دارا...

تأخذ النشوةَ منه ثم تنساهُ السُكارى

يا أخا الفطرةِ مجبولا على الخيرِ انفطارا...

يا سَبوحاً عانق الموجةَ مَدّاً وآنحسارا

لم يُغازلْ ساحلاً منها ولا خافَ القرارا

يا دجيَّ العيشِ إن يَخْبُ دجى الناس ِ ، أنارا...

 

ثم يعود الشاعر الكبير ليكتب ما يظنهُ يروض النفس، لتجاوز "الهضيمة" التي يشعر بها وحتى من الأقربين، خاصة وهو صاحب المآثر والمنابر، محملاً الذات جزءاً مما يعاني منه، بعد أن اختار نهج الثورة والتجديد، معيباً المهادنة والمساومة:

 

يا غريبَ الدارِ وجهاً ولساناً ، واقتدارا...

لا تُشِعْ في النفسِ خُذلاناً وحَوِّلهُ انتصارا...

أنتَ شِئتَ البؤسَ نُعمى ورُبى الجنَّاتِ نارا

شئتَ كيما تمنحَ الثورةَ رُوحاً أنْ تثارا...

عبَّدوا دربَك نَهْجاً فتعمَّدْتَ العِثارا

وتصوَّرت الرجولاتِ على الضُرِّ اقتصارا...

يا غريبَ الدار مَنسياً وقد شعَّ ادِّكارا

ذنبهُ أنْ كان لا يُلقي على النفسِ سِتارا

إنَّه عاش ابتكارا ويعيشون اجترارا

 

ولكي يعزز بالوقائع ما يشكو ويتهضم منه، وما يعيبه على أصحاب القرار وغيرهم، يبدأ الجواهري المباشرة في التصريح، غير مبالغ... فبعد كل عطائه الوطني والابداعي على مدى عقود، يعيش الرمز الوطني، المغترب بكل صعوباته وأرقه، صاباً جام الغضب على بلاد لم يستطع أن يمتلك فيها حتى "حويشة" بينما يتنعم الرائبون، والمنحنون..

ثم يعود الشاعر لينوّه إلى حكم التاريخ اللاحق، وعلى الآتي من الأحداث، بل ومتنبئاً بها... نقول متنبئاً، وقد صدق بما قال وأوحى، وذلك هو أمامنا، العراق وما عاشه من مآس ٍ حد التميز:

 

يا غريبَ الدارِ لم تَكْفَلْ له الأوطانُ دارا

يا "لبغدادَ" من التاريخِ هُزءاً واحتقارا

عندما يرفع عن ضيمٍ أنالتهُ السِتارا

حلأَّتْهُ ومَرَت للوغدِ أخلافاً غِزارا

واصطفت بُوماً وأجْلَتْ عن ضِفافَيها كَنارا...

يا لأجنادِ السفالاتِ انحطاطاً وانحدارا

وجدت فرصتَها في ضَيْعةِ القَوم الغَيارى

 

... ولكي يهدأ من ذلك الغضب العارم، يروح الجواهري في الأبيات التالية حانقاً، محملاً زعامات ثقافية وسياسية، مسؤولية ما أحاق به من ظلم واجحاف... وهو يمثل هنا بالتأكيد نموذجاً للعشرات، بل المئات من المبدعين والمناضلين وغيرهم، ممن اضطروا للاغتراب، أو اختيار المنفى اضطراراً... ثم يتطوع بعدها الشاعر الرمز ليوزع صفات ٍ يعتقدها بحق الذين تسببوا في تلك الأوضاع وما آلت إليه، بل وليبقي من ميسمه في جباههم وشماً "خالداً" يعيرون به جيلاً بعد جيل:

 

يا غريبَ الدارِ يا من ضَرَبَ البِيدَ قِمارا...

ليس عاراً أنْ تَوَلِّي من مسفّينَ فِرارا

دَعْ مَباءاتٍ وأجلافاً وبيئينَ تِجارا

جافِهِمْ كالنَسرِ إذ يأنَفُ دِيداناً صِغارا

خلقةٌ صُبَّتْ على الفَجرةِ دعها والفِجارا

ونفوس جُبلت طينتُها خِزياً وعارا

خَلِّها يستلُّ منها الحقدُ صُلْباً وفَقارا...

أنت لا تقدر أن تزرعَ في العُور احورارا...

 

... وأخيراً، وإذ يحين "مسك" الختام والايجاز لكل ما سبق وأشير إليه من وقائع ورؤى، يكتب الجواهري "معاتباً" "أصدقاء" ظنهم، و"أدباء" و"مثقفين" أحبهم ولكنهم تجافوا، خوفاً أو تنصلاً... أو لأنهم "حيارى" حتى في أمورهم ذاتها، مما جعله يسعى حتى لأن يختلق الأعذار لهم:

 

يا غريبَ الدارِ في قافلةٍ سارت وسارا

لمصيرٍ واحدٍ ثم تناست أين صارا

سامحِ القومَ انتصافاً واختلِق منك اعتذارا

علّهم مِثلَكَ في مُفتَرقِ الدربِ حَيارى

سِرْ واياهم على دربِ المشقاتِ سِفارا

فاذا ما عاصفُ الدهرِ بكم ألوَى وجارا

فكن الأوثقَ عهداً وكُن الأوفى ذِمارا

--------------------------------

مع تحيات مركز الجواهري

 للثقافة والتوثيق/ أيار 2022...

     www.jawahiri.net

 

 

الجــواهري .. في

مواقف ومحطات سياسية

* رواء الجصاني

جهد كثير من الباحثين والمعنيين بتاريخ محمد مهدي الجواهري (1898-1997) وحياته، للوقوف عند توثيقاته لأحداث العراق، والأمة، والانسانية شعراً، دون تركيز واسع في هذا السياق على مشاركاته المباشرة في الفعاليات والأنشطة السياسية، برغم تأكيدنا بأن لا يمكن فصل قصيد الشاعر الخالد عن تلك المواقف والرؤى والاراء السياسية، التي تواترت طوال ثمانية عقود ..

  ... وتعود أولى مشاركات الجواهري الوطنية حين قام وهو فتى، في لصق وتوزيع المنشورات على جدران وأبواب مرقد الامام علي ابن ابي طالب في النجف اثناء حصارها عام 1917. ومن ثم في قصائده المباشرة عن الثورة العربية ضد العثمانيين، وبعدها في ثورة العشرين، وعنها، وحتى انتقاله إلى بغداد وانضمامه فترة من الوقت لديوان ملك العراق، الأول، فيصل بن الحسين، وذلك أواخر عشرينات القرن الماضي، وهي عشرينات الجواهري في آن..

   ثم يترك الجواهري البلاط الملكي منتقلاً للصحافة، ليمارس عبرها التنوير والتثوير والدخول في المعترك السياسي المباشر دون حدود. وهكذا راحت مقالاته في صحفه الخاصة (الفرات، الجهاد، الرأي العام..) او في الصحف الاخرى، دعوا عنكم قصائده، تاتي أُكلها في احداث البلاد السياسية والوطنية وأطرها المختلفة، ومنها انحيازه لانقلاب بكر صدقي، ثم انقلابه عليه أواسط الثلاثينات، وفي معمعان احداث آيار/ مايس 1941  التي اضطر بسببها للخروج من العراق فترة قصيرة. ليعود بعدها فيشارك بفاعلية وحماس في تأسيس حزب الاتحاد الوطني عام 1946 مع عبد الفتاح ابراهيم وناظم الزهاوي، ونخبة من مثقفي ذلكم الزمان، وليستقيل منه بعد فترة وجيزة بسبب اختلاف الرؤى والمواقف..

   وفي هذا السياق يهـمّ الجواهري ان يدخل في مضمار النشاط البرلماني فيترشح في الانتخابات التشريعية عام 1946 ويفشل فيها، ثم يترشح ثانية ليدخل مجلس النواب مرة أولى، وأخيرة، عام 1947 وليستقيل منه بعيّـد ما اصطلح عليه "وثبة كانون" عام 1948 منحازاً للجماهير، ورحاب التنوير، وقد تحمل ما تحمل جراء ذلك..

    وبعد فترة انكفاء سياسية قصيرة، بحسب ما وثقه الجواهري ذلك، للتاريخ، عام 1953 استنهض الشاعر الرمز، النفس تالياً ليخوض غمار السياسية المباشرة مجدداً، وليضطر لطلب اللجوء السياسي في سوريا عام 1956 ويعود منها عشية حركة/ ثورة الرابع عشر من تموز 1958 فيشارك في أحداثها، ليس شعراً وحسب، بل وفي خضم نجاحاتها وتداعياتها، ومنها رئاسته لأبرز موقعيّن ثقافيين في البلاد في آن واحد، ونعني بهما اتحاد الأدباء، ونقابة الصحفيين. ولم يكتف بذلك بل دخل ضمن أبرز طالبي تأسيس الحزب الجمهوري عام 1960 والذي لم تجــزه الحكومة..

   وبسبب مواقفه السياسية ومقالاته، فضلا عن قصائده- طبعا- تعرّض الجواهري من جديد لمضايقات السلطة الجمهورية، وزعيمها عبد الكريم قاسم مباشرة، وصلت التحريض عليه، وتهديد حياته، ولحد اعتقاله، ولو لساعات... فقرر من جديد ، بعد مصر وايران وسوريا، الابتعاد من البلاد، إلى مغترب جديد، في براغ عام 1961..

   وهناك، لم يكف الجواهري عن دأبه الوطني، وليس بالشعر فقط .. فكان بيته ومقامه في العاصمة التشيكية، مزار الزعماء والمسؤولين السياسيين العراقيين بشكل رئيس : لقاءات واستشارات وتبادل آراء، بل واستشفاف نبوءات بحسب أحاديثه الخاصة للمقربين. ثم، وإلى المعترك مباشرة حين ترأس اللجنة العليا للدفاع عن الشعب العراقي بعيّـد الانقلاب الدموي البعثي في شباط 1963 والتي ضمت جمعا متميزا من مثقفين وسياسيين وطنيين، وشيوعيين، من بينهم: نزيهة الدلمي  وفيصل السامر وجلال الطالباني وذو النون ايوب ومحمود صبري.. 

   وفي خريف عام 1968 يعود الجواهري للبلاد متفائلاً، كما هي حال الكثير من الأحزاب والقوى السياسية والزعماء والأفراد... وجُددت له رئاسة اتحاد الأدباء، وعضوية الهيئة العليا لمجلس السلم والتضامن العراقيين، ومعروف ما ترتب على ذلك من انشغالات ثقافية وسياسية وغيرها، مثل المشاركات العديدة في ندوات ومؤتمرات واحتفالات عقدت ونظمت في الكثير من العواصم والمدن العربية والاجنبية..

   وإذ تتأزم الأوضاع في أواخر السبعينات الماضية الى مديات بلا حدود، في البلاد العراقية، فتشمل الاعتقالات والعسف حتى بعض افراد عائلته، يشدّ الجواهري الرحال، وإلى براغ مرة أخرى، وكذلك دمشق الشام،  حيث واصل اهتماماته الوطنية والتي تراوحت في صمت مدوي رأى فيه موقفا، او في قصائد واحاديث واراء مباشرة من أحداث البلاد وتداعيات سياسات النظام الدكتاتوري الذي كشف كل أوراقه، وممارساته المدمرة، ومن أشدها الحرب مع ايران، وغزوه دولة الكويت... ولعل أبرز مواقف الجواهري المناهضة بهذا الشأن مشاركته في مؤتمر المعارضة العراقية في بيروت عام 1991 فكان، بحسب مشاركين يعّتـد بهم: فصيلاً وطنيا سابعاً، بمفرده، إلى جانب الفصائل القومية والاسلامية والديمقراطية الستة التي شاركت في ذلك المؤتمر. وهكذا دامت المواقف والقصائد والمشاركات، دون حدود، وحتى لفترة قصيرة قبيل رحيله الى الخلود، عام 1997.

    أخيراً لابد من الاشارة أيضاً في هذه التأرخة السريعة، الموجزة والمحدودة كما هو واضح،  إلى أن الجواهري لم يحصر مواقفه ومشاركاته السياسية في بلاده وحسب، بل انشغل ووثق – بالشعر على الأقل – للاحداث والشؤون العربية، بأتراحها وأفراحها،  في قصائد متفردة تتحدث بنفسها عن نفسها، وكذلك للكثير من المناسبات والمنعطفات الانسانية والدولية.. وكل ذلك يتطلب دراسات وتأرخات اضافية اخرى، الى جانب ما جاء به العديد من البحوث الاكاديمية، والمتابعات، والمنشورة في كثيـر من وسائل الاعلام، المقرؤة والمرأية والمسموعة..

-----------------------------------* رواء الجصاني: براغ اوائل آيار/ مايو 2022

*هوامش ومصادر:

1/ ديوان الجواهري، طبعة بغداد عام 2021 بستة اجزاء

2/ جزأا مؤلف " ذكرياتي" للجواهري عامي 1989-1990

3/ كتاب " الجواهري.. بعيون حميمة" لـرواء الجصاني / بغداد براغ عام 2016

4/ شهادات ووثائق خاصة

 

 

 

عشرون عاما على اطلاق

مركز الجواهــري للثقافة والتوثيق

- رواء الجصاني(*)

 

    في هذه الايام، نحتفي مع المحبين والمتابعين والاصدقاء بالذكرى السنوية العشرين لتأسيس مركز الجواهــري، للثقافة والتوثيق، الذي اطلقه رسميا في براغ بتاريخ 2002.4.17  الدكتور الاديب محمد حسين الاعرجي، والمستعرب التشيكي البارز، يارومير هايسكي، ورئيس تحرير "بابيلون" للاعلام، رواء الجصاني..

    لقد جاء اطلاق المركز، منظمة مدنية، في براغ تحديدا، وذلك لدواع عديدة من اهمها ان الشاعر الخالد عاش في هذه المدينة الزاهية نحو ثلاثين منها (1961-1991) وقد كتب – من جملة ماكتب، وابدع فيها-  نحو 15 قصيدة حول براغ وعنها وعن طبيعتها واهلها وسحرها وثقافتها.. وهي التي اطالت الشوط من عمره، بحسب قصيده..

  واذ لسنا هنا - في هذه السطور المعدودات- بصدد حصر النشاطات التي نهض  بها المركز، متنوعة الاشكال والمضامين،  دعونا نشير سريعا الى ان من بينها العشرات من الفعاليات الثقافية والاصدارات، والمشاركات المختلفة، وضمن الامكانيات المتاحة للعصبة التي تطوعت، والى اليوم، بادارة المركز والنهوض - بقدر ما استطاعت - في اتمام ما تحقق.. كما دعونا نتوقف - وسريعا ايضا- عند الابرز من تلك الفعاليات، وأولها السعي لتوثيق تراث الشاعر الخالد، واصداراته واوراقه الخاصة، وصوره، وما كتب عنه وحوله من مؤلفات وبحوث ودراسات وسوى ذلك من مشابهات..  كما لا يفوتنا هنا الا ان نشير الى حالتين آخريتين، وعلى سبيل المثال، لا الحصر، ونعني بهما: 

اولا/  تقديم مشروع النشيد الوطني العراقي الجديد، عام 2009 من ابيات الشاعر الخالد، الذي استقطب اهتماما كبيرا من الاوساط المعنية، الثقافية والسياسية وغيرها، ومطلعه: "سلامٌ على هضباتِ العراقٍ وشطيّهِ والجرفِ والمنحنى".. والذي تطوعت لتلحينه وتوزيعه، موسيقيا، نخبة من الفنانين المميزين..

ثانيا/ اطلاق حملة اعلامية واسعة عام 2011 لمنع البيع التجاري لبيت الجواهري الاول والاخير في العراق، اثمرت عن قيام امانة العاصمة - بغداد باستملاك البيت، وبهدف تحويله الى معلم تاريخي، وقد انجزت خطوات كثيرة بذلك الاتجاه، وعسى ان لا تطول المدة اكثر مما مضى لاتمام المطلوب..

  لقد أطلق مركز الجواهري، وأ نطلق، وما برح الى اليوم، معتمدا على مجهودات فردية وحسب، ولعل ذلك ما يمكن التفاخر به، بحق، في لجة "مراكز" و"منظمات مدنية" عديدة، لها ما لها من امكانيات مادية ومالية واسعة.. ومن هنا يأتي التفاخر الاضافي بما حققه المركز من نشاطات وفعاليات نوعية مميزة كما نزعم، ويزعم معنا العشرات من المواكبين الذين اطلعوا عن قرب وعن بعد، بل وزاروا المركز، او شاركوا وتابعوا فعالياته بهذا القدر او ذلك ..

  اخيرا، لا بــد لنا بهذه المناسبة من تجديد الشكر والتقدير لكل من عاضد مركز الجواهري، معنويا، وكل الاصدقاء والمتابعين والاحباء الذين قدروا هذه "المغامرة" التي خضناها منذ عشرين عاما بالتمام والكمال، وعسى ان نتمكن من المواصلة على طريق التنوير، واشاعة الثقافة الانسانية ..

------------------------------------------------------------

(*) رئيس مركز الجواهري للثقافة والتوثيق

 

 

من وصايا الجواهري الكبير

لطلبـــة وشبـــاب العــــــراق

* رواء الجصاني

*حتى قبل قصيدته الميمية الشهيرة في المؤتمر التأسيسي لاتحاد الطلبة العام، مؤتمر "السباع" عام 1948(1) كان للطلبة والشبيبة موقعهم الزاهي، والأثير، في العديد من قصائد الجواهري الكبير ... وهكذا استمرت الحال، وعلى مدى عقود شعره الثمانية المعطاء...

*وفي التالي، وبمناسبة الذكرى الرابعة والسبعين لتأسيس اتحاد الطلبة العراقي العام، التي تصادف في الرابع عشر من نيسان الجاري، نقتبس مقتطفات موجزة من قصيدة متفردة، ألقاها الشاعر الخالد بتاريخ السادس عشر من شباط 1959 في قاعة سينما الخيام، ببغداد،، خلال المهرجان الطلابي الذي حضرته وفود من مختلف أنحاء العالم، بمناسبة انعقاد المؤتمر "الثاني" للاتحاد، وقد نشرت كاملة في جريدة "الرأي العام"، العدد 91 (17 شباط 1959) وضمتها بعد ذلك بطون دواوينه بطبعاتها المتعددة:

 

أز ِف َ الموعدُ والوعدُ يعـِـنُّ/ والغدُ الحلوُ لأهليه يَـحـِـنُّ

والغدُ الحلوُ بكم يُشرق وجهٌ/ من لدنـْـه، وبكم تضحك ُ سـِـنّ

والغدُ الحلوُ بنوه أنتمُ/ فاذا كان لكم صُلْبٌ فنحن

فخرُنا أنـّـا كشفناه لكمْ/ واكتشافُ الغد ِ للأجيال ِ فنّ

***

يا شبابَ الغد ِ إنـّـا فتية ٌ/ مثلكُم فرَّقنا في العُمـْـر سنّ

لم يزلْ في جانـِـحيْـنا خافق ٌ/ لصُروف ِ الدَّهر ثَبت ٌ مطمئنّ

لا تلومونا لأنـَّـنا لم نكنْ/ مثلـَـكمْ فيما تـُـجَـنـّـون نـُـجـَـنّ...

عبقرٌ واد ٍ نزلنا سفحـَـهُ/ شـَـتوة ً فهو أصم ُّ لا يـَـر ِنّ (2)

ونزلتم ْ فتلقـَّـاكـُـمْ به/ الربيع ُ الغض ُّ والروض ُ الأغنّ..

البديعُ البدعُ أن يلحـَـقـَـكُمْ

في مضامير ِ الصِّبا عـَـوْدٌ مُسـِـنّ (3)

* * *

يا شباب َ الغد ِ: هذا وطن ٌ/ كـُـلـُّـه ُ فضل ٌ وألطاف ٌ ومَنّ

ليس ندري من خفايا سـِـحْره ِ/ غيرَ أطياف ٍ وأحلام ٍ تـُـظنّ

عجب ٌ هذا الثـَّـرى تألفـُـه ُ/ وإلى أتفه ِ ما فيه تـَـحـِـنّ

تصطلي العـُـمـْـرَ جحيماً عندَه/ وهو فيما تعـِـدُ الجنـَّـة ُ عدْن..

فاستمنـّـوه بما تـُـعطونه/ من دم ٍ ... إنَّ الحمى لا يـُـسـْـتـَـمـَـنّ

* * *

يا شبابَ الغد ِ أنتم فكرة ٌ/ يـَـعذُبُ اللفظُ بها إمـّـا تـَـعـِـنّ..

كُلـُّـكمْ يا فتية َ الحيّ يدٌ/ واليدُ اليُسرى إلى اليُمنى تـَـحـِـنّ

كنياطِ القلبِ أنتم بعضُها/ إذ يَئنُّ البعضُ يشكو ويئنّ..

* * *

يا شبابَ الغد ٍ كونوا شـِـرعةً/ للعلا والبأس ِ واللطف ِ تـُـسـَـنّ

سالموا ما اسطعتمُ حتى إذا/ شنـَّـها حرباً أخو بغي ٍ فشـُـنـّوا

وآبدأوا الخيرَ سباقاً بينكم/ فاذا بُودئتمُ الشرَّ فثـنـّـوا

* * *

إجمـِـعوا أمرَكُمُ فالدهرُ جمرٌ/ ودمٌ لا خمرةٌ تجبى ودَنّ

يعمل الجيلُ لجيل ٍ بعده/ ولقرن بعده يتعب قرن..

ريثما ينتظمُ الكونَ غـدٌ/ يطرُدُ الفجرُ به ليلاً يعنّ

يطرُدُ البؤسَ به رفقٌ وعدل/ والحزازات ِ مصافاةٌ وأمن

ـــــــــــــــــــــــــ

هوامش:

(1) ومطلعها: يوم الشهيد تحيةٌ وسلامُ/ بك والنضال تؤرخ الاعوام

(2) عبقر: واد جميل..

(3) العَود: الجمل المسن. ويراد به هنا الشيخوخة..

** الصورة للجواهري في احدى المناسبات الوطنية، ببغداد في زمن الجمهورية الاولى 1963/1958

 

 

 

بادية هاني فحص تتذكر:

محمد حسن الامين، ولمحات عن الجواهري

رواء الجصاني

بمناسبة الذكرى الأولى على وفاة العلامة السيد محمد حسن الأمين، كتبت الصحافية بادية (هاني) فحص عبر حسابها على فيسبوك مادة استذكارية، في التالي مقتطفات منها:
“على شرفة بيتنا الواسعة في كيفون، كانت شمس المغيب ضيفة مجالسنا، كنا ننتظر انحدارها التدريجي نحو البحر، لنستدرج بعضنا بعضا إلى مجلس الشعر... ولا يكتمل المشهد، إلا بوصول السيد (محمد حسن الأمين) كان السيد كما الشعر، زين مجلسنا، ننتظر مجيئه في نهاية الأسبوع، لنقرأ عليه ما حفظناه من قصائد لشعراء يفضلهم كأبي، ننهي نوبتنا الشعرية بسرعة، ثم نجلس متلهفين، لنصغي إليه، كيف تنقلب القصيدة أكثر مهابة وجلالا، بصوته...

  … كان السيد شاعرا، كتب أعذب الشعر، وكان شاعرا أكثر، بطريقة تفاعله مع القصيدة، كان يلقيها بيديه وقلبه وعينيه، بنبرة تضفي عليها بعدا حسيا، تزدحم فيه الإشارات، وتتسع الرؤية، وتعلو وتهبط موجات الصوت كأنها تتنقل فوق سلم موسيقي، وتنتشر رائحة الفصاحة، فيغمغم الجالسون: الله الله... في الأسفل، تلمع بيروت الغارقة في وحول الحرب الأهلية، مثل قصيدة يتيمة، والبحر يضحك لها ولنا، وفوق، على الشرفة الجبلية، تتوهج عينا السيد، مع قصيدة للمتنبي على البحر الطويل، وأخرى بالعامية لسعيد عقل، وثالثة من جواهر الجواهري..

  ... كنت أنا الطفلة الدانية من الثماني سنوات من عمرها، على خصام مع الجواهري – شيء غارق في السوريالية - كان أبي مصرا أن يحببني به، وأنا كنت صغيرة جدا على تذوق شعره، فأدخلني إصراره في خصام معه أيضا، وكان السيد محامي الصلحة… في ذلك اليوم، تجهزنا لإلقاء قصائدنا، كان عليّ أن ألقي قصيدة “فلسطين الدامية” لخصمي (الجواهري)… كنت قد أوهمت أبي بأني حفظتها، لكنني لم أفعل، وحفظت قصيدة أخرى، لشاعر مجهول، لم أعد أذكر اسمه، عثرت عليها في بريد القراء، في واحدة من المجلات الكثيرة المنتشرة في بيتنا… وقفت وكلي ثقة باختياري وألقيتها، وما زلت أغيبها حتى اليوم…

   ...أنهيت القصيدة، والصمت مخيم على الجالسين، لا ثناء، لا أحسنت، الكلمة المرافقة دوما لمجلس الشعر، ثم، انفجر الجميع بالضحك، حتى هطلت دموعهم. إلا السيد، لمحت عينيه تبتسمان لي، وأنا أوشك أن أبكي، فهدأ روعي، ثم أدناني منه وربت على كتفي وقال لي: “أحسنت يا حلوتي…أعجبني اختيارك، أريد منك في المرة القادمة، أن تحفظي “يا دجلة الخير” وهي لخصمك أيضا - الجواهري” ثم ألقاها أمامي بطريقته السحرية، فأدمعت وأدمع… مولاي الحلو، كما لاذ الشاعر بدجلة، ألوذ بهذه الذكرى، من ظمأ الشوق وقسوة الفراق. مولاي، يا جميل الصوت والروح والقلب والمحيا، تحية لك في ذكرى رحيلك الأولى، خسارتك لا يعوضها شعر ولا عمر…”

 

 

 

 

 

الجواهـــري في البصرة،

ومع اهلها ومثقفيها

رواء الجصاني

    خلال مراجعة موضوع توثيقي نشرته مؤخرا، موسوم "مع الجواهري في حواضر ومدن العراق" فاضت الذاكرة عجولا  ببعض صور ولقطات واسماء عن محطات في "مقامة" الشاعر الكبير في البصرة وعنها وحولها، تصلح لموضوع توثيقي منفصل، يؤرخ لعدد من الشؤون، ويؤشر دلالات معبرة، وبأتجاهات مختلفة..

   والمبتدأ انه كان يصف فيحاء العراق في مجالسه الخاصة والعامة بأنها " البصرة وكفى" .. وفي هذا الاطار ننقل عن الباحث  الاردني المميز. د. يوسف بكار:  "أن الجواهري الذي زار محافظات العراق زيارات «خطف» – كما يقول – بدأت منذ أيام التدريس فيها وأيام الصحف التي أصدرها، وكانت تربطه علاقة قويّة بها. وقد استهوته من بين مدن العراق اثنتان: البصرة والحلّة. وكان يقول في منفاه الدمشقي: ( لو قدّر لي أن أعود إلى العراق لما اخترت غير البصرة أسكن فيها… بعدها الحِلّة، لأن البصرة «كلّ شيء فيها، ما يوجد فيها لا يوجد في غيرها، إنّها تختلف عن العراق كلّه، إن أهلها معروفون بشيمتهم وكرمهم وطيبتهم… وباختصار " أموت على البصرة") ..أما الحلّة، فلأن «موقعها جميل. قريبة من بغداد، وناسها منفتحون، بل إنها قريبة من النجف، وقد  درّست فيها بين عام 1930 وحتّى عام 1932" (1)

* اصدقاء مميزون

     تحدّثنا "ذكريات" الجواهري، وديوانه ومجالسه عن علاقات شخصية عديدة كانت تربطه مع "البصراويين" مثقفين وشخصيات عامة وغيرهم، ومنهم اصدقاء ومعارف مميّزون، وقد اورد او اشار لاسماء بعضهم في قصائده، وكتاباته واحاديثه ومن اقدمهم الكاتب والشخصية المرموقة عبد الرزاق الناصرى، الذي توطدت علاقتهما الشخصية بشكل وثيق اواخر عشرينات واوائل ثلاثينات القرن الماضي في بغداد، واستمرت حين انتقل – الناصري- للاقامة والعمل في البصرة، ليزوره الجواهري هناك.. ثم تتحقق زيارات اخرى لتلك المدينة الفيحاء، بعد ان اصبح السيد جواد الجصاني، النجفي، صديقه، ثم صهره لاحقا(2) مديرا لمعارف اللواء (محافظة) البصرة، في الفترة 1951-1952. 

    وبعد اغتراب - لجوء الجواهري الى براغ عام 1961 راح الاديب، والسياسي والشخصية البصرية المعروفة، موسى اسد الكريم ( ابو عمران) من اقرب اصدقاء وندماء الشاعر الكبير، ولعل ابياته الاربعة على صفحة ديوانه الذي اهداه اليه توضح بعض تلكم العلاقة، ومطلعها: يا أبا عمران والدنيا ضباب وسرابُ (3) .

   وفي حقبة براغ ايضا توطدت العلاقات الصداقية والشخصية، والعائلية، مع ابن البصرة البارز، المؤرخ والوزير والسفير، فيصل السامر، الذي اقام في براغ لاجئا وناشطا سياسيا بعد انقلاب البعث الدموي في شباط 1963. وقد اشار له الجواهري في قصيدته الشهيرة"بائعة السمك" المنظومة عام 1965 ومطلعها: "وذات غداة وقد أوغلت بنا شهوة الجائع الحائر" ..

     وفي عودة لمؤلفه "ذكرياتي" يوثق الجواهري انه انتقل من بغداد مدرساً في ثانوية البصرة في النصف الاول من ثلاثينات القرن الماضي، وسكن في مركز المدينة، لعدة اشهر فقط، لينقل منها الى الحلة، جزاء نظمه قصيدة أعتبرت سياسية/ مناهضة، وهو في دائرة حكومية، ثم ليستقيل من التعليم كله، ويتفرغ للشعر اولا، وللصحافة التي عشقها، موردا لتغطية متطلبات الحياة .. كما شهدت البصرة مطلع الاربعينات محطة جواهرية اخرى، وهي عودته عبرها الى العراق من ايران، عن طريق الاهواز، حيث كان قد استقر في طهران مع عائلته أشهر قليلة، بعد احداث مايس عام 1941 احترازا من تداعيات ما عرف – ويعرف-  بحركة رشيد عالي الكيلاني..

 

* مواقف وقصائد لشعراء بصريين مميزين

   بحسب المتنبي العظيم فأن "عداوة الشعراء بئـس المقتنى" ولكن الحال تلك لم تنطبق على مواقف ورؤى شعراء بصريين متألقين من الجواهري.. ومؤكد ان المطلوب الان ان نوثق بشواهد ملموسة على ما نزعم به. ومن بين ما متوفر عندنا : ما كان يكنّه بدر شاكر السياب للجواهري، ووصفه بــ " أعظم شاعر في ختام النهج التفعيلي للشعر العربي" (4) .. مع الاشارة الى ان (بدراً) تعاون في تحرير بعض صحف الجواهري مطالع الخمسينات الماضية (5).

   اما الشاعر سعدي يوسف فكانت علاقته أطول زمنــا، واوثق، مع الجواهري، ليس ثقافيا وحسب، بل واجتماعيا ايضا، وقد رثاه بقصيـــدة وكتابات عديدة بعد رحيله عام 1997. الى جانب اصداره مؤلَفــاً حمل عنوان "محمد مهدي الجواهري" ضم قراءات مختارة من ديوان الشاعر الخالد (6).  

   وكذلك كانت الحال مع الشاعر عبد الكريم كاصد، اذ ثمة علاقة اليفة بينه والجواهري وخاصة في دمشق الشام خلال عقــد الثمانينات الفائت، وقد ساعد في مراجعة مؤلفه "ذكرياتي" الصادر في جزأين عامي 1988-1990 . وثمة كتابة اخرى بعنوان "الجواهري .. بين المعري وعبد الكريم كاصد" تؤشر لبعض تلكم العلاقة (7).

    كما من بين ما تجدر الاشارة له ايضا بهذا التوثيق التاريخي موقف معبر للشاعر البصري المعروف، جواد الحطاب في قصيدة " نص في رثاء الجواهري"  افتتح بها دورة مهرجان "المربــــد"  عام 2019 وكان قد نظمها بعد رحيل االشاعر الخالد عام 1997 ونشرتها عدة صحف عربية في حينها (8) .

    اما الشاعر والفنان محمد سعيد الصكار، بصري العيش والهوى،  فله اكثر من موقف وشعر وذكريات مع الجواهري وعنه، منشور بعضها في كتابه "اخوانيات الصكار" الصادر عن دار المدى في دمشق عام 2001 وكلها محبة وتبجيل للعبقرية والعطاء.. دعوا عنكم لوحته ذائعة الصيت، وبأكثر من شكل ابداعي، حين  خط فيها ورسم وأوحى من، ولبيت الجواهري الشهير "أنا العراقُ لساني قلبه ودمي فراتهُ وكياني منه أشطارُ"..

  

كتابات وبحوث ودراسات

   لقد كان من المفترض، بل والمهم ايضا، ان نوثق في سياق هذه "المقامة"  بشكل اوسع، مواقف وكتابات المثقفين البصريين – وما اكثرهم وأجلهم- عن الجواهري، تأرخة وبحوثا ودراسات وغيرها، ولكن البعد عن الذوات المعنيين، وعن المصادر ذات الصلة، حال دون التمكن من اتمام الأمر بالشكل المطلوب.. وبرغم ذلك  دعونا نشير على سبيل المثال لا الحصر الى آثار الاديبين، والناقدين البصريين النافذين، ياسين النصيّر، ومحمد الجزائري عن الجواهري الخالد، وهي عديدة وعلى امتداد سنوات، بل وعقود.. ومن بينها – على سبيل المثال-  مساهمة النصيّـر المتميزة بمناسبة الذكرى العشرين لرحيل الجواهري (تموز 2017) ومما جاء فيها أنه أول من اطلق عليه وصف " النهر العراقي الثالث" .. اما لمحمد الجزائري فنوثق لحواره الثري مع الجواهري، عام 1975 الذي نشرته صحيفة "الجمهورية" البغدادية بشكل بارز ..

  ... ونوثق ايضا لاطروحة دكتوراه موسومة بـ "لغة شعر الجواهري" أتممها الباحث على ناصر غالب في جامعة البصرة عام  1995. ودراسة د. صدام فهد الاسدي الموسومة "الغربة والحنين الى الوطن في شعر الجواهري" . كما نشير لما ادلى به الشاعر كاظم الحجاج في تصريح خاص بأنه يحفظ نصف شعر الجواهرى (9) . وكذلك الى ما كتبه الاستاذ جاسم المطير في الذكرى العشرين لرحيل الجواهري .. وللبحث الموسوم " دلالات الرثاء في شعر الجواهــــري" للباحث اسماعـــيل عوض رشيد المنشور في مجلة اداب البصرة عام 2013 . و" بنية الأفعال في قصيدة (أزح عن صدرك الزبد) الجواهري، للباحث صيوان خضير خلف، المنشور مجلة أبحاث البصرة للعلوم الإنسانية، بتاريخ 2011.6.30.

 

* وللفنانين البصريين شواهدهم وشهاداتهم..

   والبداية التي ننطلق منها بهذا المحور، هي للفنان التشكيلي فيصل لعيبي، صاحب التخطيطات الباهرة للجواهري، بالاسود والابيض، في الثمانينات الماضية،  وكذلك "البورتريه" المجود والمعبر للشاعر العظيم، بالالوان عام 1996 .. كما نعرج من التشكيل الى الموسيقى والغناء فنوثق لما انجزه الفنان حميد البصري من لحن جميل لبعض مقاطع قصيدة الجواهري الشهيرة "يا دجلة الخير" .. وكذلك لأداء المطرب المميز فؤاد سالم وهو ينشــد للجواهري، ومن ابيات "دجلة الخير" ايضا .. كما لا يمكن ان ننسى دور الفنان عبد الستار البصري في تجسيد شخصية الجواهري في مسلسل "كبرياء العراق" ذي السبع حلقات من اخراج انور الحمداني وانتاج قناة السومرية عام 2011.

  

* ابن الفراتين في " مربد البصرة "

اما الحدث الابرز بين البصرة والجواهري، فذلك الذي حدث عام 1969 خلال الدورة الاولى مهرجان "المربد" الشعري، حين هرعت جموع بصرية حاشدة، الى محطة "المعقل"  لأستقبال شاعر الوطن القادم اليهم من بغداد بالقطار. وقد تكرر الحشد الجماهير الكثيف حين كان يلقي قصيدة جديدة - ذاع صيتها بشكل كبير لاحقا-  امام حضور المهرجان والمشاركين فيه (10) وجاء مطلعها: ..

يا "ابن الفراتين" قد أصغى لك البلدُ، زَعْماً بأنك فيه الصادحُ الغَرِدُ..

ما بين جنبيكَ نبعٌ لا قَرارَ له، من المطامح يستسقي ويَرتفد..

كأن نفسَك بُقيا أنفسٍ شَقيت، وكلّ ذنبِ ذويها أنهم وُجِدوا

وأنهم حلبوا الأيام أضرعها، حتى إذا محضتهم دَرّها زَهَدوا

 

* الابن على سر ابيـه

   والابن هنا نجل الجواهري الثاني، الكاتب والفنان التشكيلي، الدكتور "فلاح" الذي عشق البصرة فأنتقل اليها طبيبا متخصصاً بالأشعة في مستشفاها المركزي، اواخر الستينات الماضية، ولنحو سبعة اعوام، ويتزوج من بصرية جليلة (11) وليتميز هناك بصلاته الاجتماعية، والثقافية الوطيدة، وبمحبته لاهل المدينة الفيحاء، ومحبتهم له، وليكتب عنها الكثير من الذكريات الجميلة قسم  منها منشور وموثق في كتبه، كما في موقع "ايلاف" الالكتروني، ومنذ اعوام ..

    كما نوثق هنا ايضا بشكل سريع  لعلاقات الجواهري الصداقية والاجتماعية مع وجوه وشخصيات، رسمية وعامة في البصرة خلال تواجده فيها، او خارجها، ومن بينها التي وردت في احاديثه الخاصة، ومجالسه وجزأي ذكرياتـه، وهم من بيوتات وعوائل وعشائر كريمة مثل : النقيب، أل باش عيان، أل زينل (12)  وكذلك السعدون، والذكير، وبركات، والسعد (13)  .

 

* أخيـرا...

    نؤكد مرة اخرى- كما هي عادتنا في توثيقات عديدة عن الجواهري - بأن المادة هذه ليست سوى محاولة تأشير وحسب، وعناوين، قد تسهل امام الباحثين، مشاريع تفيد وتوسع محطات عن الشاعر الخالد، ليس في جوانبها الشخصية والذاتية فقط،  بل لأحداث ووقائع ثقافية وسياسية، عراقية بشكل رئيس، وعسى ان يكون زعمنا هذا في محله، معتذرين سلفا اذا ما فاتتنا سهوا الاشارة الى اسماء وشخصيات عامة ذات صلة بـ "الجواهري والبصرة" وعسى ان يصحح لنا، ويضيف المتابعون والباحثون ما عندهم لاستكمال هذه الكتابة التوثيقية ...

------------------------------------------------------------------------------------------

** هوامش واحالات:

1/ بغداد في ذاكرة الجواهري - صحيفة الرأي http://alrai.com/article/567106.html

2/ وهو زوج (نبيهة) شقيقة الجواهرى، وانجبا" كاظم ورجاء ولواء ونداء وصفاء.. ورواء، كاتب هذا التوثيق.

3/ والابيات منشورة في كتاب د. محمد حسين الاعرجي (دار المدى – دمشق 2002) ونصها:

"يا أبا عمران والدنيا ضبابٌ وسرابُ / وأحاديث كذابٌ، واباطيلُ سحابُ / واحدٌ منهنّ ما ضُمّنهُ هذا الكتابُ / لكَ يُهدى، وكلانا في الأباطيل سَحابُ"

4/ بدر شاكر السياب : دراسة فنية وفكرية / حسن توفيق / اصدار  المؤسسة العربية للدراسات والنشر- بيروت 1979.

5/ "الجزء الاول من "ذكرياتي" للجواهري/ دمشق 1988 - ص 485.

6/ دار المدى – دمشق 2001 .

7/ صفحة 126 من  كتاب" الجواهري.. بعيــــون حميمة" لرواء الجصاني ، اصدار بابيلون – براغ / بغداد عام 2016.

8/ ومما جاء فيها: "لم اربّ من قبل حماما، لا اشعل ؛ لا ابيض ؛ لا اصفر ؛ لا رماديا..

من اجلك – انت فقط – ذهبت لسوق الغزل، واشتريت مائة طير زاجل، (بعدد سنواتك يا نَسرَ لُبَد) واطلقتها ؛ باتجاه مقبرة الغرباء".

9/ في حديث شخصي مع الشاعر نقله لنا د. محمد معارج الحجاج (حزيران 2021) والذي زودنا ايضا بعناوين بعض البحوث والدراسات المنشورة في اصدارات جامعة البصرة.

10/ اضافة للمنشور في اصدارات عديدة حول الامر، وثق لنا عن الأمر السيد خالد العلي (تموز2021) نقلا عن شهود عيان كانوا من ضمن الذين عايشوا ذلك الحدث.

11/  وهي التدريسية " ولدان " من اسرة احمد حقي ال ابراهيم الكريمة، وانجبا ثلاثة ابناء هم: زهراء وفرزدق وعمار .

12/ ومنهم المحامي المعروف يوسف زينل (ابا القاسم) الذي جاء ذكره في بيت قصيدة الجواهري الموسومة "ابا زيدون" عام 1962 ونصه" ألا ابلغ أبا القاسم انا نعصر الخمرا/ وانا نقرأ الغيّب، وانا ننفثُ السحرا".

13/ ومن عشيرة  "السعد" الكريمة، الشخصية العسكرية الوطنية غضبان مردان، الذي تزوج أخوه "سامي" من ابنة الجواهري "خيال" اواسط الستينات، وانجبا أبنتين : آمال وميادة.

 

 

ملاحظة: الصورتان المرفقتان:

-  الاولى للجواهري في القرنة، ضمن احدى فعاليات مهرجان المربد عام 1969.. والثانية - - - للجواهري في الثلاثينات

 

 

 

 

الجواهـري.. قصائد ومقامات،

في حواضر ومدن العراق

 

رواء الجصاني

 

      لا يُحسب ديوان محمد مهدي الجواهري (1899-1997) حافظة قصائد وشعر وحسب، بل راح سجلا لوقائع واجواء تغطي نحو سبعة عقود من الحياة الشخصية، والسيرة الذاتية، الى جانب من  (بل وبتشابك مع) تاريخ البلاد العراقية الحديث، بأتراحه وأفراحه، الثقافية والاجتماعية والسياسية، وما يتفرع عنها من محاور واتجاهات .. 

     وحين نوثق في هذه الكتابة عن قصائد و "مقامات" الجواهري في حواضر ومدن العراق، انما يصحب ذلك العديد من المؤشرات الحاضرة وضوحاً او ضمناً، برغم اننا لم نفصل الا قليلا في الحصر والتعداد والتأشير. وبخلافه  فأن الأمر يتطلب  تفاصيل كثيرة تسبق نظم ونشر القصيدة، ومناسبتها ومكانها وزمانها وما الى ذلك، وهذا ما يحتاج لمساحات كتابة واسعة، وجهدا اوسع، ليس في غاية وهدف هذا التوثيق، الان على الاقل. ومع ذلك فلربما ستوفر بضعة خلاصات في الخاتمة ما يفيد على تلكم الطريق..

 

1/ بيـن النجـف وبغـداد

   في النجف، مدينة الفقه والادب، ولـد الجواهري ونشأ ويفـعَ، وتمترس، على مدى ربع قرن، لينطلق منها الى بغداد.. وقد بقـيّ افتخاره  بـ "نجفيته" يرافقه تاريخا وزيارات وذكريات، موثقا لمدينته ومتحدثا عنها في مختلف مراحل حياته. وعلى ما ندري فأن زيارته الاخيرة الى النجف كانت عــام 1975 خلال حضوره احتفاء نظمته على شرفه جمعية الرابطة الادبية بمناسبة منحه جائزة "لوتـس" الدولية لادباء اسيا وافريقيا . والقى هناك - من بين ابرز ما القى-  ابيات من دالية شهيرة بعنوان "ازح عن صدرك الزبدا" وكانت جديدة لم تكتمل بعد .. اما في مفتتح الاحتفاء فقد القى  بعض شكر عجول للمضيفين والحاضرين الذي جاء عددهم سابقة في كثرته وتنوعه، كما تحدث اكثر من شاهد عيـان:

 مقــــامي بينكمْ شكرُ، ويومي عندكمْ عمـرُ..

سيصلحُ فيكمُ الشـّعرُ، إذا لـم يصلح ِالعذرُ

..  كما من المناسب ان نشير هنا ايضا الى "الكوفة" - وهي شقيقة النجف، وتتكامل معها- وكم تغنى بها الجواهري شعرا ونثرا، ومن بينها داليته العصماءعام 1969 والموسومة : (يا آبن الفراتين) حين قال مخاطبا المتنبي "صديقه" و"جاره" و" لصق داره" كما كان يصفه مرات عديدة، حين يتطرق لذكره:

أنا ابن "كوفتك" الحمراء لي طنبٌ، بها، وإن طاحَ من أركانها عمدُ

جوار كوخك لا ماءٌ ولا شجرٌ، ولصق روحـك لا مالٌ، ولا صفـدُ

ولا شكاةٌ أيشكو السيفُ منجردا، لا يخلق السيف إلا وهو منجردُ

    

  ... اما بغـداد - مدينة الجواهري التالية بعد النجف - حيث أقام فيها وثبت وانتشر وتمكن، منذ اواخر العشرينات الماضية، خائضا فيها غمار الوظيفة والصحافة والسياسة، وقبل كل هذا وذلك: الشعر والشعر، وعلى امتداد عقود. وكان اخر حضور له في بغداد مطلع العام 1980 ليغادر- بعد اشتداد الوضع في البلاد مآسيا وارهابا وعسفا، في ظل السلطة البعثية الحاكمة-  وليغترب منذ ذلك الحين الى الخارج، متناصفا بـراغ، ودمشق الذي رحل فيها الى عالم الخلود  بتاريخ 1997.7.27 ..

   اما ما كتبه شعرا عن بغداد، فكثير كثير فـ " لها الله ما أبهى، ودجلة حولها، تلفُّ كما التفَّ السوارُ على الزند" .. وقد ضم الديوان العامر في حب بغداد، خمس مغنيّات، ونحو 30  ذكـر لها في قصائد مختلفة، بين التغزل بها والتأمل فيها، والسعي لأستنهاضها. (1)

 

2/ سامراء.. وساعة مع البحتري، عام 1929

   يتردد الجواهري، ويتنقل كما هو عهده، الى هذه المدينة والبلدة العراقية او تلك، تغييرا في الاجواء، واستكشافا واستلهاما، وبدون حدود . ومن بين اوائل تلك الاماكن والمدن كانت سامراء التي كتب عنها عام 1929 عينية وصفية بعنوان (ساعة مع البحتري في سامراء).. ثم  اوحت له المدينة العريقة، بعد زيارة أخرى لها عام 1932  فقال عنها في مطولة بسبعة وسبعين بيتاً:

خُلدّتِ سامراءُ، لم أوصلكِ من، فضلٍ، حشدتِ عليّ غير قليلهِ

يا فرحة القلب الذي لم تتركي، أثراً للاعج همه ودخيله

ولقد غلوتِ فكم بقلبي خاطرٌ، عجزت معاني الشعر عن تمثيلهِ

 

3/ في الرستمية.. وعن القرية العراقية،عام 1932

   لاسباب خاصة وشخصية، يتوسط الجواهري عند اصدقاء له  في وزارة المعارف عام 1936 طالبا نقله من مدرس في النجف، الى دار المعلمين الريفية في ضاحية (الرستمية) على حدود بغداد العاصمة، وهي منطقة مزهرة خضراء، وقد نظم هناك خلال فترة عمله قصيدة وصفية جاء فيها:

كم فـي الطبيعة من مَعنى يُـضـيّعُـهُ، على القراطيس نقصٌ في التعابيرِ

هنـا الطـبيـعـة نـاجتني مـعبّـرَةً، عن حسنها بأغـاريـد العصافير

وبالحفيف من الأشـجار منطلـقـاً، عَبْرَ النسيمِ وفـي نفح الأزاهيـرِ

 

.. كما نشير - للتوثيق ايضا-  الى ان  الجواهري كان قد نشر في العام ذاته (1932) بائية، وصفية، عن بعض ملامح الريف في قرى، وبلدات فراتيــة، عراقية، زارها سريعا حينا، اوقضى فيها بضعة ايام وليال، ومن ابياتها:

للقُـريّــــات عـالَمٌ مُسـتـقـلّ، هو عن عالَمٍ سواه غريــبُ

يتساوى غروبُهم وركودُ النفس منهم وفجرُهم والهُبوب

كطيور السماءِ همّهُمُ الأوحدُ زرعٌ يـرعَـوْنــــه وحبـوبٌ

 

4/ في الحلــة ،عام  1935

   تعود علاقة الجواهري بالحلة واهلها منذ فتوته وشبابه: زيارات وعلاقات، ومدرسا في معاهد تعليمها، خلال النصف الاول من ثلاثينات القرن الماضي، اضافة  لوشائج صداقة  مع اعيانها وشخصياتها الثقافية، ولسنوات مديدة.. وفي عام 1935 يخص الحلة شعرا، حين نظم شبابها  حفلاً تكريمياً له، فيرد لهم التحية بأجمل منها، جاءت في قصيدة بأكثر من خمسين بيتاً، شملت ايضا بعض تنوير، ووقفات تأريخية موجزة:

أبناءَ بابلَ للاشعار عندكمُ ، عمارة لم يشيّد مثلها بان

ودولةٌ برجال الشعر زاهرةٌ ، معمورةٌ بمقاطيع واوزان..

هنا مَشَى الفـذُّ "بانيبالُ" مُزدَهياً، في موكِبٍ بغُواةِ الفنِ مُزدان..

من هاهنا كان تحضيرٌ لأنظمةٍ، في المشرِقَينِ وتمهيدٌ لأديان..

هنا "حمورابِ" سنَّ العدلَ معتمداً، به على حفظِ أفرادٍ وعمران

 

5/ "بنـت أرسطاليس" فـي مدينة "الحــيّ" عام1947

    كثيرا ما كان الجواهري يشير في الحوارات التي أجريت معه، انه كثيرا ما  يغتنم هذه المناسبة او تلك لبث الشعر، شكوى او تنويرا، او تأكيدا على هذا الموقف وغيره ..  وهكذا جاءت فرصة افتتاح اول ثانوية في مدينة (الحي) بمحافظة واسط ( لواء الكوت حينها) عام 1947 فيدعى لتلك المناسبة، مع وجوه وشخصيات سياسية واجتماعية رفيعة، ويلقي دالية مطولة شملت شؤونا ورؤى ثقافية وتنويرية وسواها.. ومن ابياتها :

يابنتَ (رِسطاليسَ) لُحتِ (بواسطٍ) فَنزَلت "حيّــاً"  بالصبابة حاشدا

خَصِبَ الشُعور وستَحمَدين مولّهاً، من أهله، ومُغازِلاً، ومُراوِدا..

وأذلّ خلقِ اللهِ في بَلـــَدٍ طغت، فيه الرزايا من يكونُ محايدا

 

6/ كربلاء.. و "امنت بالحسين" عام1947

   من اشهر ما يُوثق عن الجواهري وكربلاء، عصماؤه: "امنت بالحسين" عام 1947 التي فاضت بالتعبير عن المواقف والمفاهيم الطافحة بالإباء والشموخ، والممجدة للفداء والتضحيات، كما هي الحال في فرائد جواهرية عديدة (2) وان اختلفت في الصور والاستعارة. وقد القيت تلكم العينية المبهرة في الصحن الحسيني، في المدينة المقدسة، احياء لذكرى مأثرة الطّف، بحضور جمع من الشخصيات البارزة، وحشد من الجموع، وجاء مطلعها:

فـداء لمثـواك من مضـجـعِ … تـنـوّر بـالابلــج الأروعِ

ورعياً ليومـك يوم"الطفـوف"… وسـقياً لأرضك من مصرع

تعـاليتَ من مُفـزع للحتـوفِ … وبـورك قبـرك مـن مَفزع

 

7/ في (علي الغربي) عام 1955

    مخاصما وغاضبا، ومهضوما، يلجأ الجواهري عام 1955 الى فضاء ريفي  في اطراف مدينة (علي الغربي) بمحافظة ميسان (لواء العمارة في حينها) لـ "يمتهن" الزراعة هذه المرة، بعد انشغالاته الاخرى في الشعر والوظيفة الحكومية، والصحافة والسياسة وغيرهن عديد .. وقد اوحت له الطبيعة، واحدى الاستضافات الحميمة، والاجواء الانسانية،  نونية مطولة بمئة وتسعة ابيات (وجدانية - وصفية، فلسفية) موسومة بـ " أم عـوف" ومن ابياتها: 

جِئنا مغانيكِ نُسّاكاً يُبرّحهمْ، لُقيا حبيبٍ أقاموا حُـبّـه دينا

ولاءَمتنا شِعابٌ منكِ طاهرةٌ، كما تضمّ المحاريبُ المصلّينا

لم ألفِ أحفلَ منها وهي مُوحشةٌ، بالمؤنساتِ.. ولا أزهى ميادينا

ولا أدقّ بيانـاً مِن مجاهلِـهـا، ولا أرقّ لمـا توحيـه تبيّينا

 

8/ في "مربد" البصرة، عام 1969

   و"البصرة، البصرة، وكفى" بحسب ايجاز الجواهري في وصف ثغـر العراق، خلال مجالسه.. زارها وتردد عليها، وعمل فيها في الثلاثينات الماضية مدرسا في ثانوياتها أشهرا قليلة. وله في تلكم الفيحاء علاقات وصداقات متعددة مع مثقفين وشخصيات بارزة من اهل المدينة او المقيمين فيها.. اما الحدث الابرز بين البصرة والجواهري، فذلك الذي حدث عام 1969 خلال الدورة الاولى مهرجان "المربد" الشعري، حين هرعت جموع بصرواية حاشدة لأستقبال شاعر الوطن القادم اليها من بغداد بالقطار. وقد تكرر الحشد الجماهير الكثيف حين كان يلقي قصيدة جديدة -ذاع صيتها لاحقا-  امام حضور المهرجان والمشاركين فيه، وجاء مطلعها: ..

يا "ابن الفراتيّن" قد أصغى لك البلدُ، زَعْماً بأنك فيه الصادحُ الغَرِدُ..

ما بين جنبيكَ نبعٌ لا قَرارَ له، من المطامح يستسقي ويَرتفد..

كأن نفسَك بُقيا أنفسٍ شَقيت، وكلّ ذنبِ ذويها أنهم وُجِدوا

وأنهم حلبوا الأيام أضرعها، حتى إذا محضتهم دَرّها زَهَدوا

 

9/ في ربوع كردستان وعنها.. بدءا من عام 1963

   كان الجواهري منسجما مع الذات حين انحاز دائما، ودون مواربة، في حبه الكرد، واهل كردستان عموما، ودعم طموحاتهم، وحقوقهم المشروعة.. اما ايجاز ذلك الحب والانحياز فلا نرى أنه يحتاج لمزيد من الدلالة والاضافة والشرح اذا ما اقتبسنا بضعة ابيات وحسب، من ميميته المطولة الفريدة عام 1963 الموسومة " كردستان... موطن الابطال"  ذات المئة والثمانية ابيات،ومنها :

قلبي لكردستان يُهدى والـــفم، ولقد يجود بأصـغـريـه الـمـعـُـدم..

تلكم هدية مستمــيــت مـــغـرم انا بالمـضـحى والضـحـيـة مــغـرم..

نفسي الـفـداءُ لـعـبـقـريَّ ثائر يـهـبُ الـحـياة كـأنـَّـه لا يفهـَـمُ

سـلـَّـم على الجـبـل الأشــم وأهلـِـه ولأ نت تــعــرف عـن بــنـيه من هـُم

 

   كما نوثق هنا ايضا ان الشاعر الكبير كان قد كتب قصيدة عام 1961 بمناسبة استذكار الشاعر الكردي الشهير (فائق بي كآسٍ) وترجمة اسمه بالعربية " بلا أحد، الغريب" وجاء مطلع تلك القصيدة:

أخي (بي كه سٍ) والمنايا رَصَدْ، وها نحنُ عاريّـةٌ تُسـترَدْ

أخي (بي كه س) يا سراجاً خَبَا، ويا كوكباً في دجىً يُفتقد..

(بلا أحدٍ).. سُنّةَ العبقريّ، يعي الناسَ.. إذ لا يعيهِ أحــد

(بلا أحدٍ) غـيرَ خُضرِ الجبال، ووحيِ الخيال، وصمتِ الأبد

 

.. ومما نضيفه في هذا السرد، ان الجواهري قد شارك في النصف الاول من سبعينات القرن الماضي في مهرجان احتفاء واستذكار للشاعر الكردي الكبير (بيره مرد) وذلك في السليمانية على رأس وفد من الادباء العراقيين البارزين، قدموا من بغداد للمشاركة في تلك الفعالية (3)..

 

10/ في الموصل- ام الربيعين عام 1980

   تستقبل جامعة الموصل الجواهري ضيف شرف على مهرجانها السنوي، مطلع عام 1980 وتعد له برنامجا يستقيم مع مكانة الشاعر الكبير والاحتفاء به، وبحضور ومشاركة اعلام بارزين من الاكاديميين واساتذة اللغة والادب (4) .. ومما شمله برنامج الزيارة جولة حرة وسط الموصل، استقبل به الجواهري بترحاب وحفاوة بالغة من قبل بنات وابناء المدينة العريقة.. ومن ابيات قصيدته في حفل الافتتاح:

"أم الربيعين" يا من فُقت حسنهما، بثالث من شبابٍ مُشرق خَضلِ

واعٍ تلقفُ من وحي الوعاة لهُ، ما شاء من سيّرٍ جُلى، ومن مثل..

أمُ الثغور التي ناغى ملاعبها، رأد الضُحى إذ رُبوع الشرق في الطفل

يا موصل العرق من شرقٍ تمد به،  للغرب حبلا بعرق منهُ متصلِ

 

    أخيــرا .. ثمة الكثير من المدن والبلدات العراقية التي زارها الجواهري الكبير، بدعوات رسمية، او اجتماعية، او عائلية، ولم نوثق لها في هذه الكتابة التي اردنا ان يكون الشعر ذا صلة بها، بذلك  القدر او هذا. ومن بين تلكم المدن : الناصرية (وعمل فيها مدرسا لفترة قصيرة، اواسط الثلاثينات الماضية) ثم الديوانية، بعقوبة، الكوت، هيـت.. 

    كما ندعي ايضا ضرورة التوكيد مرة ثانية بأن ما جاءت به الفقرات السابقة  ليس سوى مواجيز عن "مقامات" الجواهري، وقصائده، في جمع من حواضر العراق ومدنه. ونكرر ما سبقت الاشارة اليه بأن هناك لكل مقام وقصيدة تفاصيل واحداث مرافقة، توضح وترسخ حقيقة ما "زعـمَ" به الجواهري ذات يوم من عام 1957 وكان لاجئا سياسيا في سوريا، حيــن قال مختتما قصيدته  "في ذكرى المالكي" ذات المئة والثمانية والثلاثين بيتا :

أنا العراق لساني قلبه ودمي فراته، وكياني منه أشطارُ

 

احالات وهوامش -------------------------------------------------------------------------

* ملاحظة وتوكيد: جميع ما تم التوثيق له في هذا البحث، اعتمد بالأساس على ديوان الجواهري، وجزأي ذكرياته، اضافة الى معايشات ومعلومات، ووثائق شخصية للكاتب.

** لم تتوقف هذه المادة التوثيقية الاشارة او التأشير لعلاقات الجواهري، وصلاته،  مع العشرات  من الشخصيات العامة والوجوه السياسية والاجتماعية والادبية، في الحواضر والمدن التي زارها او اقام فيها، وذلك تجنبا  للأطالة،  وعلى ان يسعى الكاتب الى توثيق أخر، معني بتلكم العلاقات والصلاة، في فترة قادمة.

 1/ تفاصيل في بحث موسوم (بغداد في ذاكرة الجواهري - صحيفة الرأي) للاستاذ يوسف بكّار منشور على شبكة الانترنيت   http://alrai.com/article/567106.html

2/ ومن بينهــا، مثــلا، قصائده عن "الوثبـــة" العراقيـة عام 1948 ولامية "سواستبــول" عــام 1942 وقصيدة "سلاما .. الى اطياف الشهداء الخالدين" عام 1963" وبائية "الفداء والدم" عام 1968 وغيرهن عديد عديد..

3/ اصطحب الجواهري معه في زيارة السليمانية: زوجته آمنة، وأخته نبيهة..

4/ ترافق الجواهري في الطريق من بغداد الى الموصل،  مع صاحبيه : د. مهدي المخزومي، ود. على جواد الطاهر..

 

 

 

عراقيون من هذا الزمان (*)

27/ كفـاح الجواهــري

رواء الجصاني

     وصاحبنا الذي نوثق له، دكتوراه في هندسة النفط،  وعمره اليوم ثمانون عاما بالتمام والكمال، وهو النجل الرابع للجواهري الخالد. غادر العراق عام 1959  بعد ان امضى سنة دراسية كاملة في كلية العلوم ببغداد، ليلتحق بزمالة دراسية الى الاتحاد السوفياتي، وفي باكو تحديدا، عاصمة اذربيجان، واكمل فيها على مدى عشرة اعوام الدراسة الجامعية والعليا..، وليتزوج هناك من زميلة دراسته (آنيــا)  وليعودا بعدها سوية الى العراق مع ابنتهما (ناديا) (1) الى العراق عام 1970..

       كان من الطبيعي ان ينخرط  - كفاح-  في العمل الوطني والسياسي، منذ فتوته وشبابه، وهو ابن ذلكم الرمز العراقي الكبير. وهكذا بدأ النشاط في صفوف اتحاد الطلبة العام داخل العراق، وواصله في الخارج، من خلال رابطة الطلبة العراقيين في الاتحاد السوفياتي .. وكذلك ضمن مهام وأطـر الحزب الشيوعي العراقي، ولعقــود..

    وفي بغداد التي عاد اليها عام 1970 كما اسلفنا، مارس التدريس الجامعي، والنشاط بحيوية حزبيا وسياسيا ، كما في هيئات نقابتي المهندسين، والمعلمين، الاختصاصية، ثم ليلاحق ويعتقل ويعذب في اقبية السلطات الامنية عام 1980 اثناء حملات الارهاب والعسف التي شنها النظام  الدكتاتوري، مما اضطره  للخروج من العراق، الى الجزائر اولا، ثم سوريا، وحتى قيام العهد الجديد عام 2003 ..

   تعيّن صاحبنا في العاصمة الجزائرية في مجال اختصاصه، واستقر هناك لنحو 5 اعوام مواصلا نشاطه السياسي المعارض، وبارزا في تقديم ما استطاع من مساعدات للعراقيين اللائذين بالجزائر والغربة بديلاً، ولو مؤقتا، بعد  الملاحقات االارهابية في بلادهم لكل المعارضين – بل وكل غير المنتمين، او الصفقين – للحزب البعثي الحاكم..

     ومنذ اواسط الثمانينات استقر كفاح في سوريا، بين حمص، استاذا في كلية الهندسة بجامعتها(2) وبين دمشق حيث الاقامة شبه الدائمة.. ومستمرا في النهج الذي اختطه سياسيا معارضا للدكتاتورية والقمع، ومتطلعا لعراق ديمقراطي مزهر. وعلى تلكم الطريق قدم ما استطاع دون كلل، وسواء كالتزامات تنظيمية عليه، او بتطــوع ذاتي، خاصة وقد كانت سوريا محطة ومستقرا لمئات بل الاف العراقيين، ومن مختلف النحل والملل السياسية والفكرية وغيرها..

   وفي دمشق الشام ايضا تكلف وتكفل صاحبنا بشؤون الوالد العظيم، وعلى مدى سنوات، وحتى حيان الرحيل في تموز 1997.. ومن بين مانوثق له هنا على سبيل المثال لا الحصر، مرافقته  للجواهري، خلال النصف الاول من التسعينات الماضية  في زياراته الرسمية الى ابي ظبي، والقاهرة، وعمّان، والسعودية، وكذلك بيروت حيث انعقاد مؤتمر المعارضة العراقية الجامع عام 1991 ..

   اما بعد الرحيل فقد نهض صاحبنا، ومنفردا في الغالب الاعم، بمهام العناية، ودعم مساعي حفظ التاريخ الثري للوالد العظيم، ومن ابرزها - كما نشهد- متابعة انجاز  الطبعة، الانيقة، شبه الكاملة للديوان الشعري العامر في بيروت، عام 2000 بخمسة اجزاء، التي اخرجها الفنان النافذ عباس الكاظم. وكذلك مشاركته – اي كفاح -  المتميزة في فعاليتي مئوية الجواهري، الحافلتين، في كل من اربيل والسليمانية، عام 2000 التي نسقها الاستاذ فخري كريم، وعداهما كثير كثيـر(3)..

     وبعد عام 2003 وانهيار النظام الدموي في العراق، عاد كفاح الى بغداد مواصلا نشاطاته والتزاماته السياسية، وكذلك المدنية، ومن ابرزها مهامه في  "منظمة أمل" الانسانية، التي كان من مؤسيسها في دمشق مطلع التسعينات.... دعوا عنكم استمراره وانشغالاته بشؤون الحفاظ على تراث الشاعر الخالد، واشاعته، بالتنسيق والتعاون مع محبيه وعارفي عبقريته ومناراته العراقية والعربية والانسانية.. ومن بينها اعداده واصداره موسوعة "الجواهري صحفيا" بثلاثة اجزاء عام 2015. اما آخرها فكانت مساهمته في متابعة اصدار طبعة مزيدة ومنقحة بستة اجزاء، لديوان الجواهري في بغداد قبل اسابيع قليلة، والتي اشرف على اتمامها وزير الثقافة  د. ناظم حسن، وعملت عليها شخصيات اكاديمية، قديرة، وجليلة. ذلكم  فضلا عن شؤون – وشجون – تحويل بيت الجواهري  في بغداد لمتحف ومركز ثقافي عام، والذي لا يعرف احد ســرّ - ولربما اسرار- تأخر اتمامه  لأكثر عقد من الزمان، ومنذ عام 2011 تحديدا، حين اطلق كاتب هذه السطور، الدعوة لتلك المبادرة..

    هكذا اذن وصلنا الى نهاية التوثيق عن كفاح محمد مهدي الجواهري، ولربما سائل يسأل عن كيفية توفر كل هذه المعلومات والمحطات والوقائع، ودون العودة لصاحب الشأن ذاته، فنقول: انها بعض شهادات عيان، ومشاركة مباشرة في قسم من الاحداث التي تم التطرق اليها في السابق من الفقرات، وبعض آخر انجازات ثنائية، لعل من اهمه اصدارنا سوية  مؤلف "الجواهري.. قصائد وتاريخ ومواقف" عام 2013 .. ذلكم فضلا عن صداقة تمتد لعقود، وخاصة في بغداد وبراغ ودمشق.. كما صلة عائلية وثيقة بين أبن خال، وأبن عمة !!. (4)

   ------------------------------ * رواء الجصاني/ براغ- اواخر تموز 2021

  (*)  تحاول هذه التوثيقات التي تأتي في حلقات متتابعة، منذ ثلاثة اعوام ، ان تلقي اضواء غير متداولة، أو خلاصات وأنطباعات شخصية، تراكمت لسنوات، بل وعقود عديدة، وبشكل رئيس عن شخصيات عراقية لم تأخذ حقها في التأرخة المناسبة، بحسب مزاعم الكاتب.. وكانت الحلقة الاولى عن علي جواد الراعي، والثانية عن وليد حميد شلتاغ، والثالثة عن حميد مجيد موسى والرابعة عن خالد العلي، والخامسة عن عبد الحميد برتـو، والسادسة عن موفق فتوحي، والسابعة عن عبد الاله النعيمي، والثامنة عن شيرزاد القاضي، والتاسعة عن ابراهيم خلف المشهداني، والعاشرة عن عدنان الاعسم، والحادية عشرة عن جبار عبد الرضا سعيد، والثانية عشرة عن فيصل لعيبــي، والثالثة عشرة عن محمد عنوز، والرابعة عشرة عن هادي رجب الحافظ،، والخامسة عشرة عن صادق الصايغ، والسادسة عشرة عن صلاح زنكنه، والسابعة عشرة عن عباس الكاظم، والثامنة عشرة عن هادي راضي، والتاسعة عشرة عن ناظم الجواهري، والعشرون عن ليث الحمداني، والحادية والعشرون عن مهند البراك، والثانية والعشرون عن عبد الرزاق الصافي، والثالثة والعشرون عن كمال شاكر، والرابعة والعشرون عن حسون قاسم زنكنة، والخامسة والعشرون عن قيس الصراف، والسادسة والعشرون عن محمد الاسدي... وجميعها  كُتبت دون معرفة اصحابها، ولم يكن لهم اي اطلاع على ما أحتوته من تفاصيل، وقد نشرت كلها في العديد من وسائل الاعلام..

* احالات وتفاصيل:

1/ تزوجت ناديا من جمال محمد علي الجواهري عام 1989 وانجبا: ديانا وسمير.

2/ الفّ المُوثقُ له، خلال عمله الجامعي كتبا وبحوثا في مجال اختصاصه، اتم اعتماد  بعضها ضمن المناهج الدراسية، والتطبيقية..

3/ تابع – كفاح-  اتمام تمثال الجواهري الخالد بنسختين، للفنان الباهر سليم عبد الله، ونقلهما من ايطاليا الى كل من اربيل والسليمانية، ، وقد أزيح الستار عنهما هناك خلال الفعاليتين آنفتي الذكر.

4/ للجواهري شقيقة وحيدة، اسمها نبيهة، وهي مدللته، والاسرة كلها، تزوجت من السيد جواد الجصاني، النجفي، في النصف الاول من الثلاثينات الماضية، ولهما  ستة ابناء... آخرهم كاتب هذا التوثيق.

 

 

 

مع الجـواهري في

عواصم ومدن العالم

رواء الجصاني

   لا يبدو ان هناك منتهى للكتابة والتوثيق عن الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري (1899-1997) منجزا، وحياةً، برغم احدى وعشرين اطروحة دكتوراه، وثلاث عشرة رسالة ماجستير، أجيزت عنه، ونحو ستين كتابا ومؤلفا رصينا، ومئات من الدراسات والمقالات والاستذكارات، دعوا عنكم اللوحات والصور والتخطيطات الفنية .. وكل تلك الارقام هي في الحدود الدنيا، ونعني ما هو مرصود وموثق لدينا الى الان.

    نشير الى ذلك في بدء هذه التأرخة، واضحة العنوان على ما نتوقع، والتي تأتي بعد ما نشرناه في محور مشابه، على النطاق (الجغرافي) العربي، واستقطب اهتماما ملحوظا، مما شجعنا لنستمر في تثنية الامر ليكون على النطاق العالمي هذه المرة (1).. 

   وانطلاقة الجواهري العالمية - الانسانية، شعرا واغترابا، واحاسيس واعجابا، أومشاركة  في مؤتمرات وفعاليات ومناسبات ثقافية وغيرها، بدأت وهو في مطلع عشريناته، واستمرت لنحو سبعة عقود، واخرها - كما سنرى في الاستطرادات اللاحقة - عام 1995 وهو السادسة والتسعين من العمر، اي قبل رحيله الى الخلود بنحو عامين ليس إلا.. وجميع تلكم المشاركات كانت، أو كادت، بـ"أخف ما لــمّ من زاد أخو سفرِ" على حــدّ تعبيره، صدقاً، بعيدا عن البهرجات أو المبالغات. اما الغايات من وراء تلكم الأسفار، المعلن منها أو غير المعلن، فكانت الاضطرار والاغتراب القسري، والتمرد احيانا، وعشق التغيير وشغف الاطلاع واستشفاف الافاق، احيانا اخرى.. وبأختصار: حب الحياة والجمال والتنور، والتنوير. وهكذا وبهدف التوثيق الأوضح سنلاحق ونرصد "سياحة" الجواهري، واشعاره، في العديد من مدن وعواصم الدنيا، بحسب تسلسلها الزمني، برغم ان هناك اسبقيات واهميات تختلف في بعضها عن البعض الآخر:

 

1/ في طهـران عام 1924

    كانت الزيارة الاولى للجواهري الى ايران عام 1924 وهي ايضا  اولى سفرياته الى خارج العراق .. ثم اضطر للذهاب اليها  ثانية عام 1941 احترازا من تطورات الاوضاع السياسية في البلاد العراقية بعــد احداث ما كان - وما زال- يعرف بحركة مايس.. اما الزيارة الاخيرة الى ايران فكانت عام 1992 تلبية لدعوة رسمية رفيعة، استقبله خلالها المرشد الاعلى في الجمهورية السيد على خامنئي.  ولم تقتصر تلك الزيارات على العاصمة طهران، بل شملت مدنا ومناطق عديدة في البلاد الايرانية..

   ومما يرصد عن شعر الجواهري في ايران او عنها، بعض وصفياته، وحنينه، خلال زيارته الاولى، ومنها في قصيدة "الاحاديث شجون" :

جَدّدي ريـحَ الصّبـا عهد الصّبـا، وأعيدي فالأحاديث شُجُونُ..

جدّدي كيف اطّراحي فارساً، ولمرأى وَطَني كيفَ الحنينُ...

جددي ذكر بلادي إنني، بهواها أبـدَ الدهر رهيـــــنُ

انا لي دينان: دين جامعٌ،وعراقي وغرامي فيه دينُ

 

 2/ وفي باريس عام 1946

    يصل الشاعر الكبير العاصمة الفرنسية باريس في طريقه الى بولندا عام 1946 للمشاركة في مؤتمر حاشد، اول من نوعه لمثقفي العالم، كما ستبيّنه الفقرات اللاحقة .. ثم يعود لها عام 1948 ليقيم في رحابها فترة امتدت بضعة اشهر، يكتب خلالها  بانوراما "أنيتا" ذائعة الصيت، بأربعة فصول، أثـر واقعة حب عنيفة.

   كما يحدث ان يزور باريس من جديد عام 1963 قادما اليها من مغتربه في براغ، رئيسا لوفد "اللجنة العليا لحركة الدفاع عن الشعب العراقي" ضد الارهاب والقمع التي تأسست بعد الانقلاب البعثي، الدموي، الاول في شباط 1963.. اما آخرعهده في باريس فكان عام 1984 حيث  اجرى فيها – قادما اليها من مغتربه في دمشق- عملية جراحية دقيقة لعينيه، برعاية رسمية سورية..(2).

  اما ما نوثقه هنا عن شعـره " الفرنسي" او عن فرنسا، فهو من قصيدته "باريس" المنشورة مقتطفات منها عام  1948:

تعاليتِ " باريسُ" أمَّ النضالْ، وأمَ الجمال، وأمَّ النغـمْ

تَذوَّبَ فوقَ الشِفاهِ الألَم، وسال الفؤادُ على كلِّ فــم

تَضيعُ الحرارةُ بينَ الوصالْ، وبين التّنائي وبين الملالْ

كأنّكِ شمسُك بينَ الجبال، تغازلُ حينت لوحُ القِمَمْ

 

3/ وفي وارسو عام 1946

  كان اول " المقامة" الجواهرية في بولندا بعيّد انتهاء حرب القرن الماضي، العالمية الثانية، حين دُعي الشاعر الكبير للمشاركة في مؤتمر عالمي للمثقفين من اجل السلام عقد عام 1946 بمدينة " فروتسواف" غرب بولندا، وقد كان العربي الوحيد فيه، الى جانب شخصيات عالمية لامعة من ابرزها، الرسام الفرنسي الشهير بابلو بيكاسو. وقد جاءت الدعوة للجواهري باعتباره ناشطا وطنيا مميّزا، وداعية للسلام والحرية، كما تؤكد ذلك قصائده وكتاباته، ومواقفه خلال وبعد حرب القرن الماضي، العالمية الثانية... (3).

   وبحسب الجزء الثاني من ذكريات الشاعر الخالد، فأنه زار "فرصوفيا- وارسو" ثانية عام 1963 اي بعد 15 عاما من اول زيارة لها. ويؤرخ ديوانه العامرعن الامر، شعراً، حين القى هناك رائعته متعددة القافية، امام مؤتمر للطلبة العراقيين، وجاء في مفتتحها:

(فـرصـوفيـا): يـا نجمـةً تَـلالا،

تُـغـازلُ السُـهـوبَ والتّـلالا

                                  و تَسـكُب الرقّـةَ والـدّلالا

فوقَ الشفاهِ الظامئاتِ، الحامياتِ الحانيه..

  اما الزيارة الثالثة للجواهري فكانت عام 1985 حين لبّى دعوة رسمية  للمشاركة في احتفال نظم في العاصمة البولندية – وارسو، بمناسبة الذكرى اليوبيلية الاربعين لمؤتمر المثقفين العالمي، سابق الذكر .

 

4/ في لندن عام 1947

  وردت (بريطانيا) ولندنها  في شعر الجواهري، في عدد من قصائده قبل ان يزورها بسنوات عديدة، وشملت، من بين ما شملت، انتقادات لسياساتها في العراق  خلال العهد الملكي. اما زيارته الاولى لها فكانت عام 1947 ضمن وفد صحفي، وثمة الكثير من التفاصيل عن ذلك وردت في الجزء الثاني من ذكرياته، واهمها اللقاء هناك مع الضابط العسكري عبد الكريم قاسم، والذي تزعم لاحقا كما هو معروف حركة 14 تموز 1958 التي اسست الجمهورية العراقية الاولى .. وقد كتب من وحي تلك الزيارة مقاطع شعرية قصيرة ومن بينها :

مَلِلتُ مُقاميَ في لندنا، مُقامَ العَذارى بدور الزِنـا

مُقام المسيح بدارِ اليَهودِ، مُقام العذابِ، مُقام الضَنى

وفي موقف مناقض للبيتين السابقين اعلاه، ولأنه أُعجب خلال الزيارة بـحسناء "لندنية" كما يبدو، راح يكتب عنها بضعة ابيات غزل، ومنها: 

يا " جينُ " لطفُ الخمر، أنّكِ كنتِ ماثلةً حِيالي..

ما شاءَ فليكتبْ عليَّ، الدهرُ، إنّي لا أُبالي

إذ كان خَصْرُكِ في اليمينِ، وكان كأسي في الشِّمال

    كما يزور لندن بضعة ايام عام 1963 ضمن نشاطات تضامنية – سياسية،  بوصفه رئيسا للجنة العليا للدفاع عن الشعب العراقي، التي تأسست في براغ بعد انقلاب شباط الاسود عام 1963.. كما  نزلها – لندن-  منتصف السبعينات الماضية، فترة قصيرة، لتطبيب عينيه، ليزورها بعد ذلك للمرة الاخيرة عام 1991 ويقضي فيها بضعة اسابيع بدعوة شخصية، فُجـع خلالها بوفاة زوجته (آمنة) هناك مطلع عام 1992 ..

 

5/ وفي موسكو عام 1959

  انحاز الجواهري منذ وقت مبكر من حياته الى جانب القيّم والسياسات والمبادئ التى تتحدث وتؤمن بالتحرر والعدالة الاجتماعية والمساواة، ومناهضة الاستعمار بمختلف اشكاله.. وهكذا راح منتصرا الى الحلفاء ضد المانيا الهتلرية خلال الحرب العالمية الثانية، في القرن الماضي، وقد ابرز ذلك شعرا، ومنه في تمجيد انتصارات وتضحيات الاتحاد السوفياتي السابق. ومن  ذلك ما جاء في قصيدتيه: عن معركة "سواستبول" عام 1942.. وعن معركة "ستالينغراد" الشهيرة عام 1943 ومن ابياتها:

نضّــتْ الروحَ وهزته لواءا، وكسته وأكتستْ منه الدماءا

واستمدت من الهِ الحقل والبيت والمصنع عزما ومضاءا..

يا (تولستوي) ولم تذهب سدى، ثورة الفكر ولم تذهب هباءا

هكذا الفكرة تزكو ثمرا، ان زكت غرسا وان طابت نماءا

   اما زيارته الاولى للأتحاد السوفياتي  فكانت لعاصمته - موسكو عام 1959 رئيسا لوفد من الادباء العراقيين .. تلتها مشاركات في فعاليات ومؤتمرات اخرى، ومنها ما وثق لها  شعرا بقصيدة (اطفالي واطفال العالم) التي القاها خلال مشاركته في فعالية دولية من اجل السلام ونزع السلاح عام 1962..  ووفق ما توفر من توثيقات نسجل ان زيارات الجواهري  "السوفياتية" لم تكن للعاصمة موسكو وحسب، بل شملت مدنا عديدة  مثل لنينغراد (بطرسبورغ حاليا) وسمرقند، وغيرهما ..

 

6/ وفي بــراغ منذ عام 1960

 .. والحديث عن علاقة  الجواهري ببراغ لا يشبه باية حال الحديث عن زياراته، وقصائده عن عواصم ومدن العالم.  فقد اقام في تلك المدينة التي اطلق عليها وصف "مزهر الخلد"  ثلاثة عقود، بشكل دائم او متقطع (1961-1991) لاجئا ومغتربا وعاشقا و"مستوطنا" وكتب فيها وعنها العديد من القصائد والمقطوعات.  كما نظم وهو في ربوعها فرائد كثيرة ليس مجال حصرها كاملا في هذا التوثيق، ومن بينها مثلا: "دجلة الخير" و"لغة الثياب" و"فتى الفتيان" و" يا آبن الثمانين" وسوى ذلك كثير ومتنوع ..(4)

  أما عن براغ تحديدا، واهلها وطبيعتها ومجتمعها، فلعلنا نستطيع ان نوجزعن ذلك فنشير الى قصيدته المعنونة "براغ" عام 1968 ومن مطلعها :

أطلتِ الشوطَ من عمري، أطـــالَ اللهُ مـــن عُــمـركْ

ولا بُــلــغــتُ بــــالــشــرِّ، ولا بــالسوءِ مــــن خَبرك

حـسوتُ الخمرَ من نهَرك، وذُقـــت الحلو مــن ثَمرك

وغنت لـــي صوادحُــــك النشاوى من ندى سحرك

الا يــــا مــزهـــــر الخلد، تــغـنــى الدهرُ في وتَركْ

 

7/ وفي ميونيخ عام 1963

   يحضر الجواهري بناء على دعوة رسمية، الجلسة الافتتاحية  لمؤتمر الطلبة الاكراد في اوربا، الذي انعقد في مدينة (ميونيخ) الالمانية، صيف عام 1963 ليلقي هناك مطولة جديدة، سياسية في اطارها العام، مع التصريح بمواقفه الصميمية في دعم نضالات الشعب الكردي من اجل نيل حقوقه المشروعة.. وقوبل حضور الشاعر الكبير، وقصيدته، بأحتفاء مهيب من المجتمعين، والمشاركين، وأولهم المسؤول الكردي البارز جلال الطالباني، الذي تسنم  كما هو معروف رئاسة جمهورية العراق بعد فترة من سقوط النظام الدكتاتوري عام 2003 .. وجاء مفتتح قصيدته خلال المؤتمر، والموسومة " كردستان... موطن الابطال": 

قلبي لكردستان يُهدى والفـمُ، ولقد يجود بأصغريه المعدمُ...

تلكم هدية مستميت مغرمٍ، انا بالضحية والمضحي مغرم..

سلّم على الجبل الأشم وأهله، ولأنتَ تعرف عن بنيه من هـمُ..

سلّم على الجبل الأشم وعنده من أبجديات الضحايا معجمُ

 

8/ في صوفيا عام 1968 .. وفارنا عام 1973

   وفي "مقامة" الجواهري البلغارية ثمة مدينتان، الاولى هي العاصمة صوفيا، التي احتضنت المهرجان التاسع لشبيبة وطلبة العالم، صيف عام 1968 وكان الشاعر الكبير ضيفا رسميا لحضور افتتاح المهرجان، وفعالياته البارزة، من بين نخبة الوجوه والشخصيات العربية والعالمية الرائدة والشهيرة في مجالاتها..

  اما المدينة الثانية فهي "فارنا" التي زارها  عام 1973 وكان مدعوا  لزيارة ثقافية رسمية الى بلغاريا، شمل برنامجها زيارة تلك المدينة السياحية الشهيرة، للراحة والاستجمام، وكان حينها رئيساً لاتحاد الادباء والكتاب في العراق، وقد نظم عن تلك الزيارة، وعن بعض "ملهماتها"  قصيدة عنوانها (يومان على فارنا) جاءت بثلاثة وستين بيتا، ومنها: 

أشرقَ الفجر فوق "فـرنا" فأضفت فوقه سحرها الجميل فأضفى

وأستطاب الرمل الندي بساطاً، فمشى ناعم الخطى يتكفا

معجبا يمسح الدجى منه عطفا، ويهز الصبح المنوّر عِطفا

 

9/ في اثينــا خلال السبعينات

  حطّ الجواهري ركابه في النصف الثاني من السبعينات الماضية، في أثينا، مستأجراً شقيّقةً متواضعة، وكان من أهم ما فيها من مغريات محاذاتها لساحل البحر المتوسط مباشرة، وذلك هو الأحب لدى الشاعر العظيم، التوّاق والطامح لمزيد من الإيحاء...

  ... ومن يعرف الجواهري عن قرب، يعرف انه عاشق أبدي للأنهر والبحار، سواحل وتدفقاً وضفافاً، مثل "رافدي" العراق، و"نيل" القاهرة، و"بردى" دمشق، و"فلتافا" براغ.. وغيرها من السواحل والضفاف، اللواتي كتب عنها ووثق لها في ديوانه العامر، روائع وصفت واستلهمت وأوحت بما لا يُزاحم على ما نظن...

  وفي "مَقامة" الجواهري، اليونانية،  وفي اثينا تحديدا،  نؤشر إلى ان اقامته هناك لم تكن إلا لفترات قصيرة ومتقطعة، اغتراباً عن الأحداث، وركوناً إلى النفس، وتمعناً في ما يزخر به فكر الشاعر الكبير: فلسفة في الحياة والمشاغل الانسانية العامة.. وهناك في اثينا، وعلى ساحلها، ولدت قصيدته الباهرة "سجا البحر" عام 1977 وجاء مطلعها:

سجا البحر وانداحت ضفافٌ ندية ولوّح رضراض الحصى والجنادلِ

وفكت عرى عن موجةٍ لصق موجة تماسك فيما بينها كالسلاسل

وسدت كوىً ظلت تسدّ خصاصها عيون ضباء أو عيون مطافل ِ

 

10/ عواصم ومدن اخرى .. وخلاصات

   ثمة مدن وعواصم في بلدان اخرى، خارج ما اسلفت له السطور السابقات، زارها الشاعر الخالد لأغراض شتى، سياحية أو شخصية. وفي بعضها حط الركاب لأكثر من مرة، ومنها:  برلين الالمانية في الستينات، والعاصمة الاسبانية - مدريد عام 1974 ليومين او ثلاثة، ونيويورك مطلع الثمانينات، والعاصمة النمساوية- فيينا في ثمانينات القرن الماضي، والعاصمة المجرية – بودابست، وخاصة بين اواخر عام 1990 ومطالع عام 1991...

    ولم يوثق الشاعر الكبير عن  المدن والعواصم المسماة في الفقرة السابقة،  لا شعرا ولا نثرا.. مع استذكارات جميلة عن بعضها في مجالس خاصة. وقد كانت زياراته لها  لفترات قصيرة، بل لبضعة ايام وليالي احيانا، وقد أثرنا – مع ذلك - التوثيق لها بايجاز في سعي لأستكمال هذا البحث الموجز .. ونقول موجزا ونعني ذلك تماما اذ هناك الكثير من الدلالات، والمؤشرات التي يمكن التطرق اليها، مستقاة من قصائد وزيارات الجواهري، وما رافقها من شؤون وتفاصيل واحداث مهمة بهذا القدر او الشكل اوذلك ..

   كما من المناسب ان نشير ايضا الى ان الكثير من زيارات الجواهري، ومشاركاته في الفعاليات والمؤتمرات الثقافية والسياسية العالمية، الرسمية والمدنية، شهد احتفاءات ولقاءات خاصة وعامة من المحبين والاصدقاء، عراقيين وعربا واجانب، ممن كانوا يحرصون على ان يلتقوا شاعرهم الذي تعدى حدود المعهود، على أبسط وصف، وان يتعرفوا عليه عن قرب، فخرا واعتزازا وتباهيا.. وبالمقابل كان يحرص من جانبه ان لا يبخل - جهد ما استطاع - في اتمام تلك اللقاءات، بل والاهتمام بها، وفرحه لها، وهو المؤمن، روحا وشخصا ومنهجا، بما قاله عام 1965: "حببت الناس كل الناسْ. من أظلم كالفحــمِ ومن أشرقَ كالماس" !!..

**رواء الجصاني / براغ في نيسان2021 .

--- هوامش وإحالات ---------------------------------------------------------------------

 ** المصادر: ديوان الجواهري، كتاب "ذكرياتي" للشاعر الخالد، بجزأين.. اضافة الى وثائق ومعلومات خاصة وشخصية.

1/ لمزيد من التفاصيل:  مادة منشورة لنا في مواقع اعلامية عديدة، على الانترنيت بعنوان الجــواهري" شعـرٌ وزيارات، واحتفاءات حميمة، في أربعة عشـر  بلـدا عربيا".

2/ لمزيد من التفاصيل عن "المقامة" الفرنسية:  كتابنا " الجواهري .. بعيون حميمة" الصادرعام 2016 في بغداد وبراغ.

3/ لمزيد من التفاصيل:  مادة منشورة لنا على الانترنيت، ومواقع اعلامية عديدة، بعنوان "الجواهري: قصيدة… وثلاث زيارات لبولندا " .

4/ لمزيد من التفاصيل: كتابنا "الجواهري .. اصداء وظلال السبعينات" الصادر عام 2001 .. وتأرخات اخرى ذات صلة منشورة لنا على الانترنيت.

 

هؤلاء المبدعون، والمثقفون،

نشروا في مجلة "البديــل" وكتبوا اليها

رواء الجصاني

  بات من المتفــق عليه، وبالاجماع على ما نعتقد، بأن  من اهم وابرز ما يميّز الاصدارات الدورية  هو اسماء كتابها، والناشرين فيها.. وهكذا نقيس الأمر على مجلة "البديـل" التي صدرت منبرا نابضا لـ "رابطة الكتاب والصحفيين والفنانين العراقيين الديمقراطيين" (الرابطة، لاحقا) التي عقدت مؤتمرها التأسيسي في بيروت اوخر كانون الثاني 1980 وضمت في صفوفها عشرات من المبدعيــن، من مختلف الاختصاصات والاهتمامات، الذين أضطرتهم اعتقالات وملاحقة السلطة البعثية الحاكمة في العراق، وارهابها للفرار – المؤقت على الاقل-  بسبب مواقفهم وآرائهم، ونشاطاتهم الهادفة للتنوير، والرافضة للقمع الممنهج، وأمتهان الحقوق والحريات الانسانية في بلادهم (1)..

    استمر مركز "الرابطة" وتشيكلاتها  باصدار مجلة "البديل"  التي راحت وعلى مدى سنوات 1980-1991 صوتاً ثقافيا تنويرياً هادفا،  ليس عراقيا وحسب، بل وعربياً، كما سيتبيّن ذلك من الأستعراض اللاحق للأسماء اللامعة التي نشرت في لمجلة مساهمات متنوعة: مواقف سياسية، وكتابات فكرية، وبحوثاً ودراسات قصيرة، عنتْ بالعديد من الرواهن الملحة آنذاك ..

    لقد جاءت اعداد "البديل" غنية متطلعة، مع التفاوت طبعا، بين محتويات الاعداد الاولى، والاخيرة، ليس في عدد الصفحات والمشاركات وحسب، ولكن ايضا في نوعيات المواد المنشورة، مما يؤشر – بهذا القدر او ذلك-  لبعض تراجع في الحماسة لـ"البديل" وبدءا من اواخر الثمانينات، لاسباب موضوعية من بينها توزع الكتاب والفنانين والصحفيين العراقيين في المزيد من المنافي، واستمرار تعقّـد الاوضاع في البلاد، والتغيرات العالمية بعد انهيار الانظمة "الاشتراكية" في بلدان شرق اوربا، وانحسار فعاليات التضامن العربي والانساني .. اما الاسباب الذاتية فمن اهمها – كما نظن-  اختلاف وارتباك الاراء والرؤى، والقنوط والتماحك والمناكدات والتشابكات في مواقف الاعضاء من هيكلية "الرابطة" عموما، ومن مسيرتها، والتجاذبات بشأنها ..

   وفي عودة لثلاثة عشر عددا متوفر عندنا من مجلة "البديل" من اصل سبعة عشر(2) يمكن توثيق مساهمات سياسية وثقافية وابداعية لجمع كبير نسبيا من المبدعين والمثقفين، منهم العراقيون، بحسب حروف الهجاء، مع حفظ المكانات والمواقع: ابراهيم احمد، ابراهيم الحريري، برهان شاوي، ثابت المشاهدي، جبار ياسين، جمشيد الحيدري، جنان جاسم حلاوي، جواد بشارة، خالد بابان، زهير الجزائري، زهير ياسيـــن شلبية، سالمة صالح، سعدي المالح، سعود الناصري، سلام ابراهيم، سمير سالم داود، شاكر الانباري، شاكر لعيبي، شمران الياسري، صالح كاظم، صلاح الحمداني، ضياء مجيد، عادل العامل، عارف ولي، عامر بدر حسون، عرفان عبدي، على احمد محمود، على كامل، غائب طعمة فرمان، فاضل الربيعي، فاضل السلطاني، فاطمة المحسن، فاضل سوداني، فالح عبد الجبار، فيصل لعيبي، قاسم الساعدي، قاسم حول، كاظم حبيب، كامل شيــاع، كريم دحام، كريم عبد، مجيد الراضي، محمد حسين هيثم، محمود البياتي، محمود صبري، مصطفى عبود، مفيد الجزائري، ممتاز كريدي، منعم الفقير، موسى السيد، نائل الحيالي، نجم والي، هـــادي العلوي..

     اما الشعراء الذين نَشروا في اعداد مجلة "البديل" موضع هذا التوثيق فهم: أنور الغساني، حميد الخاقاني، حميد العقابي، جليل حيدر، سعدي يوسف، شوقي عبد الامير، شيركو بي كه س، صادق الصائغ، رعد مشتت، رفيق صابر، عبد الكريم كاصد، عواد ناصر، فائز الزبيدى، فائز العراقي، فاضل العزاوي، كامل الركابي، كريم عبــد، محمد سعيد الصكار، مخلص خليل، مصطفى عبد الله، مهدي محمد علي،  نبيل ياسين، هاشم شفيق.

    كما كان هناك جمع كبير اخر من المبدعين والمثقفين العرب (او من البلدان العربية) الذين كتبوا، للبديل، وفيها، وهم، وايضا بحسب حروف الهجاء، مع حفظ الالقاب والمكانات:  ادونيس، اسماعيل حسن حسو، الياس خوري، براء الخطيب، حميد المازن، حيدر حيدر، حيان السمان، جورج ابراهيم،  خلدون زيبو، خيري الذهبي، زكريا شريفي، سعد الله ونوس، سعيد حوراني، شوقي بغدادي، صالح علماني، صبحي دسوقي، عبد الله طاهر، عبد الرحمن بسيسو، عبد الرحمن منيف، عبد المعين الملوحي، على الجندي، علي عبد العال، غالب هلسا، غالية قباني، غسان زقطان، فواز طرابلسي، فيصل دراج، محمد بنيس، محمد دكروب، محمد عزيز ظاظا، ممدوح عدوان مها بكر، نيروز مالك،  يمني العيد..

    لقد تنوعت المشاركات المنشورة في اعداد مجلة البديل، وتداخلت بين الشأن السياسي والثقافي، والمواضيع الفكرية، والتوثيقات التاريخية، والمقابلات، والنصوص والكتابات الابداعية، والتخطيطات التشكيلية، والترجمات  وسواها. (3)  الى جانب تغطية وتوثيق نشاطات الفروع في مختلف المدن والعواصم العربية والاوربية وغيرها، وحيثما كان هناك مبدعون ومثقفون وكتاب وفنانـــون وصحفيون عراقيون، ديمقراطيـــون، يقيمون او يعملون أو يــدرسون.. 

     ان التوقف عند اسماء المشاركين في الكتابة لمجلة "البديل" والنشر فيها، المشار لهم في ما سبق من سطور - وجمعٌ منهم له اكثر من مساهمة بل ومساهمات -  نقول: ان لذلك التوقف والتوثيق اكثر من مؤشر ومغزى، ولا سيما حين يتبيّن التنوع، وما يحمله اصحابه  من آراء  ومواقف ومفاهيم محتلفة، وربما متقاطعة حتى، حول مهمات المثقفين، وادوارهم التنويرية والسياسية، والاطر التي يجب على منظماتهم تبنيها، وسبل متابعتها، وشفافيتها وما الى ذلك. وقد حملت بعض اعداد "البديل"  مناقشات وتصورات جدية، وملموسة، حول تلكم الشؤون..  

    وبرغم الاعلان والتوجه والسعي بأن تكون "البديل" مجلة فصلية الصدور، الا ان واقع المنفى، وظروف التحرير، واسباب اخرى حالت عدة مرات دون التمكن من الالتزام بمواعيد صدورها، الفصلي كما هو مقرر.. وهكذا لم يصدر منها غير 15 عددا في 10 اعوام. مع تباعد الفترة الزمنية بين عدد وآخر لعدة شهور احيانا، برغم الجهود المبذولة..

   ان كل الحديث اعلاه عن "البديل" ليس بأحتسابها مجلة فقط، بل انه يؤشر ويشير الى  جملة مجطات في تاريخ ومسيرة  تلك "الرابطة" الثقافية العراقية في المنفى وبلدان الأغتراب الأضطراري، وغيره، والتي لعبت دورها المناسب والممكن في ما هدفت اليه (4).. ومن الطبيعي انه كان من الافضل لو جاءت هذه التأرخة بشمولية اكبر، وتفاصيل اكثر، مثل  تبويب المواد المنشورة بحسب محاورها، وتسلسلها الزمني، واماكن اقامة الكتاب والمساهمين، بل وحتى فهرسة المواد المنشورة وتبوبيبها. وعسى ان يسمح الوقت، وتتوفر الظروف لأتمام ذلك في فترة قريبة قادمة،الا اذا سبقنا الأنشطون في ذلك المنحى، والمسعى ..

   ختاما وبرغم التصور بأن موادا عديدة  ضمتها صفحات "البديل" قد أعيد نشرها في العراق بعد سقوط النظام الدكتاتوري عام 2003 ولكن بقيّت هناك في ذات الوقت مساهمات وكتابات ذات اهمية تاريخية، وجدلية، من المهم ان تتصدى لأعادة نشرها مؤسسات معنية، ولربما أولها الاتحاد العام للادباء والكتّاب في العراق، لأنه الاقرب واقعا للرابطة، ولمجلتها "البديل" . ومع كل التقدير للانشغالات برواهن أخرى، غير ان في التراث - كما هو معروف-  تجارب لا غنى عنها، وذلك ما يدفع للتأكيد على اهمية اعادة النشر، وعلى الاقل للمساهمات الأكثر تميزا، وما أكثرها في المجلة التي نعني: "البديل" ..  

* هوامش واحالات: ----------------------------------------------------------------

1/ أطلقت الرابطة بأسم  "رابطة الكتاب والصحفيين والفنانين الديقراطيين العراقيين" في مؤتمرها التأسيسي ببيروت عام 1980 وبعد عشرة اعوام، وفي المؤتمر العام الثالث للرابطة (برلين 1990) تم تغيير الاسم الى "رابطة المثقفين العراقيين الديمقراطيين"..

2/ ثمة عددان ناقصان في هذا الاستعراض، هما : السادس والحادي عشر. كما ان العدد الاخير  جاء مزدوجا وحمل الرقمين ( 16- 17) وصدر عام 1991 دون تثبيت شهر الاصدار. اما العدد الرابع فهو عدد مفترض، كان جاهزا للصدور صيف عام 1982 وقد أحتسب شهيدا بعد احتراقه خلال الغزو الاسرائيلي للبنان في ذات الفترة ..

3/ غالبية اعداد المجلة كانت بنحو 180 صفحة، من القطع المتوسط، وبحروف صغيرة في الاعداد الاولى خاصة،  بينما  صدرت اعداد اخرى بحدود 140 صفحة..

4/ وهنا دعوة اضافية للرواد والمؤسسين، خاصة،  بأتجاه السعي لتوثيق محطات عن مسيرة "الرابطة" ونشاطاتها، والادوار التى لعبتها في التأطير والتحريك، ونشر الثقافة الوطنية المضادة للـ"ثقافة" البعثية..

 

 

 

شعــر الجواهــــري،

في اربعٍ وثلاثين اطروحة

دكتوراه، ورسالة ماجستيـــر

- رواء الجصاني

   تفوق اهمية التوثيق والارشفة، كما الفهرسة، حدود المتلقين والمتابعين لتبرز حالاً ضرورية امام الباحثين والاكاديميين، لا غنى عنها بالنسبة لهم وهم يتجهون لأتمام دراساتهم وبحوثهم ذات الصلة.. وقد عنينا منذ سنوات للتركيز على هذا المجال في ما يخص شاعر العربية الكبير، محمد مهدي الجواهري (1899-1997) وسواء ما يخص شؤونه الحياتية، او منجزه الشعري، والوطني والعربي والانساني، وغير ذلك من محاور ومجالات عاشها، وأبدع فيها على مدى ثمانية عقود. (1)

    وعلى تلك الطريق، نتابع في هذا التوثيق الجديد مهمةً انجزنا منها مسودتها الاولى قبل اعوام، بقدر ما توفر في حينها من معلومات ومصادر. ثم ظهرت لاحقا اضافات عديدة تطلب اعتمادها في مسعى لأكمال هذه المهمة، توثيقا من جهة، واستخلاصا لبعض الموشرات من جهة ثانية. مع اليقين بأن ما سيرد ليس رصداً  كاملا، وان ثمة جهدا آخر يجب ان يبذل لأستكمال المطلوب.

   وفي ضوء عنوان هذه الكتابة، وقبل ان ندرج حصرا لما توفر من معطيات عن اطروحات الدكتوراه، ورسائل الماجستير، عن الجواهري،  دعونا نتوقف عند بعض الخلاصات التي يمكن الاشارة العجول لها، والمستقاة من بحثنا المعني .. ومنها ان هناك تنوعاً وتعددية  في الجامعات التي منحت تلكم الشهادات الاكاديمية، اذ توزعت على عشر جامعات في تسعة  بلدان عربية هي، وباعتماد ترتيب الأقدمية الزمنية لمنح الشهادات : مصر، سوريا، اليمن، فلسطين، السودان، الجزائر، ليبيا، لبنان.. والاردن، اضافة الى ايران.

    اما في العراق، وطن الشاعر، وموئله، فثمة تسع جامعات اجازت تلك الدرجات العلمية، توزعت، اضافة الى العاصمة بغــداد، على سبع محافظات، وهي - بحسب ترتيب الاقدمية الزمنية في منح تلك الشهادات- كل من جامعات: البصرة، الكوفة، بابل، القادسية، اربيل، الانبار.. وواسط.

   ومن  الاشارات والخلاصات العجول الاخرى التي يمكن ايرادها في هذا التوثيق هي ملاحظة التنوع في محاور اطروحات الدكتوراه ورسائل الماجستير، وعناوينها، اذ توزعت على مناح واتجاهات لغوية، واسلوبية، وفنون ادبية، وصور فنية، وجوانب ابداعية، وشعرية، ومواقف وطنية وقومية.. وغيرها، في منجزه الشعري الثري والحافل، وفي نحو 450 قصيدة ومقطوعة شعرية، يصل تعداد ابياتها الى ما يقرب من 25 الف بيت وبيت. (2)

  اما الحصر والتعداد والفهرسة لما سبقت الاشارة اليه فهي على الحال التالية، موزعة على قسمين: 

 

الاول/ أطروحــات الدكتـــوراه

1/ الاتجاهات الموضوعية والفنية في شعر الجواهري، اطروحة  دكتوراه اتممها: جميل عبد الغني محمد (جامعة الأزهــر/ مصر- 1994).

2/ لغة شعر الجواهري، اطروحة دكتوراه  اتممها: على ناصر غالب (جامعة البصرة / العراق – 1995).

3/ الصورة الفنية في شعر الجواهـــــري، اطروحة  دكتوراه اتممها: طارق عمـر عريفي (جامعة دمشـق- 2004).

4/ خصائص الاسلوب في شعر الجـــواهري- المطولات انموذجا، اطروحة دكتوراه اتممتها:  ساهرة عدنان وهيب العنبكي (الجامعة المستنصرية/ بغداد – 2007).

5/ شعريــــة النص عنـد الجواهـــري اطروحة دكتـوراه اتممها: علي عزيـز الزهيـــــري (جامعة بغــداد - 2007).

6/ الصــورة الشعرية عند الجواهـــري، اطروحــة دكتوراه اتممتها: رفـــل حسن الطائي (الجامعة المستنصرية/ بغداد - 2007).

7/ خصائص الأسلوب في شعر الجواهري، اطروحة دكتوراه  اتممها: فوزي علي صويلح (جامعة صنعــاء - 2007).

8/ البنيـــة الايقاعية في شعــر الجواهـــري، اطروحة دكتــوراه اتممها: عبد نور عمران (جامعة الكوفــة / العراق - 2008).

9/ جدليات الجواهري، اطروحة دكتوراه اتممتهــا: وسام على الخالدي (جامعة الكوفة/ العراق - 2008)

10/ خصائص الاسلوب في شعر الجواهري 1920-1980، اطروحة دكتوراه، اتممها:  فارس عزيز مسلم (جامعة الكوفة/ العراق 2008) .

11/ دراسة نحوية دلالية في شعر الجواهري، اطروحة دكتوراه اتممها: صالح عبد العظيم (جامعة القاهـرة - 2009).

12/ حروف المعاني المختصة بالأسماء في شعر الجواهري، اطروحة دكتوراه، اتممها: حسين الفتلي (جامعة بابل/ العراق- 2009) .

13/ صورة العــــراق في شعــر الجواهــــري، اطروحة دكتوراه، اتممها: احمد الذهــــب (جامعة السودان العالمية - 2010).

14/ التوليد الدلالي في ديوان الشاعر محمد مهدي الجواهري، اطروحة دكتوراه اتممتها: مليكة خـذيري (جامعة باتنه / الجزائر 2012).

15/ الغربة والحنين في شعر الجواهري، اطروحة دكتوراه، اتممتها نجلاء محسن رضا (الاكاديمية الليبية مدرسة اللغات - 2012).

16/ الحقول المعجمية ودلالاتها في شعر الجواهري، اطروحة دكتوراه اتممها: ميلود قناني (جامعة تلمسان/ الجزائر – 2014).

17/  مصادر ثقافة الجواهـــري من خلال شعره، اطروحة دكتوراه اتممتها: جوان عبد القادر (جامعة القاهـرة - 2015).

18/ الجهود النقدية حول شعر الجــــواهري، اطروحة دكتوراه اتممتها: وجــدان يحيى الكفائي ( جامعة القادسية/ العراق – 2015 ).

19/ شعرية التناص في شعر الجواهري، اطروحة دكتوراه اتممها: الطيب بوترعه ( جامعة وهران / الجزائر- 2017).

20/  صدى القضية الفلسطينية في شعر الجواهــري، اطروحة دكتوراه اتممها: عبد الرسول الهايي (جامعة طهـران – 2017).

21/ الملوكيــات في شعـر الجواهــري، اطروحة دكتوراه  اتممهـــا: ستار جبـــر حسيــن (جامعة الكوفة - 2017).

 

ثانيا/ رسائل الماجستير

1/ الرثاء في شعــر الجواهــــــري، رسالـــة ماجستيــــر اتممها: سلمان صبــار باني (جامعة الكوفة/ العراق - 1997).

2/ التمرد والخضــوع في شعر الجواهري، رسالة ماجستير اتممها: نواف قاسم سنجاري (جامعة صلاح الدين في اربيل/ العراق - 2001)  .

3/ خصائــص الأسلوب في شعر الجواهــــري، رسالة ماجستير اتممتها: سهام قنبر علي (جامعة دمشــق- 2002).

4/ محمد مهدي الجواهري ودوره السياسي في العراق حتى 1997، رسالة ماجستير اتممها: عباس غلام حسين (الجامعة المستنصرية/ العراق 2006).

5/ ملامح الحس القومــي في شعر الجواهري، رسالة ماجستير، اتممها: سعد صابر الدليمي (جامعة الانبـار/ العراق - 2009).

6/ البُعد النقدي في منجز الجواهري، رسالة ماجستير، اتممها: وسام حسين العبيدي

(جامعة بابل/ العراق- 2010 ).

7/  البنية الإيقاعية في شعر الجواهري، رسالة ماجستير اتممها: مقداد محمد شكر قاسم (جامعة اربيـل/ العراق - 2011).

8/ هجائيـــات الجـــواهـــري، رسالــة ماجستـــيــر اتممهــا: عــــادل ناجــح البصيصــي (جامعة الكوفـة/ العراق - 2011).

9/ المفارقة في الادب العربـــي الحديث: محمد مهدي الجواهري أنموذجا، رسالة ماجستير        اتممتها: منتهى حسن محمد علي (جامعة بغداد - 2013).

10/ روابط الجملة الاسمية في شعر الوصف والمديح عند الجواهري، رسالة ماجستير اتممها: جهاد عزات حسين زكارتة ( جامعة النجاح الوطنية في نابلس - فلسطين 2015).

11/ شخصيـــة الجواهــــــري من شعره، رسالة ماجستيــــر اتممتها: عتاب مطيــر خضر (جامعة واسـط/ العراق - 2015).

12/ الغربة والحنين في شعر الجواهـــري، رسالة ماجستير، اتممتها: هبة محمد مصطفى (الجامعة اللبنانية - 2017).

13/ البنية الصوتية ودلالتها في ديوان "بريد الغربة" للجواهري، رسالة ماجستير، اتممها الباحث: صفاء راشد خليفة (جامعة "فيلادلفيا" / الاردن – 2020).

---------------------------------------

  ختاما نقول بأن ثمة قناعة  تسودنا بأن كل ما تقدم الحديث عنه يبقى في طــــور الاستكمال، بحساب ان هنالك اطروحات ورسائل ماجستيــر لم نتمكن من الوصول اليها، اما بسبب عدم اعادة طباعتها ككتب ومؤلفات، او عدم النشر عنها في مواقع الجامعات والمؤسسات ذات الصلة. ونأمل، بل ونعمل، بذلك التوجه لأستكشاف وتوثيق المتبقي. (3)     

    اما الشأن الاخر الذي نوده في ختام هذا البحث فهو الاعتراف بأنه كان من المحبذ لو جرى ايضا توثيق اسماء الاساتذة المشرفين على تلك الاطروحات والرسائل الجامعية، واسماء رؤساء واعضاء اللجان التي تولت مهام المناقشة والاجازة.. كما نظن ايضا بأنه كان من المفيد - لمزيد من التوثيق - تحديد الدرجة العلمية التقييمية لذلك العمل الاكاديمي، ونعني به ثبتٌ بالدرجة التي تم منحها ( الامتياز، او الجيد جدا، او الجيد، او المقبول) وذلك بالتأكيد تقييم اضافي للجهد البحثي والدراسي للذوات منجزي اطروحات الدكتوراه ورسائل الماجستير سابقة الذكر ..

* هوامش واحالات :------------------------------------------------------------------

1/ اول قصيدة منشورة للجواهري كانت عام 1921 والاخيرة عام 1994

2/ الارقام بالاعتماد على ديوان الجواهري (خمسة اجزاء) طبعة بيسان/ بيروت 2000 .

3/ نغتنم فرصة نشر هذا التوثيق لندعو كل المعنيين الافاضل لتقديم اية مع

 

الجــواهري.. شعـرٌ وزيارات

، واحتفاءات حميمة

في أربعة عشـر  بلـدا عربيا

رواء الجصاني

 

       لماذا ساد ذلك الاهتمام العربي الرسمي والثقافي، الاستثنائي على ما نحسب، بالشاعر محمد مهدي الجواهري، على مدى ستة عقود، وللفترة من اواسط ثلاثينيات القرن الماضي، وحتى اواسط العقد التاسع منه تحديدا؟!.. وفي  بلدان جمهورية الانظمة، وكذلك ملكيــة، وغيرهما..

   سؤالٌ نعرف أن الاجابة عليه معروفة، ولكننا نريد ان نوثق من خلال ذلك  بعض محطات ومؤشرات، كما خلاصات عن ذلك الشاعر، الذي أستضيف وحلّ واقام في اربعة عشر بلدا عربيا هي، بحسب الترتيب الزمني لاول زيارة: سوريا، لبنان، فلسطين، مصر، الكويت، تونس، المغرب، الامارات، قطـر، الجزائر، اليمن، ليبيـا، الاردن.. والسعودية..

    يقيناً ان ثمة الكثير من التفاصيل والوقائع التي رافقت زيارات الجواهري، لتلكم البلدان الاربعة عشر، وسواء كانت استضافة رسمية، او مشاركة في هذه الفعالية أو تلك المناسبة، وغيرها.. ولكن هدف هذا التوثيق ليس سوى مؤشرات، ورؤوس اقلام ، وحسب، مع الاستدراك للتنويه الى اننا وثقنا في فترات سابقة لتفاصيل بعض "مقامات" الجواهري ذات العلاقة (1) وسنؤكد على بعضها مجددا في تناولنا التالي:

 

1/ في سوريا

    تعود اولى زيارات الجواهري لسوريا الى منتصف الثلاثينات الماضية في رحلات سياحة واصطياف.. وحتى عام 1944 حين شارك ممثلا للعراق في مهرجان ذكرى "ابي العلاء المعري" والقى خلاله رائيته الشهيرة.  ثم لاجئا سياسيا خلال عامي 1956-1957 ثم مشاركا في مؤتمر الادباء العرب الثامن عام 1971 وبعدها مقيما، بضيافة الرئيس حافظ الاسد لنحو خمسة عشر عاما ولحين رحيله الى الخلود عام 1997 حين وُريّ الثرى في متربة السيدة "زينب" عند ضواحي العاصمة دمشق.. وكان قد منح اواسط عام 1995 وسام الاستقلال  السوري الرفيع..  

   اما قصائده التي كتبها عن دمشق وسوريا، فكثيرة ومتعددة، وأولاها عام 1921 .. كما  من ابرزها تلك التي نظمها عام 1979 والقاها في حفل تكريمي أقيم على شرفه، مخاطبا دمشق، ومن ابياتهــا :

دمشقُ عشتك ريعاناً وخافقة، ولمةً والعيــــون السود، والأرقا

وأنتِ لم تبرحي في النفسِ عالقة، دمي ولحميّ والأنفاس والرمقا

 

 

2/ وفي لبنان ..

   وعلى غرار سوريا، كان لبنان من اوائل البلدان العربية التي زارها الجواهري، مصطافا، اواسط الثلاثينات الماضية، ومن ثم تتالت لاحقا  المشاركات والزيارات الرسمية، ومنها عام 1950 في تأبين رئيس الوزراء اللبناني عبد الحميد كرامي، ثم في تكريم الاخطل الصغير عام 1961 .. ومن قصائده في حب لبنان واهله، جاء في لاميته المطولة عام 1947 :

ناغيـّــت لبناناً بشعريّ جيلا، وضفرتـــه لجبينه اكليلا..

وحسان لبنان منحتُ، قصائدى، فسحبنهنَ كدلّهن ذيولا

 

3/ وفلسطين

   في عام 1945 يزور الجواهري مدينة (يافـا) الفلسطينية تلبية لدعوة ثقافية رسمية،  ويلقي هناك خلال احتفال احتفائي اقيم له بالمناسبة قصيدة جديدة، ومن ابياتها:

بيافا يومَ حـط بها الركابُ، تمطر عارضٌ ودجا سحاب

"فلسطينٌ" ونعــمَ الأم هذي، بناتكِ كلها خودٌ كعــابُ

     وبهدف المزيد من التوثيق نشير الى ان للشاعر الكبير، ومنذ عشرينات القرن الماضي،  قصائد ومواقف ثرة حول فلسطين، وقضية الصراع العربي –الاسرائلي. وهناك اكثر من دراسة وتوثيق وتأرخة لكتاب ومثقفين عراقيين وعرب عن "فلسطينيات" الجواهري، منشور العديد منها على شبكة الانترنيت ..

  

4/ في مصـر

 كانت اول زيارة للجواهري الى مصر عام 1951 للمشاركة في مؤتمر ثقافي نظمته جامعة الدول العربية في القاهرة، وقد أعلن د. طه حسين، وزير التعليم في حينها، بأن الجواهري هو ضيف رسمي على البلاد... وجاء مطلع قصيدته  الرائية الشهيرة، خلال المؤتمر ذي الصلة:

يا مصرُ تستبقُ الدهورُ، وتعثرٌ، والنيل يزخر والمسلة تزهــرُ

وبنوكِ والتاريخ في قصبيهما، يتسابقان فيصهرونَ، ويصهرُ

     ثم تبيّن لنا الوقائع ايضا ان الجواهري قد دعيّ رسميا عام 1971 للمشاركة في الاحتفال التأبيني المهيب للزعيم جمال عبد الناصر في الذكرى السنوية الاولى لرحيله. وقد القى هناك فريدة جديدة تليق بالراحل الكبير.. اما الزيارة الرسمية الاخرى للجواهري فكانت للمشاركة في مئوية مجلة"الهلال" عام 1992 وقد القى خلالها ايضا قصيدة بالمناسبة.

 

5/ وفي الكويـت

  زار الجواهري الكويت عام 1959 للمشاركة في مؤتمر الادباء العرب، مترئسا وفد العراق الى المؤتمر... وفي كانون الاول 1979 يتوجه الجواهري مرة جديدة  لزيارة الكويت، وبرفقته زوجته آمنة، تلبية لدعوة ثقافية، شمل برنامجها امسية حاشدة القى فيها مختارات من شعره القديم / الجديد، مع تحية شعرية، من ابياتها:

يميناً ان لي نفساً تغنى، بكم حباً وتستهوى وتصبــى

سأحفظُ عهدكم لأجدّ عهدا، وأرهن عندكم لأعودَ قلبا

 

6/ وتونــس

شارك الجواهري، رئيسا لوفد العراق الى المؤتمر التاسع لاتحاد الأدباء والكتاب العرب عام  1973  في العاصمة التونسية. ولقد كان من "رصيده" الشعري اللافت هناك قصيدته عام 1943 وجاء فيها:

سقى تونساً ما يدفــعُ الخطب انها، بخضرتها تكفي الذي يدفعُ الجدبــــا

وحيّا القبابَ البيض روحٌ كأهلها، رقيق الحواشي يمسحُ الماء والعشبا

 

7/ وفي المغــرب

لبى الجواهري عام 1974 دعوة رسمية رفيعة الى المغرب، ثم قبل بعدها  استضافة ملكية رفيعة في مدينة "طنجة " الساحلية لعدة اشهر، وكتب عنها مقطوعة شعرية جميلة، ومنها:

 لله دركِّ "طنــجُ" من وطــــنٍ، وقفَ الدلالُ عليه والغنـــجُ..

مرجٌ من "البحرين" فوقهما، ضوءُ النجوم يرفّ والسرجُ

    كما كتب الجواهري هناك والقى لامية غاضبة، الى جانب مقطوعات اخرى. وقد شهد برنامج الزيارة تكريمه بوشاح (الكفاية الفكرية) الرفيع، برسم العاهل المغربي الملك الحسن الثاني.

 

8/ والامارات

  كانت الزيارة الاولى لدولة الامارات العربية عام 1979 تلبية لدعوة رسمية من وزارة الثقافة والاعلام، وقد القى خلال  حفل مهيب أقيم على شرفه في العاصمة (أبي ظبي) دالية جديدة، سياسية بارعة، ومما جاء فيها، مخاطبا الحضور الحاشد في الامسية:

أ فتيّانَ الخليـــجِ وربّ ذكرى، تعــــادُ ولا يمـــلّ المستعيدُ

بكم والصفـوة الواعين تاهت، بأجمل واحة قفراء بيــــــدُ

  ثم تلت تلك الزيارة زيارة ثانية الى الامارات، ودبي تحديدا عام 1992 ليتسلم  هناك ( جائزة "سلطان العويس" للأنجاز الثقافي والأدبي) في اجواء احتفائية فخمة.

 

9/ وفي قطــر

في اوائل عام 1980 قام الجواهري بزيارة الى  العاصمة  القطــرية – الدوحة،  تلبية لدعوة من وزارة الاعلام، استغرقت عدة ايام، وكان من ابرز برنامج الزيارة تنظيم حفل مهيب احتفاء بالشاعر الكبير القى خلاله مقاطع مختارة من قصائده، الاجتماعية والوجدانية والسياسية..

 

10/  والجزائـر

    وفي خواتم العام 1980 يقوم الجواهري بزيارة شخصية الى الجزائر، حيث كان نجله الاصغر، كفــاح يعمل هناك . وخلال اقامته في الجزائر نظمت له عدة امسيات مع نخب اكاديمة وثقافية:  جزائرية، وعراقية، ومن ابرز الذين وقفوا على شؤونه خلال الزيارة محمد حسين الاعرجي الذي كان استاذا في كلية الاداب بالعاصمة..

... ونظن بأن من المناسب في هذا المقام ان نشير  الى ان  الجواهري نظم قصيدة عام 1956 تأييدا لنضال الجزائر، وجاء فيها:

جزائــرُ يا كوكبَ المشرقين، دجا الشرقُ من كربةٍ، فأطلعي

ويا عقـبَ العربِ المغربين، اعيدى صدى "عقبةٍ" تسمعي..

 

11/ واليمــن

   يلبي الجواهري عام 1982 دعوة رسمية الى  عدن- عاصمة جمهورية اليمن الديمقراطية، في حينها، ومن ضمن برنامج الزيارة تنظيم حفل جماهيري حاشد  أقيم على شرف الشاعر الكبير القى فيه، إلى جانب مختارات من قصائده، عصماء جديدة، بعنوان "الغضب الخلاق"  نظمها بالمناسبة، ولم ينس أن يوثق في مطلعها، انطلاق رحلته الى اليمن، من براغ- موطن الثلج، كما أسماها فقال:

من موطنِ الثلج زحافــــاً الى عدنِ، تسري بي الريــحُ في مهــــرٍ بلا رســنِ ..

من موطن الثلج من خضرِ العيون به، لموطن السحر، من سمـراء "ذي يزنِ"

 

12/ وفي ليبيـــا

    وفي عام 1987  يلبي الجواهري دعوة رسمية لزيارة ليبيا،  قضى خلالها أياماً في طرابلس، ومثلها  في مدن ليبية أخرى، بضيافة زعامات ثقافية وحكومية آثرت الاحتفاء بالشاعر العظيم، ومنجزه الشعري والادبي الفخم.. وقد منح خلال الزيارة وساما رسمياً رفيعا، كما نظمت له امسيات ولقاءات عديدة، خاصة وعامة، استقبله في احداها زعيم البلاد حينئذ: معمر القذافي.. ومما يذكر في هذا السياق ان الجواهري كان قد نظم قصيدة عن ليبيا، ليلة القصف الامريكي على طرابلس الغرب عام 1986 ومن ابياتها:

يا امتي يا عصبةَ الأممِ، لا تغضبي- يا ثلجُ- من ضرمي ..

                         في ليبيا حمـــمٌ، وعندهـــمُ، ما شاءت الشهواتُ من حممِ

 

13/ والاردن

   يقوم الجواهري في النصف الثاني من عام 1992 بتلبية دعوة رسمية رفيعة من الاردن، بضيافة عاهله الملك الحسين بن طلال، الذي رسمَ بتقليده وسام الاستحقاق من الدرجة الاولى .. وقد القى هناك في حفل مهيب اقيم في عمان، لامية فريدة، تـمّ لاحقاً تلحينها وغنائها في سيمفونية باهرة، ومن ابياتها:

يا ابنَ الهواشمِ من قريشٍ أسلفوا، جيلاً بمدرجة الفخار، فجيلا..

يُدني البعيد من القريب سماحةً،  ويؤلفُ الميئـــوس والمأمولا...

 

 14/ والسعوديـة

  يلبي الجواهري دعوة رسمية الى الرياض،  بمناسبة الدورة السنوية لمهرجان "الجنادرية" الثقافي عام 1995 برعاية الأمير، ولي العهد السعودي آنذاك  (ثم الملك لاحقا) عبد الله بن عبد العزيز، الذي أبرز أهتمامه الاسثنائي بالشاعر الكبير، وأستقبله بشكل منفرد، مع نجله كفاح،. الى جانب الاهتمام اللافت به من نخب ومجالس ادبية، في الرياض وكذلك في جــدّة.

 

خلاصات ومؤشرات ..

1/ هكذا كانت اذن بعض محطات الجواهري في اربعة عشر بلدا عربيا. اما البلدان الاخرى التي لم تسنح الفرصة لزيارتها، فهناك العديد من الوقائع والاحداث التي (قد) تعوض عن ذلك، مثل لقاءاته مع نخبة شعراء وكتاب وشخصيات عامة اخرى من تلك البلدان، في المؤتمرات والفعاليات التي ضمتهم والجواهري. ويدور الحديث هنا عن  عمان والبحرين وموريتانيا.. والسودان بشكل خاص. ونذكر هنا للتوثيق ان اطروحة دكتوراه موسومة " صورة العراق في شعر الجواهري"  اتممها: الباحث احمد الذهب في الخرطوم/ جامعة السودان العالمية في عام 2010..

2/ وعلى ذكر اطروحات الدكتوراه، ورسائل الماجستير، التي منحتها جامعات عربية مرموقة لباحثين ودارسين عن شعر ومنجز الجواهري، وحياته، نشير الى ان هناك، على الاقل: تسع اطروحات دكتوراه، وثماني رسائل ماجستير. (2)

3/ ومما لا شك فيه فان استضافات البلدان العربية للجواهري، ومشاركاته في ندواتها ومناسباتها المتنوعة، حتمت ان تتكون، وتتوطد، علاقات احترام وتقدير، وصداقات مميزة مع مثقفي تلك البلدان وشخصياتها العامة، ومن بينهم على سبيل المثال لا للحصر، الاساتذة  والذوات الافاضل – مع حفظ الالقاب والمواقع: بدوي الجبـل وعمر ابو ريشة، ونجاح العطار، ونبيه رشيدات، وصابر فلحوط، في سوريا. بشارة الخوري -الاخطل الصغير،  والياس ابو شبكة، وسعيد عقل وحسين مروة وكريم مروة، في لبنان. طه حسين ويوسف ادريس ومحمود امين العالم، في مصر. والحاج محمد أبا حنيني، في المغرب. واحمد السقاف في الكويت.. وكل ذلك على سبيل المثال لا الحصر كما اشرنا.

4/ ان من المهم الاشارة في هذا التوثيق التنويه الى انه قد ترافق - الى جانب ما سبق التطرق اليه اعلاه-  الكثير من الاهتمامات الثقافية والسياسية، الرسمية والخاصة، بالشاعر الخالد، كالندوات والمقابلات التفزيونية والحوارات وغيرها، هي موثقة في العشرات من الاصدارات والصحف والمجلات، ووسائل الاعلام الاخرى..

5/ كما ينبغي التوثيق ايضا الى وقوع  بعض "منغصات" و" تداعيات" خلال عدد من الزيارات  الجواهرية سابقة الذكر في هذه التأرخة، وهي بحد ذاتها تحتاج لمادة، أومتابعة، أخرى عسى ان نتمكن من انجازها في فترة لاحقة.. 

    

اخيــرا ..

     لا نزيد كثيرا فنجهد القراء والمتابعين، ونكتفي بالقول ان ما تم حصره، وتوثيقه، يسند ويعمق ما جاءت به دراسات ومقالات وبحوث عربية  عن الجواهري تناولت  جمعاً من مواقف وثوابت  الشاعر العظيم، ورؤاه لكثير من قضايا وشؤون- كما شجون- البلدان العربية وشعوبها، على طريق التنوير والتوعية والدفاع المشروع، مثل القضية الفلسطينية، والتطلع الى الوحدة والتحرر، والارتقاء والنهوض الاجتماعي .. وفي الديوان العامــر ثمة جمع كبير من قصائد الشاعر الكبير عن تلكم الشؤون والشجـــون وما ترتب بسببهما، وعليهما، فضلا عن منجـــزه الثقافي والادبي والصحفي ذي الصلة.. وما من غرابة هناك في كل ما تقــدم من ايجازات، وبحسب ما يؤكده مختصون وباحثون أجلاء، أن الجواهري تعدى عراقيته الى فضاءات أمته، بل والأنسانية: ولعاً وقناعة "بكل الناس من أشرق كالشمسِ، ومن اظلم كالماسْ" ودفاعاً عنهم وتنويراً لهم على امتداد ثمانية عقود من العطاء ... * رواء الجصاني شباط/ 2021..

** احالات وهوامش -----------------------------------------------------------------

* المصادر : من ديوان الجواهري/ طبعة بيروت عام 2000 ومن جزأي ذكرياته/ دمشق 1989-1990.. ومن ارشيف ووثائق الجواهري الخاصة..

1/ ثمة تفاصيل عن شؤون و"مقامات" الجواهري في عدد من البلدان العربية مثل سوريا، لبنان، اليمن، مصر المغرب... احتواها كتابنا "الجواهري .. بعيون حميمة" الصادر في بغداد وبراغ عام 2016.. وقسم منها مازال منشورا في مواقع عديدة على  شبكة الانترنيت . 

2/ للمزيد ثمة مادة بعنوان "الجواهـري في تسع اطروحات دكتوراه، وثماني رسائل ماجستير" منشورة على شبكة الانترنيت منذ عام 2019 ..

 

 

*مابين السيـرة والذكريــات*

الجواهــري في سنوات التسعين

(1990-1997)

رواء الجصاني

     على تخوم تسعينات القرن الماضي، وفي خضمها، حفلت محطات الشاعر الخالد، محمد مهدي الجواهري (1899-1997) بالكثير والجديد من الشعر والرؤى والمواقف، مثلما كانت الحال عليه في عقود حياته الثمانية السالفة، خاصة وان البلاد العراقية كانت تشهد أوضاعا مأساوية وشجونا لا تحصى، في ظل سلطة انهكت البلاد، وانهكتها: الحروب الخارجية والقمع الداخلي، والحصار الاقتصادي، كما هو معروف.

     لقد كانت بدايات التسعينات الماضية، وعشيّتها، اواخر الثمانينات، سنوات مثقلة بالهموم الشخصية، اضافة الى العامة، عند الجواهري، خاصة وهو في التسعين من عمره. وهكذا راح يزداد مفرطاً بالقلق والمشاعر والتصورات والتشابكات من التداعيات ذات الصلة، وانعكس كل ذلك في كثرة تنقلاته بين دمشق وبراغ، وكذلك بودابست لفترات قليلة، ثم لعواصم عربية اخرى عديدة، كما سنرى في الفقرات والمحطات التالية في هذه التأرخة ..

1/  في بــراغ

   كما جاء في السابق من التوثيقات، دامت اقامة الجواهري في براغ منذ عام 1983 حتى صيف 1991 بالتناصف مع دمشق. وقد شهد في  براغ  ما عاشته البلاد التشيكية من احداث بالغة التميّز ونعني بذلك انهيار النظام الشمولي الحاكم، كما في بلدان شرق اوربا عموما، اواخر عام 1989 وبدايات عام 1990 وكان من الطبيعي ان ينشغل ذلكم الشاعر الانساني بما حدث من تداعيات لأنظمة كان يرى فيها أمثلة للأرتقاء، وتوفير الأمن والازدهار لشعوبها، وذلك ما سجله قصيداً ومواقف وقناعات على مدى عقود مديدة..(1)    

    وفي العموم لم تكن هناك احداث او وقائع غير تقليدية، خلال اقامة الشاعر الكبير ببراغ في تلك الفترة. بينما زاد  قلقه المتعاظم من تطورات الاحداث في بلاده، وخاصة بعد غزو النظام العراقي  للكويت في آب 1990.. وقد راح الشيخ الجليل  يقلل من زياراته واقامته في براغ، لصالح مستقره الآخر، اي دمشق الشام، وللعمر هنا دوره وتأثيره في ذلك كما بدا واقعيا..

2/ بودابست على الطريق

  بدأ  الجواهري عام 1990 يتردد على العاصمة المجرية – بودابست، باهتمام صاحب دار"صحارى" للنشر، د. عبد الحميــد برتو، وعنايته، مع عصبة محبة، كان الأولان فيهـا: الشاعر نبيل ياسين، والسينمائي أنتشال هادي..

     وطوال ذلك التردد على بودابست الذي استمر حتى اوائل 1991 وبرغم وصفه  للمدينة بأنها  جميلة، ومشرقة وتنبض بالحياة، ألا ان الجواهري لم يكتب عنها ولا بيت شعر واحد، خلافا للعديد من العواصم والمدن التي زارها او اقام فيها خلال العقود السابقة مثل باريس ووارشو وفارنا وأثينا، على سبيل المثال...  ولعل ابرز حدث ثقافي للجواهري في بودابست، انه وافق هناك على المشروع الذي عرضه الفنان العراقي القدير، المقيم في لندن، ضياء العزاوي، وقد نُــفّذ لاحقا، ونعني بذلك أصدار ألبوم أنيق، محدود التوزيع، وبحجم كبير، وورق ممتاز، واخراج متميز، شمل لوحات فنية أُستوحيت من بعض قصائد الشاعر العظيم ...

3/ مشاركة في مؤتمر للمعارضة العراقية ببيروت

    في ربيع 1991 يشارك الجواهري في مؤتمر عام انعقد في بيروت، لقوى وشخصيات عراقية، من جميع الاطياف السياسية الديمقراطية والقومية والدينية، المعارضة - بأشكال ومواقف وطرق مختلفة- نظام بغداد،. وقد سجل حضور الشاعر العظيم  تلك الفعالية التاريخية – بحسب شهود ومشاركين- أكثر من مؤشر مهم  وبارز، استمرارا للمواقف الجواهرية الوطنية والسياسية المعهودة، طوال حياته المديدة.. ومن المهم الاشارة هنا - بحسب متابعين ثقاة - الى ان الشاعر الكبير كان له دور مهم في دمشق، خلال الايام القليلة التي سبقت انعقاد ذلك  المؤتمر، بهدف  تقريب وجهات النظر، بين ممثلي عدد من اطراف المعارضة، الكردية خصوصا، لنبذ التناحر، والاحتراب الداخلي، وتخفيف التأزم في العلاقات بينها، والتركيز على المهام الوطنية للخلاص من الحال العراقية المأساوية التي تسببت بها دكتاتورية النظام، وحروبه الداخلية والخارجية.

4/  "أمونة" ترحــل في لنـدن..

  يلبي  الجواهري اواخر عام 1991  دعوة من "ديوان الكوفة" الثقافي الفكري، في لندن، ويشارك هناك في عدد من الفعاليات التي نظمت بالمناسبة، وكذلك في احتفاءات اخرى عديدة من لدن مثقفين ونخب عراقية وعربية بارزة .. وبعد تلك الدعوة قبلَ الشيخ الجليل استضافةً شخصية من رجل الاعمال العراقي، حمدي نجيب، استمرت فترة وجيزة، وحتى مطلع عام 1992 لقضاء اسابيع  من الراحة والاستجمام. وفي تلك الاثناء تعرضت عقيلته "امونة – آمنة"  التي كانت تزوره لبضعة ايام  في لندن، لحالة صحية طارئة  تسببت بوفاتها بتاريخ 1992.1.8. وقد بعثت الرئاسة السورية طائرة خاصة لنقل الجواهري، وجثمان فقيدته، وعدد من ابنائهما، والمرافقين والاصدقاء، الى دمشق..

   ووفق مطلعين من أهل البيت فأن تشييعـــاُ لافتاً نُظـم لفقيدة الاسرة الجواهرية، وكان في مقدمته زوجها- الجواهري- الذي كان وقعُ الحادث عليه مؤلما جدا، وهو بذلك العمر. وقد القى بتاريخ 1992.1.11عند مواراة عقيلته الثرى بمتربة السيدة "زينب"  ضواحي دمشق ابيات شعر مؤثرة، وبدايتها:

ها نحنُ" امونة " ننأى ونفترقٌ، والليّـــلُ يمكــثُ والتسهيد والحــرقُ ..

       ما أروحَ المــوتَ، بل ما كان أبغَضَه، لديّ إذ أنتِ مني الروح والرمقُ

   ومثلما كان التشييع لافتا، كانت مراسم ووقائع المواساة لافتة ايضا، ومن ابرزها  قيام الرئيس السوري حافظ الاسد، شخصيا، بزيارة خاصة الى دارة الشاعر الكبير في دمشق لمواساته، والعائلة، بذلك المصاب، ولنحو ساعة ونصف ..

5/ جائزة "العويـس" تمنح للجواهـري

    بأقتراح الهيئة المشرفة على جائزة (سلطان العويس) الاماراتية، الشهيرة، تَرشح الجواهري لنسخة استثنائية منها سميّت ( جائزة "سلطان العويس" للأنجاز الثقافي والأدبي) تم استحداثها وفق معايير خاصة، لتُعنى بالشاعر العظيم، ومنجزه الثري . وبعد امتناع وتمنع، وافق الشاعر الخالد على الترشيح، وهكذا منحت عام 1991 وليتسلمها في (دبـيّ) ربيع عام 1992 وبرفقته نجله كفاح (2). وكان صاحب الجائزة، سلطان العويس، في مقدمة الحاضرين للأحتفاء بالجواهري الكبير، في اجتماع مهيب، تتقدمه نخب ثقافية ورسمية وجمهور كبير من المحبين والضيوف. وقد شكر الجواهري صاحب الجائزة بابيات شعر بالمناسبة، كان مطلعها:

من الاماراتِ عن شطآن (شارقةٍ) على الخليج تعالى صاعدا قمــرُ

يدور في فلك الآدابِ محورهُ، فتى "عويسٍ" وأخدانٌ له غـــــررُ

 اما مبلغ الجائزة وقدره مئة الف دولار فقد كان الجواهري قد قرر في وقت سابق توزيعه، بأجمعه، مباشرة على بناته وابنائه، وعلى الفور، وذلك ما حصل..

6/ زيارة الى ايـــران

 في سعي لتغيير الاجواء، ومحاولة التهرب من الارق والقلق المتزايدين، وبخاصة بعد رحيل زوجته"أمونة" يُستضاف الجواهري خلال النصف الاول من عام 1992 في الجمهورية الايرانية، بدعوة رسمية من اعلى المقامات فيها، ولفترة مفتوحة. وهكذا يغادر الى طهران، ويقيم هناك، مع بعض زيارات قصيرة، لمدن ايرانية اخرى من اهمها (شيراز) . ويبدو ان ذلكم التغيير المكاني والجغرافي، في طهران، لم يكن ليخفف من تعـب، وارهاق الشيخ الجليل، وأرقه، فعاد من ايران، بعد اسابيع قليلة الى مستقره الدمشقي..

   ومن ابرز ما شهده  برنامج  الزيارة، الرسمي، لقاء شخصي حميم مع السيد علي خامنئي، المرشد الاعلى للجمهورية الايرانية، الحافظ  للكثير من قصيد الجواهري.. وقد  كتب له  الشاعر الكبير ابيات شكر، سجلها على الصفحة الأولى من كتابه ( ذكرياتي) واهداها له ومن بينها:

لَكَ في السّلم مِنبَرٌ لايُجارى، لكَ في الحرب مِضرَب لا يُفلّ

لــكَ أهــلٌ فَوقَ الذّرى وَمَحَلُ، لـــكَ بَعـدَ المكرُمات، وَقَبلُ

   وينقل السيد نجاح، النجل الثالث للجواهري، والذي بقي معه في ايران،  لمدة شهرين،  ان والده كان متعبا خلال الزيارة، ولم يكن برنامجه حيوياً، وكان يقضي اغلب وقته  مستقراً في دار الضيافة التي خصصت له، ولم يلتق سوى عدد قليل، ومحدود، من الكثيرين الذين كانوا يودون اللقاء مع الشيخ الجليل، أو زيارته..

7/  في القاهرة، بمناسبة مئوية "الهلال"

     قد يكون عام 1992 استثنائيا للجواهري، وهو في عامه الرابع والتسعين، في تلبية الدعوات التي وجهت اليه في في بلدان عديدة كما سبق ان وثقنا، وسنوثق.. ومنها هذه المرة الى القاهرة  للمشاركة في الاحتفائية المئوية  لمجلة "الهلال" الشهيرة، التي شهدت فعاليات عديدة متميزة، ومن بينها استقبال الرئيس المصري محمد حسني مبارك لعدد محدود من ابرز  الضيوف والمشاركين، وأولهم الجواهري الكبير، الذي كان قد نظم قصيدة بالمناسبة، والقاها في دار الاوبرا بالقاهرة بتاريخ 1992.9.18 ومن ابياتها:

يا "هـــلالَ" الفكرِ في العيـــدِ السعيدِ، هكذا ظـــل مضيئاُ الف عيــدِ

"مئـة" منكَ، ولي "تسعــــــون" منها، داعيات لكَ بالعمر المديــدِ

   وبعد انتهاء ايام الدعوة الرسمية الى القاهرة، يبقى الشيخ الجليل فيها اياماَ اخرى وبشكل شخصي، عُـنيّ  به خلالها واحد من شباب الاسرة المقربين، هو السيد  نصير محمد علي الجواهري، الذي قَـدمَ الى هناك من دمشق لهذا الغرض. وقد كان في بال الشاعر الكبير ان يستقر في مصر فترة اطول، ولكنه تردد بشأن الفكرة، ثم عافها، ليعود الى دمشق..

8/  دعـوة الى الاردن

يقوم الجواهري في النصف الثاني من عام 1992 بتلبية دعوة رسمية رفيعة من الاردن، بضيافة عاهله الملك الحسين بن طلال، الذي رسمَ بتقليده وسام الاستحقاق من الدرجة الاولى .. وقد القى هناك في حفل تكريمي اقيم في عمان، لامية فريدة، تـمّ لاحقاً تلحينها وغنائها في سيمفونية باهرة، ومن ابياتها:

يا ابن الهواشمِ من قريشٍ أسلفوا، جيلاً بمدرجة الفخار، فجيلا..

يُدني البعيد من القريب سماحةً،  ويؤلف الميئـــوس والمأمولا...

   ومن جملة الاحتفاءات بتلك اللامية الجواهرية تجدر الاشارة الى ان عشرات من الشعراء الاردنيين، عارضوها، واشادوا  بها، وتم حصر ذلك وتوثيقه، ثم طباعته في كتاب صدر عام 1993 بعنوان (الجواهري في عمان "اللامية ومعارضاتها") للاستاذ حمودة زلـوم ..

9/  مشاركة في مهرجان "الجنادرية" السعودي

   يلبي الجواهري دعوة الى الرياض،  بمناسبة الدورة السنوية لمهرجان "الجنادرية" الثقافي عام 1995 برعاية الأمير، ولي العهد السعودي آنذاك  (ثم الملك لاحقا) عبد الله بن عبد العزيز، الذي أبرز أهتمامه الاسثنائي بالشاعر الكبير، وأستقبله بشكل منفرد، مع نجله كفاح (3). الى جانب الاهتمام اللافت والمتميز به من نخب ومجالس ادبية، في الرياض وكذلك جدة. وقد رافقه في الزيارة ايضا: ابنته السيدة خيـال، وزوجها السيد صباح المندلاوي.

    وبحسب متابعتنا فأن زيارة الجواهري الى السعودية  جاءت لاول مرة، وقد استكمل بها ضيافات وزيارات 14 بلدا عربيا، من المحيط الى الخليج : سوريا ولبنان والاردن وفلسطين  والسعودية والكويت والامارات وقطر واليمن ومصر وتونس وليبيا والجزائر والمغرب..

10/ ضغط وترغيـب لـ "أسترداد" الجواهـري الى بغــداد

   بالتزامن مع زيارة السعودية - التي كان النظام العراقي على خلاف شديد معها منذ غزوه الكويت عام 1990 - نشر المسؤول السابق في وزارة الاعلام العراقية، نوري المرسومي، مقالة ببغداد  طالب فيها بسحب الجنسية العراقية عن الجواهري لمشاركته في مهرجان "الجنادرية" السعودي مما اثار عاصفة ادانة واسعة لتلك المطالبة، من السياسيين والمثقفين العراقيين المعارضين في الخارج، وجمع من المثقفين والكتاب العرب، ليضطر بعدها  ممثلون عن النظام ان ينشروا ما يعني ان تلك المطالبة بسحب الجنسية عن الجواهري لا تمثل موقفا رسميا، وان ما حدث جاء ضمن حرية التعبير الشخصي!. وكان ذلك تبريرا لا يمكن تصديقه، بحكم ان السلطة العراقية كانت معروفة للجميع بأستبدادها، وهيمنتها على كل الحريات العامة والخاصة.  وقد ترفّع الشاعر الكبيـر عن ان يرد على مثل تلك الحالة، أسوة بمواقفه في العديد من الحالات المشابهة، التي لا تستحق- واصحابها، والواقفين وراءها – المنازلة، بحسب تعبيره..(4)   

     وارتباطا بما حملته الفقرة السابقة من مؤشرات، ينبغي التوقف بهذا السياق الى ان بقاء الجواهري خارج العراق، مقيما في براغ ودمشق، منذ 1980  وحتلى رحيله الى الخلود عام 1997  كان يمثل موقفاً واضحا تجاه سياسات وممارسات نظام البعث الحاكم في العراق، الداخلية والخارجية. وقد فشلت محاولات عديدة، سياسية ودبلوماسية، وغيرها، وخاصة في الاعوام الاولى من التسعينات الماضية، لكي يعود الشاعر الكبير الى بغداد. ومن بين اوضح تلكم المحاولات، سعي النظام العراقي - عبر عدد من سياسييه ودبلوماسييه - أنتهاز نكبة الجواهري برحيل زوجته (آمنة) في لندن عام 1992 لأعلان استعداد بغداد للتكفل بنقـل، واستقبال الشاعر الخالد، وجثمان عقيلته، وترتيب تشييعها ومواراتها الثرى بشكل رسمي في العراق، بدلا عن سوريــا ..

     ومن المحاولات المباشرة  الاخرى ان الشاعر رعد بندر، رئيس الاتحاد العام للادباء والكتاب في العراق، الذي كانت السلطة البعثيـة الحاكمة قد هيّمنت عليه تماما، ،قد قام مع عدد من زملائه، الموالين،  بزيارة الجواهري في دمشق، عام 1993 لينقلوا  له رغبة مسؤولين فاعلين  في النظام باطلاق  جائزة  ثقافية وادبية، كبرى، بأسم "الجواهري".. وقد كانت تلك المحاولة مساومة واضحة، لأن  من بين متطلبات اعلان واطلاق تلك "الجائزة" وجوب ان يكون الجواهري في بغداد، ومنحها له اولا..!

11/  وفي دمشــق

   لقد بقيت العاصمة السورية - دمشق، في الفترة التي نوثق لها (1990-1997) المستقر الاول للجواهري، الذي لم تكلّ الشخصيات السياسية والثقافية العراقية والسورية والعربية من زيارته، واللقاء به، والتداول معه. كما كانت – دمشق-  منطلقه الى البلدان التي تم الحديث عنها في السطور السابقات، وليعود اليها، وحتى تاريخ رحيله.. ولقد اتمم فيها الشاعر العظيم  خلال تلك الفترة، توثيقا تاريخيا فريدا، و طوال ساعتين تقريبا، مسجلاً بالصوت والصورة، مختارات من قصائده الوجدانية  والسياسية وعداها.. وقد سبق ذلك صدور الجزء الثاني من "الجمهرة" في العيون من الشعر العربي، بقسمين، العهد الاسلامي والاموي، والذي اشرف عليه وحققه د. عدنان درويش، مع مقدمة كتبها الجواهري بنحو عشرين صفحة شملت تقييمات وتوضيحات وغيرها، وفي نهايتها شكـرٌ للباحث " السيد الهادي العلوي" على ما قدمه من جهد في اتمام العمل، و"للشاب اللبيب النابه، جمال محمد على الجواهري" لما بذله  من مساع فنية وطباعية بذلك الشأن.. (5)

    وضمن توثيق اهم المحطات التسعينية للشاعر الكبير، من المهم  ان نشير هنا ايضا الى اقامة حفل مهيب في دمشق اواسط عام 1995 بمناسبة منح الجواهري وسام الاستقلال  السوري الرفيع، بحضور ومشاركة جمع من المثقفين والسياسيين المميزين، وحشد جماهيري كبيــر لم تتسع له  قاعة "مكتبة الاسد" وسط دمشق، حيث اقيم فيها الاحتفاء.. كما نوثق ايضا بان تلك السنوات التسعينية شهدت الكثير من الحوارات التلفزيونية، والمقابلات الصحفية تناول محطات عن حياة الشاعر الكبير، وبعض آرائه  في الشعر والادب والسياسة وغيرها ..

 12/ لماذ لم يصدر الجزء الثالث من ذكريات الجواهري؟!

    في اوائل عام 1991  صدر في دمشق الجزء الثاني من مذكرات الجواهري، التي ينتهى الى عام 1969 وعلى ان يليه جزء ثالث واخير ليغطي السنوات التاليات، كما سبق القول. ولكن ذلك لم يحدث لاسباب يحددها الشاعر الكبير في اجابة على سؤال للسيدة  فادية الزعبي مندوبة صحيفة الشرق الأوسط اللندنية بتاريخ 24/6/1993 فيقول:

     "الجزء الثالث من مذكراتي ربما يكون اهم الاجزاء، وذلك من جراء تابع الاحداث وأهميتها بالنسبة لي على الأقل. اضافة الى تراكم السنين عليّ أكثر فأكثر. وأعتقد ان هذين السببين هما العائق والمبرر لتأخر صدور هذا الجزء". ويواصل "وعندما قلت "تتابع الأحداث" أقصد في المقدمة موقفي منها كمسؤول عما يقول، وبخاصة الأحداث التي تهم العراق، والتي يفترض ان أنطلق منها. ومع هذا فقد تحين الساعة التي تفرض عليّ أن أقول ما يجب قوله. وبهذا أكون قد ارحت ضميري".

    اما عن استعداده لذلك الجزء فيجيب الجواهري "أنا بعيد عن العراق، وبعيد عن كثير من الوسائل والمواد المعينة كالمراجع والمعلومات. ولكن ذاكرتي القوية والعجيبة تكاد تكون كافية، وأقول العجيبة وأنا غير متناس انني في التسعينات من عمري. ولكن – كما قلت – ان تأخر اصدار الجزء الثالث مردّه التهيّب والتردد، لأن عندي من أسباب التعب ما فيه الكفاية، وأعتقد انني في غنى عن متاعب أخرى قد تتأتى من مواجهة الكثير من الناس بما لا يحبون من هذا الموقف أو ذاك وهذا التشخيص أو غيره.

    ويضيف حول الموضوع ذاته:"... ان بواعث ترددي في اصدار الجزء الثالث يعود لذكرياتي عن الأحداث والوقائع المتعلقة بالدور والشخصيات المعنية. وهذا لا يعني ألا يصل الجزء الثالث الى أيدي الناس، بل على العكس، فبطبيعتي، ومزاجي الخاص، وكوني من الذين يكونون أكثر رضى عن أنفسهم، وعن ضميرهم عندما يكونون أكثر تحدياً، وتشخيصاً، بل دفعاً لثمن باهظ عما يقولون ويوثقون، يجعلني أتلهف الى اليوم الذي يتيح لي الحظ أن أقول ما أريد قوله، خاصة في هذه المواقف الحاسمة التي يراد منها – وعلى أساليب عديدة وبغيضة في أكثرها – ان يكون هناك عراق جديد، وأنا قبل كل شيء عراقي، وحصتي من العراق، وفي العراق، وعن العراق، حصة كبيرة يعرفها كل عراقي، بل وكل عربي".

13/ ويحيــن الرحيل ..

   بعد مسيرة دامت أزيّد من سبعة عقود من الشعر والعطاء الانساني، وعن عمر الثامنة والتسعين، وأثــر معاناة صحية استمرت عدة اشهر، يحين موعد رحيل الجواهري الى الخلود، في دمشق فجر الاحد 1997.7.27 وينتشر الخبر المؤسي عراقيا وعربيا بأوسع ما يكون، ويقام تشييع مهيب ، سيّارا وراجلاً،  للفقيد الجليل، رسميا وشعبيا، وليستقر في راحته الابدية عند متربة السيدة "زينــب" في ضواحي العاصمة السورية، مكتوبة على ضريحه ابيات جواهرية ومنها:

"أنا العراق لساني قلبهُ، ودمي، فراتهُ، وكياني منه أشطارُ"

و " حييتُ سفحكِ عن بعدٍ فحييني، يا دجلةَ الخير يا ام البساتينِ"

 14/ خاتمـة وخلاصات ...

    برغم ان الامر واضح على ما ندرك، ولكن دعونا نؤكد – مع ذلك – الى ان ما تقدم من توثيق جاء مواجيز وحسب، وفي الثنايا العديد من التفاصيل والوقائع والشروح، قـد يسجل عنها ولها معنيون ومتابعون وشهود عيان، بهدف استكمال ما فاتنا، او ما لم ننتبه اليه.. كما ان لنا بالذات آراء وتفاسير، ورؤى، بشأن العديد من الوقائع والاحداث، ولكن تجنبنا الخوض فيها، وذلك توخياً لأن يكون التوثيق، أقرب للسيرة والتأرخة منها للتحليل..

   وفي هذا السياق لا بدّ من الاشارة الى ان السيد  كفاح، النجل الرابع للجواهري، واصغر ابنائه، قد ساعد بملاحظاته، ومعلوماته، في انجاز هذه التأرخة، لا سيما وانه كان المعتمد الاول للشاعر الكبير، ومقيما معه في نفس الدار الدمشقية، في سنوات التسعين خاصة، وقد رافقه في مشاركاته وزياراته الى لبنان والامارات ومصر والاردن والسعودية. كما يتوجب الشكر ايضا للسيد نجاح، الابن الثالث للجواهري، لما وثقه  لنا من تواريخ ومعلومات، وخاصة عن زيارة والده الى ايران ..

       وبالمناسبة نجد ضرورة التنبيه مجددا بانه يستمر بين حين وآخر نشـر كتابات مختلفة عن الجواهري، مرة على شكل ذكريات معه، واخرى تفسيرات واجتهادات، وغير ذلك.. وقد لاحظنا – وما نزال – ان قسماً من تلك الكتابات لا تمت للواقع بصلة، واخـر مجتزأ دون صدق، أو انه مليئ بالمبالغات التي يريد اصحابها تمرير موقف هنا، وآخر هناك، شخصي أو عام، مجافٍ للحقيقة، وبدون اية مسؤولية، او مصادر توثــق، او تؤرخ، او تشير.. ومما يؤسف اليه بهذا السياق ان يعيد البعض نشر تلك "الذكريات" او "الاقاصيص" او "الكتابات" - عن قصد أو جهل، او محاول نيّل – ولتصبح لاحقا وبكل أسف - وكأنها واقع وتاريخ وحقائق، يجري تداولها بكل تبسيط، واستغفال.......* رواء الجصاني / كانون الثاني 2021

---- هوامش واحالات -------------------------------------------------

** من المهم التوضيح بأن جميع التفاصيل والوقائع الوارده في هذه التأرخة، والتي لم يُشــر الى مصادرها، هي من يوميات وشهادات عيان للكاتب، ومعلومات موثقة من الشاعر العظيم، واوراقه المحفوظة في مركز الجواهري في براغ..

1/ القصائد ذات العلاقة تضمها الطبعات الكاملة لديوان الجواهري العامر..

2/ ثمة مادة تعنى بهذا الموضوع كتبها الصحفي والكاتب عدنان حسين بعنوان "موقف مشهود للجواهري"  وذلك في ملحق "عراقيون" الذي اصدرته مؤسسة "المدى" للثقافة والفنون بمناسبة الذكرى العشرين لرحيل الشاعر الكبير بتاريخ 2017.7.27..

3/ نشر الاعلامي والكاتب محمد رضا نصر الله، على موقع (صبرة) الالكتروني بتاريخ 2021.1.22 مادة بعنوان "ماهي علاقتي بإسقاط الجنسية العراقية عن الجواهري..؟" وجاء فيها ان الشاعر الخالد حظي خلال زيارته الرياض " بتقدير خاص من الملك عبد الله بن عبد العزيز - ولي العهد في حينها- الذي أعتنى به من بين كل المدعوين العرب... " وبشكل استثنائي، وحتى ان الملك كسر البروتكول، في ذلك الاهتمام .. ونرى من الضرورة  ان نثبت هنا الى ان هناك العديد من التفاصيل والتواريخ الغير الدقيقة قد جاءت بها مادة الاستاذ نصر الله، ذات الصلة، ومنها حول قضية "اسقاط" الجنسية عن الجواهري، وسنوات خروجه الاولى الى براغ، وتسميته الدكتور كفاح، الذي رافق والده في الزيارة الى السعودية، بأسم فرات..

4/ قال  الجواهري في جواب على سؤال ذي صلة، في حوار اجراه معه الكاتب والصحفي، عامر بدر حسون نشرته صحيفة الشرق الاوسط اللندنية عام 1995: "اجد نفسي مترفعا بمعنى الكلمة عن منازلة هؤلاء لانهم اقل شأنا من ان اذكرهم بالاسم.. لقد وقفت امام نوري السعيد وقلت له بغضب: ياغدار! .. فماذا تظن انه فعل؟ لقد زمّ شفتيه ولم ينبس ببنت شفة وركب سيارته ومضى! .. اما هؤلاء فهم اقل شانا، ولا اجد فيهم من يستحق المنازلة!

5/ هكذا جاء الشكر لـ (هادي العلوي) ولـ (جمال محمد علي الجواهري) في السطور الاخيرة من  مقدمة الشاعر الخالد للجزء الثاني من كتابه  "الجمهرة" الصادر في دمشق 1990 عن وزارة الثقافة السورية.

 

*مابين السيـرة والذكريــات*

الجواهــري في سنوات الثمانين

(1980-1989)

رواء الجصاني

   بقيّت ثمانينات شاعر العرب الأكبر، محمد مهدي الجواهري (1899-1997) دون توثيق ملموس، باستثناء بعض اللقطات المتناثرة، هنا وهناك.. وكان قد أصدر في دمشق مجلدا بجزأين، عامي 1989 و1990 وبعنوان (ذكرياتي) شمل  تأرخة مواجيز ومحطات عن بعض سيرته وحياته المديدة: الشعرية والسياسية والاجتماعية والانسانية، من الولادة وحتى عام 1969 وعلى اساس ان يليهما جزء ثالث ليغطى السنوات اللاحقة. ولكن ذلك لم يحدث وحتى رحيله في دمشق بتاريخ 1997.7.27  بل انه لم يركن لذلك اصلا، لاسباب ودوافع يطول ويعرض التكهن والتوثيق بشأنها.

    ولأن الحال هكذا، شئنا في هذا التوثيق والبحث ان نساهم في المسعى على طريق تارخة تلك الفترة (1969-1997)  بخلاصات ومحطات موجزة كما نظن، اذ ثمة في ما يقارب ثلاثة عقود، الكثير الكثير الذي يتطلب  التوقف عنده، وخاصة انها شهدت احداثا ووقائع، بل وعواصف، عراقية وعربية ودولية، عاشها الجواهرى، وعايشها عن قرب، بل وفي صميمها،  بالموقف او الشعر او الرؤى، ما طفح منها، وما خفي وربما كان أعظم.. وذلك ما نأمل ان يتوقف عنده  توثيقنا هذا للفترة من 1980 الى 1989  الى جانب سابقه المنشور قبل فترة وجيزة، الذي خـصّ الاعوام 1970-1979 .(1)

أن أهمية هذا التوثيق لبعض سجل الجواهري تتعاظم لسبب تزامن ثمانيناته مع ثمانينات القرن العشرين تماماً، حين شهدت البلاد العراقية أحداثاً وشؤوناً وشجوناً بالغة الاستثناء كما يثبت المؤرخون، وخاصة حرب النظام الدكتاتوري مع إيران في مطلع العقد، وغزوه الكويت في نهايته، وما ترتب على ذلك من مآسٍ ودمار وكوارث، جنبا لجنب مع سياسة الاضطهاد والعسف الحرب الداخلية ..   

 

اولاً:  شؤون وشجون سياسية 

   لقد أرخت وقائع تلكم الفترة  (1980-1989) شيوع الارهاب، ولمديات قصوى في العراق، ليطال حتى بيت الشاعر، وشمل احتجاز ابنته الوسطى (خيال) لعدة ساعات في احدى دوائر الامن، واعتقال وتعذيب أصغر أبنائه (كفاح) لعدة أيام، إضافة لايذاء وتهجير العديد من أفراد الأسرة الجواهرية. وقد أكد ذلك قناعات جديدة بشأن الطريق التي صممت على انتهاجها قيادات حزب البعث الحاكم آنذاك، باصرار، كما أكدت السنوات اللاحقة. 

   ومع ازدياد أوضاع البلاد العراقية تدهوراً في مطلع ثمانينات القرن الماضي، وسقوط الأوهام والمراهنات على امكانية ابعاد النظام الحاكم من اعتماد الارهاب والقمع طريقاً وحيداً لبسط الهيمنة والنفوذ، عند ذلك تأصل قرار الجواهري في اتخاذ الغربة موقفاً احتجاجياً ذا أكثر من مغزى. وكانت تلبيته لدعوة جامعة الموصل، واستضافته من قبل رئاستها ونخبة اكاديمية  جليلة، في احتفال جماهيري ثقافي حاشد (شباط 1980) بمثابة توديع للعراق، بل وهو كذلك فعلاً، اذ غادره بعد تلك الفعالية بأيام ليس ألا ..

    وفي خلاصات عن رواهن تلكم الفترة، تبيّـن نونية الجواهري الغاضبة الى الزعيم الكردي – العراقي، جلال طالباني، عام 1980 آراء ورؤى معبرة تجاه العراق نظاماً ومعارضة، ومجتمعا.. كانت القصيدة بعنوان "ماذا أغني؟ "وقد راح مستهلها، بصيغة اخوانية ومن ثم انطلقت بما عـنّ للشاعر في حينها، وجاش في حناياه ووجدانه، ولربما كان توصيفه للواقع، وتنبؤاته عن المستقبل، بمثابة "برنامج"عمل سياسي ووطني جامع. كما ان هناك  قصائد عديدة اخرى، في سنوات العقد الثمانيني، تصبّ جميعها في تقييم الاوضاع في العراق، ومنها قصيدة "بغــداد  الرائية عام 1980 وبائيّة  "برئت من الزحوف" المنظومة عام 1985 ..

 

ثانيا:  في براغ.. اقامةً وشعرا

    الى براغ، مغتربه القديم – الجديد، يعود الجواهري ربيع عام  1980 ليقيم في "شقيّقة" مؤجرة لا تتعدى مساحتها الستين متراً مربعاً أو تكاد، منشغلاً بالشعر والوطن وما بينهما، باحثاً عن استقرار ما، عارفاً سلفاً أن ذلك وهماً بعيد المنال لمن مثله.  وهكذا تعود تلك "الشُقيّقة" في ثمانينات القرن الماضي، كعهدها  في ستيناته وسبعيناته، مزاراً وملتقىً لشخصيات وطنية وسياسية معارضة، ولنخب وشخصيات عراقية وعربية، تستمع لآراء الجواهري، واستشرافاته..

    كما تشهد تلك "الشقيّقة" ولادة العديد  من القصائد الوجدانية والسياسية، وغيرها، جاء أغلبها موثقاً لنظرته وآرائه في رواهن الأحداث والوقائع العراقية والعربية السائدة آنذاك، وان اتخذت الحوارات والمخاطبة الذاتية إطاراً لها، ومن بين جديده في تلك الفترة، وكان غالباً ما يعبر بهذا الصدد "ان جلَّ قديمي جديد أيضاً"  قصيدته الشــهيرة "يا ابن الثمانين" ليبث فيها هموماً وشجوناً وبعض غضب ومرارة من الوطن و"أصحاب" و"زعاماتٍ من كثرِ ما اعتلفتْ بها مسٌ من الحبلِ" على حد وصفه. كما نوّه فيها لتجاوزات "متطاولين" حاولوا هزّ دوحه، وحذّر أن يسيّر فيهم "الأمثال" خالدات! وقد نشرت تلك القصيدة لأول مرة صحيفة الشرق الأوسط بتاريخ 19/2/1982.

   ومن الطبيعي، والبلدان العربية شهدت ما شهدته، في تلك الفترة التي نوثق لها، ان يشارك الجواهري بالرأي والكلمة والحرف، متابعا ومحرضا ومنورا، ومنه ما جاءت به ميميته بتاريخ 1983.7.5  ومطلعها: أأبا مهند والجراح فـمً، وعلى الشفاه من الجراحِ دمُ. وفي ختامها: أأبا مهند شرّ من حكموا، ما كان لولا ذلّ من حُكموا/ ماذا على الراعي اذا أغتصبت عنـزٌ، ولم تتمرد الغنــمُ.  وهي رد على رسالة في  قصيدة  بعث بها اليه نقيب الصحفيين السوريين، صابر فلحوط، وكنّاه فيها بـ "أبي مهند" فظن الكثيرون بأن المقصود هو العلامة مهدي المخزومي، أوضحنا ذلكم اللبس  في كتابة سابقة. (2)

وللتوثيق ايضا، نشير الى ان للجواهري، نظم في الأعوام الخمسة الأخيرة من ثمانينات القرن الماضي قصائد أخرى عديدة  اختلفت محاورها، كما ورؤاها، وتنوعت بين دالية "عهد المروءة" في مناجاة براغ عام 1985 وميمية " عشرون بلفور في عشرين عاصمة" السياسية عام 1986 ورثائــية حزينة مؤثرة لشقيقته الوحيدة "نبيهة"  التي  ألقاها وهو ينتحبُ في دمشق خلال تشييع ومراسم مواراتها  الثرى هناك عام 1987..

 

ثالثا: في دمشق الشام

    في مطالع الثمانينات تجدد الجهات الرسمية السورية، وعلى ارفع المستويات دعوتها للجواهري، باستضافة مؤقتة أو دائمة، وبالشكل الذي يراه مناسباً، والصورة التي يريد. وهكذا يقرر الشاعر الكبير قبول الدعوة، بكل ما يترتب عليها من تداعيات سياسية، فيسري إلى دمشق مع عقيلته، عام 1983 وحتى تاريخ رحيله الى الخلود في 1997.7.27 وموراته الثرى في تربتها، حتى اليوم. وقد ابقى براغ "مستقراً" آخــر، يتقاسمه مع "مستقره" الجديد...

     لقد كان هناك احتفاء واسع ورفيع من القيادات السورية، والرئيس حافظ الاسد شخصيا، بالجواهري طوال  اقامته في دمشق.. كما راح مستقره محط زيارات ولقاءات للنخب والشخصيات السياسية والثقافية السورية والعربية، فضلاً عن العراقية الوطنية والديمقراطية. كما كان يحضر – ولو قليلا - بعض الفعاليات العامة  التي اقيم بعضها على شرفه، ومن ابرزها في مدينة  اللاذقية عام 1983 وفي اسبوع الثقافة العراقية (دمشق- 1986) الى جانب فعاليات محدودة اخرى. (3)

 

رابعا:  لواعج ومواجهات ..

  امتدادا لطبيعته الثائرة، وتمرده الجامح، خاض الجواهري مواجهات " ادبيــة" وسياسية، مع مثقفين ورسميين حكوميين ومعارضين، وغيرهم، خلال عقد الثمانينات.. وقد حملت تفاعلات، وانفعالات في قصائد وردود غاضبة، لم يبقِ في عدد منها ولم يــذرْ، ومن بينها:-

* مواجهة د. عبد الله الجبوري، ردا على مؤلفه المعنون " الجواهري ونقد جوهرته" الذي اعيد نشره وتوزيعه مطلع الثمانينات، وكان تقييم الجواهري له بأنه كتاب " مدفوع الاجر!" موغل في الادعاء والأساءة، فكتـب حول الامر بائية هجائية، عنوانها "عبدةُ .. " ومطلعها:

 " أ عبدةُ يا آبنة الطربِ، ويا معسولة الشنبِ/ ويا معزولة النصفين مبتعدٍ ومقتربِ" ..

* ردُ نثري عنيف للجواهري على ما نشرته صحيفة " تشرين" الرسمية السورية بتاريخ  1987.7.18 حين تطاول فيها، وبأسفاف،  محرر جهول كما بدا، فتحملت الصحيفة وزر ما كتب، ولتنشر اعتذارا بالغا، في مقدمة للــرد الجواهري الجامح، وقد أقتنع بقبول الاعتذار، فألغى شبه قرار اتخذه  بأن يترك دمشق ومضيّفيه، غاضبا.  (4)

* تصدٍ غضوب لما نشره محرر الصفحات الثقافية في مجلة "فلسطين الثورة" الفلسطينية، السيد سليم بركات، ضد الجواهري، في النصف الثاني من الثمانينات،  فما كان من الشاعر الا ان  يكتب رداً على ذلك في عتاب ساخن الى  الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات، نشرته صحيفة (السفير) اللبنانية، في موقع بارز، ثم حصل التصالح بعد توضيحات واعتذار مسؤولين فلسطينيين بارزين بشأن ذلك..(5)

 

خامسا / سفرات وزيارات ..

     ربما يكون عقد الثمانين الأكثر بين عقود حياة الجواهري سفراتٍ وزيارات، رسمية وخاصة، وما بينهما.. وفي مختلف عواصم ومدن العالم: من امريكا الى اسيا الى اوربا الى افريقيا، كما تبين الخلاصات التي ستأتي في السطور اللاحقة...

1/ في الدوحة والجزائر ونيويورك

   في ربيع عام 1980 يزور الجواهري العاصمة القطرية – الدوحة، لبضعة ايام، بدعوة ثقافية رسمية كان من ابرز فقرات برنامجها حفل ترحيبي القى خلاله الشاعر الضيف مقاطع مختلفة من قصائده، الاجتماعية والوجدانية والسياسية ..

      وفي اواخر العام ذاته، اي 1980 يزور الجواهري الجزائر العاصمة لفترة قصيرة حيث كان نجله كفاح يعمل هناك استاذا جامعيا في اختصاصه، بعد اضطر الى ترك العراق أثر اعتقاله وتعرضه للتعذيب لاسباب سياسية عام 1979 واستمرار ملاحقته امنيا..

    كما يقوم الجواهري صيف عام 1981 بزيارة شخصية، قصيرة، وبرفقته زوجته آمنة، الى نيويورك، حيث تقيم ابنتهما الصغرى – ظلال مع عائلتها. مع اهمية الأشارة هنا الى انه سبق وتغاضى عن دعوة رسمية وجهت له اواخر السبعينات من مكتبة (الكونغرس) ولم يقم بتلبيتها..

2/ وفــي عــدن

   يقوم الجواهري عام 1982 بزيارة رسمية الى  عدن- عاصمة جمهورية اليمن الديمقراطية في حينها، وليُحتفى به هناك بصورة بالغة  بحسب شهود عيان. ومن ضمن برنامج الزيارة حفل جماهيري حاشد  أقيم على شرف الشاعر الكبير القى فيه، إلى جانب مختارات من قصائده، نونية عصماء، بعنوان "الغضب الخلاق"  نظمها بالمناسبة، ولم ينس أن يوثق في مطلعها، انطلاق رحلته الى اليمن، من براغ، موطن الثلج كما أسماها فقال:

من موطن الثلج زحافاً الى عدنِ/ تسري بي الريح في مهر بلا رسنِ ..

من موطن الثلج من خضر العيون به/ لموطن السحر، من سمراء ذي يزنِ

   ولعل من المناسب ان نسجل هنا، ولمزيد من التأرخة والتوثيق ان الرئيس اليمني الجنوبي حينذاك، علي ناصر محمد، ادام علاقات وطيدة مع الجواهري، وعلى مدى أكثر من ربع قرن، ومن بينها لقاء في براغ اواسط الثمانينات، وبعدها  في دمشق الشام، حين كان الرجلان يستقران هناك، ضيفين سياسيين مكرمين، ولسنوات عديدة...(6)

3/ ووارسو

    تلقى الجواهري عام 1986 دعوة رسمية لزيارة بولنـدا، وحضور مؤتمر عالمي، جديد، للمثقفين، من اجل السلام، في  وارسو، بمشاركة نحو 200 كاتب وعالم ومفكر وأديب اجنبي، من نحو 50 بلدا، اضافة لزهاء 200 آخرين من اقرانهم البولنديين، وقد لبى الشاعر تلك الدعوة بعد تمنع وتردد، وكان - في تلك المشاركة الجديدة في المؤتمر الجديد- واحدا من قلة سبق ان شاركت في المؤتمر العالمي، الاول، للمثقفين دفاعا عن السلم في العالم، الذي انعقد عام 1948 في مدينة (فروتسواف) البولندية. (7)

4/ وليبيـــا

     وفي عام 1987  يلبي الجواهري دعوة رسمية لزيارة ليبيا،  قضى خلالها أياماً في طرابلس، ومثلها  في مدن ليبية أخرى، بضيافة زعامات ثقافية وحكومية آثرت الاحتفاء بالشاعر العظيم، ومنجزه الشعري والادبي الفخم.. وقد منح خلال الزيارة وساما رسميا رفيعا، كما نظمت له امسيات ولقاءات عديدة، خاصة وعامة، استقبله في احدها الزعيم الليبي حينئذ معمر القذافي. وقد ابدى الشاعر الكبير خلال الزيارة موافقته على اعادة طباعة ديوانه هناك، ولكن ذلك لم يحصل، ولم تجــرِ متابعة الامر..

5/ في باريس وبودابست

     لكي تكتمل الصورة التوثيقية عن زيارات الجواهري وسفراته خلال العقد الثمانيني الفائت، نشير الى انه اقام في باريس، مع زوجته آمنة،  لفترة وجيزة عام 1984 لعلاج نظره الذي تضرر بسبب الجهد الفائق الذي بذله منكباً على اتمام منجزه الفخم  "الجمهرة" وقد اجريت له  عملية دقيقة لعينيه، نجحت في ترميم بعض الأضرار، ولكن النتائج النهائية كانت أن يفقد قدرته على القراءة والكتابة بنسبة كبيرة، وبشكل دائم... كما قام الجواهري اواخر الثمانينات بزيارة شخصية الى العاصمة المجرية – بودابست، حيث اعتنى به هناك العديد من المحبين والاصدقاء، وليقضي اياما معهم، ويعود منها الى براغ..

 

سادسا: نشــرٌ واصــدارات

   شهد عقد الثمانينات اصدارات عديدة للجواهري، وعنه، ومنها الجزء السابع – الاخير- من طبعة بغداد التي ابتدأت عام  1973. وقد ضم ذلك الجزء  بضعة قصائد او مقطوعات لم تنشر، وكذلك ما فات نشره في الاجزاء السابقة ..

  كما صدرت في النصف الاول من الثمانينات طبعة جديدة من ديوان الجواهري العامر، وذلك عن ( دار العودة- بيروت)  بأربعة اجزاء، اساسها طبعة بغداد سابقة الذكر.. ثم غضب الجواهري على مسؤولي تلك "الدار" لإخلالها  بالاتفاق المبرم معها، فتتصرف بدون وجه حق بالحقوق والالتزامات ..

    وفي مطلع عام 1986 صدر عن (دار طلاس- دمشق)  مؤلف  "مختارات الجواهري في العيون من أشعاره" بنحو سبعمئة صفحة من القطع الكبير، اشرف على اصداره د. عبد الحسين شعبان، بتمهيد من  الشاعر الكبير، تلته مقدمة وزيرة الثقافة والارشاد القومي السورية، نجاح العطار، تحت عنوان "في رحاب الشعر" .. 

   وفي مجالات النشر عن الجواهري في الثمانينات، والتي تعددت في وسائل الاعلام المكتوبة والمسموعة والمرئية، نوثق  الى تسع حلقات متتابعة  تحدث فيها الشاعر عن ذكرياته الى مندوبة مجلة (المجلة)  اللندنية، الكاتبة اللبنانية هدى المّــر، عام 1982..  كما نشير كذلك الى كتاب الاستاذ حسن العلوي عام 1986  الموسوم "الجواهري .. ديوان العصر" ذلك  فضلا عما  نشره الصحفي البريطاني البارز (ديفيد هيرست) في صحيفة (هيرالد تربيون) الشهيرة  اوائل الثمانينات الماضية، وترشيحـه الجواهري كأنسب رئيس بديل لجمهورية العراق.. (8)

    وما دمنا نتحدث عن الاصدارات والنشر، لا يفوتنا هنا التنويه الى ان الشاعر الكبير قد ولعَ لأن يشرف على تأسيس دار جديدة للنشر والطباعة في دمشق، عام 1988، تتخصص بدواوينه ومؤلفاته  بشكل رئيس، وتمت اجازتها بأسم"الرافدين" وتكلف بمتابعتها نجله (كفاح) الذي كان مقيما في العاصمة السورية.  وقد عرض الامر على صاحب هذه التأرخة لأدارتها، ولكن ظروف اقامته في براغ، والتزاماته السياسية حينئذ، لم توفر له امكانية تحمل تلك المسؤولية التي رغبَ بها كثيرا.. وقد كانت باكورة دار الرافدين، اصدار  الجزء الاول من "ذكرياتي" للجواهري عام 1989  ..

 

سابعا / طبعة متميزة من الديوان

     صدر في عام 1984 عن وزارة الثقافة السورية الجزء الخامس- الجزء ، من ديوان الجواهري، وقد كان جزؤه الاول قد اصدرته عام 1979 .. وهي طبعة  فريدة ، واولى من نوعها كما ندري،  لأنها اعتمدت نشر القصائد وترتيب تسلسلها  ليس زمنيا كما هو معتاد، ولكن وفق احرف المعجم (الابجدية العربية) التي جائت بها القوافي.. وبلغ عدد صفحات الاجزاء الخمس ثلاثة  الاف صفحة من القطع الكبير، وبالحرف الصغير، نسبيا. اما اساسها فهي طبعة بغداد في السبعينات الماضية، ذات السبعة اجزاء، مع اضافات لبعض قصائد، وشروح لأخرى، وتشكيل وتدقيق وتصحيح.. وقد عُنيّ بالاشراف على اصدار الديوان وفهارسه: د. عدنان درويش (9).

 

ثامنا: الجمهرة ..

     حرص الجواهري وهو في منتصف تسعيناته، أن يجهد بكل مثابرة لأغناء المكتبة العربية بمنجز ثقافي وشعري نادر بفخامة محتواه، وذلكم هو موسوعة "الجمهرة" التي بعشرة اجزاء، يضم مختارات لمئات الشعراء العرب، ومن مختلف العصور، تتولى اصدارها وزارة الثقافة السورية. وقد انشغل بها الشيخ الجليل عامي 1983-1984 في دمشق الشام، وليشرف على تنقيحها وفهرستها وترتيبها لاحقاً د. عدنان درويش، ليصدر الجزء الأول منها عام 1986 مكرسا  للعصر الجاهلي بنحو تسعمئة صفحة من القطع الكبير...

   وفي جمهرته، لم يكتف الجواهري  باختيارات "العيون الشعرية" وحسب، بل وأوجز سطوراً عن حياة أصحابها الذين ضمتهم الموسوعة، وقد كان للفحول من الشعراء حصتهم الأميز في هذا المجال. وقد سبق كل ذلك ليكتب في المقدمة  مناقشة مهمة تنتصر للشعر الجاهلي، وفي حوالي  40 صفحة وصفحة، اثارت اهتماما بالغا عند المختصين والمتلقين على حد سواء، وقد نشرها الاستاذ فخري كريم، منفردةً في اصدارات مؤسسته - دار المدى. اما مصادر"جمهرة" الجواهـري فكانت من بينها  "الأغاني" و"العقد الفريد" و"خزانة الأدب" و"الفضليات" و"حماسة ابي تمام" ومختارات "البحتري" و"البارودي" و"ادونيس" و"هادي العلوي" وغيرها، فضلاً عن دواوين العشرات من الشعراء المعنيين، ثم لتتم الاستذكارات، فالاقتباسات فالتصحيح فالتنقيح والترتيب، فالطبع.. (10)

 

تاسعا:  "ذكرياتي"

   صدر في عام 1989 الجزء الأول من "ذكرياتي" للجواهري، وأعقبه الجزء الثاني عام 1990 وتجاوز عدد صفحات الجزأين  ألف صفحة من القطع الكبير. وقد كان  الشاعر قد بدأ  في أوائل الثمانينات الماضية كتابة رؤوس أقلام ومواجيز وخلاصات استهلك فيها عشرات الصفحات.  وبعد فترة لم تطل، استعاض الجواهري عن ذلك الخيار بآخر، وهو توثيق الذكريات بأشرطة فيديو، بلغ عددها أكثر من عشرين شريطاً، سُرق بعضها، وتلف قسم آخر بسبب سوء الحفظ...

 لقد ترافق مع تسجيل الذكريات على أشرطة الفيديو اياها، تسجيل أشرطة كاسيت صوتية في نفس الآن والمكان، ببراغ أعوام 1984-1986... ثم قامت بعدها نخبة شبابية من متطوعين عراقيين في دمشق عام 1988 بتفريغ تلك الأشرطة التي بلغت نحو ثمانين ساعة، على الورق، ثم لتقرأ المسودات بشكل أولي، وتدقق ثانية، بمشاركة مباشرة من كاتب هذه التأرخة... ثم لتطبع من جديد، وليعمل عليها بجهود بارزة، وغيرها، أكثر من باحث وكاتب واعلامي، ولا سيما الافاضل: هادي العلوي وفالح عبد الجبار وعبد الكريم كاصد وزهير الجزائري. وكذلك خلدون جاويد وهاني الخيّـر، لفترة قصيرة، ولتوضع بعدها أمام الجواهري، فيعيد، ويصحح ويحذف ويوجز، ويوسع، وبالاعتماد على ذاكرته وحسب، وهو ابن تسعين عاما. ثم ليصدر بعد ذلك جزءا "ذكرياتي" على الشكل الذي صدرا به...

لقد كان مبدأ كتابة "الذكريات" موضع تردد كبير، أصلاً، لدى الجواهري. فمثل ذلك الأمر قد يعني، من جملة ما يعني، ان المرء قد وصل الى نهاية المطاف في العطاء. ولاشك فان مثل هذه الحال لم تكن لتخطر في بال الشاعر العظيم، وان كان على أعتاب التسعين... وذلك ما كان بالفعل، إذ ثمة قصائد ومواقف عديدة قد تجلى بها، وتجلت عنده، ولنحو سبع سنوات تاليات...

وبمثلما افصحت عنه مقدمتا جزأي " ذكرياتي " راحت التفاصيل والايجازات واستعراض المواقف، بصراحة ومباشرة لمديات بعيدة. واشهد هنا أيضاً كم كان الجواهري معجباً باسلوب ومضامين ذكريات للأدباء البارزين مثل:  البرتو مورافيا، وارنست همنغواي، وسلفادور الليندي، وميله للاستفاده منها اسلوباً، لولا الاختلاف في وعيّ وثقافة متلقي اولئك المشاهير، ومجتمعاتهم، عن متلقي ومجتمعات "ذكريات" الجواهري. (11)

 

عاشراً: خاتمــة

    يقينا بان ما جاء في هذه الكتابة لا يغطي سوى لمحات ومحطات عن  الشاعر العظيم في عقد الثمانينات- وهي ثمانينياته العمرية في آن واحد-  وذلــك في رحاب الشعر والسياسة الثقافة والحياة، وهي تفتح - كما نظن - ابوابا وآفاقا ومسارات للباحثين والنقاد الذين يريدون  تناول هذه الفترة دراسة وتوثيقا. كما انها توفر خلاصات ومؤشرات للقراء عموما، وخاصة الشغوفين بحب الجواهري ومتابعة آثاره. ذلك فضلا عن كونها – اي هذه التأرخة- تسجل جوانب من مسيرة البلاد العراقية وتطوراتها، وتداعياتها السياسية والثقافية والاجتماعية، في عقد زمني ملئ بالاحداث والشؤون التي انعكست على الاوضاع العامة في حينها، وكذلك على الوقائع والتطورات اللاحقة. ولا شك بان كل ذلك سيتوضح ويُبان أكثر فأكثر في تفاصيـــل الجزء القادم لما نتوجه اليه وهـو تأرخة وتوثيق "تسعينات الجواهري"  ثم، "خلاصات عما بعد الرحيـــل"......  * رواء الجصاني / كانون الاول 2020

إحالات وهوامش وتوضيحات ------------------------------------------

* من المهم كما نرى التوضيح بأن جميع التفاصيل والوقائع الوارده في هذه التأرخة، والتي لم يُشــر الى مصادرها، هي شهادات عيان للكاتب، ومعلومات موثقة من الشاعر العظيم.

1/ للمزيد من التفاصيل كتابتنا المنشورة على الانترنيت عام 2020 بعنوان: " الجواهـري في سنوات السبعين (1970-1979).. مابين السيـرة والذكريـات" .

2/ للمزيد من التفاصيل كتابتنا المنشورة على الانترنيت عام 2020 بعنوان: من هوأبا مهند" الذي خاطبه الجـواهـري  في ميميّـته الغاضبة عام 1983 ؟!.

3/ للمزيد من التفاصيل كتابتنا المنشورة على الانترنيت عام 2013 بعنوان: "مع الجواهري في دمشق" .

4/ للمزيد من الشؤون ذات الصلة عن هذا الموضوع،  كتابتنا المنشورة على الانترنيت عام 2018  بعنوان: "الجواهري: لكي لا نعيّر باننا قوم ينكرون الجميل، ويكفرون بالنعم".

5/ للمزيد من الشؤون ذات الصلة عن هذا الموضوع،  كتابتنا المنشورة على الانترنيت عام 2014  بعنوان: "مع الجواهري بعيدا عن السياسة والادب !! الحلقة 3".

6/ المزيد من التفاصيل عن زيارة اليمن،  في الفصل السادس من كتابنا " الجواهري بعيون حميمة" بغداد 2016.

7 / للمزيد من التفاصيل كتابتنا المنشورة على الانترنيت عام 2016 بعنوان: "الجواهري في عواصم ومدن الدنيا.. قصيدة وثلاث زيارات لبولندا" .

8/ المزيد من التفاصيل عن هذا الموضوع،  منشورعلى الانترنيت عام 2017  لعبد الاله النعيمي تحت عنوان: "الجواهري.. وفي الليلة الظلماء يُفتقد البـدر" .

9/ للمزيد من التفاصيل كتابتنا المنشورة على الانترنيت عام 2020 بعنوان: " طبعة فريدة لديوان الجـواهري، بحسب أحرف الابجدية العربية" .

10/ المزيد حول "الجمهرة" على الصفحة 696 من كتاب " الجواهري.. قصائد وتاريخ ورؤى" لكفاح الجواهري، ورواء الجصاني (دمشق- بغداد) 2012.

11/  للمزيد من التفاصيل كتابتنا المنشورة على الانترنيت عام 2011 بعنوان: " ذكريات وشهادات حول ذكريات الجواهري" .

 

طبعة فريدة لديوان الجـواهري،

بحسب أحرف الابجدية العربية

- رواء الجصاني

    اتممت وزارة الثقافة السورية اصدارالجزء الأخير- الجزء الخامس، من ديوان الجواهري، عام 1984 وقد كان جزؤه الاول قد اصدرته عام 1979 ..  وهي طبعة  فريدة ، واولى من نوعها كما ندري،  لأنها اعتمدت نشر القصائد وترتيب تسلسلها  ليس زمنيا كما هو معتاد، ولكن وفق احرف المعجم (الابجدية العربية) التي جائت بها القوافي..

     شمل الجزء الاول: مداخلة - دراسة عن الجواهري بعنوان "في رحاب الشعر" لوزيرة الثقافة د. نجاح العطــار، ثم مقدمة بسبعين  صفحة  لتوثيق- سرد تاريخي، كتبه  د. على جواد الطاهر، عن صديقه، الشاعر العظيم، اواسط السبعينات الماضية، موسوم بـ " من المولد حتى  النشر في الجرائد". وبعده تعريف موجز عن الطبعة، ونثرية الشاعر الشهيرة" على قارعة الطريق" توالت القصائد تترى.  وفي الاجزاء الثلاثة اللاحقة: الثاني وصدر عام 1980 والثالث عام 1981 واالرابع عام 1982 استمر حصر جميع القصائد وترتبيها، منذ  عام 1921 وحتى عام 1980.

     اما الجزء الخامس- الأخير، فقد شمل، وفق للمنشور على  صفحة الغلاف:  (الرباعيات- المرسلات- الملحقات- الفهارس) .. وجاءت الفهارس المشار لها اربعة: اولها ثبتٌ اضافي، بحسب التسلسل الزمني لقصائد الديوان العامر. وثانيها: فهرس الاعلام الواردة اسماؤهم في القصائد ، والثالث للأماكن التي تم ذكرها في الديوان.اما الفهرس الرابع، والاخير، فهو حصر وتوثيق بأسماء "الاقوام والجماعات والأسر" التي اشار لها الجواهري، وعنها، في اشعاره..

    لقد جاءت الطبعة الفريدة التي نعنى بها في هذه الكتابة بـثلاثة الاف صفحة من القطع المتوسط، وبالحرف الصغير(نسبيا) وتوزعت على خمسة اجزاء كما سبق القول. اما اساسها فهي طبعة بغداد في السبعينات الماضية، ذات السبعة اجزاء، مع اضافات لبعض قصائد وشروح لأخرى، وتشكيل وتدقيق وتصحيح.

    أخيرا وفي ختام هذا التعريف الموجز تجدر الاشارة ايضا الى ان ما يزيد من اهمية هذه الطبعة الدمشقية الفريدة، فضلا عن تميّزها بالتسلسل الابجدي، هو ان الجواهري اطلع على مسودات ما قبل النشر، وتدخل هنا وهناك مضيفا وموضحا، وربما حاذفا ايضا !! . وقد عني بالاشراف على اصدار الديوان، بأجزائه الخمسة، وفهرساته: د. عدنان درويش. وهي طبعة نافذة من الاسواق منذ اكثرمن ثلاثة عقود على ما تابعنا ذلك، وكانت بخمسة الاف نسخة وفقا للمثبت على الصفحة الاخيرة من المجموعة.

------------------------------------------------* رواء الجصاني- تشرين الثاني 2020

 

الجواهــري  في سنوات السبعين

(1970-1979)

مابين السيـرة والذكريــات

رواء الجصاني

    في مؤلف صدر في دمشق بجزأين، عامي 1989 و1990  وبعنوان (ذكرياتي) وثــق محمد مهدي الجواهري المعروف، والمعرف، بشاعر العرب الاكبر (1899-1997) مواجيز ومحطات عن بعض سيرة حياته المديدة: الشعرية والسياسية والاجتماعية والانسانية، من الولادة وحتى عام 1969 وعلى اساس ان يصدر لاحقا جزء ثالث ليغطى السنوات اللاحقة.. ولكن ذلك لم يحدث وحتى رحيله في دمشق بتاريخ 1997.7.27 .. بل ولم يعمل – الجواهري- بذلك الاتجاه اصلا، لاسباب ودوافع يطول ويعرض التكهن والتوثيق بشأنها.

  ولأن الحال هكذا، شئنا في هذا التوثيق والبحث ان نساهم في المسعى على طريق تارخة الفترة من 1969 حين توقف الجواهري عن سرد ذكرياته ذات الجزأين المشار لهما اعلاه، وحتى تاريخ الرحيل في تموز / يوليو 1997 وبخلاصات ومحطات موجزة كما نظن، اذ ثمة في تلك الفترة المعنية، اي ما يقارب ثلاثة عقود، الكثير الكثير الذي يتطلب  التوقف عنده وخاصة انها – اي العقود الثلاثة-  شهدت احداثا ووقائع، بل وعواصف، عراقية وعربية ودولية، عاشها الجواهرى، وعايشها عن قرب، بل وفي صميم الصميم، ولا نبالغ. وسواء كان ذلك بالموقف او الشعر او الرؤى، ما طفح منها، وما خفي وربما كان أعظم..

   وقبيل الدخول في الحقبة السبعينية، ثمة ما يجب التوثيق له عن الجواهري في عام 1969 ما بين السياسة والشعر، وبحسب الديوان العامر، قصيدته الدالية، ومطلعها "ياآبن الفراتيّن قد أصغى لك البلدُ، زعما بأنك فيه الصادح الغردُ" التي القى قسما منها في مهرجان الشعر ببغداد في نيسان/ ابريل، وهو اول فعالية مهمة يشارك فيها بعد عودته الى بغداد من مغتربه البراغي، اواخر عام 1968 . وقد جاءت  "أبيات القصيد"  لتتداول وتوثق، وتصول وتجول،  حول شؤون عديدة مثل الموقف من الشعر العمودي، والرد بقسوة على شخصيات حاولت ان تطال من قمته آنذاك – اي الجواهري- بحسب رأيه. كما شملت ابياتها مواقف ورؤى سياسية عامة، فضلا عن تأرخة لبعض المحطات التاريخية .. 

  

 

1/ شؤون وطنية وسياسية

    تميّزت سبعينات القرن العشرين ، وهي سبعينات الجواهري في آن، بأحداث جمة ذات صلة مباشرة بالشاعر والوطن... فقبيل ابتداء ذلك العقد "التاريخي" بفترة وجيزة، كانت العودة إلى البلاد بعد سبعة أعوام من الغربة... وبعيّد انتهاء العقد ذاته، وبأسابيع قليلة، عاد الجواهري إلى الاغتراب مرة تالية وأخيرة.. وقد استمر الشاعر في تلك السنوات العشر، كما في عقود حياته السابقة في تبني الانحياز الى الناس في تطلعاتهم وعطاءاتهم من اجل العيش الكريم والحرية والارتقاء، ضد التخلف والعسف والظلم الاجتماعي والسياسي.. 

ومثلما تفاءل كثير من أبناء البلاد وشخصياتها الثقافية والسياسية، وغيرها، في السبعينات الماضية، ومطلعها، ونصفها الاول خصوصاً، تفاءل الجواهري بأن يشهد العراق استقراراً ونهوضاً، يريح  فيه الركاب "من أين ومن عثر" بعد "جيلين" من المتاعب والأخطار والتضحيات... ولكن ذلك التفاؤل سرعان ما خبت جذوته، فأخذ الشاعر ينبه من بوادر انهيار البلاد وسيادة الظلام والحروب والعنف، واستمر محذراً دون أن ينجح في أن يسمع حيا .

  أن التأرخة للجواهري، وعنه، في تلك السنوات السبعينية ذات تفاصيل واسعة، ومتشابكة شعريا ووطنيا وما بينهما لحدود كبيرة، ولا شك بأن انجاز ذلك  يتطلب المزيد من الدقة والتوثيق، وسواء لما ورد في قصيده، او ما عبر عنه في اللقاءات والحوارات، الى جانب مايمكن ان يدلي به معاصرون أمينون، وبعض أهل بيته الذين واكبوا وعايشوا تلك الفترة. ومن هنا سنتمهل في التوثيق لهذه الجوانب - حاليا على الاقل- مع بعض اشارات موجزة تبين-  ولو بحدود ما-  شيئا عما قد  يفيد في القاء الضوء عن مواقف الجواهري عن العراق السياسي في السبعينينات. ولعل من ابرز ما يؤرخ لذلك قصائده ذاتها، ومنها:

1/ قصيدة "طيف تحدر .. يوم الشمال.. يوم السلام" في آذار / مارس 1970 بمناسبة  الاعلان على " احلال السلام في ربوع كردستان، واقرار الحقوق القومية للشعب الكردي في العراق، وفي المقدمة منها الحكم الذاتي" بحسب ديوان الجواهري..

2/ قصيدة "يوم التأميم" وقد  نظمها الجواهري بمناسبة تأميم النفط في العراق خلال حزيران/ يونيو 1972.

3/ قصيدة "تحية الى وفود المشرقين" والقاها نهاية اذار/ مارس 1974 بمناسبة انعقاد مؤتمر عالمي ببغداد، رعته منظمة تضامن الشعوب الافرو- اسيوية.

4/ قصيدة "أبا الشعر.. تغنّ بتموز " السياسية الداعية الى وحدة الصفوف، وتجاوز الخلافات من اجل بناء الوطن وسعادة ابنائه، ونشرت بتاريخ 1978.7.22.

5/ قصيدة "دمشق.. جبهة المجد"  القاها خلال زيارته دمشق اواخر العام 1978 دمشق وكان قد صدر في تلك الفترة اعلان الميثاق الوحدوي العراقي- السوري.

 

2/ بــراغ تنافس بغداد 

لم يرح الجواهري ركابه، كما وعد في قصيـدة العودة الى العراق عام 1969 وبقي حتى سنوات عشر تالية يروح لبغداد  ويعود الى منها براغ  حيث شقته – او شقيّقته كما كان يصطلح عليها – والى اجوائه الخاصة التي تعود عليها وألفها منذ عام 1961. وفي ضوء تلك الاقامة في العاصمتين العراقية والتشيكية، كان الجواهري مطمئناً ومسروراً، حيث البديل قائم وان تعددت واختلفت الظروف. وبقيّ يحسب الحساب لهذا الواقع بكل جدية. وقد بذل منتهى الحرص لتجاوز أي اجراء او قصور قد يؤدي لفقدانه مثل ذلك الامتياز، أي حق الاقامة الدائمة في براغ.

كان البرنامج اليومي لحياة الجواهري في مستقره البراغي خلال عقد السبعينات تقليدياً الى حدود بعيدة. ومن بعضه اعداد طعامه بشكل شخصي والتمشي، وسماع الاخبار من الاذاعات المختلفة، دون التلفزيون الذي لم يكن على ود ٍ معه، على أقل وصف، وطيلة حياته. فضلاً عن القراءة طبعاً، وارتياد مقاه ٍ محددة من أبرزها "سلافيا" المطل على نهر الفلتافا البراغي و"سلوفنسكي دوم"  الذي كتب فيه مملحة "الميني جوب" ومقهى "اوبسني دوم" الذي كان يسميه بـ "الحضرة". وكذلك صالونا فندقي "يالطا" و"الكــرون" الشهيرين في مركز العاصمة. اما وجبات الطعام، وخاصة في فترة الغداء، فكان يتناولها في البيت بشكل عام، وعند الضرورة في المطاعم والحانات الشعبية والبسيطة، ووقوفاً بعض الأحيان... كما كان يشارك حضوراً أو شعراً في عدد من الأمسيات والفعاليات الرسمية أو الاحتفائية العربية والعراقية التي تقام بهذه المناسبة الوطنية او الاجتماعية أو تلك.

ويشير نجاح، النجل الثالث للجواهري، والمقيم في براغ منذ عام 1960 الى ان معارف والده وأصدقاءه المقربين في براغ خلال السبعينات، بعد ان عاد من عاد منهم الى العراق، كانوا محدودين جداً، وفي مقدمتهم الراحل موسى اسد، الذي كان عاشقاً للجواهري شاعراً وانساناً وصديقاً، وعدد من الممثلين السياسيين العراقيين والعرب في مجلة قضايا السلم والاشتراكية واتحاد النقابات العالمي واتحاد الطلاب العالمي والذين كانوا يتغيّرون بين فترة وأخرى وأولهم آرا خاجودور وعادل حبة ونوري عبد الرزاق ومهدي الحافظ. ويضيـــف نجاح: " لقد كان الوالد يميل الى مداراة نفسه بنفسه، ويركن في الغالب الى اصدقاء محدودين، وحتى الى واحد فقط، في بعض الاحيان، وبما ينسجم ومزاجه. وكان يعتمد في تلك الفترة عليّ، وعلى ابن اخته رجاء الجصاني، في انجاز ما لا يستطيع انجازه منفرداً، كمعاملات السفر والترحال ومتطلبات الاقامة وغيرها من الشؤون الشخصية".

واستناداً لاستذكارات الجواهري، فان زيارات وسفرات المثقفين والشعراء والسياسيين العراقيين والعرب، الشخصية والرسمية الى براغ لا تكتمل ما لم "يداهمونني في البيت او المقهى سواء شئت ذلك أم كرهت" حسب تصريحاته. وفي عودة لبعض الارشيف المتوفر نجد العديد مما يوثق اشارات الجواهري بهذا الخصوص، وثمة رسائل وقصائد وشهادات تؤرخ لبعض ذلك. وعلى سبيل المثال تقول الشاعرة لميعة عباس عمارة في ذكريات لها منشورة في صحيفة الشرق الأوسط اللندنية بتاريخ 4/9/1996 " كان آخر لقاء لي مع الجواهري في براغ خلال السبعينات. لم يتغيّر الجواهري، ظل ذلك الرشيق، الأنيق، الوسيم، الظريف، الصعب. وبقيت أنا تلك المعجبة السعيدة لأنها تنفست من هواء غرفة ضمته، وجلست يوماً مجلسه".

ولربما من المناسب هنا، رداً على تقولات البعض من جهة، ولتوثيق الاحداث والوقائع، وذلك هو الأهم، ان نشير الى ان مستقر الجواهري البراغي خلال السبعينات لم يكن سوى شقة اعتيادية الموقع والبناء والأثاث، في منطقة براغ السادسة، حيّ (بيترشيني)  تتكون من غرفتي نوم، وصالون استقبال متواضع، ومطبخ ومرافق صحية، وتقع في عمارة تقليدية، وأثاثها أكثر من بسيط ... ولكن تلك الشقة التي قضى فيها الجواهري زهاء ثلاثة عقود، نظم فيها العديد من قصائده البارزة وحدد فيها مواقفه الأهم. كما ان تلك الشقة الصغيرة المتواضعة – لا غيرها – شهدت لقاءات واستضافات الجواهري لعشرات المفكرين الأدباء والمثقفين والمسؤولين السياسيين والرسميين العراقيين والعرب، وحتى بعض الأجانب.

 

3/ في رثاء عبد الناصر

في رحاب الشعر شهدت سبعينات القرن العشرين ولادة أزيد من خمسين قصيدة ومقطوعة نظمها الشاعر الكبير في السياسة والفكر والحياة، والجمال والحب، ومن بين السياسية المهمة منها، بمناسبة  الذكرى السنوية الاولى لرحيل الزعيم العربي والمصري جمال عبد الناصر التي صادفت عام 1971 ومطلعها: "أكبرت يومك ان يكون رثاءَ / الخالدون عرفتهم احياءَ" القاها في القاهرة ضمن فعالية الاستذكار الخاص بالمناسبة، وهي الزيارة الجواهرية الاولى الى مصر بعد عشرين عاما تماما، شهدت العديد من الخلافات والاختلافات، ومواقف تقييمية، وتضامنية، وغيرها سواء في قصائد شعرية او كتابات ولقاءات وغيرها.. وشملت "ابيات" القصيد في هذه المطولة الجواهرية التي بلغت 132 بيتاً شؤونا عامة وخاصة، ومواقف وأراء عن تاريخ ورواهن سياسية وثقافية، فضلا عما يليق بالمناسبة طبعا..

 

4/ رئاسة جديدة لاتحاد الادباء.. وخصومات !!

اعيد تشكيل اتحاد الأدباء في العراق عام 1970  وانتخب الجواهري رئيسا للهيئة الادارية التي ضمت الى جانبه شفيق الكمالي وحميد سعيد والفريد سمعان وغانم الدباغ..وكانت رئاسته للاتحاد هذه المرة  بشكل رمزي، مقارنة برئاسته الأولى عام 1959... وقد ترأس  وفود العراق في أكثر من فعالية ثقافية عربية وعالمية ومنها مؤتمر الأدباء والكتاب العرب الثامن (دمشق 1971) والمؤتمر التاسع (تونس 1973) فضلاً عن بعض فعاليات مجلس السلم العالمي الذي كان الجواهري ضمن مؤسسيه في أربعينات القرن العشرين..

ويبدو ان  هذه الوقائع، والمكانة المرموقة اثارت غيظ  عدد من الشعراء  وألادباء العرب والعراقيين، وقد نوه الشاعر الكبير الى تلك المواقف المناوئة، وردّ عليها،  في قصائد ومطولات  ومنها داليته "أزح عن صدرك الزبدا، ودعه يبث ما وجدا" عام 1974 ... ورائيته  "آليت ابرد حر جمري، واديل من أمرٍ بخمرِ" " عام 1975.. وسيرد المزيد عن تينك  القصيدتين لاحقا في هذا التوثيق..

   واذا ما كانت اعلاه ردود الجواهري شعريا على ما رأى بأنه خصام مفتعل، واثارات هنا وهناك، وخاصة حول الحداثة في الشعر، وانتهاء عصر القصيدة الكلاسيكية، فثمة كثير من رؤى ومواقف ثبتها حول الامر من خلال مقابلات ولقاءات اجريت معه، ومنها  حوار اجراه معه سامي مهدي، منشور في العدد الثاني من مجلة المثقف العربي ( حزيران/يونيو لعام 1971) قال فيه – الجواهري- ردا  على سؤال " حول رأيه بواقع الحركة الشعرية في الوطن العربي”:  "يمرّ الشعر العربي في مرحلة حرجة، ذلك ان فراغاً مخيفاً يحدث اليوم، وقد بات من الصعب ان يُملأ الفراغ الذي يتركه الشعراء الذين يشغلون الناس. ومع انني لا أنكر ان هناك أجيالاً تتمخض وتبحث لها عن طريق، الا ان الذي يذهب لا يعوض بسهولة، بخاصة وان العصر يتطور كثيراً وبأسرع مما نلحق به حتى على مستوى الشعر. على ان هذا الفراغ يبدو أكبر في العراق مع انه بلد الشعر، ذلك لأن العبقريات نادرة ويصعب تعويضها بحكم طبيعة الحياة”.

   كما يضيف الجواهري الى اجابته السابقة " وبرغم ما قلته فانني لست متشائماً، ولكنني متألم فحسب، فثمة في العراق من يركض قبل ان يتعلم المشي، وثمة حوارات يضيع فيها الوقت ولا يعلم الناس عم تدور. اما بالنسبة لي فاني ان ذهبت سأترك فراغاً كبيراً لن يعوض الى أمد طويل جدا. أقول هذا وأنا زاهد في الدنيا. وأما بالنسبة لحركة الشعر الحر فانها وبدون ظلم للحقيقة، لن تسدّ الفراغ، وذلك لعدم تبلورها. ان الموجود والمستمر من هذه الحركة أثبت انه لا يسد فراغاً. ومقياسنا في ذلك ان الشعر الحـر لم يدخل البيوت بعد ولم يُستشهد به. بمعنى انه لم يتخذ له بعد مكانة الشعر. واما بالنسبة للحركة التالية فهي أقل تبلوراً من سابقتها ولا يصح الحكم عليها منذ الآن".

 

5/ اول بيت غـير مؤجــر !

وعلى الصعيد الشخصي، يمكن أن نشير الى  أن شاعر الوطن قد امتلك – لأول مرة في حياته - وهو في سبعينات العمر داراً بناها بالاقتراض في حي القادسية بكرخ بغداد، حصل على ارضها من نقابة الصحفيين العراقيين أسوة بعديد اخر من منتسبي النقابة.. وقد انجز بشكل متواضع تشييد البيت أواخر العام 1971 وغُطيت نفقات البناء بين تمويل ذاتي، وقروض، وديون شخصية. وهو  بيت تقليدي يضم ثلاث غرف نوم، وغرفة استقبال وأخرى للجلوس، مع المرافق الضرورية... وقد شهد – اليت ذاته- طوال عقد السبعينات الماضية أحداثاً ووقائع وتفاصيل متشابكة لمديات بعيدة في الشؤون والشجون الوطنية والثقافية والشعرية وما إليها، وما بينها.

    وبحسب ما ندري بيقين، فأن ذلكم البيت، هو الأول والأخير، والوحيد الذي  تملّكه الجواهري، ملكاً صرفاً بعد ترحال وإقامة واغتراب، وتغرب، وهو لا يحمل معه غير "منقار وأجنحة" على مدى نصف قرن... وفي ليالي ذلك البيت، ونهاراته، أينعت عبقريته قصائد ومطولات عديدة،  ومنها الانساني، والوطني والاجتماعي والعائلي، ولافكاك بينها من التداخل والتلازم مع الهموم والانشغالات الفكرية والسياسية والاجتماعية وما إليها.. وبهذه الحال كان ذلك البيت ذاته – لا غير – مزار أطياف ونخب سياسية متباينة الرؤى والمسؤوليات، وحتى الوفاء احياناً !.. ويواصل الجواهري: بعضها صادق أمين، وآخر متزلف متدثر بألف زيٍ وزيّ، ولكنها كانت جميعاً دعاة تآلف ومحبة، وان راحت احياناً في الأقوال وحسب...

     كما كان البيت الذي نعنى ، ملتقى للنخب الفكرية والثقافية والشعرية، من كل النحل والرتب، تؤم مقام الجواهري: مودة وتلمذة وتباهياً، دعوا عنكمو الآخرين الذين كانوا يريدون صكوك الغفران. وكم يطول التعداد، ويعرض، ويعلو، لمن زار، وأحبَّ، وتبارك بزيارة أو لقاء أو حديث مع الشاعر الرمز... وفي الموضوع ذاته يقول حسن العلوي في كتابه "الجواهري رؤية غير سياسية" الصادر عام 1995في دمشق : اصطحبت معي الى بيت الجواهري عام 1979  بعثة صحفية لقضاء يوم كامل على غير موعد معه فسجلت عدسة المصور الفنان الراحل "محمد علي حسن" زوايا لم تكن مخفية على عيون زائريه... ودخل حتى غرفتي النوم والمطبخ ... ولم يجد مكتبة، لكنه وجد رفوفاً. ولم يجد مطبخاً ولكنه وجد قدرين من الألمنيوم القديم... كما ولم تكن للجواهري غرفة نوم مستقلة ، وكان يضع ملابس الشتاء في حقيبة تحت سريره، ويعلق على الحائط ملابس الصيف. ويفعل العكس في الشتاء....

     كما  نشير بهذا الصدد لما نشره فوزي كريم (الشرق الأوسط اللندنية- 4/11/1991) في موضوع مسهب نقتطع منه: "كان بيت الجواهري متواضعاً، كنا نقتحمه احياناً آخر الليل، أنا وسعدي يوسف مدفوعين بأكثر من هاجس شيطاني ، قراءة لبيت مثلاً: الحمد للتاريخ حين تحولت …تلك المرافه فاستحلن متاعبا او عبارة واحدة "با نبتة البلوى" يخاطب بها جياع الشعب. أو كلمة "تقحم" او "خسئوا". وكان الجواهري يستقبلنا دون ترحاب معظم الأحيان قائلاً : "الساعة الواحدة يا جماعة. ويتأمل ساعته ونحن نبصبص تحت الطاولة. لا تخلو طاولة الشاعر في الليل. كنا نعرف ولكن من يجرؤ في ساعة كهذه أن يسأل. ونسترضي ابا فرات، نقول: "أنت تعرف محبتنا " ونغني له طربين من شعره... فيستجيب ..."

 

6/ دعــوة مغربيـــة.. وتحامل، وردود

    يُدعى الجواهري الى المغرب اواسط العام 1974 ويحظى بحفاوة ورعاية بالغتين، بما في ذلك ضيافة ملكية متعددة الأوجه، فضلاً عن منحه وسام الكفاية الفكرية الاعلى في البلاد. ويردّ الجواهري على ذلك بقصيدة شكر للعاهل المغربي حينئذ، الحسن الثاني، تعبيراً عن الثناء للاهتمام والتقدير غير المسبوق الذي لقيه، ككبير للشعراء العرب. ويثير ذلكم الأمر عدداً من والكتاب والسياسيين العراقيين والعرب. تارة تحت حجة مواقف الحكم المغربي من القضايا العربية آنذاك، ومرة عن موضوعة العلاقة بين السياسة والثقافة، وتارة في اثارة نعرات الخلاف بين الكلاسيكية والحداثة، وما شابه ذلك. ولعل ما يفيد الاشارة بهذا السياق الى مقال كتبه الناقد المصري غالي شكري حول الجواهري بعنوان "سقوط آخر العمالقة"... والمقال يقرأ من عنوانه كما يقال!..

وبحسب الجواهري فقد تسوّقَ من تلك القضية مثقف، وقيل شاعر، وسياسي عراقي تخبأ تحــت اسم "حمدان القرمطي"  فــأرعد وأزبد في محافله "الثوريــة" الحقيقيــة او المدعاة، وكذلك في الصحافة "ذات العلاقة!" حول ابيات تحية وشكر للمُكرمين  المغاربة. وقد مرت اعوام واعوام ولم يمتلك ذلك "الثوري" الجرأة لأن يكشف اسمه، مع اجتهادات هنا وهناك حوله... وقد كال ما عنده من السباب الرخيص، البعيد عن السياسة والثقافة اللتين تلبس لباسهما، وعلى مرأى حتى من المحبين الذين لم يفتحوا فاها..  

  وفي " تحية... ونفثة غاضبة..." وهو عنوان قصيدة الجواهري التي القاها في الحفلة التكريمية التي اقامتها على شرفه وزارة الدولة المغربية للشؤون الثقافية، برعاية وزيرها الحاج محمد باحنين، على مسرح محمد الخامس في الرباط، مساء اليوم العشرين من ايلول / سبتمبر عام 1974 يبتدئ الشاعر الردّ على "دعاة ذلك الاستغلال والانتهاز تحت شعارات مزيفة" بحسب ما يوثقه الديوان العامر. ويجيء مطلع القصيدة التي تقارب ابياتها التسعين:

سماحاً إن شكا قلمي كلالا، وإن لم يُحسنِ الشعرُ المقالا

وإن راحت تُعاصيني القوافـي بحيثُ الفضلُ يُرْتَجَلُ ارتجالا

وتتواصل القصيدة في اداء اكثر من غرض: التحية المطلوبة رداً لجميل المكرمين، واعجاباً بجمال البلد، ومحبة لمواطنيه، وبثاً للشكوى وتأرخة لبعض المعاناة، ثم لتصل بعد ذلك الى "بيت القصيد" وهو اكثر من بيت كما سنرى:

وقلتُ لحاقدينَ عليّ غيظاً لأني لا أُحبّ الاحتيالا

هَبُوا كلّ القوافِلِ فـي حِماكُمْ فلا تَهْزَوا بمن يَحْدُو الجِمالا

ولا تَدَعُوا الخصامَ يجوزُ حدّاً بحيثُ يعودُ رُخْصاً وابتِذالا

وما أنا طالبٌ مالاً لأني هنالِكَ تاركٌ مالاً وآلا

ولا جاهاً، فعندي منه إرثٌ تليدٌ لا كجاهِهِمُ انتِحالا

     وفي سياق التأرخة ذاتها نثبت هنا ان الجواهري قد خيّب "ظنون" وربما "تمنيّات" حاسديه ومتربصيه، فلم يُقـم في المغرب سوى بضعة اشهر، رغم كل الامتيازات التي قدمت له، وأبرزها ضيافة رسمية لفترة غير محدودة.. كما  تجدر الاشارة أيضاً الى ان العراق الرسمي، وقد كان آنذاك مناقضاً للسياسة المغربية، قد "زَعَلَ" على الجواهري، وان بدون ضجة، أو اعلان صريح.

   وحتى بعد سنوات عدة، لم يتردد الجواهري في الدفاع عن موقفه من هذه القضية،  ازاء النهازين كما يحب ان يسميهم. ومن ذلك  في حوار مسجل للكاتبة والصحفية اللبنانية، اعتدال رافع، في دمشق خلال الثمانينات الماضية فقال "اما القصيدة التي انشدتها في المغرب فقد كانت رداً على الحفاوة والتكريم الذي لقيته اثناء وجودي هناك... وعندما طلبوا مني ان تغنى تلك الابيات اعتذرت... لست نادماً على هذه القصيـــدة لانني شاعر، واذا كنت قد ألقيت كلمة بدلاً منها، معنى هذا انني استخف وأهين من كرموني، لأنني كنـــت دائماً وأبداً منسجماً مع نفسي، ولا احسن الكذب والنفـــاق. كان ذلك موقفاً مني ورداً على التكريم والوسام الذي خصوني به".. وجاء في موقع آخر من الحوار "لقد استغل العاوون هذه القصائد ليشهروا بنباحهم... في الماضي كانوا يقولون الجواهري شيوعي، وأيضاً مداح؟ كيف يجتمع النقيضان، ويلتقي الضد بالضد؟ هل لكي يفترسوا رمزاً... أنا حصتي ارذل ما في اليمين انني شيوعي، وأقصى ما في اليسار بأنني مداح.. المُسف يجب الا يُسف عندما يتعرض للنقد. يكتب الذي ليّ، والذي عليّ".

     وهنا، لعل من المناسب ان نضيف اشارة اخيرة بخصوص الفترة المغربية – ان جازت الاستعارة – في حياة الجواهري فنقول : ان الحاج محمد باحنين وزير الدولة المكلف بالشؤون الثقافية بعث بتاريخ 21/1/1975 رسالة شخصية، لا ارق منها، الى الشاعر العظيم - محفوظة لدى مركز الجواهري في براغ - يؤكد فيها دعوة رسمية للمشاركة في مهرجان تخليد الذكرى الألفية لولادة شاعر الاندلس، ابي الوليد احمد بن زيدون.. ويقرر الجواهري الاعتذار عن تلبية الدعوة ، ولربما لكي لا يعطي فرصة جديدة للمتربصين... وقبيل ارسال جواب الاعتذار بأيام ألغي الاحتفال لأسباب سياسية مغربية، و"كفى الله المؤمنين شر القتال"...

 

7/ جائزة اللوتس.. وقصيدة !

     من قصائد الجواهري السبعينية المتميزة  دالية " أرحْ عن صدركَ الزبدا" التي القى قسما منها بمدينة النجف العراقية، عام 1975 في حفل مهيب اقامته له هناك الرابطة الادبية، بمناسبة منحه جائزة( لوتس) من اتحاد كتاب اسيا- افريقيا، ومقره القاهرة آنذاك (1) . وقد كان حضور الاحتفاء بالشاعر لافتاً، لم تشهد له مثيلا، لسنوات وسنوات، بحسب مشاركين  ومتابعين.. وفي فترة لاحقة، اضاف الشاعر  لقصيدته أبيات أخريات ، ليتجاوز العدد مئة بيت وبيت، وتكتمل فتنشرها مجلة "الديار" اللبنانية في آذار/ مارس 1976  وقدمت لها: " في هذه القصيدة نرى الشاعر ينتقد عصره المليء بالزيف والخداع، وهو يسمو متعالياً بكبرياء الشاعر. ناهيك عن كبرياء محمد مهدي الجواهري. انها ضرب من الطموح الى تجاوز النفس والآخرين، في محاولة اختراق للمستحيل..".

   ولعل أول ما تجدر الاشارة اليه ان الجواهري القى القصيدة المعنية في مدينته – النجف، التي يزورها لأول مرة بعد أزيد من اربعة عشر عاماً، على الاقل. فقد رحل الى المغترب البراغي منذ العام 1961 ولم يعد الى بلاده حتى اواخر العام 1968.  وكما يظهر من من ابيات القصيدة ، فأن كل الحوار والمخاطبة فيها كان مع الذات، وهي طريقة طالما لجأ اليها الجواهري في قصائد عديدة، ليوصل الفكرة وبـيت القصيد، بل لنقل ابياته.. وجاء المطلع:

أزحْ عن صدرك الزبدا ، ودعه يبث ما وَجدا ...
ولا تكبت فمن حقب ذممتَ الصبر والجلدا
أأنت تخاف من أحدٍ، أأنت مصانعٌ أحدا ؟!
أتخشى الناس، أشجعهم يخافك مغضباً حردا
ولا يعلوك خيرهم ، ولست بخيرهم أبدا
ولكن كاشف نفساً ، تقيمُ بنفسها الأودا ...

  وفي اطار استعراضه لبعض سيرته ومساره الوطني والشعري، يوحي ويشي الجواهري لغير العارفين به، الى ما كان متاحاً امامه، من فرص ومجالات، عافها اختيارا، ليستبدلها بالتمرد، والثورة: الشخصية والاجتماعية والثقافية والسياسية، جمعاً متشابكــاً يصعب التمييــز فيه، مؤكداً " تركتَ وراءك الدنيا، وزخرفها وما وعدا / ورحت وانت ذو سعة ، تجيع الآهل والولدا".

   وعن رؤاه وفلسفته ونهجه في الحياة، يوثق الجواهري شعرا: قيماً ومفاهيم راسخة، معتزاً بها، ثابتاً عليها، عزوفاً عن تغييرها برغم ما أودت به، وما تأذى بسببها .. كما يوضح في ذات الآن، وبكل صراحة وأقتناع، تناقضاته التي" تميّـز" بها:

ظللتَ تصارع الأسدا، تريد المجد والصفدا

وتطمعُ تجمع القمرين فخرهما اذا أنفردا...

عجيبٌ أمرك الرجراج لا جنفاً ولا صددا

تضيق بعيشة رغدٍ، وتهوى العيشة الرغدا..

وتخشى الزهدَ تعشقهُ، وتعشق كل من زهدا

ولا تقوى مصامدةً، وتعبدُ كل من صمدا

ويدنو مطمحٌ عجبٌ، فتطلب مطمحاً بَعدا

     ثم يعود الشاعر تالياً، وفي مقطع أو ابيات لاحقة، فيشير ويصف الذين عانى منهم، متصديا لتطاولهم، وخاصة في سنوات ما بعد عودته من مغتربه، براغ، ذي الاعوام السبعة. وهو – اي الجواهري هنا – يستكمل ما عاناه منهم، ومن عناهم في قصائد سابقة، وخاصة قصيدته الشهيرة ( ياآبن الفراتين) عام 1969:

أزحْ عن صدرك الزبدا، وهلهل مشرقا غردا
وخلْ "البومَ" ناعبة ، تقيء الحقد والحسدا
مخنثةً فان ولدت ، على "سقط" فلن تلدا…

ألا انبيكَ عن نكد ٍ، تُهوّن عنده النكدا

بمجتمع تثير به، ذئاب الغابة الأسدا

خفافيش تبص دجىً، وتشكو السحرة الرمدا

ويعمي الضوء مقلتها، فتضرب حوله رصدا

  وبعد ذلكم التمهيد تحـلّ المواجهة، ويروح الشاعر يشخص تحديدا، واحدا أو أكثر، وإن اراد التعميم، وثمة تكهنات – بل وربما معلومات مؤكدة- عن أولئك، ولكن لن نشير لهم هنا، مسايرةً لترفع الجواهري عن ذكـر الاسماء المهجوين، وتلك هي حالة ثابتة عامة عنده، في كل قصائده مع أستثنائين أو ثلاثة .

وصلف ٍ مبرق ختلاً ، فان يـرَ نُهزةَ رعدا
يزورك جنح داجية ، يُزير الشوق والكمدا
فان آدتك جانحة، اعان عليك واطردا ..
وآخر يشتم الجمهور، لفَّ عليك واحتشدا...
يعدُّ الشعر أعذبه، اذا لم يجتذب احدا..

  وعلى طريق توثيق سيرته الذاتية ايضا، ترميزاً وشعرا، يروح الشاعر مفتخراً بمحطات من مواقفه الوطنية، ومواقفه أثناء التحركات الجماهيرية عام 1948 التي أصطلحَ عليها بـ"وثبة كانون" واستشهد فيها شقيقه الاصغر، جعفر الجواهري . كما يستطرد ليشيع مفاهيمه في تجاوز الصغار، فيخاطب نفسه، ويستثيرها: ..

أبا "الوثبات" ما تركتْ ، بجرد الخيل مطردا
يضجُ الرافدان ، بها، ويحكي "النيلُ" عن "بردى"
ويهتف مشرق الدنيا، بمغربها اذا قصدا:
ترفعْ فوق هامهمُ، وطـرْ عن ارضهم صعدا
ودع فرسان "مطحنة" خواء تفرغ الصددا...

   ويعود الجواهري في مقطع تالٍ، فيذكر من جديد بانتقاده، بل وغضبه العارم،  على تلك الجهة المقصودة، ومنها – كما اسلفنا- اشخاص محددون من الشعراء والادباء والنقاد، فيشكو منهم، معتمراَ الصراحة والوضوح، ويكشف عنهم، ويحرض ضد مواقفهم ودروبهم، وابتعادهم عن الانتصار للحقوق والواجبات، ويقيس ذلك على نفسه، فاللغة العربية أنتهكت، وهي أم الضاد، وكذلك "ربّ الضاد" زاعما بأنه يمثله (2)..

وغافين ابتنوا طنباً، ثووا في ظله عمدا
رضوا بالعلم مرتفقاً ، وبالاداب متسدا…
يرون الحق مهتضَماً، وقول الحق مضطهدا
وام "الضاد" قد هتكتْ، وربُّ "الضاد" قد جُلدا
ولا يعنون - ما سلموا - بأية طعنة نفدا
بهم عوزٌ إلى مددٍ ، وانت تريدهم مددا…

 

8/ في المَقامة اليونانيــة

   ما بين براغ التي أطالت الشوط من عمره... وبغداد "دجلة الخير" والأزمات والمرارة في آن، حطّ الجواهري ركابه في النصف الثاني من السبعينات الماضية، في أثينا، مستأجراً "شقيّقةً" متواضعة دون حدود، ولكن أهم ما عندها من مغريات وقوعها على ساحل البحر مباشرة، وذلك الأحب عنده، وهو التوّاق والطامح لمزيد من الإيحاء، كما في لاميته عام 1977 وجاء مطلعها:

سجا البحر وانداحت ضفافٌ ندية ولوح رضراض الحصى والجنادلِ

وفكت عرى عن موجة لصق موجة تماسك فيما بينها كالسلاسل...

وما حمل "الاصباح" شرقاً إلى الضحى من الورق النَديان أشهى الرسائل

  وفي "مَقامة" الجواهري اليونانية نؤشر إلى ان وجوده  في أثينا لم يكن إلا لفترات قصيرة ومتقطعة، اغتراباً عن الأحداث، وركوناً إلى النفس، وتمعناً في ما يمتليء به فكر الشاعر: فلسفة في الحياة ووقائعها، والمشاغل الانسانية العامة . ثم انقطع أمـد تلك الإقامة لأسباب مالية، ليس إلا، إذ لم يستطع شاعر الأمة العراقية أن يوفر إيجار الشقة الزهيد، بينما كانت البلاد تتراكم فيها ثروات الفورة النفطية آنذاك، والبقية معروفة على ما نظن...

 

 9/ اول طبعة "شبه" كاملة للديوان

  شهدت سنوات السبعين الماضية، ولأول، صدور المجموعة "شبه" الكاملة لديوانه، بسبعة أجزاء تعدت (2650) صفحة من القطع الكبير، وبإشراف نخبة مـن رجـالات الأدب واللغة: د. مهدي المخزومي، ود. علي جواد الطاهر، ود. ابراهيم السامرائي، وأ. رشيد بكتاش. وكان حريصا على مراجعة مسوداتها بشكل دؤوب، وحريص كما تشهد بذلك مراسلاته الى اللجنة المشرفة على الديوان الذي صدر الجزء السابع، والاخير منه عام 1980  وقد اصبحت تلك الطبعة مرجعا لاحقا لطبعة دمشق ذات الاجزاء الخمسة، في الثمانينات، وطبعة بيروت، الاكثر شمولية عام 2000... ولعل من المفيد ان نشير الى ان  الفترة (1969-1979) صدرت للجواهري عدة مجاميع شعرية من أهمها:

1-  الجزء الثاني من المجموعة الشعرية الكاملة – دار الطليعة / بيروت- 1969 وكان الجزء الأول من تلك الطبعة قد صدر عن الدار ذاتها عام 1968.

2- بريد العــودة – مجموعة من قصائد الجواهري- مطبعة دار المعارف / بغداد 1969.

3- ايها الأرق: - قصيدة طويلــة نشرتها وزارة الاعلام العراقية- مطبعة الأديب / بغداد- 1971.

4- خلجـات: مجموعة من أشعار الجواهري عن وزارة الاعلام- مطبعة الأديب بغداد – 1971.

 

10/ زيارتان الى الكويت والامارات

    في كانون الاول/ يناير 1979 يتوجه الجواهري لزيارة الكويت، وبرفقته زوجته آمنة،   تلبية لدعوة ثقافية، شمل برنامجها امسية حاشدة القى فيها مختارات من شعره القديم / الجديد، وافتتحه بابيات تحية للمضيفين. كما غطى الزيارة تلفزيون الكويت والعديد من وسائل الاعلام الاخرى، ومن بينها صحيفة القبس التي كتبت  في العدد 2409 الصادر في 1 شباط/ فبراير 1979 عن الأمسية تقول: "قبل حضور الجواهري الى الكويت كنا نتساءل: هل فقد الشعر جمهوره؟ وبعد أمسية ابن الفرات وأبي فرات" تبين ان الجمهور كان موجوداً.. لكن الشعر كان غائباً". وأضافت "القبس": "قاعة رابطة الأدباء التي قلما تمتليء مقاعدها، اكتظت أمس حتى البهو الخارجي، وكان عدد الواقفين يتعادل مع عدد الجالسين"  ترفرف فوق رؤوسهم جميعاً هيبة الشعر الأصيل، التي تجسدها شاعرية فذة أعادت أجواء عظمة الشعر العباسي في العهد الذهبي للحرف المنغم".

    وقدم الجواهري في الامسية، رئيس "رابطة الأدباء" أحمد السقاف بكلمة جاء  فيها: "لعلكم توافقونني الرأي أن الشاعر العربي الكبير "محمد مهدي الجواهري" غني عن التعريف، فشهرته العربية والعالمية قد فاقت الآفاق، وجهاده الصلب في سبيل أمته العربية جعله يحتل مكانة خاصة في قلوب الملايين من أبناء هذه الأمة". وأضاف: "لقد عرف الجواهري شاعراً ثائراً على الاستعمار وعلى الظلم والاضطهاد، ولقد وقف بصدق الى جانب الشعوب المناضلة في سبيل الحرية والعدالة، فكان، بذلك، صوتاً حراً جريئاً ترتجف له قلوب المستعمرين. لقد حفظ الشباب قصائد الجواهري، وتغنوا بها في مسيراتهم الوطنية، لكونها شعراً أصيلاً يمجد التضحية والفداء في سبيل الوطن، ويرفض الخنوع والذل والاستسلام. ان الجواهري زوبعة في دنيا الشعر، لا تضاهيها إلا زوبعة الشعر العباسي".

     وفي عام 1979 ايضا  يلبي الجواهري دعوة الى (ابو ظبي) من وزارة الاعلام والثقافة في دولة الامارات، ورافقه فيها نجله البكر: فرات، ليلقى هناك وامام حضور كثيف، نوعا وكما، مقاطع عديدة من اشعاره، وافتتحها بقصيدة جديدة  عنوانها "أفتيان الخليــج"  شملـت الكثير من المواقف والرؤى السياسية حول العديد من القضايا الساخنة التي كانت تسود المنطقة العربية في ذلكم الوقت. وكان مطلعها : أعيذك ان يعاصيك القصيدُ، وان ينبو على فمك النشيــد.. وان تعرو لسانكَ تمتماتٌ وان يتفرط العقد الفريــدُ".

  

11/ عشيّة العودة للأغتراب عن العراق

      في اواخر عقد السبعينات الماضية تزداد الاوضاع الداخلية في العراق ضراوة في ظل النظام الشمولي لحزب البعث، وينتشر العنف والارهاب ليطال الالاف (ومن بينهم بنت الجواهري – خيال، التي احتجزت لعدة ساعات في مقر أمني، ونجلـه – كفاح، الذى اعتقل وعذب على مدى اسابيع، في النصف الاول من عام 1979) . ويتنبئ الشاعر بأن القادم اسوأ، وذلك ما حصل بالفعل في السنوات اللاحقة ... وهكذا يقرر الجواهري الاغتراب، موقفَ غضب  ولو صامتا، ولم يكن مطلع العام 1980 يحلّ حتى يشد الرحال الى  براغ مجددا، وهو الاخير عن العراق، وحتى رحيله الى الخلود في دمشق الشام بتاريخ 1997.7.27..

 

* المصادر ----------------------------------------------------

1/ اجزاء ديوان الجواهري / بيروت 2000 عن دار بيسان .

2/ كتاب (اصداء وظلال السبعينات ) لرواء الجصاني/ براغ 2001 عن دار بابيلون .

3/ كتاب ( الجواهري .. قصائــد وتاريخ ومواقف) لكفاح الجواهري  ورواء الجصاني/ دمشق عام 2012 عن دار سندبـــاد .

4/ كتاب ( الجواهري بعيون حميمة) لرواء الجصاني/ عام 2016 عن مركز الجواهري- براغ.

5/ معايشات واحاديث، وشهادات شخصية للكاتب في بغداد وبراغ ودمشق .

 

* هوامش واحالات ----------------------------------------------------------------

(1) جائزة "لوتس" السنوية الدولية للآداب، اطلقها اتحاد كتاب آسيا وأفريقيا عام 1969 وممن مُنحت لهم ايضا، من العرب: الكاتب المصري: يوسف السباعي، والروائي الفلسطيني: غسان كنفاني.

(2) لربما كان الجواهري يريد ان يشير هنا الى ما أطلقه عليه الشاعر العراقي البارز، معروف الرصافي، من لقب أفخـم، حين كتب له عام 1941: "أقولُ لربّ الشعرِ (مهدي الجواهري) .. الى كم تناغي بالقوافي السواحرِ".

 

 

من بينهم الزهاوي المتنبـي والمعــري والرصافي ...

شعراء في قصيـد الجواهري العامر(1/3)

* رواء الجصاني

    تعددت وتنوعت شؤون التوثيق، والتقصي، والدراسات حول المنجز الشعري لمحمد مهدي الجواهري (1899-1997) في مجالات اللغة والاسلوب، والاغراض والمناسبات، دعوا عنكم شؤون حياته الشخصية والعامة ومفاهيمه ورؤاه، ومنابعه الفكرية والثقافية، وسوى ذلك كثير كثير، غطته وناقشته وقيّمته اطاريح دكتوراه ورسائل الماجستير، عديدة، ومئات المؤلفات والكتب والمقالات (1)

   ومن التوثيقات والبحوث الغير المطروقة على ما ندعي، هذه الكتابة  التي  تعنى بما حواه ديوانه الثري ذو الخمسة والعشرين الف بيت تقريبا، من قصائد، وقطع شعرية تتطرق، وتشير  الى، وتتحدث عن  نحو اربعين شاعرا عراقيا وعربيا واجنبيا، بمناسبات مختلفة، بين تكريم  استشهاد واستعارة هنا،  وتخليد ورثاء، وأشارة هناك،  وعلى مدى أزيد من سبعة عقود امتدت للفترة (1921-1994) تحديدا (2) .

  ولأن الهدف الذى نتوخاه في هذه الكتابة هو التوثيق والتقصي وحسب، وليس للتأرخة المفصلة، فسنكتفي ببعض التواريخ والدلالات الموجزة، مما يسهل على المهتمين الوصول الى كامل القصيدة او القطعة الشعرية، او الابيات – بل وربما البيت الواحد – التى  تشمل شعراء مميزين كما نجتهد، تطرقت اليهم قصائد الجواهري، مرتبة  أولاها زمنيا، مع حفظ المكانات والالقاب.. ذلك بالاضافة الى اشارات عجول لاسماء كريمة اخرى، علّها  تفيد من يرغب بمزيد من المعلومات..

   واستدراكا لما سبقت اليه الفقرة الآنفة، وبعيدا عن الأسهاب والتفاصيل، لربما من المفيد ان نؤشر في هذا السياق الى ان الكثير والمتنوع من المدلولات يمكن استنباطها من اشارات الجواهري، ومخاطباته، لذلك الجمع من الشعراء، وتبجيله لبعضهم، ورثائه لبعض آخر، وغير ذلك من اشكال واغراض. ونظن بأن من المهم في هذا الشأن حسبان الزمان والمكان التي قيلت فيه القصيدة او تطرقت له الابيات، ومكانة ذلكم الشاعر وغيره عند الجواهري، والبواطن في مثل تلكم الاشارة أو الاستشهاد او الاستذكار...

   كما تجدر الاشارة ايضا الى ان الجواهري، وكعادته،  قد خلط  قصائده أو ابياته الشعرية التى نعنى بها في هذا الاستقصاء: الخاص بالعام في عدد منها، وربط ماضيا بحاضر، وراهناً  بمستقبل، وفلسفة بواقع في عدد آخر. فضلا عن لجوئه في قسم آخر الى اتخاذ تلكم القصائد او الابيات منافذ للوصول الى غايات بعينها ارتضاها الشاعر او اراد أشاعتها..

     أخيرا، وقبيل الدخول الى صلب التوثيق ، نرى اهمية في التوكيد هنا بأن هذا الجزء الاول، الذي سيليه جزءان آخران، يشمل ثلاثة  شاعرا من المعنيين الذي نوثق لهم، وعنهم، ووفق التسلسل الزمني لنشر القصائد الجواهرية ذات العلاقة، وهم: 1- فائق بيكس. 2- محمد صالح بحر العلوم. 3- بشار آبن برد. 4- موسى الجنابي.  5- مظفر النواب . 6- شاذل طاقة . 7-جبران خليل جبران. 8- النابغة الذبياني. 9- عمر الخيام. الى جانب الموثق عنهم ادناه:    

 

1/ جميل صدقي الزهاوي: في قصيدة "جائزة الشعور" عام 1927:

قمْ يا "جميلُ" فحامني، يا حامي الادب العراقي

- وكذلك في قصيدة"جربيني" عام 1929:

عن يساري اعمى المعرة، و"الشيخ الزهاوي" عن يميني

- وايضا في قصيدة "الزهاوي" عام 1936:

على رغم انف الموت ذكرك خالدُ، ترن بسمع الدهر منك القصائدُ

 

2/ المتنبي، احمد، ابو الطيب – ابو محسد، في قصيدة "المحرّقة" عام 1931:

او "المتنبي" حين قال تذمراً، افيقا خُمارُ الهمّ بغضيّ الخمرا

- وايضا في قصيدة "احمد شوقي" عام 1932:

قرون مضت لم يَسدّ العراقُ، من "المتنبي" مكاناً شغـرْ

ـ وكذلك في قصيدة "الشاعر الجبار" عام 1935:

وُلد الالمعي فالنجم واحمْ، باهت من سُطوع هذا المزاحمْ

ـ وفي "المقصورة" الشهيرة مخاطبا نفسه، عام 1947:

وبـ"المتنبي" ان البلاء، اذا جــدّ  يعلم اني الفتى

- وكذلك في قصيدة "اطياف بغداد" التنويرية عام 1953:

فأعدْ على بغداد ظِلّ غمامة، باللطف تنضحُ والندى والسؤددِ..

تتمازج الألوان فيها عن سنا، شفقٌ بكل صبيغة ٍ، متورد ِ..

بالبحتري، أبي السلاسل لمّعـاً، بالعبقري "ابي محسد" أحمدِ

بمذل "كافورٍ" عجيبة دهرهِ، ومعز آل الأرمني، و"مخلّدِ"

- وايضاً في قصيدة "كما يستكلبُ الذيبُ" الوجدانية – السياسية عام 1953:

تسعون كلباً عوى خلفي وفوقهمُ ، ضوء القمر المنبوح ِ، مسكوبُ...

وقبلَ الف ٍ عوى الفٌ فما انتقصت "ابا محسد" بالشَتم الاعاريبُ

ـ وكذلك قصيدة "في ذكرى المالكي" الرثائية السياسية عام 1957:

وإذ "ابو الطيّبُ" الشرّيد في حلب ٍ، نجم تُضاء به الافلاك سيّـارُ

ـ وايضا في "رباعيات" - مقطوعة "حكم التاريخ" عام 1960:

سيسبُ الدهر والتاريخ من أغرى بسبي ..

يا لويل المجتلي كلباً لسبّ المتنبي

ـ وكذلك في قصيدة "لبنان يا خمري وطيبي" التكريمية – السياسية عام 1961

والمخاطب في البيت، الشاعر اللبناني بشارة الخوري:

جئتَ العراق فعاش فيك عهود "احمد" و"الحبيبِ"

- وايضاً في قصيدة "أبا الفرسان" الوجدانية عام 1967:

"أبا الفرسان" ان عُقت ديارٌ ، عقدتُ بها شبابي بالمشيب ِ

فلا عجبٌ فقبلي ضقنَ ذرعاً ، بخير الناس ِ "أحمد" و"الحبيب"

ـ وكذلك في قصيدة "يا ابن الفراتين" الوجدانية- التنويرية عام 1969:

"أبا محسد" دنيا رحت تمخضها، فما تلقفُ إلا ما نفى الزبّدُ

ـ وقصيدة "آليت" عام 1975:

أكبرتني ان اختشي وغداً، وان أُعنى بغـِرّ

وضربت لي امثولة ً، بـ"أبي محسد" و"المعري"

ـ وايضا في قصيدة "فتى الفتيان" التنويرية عام 1977:

تحدى الموتَ وأختزل الزمانا، فتى لوى من الدهر ِ العنانا

- وفي قصيدة "بغداد" السياسية، عام 1980:

لا درّ درك من ربوع ديار، قرب المزار بها كبعد مزارِ...

هوت الحضارة فوقها عربية، وتفردت "آشور" بالآثار

عشرون قرناً وهي تسحب خلفها، بدمٍ، ذيول مواكب الاحرارِ

بـ"ابن المقفع" و"آبن قدوسٍ" وبـ"الحلاج" والموحى له "بشار"

بـ"ابي محسد" وهي تقطع صلبه، لم يُدرَ عار مثل هذا العارِ

 

  3/ معروف الرصافي: في قصيدة "الى الرصافي" عام 1944:

تمرستَ بـ"الاولى" فكنتَ المغامرا، وفكرتَ بـ"الاخرى" فكنت المجاهرا

- وفي قصيدة "معروف الرصافي" الرثائية - التنويرية عام 1951:

لاقيتُ ربكَ بالضمير ِ ، وانرت واجبة القبور ِ

"معروفُ" نمْ فوق التراب، فلستَ من اهل الحرير ِ

ـ وكذلك في قصيدة "الرصافي" الاستذكارية عام 1959:

لغزُ الحياة وحيّرة الالباب ِ ان يستحيل الفكرُ محض ترابِ

 

4/ المعــري، احمد- ابو العلاء، في قصيدة "بين قطرين" عام 1924:

الا مبلغ عني "المعري" احمداً، ليسمعه والشعرُ كالريح جوالُ

- وكذلك في قصيدة "جربيني" عام 1929:

عن يساري اعمى المعرة و"الشيخ" الزهاوي عن يميني

- وايضا في قصيدة "ابو العلاء" عام 1944:

قف بالمعرة وامسحْ خدها التربا، واستوحْ من طوق الدنيا بما وهبا

- وكذلك في قصيدة "احييك طه" عام 1944:

وجدد لنا عهد "المعري" انه، قضى، وهوى بغداد يُلذعه لذعا

- وفي قصيدة "اطياف بغداد" التنويرية عام 1953:

فأعـدْ على بغداد ظِلّ غمامة، باللطف تنضحُ والندى والسؤددِ..

تتمازج الألوان فيها عن سنا، شفق بكل صيغة ٍ، متورد ِ..

بأبن المعرة، ترتمي جمراتهُ، بأمض من عنتِ الزمان، وأحقدِ

- وفي قصيدة "لبنان يا خمري وطيبي" التكريمية – السياسية عام 1961:

و"ابو العلاء" على بناتِ الماء تُحدى بالخبوبِ

- وايضا في قصيدة "آليّت" الوجدانية التنويرية عام 1975:

اكبرتني ان اختشي، وغْـداً، وأن أُعنى بغّــرّ

وضربت لي امثولةً، بـ"أبي محسد" و"المعري"

-------------------------------------------------------------------* يتبع القسم الثاني

1/  وثقنا بعض تلك الاطاريح ورسائل الماجستر في توثيقنا الموسوم " الجواهـري في تسع اطروحات دكتوراه، وثماني رسائل ماجستير" والمنشور عام 2019 بذلك العنوان على شبكة الانترنيت وصحف ووسائل اعلام اخرى عديدة .

2/  لمزيد من التفاصيل، ثمة استقصاء وبحث موسع، للكاتب،  موسوم بـ " مشاهير وشخصيات وأسماء في شعر الجواهري" منشور عام 2017 بذلك العنوان على شبكة الانترنيت وصحف ووسائل اعلام اخرى عديدة .

 الجواهري والامام الحسين،

بعيداً عن "طلاء القرون" و"ستر الخداع"

رواء الجصاني

* ها نحن نستعيد مرة اخرى في قراءة قديمة – جديدة، عينية الجواهري، الجدلية- الفريدة، في شموخ واباء الامام الحسين، وثورته وتضحياته، مستذكرين في هذا المنحى ما كان الشاعر الخالد يقوله في مجالس وحوارات كثيرة، عن قصائده،: ان كل قديمه جديد، وما احرى بتلكم العينية ان تكون مثالا على ما نشير اليه

* وكما نوهنا، فقديم الجواهري، الجديد، الذي نوثق عنه في السطور التاليات: عصماء"امنت بالحسين"التى هدر بها الشاعر الخالد عام 1947 وفاضت بالتعبير عن المواقف والمفاهيم الطافحة بالإباء والشموخ، والممجدة للفداء والتضحيات، كما هي الحال في الفرائد الجواهرية العديدة، وان اختلفت في الصور والاستعارة:

فـداء لمثـواك من مضـجـعِ … تـنـوّر بـالابلــج الأروعِ
ورعياً ليومـك يوم"الطفـوف"… وسـقياً لأرضك من مصرع
تعـاليتَ من مُفـزع للحتـوفِ … وبـورك قبـرك مـن مَفزع

* وفي مقابل ذلك تماماً، لم يجامل الجواهرى أو يتهاون في هجو الخنوع والانحناء، وأولئك المقيمين على الذل، بل وحتى من يتوسط"كاللبن الخاثر"وغيرهم من اللاجئين"لأدبار الحلول فسميت وسطاً، وسميّ أهلها، وسطاءَ”...

* ولربما نجتهد، ونصيب، فنرى في"آمنت بالحسين"مجمعاً للشواهد والأدلة الأبرز على الرؤى الجواهرية المتميزة، وبمقاييس بالغة الرفعة في تبجيل “الواهبين النفس"فداءً للمبادىء التي يؤمنون بها، وتلكم بلا شك هي التضحية الأضخم للدفاع عن القيم والذود عنها، كما يرى صاحب"آمنت بالحسين" ..

* وفي مقاطع تالية من تلكم العصماء، القديمة – الجديدة، يستمر الجواهري في الاتجاه الذي يريد اعلانه عن تضحيات الحسين الثائر و”نهجه النير"الذي بات"عظة الطامحين العظام "لاولئك"اللاهين عن غدهم"والقنوعين دون احتجاج وتمرد أو ثورة.. كما يفيض عديد آخر من أبيات القصيدة بعواطف ومشاعر انسانية فائقة التعبير في تقديس الثبات والصمود لرجل يوم"الطفوف"و”الملهم المبدع"الثابت أمام"سنابك خيل الطغاة"دون خوف أو رهبة… وبهدف أن يُبدل"جديب الضمير بآخر معشوشب ممرع”…

شممتُ ثـراك فهب النسيم … نسيم الكرامـة من بَلقـعٍ
وطفت بقبرك طوفَ الخيال … بصومعـة المُلهـم المبدع
تعـاليت من صاعق يلتظي … فـان تـدجُ داجية يلمـعِ

* ثم يروح الجواهري ليتمثل مأثرة الحسين التاريخية، و”يمحص"الأمر دون أن يرتهب من"الرواة"أو يخدع بما ينقلون، ويمضي هادفاً للحقيقة لا غيرها، وبدون"تزويق"أو مبالغات… وبعد ذلك فقط، يجد الشاعر أن في فداء الحسين دفاعاً عن مبادئه، وقائع لا أعظم منها، وهو"أن يطعم الموت خير البنين، من الاكهلين الى الرضع"…

تعاليتَ من"فَلَك"قُطْرهُ… يدورُ على المِحوَرِ الأوسعِ
فيا ابنَ"البتولِ"وحَسْبي بها…. ضَماناً على كل ما أدّعي
ويا ابنَ التي لم يَضَعْ مِثلُها … كمِثلِكَ حَملاً ولم تُرْضِع
ويا ابنَ البطينِ بلا بِطنةٍ ….. ويا بنَ الفتى الحاسرِ الأنْزَع

* ثم يحل مسك الختام، فتجدد القصيدة تقديس ذلك الصمود والعطاء الذي"نوّر"من ايمان الجواهري، وفلسفته في الإباء والفداء، والتي تجسدت، كما سبق القول، في الكثير من قصائده ومن بينها:"سلام على مثقل بالحديد – 1951"و”بور سعيد – 1956″ و”كردستان – موطن الأبطال- 1962″ والى"اطياف الشهداء الخالدين- 1963″ و”فلسطين الفداء والدم – 1970"فضلاً عن قصــائد الوثبـة، الشـهيـرة، عــام 1948

تمثلـتُ يومـك في خاطـري … ورددت"صـوتك"في مسـمعي
ومحصـت أمـرك لم"ارتهب"… بنقـل"الرواة"ولـم أخــدع
ولما ازحـت طـلاء"القرون"… وسـتر الخـداع عن المخـدع
وجدتـك في صـورة لـم أُرعْ … بـأعـظــمَ منهـا ولا أروعِ

* وللاستزادة، نقول أن قصيدة"امنت بالحسين"المتفردة في المبنى والمعنى، والرؤى، نشرت في جميع طبعات ديوان الجواهري، ومنذ العام 1951 وقد خُط خمسة عشر بيتاً منها بماء الذهب على الباب الرئيس للرواق الحسيني في كربلاء، كما أُنشدت، وتُنشد، في مختلف المجالس والمناسبات الاحيائية لواقعة ومأثرة "الطــف.

------------------------------------------------------رواء الجصاني/ اب- اوغسطس2020

 

الجواهري في لبنان، وعنه:

إفتتـانٌ وشعـرٌ.. ومصاهرة!

رواء الجصاني

تناقل العديد من وسائل الاعلام، في الايام الثلاثة الماضية، ابياتَ شعـرٍ عن المأساة اللبنانية الاخيرة، تم نسبها للجواهري، وهي ليست كذلك، مطلقا، مع الاحترام للناظم والناشر والناقل، والمتداول..

ولمزيد من الأحاطة والتعريف، ببعض محطات الجواهري في لبنان، وقصائده عنه، ننشر ادناه مقتطفات ضافية من نصٍ ضمه الفصل السادس في كتابنا " الجواهري... بعيون حميمة"  الصادر في براغ وبغداد وبيروت عام 2016:

* قد يحق لنا أن نجتهد، فنصيب، حين نقول ان الجواهري قد أوجز حبه للبنان وبيروته وجمال طبيعته، وحسانه اللواتي يفضن رقةً ودلالاً وغنجاً، وذلك في آخر قصائده ذات الصلة، عام 1961 حين قال:

لبنانُ يا خمري وطيبي، لا لامستكَ يدُ الخطوب ِ

لبنانُ يا غرفَ الجنان ِ الناضحات ِ بكل طيب ِ

لبنانُ يا وطني اذا حُلئتُ عن وطني الحبيبِ

*.. وتعود اولى قصائد الجواهري عن تلك البلاد التي عشقها بكل عنف، إلى مطالع الشباب، وإلى عام 1922 تحديداً حينما نظم نونيته "لبنان في العراق" لتليها كثيرات أخريات ومن بينها في الثلاثينات الماضية: "وادي العرائش" و"شاغور حمانا"... وفي الأربعينات "بنت بيروت" و"اخي الياس"...

 * ومن بين قصائد الحصة اللبنانية في ديوان الجواهري، تبرز بائية "ناغيت لبناناً" التي نظمت عام 1947 بمناسبة الزيارة التي قام بها الرئيس بشارة الخوري إلى العراق... وقد تشابكت فيها، وكما هي الحال شبه الدائمة في خوالد الشاعر الكبير، شؤونٌ وشجون عديدة، خاصة وعامة، ومطلعها:

ناغيتُ لبناناً بشعري جيلا، وظفرته لجبينه اكليلا..

* ثم يعود الشاعر في القصيدة ذاتها، ليجول في محاور متداخلة ومنها، وطنية هذه المرة، فراح يخاطب الضيف المحتفى، الرئيس بشارة الخوري:

يا شيخ لبنانَ الاشم فوارعاً، وشمائلاً، ومناعة ً، وقبيلا

مثلته في كلهنَّ فلم يرد، بسواك عنكَ، ولن يريد بديلا

ان العراق وقد نزلت ربوعه، ليعد ساكنه لديك نزيلا

*  وعلى الرغم من هذه العجالة في الكتابة عن لبنانيات الجواهري، لا يمكن الا ان نتوقف، ولو سريعا، عند رائيته الشهيرة عام 1950 والتي القيت في بيروت خلال حفل تأبيني مهيب وحاشد للشخصية الوطنية البارزة عبد الحميد كرامي، وقد كان من عواقب القصيدة، وتداعياتها، ان طلبت السلطات اللبنانية الرسمية من الشاعر الكبير، الخروج من البلاد خلال ثمان ٍ وأربعين ساعة لخطورته "الشعرية" على أمن البلاد!! ومن أبيات تلكم القصيدة الباهرة:

باق ٍ وأعمارُ الطغاة ِ قصارُ، من سفر ِ مجدكِ عاطرٌ موارُ

عبدَ الحميد ِ وكلُ مجد ٍ كاذب، ان لم يُصن للشعب فيه ذمارُ

المجد ان يحميكَ مجدك وحده في الناس، لا شُرَط ٌ ولا انصارُ

* وما دمنا في اروقة مقامة الجواهري اللبنانية واصدائها، نوثق بأننا حملنا اوائل العام 2011 "منقاراً وأجنحة" أخف ما لمَّ من زاد ٍ اخو سفر، لنعبر الحدود إلى بيروت، راحلين إليها من دمشق التي ودعتنا فيها "ناديا"، حفيدة الشاعر العظيم، وقد راحت – شاءت أم أبت – اخر ركيزة للعائلة الجواهرية المستقرة في بلاد الشام، حينئذٍ على الأقل... وهي التى حظيت – ولربما وحدها من الأحفاد - على ما نعلم – بقصيدة نادرة، ومعبرة من الشاعر العظيم عام 1988، ومن ابياتها:

يا ناديا الزهر الندي... يا قطعة ً من كبدي

*  واذ نتجاوز الحدود السورية بمسافة قصيرة، مع احباء واصدقاء تلوح امامنا فضاءات لبنان، وصورة جنانه التي رسمها، ولونها الجواهري بأكثر من قصيدة، ومنذ العشرينات: سهولاً وجبالاً وبحراً ومجتمعاً وناسا، دعوا عنكم الوقائع الثقافية والسياسية وما إليها، وبينها... ومن الشواهد على ما نقول فرائده التي جاءت في سطور سابقات من هذه الكتابة.

* ثم نستريح قليلاً في محطة أولى عند "الروشة" وسط بيروت، والتي طالما حدثنا الجواهري عن حبه لها، ولمقاهيها التى تداعبها بافتتان وتغازلها بعشق، موجات البحر المتوسط، الساحر والهادر في آن، وهو ذاته البحر الذي ناجاه الشاعر الخالد، وان من موقع آخر، حين كان على سواحله في أثينا عام 1977:

سجا البحر وانداحت رمالٌ ندية ولوح رضراض الحصى والجنادلِ

وفكت عرى عن موجة لصق موجة تماسك فيما بينها كالسلاسل

 *  وفي وسط بيروت عاشقة الفرح والمزدانة به برغم كل الآلام، نستذكر، ونحن بين اللبنانيات الساحرات جمالاً وغنجاً، ما كتبه عنهن الجواهري، عام 1947:

ناغيتُ لبناناً بشعري جيلا، وظفرته لجبينه اكليلا

وحسان لبنان منحت قصائدي، فسحبنهنّ كدلهنَّ ذيولا

أهديتهن عيونهنّ نوافذاً، كعيونهن اذا رميّن قتيلا

ورجعت ادراجي اجر غنيمة من بنت بيروت جوى وغليلا

*  ولعلّ واحدة ممن عناهن القصيد السابق عن الفاتنات، تلكم السيدة التي تزوجها الجواهري أواسط الأربعينات، من عائلة "بيضون" اللبنانية - السورية الكريمة... وقد كتب نجل الشاعر، فلاح، في بعض ذكرياته المنشورة عام 2009 عن علاقة ابيه، الخمسيني، او يكاد انذاك، بعروسته الشابة:

"لم أرَ والدي، ولا في أي يوم في بيتنا بمثل هذا المرح والانطلاق، فوجهه اما ضاحك أو مبتسم أو على الأقل ينضح بالرضى... مليء بالحيوية والنشاط... يعبث كثيراً مداعباً أو ممازحاً... ولم يترك تلك "الحورية " وحدها إلا ما ندر..."

* اخيرا نوثق ان اخر زيارة للجواهري الى بيروت كانت عام 1991 للمشاركة في مؤتمر تاريخي عقدته ستة فصائل عراقية معارضة للدكتاتورية والحرب والارهاب، وقد كان الشاعر العظيم، ووحده، فصيلا اضافيا، سابعا، بين المجتمعين، بحسب رموز سياسية بارزة شاركت في ذلكم المؤتمر...ثم، عاد الشاعر الخالد لعاصمة السحر والجمال مرات ومرات، منذ رحيله عام 1997 والى اليوم: حفلا تابينيا، وقل احتفائيا، وكتابات وبحوثا وذكريات، من شعراء وادباء ومبدعين ومؤرخين، وكذلك ديوانا كاملا بخمسة اجزاء اخرجه الفنان عباس الكاظم عام 2000....

* ولأن الشيء بالشيء يذكر كما يقال، نشير هنا الى ان ثمة ثلاث طبعات لديوان الجواهري قد صدرت في لبنان خلال الأعوام 1967 و1982 و2000 على التوالي... كما ونضيف ان حفلاً تأبينياً مهيباً قد احتضنته بيروت خريف العام 1997 في اربعينية الشاعر الخالد، وشارك فيه جمع بارز من شعراء ومفكري وأدباء البلاد، وفي مقدمتهم: سعيد عقل ومحمد دكروب ومحمد حسن الامين وجوزيف حرب وحبيب صادق إلى جانب مبدعين عراقيين وعرب آخرين عديدين..

* رواء الجصاني

 

الجواهــري ... ربع قـرن من

اللواعج، والتصدي (1961-1985)

* رواء الجصاني

أحسبُ بأن الرؤية التي تقول بأن أذى وايذاء المثقفين والمبدعين في اوطانهم مؤشرٌ سوء لا يفحمُ على واقع وحال السطة الحاكمة، ومسار تلكم الاوطان، بل ومقياس لما هو كائن، وسيكون.. وأذا ما آمنا بذلك، فكيف ستؤول اليه الامور حين يُضطهد ويهضم، ويعاني رمز البلاد الثقافي، وأهم عناوينها الأبداعية، ونعني بذلك محمد مهدي الجواهـري (1899-1997) ... مع اهمية الاضافة هنا الى الأدوار التي يتطوع لها، أو يكلف بها، وعاظ واتباع السلاطين، وصحفهم وكتبتهم ومرتزقتهم، وكذلك الحسّاد والمتربصون، وأشباههم وهم ليسوا قليلين كما نعلم، وكما يعلمنا الشاعر الخالد نفسه، في قصائده طوال ربع قرن ..

    قلنا ربع قرن ونحدد ذلك بالفترة التي جاءت في عنوان هذه التأرخة (1961-1985) وهي فترة "حفلت" بها البلاد العراقية، خلال عهودها المتعددة، باللاديمقراطية والعسف والعنف، وبالانقلابات الدموية، والارهاب، والحروب الداخلية والخارجية، بكل تفرد و"تميّز" وتنوع، مقارنة باوضاع بلدان عربية ومجاورة، وغيرها مما عُرف بـ" العالم الثالث" بشكل رئيس. ودعونا الآن نوثق، ونؤرخ ما زعمنا به، وما ثبته الابداع الجواهري، ومنجزه الشعري، وفي تسلسل زمني، لربع قـرن ..

 

* في رافديه بلا نصيبِ

مع تعاظم رفعة ومكانة الجواهري، عطاء ووطنية، وانتشار وترسخ رؤاه التنويرية ومنظومته الفكرية، تعاظمت لواعجه من الجحود والاسفاف، ومن مواقف وتجاوزات "النخب" الثقافية والسياسية المتعصبة والمدعية، في العراق وخارجه... مما اضطره لشدّ الرحال مغترباً عام 1961 إلى براغ هذه المرة، متوقفاً في بيروت ليشارك في مهرجان تكريم الشاعر الكبير بشارة الخوري ببائية فريدة لم يدع مناسبتها تفوت إلا وكشف بعض ما تعرض إليه في العراق الجمهوري "الجديد" آنذاك، ومن بين ذلك اعتقاله "لأسباب سياسية وثقافية" وان ليوم واحد، برغم رئاسته لاتحاد الأدباء، وتزعمه لنقابة الصحفيين في البلاد، فقال مخاطباً المحتفى به:

أبشارة وبايما شكوى اهزك ياحبيبي...
هل صكَّ سمعك انني ، من رافديّ بلا نصيب ِ
في كربة وأن الفتى الممراح، فراج الكروب ِ
وزعتُ جسمي في الجسوم، ومهجتي بين القلوبِ

 

* أوَ صقرٌ طريدة لغرابٍ؟!..

  وفي براغ التي وصلها حديثاً، وفي احتفال أممي مهيب يلقي الجواهري قصيدة جديدة يبارك فيها نضالات طلبة وشبيبة العالم من أجل التحرر والديمقراطية... ثم يشكو لهم ما أصابه من عقوق في بلاده، وبأمثلة ووقائع مباشرة، كما يبثهم بعض لواعج الغربة التي يعيـش، والتي حسبها البعض مراداً، واستجماما لا مثيل له:

يا شباب الدنى وأنتم قضاتي ، في شكاة وأنتم شهودي
أنا في عزة ٍ هنا ، غير أني ، في فؤادي ينز جرح الشريد ِ
لي عتاب على بلادي شديد ، وعلى الأقربين جد شديد ِ
أوَ صقرٌ طريدة لغراب؟! ونبيغ ضحية لبليد ؟!...
يا لبغداد حين ينتصف التاريخ من كل ناكر وجحود ...
بخلتْ ان تفيء الظلّ منه ، وحنتْ فوق كل وغد ٍ وغيدِ

 

* عادى المعاجم وغــدُ يستهين بها

... وإذ تطول الغربة، فتتراكم المعاناة من الجحود، يصدح الجواهري عام 1962 برائعته الشهيرة "دجلة الخير"، التي وثقت للبلاد مجتمعاً وتأريخاً وواقعاً، ومن بين ذلك ما يعني الشاعر العظيم، ويعاني منه:

جبْ أربعَ النقد واسأل عن ملامحها ، فهل ترى من نبيغ ٍ غير مطعون ِ ...
عادى المعاجمَ وغدٌ يستهينُ بها ، يحصي بها "ابجديات" ويعدوني
شُلتْ يداك وخاست ريشة غفلتْ ، عن البلابل في رسم السعادينِ

 

* ومنغولٍ من التتار وغـدٌ..

وفي عام 1967، وحيث يعيش الشاعر العظيم هموم وشجون الاغتراب الاضطراري، يصدر احد "المفكرين" البارزين من وجهة نظر البعض، والمشكوك في عروبته وأصله وصلاح أفكاره، من وجهة نظر آخرين، يُصدر مذكراتٍ عن تاريخه في العراق، أعاد فيها سموماً طائفية خبيثة كان قد تقيّح بها منذ نصف قرن، ذلك "المفكر" نفسه، ضد الجواهري، الذي تصدى مواجهاً المعنيين بكل عنفوان، فقال:

سهرتُ وطال شوقي للعراق ، وهل يدنو بعيدٌ باشتياق ِ ...
احبتي الذين بمن امني ، بلقياهم اهونُّ ما ألاقي ...
ابثكم شكاة اتقيها ، فتصرعني وتمسكُ من خناقي
اغمزاً في قناتي من عُداة ٍ ، تناهشني ، وصمتاً من رفاقي ...

ثم تثور القصيدة فينال ذلك المتجاوز، وربعه، ما يستحقون من أوصاف، مبرزة "بعض" الحقيقة لا كلها، وإذ نمتنع حالياً عن التصريح باسم المعني، نشير إلى أنه يعد أحد رموز الطائفية المقيتة التي جرى تأجيجها أوائل القرن الماضي، ومنذ بدايات الحكم الوطني في العراق تحديداً... وما أشبه الليلة بالبارحة:

ومنغول ٍ من التاتار" وغْد ٍ ، تراضع والوغادةُ من فواق ِ
إلى "يمن" إلى "حلب" تسمى ، إلى "مصر" إلى درب الزقاق ِ
وكل ضاق بالملصوق ذرعاً ، وأيٌ فيه مدعاة التصاق ؟
أوجه القرد ، أم خلق البغايا ، أم النعرات ، أم نذر ِ الشقاق؟
أم النسب المؤثل بالمخازي ، أم الحسب المسلسل في رباق ِ
ولما حمت الأقدار ألقت ، به جيف البطون إلى العراق ِ ...
ليجمع حوله سفلاً تلاقى ، كما التقت الخفاف على الطراق ِ ...
"زنامى" يعطفون على زنيم ، كما عطف الجناس على الطباق ...
وما برح العراق محك صبر ٍ ، يطاق بأرضه ، غير المطاق
كأن غرائب الدنيا تنادت ، على وعد لديه بالتلاقي

 

* ..ومن خَتل ٍ رُميتُ وما خَتلتُ

... وخلال عام 1972 يعود عدد من تجار الوطنية والثقافة ليغمز من قناة الجواهري، بأنه يفضل المغترب البراغي على بلاده، فيوسمهم الشاعر العظيم في جباههم، وبما هم أهل له كما يرى، خاصة وان بعضهم ممن تساقوا معه ، وتساقىَ معهم المودة، وذلك ما آلمه بشكل مضاعف:

تقوّل ما يشاء خبيثُ طبع ، بُلوتُ طباعه حتى مللتُ
بأني حُوَّل ان اعوزتني ، على الملاّت اعذار ، احلتُ
معاذ الله ... والخلق المصفى ، وحرة طينة ٍ منها جُبلتُ
ولكني وجدت الودَّ سوقاً ، يراد بها تجاراً فاعتزلتُ
فمن خَتل ٍ رُميتُ وما خَتلت ، وعن جبن خُذلت ، فما خَذلت
خبرتُ الناس والأيام حتى يدايّ كليلتان بما نخلتُ ...

 

* ومساومين على الحروف كأنها تنزيل ذكر

ويعود الشاعر الكبير عام 1975 مدافعاً عن الذات والمواقف ضد أحد المتطاولين، العرب هذه المرة، بزعم ان الجواهري "قد سقط" في "مساوئ" المديح لزعماء وغيرهم، فردّ عليه – وأضرابه- برائية قالت مقدمتها انها "نُظمت، اثر تحرش بعض الكتاب المأجورين" ومما جاء فيها:

آليتُ ابرد حرّ جمري ، وأديلُ من امر بخمر ِ ...
اليت امضي بالعيون سواحراً ، نفثات سحري ...
وأصب في الأنفاس من خضر الربى نفحات عطري ...
آليت امتحنُ الرجولة ، يوم ملحمة وعُسر ِ ...
ومساومين على الحروف كأنها تنزيل ذكر ...
شتان أمركمُ وأمري ، أنا ذا أنوء بثقل وزري ...
شاخ الجواد ولم تزل تعتامه صبوات مهر ِ
طلق العنان فان كبا ، نفض العنان وراح يجري ...
سبحان من جمع النقائض فيّ من خير وشر ِ
عندي كفاف حمامة ٍ ... فإذا استثرت فجوع نمر ...

... وتسترسل القصيدة لتتحدث عن ذلك "المثقف" العربي، والذي يظهر اسمه تورية بين الأبيات التالية:

ومخنث ٍ لم يحتسب ، في ثيّب ٍ خيطت وبكر ِ
أقعى ... وقاد ضميره ، ملآن من رجس ٍ وعُهر ...
غال ٍ ، كأرخص ما تكون أجور غير ذوات طهر ِ
لم يُعل ِ قدري مدحه ، وبذمه لم يُدن ِ قدري ...
من ذا يخلص امة ً ، أُخذت على طوع ِ وقسر ِ
من نفسها ، من آمر ٍ فيها ، ومن خَدم ٍ لأمر
مثل الموالي شرفت نسباً إلى "مضر ٍ" و"فهر"
يتملكون رقابهم ، ملك الجزور ليوم نحـر ِ

 

* فرميّت في قعر الجحيم سلاحي

وإذ يحل عام 1977 يحـاول بعـض متنطعي السـياسة والأدب تجـاوز قـامـة الجواهـري وبأنـه لـم يعـد يخوض المعارك "الوطنية" ويتخذ السكوت موقفاً! فيلجمهم مخاطباً وموضحا مبادئ ومنتقدا وقائع واحداث :

قالوا سكتَّ وأنت أفظعُ ملهبٍ وعي الجموع لزندها ، قداح ِ ...
فعلام أُبدل وكر نسر ٍ جامح ٍ حرد ٍ بعش البلبل الصداح ...
فأجبتهم: أنا ذاك حيث تشابكت هام الفوارس تحت غاب ِ جناحي
لكن وجدت سلاحهم في عطلةٍ فرميّت في قعر الجحيم سلاحي

 

* ... وكظم الغيظ غيظٌ

   وفي عام 1980 يكتب نقيب الصحفيين السوريين صابر فلحوط "أبو عمر" رسالة في قصيدة، أو قصيدة في رسالة، موجهة للجواهري يسأله فيها أن يقول شيئاً في الأوضاع العربية السائدة، وما آلت – وما برحت بتقديرنا الى اليوم- فجاءت ميمية شاملة، وفيها أبيات غاضبة، منها:

"أبا عمر ٍ " وكظم الغيظ غيظٌ وحسٌ مرهف داء عقامُ
أقول وقد برمت بدار ذل ٍشريعتها تساوم او تسام
صميم الضيم ان تمسي وتضحي وانت ترى ملاييناً تضام

وأفظعُ منه أن يُلوى فيعيا بنجدة صارخ حتى الكلامُ

 

* ولن انوح على موتى بلا ثمن

ويتسلم الجواهري عام 1980 رسالة من صديقه، الشخصية السياسية والوطنية العراقية - الكردية البارزة جلال طالباني، حملت الكثير من العواطف والذكريات والتساؤلات، مع تمنيات بأن يعلو "غناء" الجواهري في نضالات الشعب... فردّ الشاعر العظيم بقصيدة أطرتها الاخوانيات، ولكنها بيّنت حرصاً، وتحريضاً بالغ الشدة والقساوة، والتأكيد على أهمية الوحدة النضالية في مقارعة الارهاب السائد في البلاد آنذاك، وانتقاص الفرقة والاحتراب بين القوى الوطنية العراقية، وما آلت اليه، ثم تضاعفت لاحقا، وكأني بالجواهري الخالد يتنبأ بها وبوقائعها اللاحقة، وربما الى اليوم... ومما جاء فيها:

... من ذا اغني أأشتاتاً موزعةعلى التمزق ِ والثارات والمحن ِ
أم صابرين على ضيم ٍ ومسكنة ٍصبر الحمار على مرأى من الأُتن
أم "الطلائع" مزعومين شفهم وجدَ التجار بسوق الربح والغبن ِ ...
فلن أغني بأعراس مهلهلة ٍولن انوح على موتى بلا ثمن ِ

 

* يخشى اللصوص فيذبح العسسا

ومن جديد "تعوي" ذئاب في العراق عام 1984 على الجواهري، وهو في غربته فيتصدى لهم في قصيدة عنونها إلى صديقه صلاح خالص، مذكراً – عسى ان تنفع الذكرى!- ومن أبياتها التي تتحدث عن بعض الهموم بصراحة، ودون حاجة لمزيد من الشروح:

... عوت الذئاب عليَّ ناهزة  فرصاً تثير الذئب مفترسا
ينهشن من لحمي وكل دم ٍ فيه لخير الناس قد حبسا
من كل داج ٍ لا يحب سنى ً للصبح يطمس ليله التعسا ...
"أصلاح" أنا رهن مجتمع ٍ يخشى اللصوص فيذبح العسسا ...
يُزهى بفارسه اذا افترسا وبضوء نجم ساطع طمسا

 

* برئت من الزحوف مجعجعات

وفي عام 1985، وتحت عنوان "برئت من الزحوف" يكتب الجواهري مقطوعة جديدة وفيها الكثير الكثير من مكنونات العتاب والشجون، والانتقادات، لبلاده ومجتمعه، وجماهير محبيه بالذات، والتناقضات والأزدواجية، الفردية – الشخصية، أو المجتمعية العامة-، نستل منها الأبيات التالية:

وسائلة ٍ أأنت تسبُ جهرا ، ألست محج شبان ٍ وشيب ِ
ألست خليفة الأدب المصفى ، ألست منارة البلد ِ السليب ...
أقول لها ألا اكفيك عبئاً ، ألا انبيك بالعجب العجيب
لقد هجت اللواعج كامنات ٍ ، وقد نغرت بالجرح الرغيب
برئت من الزحوف مجعجعات ٍ ، تخلف سكتة الموت الرهيب
مباحٌ عندهنّ دمي لذئب ٍ ، ولا أسدٌ يبيح دماً لذيب ...
أينهضُ مقدمي ستين ألفاً ، ينط بها البعيد على الغريب ِ
تـُـلقـف ما أصوغ لها وقوفاً ، تصيخ إلى صدى الحرف ِ الذهيب
ويُعمل أن امسح عنه طفلٌ ، كما مسح المسيح على الصليب
وانبذ بالعراء بلا نصير ٍ ، نبيل أو اديب ٍ أو اريب؟

 

* وأخيرا..

... نصل إلى خاتمة هذه الخلاصات  التي، وثقت لبعض لواعج ومواجهات الجواهري العظيم على مدى ربع قرن، من العطاء والشعر والمواقف الوطنية والخصومات السياسية.. وأستبق هنا  ملاحظات متوقعة بضرورة تفاصيل هنا، وإيجاز هناك، وسواء في القصائد التي جرى التوقف عندها، أو غيرها، مثل "ديوانيّ": "يانديمي" و"مرحباً أيها الأرق" وميمية "قلبي لكردستان" وبائية "عبدة الجبورية" وعينية "صاحِ قلها ولا تخف" دعوا عنكمُ الوجدانيات والاخوانيات، وما بينها من غزليات وعائليات وفي جميعها على ما نظن "لواعج" و"مواجهات" عديدة، وان تنوعت صورها وأغراضها... بل ثمة نواحٍ، وزوايا ومجالات أخرى عديدة كان ينبغي التوقف عندها، أو الاشارة إليها على الاقل..

 مجلة "البديـل"... مراجعة

وتوثيق، ومؤشرات

رواء الجصاني

 

     قبل اربعة عقود بالتمام، انطلقت رابطةٌ جامعة للمثقفين العراقيين الديمقراطيين ( المنفيين/ المغتربين) في الخارج، ضمت شعراء وكتابا وفنانين وصحفيين، متنوعين من مختلف الاختصاصات والاهتمامات، وقد كانت بيروت هي العاصمة التي أثمرت فيها جهود مكثفة لذلك الغرض، لتحتضن لاحقا المؤتمر التأسيسي الذي انبثق منه ذلكم الاطار، وليصبح منبرا لجموع العاملين في حقلي الابداع والثقافة، العراقية، الذين أضطرتهم اعتقالات وملاحقة السلطة البعثية الغاشمة، وارهابها للفرار – المؤت على الاقل-  بسبب مواقفهم وآرائهم، ونشاطاتهم الهادفة للتنوير، والرافضة للقمع وأمتهان الحقوق والحريات الانسانية في بلادهم (1)..

    ومن المهم ان نشير هنا الى ان هذه الكتابة ليست تأرخة لنشوء ومسيرة الرابطة، برغم ضرورة  ذلك.. وعسى ان ينبري المعنيون، ومن المؤسسين خاصة، للخوض في هذا المضمار لما له من أهمية بالغة – كما نحسب - في توثيق جهود وعطاءات مخلصة وحميمة، لعبت أدوارا مهمة في التأطير والتحريك، ونشر الثقافة الوطنية المضادة للـ"ثقافة" البعثية. قلت ليس من مهمة هذه الكتابة التأرخة لذلك الشأن، بل هي- وكما يثبت العنوان- تسعى لتوثيق أعداد مجلة "البديل" التي صدرت عن "الرابطة" مع الاشارة الى ان هذا السعي لا بدّ  وأن يتداخل مع مجمل التأرخة لانطلاقة ومسيرة ذلك الأطار الثقافي الحيوي والمثابر ، بل انه في صميم تلك المسيرة.

    لقد كان الافضل بالطبع  لو غَطت هذه الكتابة كل اعداد "البديل" .. ولكن المتوفر تحت اليد احدَ عشر عددا  فقط ، من مجموع خمسة عشر (2) . مع التنبيه الى ان هناك عددا  رُقمَّ بالرابع، وقد عُــدّ "شهيدا"  لأحتراق مواده وتصميماته في مقر الرابطة ببيروت اثناء الاجتياح الاسرائيلي عام 1982 وذلك ما يشير اليه العدد اللاحق، اي الخامس- وهو الرابع واقعياً- من المجلة التي انتقل موقع تحريرها وطباعتها  بعد ذلك الى العاصمة السورية – دمشق، وتوزيعها من هناك الى مدن وعواصم العالم ..

  لقد راحت مجلة "البديـل" وعلى مدى سنوات صدورها (1980-1991 )صوتاً ثقافيا هادفا، ومنبرا تنويرياً،  ليس عراقيا وحسب، بل وعربياً، كما سيتبين ذلك من خلال الأستعراض اللاحق لأسماء ثقافية عربية بارزة كتبت للمجلة التي تنوعت موادها: مواقف سياسية، وكتابات فكرية، وبحوثاً ودراسات قصيرة، عنتْ بالعديد من الرواهن الملحة آنذاك. كما ضمت نتاجات ابداعية كالشعر والسرد والقصة والنقود، والتراجم والتخطيطات وغيرها. ذلك فضلا عن توثيق نشاطات فروع الرابطة التي انتشرت في العديد من عواصم ومدن العالم، وحيثما كان هناك مبدعون ومثقفون وكتاب وفنانون وصحفيون عراقيون، ديمقراطيون، يقيمون او يعملون أو يدرسون. 

    ان هذه الكتابة لا تأتي فهرسة للاعداد، ولا تتجه نحو ذلك، وبرغم ذلك سأتوقف – استثناءً- لاظهار بعض المؤشرات، وبشئ من التفصيل، عند العدد الاول من المجلة، الصادر اوائل العام 1980 وقد جاءت افتتاحيته على الصفحة الخامسة بعنوان  "لماذا البديل؟" وحملت توقيع هيأة التحرير، مع ملاحظة على الصفحة الرابعة، التعريفية، بأن "اعضاء الرابطة هم هيأة تحريرها ومراسلوها" .. وقد اسهبت الافتتاحية بعرض توجهات الرابطة، واسباب انطلاق مجلتها "البديل" والمسارات التى تهدف لها، وأسس ارتكازاتها .. وضمت صفحات العدد التي قاربت المئة والثمانين(3) العديد من المواضيع الكتابات ومن بينها  للذوات: ادونيس، محمود صبري، الياس خوري، فيصل دراج، مصطفى عبود، فالح عبد الجبار.. اما  القصائد والقصص والنصوص فكانت للمبدعين، وبحسب حروف الهجاء: ابراهيم احمد، رعد مشتت، سعدي يوسف، شوقي عبد الامير، فائز الزبيدى، فاضل العزاوي، فاضل الربيعي، عواد ناصر، مخلص خليل، موسى السيد، هاشم شفيق..

   واضافة لتلك المشاركات التى اشرت لها في الفقرة السابقة، احتوت صفحات العدد الاول رسائل ثقافية من فروع، واعضاء الرابطة من عواصم مختلفة، وهنّ بحسب تسلسل صفحات نشرها، من: بيروت، روما، براغ، دمشق، برلين الشرقية، باريس. ومن بين ما احتوته تلكم الرسائل: نشاطات وتراجم، واخبار العلاقات، وفعاليات التضامن..

  وهكذا راحت الاعداد اللاحقة غنية متطلعة، مع التفاوت طبعا، ليس في عدد الصفحات والمشاركات والمساهمين، وحسب، ولكن في مستويات المواد المنشورة، وتنوعها، مما قد يؤشر – بهذا القدر او ذلك- عن بعض التراجع في الحماسة لـ"البديل" وبدءا من اواخر الثمانينات، ولاسباب موضوعية من بينها توزع الكتاب والفنانين والصحفيين العراقيين في المزيد من المنافي، واستمرار تعقد الاوضاع في البلاد، والتغيرات العالمية بعد انهيار الانظمة "الاشتراكية"  في بلدان شرق اوربا، وانحسار التضامن العربي والاممي .. اما الاسباب الذاتية فمن اهمها بتقديري اختلاف وارتباك الاراء والرؤى، والتماحك والمناكدات والتشابكات في مواقف الاعضاء من "الرابطة" عموما، ومن مسيرتها، والتجاذبات بشأنها ..

   وفي عودة لأعداد مجلة "البديل" التي بأيدينا، يمكن توثيق مساهمات سياسية وثقافية وابداعية لكمٍ كبير من المثقفين - الى جانب منْ ذُكرت اسمائهم في الفقرات السابقة- ومنهم العراقيون الذوات، مع حفظ المكانات: ممتاز كريدي، عرفان عبدي، شاكر لعيبي، مفيد الجزائري، صالح كاظم، زهير الجزائري، شمران الياسري، غائب طعمة فرمان، محمود البياتي، منعم الفقير، كاظم حبيب، نائل الحيالي، كريم دحام، ، فاضل السلطاني، سعدي المالح، قاسم الساعدي، قاسم حول، مجيد الراضي، كريـــم عبد، عادل العامل، سمير سالم داود، ابراهيم الحريري، فاطمة المحسن، خالد بابان، جنان جاسم حلاوي، زهير ياسيـــن شلبية، سالمة صالح، ضياء مجيد، جمشيد الحيدري، ثابت المشاهدي، جواد بشارة، ابراهيم الحريري، عادل العامل، فاضل سوداني،هـــادي العلوي، نجم والي، صلاح الحمداني، عارف ولي، ممتاز كريدي، كامل شيــاع، سعود الناصري، شاكر الانباري، سلام ابراهيم، محمد حسين هيثم، على كامل..

     اما الشعراء الذين نَشروا، أو نُشر لهم، او عنهم (قصائد وغيرها) فهم: الجواهري، جليل حيدر، صادق الصائغ، محمد سعيد الصكار، نبيل ياسين، عبد الكريم كاصد، شيركو بي كه س، مهدي محمد علي، فائز العراقي، مصطفى عبد الله، أنور الغساني، رفيق صابر، كريم عبد، كامل الركابي، حميد العقابي، اضافة للذين وردت اسماؤهم في الفقرة اعلاه التي وثقت للعدد الاول من المجلة.

    ثم هناك كم كبير اخر من المثقفين العرب (او من البلدان العربية) الذين كتبوا، للبديل، وعنها، وهم الى جانب ادونيس، والياس خوري وفيصل دراج، الذين سبق وان اشرت لاسمائهم، الذوات: يمني السعيد، حيدر حيدر، فواز طرابلسي، عبد الرحمن بسيسو، صالح علماني، محمد كروب، شوقي بغدادي، على الجندي، علي عبد العال، حميد المازن، محمد عزيز ظاظا، محمد بنيس، براء الخطيب،  جورج ابراهيم، نيروز مالك،  ممدوح عدوان، غالب هلسا، صبحي دسوقي، اسماعيل حسن حسو، عبد الله طاهر، زكريا شريفي، خلدون زيبو، عبد المعين الملوحي، سعيد حوراني، عبد الرحمن منيف، سعد الله ونوس، يمني العيد، خيري الذهبي، فيصل دراج، محمد دكروب، مها بكر، غالية قباني..

    لقد تنوعت المشاركات المنشورة في اعداد مجلة البديل، كما سبق القول، وتداخلت بين الشأن السياسي والثقافي، والمواضيع الفكرية برغم محدوديتها، والتوثيقات التاريخية، والمقابلات، والنصوص والكتابات الابداعية، والتخطيطات التشكيلية، والندوات، الى جانب مواد مترجمة، وتغطيات لنشاطات الفروع والاعضاء، والفعاليات ذات الصلة .. كما وثقت "البديل" قوائم باسماء العديد من المثقفين والمشتغلين بالشأن الثقافي والاعلامي، الذين طاردهم نظام البعث العراقي، واجهزتها الامنية و"الثقافية" :  اعتقالاتٍ وتعذيباً وسجناً وقتلاً، وخاصة في اواخر السبعينات، حتى مطالع الثمانينات الماضية (4).  وقد  وثقت المجلة ايضاً  قوائم باسماء مئات من المؤلفين والمثقفين العراقيين والعرب الذين منع النظام الدكتاتوري تداول مؤلفاتهم، وكذلك دور نشر عديدة عدّها النظام واجهزته "الثقافية" معادية له (5).

   ان التوقف عند اسماء المشاركين في الكتابة لمجلة البديل، والنشر فيها، والمشار لهم في ما سبق من سطور - وجمعٌ منهم له اكثر من مساهمة بل ومساهمات-  اقول: ان لذلك التوقف والتوثيق اكثر من مؤشر ومغزى، ولا سيما حين يتبيّن التنوع، وما يحمله اصحابه  من آراء  ومواقف ومفاهيم متباينة، حول مهمات المثقفين، التنويرية والسياسية، والادوار التي يجب على منظماتهم وأطرهم تبنيها، وسبل متابعتها، وشفافيتها وما الى ذلك. وقد حملت بعض اعداد "البديل"  مناقشات وتصورات جدية، وملموسة، حول تلكم الشؤون..   

    وبرغم الاعلان بأن تكون "البديل" مجلة فصلية الصدور، الا ان واقع المنفى، وظروف التحرير، واسباب اخرى حالت دون التمكن من الالتزام بمواعيد الصدور.. وهكذا لم تستطع سوى ان تكون دورية (15 عددا في 10 اعوام) مع تباعد الفترة الزمنية بين عدد وآخر لشهور وشهور احيانا، برغم الجهود المبذولة، وخاصة من الجهات الداعمة، وخاصة في الحزب الشيوعي العراقي، وبشكل أخص المسؤول القيادي في الحزب، فخري كريم، الذي لم يكن سراً تحمله مهماتٍ وأدواراً رئيسة في دعم تشكيل "الرابطة" واطلاق نشاطاتها الاساسية، والابرز منها، مجلتها - البديل.  

   ان كل الحديث اعلاه عن "البديل" ليس بأحتسابها مجلة فقط، بل انه يشمل، من جملة ما يشمل، الحديث عن بعض تاريخ ومسيرة  رابطة المثقفين العراقيين الديمقراطيين، في المنفى وبلدان الأغتراب الأضطراري، وغيره، والتي لعبت دورها المناسب والممكن في ما هدفت اليه. وأظن ان هناك جوانب عديدة بهذا السياق،  ينبغي الحديث عنها – كما سبقت الاشارة- من قبل نشطاء "الرابطة" وقيادييها الاساسيين، والتوقف عند محطات ومراحل التأسيس والانطلاق، ثم المراوحة، والتراجع، وبما يرتبط طبعا بالظروف الموضوعية – دعوا عنكم الذاتية - في كل تلك المراحل..  

     اخيرا، وبرغم اعتقادي بأن العديد مما نشرته "البديل" قد أعيد نشره في العراق بعد 20013 بهذا الشكل أو ذلك، غير ان هناك في ذات الوقت مساهمات وكتابات ذات اهمية تاريخية، وجدلية، من المهم ان تتصدى لأعادة نشرها، مؤسسات معنية، ولربما أولها الاتحاد العام للادباء والكتّاب في العراق، لأنه الاقرب واقعا للرابطة، ولمجلتها "البديل". ومع كل التقدير لأنشغالاته برواهن أخرى، غير ان في التراث - كما هو معروف-  تجارب لا غنى عنها، وذلك ما يدفع للتأكيد على موضوعة اعادة النشر، وعلى الاقل للمساهمات الأكثر اهمية، وما أكثرها في المجلة التي نعني: "البديل" ..  -----------------------------* براغ / اوائل آب 2019

* هوامش واحالات: ----------------------------------------------------------------

1/ أطلقت بأسم "رابطة الكتاب والصحفيين والفنانين الديقراطيين العراقيين" .. وبعد عشرة اعوام، وفي المؤتمر العام الثالث للرابطة (برلين 1990) تم تغيير الاسم الى "رابطة المثقفين العراقيين الديمقراطيين"..

2/ ثمة اربعة اعداد ناقصة في هذا الاستعراض هي (6- 10-11-14) اما الاخير(كما أحسب) فكان مزدوجا وحمل الرقمين ( 16- 17) صدر عام 1991 ودون تثبيت شهر الاصدار ..

3/ غالبية اعداد المجلة كانت بنحو 180 صفحة، وبحروف صغيرة في الاعداد الاولى خاصة،  بينما  صدرت اعداد اخرى بحدود 140 صفحة..

4/  نُشرت في العدد الاول – اوائل عام 1980..

5/ نُشرت في العدد السابع- تشرين الثاني 1983..

 

 

اثنان وعشرونَ عاماً

على رحيلِ الجواهري الخالد*

* رواء الجصاني


حببتُ الناسَ كلَ الناسْ.. من أظلمَ كالفحمِ ومن اشرق كالماسْ

 

    قبل أثنين وعشرين عاماُ، وفي صبيحة الأحد، السابع والعشرين من تموز عام الفٍ وتسعمئة وسبعة وتسعين، تحديداً، استنفرت وكالات أنباء ومراسلون وقنوات فضائية وغيرها من وسائل اعلام، لتبث خبراً هادراً، مؤسياً، هزّ مشاعر، ليس النخب الثقافية والسياسية فحسب، بل والألوف الألوف من الناس في شتى الارجاء :

"الجواهري يرحل إلى الخلود في احـد مشافي العاصمة السورية - دمشق،

عن عمر يناهز المئة عام"..

... وهكذا يطبق "الموت اللئيم" اذن على ذلك المتفرد الذي شغل القرن العشرين، على الأقل، ابداعاً ومواهب، ثم لتروح الأحاديث والكتابات تترى بعد الخبر المفجع، عن عظمة ومجد الراحل العظيم :

- المتميز بعبقريته التي يتهيّب أن يجادل حولها أحد.. 

- السياسي الذي لم ينتم ِ لحزب، بل كان "حزباً" بذاته، يخوض المعارك شعراً وفكراً ومواقف رائدة...

- الرمز الوطني الذي أرخ للبلاد وأحداثها بأتراحها وأفراحها من داخل الحلبة، بل ووسطها، مقتحماً ومتباهياً:

أنا العراقُ لساني قلبه ودمي فراته وكياني منه اشطارُ

- وذلك الراحل الخالد، نفسه: حامل القلم الجريء والمتحدي الذي "لو يوهب الدنيا بأجمعها، ما باع عزاً بذل المترف البطر".. ناشر صحف "الرأي العام" و"الجهـــاد" و"الثبات" ... ورفيقاتهن الأخريات ...

- منوّرٌ متميزٌ من أجل الارتقــاء، صدح مؤمناً على مدى عقـود حياته المديدة :
"لثورة الفكر تاريخٌ يحدثنا، بأن ألفَ مسيح دونها صلبا"..

- صـاحب "يوم الشـهيد" و"آمنت بالحسين" و"قلبي لكردستان" و"الغضب الخلاق" و"الفداء

والدم"... شامخ، يطأ الطغاة بشسع نعل ٍ عازبا..

- والجواهـري ايضا وايضا: متمرد عنيد ظـلّ طـوال حياتـه باحثاً عن "وشـك معترك أو قرب

مشتجر".. كيّ "يطعم النيران باللهب"!..

- مبدعٌ بلا حـدود في فرائـد "المقصورة" و"زوربـا" و"المعـري" و"سـجا البحـر" و"أفروديـت" و"أنيتـا" و"لغة الثياب" و"أيها الأرق" وأخواتهن الكثار...
- وهو قبل كل هذا وذاك "أحب الناس كل الناس، من أظلم كالفحمِ، ومن أشرقَ كالماس".
- كما انه "الفتى الممراح فراج الكروب" الذي "لم يخل من البهجة دارا" ..
- رائدٌ في حب وتقديس من "زُنَّ الحياة" فراح يصوغ الشعر "قلائداً لعقودهنَّ" ... و"يقتبس من وليدهن نغم القصيد" ..

- وديع كالحمامة، ومنتفض كالنسر، حين يستثيره "ميتونَ على ما استفرغوا جمدوا" ..
- وهو لا غيره الذي قال ما قال، وما صلى "لغير الشعر من وثنِ " ... فبات الشعراء يقيسون قاماتهم على عمود قامته الشامخ...

- انه وباختصار: ذلك الطموح الوثاب الذي كان، ومنذ فتوته "يخشى أن يروح ولم يبقِ ذكرا" ... فهل راحت قصائده - حقا - "ملؤ فم الزمان"!! وهل ثبتت مزاعمه بأن قصيــده "سيبقى ويفنى نيزك وشهاب" وهو القائل:

وها هو عنده فلكٌ يدوي..... وعندَ منعمٍِ قصرٌ مشيدُ

يموتً الخالدونَ بكل فـج ٍ .. ويستعصي على الموت ِ الخلود

ترى هل صدق بما زعم ؟؟!!... التاريخ وحده من انبأنا، وينبئنا عن الامر،

ويا له من شاهد حق ٍ عزوفٍ عن الرياء!!

----------------------------------------

مركز الجواهري 2019.7.27

www.jawahiri.net

 

/من بينهم نزار قباني وفوزي كريم ومحمود درويش/

ومحبةُ الشعراء خيّـرُ

المقتنى / الجواهري مثالا

رواء الجصاني

   نشرتُ قبل فترة وجيزة مادة توثيقية عن أثنين وعشرين شاعرا نظموا شعرا للجواهري (1898-1997) وعنه، ووعدتّ بأن الحقها بواحدة اخرى- وها هي بأيدي القراء - توثق لمواضيع نقدية، واستذكارية وعداها، كتبها شعراء عراقيين وعربا، عن الشاعر الخالد، على مدى عقود مديدة، قبل رحيله، وبعده .. دعوا عنكم ما كتبه غير الشعراء، والذي يعـدّ بالمئات: دراسات ومقالات وذكريات وسوى ذلك  ..

  وحريٌ ان اقول في البدء بأن ما سيلي من اشارات وتوثيقات لم تأتِ غيّر أمثلة وحسب، ومن الذاكرة بشكل رئيس، مع بعض ما يتوفر تحت اليد من الارشيف العامر. ولربما هناك من المتابعين والمهتمين فيقومون بمزيد من التوثيق، ويقدمون بجهدهم ذاك ما يفيد الباحث والمتلقي على حد سواء، ويوفر اضاءات اضافية لذلك العراقي الرمز، والذي شغل القرن العشرين على الاقل، وما برح ..

  ولعلّ ثمة ما يدور في خلد القارئ عن دافع هذا التوثيق الجديد، فأجدد القول-  كما كتبت في المرة السابقة، تحت عنوان "شعراء نظموا عن لجواهري، وله" : ان هذه  "حلقة" اضافية لسلسة ما كتبتُ بصدده منذ اعوام، وحتى الفترة القريبة الماضية، وأعني السعي للردّ بهذا الشكل أو غيره، على ما أزعمه تطاولاً  يـروح اصحابه بين الفينة والاخرى للردح به وتحت لبوس هنا، وآخر هناك، وبهدف مقصود هو محاولة النيل من شاعر الامتين العراقية والعربية في القرن العشرين على الاقل "... واضيف: ان من دوافع هذه الكتابة ايضا محاولة لمحاكاة "مقلوبة" لما رآه أو حكم به  المتنبي الخالد شعراً، ونصه " وعداوةُ الشعراء، بؤسُ المقتنى".. فأقول – ربما (و"محبة الشعراء، "خيـر"ُ المقتنى)..

    وأعود الى العنوان الذي نحن فيه فأشير – مثلا- الى ان ما جادت به الذاكرة عن كتابة الشاعر فوزي كريم حول الشاعر الخالد بعنوان "من الغربة وحتى وعي الغربة" وذلك عام 1969(1) وكذلك ما نشره على صفحة كاملة في صحيفة الشرق الاوسط اللندنية بتاريخ 1991.11.4 وشمل ذكريات وتوثيق ورؤى عن الشاعر الخالد. اما في نهاية عام 1968 (او اوائل 1969) فهناك للشاعر صادق الصائغ حديث وحوار طويلاً مع الجواهري وعنه، اجراه في براغ،  ونشرته (مجلة الف باء) البغدادية..

    ومما انوه اليه في هذا التوثيق، ذلك الحوار المطول الذي اجراه الشاعر سامي مهدي، ونشره في عدد حزيران 1971 لمجلة (المثقف العربي) .. مما جاء في التقديم للحوار  "كنت قد قدرت ان لقائي بالجواهري سيستغرق ساعة او اكثر قليلا. وانه سيكون جافاً أو حتى مملاً، ولكنه استغرق أربع ساعات، وكان متعة عظيمة لي"...

     كما  اشير ايضا الى ماكتبته الشاعرة لميعة عباس عمارة، في صحيفة الشرق الاوسط  اللندنية بتاريخ 1996.9.4 عن ذكريات لها مع الجواهري وجاء فيها " كان آخر لقاء لي مع الجواهري في براغ خلال سبيعنات (القرن العشرين) ولم يتغير.. ظل ذلك الرشيق الانيق الوسيم، الظريف الصعب، وبقيت انا تلك المعجبة السعيدة لانها تنفست من هواء غرفة ضمته، وجلست يوما مجلسه".

    وفي السياق نفسه دعونا نوثق لما ما كتبه الشاعر ابراهيم الخياط،  في متابعة حول العلاقات العامة عند الجواهري، نشرها في موقع الحوار المتمدن بتاريخ 2018.6.19 ووسائل اعلام اخرى.. ومما جاء في مقدمة المادة: "ان (شاعر العرب الأكبر)  لقب استحقه الجواهري بجدارة في وقت مبكر من حياته الشعرية ، وارتضاه له العرب .. فرغم ان الساحة العربية كانت مليئة بالشعراء الكبار في عصره ، لكنه حصل على هذا اللقب عن موهبة تامة وإجماع مطلق..."

     ومما هو جدير بالتوثيق هنا ما كتبه شعراء كثيرون بعيـّد رحيل الجواهري في دمشق الشام بتاريخ 1997.7.27 ومن بينهم: الشاعر السوري أدونيس، ومما كتبه:" لم يكن الجواهري مجرد إفصاح عن الذات وانما كان الى ذلك، وربما قبله في احيان كثيرة، إفصاحا عن أفكار ومثل مشتركة".. اما الشاعر، السوري، ايضا نزار قباني، فقد نشر بالمناسبة ذاتها مادة حميمة ومما جاء في سطورها: ".. والعظيم الآخر - الى جانب المتنبي-  محمد مهدي الجواهري، الذي مات يتيما في أشتات دون ان يجد نخلة عراقية واحدة "بين الرصافة والجسر" ترضعه حليبها، أو تغمره بظفائرها"... كما نوثق ايضا  لما قاله الشاعر الفلسطيني محمود درويش، في وداع الجواهري الخالد: " لم يكن شعر الجواهري وحده يُغرينا، لكن مزاجه، وشخصه وحياته". وقد نشرت جميع تلك الكتابات والمواقف في صحف ومجلات عديدة (2).

      ومما نؤرخ له في هذه المادة التوثيقية: الدراسة التي كتبها الشاعر المصري فاروق شوشة والتي نشرتها مجلة (العربي) الكويتية بعددها الصادر في شباط 2004 ومما جاء في التقديم: "لـم ينجُ شاعر عراقي معاصر من التأثير الطاغي لشعر الجواهري. ذلك الشعر الذي يشبه نهرا هادرا يجرف في طريقه كل شئ، ويلقي بفيض من خصوبته وطميّه في كل ارض على ضفتيه، فيمتد من حوله ظل باسق وخضرة لا نهائية، فيها خصوبة العراق"...

     ثم نوثق ايضا لمن كتبَ بمناسبة الذكرى العشرين لرحيل الشاعر الخالد، التي صادفت في 2017.7.27 ومن بينهم: الشاعر حميد الخاقاني تحت عنوان " الجواهري، مدخلي الى معبد الشعر" والشاعر رياض النعماني بعنوان: "انه عاش ابتكاراً ويعيشون أجترارا".. والشاعر عواد ناصر، بعنوان: " اسهاماتي المتواضعة في ذكرى استاذنا الجواهري" . اما الشاعر الكردي فوزي الاتروشي فقد كتب، وبالمناسبة ذاتها مادة حملت عنوان "الجواهري، ديوان وطن" (3) .

    أخيرا نجدد القول الذي اوردناه في فقرات سابقة، بأن هذا التوثيق عُني بكتابات الشعراء، وحسب، وثمة توثيقات اخرى لنا عن الاجلاء – من غير الشعراء- الذين كتبوا للجواهري وحوله نشرتها العديد من الصحف، وكذلك وسائل الاعلام على شبكة الانترنيت (4).. الى جانب نحو خمسين كتابا عن الشاعر الخالد- على الاقل-  تضمهما مكتبة مركز الجواهري في بــراغ..

* هوامش وإحالات ----------------------------------------------------------------

1/ صدرت ضمن مطبوع، بأشراف هادي العلوي وحمل عنوان "محمد مهدي الجواهري-دراسات نقدية" انجز في مطبعة (النعمان) النجفية..

2/ نشرتها مجلة (الطريق) اللبنانية بملف خاص في عددها السادس لسنة 1997 . وكذلك  مجلة (الثقافة الجديدة) العراقية بعددها رقم  279  الصادر في تشرين الثاني/ كانون الاول 1997.. الى جانب وسائل اعلام عراقية وعربية عديدة اخرى.

3/ ضم تلكم الكتابات، الى جانب نحو خمسين أخرى، لأكاديميين ومبدعين وسياسيين وغيرهم، إصدار توثيقي نُشــر خلال تموز 2017 عن مركز (الجواهري) في براغ، وأعادت نشره صحف ووسائل اعلام عديدة ..

4/ ومنها بعنوان (الجواهـري في تسع اطروحات دكتوراه، وثماني رسائل ماجستير)..

   

  

 

 

 

من بينهم الرصافي وسعيد عقل والبياتي

شعراء نظموا عن الجواهـري، وله

رواء الجصاني

 

    إذا ما كان ثمة واقع موثق لمقولة المتنبي "وعداوة الشعراء بئس المقتنى" ففي المقابل ما يربكها، ولربما ما ينفيها، حين نوثق في هذه الكتابة عن شعراء متميزين ومميّزين نظموا  قصائد عن الجواهري، وله، وفيها ما فيها – كما ستأتي به السطور اللاحقات - من وفاء للعبقرية والريادة، وأعتراف بالفضل والفخر بالمنجز، والتباهي بالوطنية. دعوا عنكم عشرات الكتابات والمقالات الأخرى، غير الشعرية، وطوال عقود وعقود (1).

     وبرغم ان القصائد التي نعنيها واضحة في المفردات والمباني والمعاني، والمناسبات، أقول ان هناك ما يستحق لأن نؤشر اليه أبتغاء المزيد من المرجو والمؤمل من هذه الكتابة،.. ومما نلفتُ اليه هو ان ماسيّلي من مقتطفات وابيات، قد  جاءت لشعراء قديرين على أقل وصف، في الغالب الاعم. كما انهم متنوعو المدارس والمشارب، والانتماءات، والاجيال والاعمار، ومن بلدان مختلفة، بل وحتى جنسيات مختلفة، وفي ذلكم ما يؤشر للكثير..

   وأضيف لما تقدم ان المكتوب جاء في فترات متعاقبة، أمتد لعقود طوال، وربما حتى قبل ان يصبح الجواهري ما أصبح عليه من شهرة ورموزية فكرية وادبية ووطنية، ومكانيتين عربية وعالمية .. وأزيد في القول فأنوه الى ان بعض الذي سيأتي قد كتب في حياة الشاعر العظيم، والبعض الآخر كتب ونشر ما بعد الرحيل الى الخلود في 1997.7.27 ويستمر الى اليوم..

   ولعلي اهدف ايضا – بل تلك هي الحقيقة – ان يأتي هذا التوثيق "حلقة" اضافية لسلسة ما كتبتُ بصدده منذ اعوام، وحتى الفترة القريبة الماضي. وأعني السعي للردّ بهذا الشكل أو غيره، على ما أزعمه تطاولاً  يروح اصحابه بين الفينة والاخرى للردح به وتحت لبوس هنا، وآخر هناك، وبهدف مقصود هو محاولة النيل من شاعر الامتين العراقية والعربية في القرن العشرين على الاقل .

   وارتباطا بالفقرة السالفة، لا بدّ لي أن أشكر (شاعراً) و(اكاديمياً) بالذات، حفزني بشكل غير مباشر لأن أسرّع بأنجاز هذا التوثيق، وذلك بعد ان نشر "يتيمة" من عدة كلمات، وبدون مناسبة، أو نقد "اكاديمي" أو توثيقي، كرر فيها الذمّ المكرور بأن للجواهري مديح هنا أو هناك لمسؤولين أو سياسيين أو رسميين، وكأن ذلكم الشاعر الاكاديمي قد اكتشف القمر قبل الف عام!. وقد تمعنت في الامر ولم أخلص سوى الى ان الدافع  لذلك واحدٌ لا غير، وهو محاولة الوصول الى الاضواء، وان كانت معتمة . ولقد كنت أحسب - ولحين  نشر "يتيمة القرن الحادي والعشرين!" - بأن صاحبنا ليس بحاجة الى مثل تلكم "الاضواء" وقد خاب التصور والحساب.

   أخيرا وقبل الوصول الى تفاصيل التوثيق المعني نؤكد  بان هناك قصائد أخرى كتبها شعراء أجلاء، ومنهم: الفلسطيني توفيق زيّاد، والسوري صابر فلحوط، واللبناني محمد حسن الامين.. والعراقيون: أبراهيم السامرائي، وبلند الحيدري، وعبد الامير الحصيري، ولم نتمكن من فرزها – حاليا - في ارشيف مركز الجواهري العامر ببراغ، ونعدُ بأن نفرد لها ملحقا بهذه الكتابة. كما نجد هنا فرصة لدعوة نوجهها للمتابعين، وذوي العلاقة، لكي يتكرموا بأضافاتهم، وما لديهم من نصوص ذات صلة (2).

  وفي التالي خلاصات مما حمله العنوان الرئيس "شعراء نظموا عن الجواهري، وله " موزعة على مرحلتين: الاولى، ما قبل الرحيل، والثانية مابعده، اي بعد 1997.7.27 مع حفظ الالقاب والمواقع والمكانات. ولربما كان من الأصح اضافة معلومات محددة عن الشاعر والمناسبة، وبنشر كامل القصيدة لا الاكتفاء بابيات قليلة منها، وعسى ان يجهد نجباء في اتمام ذلك التوسيــع :

اولاً: حتى رحيل الجواهري عام 1979 مرتبة بحسب تواريخ نظمها

---------------------------------------------------------

 

1/ معروف الرصافي:  

أقول لربِّ الشعر مَهدي الجواهري/ إلى كم تناغي بالقوافي السواحرِ

فترسلَها غُرًّا هواتفَ بالعُلى / يُزَوَّدُ منها سمعَه كلُّ شاعِرِ..

* ولــه ايضا:

بك الشعر لا بي اصبح اليوم زاهرا / وقد كنتُ قبلَ اليومِ مثلَكَ شاعرا

فأنت الذي ألقتْ مقاليدَ أمرِها / إليه القوافي شُرَّداً و نوافرا..

(ديوان الجواهري، قصائد الاربعينات / طبعة بغداد ذات السبعة اجزاء، في السبعينات الماضية)

 

2 سميح القاســم:

مهلاً فديتَ "ابا الفرات" فانت بالحسناء أحرى

اغريّتها شعراً .. واغرتها شؤون منك اخرى ...

سحر ٌ – لعمري – ما صنعت / وكان بعض القول سحرا..

(نظمت عام 1973 وتضمنتها اوراق الجواهري الشخصية، المحفوظة في ارشيفه ببراغ)

 

3 زاهد محمد زهدي:

ملءُ العيونِ وأنتَ مغتربُ / ناءٍ و(دجلةُ) منك تقتربُ

وتكادُ شطئانُ (الفراتِ) إذا /  ذَكروكَ عندَ ضِفافها تُثِبُ

(الرافدانِ) وأنتَ صوتُهما /  وإليهما بالحبَ تنتسبُ..

(نظمت عام 1985 ونشرت في كتاب "الجواهري، صناجة الشعر العربي في القرن العشرين" لزاهد محمد زهدي/ دار القلم – بيروت 1999)

 

4/ محمد سعيد الصكار:

على الرحبِ مفروشٌ لك الدربُ / والقلبُ، وفي سَعَة ٍ خطو لأيقاعه نصبو

فكل حنايانا بيوتٌ وكلنا / ندامى وانت الخمر والشعر والحبُ

فعرّج وفرّج غربة عصفت بنا /  فقد طالما أزرى بغربتنا الغربُ..

(نظمت عام 1991)

* وله ايضا في موساة لجواهري بوفاة زوجته عام 1992:

يا منْ تمرّس بالجلّى وروّضها / فكان رغم ضواريها له الغلّبُ

صبراً على آخر البلوى فإنّ لها / شوطاً وقد بلغتْ مضمارها النُّوبُ

واسلم لنا ألقاً يهدي مواكبنا / لخير ما يرتجي شعبٌ وينتخبُ..

(كتاب "اخوانيات الصكار، ومجاسه الادبية" لمحمد سعيد الصكار/ دار المدى 2001)

 

5/ عبد الوهاب البياتي:

في سنوات الضوء والبؤسِ/ وجدت في مرآته نفسي

خرجت من معطفه يافعا / لأحملَ الشمس الى الشمس

قلتُ له يا أبتي ها هنا / يعتنق السهمان في القوسِ..

ماذا اسميك وأنت المدى / وطائر العاصفة القدسي

(كتبها البياتي بمناسبة عيد ميلاد الجواهري الخامس والتسعين عام 1995. ونشرتها مجلة الطريق اللبنانية، العدد السادس/1997)

 

ثانيا: ما بعد الرحيل في 1997.7.27 مرتبة بحسب حروف الهجاء

------------------------------------------------------------

1/ بلقيس حسن:

أبا الشعراء مذ عشرين حولاً / وذكركَ في النفوسِ نما وقرّا

ونشكو من ضياع في المنافي / ونحسو الدمع والآهات حرّى

تكالبت الرداءة في زمانٍ يكسّرُ فيه عظم الشعر كسرا ..

(نظمت عام 2017 ونشرت في كراس خاص اصدره مركز الجواهري في براغ تحت عنوان "استذكار الجواهري.. تباه بالوطن والشعر والتنوير" براغ 2017)

 

2/ حسب الشيخ جعفر:
قيل: الفراتان ماتا في العراق، فهل
ابقت لنا الضفة الزوراء من أحدِ؟ ..

(نشرتها اصدارات عراقية اواخر التسعينات الماضية)

 

3/ جواد الحطاب:

لم اربّ من قبل حماماً

لا اشعل ؛ لا ابيض ؛ لا اصفر ؛ لا رماديا

من اجلك – انت فقط – ذهبت لسوق الغزل

واشتريت مائة طير زاجل

 بعدد سنواتك يا نَسرَ لُبَد ، واطلقتها ؛ باتجاه مقبرة الغرباء..

(نظمت بعد رحيل الجواهري عام 1997 ونشرت في وسائل اعلام عديدة، وأفتتح الشاعر بها فعاليات دورة مهرجان "المربد" عام 2019)

 

4/ جوزف حرب:

الشمس نامت حيث أنت تنام/ ومشت لتحرس نعشك الأيامُ

ما الغيم مطوي كأن هذا المسا / قد نكست ببلاطه الاعلام

والحبر أسود لا لنكتب إنما / لبست عليك سوادها الأقلام..

(مجلة الطريق اللبنانية، العدد السادس/1997)

 

5/ سعدي يوسف:

من مَشفى الشام الى النجمة، ومن النجمة حتى بغدادْ

دربكَ مكتنزٌ بالأوراد، وقميصك هذا القطن

سترفعه حتى دجلة كوكبة الأحفاد..

(مجلة الثقافة الجديدة / العدد279  في تشرين الثاني/ كانون الاول 1997/1997)

 

 

6/ سعيـد عقـل:
بالمجدِ زانوكَ بالنهرين بالحُشدِ / أنا بشعرٍ مطلِ الستةِ العمدِ
جواهريّ العلى الطاغي على قلمي / على ضريحك ورداً بعثرته يدي..

(مجلة الطريق اللبنانية، العدد السادس/1997)

 

7/  عبد الاله الياسري:
تباً لأرض لم تضم رفاته / وبـه الرمـال بكـل أرضٍ تحلمُ
لابد من يوم تصيح بفجره / ديـك، ويبعـث من قبـور نوّمُ
وتزاح عن شمس العراق سحابة / طالت، وطال بها الزمان المظلمُ..

(نشرتها وسائل اعلام عديدة اواخر التسعينات الماضية)

 

8/ شيركو بيكه س:

انه الجواهري ذاكرة الشارع، ونافورة الصوتِ،

ويوميات الزنزانة في زمن المشانق

انه الجواهري: جرس يعلق نفسه في عنق الظلام لكي يدق للشروق

وصباحات البلاد. انه الجواهري: خبز الشعر...

(مجلة الثقافة الجديدة / العدد279  في تشرين الثاني/ كانون الاول 1997)

 

9 عبد الرزاق عبد الواحد

لا الشعِّرَ أبكيهِ ، لا الأبداعَ، لا الأدبا / أبكي العراق، وأبكي أمَّتي العرَبا

أبكي على كلِّ شمسٍ أهدروا دمَها / وبعدَما فقدوها أسرجوا الحطبا

أبكي على وطنٍ يبقى الأديبُ بهِ / ليس الغريب، ولكنْ أهلهُ غُربا..

(منشورة في وسائل اعلام عديدة)

 

10/ عبد الكريم كاصد

انبيك اني بدار ليس يسكنها / الا الحثالة من مكذوبة النسبِ ...
انبيك ان بغاث الطير قد نطقت / وان جل خيول القوم من قصب ...
لله كيف استحال المرتجا اجلاً / وكيف أضحت فتاتٌ غاية الارب

وكيف ان غراباً ناعباً هرماً / اضحى يقال له " صناجة العرب "...

( من قصيدة " كلاسيك الى الجواهري" في مجموعة الشاعر " قفا نبكي" المنشورة عام 2002)

 

 

11/غازي عبد الرحمن القصيبي:
كانت حياتك عبرة .. لو أننا / عشنا كما عشتَ الحياة محاربا

ورضيت ألا أن تكون مهادناً / وأبيت ... إلا أن تكون مشاغبا
باق ٍ وأعمارُ الطغاة قصيرةً / شعرٌ ضمنت له الخلود الصاخبا..

(نظمت بعيّد رحيل الجواهري، ونشرتها وسائل اعلام عديدة)

 

12/  فاضل عبد عباس:
بكت دجلةُ، وانحنت نخلةٌ ترتوي من يديكْ  /وظهر الفراتِ تقوسَ حزناً عليكْ
ونحن هنا – كلما خاننا النطق – نهفو إليكْ / وكل العصافير تنهل من شاطئيك
انت ارضعتنا لغة العشقِ، اورثتنا شعلة، البستنا الكبرياءْ
وعلمتنا ان اربعةً من حروف الهجاءْ /هي البدء والانتهاءْ: عراقٌ ... عراقْ

(نظمت بعيّد رحيل الجواهري، ونشرتها وسائل اعلام عديدة)

 

13/ لميعة عباس عمارة:

تحديتّ إلا الموت حسبُ تحديا / تلاشيت والطغيانُ مازال طاغيا

وكنت ضراما في يباس حياتنا / إذا قلت أشعلت الفضاء قوافيا

تبعناك حتى حتفنا ما خذلتنا / وكنت لنا نجماً ورمزاً وفاديا

(نظمت بعيّد رحيل الجواهري، ونشرتها وسائل اعلام عديدة)

 

14/ محمد حسين الياسين:

يا ومضةً ولدت يوماً على جبل / كل النجوم بها حبلى من الأزلِ

فأي إرث من الأضواء منتشرٍ / مجمّع في وريف الضوء مختزل

 كل ابن أنثى فمن صلبٍ  سوى / ألقٍ كما أتى مريماً عيسى بلا رجلِ

(القاها الشاعرالياسين في مهرجان الجواهري الثامن / بغداد 2011)

 

15/ محمد جواد الغبان:

أترى لواءُ الشِعرِ بعدَكَ يخفقُ / ويجيءُ مَنْ يسمو به، ويُحلِّقُ

أترى الرياضُ المقفراتُ ستزدهي / وتعودُ تنفحُ بالأريج ، وتَعبَقُ

أترى النوادي الموحشات عِراصُها / تغدو بعودة أهلِها تتألَّقُ

(نشرها الشاعر في كتابه الموسوم" الجواهري، فارس حلبة الأدب" الصادر عن دار المدى/ بغداد عام 2006)

 

 

16/ مهدي محمد علي:

خرجْتُ بما بالعيون يُرى/ وسرتُ بما لا يُرى في الحشى

وغرَّبْتُ دون الذي في المدى/ وعانيتُ قَطْراً كشمس الضحى

وقارَبْتُ شمساً كقطر الندى/ ولكنها دون بلّ الصدى

(مجلة الثقافة الجديدة / العدد279  في تشرين الثاني/ كانون الاول 1997)

 

17/  نبيـل ياسيـن:
مَنْ يا ترى استطاعَ أن يرسم مثل هذه الخطى
سواه ... ويملأ القلب الوحيد بالشجنْ
منْ يا ترى استطاع أن يصعد في سفح الحياة
مارداً ... لكي يموت خارج الوطن؟

(نظمت بعيّد رحيل الجواهري، ونشرتها وسائل اعلام عربية عديدة)

 

* هوامش وإحالات  ------------------------------------------------------

1/ نعدّ لموضوع آخر بعنوان"شعراء كتبوا عن الجواهري وله" كالدراسات والتأرخة والنقد، وليس قصائد شعرية.

2/ كتبَ أزيّد من عشرين شاعرا اردنيا قصائد تحية، وتقدير للجواهري الكبير- بعد القاء  قصيدته الشهيرة (اسعف فمي) المهداة للعاهل الاردني الملك حسين عام 1992 – جمعت في كتاب بعنوان "الجواهري في عمان" اصدره حمودة زلوم، عام 1993. 

 الجواهـــري مثالاً...

أيضاً، عن مواقف السكوتِ و التصـدي

رواء الجصاني

    ثمة رأيان  متضادان في المواقف من التجاوز والتطاول، وخاصة بعد تكاثرها "الأميبي" حتى، وانتشارها اللامسؤول، عبر وسائل الاتصالات والنشر  المفتوحة للجميع، وأزدياد "التباري" المتهافت يوماُ بعد يوم في (الكتابات) و(التقييمات) تحت ما سميّ – ويسمى- حرية الرأي والتعبير، وكأن ذلك يعني أشاعة الاحقاد والسباب الذي يؤشر مستوياتِ الوعي المجتمعي، دعوا عنكم الفردي– الشخصي..

     قلت انهما رأيان متضادانِ في الموقف مما يُنشر، وممن يَـنشرُ، تلكم الكتابات. أحدهم يدعوا للتجاهل وعدم الرد او التعليق، ومن منطلق عدم إعلاء قيمة المكتوب والكاتب، تيّمناً ببيت شعر قديم يقول" كبرتَ عن المديحِ فقلتُ أهجو، كأنك ما كبرتَ عن الهجاءِ" .. أما الرأي الثاني فيرى في الصمت،  والوقوف على التلّ، والتجاهل: مشاركةً، وربما ايغالاً في تزييف الحقائق، ولحد أن تصبح الأساءة أو الزيف أمراً واقعاً يصعبُ محوه – بتقادم الأزمنةِ-  من الذاكرة الجمعية.  

   وأول المعنيين هنا بطبيعة الحال هم المثقفون والمتابعون على ما يفترض. وما علينا بغيرهم الذين يصفقون، أو يشاركون في التعليق والنقاش دون ان يدروا، ولو كانوا قد عرفوا فالمصيبة أدهى كما هو شائع القول... أما أسباب توسع مثل تلكم الكتابات الحقود، أو المشوهة وغير الموثقة، فهي عديدة ومتنوعة، لعلي اجازف بالقول ان ابرزها يتمثل  بالشهوة الجامحة للشهرة والأنتشار. وما أسهل ان يكون المرء شعبوياً تضج كتاباته باللغـو ليرتفع الرصيد الهافت، خلواً من اي ثقل معنوي حقيقي،  الى جانب كل ما يترتب على ذلك من انعاكاسات وتداعيات خلاف المؤمل والمرتجى . 

   ومن المؤكد اننا لا نعني ما يخبرنا به التاريخ ومنذ منذ  قرونٍ عن جدالات وخصومات الشعراء والمفكرين والأدباء، بل وتنابزهم، التي جاء الكثير منها خلاصاتٍ لترسيخ المعرفة العامة، وتحفيز ذوي العطاء، وتنشيط الذاكرة واشاعة الوعي .. ولأن الشعر ديوان العرب، فذلكم هو حافل امامنا ومنذ عشرات، بل ومئات السنين، بما يصلح شاهداً على ما ندعيه، وبشكل خاص: التباهي والتفاخر بالعطاء الروحي والانساني، والتسابق لأعلاء الشأن من جهة، والحطّ،، وبقسوة، من قدر ومكانة الاخرين الذين ينهاضونهم، حواراً او أحتكاماً، والى مرحلة الهجاء اللاذع.  ومما تلمّ به الذاكرة قول: المتنبي وهو ينالُ من منافسه ابي فراس الحمداني، في حضرة سيف الدولة، كما تقول احدى الشروحات:  أعيذها نظرات منكَ صادقةً/ ان تحسب الشحمَ فيمن شحمه ورمُ .. كما ذلك هو جرير ينالُ من غريمه الفرزدق، فيقول: زعمً الفرزدق أن سيقتلَ (مربعاً).. أبشر بطول سلامة يا (مربعُ) . وتتوالى النماذج والمشابهات..

   وفي الجانب الآخر نشير الى حالات السمو عن الرد، وتجاهل المقابل، بل والأستنكاف من ذلك، ودليلنا شعراً ايضا ماقاله الطرماحُ بن حكيم الطائي "لقد زادني حباً بنفسي أنني/ بغيض الى كلِ امرئ غير طائلِ.. وأني شقيُ باللئامِ ولا تَرى شقياً بهم الا كريم الشمائلِ" .. وكذلك  ما ينقل عن الامام الشافعي: يخاطبني السفيه بكل قبح / فأَكرَهُ أَن أَكونَ لَهُ مجيبا/ يزيدُ سفاهَة فأَزيدُ حِلماً /كعودٍ زادهُ الإِحراقُ طيبا..

الجواهري مثالا..

  وفي هذا المحور نبدأ متسائلين أولاً: هل هناك مقابل في القرن العشرين، على الأقل، شاعرا كان، أو مفكرا أو عبقريا، عانى بمثل مثل ما عاناه الجواهري (1989-1997) من أيذاء وتجاوز، وأبتذالات من بني وطنه وأمته؟!. نشكُ في ذلـك، وعسى أن يقارن ويضيف المتابعون الأجلاء، أو يُخطئون. نقول ذلك غير ناسيـــن، بالمقابل، ست عشرة اطروحة دكتوراه، واحدى عشرة رسالة ماجستيـر أجيزت عنه – الجواهري- من جامعات عراقية وعربية، من تلمسان الجزائرية، وحتى صنعاء اليمنية، مرورا بجامعتي الازهر والقاهرة المصريتين، وأربيل والكوفة والبصرة العراقيات (1).

.. لقد بدأ مسلسل التطاول عن الجواهري منذ بدايات حياته الشعرية، وهو يثبتُّ ذلك شعراً، ومن بينه اواسط العشرينات الماضية، اي قبل قرن كامل تقريبا، حين كتب: أنْ انكرتني أناسُ ضاع بينهم قدري، فمن علمّ الحداد بـ (الذهب) .. وكذلك ما قاله، وهو يتكئ على بيت شعر قديم: "ولو أني بليتُ بهاشميٍ/ خؤولته بنو (عبد المدانِ).. لهانَ علي ما ألقى ولكن/ هلمّوا وأنظروا بمن أبتلاني".

     ثم، وبمرور الزمن، ومع ثبات وثبوت عبقرية الجواهري، ودوره التنويري، الشعري والفكري، الوطني والعربي والأنساني يزداد التجاوز ومحاولات التطاول، من جهلاء ومتفقيهين على حد سواء، وبدوافــــع تتباين بين حسدٍ وغيـــرةٍ حيناً، وسياسية وتخلفٍ حيناً آخر. ونقول من جديد: ما علينا بـالنكرات و(الأصفار) بحسب وصفه لهم عام 1969 حين ردّ عليهم هادراً  "ما ضرّ من آمنت دنيا بفكرتهِ، إن ضِيفَ صفرٌ الى أصفار من جحدوا".

   وفي عودة للتساؤل التي اورده عنوان هذه الكتابة (السكوت التصدي) نقول ان الجواهري كان يتنقل بين ذينك النقيضيّن. ويبدو ان الأمر يعتمد عنده على الظرفين الزماني والمكاني، وحساباته عن الدوافع والأغراض، وغير ذلك، مما يحدو به لأن ينحى ذلك أالمنحى أو خلافه. فمرة يزعمُ حال السكوتَ، بل ويدافع عنهأ، رائياً فيه الموقف الأفضل. وفي التأكيد على ذلك نلجأ لاشعاره ذاتها، ومن بينها  قوله عام1927"سكتُّ حتى شكتني غرّ أشعاري/ واليوم أنطق حراً غير مهذارِ.. في ذمة الشعر ما ألقى وأعظمه أني أغنّي لأصنامٍ وأحجارِ" . وكذلك عام 1944 "وكن بالصمت أبلغ منك نطقاً/ وأورى في محاججة زنادا / فان الموت اقصر قيد باعٍ/ بان يغتال فكراً واعتقادا". وأيضا ما جاء في قصيدته عام 1949 " فلقد سكتُ مخاطباً إذ لم أجدْ/ من يستحقُ صدى الشكاة مخاطبا" . وثمة شواهد ومواقف أخرى وكلّها تشيع الدعوة للسكوت، والترفع عن تطاول هنا، وآخر هناك .. كما سمواً عما يراها صغائر وترّهات . ولكن هل استمر الشاعر في ذلك الأتجاه؟! وهل ثبتَ على ما اشاعه ودافع عنه؟!. قصيدُ الشاعر ذاته يجيبُ في شواهد عديدة الى نقيض ذلك، وبأكثر من مناسبة، وزمن وعهد.

     لم يصمتْ الجواهري، بل استهجن وصخبَ، وهدر بكل عنفوان، وأطاح – شعرا وتحدياً- بمواقف "المتحرشين" كما يسميهم، وبدوافع مختلفة، سياسيين ومثقفين وغيرهم، عراقيين وعربا، وأعاريب. بل – ووفق حساباته- مأجورين ومتصيدين وحاسدين وشامتين وعداهم. وقبل ان نوثق بشأن ما تقدم،  وبأمثلة ليس إلا، نشير الى ان بعض لواعج الشاعر حدت به الى مواجهة المجتمع قاطبة في بعض الأحيان، الذي أنجب أولئك المتطاولين، ومن بين ذلك - ومثلاً ايضا وليس حصراً- ما قاله عام 1984مخاطبا صديقه صلاح خالص "أصلاحُ أنا رهنُ مجتمعٍ/ يخشى اللصوص فيذبح العسسا/ يُزهى بفارسهِ أذا أفترسا/ وبضوء نجمٍ ساطعٍ طمسا". وكذلك عام 1985 حين قال " برئتُ من الزحوفِ وأن تلاقتْ/ تسدّ عليّ منعطفِ الدروبِ ..  أأنبذُ بالعراء بلا نصيٍرٍ/ نبيلٍ أو أديبٍ أو أريبِ .. فيا لمؤلهٍ فيها غريبٍ/ ويا لتعاسةِ البلد العجيبِ " وهكذا الحال في ابيات ومقاطع قصائد أخرى عديدة .. ودعونا ننتقل الآن لهدير الشاعر في غضباته "الفئوية" التي أسلفنا ذكرها قبل سطور قليلة .

   قلنا ان الجواهري، وفي كثير من الأحيان ضمّن قصائده: عتابا وهضيمة وغضبا، وتصدياً،  لمواقف وكتابات تداعى لها  أشخاص عديدون، ومن بينهم "مأجورون" بحسب توصيفاته، وأرائه.. وكان ردّه عليهم قاسياً، وأكثر بكثير وأزيّد شدة – في الاجمال- من ردوده وتصديه لكتابات "منتقديه" ومخالفيه المثقفين والسياسيين... ولا بدّ من الأستشهاد هنا ببعض ذلك لمزيد من التوثيق، ومثالنا ما قاله قي رباعياته (1959-1960): "سيسب الدهر والتاريخُ من أغرى بسبي/ لا أولى سبوا فهم عبدانُ عبدان لربِّ/ يا لويل المشتلي كلباً لسبِّ المتنبي/ عرضُ (كافورٍ) تهرّى وله مليونِ كلبِ "..

  أما عن امثلتنا – والشعرية كالعادة- على تصدي الجواهري لتجاوزات السياسيين، وأعوانهم، وفي عهود مختلفة، ومواجهاته لهم، طوال عقود، نشير الى ما قاله عام 1953"عدا عليّ كما يستكلبُ الذيبُ/ قومٌ ببغداد أنماطٌ أعاجيبً".. وكذلك بيته الشهير في قصيدة (هاشم الوتري) عام 1949 الذي يقول فيه: "أنا حتفهم ألجُ البيوت عليهمُ/ أغري الوليد بشتمهم والحاجبا".. وايضا في "المقصورة"  الاربعينية ذائعة الصيت " بماذا يخوفني الأرذلون، وممَّ تخاف صلالُ الفلا" ..

  اما المثقفون الذين حسبهم متجاوزين، شعراء وكتاباُ وصحفيين وسواهم، فلهم قسطهم من ثورات الجواهري ومواجهاته اللاهبة لتطاولهم، والرد على مروجي أراجيف، وكذلك الذين يدعمونها تحت عباءة حرية الرأي والنقد، والتقييم، وتبادل الاراء وغيرها من مشابهات. ونوثق في هذا السياق نماذج ملموسة - تفي الغرض كما نظنّ - لاستشهادات من قصائد الشاعر ذاتها، ومنها عام 1963 مهضوما من التجاوزات ضده، وعليه وهو في الغربة "وتفرج المتفيهون فلا دمٌ/ يغلي ولا قلمُ يذود ولا فـمُ... لم تنفقئ خجلا عيونٌ أبصرت/ وجهَ الكريم بكفِ وغدٍ تلطـــمُ". وكذلك عام 1975 حين قال مستنكرا السكوت على ما يحيق به من تطاولات " وأم الضاد قد هُتكتْ/ وربّ "الضادِ قد جُلدا.. بهم عوزٌ الى مددٍ/ وأنت تريدهم مددا" . وكذلك ما جاء في قصيدة  "المقصورة" سابقة الذكـر "ومنتحلينَ سِماتِ الأديبِ/ يظنّونها جُبَباً تُرتدى... ولاهِينَ عن جِدِّهم بالفراغِ/ زوايا المقاهي لهم مُنتدى".  وهكذا تروح العشرات من الابيات الجواهرية، في العشرات من قصائده تردّ وتتصدى وتردع، وتهدف للتنوير الجمعي وإن بدت شأنا خاصاً. ومثلما أشرنا فأن كل ما سبق ليس سوى  نماذج وحسب، وفي الديوان العامر ما يضاعف من مثل تلكم المواقف والمواجهات، وكشف الزيف والادعاء وما اليهما. ولعلّ من الجدير ذكره هنا أن المعنيين بالأبيات والاوصاف والمواقف الواردة فيها لم ينبسوا ولا بكلمة واحدة- في الغالب الأعم- ولربما كانوا أذكياء هنا ليكتفوا بما تلقوه من ردود تكشف معايبَ، وتبيّن خبائثَ، بحسب قناعات الجواهري، على الأقل. كما يجب ان نتوقف هنا أيضا للتوكيد بأن الشاعر الخالد كان يميّز ويفرق بين النقد الهادف البناء، المبني على القدرة والمعرفة، وحتى في تفسير المواقف الشخصية ودوافعها، من جهة، وبين التطاولات والمزاعم والاباطيل، السائبة أو المغرضة، أو المتاجر بها، من جهة أخرى.

    وفي مجال الأستدراك ايضا، والتوضيح، للقارئ – غير اللبيب خاصةً - الذي قد يتصور ان الجواهري لم يبقِ أحداً، سياسياً كان أم مثقفا أو كاتباً، وغيرهم، إلا وناله في اشعاره وقصائده... نوثق بأن مثل ذلك الأستنتاج لا يقوم على أسس رصينة وبالمطلق. نقول ذلك وفي الذاكرة والديوان العامر، وفي جزأي "ذكرياتي" للجواهري ذاته، العشرات من الابيات والمقاطع الاخوانية، والتقديرية لرموز سياسية وثقافية بارزة، عراقيا وعربيا. ولمن يطلب المزيد نوثق وعلى عجالة فان من بين تلكم الشخصيات السياسية، مع حفظ المواقع والالقاب: جلال طالباني، عبد المحسن السعدون، عبد الوهاب مرجان، سعد صالح جريو، مصطفى بارزاني، عبد اللطيف الشواف، يوسف سلمان يوسف، وصفي طاهـر... ومن الشعراء والشخصيات الثقافية، وايضا مع حفظ الالقاب والمكانات: الرصافي، ألياس ابو شبكة، بشارة الخوري، سلطان العويس، على جواد الطاهر، فيصل السامر، مهدي المخزومي، طه حسيـن، يوسف ادريس.. وعشرات آخرون.

      أخيرا، وبرغم أننا لن ننقطع – كما يبدو- عن مثل هذه الكتابات والتأرخة، طالما كان هناك متصيدون، وطالبو شهرة، وسياسيون ومثقفون على الضفة الأخرى مما يقف الجواهري. أقول   برغم ذلك فأن البعض قد يتساءل عن دوافع هذه الكتابة  الجديدة  الآن بالذات، فأردّ بأن الفترة القريبة الماضية - ولنقل اسابيع قليلة- شهدت تقولات وتطاولات جديدة في توقيتها، ولكنها مكرورة في فحواها عن الجواهري الكبير، والتي عنتها – وتعنيها الشواهد التي اتيّنا بها في متن هذه الكتابة، ومنها عن قصائد مديحه، فضلا عن ادعاءات بعض الكتاب، و"المؤرخين" في تخيّل أو زعم هذا التوثيق وخلافه، ولربما نعود لتفاصيل أكثر بهذا المنحى (2)...

--------------------------------------------------

1/ نشرنا في الانترنيت، ومواقع اعلامية عديدة قبل ايام قليلة، ثبتاً بعناوين الاطاريح ورسائل الماجستير واسماء اصحابها، والجامعات التي اجازتها...

2/ كتبنا ونشرنا اكثر من موضوعة ذات صلة، في الفترة القريبة الماضية، لعلها تسهم في توضيح المزيد لمن يتوخى الاستفاضة..

 

الجواهـري في تسع اطروحات

دكتوراه، وثماني رسائل ماجستير

رواء الجصاني

 

    منذ تأسيسه في نيسـان عام 2002 حرص مركز الجواهري في براغ، على  توثيق العشرات من المواضيع والمحاور والكتابات عن شاعر الأمتين العرقية والعربية، وفي مقدمتها ما أجيز عنه من اطروحات دكتوراه ورسائل ماجستير، في جامعات عراقية وعربية رصينة.  وكان ذلك السعي يهدف لغايتين رئيسيتين بالأساس:  الاولى هي توفير المعلومات والمصادر للباحثين ذوي الاختصاص، والثانية للتأرخة الأشمل، لذلك العبقري الذي "ملأ الدنيا وشغل الناس" تنويرا في الشعر والفكر والحياة، وفي القرن العشرين تحديدا، بحسب زعمنا على الاقل .

      ومما يلفت الانتباه، او يتطلب لفته اليه، تنوع الجامعات التي اجازت – وفق رصدنا ومتابعتنا الى اليوم: تسع اطروحات دكتوراه، وثماني رسائل ماجستير، لباحثين متعددي الجنسيات، وتوزعت في العديد من العواصم والمدن العراقية والعربية، الامر الذي يؤشر - في تأكيد أضافي - ضخامة تراث الجواهري، وذيوع اسمه وعبقريته وشعره، ومجالات ابداعه، فضلا عما نهض به من مهمات وطنية وسياسية وصحفية وغيرها.

      ويقينا بأن ما سيلي في السطور التالية من ادراج لما بحثنا عنه، واحصيناه، وتابعناه بهذا المجال، ليس متكاملا . ولكن قد يفتح هذا التوثيق الباب لذوي الشأن اولا، ويحرضهم - كما الباحثين والمتابعين- لأكمال "الجرد" حول ما كتب عن الشاعر المجيد، وفي كل ذلك على ما نزعم: بعض توثيق للعطاء، ووفاء للعبقرية. كما انه الأمر يعني في ذات الآن، الأعنزاز بدورالباحثين الذين جهدوا في اتمام دراساتهم المثابرة، والتي تكللت بحصولهم على الالقاب العلمية التي يستحقونها.. اما السجل الذي نوثقه فهو كالتالي، وقد أعتمدنا في ترتيبه التاريخ الزمني:

الاتجاهات الموضوعية والفنية في شعر الجواهري، اطروحــة دكتوراه، اتممها: جميل عبد الغني محمد علي (جامعة الأزهر- 1994).

التمرد والخضوع في شعر الجواهري رسالة ماجستير اتممها: نواف قاسم سنجاري (جامعة صلاح الدين/ اربيل- 2001)  .

خصائص الأسلوب في شعر الجواهري رسالة ماجستير اتممتها: سهام قنبر علي (جامعة دمشق- 2002).

      4- الصورة الفنية في شعر الجواهري، اطروحة  دكتوراه اتممها: طارق عمر عريفي (جامعة دمشق- 2004).

5 - شعرية النص عند الجواهري اطروحة دكتوراه اتممها: علي الزهيري (جامعة بغداد- 2007)

6- خصائص الأسلوب في شعر الجواهري، اطروحة دكتوراه  اتممها: فوزي علي صويلح (جامعة صنعاء- 2008).

7- دراسة نحوية دلالية في شعر الجواهري، اطروحة دكتوراه اتممها: صالح عبد العظيم (جامعة القاهرة- 2009).

8- ملامح الحس القومي في شعر الجواهري،  رسالة ماجستير، اتممها: سعد صابر الدليمي (جامعة الانبار- 2009).

9- صورة العراق في شعر الجواهري، اطروحة دكتوراه، اتممها: احمد الذهب (جامعة السودان العالمية 2010).

10- البنية الإيقاعية في شعر الجواهري، رسالة ماجستير اتممها: مقداد محمد شكر قاسم (جامعة اربيل- 2011).

11- هجائيات الجواهري، رسالة ماجستير اتممها: عادل ناجح المكصوصي (جامعة الكوفة- 2011)

12- المفارقــة فــي الادب العربي الحديــث: محمــد مهدي الجواهري أنموذجا، رسالة ماجستير، اتممتها: منتهى حسن محمد علي (جامعة بغداد- 2013).

13- شخصية الجواهري من شعره، رسالة ماجستير اتممتها: عتاب مطير خضر (جامعة واسط - 2015).

14- مصادر ثقافة الجواهري من خلال شعره، اطروحة دكتوراه اتممتها: جوان عبد القادر عبد الله (جامعة القاهرة- 2015).

15- صدى القضية الفلسطينية في شعر الجواهري، اطروحة دكتوراه اتممها: عبد الرسول الهايي (جامعة طهران – 2017).

16- الغربة والحنيـــــــن في شعــــر محمد مهدي الجواهري، رسالة ماجستير، اتممتها: هبة محمد مصطفى (الجامعة اللبنانية - 2017).

17- الملوكيات في شعر الجواهري، اطروحة دكتوراه  اتممها: ستار جبر حسين (جامعة الكوفة- 2017).

   ختاما دعونا نعبر عن الشكر وألاعتزاز، ، فنقول بأن ثلاثة على الاقل من الباحثين الاجلاء اعلاه قد اشاروا في خلاصات ابحاثهم عند مناقشتها امام اللجان المشرفة، الى ما قدمه مركز الجواهري، وكاتب هذه السطور تحديدا، من مساعدات ملموسة في توفير بعض مصادر، ومراجعة عدد من الشؤون ذات الصلة، وغيرها، وذلك خلال فترة تفرغهم الدراسي، الذي تكلل بالتحصيل المتميز. والمعنيون الافاضل هم: د. جوان عبد القادر عبد الله، ود. عبد الرسول الهايي، والماجستير، هبة محمد مصطفى، مع التمنيات لهم بمزيد من التألق في مجالات اختصاصهم الجديرة بكل تقدير ...

-------------------------------------* رواء الجصاني: اواسط نيسان 2019

 

أزيّـد من خمسين كتاباً

ومؤلَفاً عن الجواهري الخالد

* رواء الجصاني(1)

 

     ضمن الجهود الحثيثة، الراهنة، التي تنهض بها أمانة العاصمة بغداد، وبأشراف مباشر من أمينها، السيدة ذكرى علوش، لأكمال متطلبات تجهيز وأفتتاح "بيت الجواهري" بمنطقة القادسية/ اليرموك، متحفاً ومركزا ثقافيا في بغـداد، وثقتُ - لذلك الغرض-  أزيد من خمسين مؤلفاً مطبوعاً، بين دراسات وبحوث، ادبية وأكاديمية، وذكريات وغيرها، لكي تزدان جدران "البيت" المنتظر بصور اغلفتها، الى جانب صور اخرى شخصية وعامة للرمز الوطني  والثقافي الكبير، وكذلك ما يتوفر من حاجات، وأصول كتاباته، والهدايا والاوسمة التي مُنحت له، وغير ذلك من مقتنيات، يسعى "كفــاح" نجل الشاعر الخالد الى جمعها، من الأسرة، مضيفا لها ما يتيسر عنده شخصيا..

     ووفقاً لما نتابع الآن، فأن من المفترض أن يكون "بيت الجواهري" متاحاً  امام الضيوف والزوار، والجمهور، في غضون الاسابيع القليلة القادمة.. متباهين من جديد بأن مركزنا - مركز الجواهري في براغ- كان السبّاق، في أنقاذ "البيت" وهو الاول والاخير الذي يتملكه الشاعر الخالد في العراق طوال حياته التي أمتدت – كما هو معروف -  لنحو مئة عام (1899-1997)... فبعد أن كاد ذلك "العقار!" معروضاً للبيع تجارياً، أشعنا حملة واسعة عام 2011  تكللت بالنجاح، فقامت أمانة العاصمة بشرائه من الورثة، وأستملكته لتحوله الى مقام وتراث تاريخي، حضاري، تفتخر به الاجيال القادمة، لشاعر البلاد، والأمتين العربية، والعراقية، ورمزهما الثقافي في القرن العشرين، على الأقــل .

    وفي عودة لتوثيق الكتب والمؤلفات التي  بحوزتنا في المكتبة الشخصية، ومركز الجواهري ببراغ، وقبل البدء بتعدادها، لا بدّ من التنويه الى ان تسلسلها جاء وفقاً لما هو مرتب في رفوف المكتبة العامرة، مع حفظ الالقاب، والاهمية، للمضامين، والمؤلفين العراقين والعرب. كما ننوه ايضاً بأن الافضل – طبعاً- لو كان قد جرى استكمال متطلبات التوثيق لتلكم الكتب والمؤلفات، بأضافة سنة الاصدار، وكتابة موجز او لمحة سريعة عن كل واحد منها، وأضافة دار النشر التي لم يظهر عدد منها في القائمة المدرجة، وذلك ما نعدّ ان نستكمله في القريب:

1/ الجواهري، مجمع الاضداد – سليمان جبران

2/ لغة الشعر عند الجواهري – د. علي ناصر غالب

3/ الجواهري، دراسة ووثائق – د. محمد حسين الاعرجي/ دار المدى

4/ الجواهري – يوسف شنوت الزبيدي – دار دجلة

5/ الجواهري.. وعي على ذكرياتي – د. فلاح الجواهري/ المدى

6/ دراسات ادبية في شعر الجواهري – د. جليل حسن محمد / دار دجلة

7/ مع الجواهري.. الحدث والذات والقصيدة – زهير الجزائري/ جامعة الكوفة

8/ الجواهري صناجة الشعر العربي في القرن العشرين - د. زاهد محمد زهدي/ دار القلم

9/ البنية الايقاعية في شعر الجواهري – مقداد محمد شكر قاسم / دار دجلة

10/ الجواهري: شعر المفارقة وهاوية الشاعر – د. محمد الكواز / وزارة الثقافة العراقية

11/ الجواهري.. بعيون حميمة – رواء الجصاني/ دارا: بابيلون، وميزوبوتاميــا 

12/ الجواهري: رؤية غير سياسية – حسن العلوي

13/ شعرية النص عند الجواهري – د. علي عزيز صالح / دار الكتب العلمية

14/ الجواهري صحفياً – د. كفاح الجواهري/ مكتبة عدنان

15/ الجواهري، شاعر وناثر – مهدي شاكر العبيدي

16/ الجواهري بلسانه، وبقلمي – سليم البصون/ ميزوبوتاميا

17/ الجواهري النهر الثالث – د. خيال الجواهري

18/ حوارات مع الجواهري – محمد صالح عبد الرضا / وزارة الثقافة العراقية

19/ جواهري العراق .. عراق الجواهري – د. محمد جواد رضا

20/ محمد مهدي الجواهري – سليم طه التكريتي/ دار الريس

21/ تحليلات عروضية لشعر الجواهري – عبد الحميد الرشودي

22/ الجواهري قصائد وتاريخ ومواقف – كفاح الجواهري ورواء الجصاني

23/ الجواهري ناقداً – وسام حسين العبيدي

24/ الجواهري اصداء وظلال السبعينات – رواء الجصاني/ دار بابيلون

25/ تشكيلات اسلوبية في انموذجيات جواهرية – د. فليح الركابي

26/ الجواهري دراسات نقدية - اشراف هادي العلوي

27/ الغربة في شعر الجواهري – احمد المصعب / وزارة الثقافة العراقية

28/ الجواهري سيرة قرن – خيال الجواهري

29/ الجواهري جدل الشعر والحياة- عبد الحسين شعبان

30/ من معجم الجواهري – د. سعيد جاسم الزبيدي/ كنوز المعرفة

31/ الجواهري ديوان العصر – حسن العلوي

32/ الفارس والحلبة – عبد الجبار داود البصري

33/ الجواهري الليالي والكتب – صباح المندلاوي

34/ الجواهري شاعر على العصر (ما نُشر في جريدة الحياة) اعداد عزيز الزيادي

35/ الجواهري ايقاعات ورؤى – مركز الجواهري/ دار بابيلون

36/ الجواهري هذا المغني لنور الشمس – عبد الأمير شمخي الشلاه/ دار المدى

37/ استذكار الجواهري تباهٍ بالوطن والشعر والتنوير – مركز الجواهري/ دار بابيلون

38/ هجائيات الجواهري – عادل ناجح البصيصي / جامعة الكوفة

39/ جمهورية الجواهري – د. عقيل مهدي – مكتبة عدنان

40/ الجواهري فارس حلبة الادب – محمد جواد الغبان –/ دار المدى

41/ الجواهري شاعر من القرن العشرين – د. جليل العطية / منشورات الجمل

42/ محمد مهدي الجواهري- سعدي يوسف/ دار المدى

43/ الجواهري في عمان : اللامية ومعارضاتها – حمودة زلوم / وزارة الثقافة الاردنية

44/ البنية الايقاعية في شعر الجواهري – مقداد محمد شكر قاسم / دار دجلة

45 / كردستان في ضمير الجواهري- د. وريا عمر امين/ جامعة جهان- اربيل

46/ انماط الصراع والتطور الابداعي في شعر الجواهري – د. جلال مهدي / مكتبة عدنان

47/ الجواهري حياته وشعره – يوسف عطا الطريفي / دار الاهلية

48/ شعر الجواهري دراسة بلاغية اسلوبية – حسن محمد سعيد الحيالي

49/ في رحاب الجواهري- صباح المندلاوي/ دار علاء الدين

50/ الجواهري.. عامان على الرحيل- رواء الجصاني/ بابيلون

51/ الجواهري في جامعة الموصل – كلمات ومختارات / جامعية الموصل

52/ حوارات مع الجواهري- محمد صالح عبد الرضا/ وزارة الثقافة العراقية

53/ الجواهري وسمفونية الرحيل – د. خيال الجواهري

54/ مشاهير وشخصيات وأسماء في قصيد الجواهري – رواء الجصاني

   وهنا لا تفوتنا الأشارة ايضا الى ان كل ما تم توثيقه اعلاه لا يشمل الموجود من دواوين الشاعر الخالد، ومؤلفاته الخاصة، التي تزهو بها مكتبتنا الشخصية، ورفوف مركز الجواهري في براغ، وتتعدى الخمسة والعشرين مطبوعا، سنقوم بتوثيقها لـ (بيت الجواهري) ببغداد، كما للتاريخ والباحثين، والاجيال، ثروةً عراقية شعرية وثقافية وسياسية قلّ نظيرها (2).

    أخيرا، نودّ التوثيق ايضاً  الى ان هناك نحو عشرين أطروحة دكتوراه، ورسالة ماجستير، كُتبت وأجيزت عن الجواهري الخالد، من جامعات عواصم ومدن عراقية وعربية عديدة، لم تجرِ طباعتها، أو أنها جاهزة للطبع، ومنها جامعات: بغداد والقاهرة والخرطوم والكوفة والبصرة واربيل وصنعاء وبيروت... وغيرها. وقد سبق أن نشرنا حولها، أو أشرنا للعديد منها في الاعوام القليلة الماضية(3) ولنا عودة جديدة للحديث عنها، في توثيقات قادمة...

    ----------------------------------------------- * رواء الجصاني اوائل نيسان/ 2019

ملاحظات وإحالات:

1/ مدير مركز الجواهري، ورئيس تحرير مؤسسة "بابيلون" للأعلام/ براغ.

2/ لعلّ من المناسب هنا دعوة الجميع، مثقفين وأدباء ومعنيين، لتزويدنا بما لديهم من عناوين لكتب ومؤلفات عن الشاعر الخالد، وصور اغلفتها، ونبذ موجزة عنها، بهدف التوثيق لها.

3/ منشور عنها ايضا في كتابنا "الجواهري... بعيون حميمة" الصادر عام 2016.

 

 

 

عراقياتٌ من هذا الزمان،

في ذاكرة سياسي عتيـق

رواء الجصاني

 

   .. ويحين موعد الحديث عن ذكريات ومحطات شخصية حول "عراقيات من هذا الزمان" ولا بـدَّ ان يأتي حديثا متميزاً عن توثيقاتك الاخيرة – ايها الرجل- والتي كانت بعشرين حلقة وحلقة،  وعنونتها "عراقيون من هذا الزمان".. والتميّز هنا أحلى بالطبعِ وما في ذلك من نقاش، أذ أنت ستكتب وتوثق لمن"زنَّ الحياةَ بوعدهنَّ، وشننها بوعيدهنَّ" بحسب الجواهري الخالد، شعراً غنياً، وتجربة غناء!.

والبدايةُ تساؤلات

    تنهمر عليك - ايها الرجل البادئ في استعادة، واستذكار مسار نصف قرن- تساؤلات دون مدى عما تبتغيه من هذه السطور ؟ ولمن تكتبها ؟ وماذا يهم الناس ان جاءت بهذا الشكل أو غيره؟.... وتجيب: ان بعضها للتاريخ العازف عن التزوير، وقسماً منها للواتي لم يأخذن حقهن امام ما قدمنّ من عطاء وجهد نبيليّن. كما انها قد تفيد السائرات والسائرين على طريق حبّ الناس والبلاد، الطامحين الى الارتقاء والسعادة.. ولا تنسَ انها – هذه التأرخة- تأتي ايضاً وايضاً للتباهي، فالمرء يعرفُ باصدقائه، ويعرّفُ بهم، كما تؤمن أبداً بذلك الشعار او الحكمة. وهكذا "فأعقلها، وتوكل" كما شائع بين الناس...

نبيهـة وبلقيـس

   ولتحترسْ، وأعبرْ مرحلتي الصبا والفتوة ففيهما ما "قد" لا يصلح للكتابة في سياق ما خططتَ له من محطات ومسارات وحدود، برغم ان هناك صلات وصلٍ وربط وما بينهما.. وعسى أن تجد لهذه "المحظورات" اليوم، فرصاً اخرى وبعناوين أخرى، ربما تصلح للنشر حينذاك!. ثم أبتدئ، وتوقفْ بزهوٍ عند أيقونتيّن تركتا فيك، وعندك، ذكريات وعبراً وقيماً انسانية قدرها الآخرون قبل ان تقدرها انتَ ايها الرجل . الاولى طبعاً هي الامُ، نبيهة الجواهري، زوجة السيد جواد العريضي، الحسيني، الملقب بالجصاني، وشقيقة الشاعر الأكبر، التي عشت معها، وعاشت معك – حياةً - لثمانية وثلاثين عاما، منذ ولدتَك عام 1949 وحتى رحيلها عام 1987. أما الايقونة الثانية فهي بلقيس عبد الرحمن، ارملة الشهيد البطل وصفي طاهر، أم زوجتك نسرين، والتي عشتَ معها ثلاثين عاما، نحو عشرين منها في بيت واحد، في براغ، وحتى رحيلها عن عالمنا عام 2001.

زميلات زاهيـات

    .. وتتذكر ايها الموثقُ، والساردُ، بدايات الدراسة  في جامعة بغداد، وفي معهد الهندسة العالي تحديدا، عام 1967 حين التقيتَ في الصفوف والقاعات والنشاطات الاجتماعية والسياسية، وعلى مدى ثلاثة اعوام بجميلات في عمر الزهور، انيقات بواهـر، بعضهن نشطَ  في مجالات العمل الجماهيري، الديمقراطي والوطني، والاجتماعي، ورحنّ يباريّن أقرانهن الشباب في بعض الاحيان.. وأقدحْ ذاكرتك ايها الرجل، وأختبرها وسجلْ ان من بينهن: أزهار وآلاء  وخولة وسراب وسهام وكواكب وليلى ومعتبر ومنى وهناء وهيفاء... وورود أخريات من عاطرات الخلق والأخلاق، من بغداد والبصرة والموصل، ومدن العراق الاخرى.

جامعيات مناضلات

    ثم يشتدُّ عودك ايها الرجل في العمل السياسي، وتتكلف، وتتكفل، منذ عام 1969 وحتى عام 1978 وبأشكال متنوعة، بمتابعة هيئات ديقراطية اتحادية (نسبة لأتحاد الطلبة العام)  وتشكيلات حزبية شيوعية، في مختلف كليات ومعاهد بغداد، ومنها بشكل رئيس: الادارة والاقتصاد، والقانون والسياسة، والاداب واكاديمية الفنون، والزراعة، والطب البيطري، وجامعة التكنولوجيا.. ولا شكّ أنك لن تنسى هنا نشيطات بواسق كنّ ما كنَّ في الشجاعة والرقي الثقافي والحرص الوطني، طموحاتٍ للأمل من اجل سعادة الشعب وحرية الوطن، وتحملنّ ما تحملن في سبيل ذلك، أمتشقنَّ الكتب الدراسية بيد، والمناشير والادبيات السياسية بيدٍ أخرى، فجمعن المجد من اطرافه، ومنهن: انعام وآشتي ورجاء وسراب وسوسن وسناء ولمى وملاك، ورفيقاتهن الأخريات.... وقد التقيت بالعديد منهنّ لاحقا في عواصم العالم المختلفة، ومنها في دمشق وبراغ وصوفيا وموسكو وعدن، بعد الاضطرار للخروج من البلاد اواخر السبعينات، حين كشرّ البعثيون الماجنون عن أنيابهم، فلاحقوا واضطهدوا وعذبوا وسفحـوا .. وقد كنّ – ولم يزل عديد منهن- مستمرات في تلكم النشاطات السياسية منها، والجماهيرية والعامة، ولربما تقاسمنَ أو سلمنَّ "الراية" للأبناء وحتى الاحفاد!..

شهيدات شاهقات

      وإذا جاز لك أن تنسى في زحمة العمر - وما أوسعها- فلا يجوز لك - ايها الرجل السياسي المتقاعد، والحامل جذوة الذكريات - ان تنسى باذخات العطاء والروح، الشهيدات الخالدات: زهور اللامي وشذا البراك ورمزية جدوع، اللواتي كنّ يضوعنّ عطاءً في اجتماعاتكم السياسية والحزبية والاجتماعية، ورحنَ وفياتٍ أمينات، صبورات على الأذى، شاهقات في تضحياتهن الجلى للمبادئ القيم والمبادئ التي آمنّ بها، وهل ثمة أغلى من أن يجود المرء بحياته على تلكم الطريق؟!.

على " طريق الشعب" وفيها

  ما زلت في بغداد ايها الرجل، فلم تحن الساعة البعثية اللئيمة بعـد، فتذكر أذن كيف كانت جريدة الحزب الشيوعي "طريق الشعب" عامرةً تزهو بمحررات وشغيلة، زاملتهن ورافقتهنّ لأزيد من خمسة اعوام (1973-1978) وهنّ ينشطن في المهمات المكلفات بها، بل ويزدنّ دون حساب الوقت أو التعب، فالهدف اسمى، والحلم بهيّ ، والطموح بلا منتهى، ودونما خشية من الغدر البعثي المتوقع والقادم.. تذكرالرائدات، والواثبات: أميرة مهدي ورجاء الزنبوري وسعاد خيري وسعاد الجزائري وسلوى الجلبي وسلوى زكو وسهام الظاهر وفاطمة المحسن وعفيفة لعيبي ومنى سعيد..

وفي المغترب/ المنفى

   وتقودك الايام والظروف لما أنت لم تخطط  له ايها الرجل، فتصل براغ، وها أنت مستقر فيها  منذ اربعة عقود بالكمال والتمام.. وطوال تلك الفترة، ومن خلال متطلبات مهام وطنية وفعاليات سياسية وثقافية واجتماعية، ألتقيتَ وزاملت ورافقت وتعرفتَ على باسقات عديدات، طالبات ومقيمات وعاملات، متنوعات كتنوع الازهار الربيعية، حافلاتٍ بكل جميل وجميل. ولا شكَ ان ثمة علاقات متميزة سادت مع البعض منهنّ بحكم المشاركة في الهيئات السياسية والحزبية والديمقراطية، مثل الراحلات الجليلات : نزيهة الدليمي  وبشرى برتو ، وروناك علي، ونضال وصفي طاهر.. والعزيزات : أيسر شوقي وخيال الجواهري وساجدة علوان وساهرة محسن، وشروق العبايجي وصنوبر عبد الكريم وفاتن الجراح وكفاح اسعد خضر وعميدة مصري، وعواطف جبـو، ومها الناصر ووَسن عبد الهادي، وعديد آخر ممن تحملن مسؤوليات في هيئات منظمات ديمقراطية (جمعية الطلبة، رابطةالمرأة، جمعية الطلبة الاكراد، والمنتدى العراقي ) أو تشكيلات سياسية..

    وفي براغ ايضا، لا تنسَ انكَ تعرفتً - ايها الرجل الموثق -  على (شقائق نعمان) أخريات نشطن طلابياً وسياسيا ومنهنّ من تركنّ دراستهنّ والتحقن بنضالات الحزب الشيوعي العراقي داخل البلاد، وفي كردستانها بشكل رئيس، ضمن فصائل مسلحة لمقارعة الديكتاوتورية والارهاب، خلال الثمانينات الماضية، مثل ايمان وجمانة وسندس وعائدة ولمياء ونضال وهند .. ومنهنّ ايضا (أيسر) و(وسن) اللتين مرّت الاشارة لهما في سطور سابقات..

   وما دمت في براغ فلا تنسَ - ايها الرجل- نسوة عراقيات عريقات كرّمنكَ بمعرفتهن، شغيلة، واعلاميات وزوجات اصدقاء اعزاء، ومنهن : فائزة وزاهرة و ونيكار وياسمين ويسار.. ثم تالياً: سميرة وفريال وفيروز وميسون.. دعْ عنك الدبلوماسيات اللواتي حللنّ في براغ ضمن بعثات السفارة العراقية، ما بعد الاطاحة بنظام الارهاب البعثي عام 2003 ومن بينهنَّ: امال وأحلام، وآلاء، وكردستان ونغــم ونـور ...

وفي عواصم الدنيا

     لهذا الشأن السياسي والطلابي، أو لتلك الحالة الاجتماعية وسواها، تنقلت ايها الرجل الساردُ، في مختلف عواصم ومدن الدنيا، ومنها في دمشق وعدن وكوبنهاغن وديترويت والجزائر ولندن وبيونغ يانغ، بالأضافة الى براغ طبعاً، فالتقيت وتعرفت – ايها الباحث عن التوثيق والتأرخة- على عراقيات ما برح بعضهن يواصلن العطاء والنشاط الوطني والاجتماعي، وبقيّن ويبقيّن في الذاكرة السياسية والاجتماعية وممن اقاموا أو رحلوا: انعام العبايجي وأنباء جاوي وايمان سلام عادل، وبدور زكي، وبثينة شريف وذلفاء الخفاجي، ورجاء كمال الدين، ورجاء الدوغجي وسعاد البياتي وسلمى جبو، وسهام الجواهري، وشوقية العطار وفائزة الجواهري، وفخرية عبد الكريم (زينب)  ولهيب الراوي وناهدة الرماح، وهناء ادور، ومي الاوقاتي.. وزاهيات عديدات أخريات..

والذكريات صدى السنين ..

   ها أنت تختتم الاستذكارات العجول – ايها الرجل- ولكنك لن تستطع ان تختتم المحبة، وما رسخ في الاعماق من ذكريات تتدفق شلالات عذبة من تلقاء ذاتها. مرات بفرح لا مدى له، واحياناً بأحزان مرةٍ على من رحلوا عن دنيانا الكذوب ..

   ولعل العديد سيسأل وماذا عن نسرين وصفي طاهر؟ الانسانة والسياسية الدؤوب، أذ لا ذكر لها، ولا أشارة  في هذه المحطات الوجدانية والتوثيقية. والجواب حاضـرٌ، بل وزاخرٌ ايضاً، وهو ان نصف قرن من الزمالة والصداقة والحب والرفقة الزوجية والحياتية والنضالية والاجتماعية، لا تستوعبها مثل هذه الوقفات، ولكن لها توثيقات تطول وتطول، وعسى ان تكون قيّدَ القراءة في قادم الايام القريبة ..

   وعلى امل توثيق ذكريات لاحقة، لصدى السنين، الدفاق  الجميل، أعتذر ايها الرجل عما لم تسعفك به الذاكرة من اسماء "عراقيات من هذا الزمان" ولا شكّ فأنهنّ سيسامحنّكَ عن ذلك، لأنهنّ يعرفنّ مسبقاً بأن لا قصد مما كان سوى السهو، وحسب ... فهنَّ، ومن سبقت الاشارة اليهنّ، كنّ واحاتِ يانعات زدنَّ الدنيا بهجة وعطاءات وتجارب انسانية، كمْ تعلمت منها، وكمْ أفتخرتَ بها، وما برحتْ...  

-------------------------------------------------- بـراغ / اوائل نيسان 2019

  

بضع ملاحظات حول

"عراقيون من هذا الزمان"

رواء الجصاني

   بعد الجولة الاولى من توثيقات (عراقيون من هذا الزمان) التي شملت محطات واستذكارات شخصية لعشرين صديقاً، هذه جردة سريعة حولها، مع توضيحات وتنبيهات ربما تعطى صورة اكثر شفافية لما اردتُ فكتبتُ، برغم ان هناك في بعض الحلقات، ولأكثر من مرة،  ما يفيد تلك الغاية. ولا بدّ اولاً من الاشارة الى سروري البالغ لما حظيت به تلك التوثيقات من اهتمام بصور واشكال شتى ...

    والشخصيات العشرون التي تمت الكتابة عنها خلال الاسابيع القليلة الماضية هم، وبالتسلسل التي جاءت به: 1/ علي جواد الراعي، 2/ وليد حميد شلتاغ، 3/ حميد مجيد موسى، 4/ خالد العلي، 5/ عبد الحميد برتـو، 6/ موفق فتوحي، 7/ عبد الاله النعيمي، 8/ شيرزاد القاضي، 9/ ابراهيم خلف المشهداني، 10 عدنان الاعسم، 11/ جبار عبد الرضا سعيد، 12/ فيصل لعيبــي، 13/ محمد عنوز، 14/ هادي رجب الحافظ،، 15/ صادق الصايغ، 16/ صلاح زنكنه، 17/ عباس الكاظم، 18/ هادي راضي، 19/ ناظم الجواهري، 20/ ليث الحمداني... وكل الحلقات كُتبت دون معرفة اصحابها، ولم يكن لهم اي اطلاع على ما أحتوته من تفاصيل، ونشرت جميعها في العديد من وسائل الاعلام..

    ومما يهم ان اشير له ايضا ان التسلسل قد جاء تلقائياً، وبحسب ما جادت به الذكرة، ودون اي اعتبار آخـر.. وكل الشخصيات المعنية كما هو واضح – ومع ذلك انوه اليه هنا – هي ممن لا تشغل الآن اية مهمة او منصب وغيره، سوى تميّزها بالروح الانسانية كما ادعي شخصيا على الاقل. وقد عمدتُ لذلك الاختيار أحترازا من احتمالات تنطع هنا أو تقوّل هناك، مع تأكيدى بأن ثمة شخصيات عزيزة أخرى لي معها - ولها معي - وشائج وصداقات وذكريات، جديرة بالتوثيق والتأرخة، ولكن قد أجلت الحديث عنها لفترات قادمة،  والى حين زوال الاسباب !.

    ومن الجوانب الاخرى التي شجعتني على الخوض بهذا المضمار – او المغامرة بحسب تعبير احد الاصدقاء- تصورى، بأن الاعزاء الذين كتبت لهم وعنهم، لم يأخذوا حقهم في التأرخة، أو ان الاضواء لم تسلط عليهم وعطاءاتهم العامة، السياسية والابداعية وغيرها، بشكل مناسب، يرغم تجاربهم الحياتية التي تؤشر لقيم ومواقف ما أشد الحاجة اليها في يومنا لمعاصر، والعراق يمرّ بما يمر فيه، خاصة وأن الغالبية منهم لم يدونوا ذكرياتهم وسيرهم حتى الان.

    ومن الملاحظات والتعقيبات التي اباح بها متابعون محترمون أني لم اتطرق لجمع كريم آخر، وكان ردي بأن هناك كتابات اخرى عنيّت بأحباء عديدين، ونشرت في وسائل اعلام مختلفة، وكذلك في كتابي: الاول "الجواهري .. بعيون حميمة" الصادر عام 2016 في بغداد، والثاني "تاريخ وشهادات ورؤى" الصادر هذا العام 2019  .. ومن بين اولاء الاعزاء: عبد الرضا علي، عبد الكريم كاصد وعواد ناصر يحيى بابان "جيان" وجمع كريم آخر.. اما الراحلون الاحبة فثمة ستٌ واربعون كتابة او ايجازا لهم وعنهم، ووعن العلاقة معهم، جلّها في كتابي الثاني المشار له اعلاه، وهم : 1/ آرا خاجودور، 2/ أسعد خضر اربيلي، 3/ بشرى برتو، 4/ تالي المالكي، 5/ ثابت حبيب العاني- ابو حسان، 6/ حسين العامل، 7/ جمعة الحلفي، 8/ جميل منير العاني، 9/ خالد يوسف متي، 10/ زكي خيري، 11/ زهير عمران، 12/ سامي العتابي، 13/ سعدون علاء لدين البياتي، 14/ سعود الناصري، 15/ شذى البراك، 16/ شمران الياسري- ابو كاطع، 17/ صالح دكلة- ابو سعد، 18/ صالح محسن الجزائري، 19/ صفاء الحافظ، 20/ صفاء الجصاني، 21/ عادل الربيعي، 22/ عادل مصري- ابو سرود، 23/ عادل وصفي، 24/ عامر عبد الله، 25/ عباس عبيدش، 26/عزيز سباهي، 27/ عزيز محمد، 28/ علي حسن- ابو حيدر، 29/ غانم حمدون، 30/ فائق بطي، 31/ فائزة باقر الجواهري، 32/ فالح عبد الجبار، 33/ فرات الجواهري، 34/ محمد حسين الاعرجي، 35/ محمد سعيد الصكار، 36/ محمود البياتي، 37/ محمود صبري 38/ مصطفى الدوغجي، 39/ مصطفى عبود، 40/مدي الحافظ، 41/ مؤيد نعمة، 42/ هادي العلوي، 43/ وصفي طاهــر، 44/  نزار ناجي – ابو ليلى،  45/ نضال الليثي، 46/ نضال وصفي طاهر.

     ومن المؤكد - كما اخطط وأسعى - ان هناك في الفترة القادمة جولة جديدة، وربما أكثر، في السير على ما تمت كتابته، لتضاف الى الباقات السابقة، باقات أخرى من المعارف والاصدقاء والاحباء، دعو عنكم الصديقات والزميلات والرفيقات ممن "زنَّ الحياة بوعدهنَّ، وشننها بوعيدهنَّ" وكم أتمنى ان لا أقصرّ في الاتيان بجميل الذكريات والتأرخة بذلك المسار برغم بعض تعقيداته، وأعني مراعاة بعض ظروف، وربما بضعة اسرار ايضا!!..

     وبحسب ملاحظات بعض الأعزاء فأن ثمة ايجازات في التوثيقات والاستذكارات التي نعني بها هنا، كما هناك تركيز على الجوانب الجميلة فقط... ومع أني أشرت لأكثر من مرة بأن المقصود والهدف ليس كتابة سير ذاتية، أكرر مرة اخرى لمزيد من التوضيح بأن جميع المنشور جاء بشكل أو آخر بقدر ما توفر لي من مشاهدات مباشرة، أو علاقة بتلك الشاكلة وغيرها. مع التنويه مجددا بأن كل ما تم توثيقه جاء وفق الذاكرة، ودون اي تداول مع الاحبة الذين تمت الكتابة لهم وعنهم.

    أخيراً، وايضا حول ما تستهدفه هذه الاستذكارات والتوثيقات، أشيـر الى انها جاءت للتعبير عن بعض وفاء، وتأرخة موجزة لكثير من العطاءات التي لا اجد تفسيرا مناسبا لتركها الى المستقبل، دون ان تكون شهادات عيان ليضيف لها اصحابها ما يعتقدون بأهميته، ويصححون ويزيدون وينقصون، وخاصة ان ثمة الكثير مما ينشر هنا وهناك بات مليئا بغير الدقة على اقل وصف، الى جانب استقاء المعلومات التاريخية من غير مصادرها، مما يشوه بعضها عمداً، او بدون قصد.

     اما على الجانب الشخصي فلن أتردد في القول هنا ان هذه الاستذكارات والوقفات التاريخية تأتي ايضا لأشهار علاقات وصداقات شيئت لي مع مناضلين وشخصيات وطنية وعامة، كما محبة وتعارف مع غيرهم، وفي كل ذلك وهذا: رصيد حياتي، ومعنوي، هو كل ما توفر لي في العالم المادي وعلى مدى اكثر من نصف قرن، اي بعد مرحلة الصبا والفتوة الجميلتين. وليست بجديدة على الكثيرين حكمة أو مقولة " ان الانسان يُعرف من اصدقائه" وها أنذا سائر على تلكم الطريق! .

          ------------------------------------------------ * براغ/ آواخر آذار 2019

 

  

 

 

ستة وخمسون عاما على

كارثة شباط الاسود في العراق

رواء الجصاني

 

هل ساعد الزعيم عبد الكريم قاسم على نجاح الانقلاب البعثي الفاشي عام 1963؟!

رواء الجصاني

-------------------------------------------------------------
    ليس بالضرورة ان تكون قراءة التاريخ، وتوثيقه، دعوة للثأر او الاثارة دائماً، ولكن ذلك قد يكون بهدف التنبيه والتأشيرعلى الاقل، لكل الذين لا يعون، او الذين لا يريدون ان يستفيدوا من تجارب ووقائع الحياة، واحداثها، بحسب الجواهري الخالد، في بيته المدوي: 

ومن لم يتعـظْ لغـدٍ، بامسٍ، وان كان الذكيّ، هو البليدُ

    ولا ندري - بل وربما ندري، ونتعمد خلاف ذلك! - كم نحتاج، وسنحتاج، اليوم لفهم وتبني تلكم الحكمة الجواهرية في عراقنا المعاصر، وثمة مخلصون و"طيبون" وغيرهم ممن يدعون - بدون ضوابط - للتسامح ونسيان الماضي، ولربما انهم ما برحوا مأخوذين بذلك الشعار الشهير: عفا الله عما سلف، الذي تبناه زعيم الجمهورية الاولى، عبد الكريم قاسم، طوال تفرده بالسلطة، حتى راح من عفا عنهم يسوقونه اولاً، مع ابطال نجباء، الى محرقة البعث الاولى، يوم الثامن من شباط عام 1963 الذي نكتب هذه السطور بمناسبة ذكراه السنوية السادسة والخمسين التي تمر هذه الايام..

    وان كانت الغرابة لا تثيرنا كثيرا حين يتحدث العامة عن "ضرورات التسامح" و"أهميات الالفة" و"حسنات النسيان" ... دعوا عنكم الغفران . ألا ان الغرابة تثيرنا وبلا حدود حين يتحدث بذلك الاتجاه، سياسيون ومثقفون، ديمقراطيون – أو هكذا ينبغي- بطيبة مرة، وعن قصدية مبتغاة، لمرات ومرات، وبدعاوى "الوطنية" وشعارات مكرورة مثل: "الاهم قبل المهم" و"العدو الاشمل" و" المؤامرة ضد الامة" ... و ما الى ذلك من مشابهات ومزايدات، لسنا في حال التصدى لها في هذه الكتابة على الاقل .

     وبذلك الاتجاه الذي تعمدته السطور السابقات، اي للوقاية والاحتراز من الطيبة الزائدة، نسعى هنا لتحفيز الذاكرة - وذلك اوسط الايمان - من خلال اجتزاء شهادات تاريخية وثقتها بلقيس عبد الرحمن، زوجة الشهيد العميد، وصفي طاهر، احد ابرز اقطاب ثورة / حركة الرابع عشر من تموز عام 1958 التي اطلقت الجمهورية العراقية الاولى، وحتى اغتيالها في الانقلاب البعثي الاول في شباط الاسود عام 1963 (*).

 

*عشية الانقلاب المشؤوم 

    تكتب بلقيس، زوجة وصفي طاهر، وهي شاهدة عيان ما نصه: "بتاريخ الأربعاء 6/2/1963 اتصل الزعيم عبد الكريم قاسم هاتفياً بوصفي طاهر، ليلا، وطلب حضوره الى مقره بوزارة الدفاع، فأسرع ليرتدي ملابسه، ويتوجه الى هناك على الفور، وبقي الى صباح اليوم التالي - الخميس 7/2/1963. وحينما عاد، قال لي: "لقد اطلعني الزعيم على قائمة بأسماء الضباط الذين يدبرون مؤامرة ضد الثورة، واكثرهم من البعثيين"...

    وقد أجابه - وصفي: "وماذا تريدني ان اعمل وانا ليس لي غير مسدسي؟! سأنزل الى الشارع مع الشعب واقاتل"... فردّ عليه قاسم: "لا تتكلم هكذا؟ فأنا سأسحق المتآمرين، ولن ادع اية مؤامرة تمر". فقال له وصفي: "ليكن في علمك ان المعادين للثورة من الرجعيين وغيرهم، التفوا حول البعثيين، ومعهم اذناب الاستعمار، والقوة كلها سلمتها لهم، في ذات الوقت الذي جرى فيه ابعاد المخلصين من الضباط، وحتى الجنود، عن المراكز المهمة، وانا - وصفي - وغيري من محبيك، نتوقع كل ساعة ان تحدث مؤامرة، ولكنها ستكون هذه المرة حالة كبيرة لا نعرف نتيجتها، وربما تنجح، وعندها سينتقمون من كل مؤيديك والجمهورية".

... اما  الزعيم فقد اجابه: "اطمئن، الجمهورية قوية والشعب قوي، وسوف ترى كيف سأقضي على المتآمرين". فقال له وصفي: "انت المسؤول عن سلامة البلاد والشعب، ويجب ان تأخذ حذرك، ولا تصدق لاحقاً كلام المنافقين""...

*صبيحة اليوم الاسود

   وتستمر "بلقيس" في ذكرياتها المخطوطة، فتقول: "في صبيحة يوم الانقلاب المشؤوم (الجمعة 8 شباط 1963) كنا نشاهد التلفزيون على الفطور، فاتصلت بنا احدى الصديقات لتنقل لنا بأن خبراً يُذاع من مأذنة جامع المأمون، غرب بغداد، التي تسكن قريباً منه، يقول بان هناك ثورة ضد الزعيم عبد الكريم قاسم... فأرتدى وصفي ملابسه فوراً، ليخرج الى حيث يقيم الزعيم، وكان معه 90 ديناراً أعطاها لي. ولما وصل الى هناك اتصل بنا وقال لا تبقوا في البيت، لأن المتآمرين هجموا على بيت العقيد فاضل عباس المهداوي (رئيس محكمة الشعب). وقد ذهبنا فعلاً الى بيت اقربائنا... وفي اتصاله الهاتفي الأخير معي، قال لي: نحاول السيطرة، وكوني شجاعة".

* الانقلابيون يستولون على السلطة

    في صفحات عديدة من ذكرياتها، تكتب بلقيس عبد الرحمن، خلاصات عديدة عن الانقلاب المشؤوم في ساعاته الاولى ومنه: "حين وصل وصفي الى بيت عبد الكريم قاسم، وكان قريباً من بيتنا، اتصلوا في الهاتف بمعسكر الرشيد، وطلب منهم الزعيم ان يخمدوا الفتنة، ولكنهم كانوا يسخرون منه ويشتمونه... وقال وصفي لعبد الكريم – بحسب شهود عيان - هذه نتيجة أخطائك وهذا ما كنا نتوقعه، فأجابه: "ليس الآن وقت ملامة يا وصفي، تعالوا معي الى وزارة الدفاع لنرى، ونتصل بالقطعات العسكرية الاخرى"، وهكذا ذهبوا جميعاً الى هناك، وقد كان في مقر الوزارة نفسها معادون، الى جانب الضباط والمراتب المخلصين هناك...

     وتضيف بلقيس: "كان وصفي قد أبعد العسكريين المعادين للجمهورية من كتائب الدروع، وعيّن المؤيدين بدلهم، احترازاً مما قد يحدث. فقد كان المتآمرون قبل ان يقوموا بأي شيء، يحسبون لقطعات الدروع الف حساب، لذلك اوهموا عبد الكريم قاسم بان وصفي، ومؤيديه، ومعه الحزب الشيوعي، سيقومون بانقلاب عسكري ضده، ويتسلمون الحكم. وقد صدقهم، بل راح يشكّ حتى بوصفي، فكلّف أجهزة الامن بمراقبته".

     وفي سياق ذي صلة، تنقل بلقيس أيضا، عن وصفي طاهر ان العميد الطيار جلال الأوقاتي، قائد القوة الجوية، كان مراقباً أيضاً بحسب اوامر الزعيم قاسم، لأنه كان عضواً في الحزب الشيوعي، ومن قبل قيام ثورة 14 تموز. وقد استقال من الخدمة العسكرية في العهد الملكي، وفي اول يوم من الثورة عيّنه عبد الكريم قائداً للقوة الجوية، باقتراح من وصفي، وقد كانا أصدقاء، ويحملان أفكاراً ديمقراطية، ولذلك فان المتآمرين وقبل ان يقوموا بأية خطوة ساعة انطلاق تحركهم في 8 شباط 1963، نفذوا عملية اغتيال جلال الأوقاتي، وقد كانت تلك ساعة الصفر للانقلاب المشؤوم"...

* توثيقات عن الساعات الأخيرة

    مثلما كانت هناك العشرات من "الشهادات" و"الاجتهادات" و"التوثيقات" بشأن تأرخة شؤون التهيئة لثورة 14 تموز 1958 وتنفيذها، ومسيرتها، ومن ثم الاجهاز عليها في 8 شباط 1963... ظهرت "شهادات" و"اجتهادات" و"توثيقات" بشأن مصرع وصفي طاهر واستشهاده، مدافعاً عن قناعاته ومبادئه...

    وتكتب بلقيس في ذكرياتها – مذكراتها التي تركتها مخطوطة قبل رحيلها عام 2001: علمت بعد شهور من انقلاب شباط الاسود، ومن احد العسكريين المرافقين واسمه نعيم سعيد، بأن وصفي طاهر ذهب مع عبد الكريم قاسم الى مقر وزارة الدفاع في باب المعظم، وكان يعاتبه بشدة ويقول له، "هذا ما حذرتك منه"، وكان الأخير يردّ: "ليس وقت هكذا حديث الآن". وحينما اشتد القصف على الوزارة، وكان وصفي يتصدى للانقلابيين، طلب من مرافقه وسائقه، ان يخلّصا نفسيهما ويتركاه لوحده، فهو سيدافع عن الثورة الى اخر قطرة من دمه، وذلك ما كان بالفعل.
    وبعد بضعة عقود، وفي 2007 تحديداً، يُعرض برنامج تلفزيوني ببغداد، بمناسبة الذكرى السنوية للانقلاب الفاشي، ويتحدث فيه أحد آخر عسكريين اثنين بقيا مع وصفي طاهر حتى اللحظات الأخيرة، وهو مرافقه الشخصي نعيم سعيد، فيؤكد أن وصفي طاهر طلب منه، وكذلك من سائقه فيصل عذاب، وكانوا جميعا في مقرات وزارة الدفاع يقاومون الانقلابيين، طلب منهما ان يسلما نفسيهما، بعد وضوح النتيجة، ونفاد الذخيرة، قائلاً لهما انه هو المطلوب أساسا من الانقلابيين، وحينما استدارا، وبعد ذلك بلحظات، سمعا صوت طلق ناري، انهى بها وصفي طاهر حياته.
     وهكذا يتخذ وصفي طاهر القرار، كما قرر، وأفصح عن ذلك، أمام زوجته، وأمام عبد الكريم قاسم بالذات، في أوقات سابقة، بأنه سيقاوم أية محاولة لاسقاط الثورة، وسيحتفظ بآخر طلقة لنفسه... وبحسب المتحدث، نعيم، في البرنامج التلفزيوني الذي جرت الاشارة اليه في السطور السابقة، فانه، وفيصل، مددا وصفي طاهر، واغمضا عينيه، وقاما بتسليم نفسيهما للانقلابيين. ومن المعروف والموثّق، كيف عرض تلفزيون بغداد، الذي سيطر عليه انقلابيو 8 شباط جثة وصفي طاهر، وبأسلوب حاقد ولئيم، لا لشيء إلا لاحباط عزائم المواطنين، المقاومين للانقلاب في حينها، وكذلك لطمأنة أنفسهم من الرعب الذي كان يحيط بهم من قيادات الثورة التموزية.

-------------------------------------------

 (*) شهادات بلقيس عبد الرحمن مستلة من مؤلًف: " وصفي طاهر.. رجل من العراق" – كتابة وتوثيق: رواء الجصاني ونضال وصفي طاهر، الصادر عام 2015 بطبعتين عن: بابيلون للثقافة والاعلام - براغ، ودار الرواد المزدهرة – بغداد .

 

هوامش وملاحظات

عن بعض مؤلفات السيـر الشخصية، والمذكرات

.. وعن بعض كتابها، وكتبتها!

رواء الجصاني

..وللانشغالات (بل والابتلاءات) اشكال وانواع متعددة، وواحد منها (داء) القراءة الذي يبدو بأن لا علاج له، وخاصة أذا ما أستفحل، وأمتد لعقود، كما هي الحال التي نعيش.. وأبتلاؤنا الأشد كما ندعي، متابعة الاحداث التاريخية، العراقية خصوصا، عبر كتب السيرة والذكريات والاستذكارات، للمؤلفين أعينهم، أو لمن يكتب و"يؤلف" عن الاخرين ولهم.. وهكذا تعج المكتبة الشخصية بنحو مئة مؤلَف ومؤلف عن ذلكم الشأن، وغالبيتها لسياسيين ومثقفين عراقيين عاصروا الاحداث منذ بدء قيام البلاد العراقية الجديدة، ونعني في مطالع القرن الماضي والى اليوم ..

   والهوامش والملاحظات التي سترد في الفقرات اللاحقة لا تعنى بالاسلوبية، ولا شكلية الكتابة، فلتلك احاديث اخرى تطول وتتسع، وهي من اختصاص النقاد والمنتقدين ذوي الباع بفنون الكتابات والسرد، ولسنا من بينهم بالتأكيد.. وبمعنى ان ما سيجري التطرق اليه، وحوله ذو صلة بالمضامين والمعلومات الواردة في الكتب والمؤلفات المعنية بالمذكرات والسير الشخصية، والذكريات والتأرخة العامة..   

     وبحكم ما شيئ ان اكون معاصرا له، ومعنيا به بهذا القدر أو ذلك في جوانب عديدة من شؤون- وكذلك شجون - سياسية وثقافية وغيرهما، وبخاصة خلال العقود الخمسة الأخيرة المليئة بالأحداث والوقائع والتشابكات، فقد تراكمت الملاحظات والتقييمات حول ما نُشر – ويُنشر- حول العديد والكثير مما دعونا نسميه كتب وكتابات السيرة والذكريات وما بينها .. لعل من أبرزها:

1- قيام بعض كتاب و"كتبة" سيراتهم الشخصية، او عن الاخرين- ولربما بهدف "تضخيم" صفحات المنجز –  باللجوء الى خلط الأمور، وبتداخل مفضوح احيانا، في الحديث عن تفاصيل بديهية أو معروفة بشكل كبير، وبلا اية ضرورة، ثم يذهب (المؤلفون!) بعد الاسهاب الممل فيشيرون عبورا ومرورا بـ"سيرتهم" أو علاقتهم بالحدث المعني، بكلمات او جمل قصيرة طارئة.

2- طفوح ظاهرة الـ ( نا) واشاعة الايجابيات، مقابل إغفال المعاكس، وحتى ان تطلب الامر القفز على احداث معروفة، أو شبه موثقة، مما يضع الكاتب/ المؤلف في حرج لا ضرورة له. وهنا لا نقصد باية حال غمط حقوق المؤلفين، والكتاب في الحديث عن أدوارهم ومواقفهم، والتوثيق لها، في شؤون الحياة العامة خصوصا  ..

3- اجتزاء الوقائع، ومحاولة استغفال المتلقي غير المتابع، بل وحتى تزوير المعلومة كاملة، بهدف تمرير ما يدور في ذهن الكاتب من مشاعر او رغبات، أو تصفية حسابات شخصية، ثقافية مرة، وسياسية مرة، وحتى اجتماعية في حالات أخرى.. وكم جرى "التدرع" بتقديم شخصية معروفة للمؤلف المعني، وسواء كان ذلكم التقديم قد جاء إقتناعاً أو مجاملة، أو تلاقي النيّات والاراء.

4- محاولة اعتماد نظرة احادية للحدث والتوثيق، مراعاةً للانتماء السياسي او القومي وغيرهما، وتجاوزا للموضوعية والتاريخ العزوف عن النسيان. وقليل ما رأينا، في العشرات من الكتب الصادرة، توثيق وجهات نظر مقابلةـ انتقادية وغيرها.. والأستثناءات هنا تثبت القاعدة، سيّما لدى الكبار الواثقين من الخطى والعطاء.

5- شيوع المجاملات الصداقية والوجدانية، والعلاقات الشخصية في اختيار التوثيق او الحدث في الكتابة.. وفي غمار ذلك يسود، أو يجري نسيان أو تناسي مواقف سابقة للكاتب نفسه، مخالفة وربما متشددة حول، وضد، نفس الشخصية التي يجري مجاملتها لاحقا لهذا السبب أو ذاك..   

6- اسناد مواقف وتقييمات لراحلين، او عاجزين عن الرد والتوضيح لما يُنسب اليهم، مما يضعف من صدقية الحدث او الواقع المؤرخ له.. وكل ذلك  لكي يمرر الكاتب او "المؤرخ" غاياتٍ ما، يعتقد بيسر مرورها ما دام الذين يُسند اليهم غير متمكنين من الدفاع أو الرد، كما سبق القول.

7- مراعاة بعض الكتاب (والكتبة) لأمزجة الناشرين، وأصحاب المواقع الاعلامية، ومواقفهم من الاحداث والسيرات الذاتية، والوقائع التاريخية. ومن دوافع ذلك: الرغبة في النشر والانتشار وحتى لو كان على حساب الضمير والامانة والمسؤولية الشخصية .  

8- والشأن نفسه في الفقرة السابقة يتكرر، ولكنه يأتي هذه المرة مراعاة لأولي الامر من سياسيين  ورسميين ومسؤولين وظيفيين وعداهم، وما أبشع ما ساد في العقود والسنوات الأخيرة في عراقنا العجيب، من مثل هكذا أوضاع وظروف.

9- ولعل ما يزيد الطين بلّة كما يقال، مساهمة العديد من "النقاد" والاعلاميين في الترويج لمؤلفات اصدقاء ومعارف، وذوي علاقات، على اساس (التخادم) احيانا، أوالتعامل بالمثل احيانا اخرى، وفي كلتا الحالتين يكون الأمر على حساب التاريخ والمسؤولية المهنية ... فكم أهملت مؤلفات قيمة بشهادة المعنيين، بينما راحت كتابات اخرى " تُـلمع" حتى تفقد بريقها، خلافاً لما يُراد !.

10- أهمال التحقق المعلوماتي، وتجاوز التدقيق والبحث، اما عجزاً، أو بهدف العجالة لأصدار المؤلف والكتاب، ولا موقع هنا للنوعية، حين يكون الكمُّ هو الهدف وإن كان غير معلن، ولكن الكتاب يُبان من عنوانه كما هو شائع ومعروف ..

11- رهان عدد من "المؤلفين" و "الكتاب" على اخلاق القراء والمتلقين - وربما كسلهم احيانا -  في عدم التكذيب، أو توضيح الملتبس، المقصود وغيره، مما شجع ويشجع في مثل ذلك الغيّ، والتمادى فيه دون حساب..  

12- ووفق الفقرة السابقة ايضا، يقوم البعض ممن نتحدث عنهم- كتابا ومؤلفين-  بالهان على أن المقصودين في التشويه أو التزوير، وحتى التطاول عليهم،  يترفعون، قيماُ وقناعات، في الرد على الاسفاف والادعاءات، ولربما ايضا رغبة في عدم إعلاء شأن المتجاوزين والذين يتمنى العديد منهم - كما نزعم – ان يَسمع أو يقرأ حتى تكذيب أفتراءاته،ودحرها،  ليزداد الكتاب انتشارا كما يسعى مؤلفه، ويبغي..

13- ولعل من المفيد ان نؤشر اليه هنا ايضا لدوافع الأتجار في كتابة السير والتأرخة، بما يخدم مرحلة وظرف محدد، ويزيد من أنتشار المطبوع ذي الصلة. فيبدأ التلفيق والانتحال ولا ينتهي عند حدود سوى الايفاء بالجهد المبذول حسب المدفوع من اجور، ماديا أو جزاء مقابل الخدمة المؤداة ..

14- وفي سياق المحددات لما آل اليه الوضع، نجد اهمية في الأشارة الى دور المؤسسات الرسمية، وقياداتها، والمهيمنين على السلطة ومنذ عقود، في التزوير العلني للتاريخ والاحداث، في سياقات مدروسة ومخطط لها، وبقوة غاشمة حتى! .

15- ولعل ما تم الحديث عنه من هوامش وملاحظات على كتب السير الشخصية، والتأرخات، يشمل ولحدود بعيدة: الحوارات التلفزيونية والاذاعية – والصحفية طبعا-  في أطر التساؤلات والحوارات المباشرة، وبعدها الاجابات المجتزأة والمرسلة على عواهنها بلا حسيب أو رقيب.

16- وارتباطا بالنقطة السابقة نشير الى إستغفال عدد من "رجال" العراق و"مثقفيه" للمحاورين الشباب، أو غير المهيئين لمثل تلكم الحوارات التاريخية، وغير القادرين على توثيق الاحداث، بل وغير العارفين بها اصلا بعض الاحيان.

 

   ان للعديد من الملاحظات والنقاط والمزاعم اعلاه، بل سنقول جميعها ولا نتردد، أمثلة وتفاصيل مباشرة وملموسة. ولكن لأننا نكتب هنا عن ظاهرة / ظواهرعامة بحسب قراءاتنا، فسنكتفي بما جرى تأشيره، وكم نتمنى ان يُتاح الوقت وتسمح الظروف ان نتناول، وبالتوثيق المحدد، مؤلفات سيّر شخصية، و"شهادات" وكتابات تأريخية، مع معرفتنا مسبقا بما سيتسبب به ذلك من خسارة صداقات، وإثارة بغضاء، وسجالات وما الى ذلك، ولا ندري هل سنكون شجعاناً في خوض ذلك الغمار، أم لا ؟!!.. 

---------------------------------------- براغ: اوائل كانون الثاني 2019

 

 

الجواهــــري ... وأرا خاجــادور

علاقات حميمة ... ودلائـل

... وشؤون اخرى

رواء الجصانـي*

    ازعم بأن الكثير، وحتى من بين المتابعين، لا يعرف سوى القليل القليل عن العلاقة بين الجواهري الخالد، والمناضل الوطني، آرا خاجاودر، والتي نسعى لتوثيق البعض منها في هذه المناسبة الاستذكارية، ولو في عجالة، وعلى شاكلة مؤشرات وحسب ..

    ولربماالأكثر من ذلك، سيتفاجأ البعض، أصلا، ان تكون، بل وتسود، رويدا رويدا، فتتأصل مثل تلكم العلاقة الوطيدة، الانسانية قبل غيرها.. اذ الجواهري بعيد عن اي تنظيم سياسي، والحزبي منه بشكل رئيس، منغمرا في عوالم الابداع والفكر.. وآرا،  بعيد عن الشعر والادب، منغمسا في مهام النضال الحزبي والوطني، مُبرزاً فيه.. 

   ولكن الانسجام الشخصي، والوجداني، والاغتراب الاضطرارى، وفي براغ خاصة، جمع بين الرجليـن أكثر فأكثر: ذلك القائد في مرابع الشعر والفكر، وريادته، وذلك القائد في العمل النضالي، والحزبي، وعراقته.. وكم اميل هنا للانحياز الى من يرى بأن العلاقات الانسانية هي الاخلص والاسمى عن غيرها من اشكال العلاقات السياسية والاجتماعية، وحتى الاسرية، في بعض تجلياتها، وسواها عديد عديد.

     ورائدانا المقصودان : الجواهري و آرا، لربما ارادا بعض استراحات هنا او هناك من انشغالاتهما، وما اشقها، فراحا يلتقيان، ويتسامران، بعيدا عن عوالمهما المزمنة، ويتآلفان، ويأتمن احدهما الاخر على ما جمع ويجمع بينهما من ارتياحات وتآلف... وهكذا امتدت تلكم الحال لنحو خمسة عقود، في براغ أولا، وسنوات منها في الشام ... وقد دامت دون حدود، لحين الرحيل عن عالم اللاخلود.. أو ليست العلاقات الانسانية هى الارقى، كما سبق القول.. ؟!.

     مؤكدٌ  اني  مطالب الان ان اسرد، لأوثق .. ولأن الوقت محدود والمناسبة محددة، سأكتفي بنموذجين وحسب، وازعم من جديد، بأن فيهما ما يدل ويؤشر ويؤرخ لما أبحــتُ به، ومالم ابحْ عنه متنوع ومديد ...

    الحدث / الواقعة الاولى منشورة في كتاب " الجواهري .. بعيون حميمة" الصادر عام 2016 وفيه - تحت عنوان "مملّحة"  لـ :آرا خاجودور، وكاظم حبيب، مايلي:

  " لاسباب يطول الحديث، بشأنها، سادت لدى الجواهري عام 1988 رغبة جامحة في ان يغيّر شقته في براغ، التى كان قد قضى بها اكثر من ربع قرن. وقد حاول شخصياً، ولم يفلح، فلجأ الى المسؤول الشيوعي العراقي الاول في براغ آنذاك، كاظم حبيب- أبو سامر، لكي يسهل له ذلك عبر الجهات التشيكية ذات الصلة.

  وأذ يتأخر كاظم – بظن الجواهري- عن تلبية طلبه، عاد الشاعر الخالد الى صديقه الاخر، آرا خاجادور، أبو طارق، وكان معنياً بشكل رئيس بشؤون العلاقات السياسية والحزبية الشيوعية العراقية - التشيكية، ليتدخل في حلّ الامر.... ثم، لتحريك الموضوع، وعلى اساس انه شعر اخواني(!) يكتب الجواهري قصيدة يخاطب بها كلا الرجلين، ويحثهما بشكل تحريضي، وتنافسي، للتعجيل بتمكينه من تبديل شقته باخرى، وهي قضية ليست سهلة في حينها.

   وأذ لا تحضرني ابيات القصيدة الان، المحفوظة لدينا في الارشيف العامر، أتذكر من بينها: "يا ابا سامرِ كنْ شفيعي لكي ابدلُ الدار، دارا"... ثم يهدده- أن تباطأ- باللجوء الى "آرا" والذي هـو "ابٌ لكل الغيارى". وهكذا تستمر المناورة الجواهرية، وتنجحُ، وتتغير الدار".

انتهى النص المنشور في الكتاب...

والان هذه هي بعض ابيات من تلكم القصيدة، وأثبتُ  ان ( ارا – ابا طارق ) قد نجح في تحقيق ما اراده الجواهري، ففاز بالرهان على (كاظم – ابي سامر):

... يا ابن ودي, ولست مبدلَ ودٍ، كنْ شفيعي أن أبدلَ الدار دارا
وتعجلْ أمري لتخلد في التاريخ زهوا، وعزة وافتخارا
يا "ابا سامرٍ" فُـز بالرهانِ، وشمرْ لِسباق في حومةٍ لا تُجارى
أو..  فهذه أنشودةُ، تتغنى بـ"أبي طارق" المبجلِ "آرا"
يا أبا طارقٍ وسُميّت "آرا" .. أنّ "آرا" أبٌ لكل الغيارى
كان "سامٌ" وكان "آرا" قديماً، والحضارات تستدانُ لـ"آرا"
يا بنَ ودي ولستُ مبدلَ ودٍ، كن شفيعي لأبدلَ الدار دارا

أترى ثمة احتياج، أو حاجة لتفسير وتفصيل، لما عبقت به تلكم الابيات الانسانية الفواحة؟!..

--------------------------

  اما الواقعة/ الحدث الثاني، الذي أريد التوثيق له فهو مشاركة أرا خاجادور، قبل اشهر قليلة، فقط، في كتاب اصدره مركز الجواهري في براغ، بمناسبة الذكرى السنوية العشرين لرحيل الشاعر الخالد التي صادفت في السابع والعشرين من تموز الفائت . وقد ضم الكتاب ذكريات وانطباعات ومواقفَ مع الجواهري وعنه، ساهم فيها اربعون مبدعا وسياسيا ومثقفا مميزا - ودعوا عنكم اولئك الذين ظنّوا، فضنوا.. !!!- .. ومما جاء في مساهمة آرا في ذلكم الكتاب، وكانت بعنوان: "وداع بغداد والغربة" اقتبس منها:

.." كان الجواهري خلال كل حياته منحازاً بقوة للفقراء والكادحين، ومعبراً عن حقوقهم ومظالمهم وطموحاتهم. في أيام الوثبة كانت قصيدة أخي جعفر؛ شهيد الوثبة، بالنسبة لنا قوة دفع معنوي لا يدانى، وكم من المرات إلتقيتُ الجواهري، وسمعتُ وتحسست إصراره على دعم الفقراء من أبناء الشعب العراقي، وكم كانت جميلة ومنسجمة جلساتنا بمشاركة الشهيدين سلام عادل وجمال الحيدري وغيرهما...".

ويستمر آرا خاجودور فيقول: "لا يمكن لحيز محدود أن يعبر عن علاقات دامت نحو خمسة عقود، شملت لحظات عذبة، وفترات مديدة إنطوت على مصاعب جمة، في بغداد المنبت، وبراغ الفسحة المزهرة، وفي دمشق الشعر والسياسة والوجوه الإجتماعية المبدعة في مختلف أوجه النشاط الإنساني"... انتهى النص..

وبعد الاقتباس اعلاه، دعوني أتساءل من جديد، أثمة حاجة أو احتياج لشرح ما سبق من سطور، معبرة وان أوجزت؟!.

ترى هل للحديث صلة ؟ ... اقول نعم، ولعل قوادم الايام تسعف لكي نوثق عن بعض علاقات شخصية وسياسية، مع ارا خاجودور، منها في بغداد، اواسط السبعينات الماضية، حين كان الرجل معنيا بالعمل النقابي والمهني، وكنت، اشغل وقتئذ عضوية مكتب العمال المركزي للحزب، وطبيعي ان تكون هناك صلات وشؤون ..

وأخرى، اي تلكم الذكريات والشؤون، راحت تترى حين عاث بنا الجراد، فتوجهت قبلتنا الى المغتربات، وبراغ تحديدا، ليكون هناك اكثر من تكليف، وصلة والتزام سياسي وتنظيمي مع الراحل المجيد، خلال توليه مهامه القيادية المركزية المتعددة: التنظيمية وفي مجال العلاقات الدولية... وغيرها. وكنت ذا صلة بالعديد من تلك المهام والمسؤوليات، في لجنة تنظيم الخارج للحزب الشيوعي، وفي تمثيل اتحاد الطلبة العراقي العام، لدى سكرتارية اتحاد الطلاب العالمي. ... وهنا أتوقف عن الكلام المباح، وغير المباح منه كثير ايضا، ولربما يحين ظرف آخر ليكون الكلامُ كلهُ مباحا !!! ...

-----------------------------------------------------------------

كلمة رواء الجصاني، مدير مركز الجواهري للثقافة والتوثيق، القيت في حفل تأبيني حميم، اقيم في العاصمة التشيكية براغ مساء الثلاثاء: 2018.1.23 بمناسبة اربعينية الفقيد الكبير: آرا خاجودور، وبحضور بعض عائلته، ونخبة من الشخصيات الثقافية والسياسية العراقية والعربية ..

 

 

 

رسالة ماجستير

"الغربة والحنين في شعر

محمّد مهديّ الجواهريّ"

 

رواء الجصاني

 

من المصادفات الجميلة في هذا الزمن الرتيب، البكّاء، وبالتزامن مع السنويـــة العشرين لرحيل الشاعر العراقي – العربي الخالد، دافعت الباحثة اللبنانية: هبة محمد مصطفى، قبل فترة وجيزة، عن رسالتها للماجستير الموسومة " الغربة والحنين في شعر محمد مهدي الجواهري" ولتجاز بدرجة جيد، من اللجنة الاكاديمية في كلية الاداب والعلوم الانسانية / الجامعة اللبنانية بيروت. (*)

وقالت "هبة" عن دوافع اختيارها  لهذهِ الدّراسةِ، وللعنوانِ: " هو حبُّ الإطلاعِ وتعرّفِ حياةِ شاعرٍ لفتَ إنتباهي منذُ بدايةِ قراءَتِي لشعرِهِ وحياتِهِ، وقد سعيتُ جاهدةً إلى اكتشافِ ملامحِ تلكَ الشّخصيّةِ العملاقةِ الّتي لُقِّبَ صاحبُها بشاعرِ العربِ الأكبرِ، كما أنَّه حصلَ على لقبٍ شعريٍّ مميّزٍ وهو متنبي العصر. وهذا ما ولّدَ الإعجابَ في نفسي أكثر، ولقد تاثّرْتُ كثيرًا  بحياتِهِ وغربتِهِ وحنينِهِ".

* اما عن اهمية الدراسة، واهدافها، فقالت الباحثة:

"ان الاهمية تكمن في ان تعرّفِ  بشاعرٍ عملاقٍ صاحبِ مخزونٍ شعريٍّ لايزالُ حتَّى اليومِ يُعدُّ من النّوادرِ، اِلتَحمَ شعرُهُ بالأحداثِ العنيفةِ مدًّا وجزرا،ً ثباتًا وتقلّبًا، وأصبحَتْ قصائدُهُ المواكبةُ لها مناراتٍ تضيءُ لعشاقِ الشعرِ والوطنيّةِ والقوميّةِ معًا، الشّعرُ في أنموذجِهِ العالي الّذي تتردّدَ من خلالِهِ أصداءُ شعراءِ العربيةِ الكبارِ: المعرّيُ والمتنبي وأبو تمام والبحتري والشريف الرّضي وغيرُهم من أصحابِ القاماتِ الكبرى، يحاذيهِمُ الجواهريُّ ولا يتخلّفُ عنهم، بل يتجاوزُهم بمذاقِ العصر وفتنةِ المغايَرَةِ والقدرةِ الفذّةِ على إبداعِ الصّورةِ الشّعريةِ في منمنماتِها، وتنويعاتِها الإيقاعيّة"... اما اهداف الدراسة - البحث فهي:

هدف الكشف عن دورِ الغربةِ وما ولّدتهُ من حنينٍ لدى الشّاعر، وكيف عبَّر عن ذلك في شعرِه.

اِستكشافِ أبرزِ محطّاتِ حياتِهِ في الوطنِ والغربةِ والهجرةِ القسريّةِ الّتي أنَّ منها، حيثُ كان الحنينُ المُشعِلَ لثوراتِ النّفس، ما جعله سيّدًا للحرف ، يغوصُ في كنفِه مُبحرًا في عالمِ الشعرِ، شاعرًا صلبًا يقفُ جبّارًا عنيدًا يتحدّى كلَّ الصّعابِ على الرَّغم مما يعتوِرُه من مشاعرَ متناقضةٍ أحيانًا.

 

وتستمر الباحثة في التعريف برسالتها فتقول:

تناولتُ في رسالتي ( الغربة والحنين في شعر محمّد مهديّ الجواهريّ).. وقد وجدْتُ عالمَ الجواهريِّ عالمًا شعريًّا بامتياز، حتّى أنَّ الحياةَ عندَهُ كانَتْ تُعادُل العيشَ بوضعٍ شعريٍّ، وهي إنْ خلَت أصبحتْ جحيمًا.

   إنّ الجهدَ المبذولَ في دراسةِ شعرِ محمّدٍ مهديٍّ الجواهريّ وإقامةِ الرّكائزَ البحثيّةَ، حتّمَتْ عليَّ توزيعَ الرّسالةِ بينَ مقدّمةٍ ومدخلٍ وفصلين وخاتمة . تُشكِّل المقدّمةُ مدخلًا عامًّا  للرّسالةِ، يعرضُ بشكلٍ موجزٍ البحثَ وموضوعَ الرّسالةِ، وهي تحتوي على نقاطٍ لا بُدَّ منها، للتعريف بالشّاعرِ وأسبابُ اختيار الموضوع، والمنهجُ المتّبعُ في الدّراسةِ وصولًا إلى عَرْضِ مضمونِ فصولِها.

   أمّا المدخلُ فَقَدْ تَناولَ سيرةَ حياةِ الجواهريِّ، ومراحلَ حياتِهِ، كما تناولَ عَرضًا لمخزونِهِ الشّعريِّ والثّقافيِّ، ومؤلّفاتِهِ الشّعريّةِ.

   وفي الفصلِ الأوّلِ تمَّ عرضُ موضوعِ أهميّةِ الوطنِ وأيضًا أزمةِ المواطنةِ الّتي عاشَها الشّاعرُ. أمّا الفصلُ الثّاني فقد تناولَ موضوعَ الغربةِ والحنينِ في شعرِ الجواهريّ، فعرّفَ عناصرَ الغربةِ، ومظاهرَ الحنينِ الّتي تناولَها الشّاعرُ في قصائِدِه. وقد أَنْهيتُ الرّسالةَ بخاتمةٍ عامَّةٍ عن موضوع الرسالة.

 

واخيرا، وعن النّتائجُ الّتي حققَتْها الرّسالةُ، اضافت الباحثة هبة محمد مصطفى: .

تناولت هذه الدّراسةُ موضوعَ الغربةِ والحنينِ في شعرِ الجواهريِّ وكشَفَتْ عن أزمةِ الشّاعرِ الحقيقيّةِ، وأسبابِها وعناصرِها الّتي ساهَمَت في إشعالِ روحِ التّمرّدِ والثّورةِ في حياتِهِ. كما أظهرَتْ السّمةَ الّتي ميَّزَتْ شعرَ الجواهريِّ وهي القدرةُ على التّمرّدِ والتّحديِّ، وتجلَّى ذلكَ في كثيرٍ من القصائد، وقد عبّر ذلك عن جماليّةِ  الإبداعِ لدى الشّاعرِ،  فقد أبرزَت الحماسَ والزّخمَ في الأحداثِ  في قالبٍ شعريٍّ جميلٍ  يحملُ اللوحاتِ الدّراميّةَ بأسلوبٍ مؤثِّرٍ.

 لقد توصّلَتْ الدّراسةُ أيضًا  إلى الكشفِ عن مدى تأثرِ الشّاعرِ بواقعِهِ، وعن كيفيّةِ توظيفِهِ للشّعرِ في خدمةِ وطنِهِ، وفي الّتعبيرِ العميقِ عن واقعِهِ المؤلم، فكانَ الجواهريُّ لكلِّ ذلك لسانًا ناطقًا بأحلام العراق وأشجانِهِ وانكساراتِهِ، وقد كلَّفَتْهُ هذه الوظيفةُ - التي ارتضاها لنفسِهِ - حريَّتَهُ، ومستقرَّهُ في وطنِهِ، وأهلِهِ، وكلَّفَتْهُ غربةً ومنفى، وكلَّفته جنسيِّتَهُ العراقيةَ التي نُزعتْ منه، وكلّفتهُ أنْ مات بعيدًا عن دِجلةَ والفُراتِ، وكلَّفته أنَّ كَفنَه لم يُنسجْ من شراعِ القاربِ الّذي رآه على صفحةِ دِجلةَ.

 لقد أضاءَتْ هذه الرّسالةُ على  حياةِ شاعرٍ شَغَلَ التّاريخَ، فهو عاشَ غريبًا بكلِّ ما أوتيَ من معنى للغربةِ .. فهو الشّاعرُ الّذي جمعَ بين دفاتِ شعرِهِ حبًّا منقطعَ النظيرِ لوطنٍ عانى ويلاتِ الظلمِ ولايزالُ، وقد شكّلَ شعرُهُ وثيقةً تاريخيّةً  وحقلًا واسعًا للأبحاثِ والدّراساتِ ستحملُ الكثيرَ من الموضوعاتِ  والمضامين العميقةِ .

  وختامًا أرجو من خلالِ هذهِ الدّراسةِ أن أكونَ قد أجبتُ عن كلِّ الأسئلةِ التي تَضمّنتْها خطةُ البحث، محقّقةً الأهدافَ المرجوةَ. كما أتمنى أن تكونَ قد فتحَتْ آفاقًا واسعةً وجديدةً حولَ موضوعِ الغربةِ والحنينِ في شعرِ الجواهريِّ، وأن تكونَ بذرةً لدراساتٍ أخرى تفيدَ المكتبةَ الجامعيّة والعربيّة بشيءٍ جديدٍ.

-----------------------------

(*) تشكلت، اللجنة الاكاديمية التي اجازت الرسالة – الدراسة من د. هند اديب، رئيساً ود. دلال عباس، مشرفةً، ود. رامز يزيك، عضواً، وذلك بتاريخ 30/6/2017 .

 

 

عراقيون.. في قصيد

الجواهري العامر

رواء الجصاني

1

 يصدر عن مركز الجواهري للثقافة والتوثيق خلال الفترة القريبة القادمة، بحث- توثيق، اعده رواء الجصاني، يشمل اسماء مشاهير وشخصيات، ووجوه، وغيرهم، من العراقيين والعرب والاجانب وعداهم ، قدماء ومعاصرين، وردت في شعر المواهري العامر، المنشور في ديوانه بشكل رئيس .. وسواء جاء ذلك الوارد مدحا او هجاء، او في تلك المناسبة وسواها.. وفي التالي القسم الاول من قسمين يشملهما الفصل الاول لذلك البحث – التوثيق/ مع تحيات مركز الجواهري:

 

- اولا: شخصيات ومشاهير

1/ "شيخ الشريعة".. رجل الدين الشيعي الشهير في زمانه، في النجف، بقصيدة

 "رثاء شيخ الشريعة" عام 1921:

 "ابا حسنٍ" في الصدر مني سريرةٌ، سألتها حتى تباحُ سرائرهْ

 

2/ محمد تقي الشيرازي، الفقيه ، في قصيدة "ثورة العراق" عام 1921:

"محمدٌ" ومعجزٌ ، مثلك يا "محمدُ"

 

3/ ابراهيم الجصاني، الفقيه والعالم الديني- وفيها تورية لأسمي ابنيّه:

 جواد، ومحمد، في قصيدة "خلّ النديم" عام 1922:

نسبٌ زهت بابي "الجواد" فروعه، والى "محمد" ينتمين عروقهُ

 

4/ هارون الرشيد، الخليفة العباسي، في قصيدة "امين الريحاني" عام 1922:

نام "الرشيدُ" عن العراق وما درى، عن مصرهِ "فرعون" ذو الاوتادِ

- وكذلك  في قصيدة "ذكرى دمشق الجميلة" عام  1926:

مضى "فرعون" لم تفقدهُ مصرُ، ولا "هارون" جنّ له العراقُ

- وكذلك في قصيدة "بغداد على الغرق" عام 1927:

 احقاً أن "ام الخير" منها، بعاصمة "الرشيد" احاط شـرُّ

-  وكذلك في قصيدة "اطياف بغداد" التنويرية عام 1953:

فأعدْ على بغداد ظِلّ غمامة، باللطف تنضحُ والندى والسؤددِ..

تتمازج الألوان فيها عن سنا، شفقٌ بكل صبيغةٍ، متورد ِ

عن بأس "هارون" ورقة "معبد" وهو "الخليعُ" بها، ونسك "المهتدي"

- وايضا في قصيدة "دجلة الخير" عام 1962:

يا مستجم "النؤاسي" الذي لبست به الحضارة ثوباً وشي "هارونِ"

ـ وكذلك في قصيدة "يادارة المجد" السياسية في براغ عام 1963، وفيها يخاطب بغداد:

يا دارة المجد ودار السلام، بغداد يا عقد فريد النظامْ..

وعهد "هارون" وفي ملكه، تُنقل الشمس، ويرعى الغمامْ

 

5/ على كاشف الغطاء، العلامة النجفي، في قصيدة "أمنن علي" الاخوانية عام 1924:

مولاي كم لك في العدى، يوم سبقتَ به، أغـرُّ..

أنا غرس نعمتك الذي، انطقني، فالقول سكرُ

 

6/ فيصل بن الحسين، ملك العراق الاول، في قصيـدة

 "تذكــر العهود" عام 1924 :

مليكُ العراق وكم حجرةٍ ، يضيقُ بامثالها القادحُ

- وكذلك في قصيدة  "من لندن الى بغداد" عام 1927:

حياك ربك من ساعٍ بسراء، يلقي الوفود بوجهٍ منه وضاءِ

- وكذلك في قصيدة "الى جنيف" عام 1931:

لله درك من خبير بارعٍ، يزن الامور بحكمة وصوابِ

- وكذلك في قصيدة "بشرى جنيف" عام 1931:

لا احابيك سيدي وأراني، لست في حاجة الى التعريفِ

 

42/ جعفر الجواهري (محمد – حمد) شهيد وثبة كانون العراقية، شقيق الشاعر الأصغر،

في قصيدة "على حدود فارس" عام 1924:

الله يرعى "حمداً" انه، غادرني ذكراه رهن السباقْ

 - وكذلك في قصيدة "أخي جعفر" الرثائية – الوطنية عام 1948:

أخي "جعفراً" يا رُواء الربيع، الى عفنٍ باردٍ يَسلمُ

ـ وكذلك في قصيدة "يوم الشهيد" عام 1948:

أأخيّ : لو سمع النداء رَغامُ ، ولو استجاب الى الصريخ حِمامُ

- وايضا في قصيدة "دجلة الخير" الوطنية عام 1962.. كما توضح حاشية البيتين التاليين:

ويا ضجيعي كرى اعمى يلفهما، لفّ الحبيبين في مطمورة ٍ دونِ

بنوة ً وأخاء حلف ذي ولع، لو تسلمان، وان الموت يطويني

- وكذلك في قصيدة، "اليك أخي جعفر" في براغ عام 1968:

دبت عليك زواحفُ الاعوام ِ ، وبرئت من جرح ٍ ، وجُرحي دامي

 

7/ مهدي الخالصي، من زعماء ثورة العشرين، في قصيدة: "الى الخالصي" عام 1925:

كان صليبَ العود في دينه، وكان في آرائه أصلبا

- وكذلك في ذكرى رحيله الاولى، بقصيدة "في ذكرى الخالصي" عام 1926:

الله ما هذا الجلال، حياته، ترنيمةٌ، ومماته تبجيلُ

 

8/ حسن الجواهري، الفقيه والعالم،  نجل صاحب الجواهر، في قصيدة

 "الى روح العلامة الجواهري" الرثائية عام 1926:

حلفتُ لقد كنت عفّ اللسانِ، وعف اليدين، وعف النظرْ

 

9/ جواد الجواهري، الفقيه، والشخصية الاجتماعية، في قصيدة:

"الى روح العلامة الجواهري" عام 1926:

"ابا حسن" يا"جواد" الندى، اذا المحلُ عـمَّ، وصنو المطرْ

- وايضا في قصيدة "يا بدر داجته الخطوب" الرثائية عام 1936:

والان تفتقد البلاد مُحنكاً، يُحتاج في التنفيذ والتشريعِ

 

11/ جميل صدقي الزهاوي، الشاعر، في قصيدة "جائزة الشعور" عام 1927:

قمْ يا "جميلُ" فحامني، يا حامي الادب العراقي

- وكذلك في قصيدة"جربيني" عام 1929:

عن يساري اعمى المعرة، و"الشيخ" الزهاوي عن يميني

 

12/ عبد المهدي المنتفكي، وزير المعارف، في قصيدة "تحية الوزير" عام 1927:

حيّ الوزير وحي العلم والادبا، وحيّ من انصف التاريخ والكتبا

 

13/ غازي، نجل فيصل بن الحسين، ملك العراق الاول، في قصيدة"غازي" عام 1927:

قدومكَ "غازي" يَزين الاوان، وكم قادم زانه آنهُ

 

14/ "عمر" و"بكر" أخوان صُرعا اثناء الانتخابات النيابية في العراق، في قصيدة :

"ضحايا الانتداب" عام 1928:

سل "الاخوين" معتنقين غابا، لاية غاية طَويا الشبابا

16/ عبد المحسن السعدون - ابو علي، السياسي العراقي، وتسنم مهاماً عديدة منها رئاسة الوزراء، والمجلس النيابي، في قصيدة "الى السعدون" عام 1929:

انهض فُديت "أبا علي" وارتجلْ، بين الجموع قد استتم المجمعُ

- وكذلك في قصيدة "المجلس المفجوع" الرثائية عام 1929:

هذا القصيد "ابا عليّ" كله، حزنٌ وكل سطوره اوصابُ

- وكذلك في قصيدة  "في الاربعين" عام 1929:

زانَ العروبة هذا المفرد العلمُ، وقد تُخلد في افرادها الاممُ

- وكذلك  بقصيدة "في اربعين السعدون" عام 1929:

ميتة هذا الشهم قد بينتْ، للقوم انّا غير ما يُدعونْ

 

17/ المتنبي، احمد، ابو الطيب – ابو محسد، الشاعر، في قصيدة "المحرّقة" عام 1931:

او "المتنبي" حين قال تذمراً، افيقا خُمارُ الهمّ بغضيّ الخمرا

- وايضا في قصيدة "احمد شوقي" عام 1932:

قرون مضت لم يَسدّ العراقُ، من "المتنبي" مكاناً شغر

ـ وكذلك في قصيدة "الشاعر الجبار" عام 1935:

وُلد الالمعي فالنجم واحمْ، باهت من سُطوع هذا المزاحمْ

ـ وكذلك في "المقصورة" الشهيرة مخاطبا نفسه، عام 1947:

وبـ"المتنبي" ان البلاء، اذا جــدّ  يعلم اني الفتى

- وكذلك في قصيدة "اطياف بغداد" التنويرية عام 1953:

فأعدْ على بغداد ظِلّ غمامة، باللطف تنضحُ والندى والسؤددِ..

تتمازج الألوان فيها عن سنا، شفقٌ بكل صبيغة ٍ، متورد ِ..

بالبحتري، أبي السلاسل لمّعـاً، بالعبقري "ابي محسد" أحمدِ

بمذل "كافورٍ" عجيبة دهرهِ، ومعز آل الأرمني، و"مخلّدِ"

- وايضاً في قصيدة "كما يستكلبُ الذيبُ" الوجدانية – السياسية عام 1953:

تسعون كلباً عوى خلفي وفوقهمُ ، ضوء القمر المنبوح ِ، مسكوبُ...

وقبلَ الف ٍ عوى الفٌ فما انتقصت "ابا محسد" بالشَتم الاعاريبُ

ـ وكذلك بقصيدة "في ذكرى المالكي" الرثائية السياسية عام 1957:

وإذ "ابو الطيّبُ" الشرّيد في حلب ٍ، نجم تُضاء به الافلاك سيّـارُ

ـ وكذلك في "رباعيات" - مقطوعة "حكم التاريخ" عام 1960:

سيسبُ الدهر والتاريخ من أغرى بسبي ..

يا لويل المجتلي كلباً لسبّ المتنبي

ـ وكذلك في قصيدة "لبنان يا خمري وطيبي" التكريمية – السياسية عام 1961

والمخاطب في البيت، الشاعر اللبناني بشارة الخوري:

جئتَ العراق فعاش فيك عهود "احمد" و"الحبيبِ"

- وايضاً في قصيدة "أبا الفرسان" الوجدانية عام 1967:

"أبا الفرسان" ان عُقت ديارٌ ، عقدتُ بها شبابي بالمشيب ِ

فلا عجبٌ فقبلي ضقنَ ذرعا ، بخير الناس ِ "أحمد" و"الحبيب"

ـ وكذلك في قصيدة "يا ابن الفراتين" الوجدانية- التنويرية عام 1969:

"أبا محسد" دنيا رحت تمخضها، فما تلقفُ إلا ما نفى الزبّدُ

ـ وكذلك في قصيدة "آليت" عام 1975:

أكبرتني ان اختشي وغداً، وان أُعنى بغـِرّ

وضربت لي امثولة ً، بأبي محسد و"المعري"

ـ وايضا في قصيدة "فتى الفتيان" التنويرية عام 1977:

تحدى الموتَ وأختزل الزمانا، فتى لوى من الدهر ِ العنانا

- وفي قصيدة "بغداد" السياسية، عام 1980:

لا درّ درك من ربوع ديار، قرب المزار بها كبعد مزارِ...

هوت الحضارة فوقها عربية، وتفردت "آشور" بالآثار

عشرون قرناً وهي تسحب خلفها، بدمٍ، ذيول مواكب الاحرارِ

بـ"ابن المقفع" و"آبن قدوسٍ" وبـ"الحلاج" والموحى له "بشار"

بـ"ابي محسد" وهي تقطع صلبه، لم يُدرَ عار مثل هذا العارِ

 

18/ عبد الرزاق الناصري الشاعر والصحفي، صديق الجواهري، اشير له في الهامش

 بانه المقصود في البيت التالي، في قصيدة "النزغة، او ليلة من ليالي الشباب" عام 1929:

ومعي صاحبٌ تفرست فيه، كل خير فلم تخني الفراسهْ

 

19/ مزاحم الباجه جي - ابو عدنان،  السياسي العراقي، في قصيدة

 "الباجه جي في نظر الخصوم" عام 1930:

يا ابا "عدنان" هذي فرصةُ ، لفؤاد بالاذى محتقنِ

- وكذلك في قصيدة "الى الباجه جي "في نكبته" عام 1933:

وقد عَلِمَ الاقوام أنّ "مزاحماً" من الشعبِ مخدوم، وللشعب خادمُ

 

20/ آشور بانيبال، الملك  الاشوري البابلي، في قصيدة "تحية الحلة" عام 1935:

هنا مشى الفذ ّ "بانيبال" مُزدهياً، في موكبٍ بغواةِ الفنّ مزدانِ

- وايضا في قصيدة "بغداد" السياسية - براغ عام 1980:

لا درّ درك من ربوع ديار، قرب المزار بها كبعد مزارِ...

هوت الحضارة فوقها عربيةً، وتفردت "آشور" بالآثار

 

21/ حامورابي، (حام) سادس ملوك البابلييــن القدامى، قبل الميلاد، في قصيدة

"تحية الحلة" عام 1935:

هنا "حاموراب" سنّ العدل معتمداً، به على حفظ افرادٍ وعمرانِ ِ

 - وكذلك  في قصيـدة "نامي جيــاع الشعب نامي" السياسية عـــام 1951:

نامي جياع الشعب نامي ، حرستك آلهة الطعام ِ

نامي كعهدك بالكرى، وبلطفه ِ من عهد "حام ِ "

 

22/ رفائيل بطي، الصحفي والكاتب، في قصيدة "المازني وداغر" عام 1936:

"رُفائيلُ" داركَ قد أشرفت، بـ"أسعد داغر"، والمازني

 

23/ جميل صدقي الزهاوي، الشاعر، في قصيدة "الزهاوي" عام 1936:

على رغم انف الموت ذكرك خالدُ، ترن بسمع الدهر منك القصائدُ

 

25/ حكمت سليمان، السياسي، في قصيدة "تحرك اللحدُ" عام 1936:

وأنت يابن "سليمان" الذي لهجتْ، بما جَسرتَ عليه، البدوُ والحضرُ

 

26/ ياسين الهاشمي، السياسي، في قصيدة "ذكرى الهاشمي" عام 1938:

"ياسينُ" ان هضيمةً ما ذقتهُ غدراً، ولم تـكُ قبلُ بالمهضوم ِ

 

27/ معروف الرصافي، الشاعر، في قصيدة "الى الرصافي" عام 1944:

تمرستُ بـ"الاولى" فكنتَ المغامرا، وفكرتَ بـ"الاخرى" فكنت المجاهرا

- وفي قصيدة "معروف الرصافي" الرثائية - التنويرية عام 1951:

لاقيتُ ربكَ بالضمير ِ ، وانرت واجبة القبور ِ

"معروفُ" نمْ فوق التراب، فلستَ من اهل الحرير ِ

ـ وكذلك في قصيدة "الرصافي" الاستذكارية عام 1959:

لغزُ الحياة وحيّرة الالباب ِ ان يستحيل الفكرُ محض ترابِ

 

28/ ارشد العمري، السياسي العراقي، في قصيدة "طرطرا" عام 1944:

صالحه كـ"صالح".. عامرة كـ"العمري"

- وكذلك في قصيدة "أرشد العمري" عام 1946:

 تركوا البلاد وأمرهنّه، لخيالِ مسعورٍ بجنّه

-  وايضاً في قصيدة "التعويذة العمرية" الساخرة عام 1954:

عوذت وجهكَ بالقمرْ ، وبما أضاءَ وما آزدهرْ

 

29/ صالح جبر، السياسي، في قصيدة "طرطرا" عام 1945:

صالحة كـ"صالح" .. عامرة كـ"العمري"

 

30/ صلاح الدين الايوبي، القائد الكوردي، مؤسس الدولة الايوبية، في قصيدة:

 "ذكرى وعد بلفور" عام 1945:

"ووادي التيه" إن لم يأوِ "موسى".. فقد آوى "الصليب" على" صلاحِ"

-  وكذلك " في قصيدة "ناغيت لبناناً" عام 1947:

وثرى "صلاح الدين" ديسَ وأنعلتْ، منه جيوش الواغلين خيولا

-  وكذلك في قصيدة "فلسطين" السياسية عام 1948:

وروحٌ من "صلاح الدين" هَبتْ، من الاحداث ِ مقلقة الوِسادِ

- وفي قصيدة "فـــي ذكرى المالكي" السياسيـــة عــــام 1957:

جلالها عن "بني مروان" مألُكةٌ، وصمتها عن "صلاح الدينِ" اخبارُ

- وايضاً في قصيدة "ذكرى عبد الناصر السياسية " في القاهرة عام 1970:

أتـرى "صلاح الدين" كان محمقاً، إذ يستشيط حميةً وإباءَ

- وفي قصيدة "أفتيان الخليج" - ابو ظبي عام 1979:

"صلاح الدين" كان يَفتُّ خبزاً، وكان ينامُ أرضاً والجنود..

وها هو عنده فلكٌ يدوي، وعند منعم ٍ قصرٌ مشيدُ

 

31/ نوري السعيد، السياسي العراقي، في قصيدة "المصير المحتوم" الهجائية - بغـــداد

عــــام 1952:

أيا "آبن َ سعيد" يلهبُ الناس سوطهُ، ويحلفُ فيهم ان يخط المصايرا

لقد كنتُ أرجو ان ترى لك عبرة ً بمن رامها قبلاً ، فزار المقابرا

 

32/ معبد، المغني القديم، في قصيدة "اطياف بغداد" التنويرية عام 1953:

فأعدْ على بغداد ظِلّ غمامة، باللطف تنضحُ والندى والسؤددِ..

تتمازج الألوان فيها عن سنا، شفق بكل صيغة ٍ، متورد ِ

عن بأس "هارون" ورقة "معبدِ" وهو "الخليعُ" بها، ونسك "المهتدي"

 

33/ الخليـــع، الحسين بن الضحــــاك، الشاعر، في قصيدة "اطياف بغداد"

التنويرية عـــــام 1953:

فأعدْ على بغداد ظِلّ غمامة، باللطف تنضحُ والندى والسؤددِ ...

تتمازج الألوان فيها عن سنا، شفق بكل صبيغةٍ، متورد ِ

عن بأس "هارون" ورقة "معبدِ" وهو "الخليعُ" بها، ونسك "المهتدي"

 

34/ المهتدي، من الخلفاء العباسيين، في قصيدة "اطياف بغداد" التنويرية عام 1953:

فأعدْ على بغداد ظِلّ غمامة، باللطف تنضحُ والندى والسؤددِ..

تتمازج الألوان فيها عن سنا، شفق بكل صبيغة ٍ، متورد ِ

عن بأس "هارون" ورقة "معبدِ" وهو "الخليعُ" بها، ونسك "المهتدي"

 

35/ سنحاريب، ملك الامبراطورية الاشورية الحديثة، في قصيدة "يا دارة المجد" الوطنية - براغ عام 1963:

يا دارة المجد ودار السلام، بغداد يا عقداً فريد النظامْ

يا أم نهرين استفاضا دماً، ونعمة، من عهد سام، وحام

من عهد "سنحاريب" اذ نينوى، يتوج الحكمة منها النظامْ

 

36/  محمد جعفر ابو التمن، ابو عزيز، السياسي والشخصية الوطنية، في قصيدة "ذكرى ابو التمن" عام 1946:

أ"أبا عزيز" كنت تُذكي جذوتي، ويلّذُ سمعك منطقي وجواري

 

37/ بلاسم الياسين، احد شيوخ القبائل العراقية، في قصيدة "يابنت رسطاليس" عام 1947:

ايهٍ "بلاسمُ" والمفاخرُ جمة، احرزت منهنَّ الطريف التالدا

 

38/ عبد الاله بن علي، الوصي على عرش العراق، في قصيدة "ناغيت لبناناً" عام 1947:

"عبد الاله" وليس عاباً أن أرى، عِظمَ المقامِ مطوّلاً ، فأطيلا

 

39/ فيصل ، الثاني، ملك العراق، في قصيدة "ناغيت لبناناً" عام 1947:

يرجو العراق بظلّ راية "فيصلٍ " ان يرتقي بكما الذرى، ويطولا

 

 

40/ قيس الالوسي، شهيـــــد وثبة كانون العراقية، في قصيــــدة "الشهيد قيس" الرثائية – الوطنية عام 1948:

يا "قيسُ" : يا لُطفَ الربيع ، ووقد رونقهِ، الشبوب ِ

 

41/ هاشم الوتري، الطبيب الشهير، صديق الشاعر، في قصيدة "هاشم الوتري" التكريمية - السياسية عام 1949:

مجّدت فيك مشاعراً ومَواهبا ، وقضيت فرضاً للنوابغ واجبا..

لا بدّ "هاشم" والزمان كما ترى، يجري مع الصفو الزلال شوائبا..

لا بد عائدة الى عشاقها، تلك العهود وآن حُسبن ذواهبا

 

42/ ام عوف، راعية في قرية في قصيدة "ام عوف" الوجدانية – التنويرية عام 1955:

يا "أم عوف" عجيبات ليالينا، يُدنينَ اهواءنا القصوى، ويُقصينا...

يا "أم عوف" أدالَ الدهر دولتنا، وعاد غمزاً بنا ما كان يزهونا

 

43/ عبـــد الكريم قاسم، زعيم الجمهورية العراقيـــــة الأولى، في قصيدة "جيش العـراق" الوطنية عام 1958:

"عبدُ الكريمِ" وفي العراق خصاصة ليد ٍ وقد كنت الكريم المحسنا

ـ وكذلك في قصيدة "باسم الشعب" الوطنية عام 1958:

عبد الكريم وربّ فرد باسمه، عن كُنهِ نهضةِ امةٍ ايضاحُ

ـ وكذلك في قصيدة "أزف الموعد" الوطنية عام 1959:

و"زعيماً" يشمخ الجيـل به، واليه في الرزايا يُطمأنُ

ـ وكذلك في قصيدة "المستنصرية" الوطنية عام 1960:

و"ياربّ تموز" نزلت بليلهِ، على السحَرِ الريان ناراً تلهّبُ

 

44/ بي كه س، الشاعر الكوردي في قصيدة "بي كه س" الرثائية- الوجدانية عام 1961:

أخي "بي كه سٍ" والمنايا رَصَدْ، وها نحنُ عاريةً تستردُّ

 

45/ مصطفى بارزاني، الزعيم الكوردي العراقي، في قصيدة "كوردستان.. يا موطن الأبطال" السياسية عام 1962:

بآسم الامين "المصطفى" من أمة، بحياته عند التخاصم تقسمُ

ـ وكذلك في قصيدة قصيدة "طيف تحدر" السياسية، بمناسبة الاتفاقية الحكومية مع القوى الكوردية في بغداد عام 1970.. والبيت ادناه يخاطب الرئيس العراقي احمد حسن البكر، و"صقر الشمال" ايحاء للزعيم مصطفى برزاني :

جاذبت من "صقر الشمال" وانه، بالعزّ أمنع من مَطارِ عقابِ

 

46/ سلام عادل – حسين احمد الرضي، زعيم الحزب الشيوعي العراقي، في قصيدة" الى اطياف الشهداء الخالدين" الوطنية في براغ عام 1963:

سلاماً وما أنا راع ٍ ذماماً إذا لم اسلم عليكم لماما

سلاماً ضريحٌ يشيع السلاما، يعانق فيه "جمالٌ" "سلاما"

 

47/ جمال الحيدري،الزعيم  الشيوعي العراقي، في قصيدة" الى اطياف الشهداء الخالدين" الوطنية في براغ عام 1963:

سلاماً وما أنا راع ٍ ذماماً إذا لم اسلم عليكم لماما

سلاماً ضريحٌ يشيع السلاما، يعانق فيه "جمالٌ" "سلاما"

 

48/ عبد الرحيم شريف – ابو رائد، المسؤول الشيوعي العراقي، في قصيدة" الى اطياف الشهداء الخالدين" الوطنية في براغ عام 1963:

حماة الحمى والليالي تعودُ، وخلف الشتاء ربيع جديدُ

سيورق غصنٌ، ويخضر عودُ، ويستنهض الجيل منكم عميد

سيقدمه "رائدٌ" إذ يرود، ويخلف فيها اباه "سعيدُ"

 

49/ عبد الجبار وهبي- ابو سعيد، المسؤول الشيوعي العراقي، في قصيدة" الى اطياف

الشهداء الخالدين" الوطنية في براغ عام 1963:

حماة الحمى والليالي تعودُ، وخلف الشتاء ربيع جديدُ

سيورق غصنٌ، ويخضر عودُ، ويستنهض الجيل منكم عميد

سيقدمه "رائدٌ" إذ يرود، ويخلف فيها اباه "سعيدُ"

 

50/  محمد حسين ابو العيس، القائد الشيوعي العراقي، في قصيدة" الى اطياف الشهداء الخالدين" الوطنية في براغ عام 1963:

حماة الحمى والليالي تعودُ، وخلف الشتاء ربيع جديدُ ..

 و"سافرة" ستربِّ النسورا، توفي أبا "العيس" فيهم نذورا

 

51/ سافرة جميل حافظ، السياسية والاعلامية، زوجة الزعيم الشيوعي – الشهيد محمد حسين ابو العيس، في قصيدة" الى اطياف الشهداء الخالدين" الوطنية في براغ عام 1963:

حماة الحمى والليالي تعودُ، وخلف الشتاء ربيع جديدُ...

و"سافرة" ستربِّ النسورا، توفي أبا "العيس" فيهم نذورا

 

52/ محمد صالح بحر العلوم- ابو ناظم، الشاعر في قصيدة "يا أبا ناظم" وكان سجيناً في العراق، براغ عام 1965:

يا "أبا ناظم ٍ" وسجنك سجني، وأنا منك مثلما أنت مني...

أ شداةٌ مشردون بلا وكـنّ، وخُرسُ الطيور تأوى لوكنِّ

 

53/ صالح مهدي عماش، أبو هدى، السياسي والمسؤول العراقي، في قصيدة "رسالة مملحة" التنويرية - براغ 1969:

أ"أبا هدى" شوق يُلح ولاعج يُذكي الشغافا

يصفيك محض وداده، حرٌ يُصافي إذ يُصافى

ـ وكذلك في قصيدة "مهلاً" التنويرية في براغ عام 1969:

مهلاً أخي "عماش" قد أوجفت في الدربّ اعتسافا

انا ربّ "حطين ٍ" و"يافا" أنا صاحب القلب ِ المعافى

 

54/ احمد حسن البكر، رئيس جمهورية العراق- الشيخ الرئيس، كما يوضح هامش البيت أدناه، في قصيدة "طيف تحدر" السياسية، بمناسبة الاتفاقية الحكومية مع القوى الكوردية في بغداد عام 1970:

يا أيها الشيخ الرئيس تحيةً، هي في صميم الودّ والاعجابِ

ـ وكذلك في قصيدة "سلمت ثورةٌ، وبورك عيد" السياسية، في بغداد عام 1974:

وسلاماً للأصيد البكر، تلاقت على خطاة الصيدُ

ـ وكذلك في قصيدة "محمد البكر" يرثي فيها "محمد" ابن الرئيــــس العراقي احمد حسن البكر، بغداد عام 1978:

تعجل بشرَ طلعتك الافولُ، وغال شبابك الموعودُ، غولٌ...

أبثك يا "ابن احمد" هدهداتٍ، بهنّ يسامر الخلّ الخليلُ

ـ وكذلك في قصيدة "أبا الشعــر" السياسيــــة، وأبو هيثم هنا هو الرئيس البكر، وكانت محاولة من الشاعر لحقن الدماء في العراق، بغداد عام 1978:

"ابا هيثم" يا موسع الناس حلمه، أفاء عليهم ظلهُ وتحدبا

 

55/ صدام حسين، نائب الرئيس العراقي، في قصيدة "أبا الشعر" السياسية، في قصيدة حاول فيها الشاعر حقن الدماء في العراق عام 1978:

ويا "أبن الحسين" الفدّ شهماً سميدعاً، مهيباً وثوباً قبل ان يتوثبا

 

56/ بشار ابن برد، الشاعر ، في قصيدة "بغداد" السياسية - براغ عام 1980:

لا درّ درك من ربوع ديار، قرب المزار بها كبعد مزارِ...

هوت الحضارة فوقها عربية، وتفردت "آشور" بالآثارِ

عشرون قرناً وهي تسحب خلفها، بدمٍ، ذيول مواكب الاحرارِ

بـ"ابن المقفع" و"آبن قدوسٍ" وبـ"الحلاج" والموحى له "بشارِ"...

 

57/ جلال طالباني، الزعيم الكوردي العراقي صديق الشاعر، في قطعة شعرية سياسية – اخوانية، بعنوان "حمار عيسى" - براغ عام 1966:

شوقاً "جلال" وكم بثٌ وجدت به، عن كربهِ تسترق الروح تنفيسا

- وكذلك  في قصيدة "ماذا اغني" الوطنية - براغ عام 1980:

شوقاً "جلال" كشوق العين للوسنِ، كشوق ناء ٍ غريبِ الدار، للوطن ِ

 

58/ موسى الجنابي، الشاعر، في قصيدة "ياآبن الجنابي" الوجدانية ، عام 1982:

يا "آبن الجنابي" لاجافتك غادية ٌ، نظير صنعك ، معطاء ومعطارُ

 

59صلاح خالص – ابو سعد، صديق الشاعر، في قصيدة "أأخي أبا سعد"  الوجدانية، عام 1984:

أأخي "أبا سعدٍ" ومن قٌبل ، اهدى، ستقبس جمرتي قبسا..

"أصلاح" إني والذي قدرتْ، يُدهُ النفوس وقّدر النفسا

لاكفُ نفسي وهي جامحة ٌ، عن أن تروح لغيظها فرسا

2

 هذا هو القسم الثاني – الاخير، من الفصل الاول، لبحث توثيقي، اتممه رواء الجصاني، ومقرر ان يصدر مطبوعاً عن مركز الجواهري للثقافة والتوثيق خلال الفترة القريبة القادمة، شاملاً اسماء مشاهير وشخصيات، ووجوه، وغيرهم، من العراقيين والعرب والاجانب وعداهم ، قدماء ومعاصرين، وردت في شعر الجواهري العامر( 1922-1991) والمنشور في ديوانه بشكل رئيس .. وسواء جاء ذلك الوارد مدحا او هجاء، او في تلك المناسبة وسواها.../مع تحيات مركز الجواهري:

----------------------------------------------------------

- ثانيا: أخوانيات

1/ علي، ابراهيم الجصاني، المجتهد الديني، صديق الشاعر، في قصيدة:

 "خل النديم" عام 1922:

لي فيكَ صوغٌ للبلاغة لو خلا، جيد الفتاة، لزانها منسوقهُ

 

2/ محمد علي اليعقوبي، الشخصية النجفية، في قصيدة "هجرت الديار" عام 1922:

اطلت المقام ألا عودة، تحيي "الغريّ" بانوارهِ

 

3/ محمد رضا ذهب، صديق الشاعر، في قصيدة "على حدود فارس" عام 1924 :

أحبابنا بين محاني العراق، كلفتمُ قلبي بما لا يطاقْ

 

4/ محمد علي العلاق، صديق الشاعر، في قصيدة "وفّى الربيع" عام  1924 :

ولئن سلوت ففي التهاني سلوةٌ بـ"محمد" صفو الندى، وحليفهِ       

 

5/ جعفر النقدي، صديق الشاعر، في قصيدة "بعد الفراق" عام 1925:

فوالله لا اقوى على ما تهيجه، لقلبي من الذكرى وياليتني اقوى

- وكذلك في قصيدة "تحت ظل النخيل" عام 1925:

يا من ذكرناه والالبابُ طائشةٌ، ظلمٌ على خضرات الانس تنسانا

- وكذلك في قصيدة "عند الوداع" عام 1926 :

الله يصحبُ بالسلام مودعي، عجلاً وإن اخنى علي بعادهُ

- وكذلك في قصيدة "من النجف الى العمارة" عام 1926:

يا أبا صادق احبك حباً لا يبقي على اصطبار المحبِّ

- وكذلك في قصيدة "على دربند" عام 1926:

احبتنا لو أنزل الشوق والهوى، قلب صخر جامد لتصدعا

 

6/ سلمى ( فنانة شهيرة) في قصيدة "سلمى على المسرح" عام 1930:

أفتحي لي"سلمى" يديك، يقبلْ يديكِ صبُّ

- وكذلك في قصيدة " سلمى ايضاً.. أو وردة بين اشواك " عام 1932:

إن هذا الجمالَ "سلمى" غذاء الروح، لولاه آذَنتْ بهلاكِ

 

7/ فرات الجواهري، بكر الشاعر، في قصيدة "الى الشباب السوري" عام 1938:

"فراتً" اشبهُ كلّ الناس بي ولعاً، في ما احبّ، تبناهُ بكِ الولعُ

 

8/ ام فرات، مناهل جعفر الجواهري، زوجة الشاعر، في قصيدة "ناجيت قبرك" عام 1939:

حييّت "ام فراتٍ" إن والدة، بمثل ما انجبت، تكنى بما تلــدُ

 

9/ نوري، الاورفلي، صديق الشاعر، في قصيدة "تطويق" عام 1941:

"نوري" ولم ينعم عليّ سواكا، احدٌ ونعمة خالق ٍ سواكا

 

10/ حمزة الشيخ علي، صديق الشاعر، في قصيدة "صيّاد" الاخوانية عام 1942:

مضى "حمزة" الصياد يصطادُ بكرةً ، فآب وقد صادَ العشيَّ ، غرابا

 

11/ عبود زلزلة، الشخصية التربوية، صديق الشاعر، في قصيدة "أوج الشباب" عام 1946:

أأخيّ "عبود" ولست بمعوز ٍ، مدحاً، ولكن الجُحودُ معيبُ

 

12/ محمد حسين الشبيبي، التربوي، صديق الشاعر، في قصيدة "أوج الشباب" عام 1946:

إن كان مسكٌ "والحسين" كلالةٌ ، او كان نالكما عناً، ولُغُوبُ

 

13/ فاطمـــة، بنت الشيخ شريف الجواهري، والـــدة الشاعر، والشهيد جعفر، في قصيدة "أخي جعفر" الرثائية - الوطنية عام 1948:

وهُـمْ بكَ أولى  وان رُوعت "عجوزٌ" على فلذةِ تلطـمُ

ـ وكذلك، في قصيدة "قفص العظام" الوجدانية عام 1951:

تعالى المجدُ يا قفصَ العظام، وبورك في رحيلك والمُقام ِ..

فيا شمسي اذا غابتْ حياتي ، نشدتكِ ضارعاً ألا تُغامي

- وكذلك في قصيدة "دجلة الخير" الوطنية عام 1962 كما توضح حاشية البيتين التاليين:

ويا ضجيعي كرى اعمى يلفهما، لفّ الحبيبين في مطمورة ٍ دونِ

بنوة ً، وأخاء حلف ذي ولع، لو تسلمان، وان الموت يطويني

 

14/ نبيهة، أخت الجواهري، والشهيد جعفر، في قصيدة "أخي جعفر" الرثائية – الوطنية

 عام 1948:

و"أخـتٌ" تشق عليك الجيوبَ، ويغرزُ في صدرها معصـمُ

- وايضاً في مقطوعة "يا فرحة العمر" عام 1977:

سلمت ِ أختي إذا لم يبق ِ لي زمني ، أخاً سواها ، ولا أختاً تناغيني

- وكذلك في قصيدة "حبيبتي نبيهة" الرثائية - دمشق عام 1987:

 حبيبتي "نبيهة" كيف ذوتْ، معجلةٌ ، بسمتك المحببة؟!

 

15/ محمــد باقر الجواهري، ابن عـــم الشاعر، وصديقه الأقـــرب، في قصيـــدة "أخـا ودي" الرثائية - الوجدانية عام 1952:

بقلبي، ام بنعشك حين مادوا، ودمعي أم رثاؤك يُستعادُ

 

16/ آمنة – امونة (ام نجاح) ابنة الشيخ جعــفر، زوجة الجواهري، في قصيــدة "وحي الموقد" التوثيقية – التنويرية عام 1956:

ان عرسي وهي جامحة ، فجـةٌ، لون ٌ من الادبِ

- وكذلك في قصيــدة "حبيبتي" الوجدانيــة في بغداد عــام 1975:

حبيبتي ... منذ ُ كان الحبّ في سَحَرٍ، حلو النسائم حتى عقـّه الشفقُ

-  وايضا في قصيدة "في وداع ام نجاح" الرثائية – دمشق عام 1992:

ها نحن "أمونة ٌ " ننأى ونفترق ُ، والليل يمكث ُ والتسهيد ُ والحرق ُ

 

17/ عبد اللطيف الشواف – ابو زيدون، السياسي، صديق الشاعر، في قصيدة "أبا زيدون" براغ عام 1962:

"أبا زيدون" ما احلى ، معانيك وما أطرى، لقد اوحشنا بعدكَ ، لولا نعمة الذكرى

 

18/ يوسف زينل – ابو القاسم، المحامــي المعروف، صديــق الشاعر، في قصيدة

 "أبا زيدون" براغ عــام 1962:

ألا ابلغ "أبا القاسم" انا نعصر الخمرا، وأنا نقرأ الغيّب، وأنا ننفثُ السحــرا

 

19/ خيال، ابنة الجواهري، الوسطى، في قصيدة "اطفالي واطفال العالم" موسكو 1962:

لي طفلتان اقنص "الخيالا" عبريهما والعطر والظلالا

ـ وكذلك في مقطوعة "يا خيالي" ببراغ عام 1964:

يا "خيالي" لك الشفاء السريع، والغد المشرق الانيسُ الوديعُ

 

20/ ظلال، ابنة الجواهري الصغرى، في قصيدة "اطفالي واطفال العالم" موسكو 1962:

لي طفلتان اقنص "الخيالا" عبريهما والعطر و"الظلالا"

 

21/ سعاد خضر- ام سعد، زوجة صلاح خالص، صديق الشاعر، في قصيدة "يا أم سعد" في موسكو عـام 1965:

يا":أم سعد ٍ" واللياليّ قُلبُّ ، عجيبةٌ وما تخّبي أعجبُ

يا أم سعدٍ ان تناءت دارُنا ، فالذكريات بيننا تقـرّبُ

 

22/ عبد الغني الخليلي، أبو فارس، في قصيدة "أبا الفرسان" في براغ عام 1967:

"أبا الفرسان" انك في ضميري، وذاك أعز دار ٍ للحبيب ِ

 

23/ مظفــر النواب، الشاعر، واستعار الشاعر تسمية "محمد المصباح" تورية، كما توضح حاشية البيت أدناه، في مقطوعة "فاتنة ورسام" براغ عام 1970:

وقال "محمد الصباح" يوماً، لفاتنة من الغيد الحسان ِ

تعالي أرسمنكَ غداً فقالت، غداة غدٍ ، وفي المقهى "الفلاني"..

 

24/ مهدي المخزومي، العلامة النحوي، صديق الشاعر، في قصيدة "أبا مهند" عام 1974:

أبا "مهند" لا آذتك نازلة، ولا تخطت الى عليائكَ العللُ

 

25/ محمد، نجل احمد حسن البكر، الرئيس العراقي، في قصيدة "محمد البكر" الرثائية عام 1978:

تعجلَّ بشر طلعتكَ الافولُ ، وغال شبابك الموعودُ ، غولُ

 

26/ شاذل طاقة، ابو نواف، الشاعر، صديق الجواهري، في قصيدة "ابو نواف" عام 1978:

سلمت "أبا نواف ٍ" الشهم إنها ، نهارٌ وليل يوسعان بنا أكلا

 

 

27/ نادية، حفيدة الشاعر من نجله كفاح، بمناسبة تخرجها من الجامعة، عام 1988:

يا ناديا! زهو الندى، يا بسمة الزهرِ الندي،

 يا قطعة ً من كبد ٍ، تحدرتْ من كبدي

 

28/ حسام صكب الكامل، تقديرا لجميلٍ قدمه للشاعر، في قصيدة "يا أبا باسل" – بودابست عــام 1991:

يا "أبا باسل ٍ" هتاف حبيب، من بعيد ٍ وفاؤه، وقريب ِ

 

- تنويــه واضافة :

 بحسب معرفتنا، ومتابعاتنا، هناك عـدة قصائد ومقطوعات، وابيات "اخوانية" للجواهري كتبها لعدد من اصدقائه، ولغيرهم، ولكنها غير منشورة في دواوينه، بمختلف طبعاتها، ولا حتى في طبعة بيروت 2000 شبه الاكمل… ومن بين الاسماء التي حملتها  تلكم الاخوانيات، بحسب التسلسل الابجدي، مع حفظ الالقاب والمواقع:

1- آرا خاجادور. 2- جمال الجواهري. 3- رواء الجصاني. 4- عادل حبه. 5- عبد الحسين شعبان. 6- عبد الحميد برتو. 7- فخري كريم. 8- كاظم حبيب. 9- كفاح الجواهري. 10- محمد حسين الاعرجي. 11- موسى اسد الكريم.

 

-----------------------------------------

انتهى الفصل الاول، ويتبعه الفصل الثاني الموسوم " مشاهير ومثقفون عرب"

مع تحيات مركز الجواهري

www.jawahiri.net

 

 

------------------------------------------- يتبع القسم الثاني/ الفصل الاول

مع تحيات مركز الجواهري

www.jawahiri.net

 

 

 

الجواهري ....بعيداً عن

"الوطنية" و"الثورية"!

رواء الجصاني

     باستثناءات محدودة، ركزت المئات من المقالات والبحوث والدراسات والكتب على عطاءات الجواهري الثقافية، ومواقفه الوطنية، واهتماماته السياسية، وتطلعاته الطموح وموهبته الشعرية وتمرده الجامح، وسواها من شؤون عديدة. وقد أغفل بسبب ذلك التركيز، التناول المناسب للجوانب الانسانية من حياة ذلك الذي "أحب الناس كل الناس"، ولمشاعره الوجدانية، وصداقاته وعلاقاته ومنها مع "الأغلين" وخاصة أهل البيت من قطعوا ومن وصلوا"... وغيرهم.

    ولاشك بأن وراء تلكم الحال أسباب مختلفة نزعم أن الأهم منها كانت أوضاع البلاد الملتهبة على امتداد العقود التسعة والنيف التي عاشها الجواهري ملتهـِـباً، ومتعَباً ومتعِبأ في آن واحد... كما تجيء ضمن تلك الأسباب أيضاً شخصية الجواهري التي فرضت هيبتها وشموخها بقوة ورسوخ على المثقفين والكتاب والباحثين، وقسوة العديد من قصائده تجاه المتحرشين والحاسدين، وحتى بعض النقاد، مقتنعاً تماماً بأن ليس في الحياة من "نبيغ غير مطعون"، ومن يشأ "فليجُبْ أربع النقد ويسأل عن ملاحمها" كما يصرح في نونية دجلة الخير ذائعة الصيت...

وفي ضوء ذلك وغيره، راحت روائع جواهرية كثيرة تحتل مراتب ثانوية أمام بعض قصائد أخرى كانت أقرب إلى مزاج الناس و"الثوريين" منهم على وجه التحديد... ولربما يصلح أن نقارب هنا بانحسار شيوع قصيدته "الأخلد" حسب تعبيره، ونعنى بها "المقصورة" أمام رائية "طرطرا" أو ميميمة "تنويمة الجياع" وغيرهما كثير... وقد لا نبالغ في القول هنا، أن الآلاف من محبي الجواهري، ولانعني هنا النخب الثقافية بالتأكيد، قد يفاجئون حينما يسمعون أن للجواهري قصيدة عن "لغة الثياب" وعن "البحر حين يسجو"، وثالثة عن "بائعة سمك" وأخرى عن "عبقرية" الملاكم محمد علي كلاي وغيرهن من فرائد طغت فيها الفلسفة على الشعر والمشاعر... ونواصل هنا فنشير إلى نماذج متميزة في هذا السياق ومنها بائيته عن أبي العلاء، ونونيته عن أبي الطيب، وعن "لغز الحياة وحيرة الألباب" في ذكرى الرصافي وعديد آخر من قصيد الجواهري الغزير...

... ثم قد لا يصدق الكثيرون أن لشاعرهم الوطني، بل و"الثوري" الأعظم، قصائد غزل متفردة، كتبها على مدى عقود، بل وحتى وهو في السبعين... ولربما غلب بها حتى الشعراء الشباب، وبحيث راح يخاطب نفسه متسائلاً: "لجاجك في الحب لا يجمل، وأنت ابن سبعين لو تعقلُ"؟!...

    وفي ذات الاتجاه يمكننا التأشير هنا إلى أن انشغالات الجواهري العارمة في ميادين التنوير، وهمومه ومشاغله الثقافية والوطنية، لم تمنع عنه الانفعال والتفاعل مع همومه وشؤونه العائلية والشخصية، وتلك هي سمات الشاعر الأصيل كما هو معروف... فراح يحن لأمه، يخاف عليها "عاقبة الجمام" وينعى زوجة راحلة "تكنى بما تلد" ويوفي رفيقة دربه "حلوة المجتلى" ويناجي أخته "فرحة العمر" ويناغي طفلتيه اللتين يقنص الخيالا... عبريهما والعطر والضلالا". ويهنيء حفيدته "الزهر الندي" بعيد ميلادها...

  ... ثم، وكم مرة ومرة راح يكتب لصديق يبثه "شوقاً يلدغ الأضلع حتى خاله جمرا" وداعياً لسمير حينما ألمت به وعكة صحية "ان لا تخطت إلى عليائه العلل" ولآخر شاكياً من "هروب" حبيبة ويدعوه "هلم أصلح.."، ولرابع وخامس يناشدهما لكي "يتوسطا" له في تغيير شقته ببراغ...

     وهكذا، وبسبب شيوع و"طغيان" قصائد الجواهري الوطنية والثورية، ظُلمت العشرات من روائعه الأخرى في مضامير الوصف والغزل والهجاء وغيرها... وقد ساهمت في ذلك "الطغيان" مسارات "البلد العجيب" ومآسيه على امتداد عشرات السنين، وكذلك ميول النقاد وتركيزهم على عطاءات الجواهري السياسية وابداعاته ذات الصلة، ومن جانب الأدباء والكتاب العراقيين بشكل رئيس... ولهذه الأسباب، وما يحيط بها، تحجم انتشار ما صدح به الشاعر العظيم في "حبه المميت للحياة" بقساوتها ومباهجها، كما يقول في نونيته الشهيرة "دجلة الخير".

  ... وذلك العشق الجواهري الجامح للحياة، دفعه لأن يتحمل ما تحمل في سبيله، مؤمناً بأن "صفو السماء يريه قبح جهامها"... وشاهداً أن الحياة "معاناة وتضحية، حب السلامة فيها أرذل السبل"... ومنذ عشريناته، وحتى الثمانينات، لم يخفِ الشاعر قيمه تلك مستميتاً في الدفاع عنها... بل وسعى إلى دنيا متميزة "فيها الحمامة جنب النسر تتحد"، وليس أي حياة رتيبة يرضى بها "الرائبون"... مع أنه، وفي صورة من تناقضاته التي تجمع "التحريك والتسكين" راح في حالات استثنائية يفكر بالمهادنة أحياناً لكي لا يضيّع يومه، وغده، كما ضيع "الأمس الذي لن يرجعا"... بل ويلوم في مناسبات طارئة أخرى، نفسه التي أحاق بها "ما لم يحقه بروما عسف نيرون" بحسب قصيدته الذائعة "دجلة الخير" عام 1962.

 ... أما المرأة، وهي رمز الحياة وصنوها كما يرى الجواهري، فقد قبس من وليدها "نغم القصيد" و"حمد شعره ليروح لها قلائداً وعقودا"... وفيها، وعنها كتـــب العديد مــن الروائع، وفاء واعترافاً بالجميــل والجمــال... وغزلاً، كما ووصفاً نادراً ما برح يتردد صداه وشذاه إلى اليوم، وان مضت عليه أكثر من عقود وعقود...

... ولكي لا نبقى في التوصيف العام، ها هو شاهدنا على ذلك مثل: "بديعة - 1932" و"افروديت - 1946" و"انيتا 1948" و"سأقول فيك 1962" و"ليلتان على فارنا -1973" وغيرهن كثار كثار.

 كما لم يقتصد الشاعر الفرد في ذلك المنحى حتى وهو في شيخوخته المعطاء حين اعترف بأن "لجاجه في الحب لا يجمل"، وهو ابن سبعين "لو يعقل"!... إلا أنه وبرغم تلك المناشدة، وذلك الاعتراف، عاد وبتصميم عارم ليكتب "لا وعينيك لن أتوب" أوائل الثمانينات!!...

ان ما جرى التطرق عليه، ولو بعجالة، يعكس وقائع وحقائق ينبغي أن يُفرد لها على ما نرى حيز مكمل لأي باحث أو دارس للظاهرة الجواهرية، الشعرية والانسانية، ومن دون ذلك نظن – وليس كل الظن اثم – ان الصورة لن تتكامل عن حياة وشخصية شاعر أعظم، شغل أغلب القرن العشرين، وبعض القرن الحادي والعشرين حتى الآن على الأقل..

---------------------------------------------------------------------

مع تحيات مركز الجواهري / براغ

www.jawahiri.net

 

 

 

في السنوية العشرين لرحيل

الشاعر الخالد، مبدعون

ومثقفون واكاديميون يكتبون:(1-9)

استذكار الجواهري ...

تباهٍ بالوطن والشعر والتنوير

رواء الجصاني(*)

------------------------------------------------------------------------

دعونا نتساءل مشتركين،  قبل البدء، هل نحن في مناسبة رثاء؟ .. ام انه استذكار لخالد لم يرحل؟... هل رحل ،حقاً، محمد مهدي الجواهري (1898-1997) ؟!  أوليس هو من قال: 

أكبرت ُ يومكَ ان يكونَ رثاءَ، الخالدون عرفتهم احياءَ؟

   - وإذا ما كانت ملحمة - اسطورة كلكامش، السومرية الغارقة في العراقة، وحتى اربعة الاف عام، قد تحدثت عن الخلود والموت، هاهو الجواهري يجسد الامر حداثياً، وواقعياً، فراح يَخلـدُ، وإن رحلَ، وعن طريق اخرى، هي الفكر والشعر والابداع..

  -  أما صدحَ - ويصدحُ شعره - كل يوم في قلوب وأذهان كل المتنورين، العارفين دروبهم ومسالك حياتهم ؟.

 -  أما برحت الاطاريح الاكاديمية، فضلا عن الدراسات والكتابات، والفعاليات الثقافية والفكرية تترى للغور في عوالم شاعر الامتين، ومنجزه الثري؟! .

  -  الظلاميون ومؤسساتهم، وأفرادهم، وتوابعهم، المتطوعون منهم أو المكلفون، والقابضون، وحدهم - لا غيرهم - ما فتئوا يسعون، لأطباق صمت مريب عن الجواهري، وحوله، ولا عتاب بشأن ذلك، فلهم كل الحق في ما يفعلون،  فالضدان لا يجتمعان :  تنوير ومواقف الشاعر الخالد، ودواكن الافكار والمفاهيم .

... وفي التالي مجموعة مساهمات - ننشرها على حلقات - تفضل بها على "مركز الجواهري للثقافة والتوثيق" مبدعون ومثقفون وكتاب وأكاديميون، بمناسبة الذكرى السنوية العشرين لرحيل الجواهري الخالد، والتي تصادف في 2017.7.27... ونبدأ تلك الحلقات بمساهمة مركز الجواهري:

-------------------------------------

* يموتُ الخالدونَ بكل فــجٍ، ويستعصي على الموتِ الخلودُ *

    في مثل هذه الايام، وصبيحة الأحد، السابع والعشرين من تموز عام الفٍ وتسعمئة وسبعة وتسعين، تحديداً، استنفرت وكالات أنباء ومراسلون وقنوات فضائية وغيرها من وسائل اعلام، لتبث خبراً هادراً، مؤسياً، هزّ مشاعر، ليس النخب الثقافية والسياسية فحسب، بل والألوف الألوف من الناس في شتى الارجاء:

" الجواهري يرحل إلى الخلود في احدى مشافي العاصمة السورية – دمشق،

عن عمر يناهز المئة عام"

  وهكذا يطبق " الموت اللئيم" اذن على ذلك المتفرد الذي شغل القرن العشرين، على الأقل، ابداعاً ومواهب، ثم لتروح الأحاديث والكتابات تترى بعد الخبر المفجع، عن عظمة ومجد الراحل العظيم:

-  المتميز بعبقريته التي يتهيّب أن يجادل حولها أحد...

 - السياسي الذي لم ينتم ِ لحزب، بل كان “ حزباً ” بذاته، يخوض المعارك شعرا وفكراً ومواقف رائدة

- الرمز الوطني الذي أرخ للبلاد وأحداثها بأتراحها وأفراحها من داخل الحلبة، بل ووسطها، مقتحماً ومتباهياً:

أنا العراق لساني قلبه ودمي فراته وكياني منه اشطارُ

... وذلك الراحل الخالد، نفسه: حامل القلم الجريء والمتحدي الذي “لو يوهب الدنيا بأجمعها، ما باع عزاً بذل المترف البطر".. ناشر صحف " الرأي العام"  و" الجهـــاد"  و"الثبات" … ورفيقاتهن الأخريات

- منوّرٌ متميزٌ من أجل الارتقــاء، صدح مؤمناً على مدى عقـود حياته المديدة:

 لثورة الفكر تاريخ يحدثنا، بأن ألف مسيح دونها صُلبا

 - صـاحب " يوم الشـهيد" و" آمنـــت بالحسين " و" قلبي لكردستــان" و" الغضب الخلاق" و" لفداء والدم”… شامخ، يطأ الطغاة بـ" شسع نعل ٍ عازبا"..

...  والجواهـري ايضا وايضا: متمرد عنيد ظـلّ طـوال حياتـه باحثاً عن “وشـك معترك أو قرب مشتجر”.. كيّ “يطعم النيران باللهب”! ..

- مبـــدعٌ بلا حـدود في فرائـد" المقصــــورة " و" زوربـا" و" المعـري"  و" سـجـــا البحـر" و" أفروديـت" و" أنيتـا" و”لغة الثياب” و" أيها الأرق" وأخواتهن الكثار

-  وهو قبل كل هذا وذاك " أحب الناس كل الناس، من أظلم كالفحمِ، ومن أشرقَ كالماس".
 - كما انه " الفتى الممراح فراج الكروب" الذي " لم يخل من البهجة دارا" ..

- رائدٌ في حب وتقديس من " زُنَّ الحياة" فراح يصوغ الشعر " قلائداً لعقودهنَّ" … و" يقتبس من وليدهن نغم القصيد" ..

-  وديع كالحمامة، ومنتفض كالنسر، حين يستثيره " ميتون على ما استفرغوا جمدوا" ..

وهو لا غيره الذي قال ما قال، وما صلى " لغير الشعر من وثن "  … فبات الشعراء يقيسون قاماتهم على عمود قامته الشامخ

...انه وباختصار: ذلك الطموح الوثاب الذي كان، ومنذ فتوته “يخشى أن يروح ولم يبقِ ذكرا” … فهل راحت قصائده – حقا – " ملؤ فم الزمان" !! وهل ثبتت مزاعمه بأن قصيــده " سيبقى ويفنى نيزك وشهاب"  وهو القائل:

وها هو عنده فلك يدوي….. وعند منعمِ قصر مشيدُ

يموت الخالدون بكل فج ٍ .. ويستعصي على الموت ِ الخلودُ

...ترى هل صدق بما زعم ؟؟!. التاريخ وحده من انبأنا، وينبئنا عن الامر، ويا له من شاهد حق ٍ عزوفٍ عن الرياء!!..

---------------------------------------

(*) رئيس مركز الجواهري للثقافة والتوثيق

www.jawahiri.net

 

 

 

 

 

 

 

في الذكرى 54 لانقلاب البعث

الدموي الاول في العراق عام 1963

بلقيس عبد الرحمن،

عقيلة الشهيد وصفي طاهر تتذكر..

 

تقديم وعرض: رواء الجصاني

 

لن  نأتي جديدا  في القول بأن استيلاء البعثيين على السلطة، وأغتيال الجمهورية الاولى، في انقلابهم الدموي بتاريخ 1963.2.8  جاء بعد تراكمات كمية ونوعية من الاحداث والوقائع التي استمرت طوال اربعة اعوام ونصف، اي منذ قيام ثورة / حركة  14 تموز 1958 وحتى تاريخ الانقلاب الاسود ..

وإذ يطول الحديث ويعرض ويتشعب، دعونا نتوقف عند بعض تلكم الشؤون والشؤون، في ذكريات شاهد عيان، هو الفقيدة الجليلة: بلقيس عبد الرحمن، عقيلة العميد الشهيد، وصفي طاهر، احد ابرز قيادات الثورة، والعهد الجمهوري الاول،  مع بعض اضافات وتوثقة مثبتة، ذات صلة (*) :

 

** عن محاولة اغتيال الزعيم في شارع الرشيد

استمرت المحاولات التي استهدفت ثورة تموز، وقيادتها الرئيسة، متمثلة بالزعيم عبد الكريم قاسم. وبعد أحداث الموصل في اذار 1959، تقوم زمرة من حزب البعث العربي الاشتراكي بمحاولة مسلحة لاغتيال الزعيم في منطقة رأس القرية بشارع الرشيد، في بغداد (تشرين الأول / 1959)... وبحسب مذكرات بلقيس عبد الرحمن، فان زوجها، وصفي طاهر، اتصل بالعائلة ليخبرها بما حدث، وليسرع بسيارته الى مستشفى السلام في منطقة العلوية، حيث نقل الزعيم قاسم مصاباً باطلاقات عديدة، وقد أصرّ على ان لا يدخل صالة العمليات دون ان يكون وصفي طاهر موجوداً، ليطمئن. ولدى وصوله، سلّمه الزعيم مسدسه، وأُدخل للصالة، وبقي وصفي في المستشفى الى جانب الزعيم طيلة فترة مكوثه فيها.

ووفق المذكرات ذاتها تكتب بلقيس عن زوجها وصفي طاهر: راح المحرضون والمعادون لمسيرة ثورة تموز، يزورون قاسماً في المستشفى ليسمعوه كل ما يغلي الصدور، ويؤزم الواقع، ومن بين ذلك ان سلوكه (الزعيم) دفع للحادثة لأنه كان مع "اليسار"... كما حاول البعثيون الترويج لاشاعة تقول بان من كان وراء المحاولة هما وصفي طاهر وجلال الأوقاتي، وجماعتهما...

وبعد خروج الزعيم قاسم من المستشفى راح يميل الى نقل وابعاد كل محسوب على "اليسار". ومن بينهم، أولئك الضباط الذين كان وصفي طاهر اختارهم ليكونوا في حماية الثورة. بل – وبحسب المذكرات – فان الزعيم راح يشكّ بكل ما ينصح به وصفي، بل وبات يتحذّر منه احياناً... ومن بين ذلك – مثلاً - انهما حينما كانا يتغديان معاً في وزارة الدفاع ذات يوم، كان الزعيم ينتبه لوصفي بكل حذر "محترزاً" منه، كيلا يقوم بسحب مسدسه عليه، وقد ردّ عليه وصفي، في خلوة ثنائية: لا تعتقد انني سأخونك، ما دمتَ ضد الاستعمار، وحينما اشك بك، سأقول ذلك، وسأكون ضدك، وانت تعرفني جيداً بأني صريح وصادق".

وبحسب المذكرات أيضاً، تنقل بلقيس عبد الرحمن عن وصفي قوله: "ان احد الضباط المخلصين، القريبين منه، طلب ان يسمح له بالدخول الى غرفة الزعيم في المستشفى، وينهي حياته، لانه السبب في انتكاسة الاوضاع، فردّ عليه وصفي بشدة: "ان من يقوم بهذا العمل، اي قتل جريح، وزعيم ثورة ووطني، ما هو الا نذل"... وكان – وصفي - يتوقع ان تتحسن الاوضاع بعد ان يشفى قاسم، وان يكون ما حدث درساً له. ولكن ما جرى يبدو هو العكس تماماً.

** تحذيرات لم تنفع

... وفي عودة جديدة لما سجلته بلقيس في مذكراتها – ذكرياتها ننقل أيضاً: ان وصفي كان يحذر الزعيم دائما بأن معاديه من الرجعيين لا يمكن ان يكونوا بجانبه، ويخلصوا للثورة فلم يستمع له، وكان يعمل العكس بعد ان ادخلوا في رأسه ان الشيوعيين بدأوا يتآمرون عليه، وكان يردد هذا الكلام دائما امام وصفي ويقول له: "أقول لك ان الشيوعيين يتآمرون ضدي"... وكان وصفي يجيبه بشدة: "مستحيل مثل هذا الكلام، فالشيوعيون مصيرهم مرتبط بمصيرك، وما دمت تقف ضد الاستعمار فهم يساندونك، وانا كذلك، ومجرد ان اعرف انك صرت الى جانب الاستعمار، فسأعمل، وأحمل السلاح، ضدك"... وحول هذا الأمر، كان وصفي يبلّغ المسؤولين الشيوعيين بظنون قاسم وشكوكه بشكل مستمر ...

 ** العلاقة تتوتر أكثر فأكثر

أخذت الأمور تتعقّد شيئاً فشيئاً، وبات وصفي طاهر لا يذهب كثيراً الى مكتبه في وزارة الدفاع، حيث مقر الزعيم عبد الكريم قاسم، زعلاً، واشعاراً بما يقوم به – قاسم - من أخطاء ومواقف واجراءات تقود البلاد وأهلها الى الهاوية... وحينما كان وصفي يتواجد في الوزارة، يعود غاضباً – بحسب بلقيس عبد الرحمن في مذكراتها – وذلك لأن قاسم راح يقرّب "المنافقين" أكثر فأكثر...

وفي شؤون مشابهة، تضيف مذكرات بلقيس: كان وصفي يبقى ساهراً في الليل، قلقاً من الأوضاع، متوتراً بسبب سياسات الزعيم قاسم وإجراءاته التي ستورّط الشعب، وقد اصبحت السلطة كلها بيد المعادين للثورة، ولم يعد له – وصفي - حول ولا قوة... متوقعاً ان تحدث مؤامرة كبيرة وسينتقم المعادون، وبينهم أذناب الاستعمار من الشعب المسكين الذي ليس له مَن يحميه... وكلما كان – وصفي - يتحدث عن ذلك مع قاسم، كان يرد: هذه دعاية الشيوعيين، يهولون الوضع، ولم يصدق ما ينبئه وصفي به، لان المنافقين ينقلون له اخبارا عن الوقائع خلاف ذلك، ويزيدون المديح له ولاجراءاته، وراح يصدّقهم بالفعل...

... كما جاء في مذكرات بلقيس أيضاً، ان من المؤشرات الأخرى حول توتر العلاقة بين الرجلين، حين بدأ قاسم يضجر من ملاحظات وصفي، ومنها حول خطاباته الارتجالية التي كان يدعوه لأن تكون مكتوبة، لكي يمكن ان يؤثر بها أكثر في الجماهير، ولكنه – قاسم - رفض تقبّل تلك النصيحة... كما رفض ان يستمع لدعوة وصفي له بالاشارة الى أهمية الحديث عن الديمقراطية في تلك الخطابات لطمأنة القوى السياسية، والمواطنين، بعدم تفرّده في الحكم...

ومن بين ما سجلته "بلقيس" في مذكراتها نقلاً عن زوجها وصفي طاهر، انه نصح قاسم بأن يشكّل مجلساً للقيادة، وان يرشح نفسه – قاسم – لرئاسة الجمهورية، ولكن ذلك ما لم يقتنع به... وتكرر الرفض بالنسبة لنصائح وصفي وآرائه الأخرى، ومنها حول ضرورة منح الاكراد حقوقهم لمنع مواجهة ضد الثورة... وايضا حول ضرورة دعم تشكيل جبهة من الاحزاب السياسية، واشراك ممثليها في الحكم منعاً للتفرد... ولكن كل ذلك كان بعيداً عن تصورات الزعيم، وقناعاته، مما تسبب بعهد أسود لاحق في البلاد العراقية...

-----------------------------------------------------------------------------

* مجتزأ من الفصل الخامس لمؤلف: " وصفي طاهر.. رجل من العراق"... كتابة وتوثيق:

 رواء الجصاني ونضال وصفي طاهر، الصادر بطبعتين في براغ، وبغداد عام 2015.

 

 

 

الجواهري يؤرخُ

 

لـوثبةِ كانون 1948... شعرا

 

قراءة وتوثيق: رواء الجصاني

 

   في مثل هذه الايام ، قبل نحو سبعة عقود، وفي كانون الثاني عام 1948 تحديدا، شهدت البلاد العراقية، وخاصة العاصمة بغداد، احتجاجات وتظاهرات شعبية واسعة، عرفت تاريخياً بـ"وثبـة كانون" وذلك احتجاجا ضد معاهدة "بورت سموث" البريطانية – العراقية، التي اجمعت القوى والاحزاب والشخصيات الوطنية، على جورها، وعدم توازنها وانصافها، على اقل وصف ..

    وهكذا كان لشاعر البلاد، محمد مهدي الجواهري، الموقف ذاته، وزاد من ثورته على تلك المعاهدة، وغضبه منها، ومن اصحابها: مهندسين، ومؤيدين ومروجين، حين أصيب شقيقه الاصغر (محمد) جعفر، بجروح بالغة خلال الاحتجاجات، برصاص شرطة العهد الملكي، ثم ليستشهد بسبب ذلك بعد ايام، الى جانب من أصيبوا، او أستشهدوا، وغالبيتهم من الطلبة والشباب .

   وبرغم ان عصماء الجواهري"اخي جعفر" راحت، وما برحت، الاشهر بين شعر الجواهري في تأرخة احداث واحتجاجات "وثبة كانون"  إلا ان هناك المزيد من القصائد الاخرى التي وثقت لتلكم الهبة الشعبية، ولشهدائها ومجرياتها بهذا القدر او ذاك، وهذا ما سنتوقف عنده في متن هذه التأرخة الشعرية الموجزة.

    لقد جاءت قصيدة  "اخي جعفر" التي قاربت المئة بيت، هادرة منذ ابياتها الأول، مليئة بالغضب العارم، والتساؤلات المفعمة...وجاء مطلعها:

اتعلم أم أنت لا تعلمُ ، بأن جراح الضحايا فمُ

فمٌ ليس كالمدعي قولةً ، وليس كآخر يسترحم

يصيح على المدقعين الجياع ، اريقوا دماءكم تطعموا

ويهتف بالنفر المهطعين ، أهينوا لئامكمُ تكرموا

 ... وقد القى الشاعر الخالد تلكم الميمية في محيط جامع "الحيدرخانة" ببغداد، امام حشد جماهيري كبير، ووسط اجواء مؤثرة، ولاهبة، بمناسبة مرور سبعة أيام على استشهاد جعفر، وتكاد ان تكون في جميعها رسالة اليه، وحوارات معه، فياضة بالعاطفة والذكريات حيناً، وبتقديس الايثار والتضحية ، أحايين أخرى، فضلاً عن اشاعة المفاهيم الوطنية والتنويرية، وهي الأساس في بيت القصيد، او ابياته، كما نزعم:

أتعلم أم أنت لا تعلمُ، بأن جراح الضحايا فـمُ

اتعلم أن رقاب الطغاة ، أثقلها الغنم والمأثم

وان بطون العتاة التي ، من السحت تهضم ما تهضم

وان البغيّ الذي تدعي من الطهر ما لم تحز "مريم"

ستنهد ان ثار هذا الدم ، وصوت هذا الفم الأعجمُ

واذ تهدأ المشاعر قليلاً، ولو في بعض أبيات وحسب، تأتي المقاطع التالية من الملحمة الجواهرية التي نحن عندها، لتبدع في وصف "جعفر" الشقيق... فهو "رُواءُ الربيع" و"زهرة من رياض الخلود" و"قبسٌ من لهيب الحياة" و"طلعة البشر" و"ضحكة الفجر"... وما إلى ذلك من مشابهات متفردة تنبض بالمحبة، وتفيض بالعاطفة الانسانية الجامحة...

أخي جعفراً يا رُواء الربيع ، إلى عفن بارد يُسلَمُ

ويا زهرةً من رياض الخلود، تغولها عاصف مرزمُ

لثمت جراحكَ في فتحة ، هي المصحف الطهر إذ يلثم

وقبلت صدرك حيث الصميم ، من القلب منخرقاً يحزمُ

وعوضت عن قبلة قبلةً عصرت بها كل ما يؤلم

لقد توقف، عند هذه الرائية الجواهرية الوجدانية، الوطنية، التنويرية كتاب وباحثون عديدون وما برحوا، لأهميتها التاريخية، والشعرية... ومما نؤشراليه أيضاً في هذا السياق، ما جاء فيها عن استقراء الشاعر الخالد في واحد من مقاطع القصيدة البارزة، لتاريخ البلاد اللاحق، وتنبؤاته حوله، وهو ما تأكد بوضوح، والى حاضرنا الراهن، على ما نرى:

اخي جعفراً لا أقولُ الخيال ، وذو الثأر يقظان لا يحلمُ

ولكن بما أُلهم الصابرون، وقد يقرأ الغيب مُستَلهمُ

أرى افقاً بنجيع الدماء ، تخضب واختفت الأنجمُ

وجيلاُ يجئ، وجيلاً يروح، وناراً ازاءهما تضرمُ

 

قف بأجداث الضحايا

        ومما نوثق له عن قصائد الجواهري حول وثبة كانون، ومجرياتها، قصيدة اخرى سابقة للميمية اعلاه، نشرها بعنوان "قف بأجداث الضحايا" وذلك بعد صدور بيان رسمي عن البلاط الملكي عشية 1948.1.28 رافضا المعاهدة، ومحاولا حقن الدماء.. ومن ابياتها: 

قفْ بأجداث الضّحايا، لا تُسِلْ، فوقها دَمعاً، ولا تَبكِ ارتجالا

لا تُذِلْ عهدَ ((الرجولات)) التي، تكرهُ الضّعْفَ، وتأبى الإنحِلالا

وتَلقّفْ من ثَراها شَمّةً، تملأُ المنخِرَ عِزّاً وجلالا

وَضَعِ ((الإكليلَ)) زَهْراً يانعاً، فوقَ زهرٍ من ضمير يَتلالا...

أيـها الثاوونَ في جَولاتكم، طِبْتُمُ مَثوىً، وعُطّرتُمْ مجالا

كلّنا نحسُدُكم أن نِلْتُمُ، شَرَفَ الفُرصةِ ـ من قبلُ ـ اهتبالا

كلّنا نمشي على آثارِكمْ، بالضّحيّاتِ خِـفـافـاً وثِـقـالا

كلّنا ممتَثِلٌ من وَحيكم، ما يُريد الوَطنُ الحُرّ امتِثالا

فإذا شِئتُم مَشَيْناها ونىً، وإذا شِئتُم مشيناها عِجالا...

 

يوم الشهيـد

وإذا ما كانت "اخي جعفر" الاشهر، والاهم بين قصائد الجواهري عن وثبة كانون، وحولها، ندعي بأن قصيدته "يوم الشهيد" تحتل هي الاخرى اهمية ومكانة مميزة لما بها من توثيق، وايحاءات وتنوير- دعوا عنكم العاطفة والاحاسيس والمواقف الجواهرية - .. ومما جاء في مقدمتها:

يومَ الشّهيد: تحيةٌ وسلامُ، بكَ والنضالِ تؤرّخُ الأعوامُ

بك والضحايا الغُرّ يَزهو شامخاً، علمُ الحساب، وتفخرُ الأرقام..

بك يُبعَث ((الجيلُ)) المحتّمُ بعثُه، وبك ((القيـامةُ)) للطغاةِ تُـقام....

يومَ الشهيد! طريقُ كلّ مناضل، وعْرٌ، ولا نُصُبٌ ولا أعلامُ...

 والقصيدة هذه، نظمت بمناسبة الذكرى الاربعينية لاستشهاد "جعفر" الذي كان قد جُرح في الايام الاولى للوثبة، وفي 1948.1.27 تحديدا، وتوفي متأثرا بجراحه بتاريخ 1948.2.4..وقد القى الشاعر الخالد قسما منها، وهي لمّا تكتمل، حين كان جثمان الشهيد  يوارى الثرى في مدينته، النجف.. ثم القاها كاملة في اول مؤتمر عام  للطلبة العراقيين بتاريخ 1948.4.14 انتظم في ساحة" السباع" ببغداد...ومن ابياتها ايضا:

تبّاً لدولةِ عاجزينَ تَوَهّموا، أنّ ((الحكومةَ)) بالسّياط تدامُ

والوَيْلُ للماضينَ في أحلامِهم، إن فرّ عن ((حُلمٍ)) يَروع مَنام

وإذا تفجّرت الصدورُ بغيظها، حَنَقـاً كما تتفجّر الألغام

وإذا بهم عَصْفاً أكيلاً يرتمي، وإذا بما ركنوا إليه رُكام ....

وتَعَطّلَ الدستورُ عن أحكامه، من فَرطِ ما ألوَى به الحُكّام

فالوعيُ بَغيٌ، والتحرّرُ سُبّةٌ، والهَمْسُ جُرْمٌ، والكلامُ حَرام

و مُدافِعٌ عما يَدينُ مُخرّبٌ، ومطـالِبٌ بحقـوقِـه هـدّامُ...

ثم تستمر القصيدة لتؤشر، وتذكر وتنتقد وتوحي وتنور، وتؤرخ للوقائع، في ابيات ومقاطع تاليات.. ومنها:

يومَ الشهيد: وما تزال كعهدِها، هُـوجٌ تدنّـسُ أمـةً ولئـامُ .....

لجأوا إلى ((الأنسابِ)) لو جَلّى لهم، ((نَسَب)) ولو صَدَقَتْ لهم أرحام

وتنـابَـزُوا بالجاهليـة شَـجّـهـا، من قبل نورُ ((الفكر)) و((الإسلامُ))

فأولاءِ أعرابٌ! فكل مُحَرّمٍ، حِلّ لهم! وأولئِكمْ أعجام ...

وأولاءِ ((أشرارٌ)) لأنّ شعارهم، بين الشُعوب محبّةٌ وسلام......

يومَ الشهيد! ونعمتِ الأيامُ، لو تسـتـتِـمّ أخـوّةٌ ووِئـام

لو يَرْعَوي المتنابذونَ وكلّهم، بهُمومِهم وشُعورِهم، أرحام

ولوِ التقى من بعدِ طُولِ تَفَرّقٍ، الشيخُ والقِسّيسُ والحاخامُ

 

الشهيد قيس

ومن قصائد الوثبة الجواهرية ايضاً ، بائية حملت عنوان "الشهيد قيس" يمجد فيها طالباً بعمر الزهور، أستشهد في معركة الجسر الدامية، إبان الاحتجاجات والمواجهات الدامية بتاريخ 1948.1.27 وهو الشهيد قيس الالوسي... ومن ابياتها:

يا قيسُ: يا لحنَ الحياة، ونغمة الأمل الرتيبِ ..

يا قيسُ: يا رمز الشهادة، عُطرت بدم خضيبِ...

الشعب يثأر من "رماتك" في بعيد أو قريبِ ...

 

دم الشهيـد

ثم في اجواء الوثبة، وتقديسا لابطالها المضحين، يكتب الجواهري مطولة " دم الشهيد"  بأزيد من مئة بيت، ليتوقف فيها عند بعض العبر مخاطبا المنتفضين، والشباب منهم بشكل أول، موصياً وداعية ومحرضاً، ويقول في احد مقاطعها:

خُذوا من يَومكم لغدٍ مَتاعا، وسيروا في جهادِكُمُ جِماعا

وكونوا في ادّراء الخطب عنكم، يداً تَبني بها العَضُدُ الذّراعا

ذروا خُلفاً على رأيٍ ورأيٍ، إلى أن يُلقيَ الأمرُ القِناعا

وخَلّوا في قيادتكم حكيماً، يدبّرُهـا هُجـوماً أو دِفـاعـا

رحيبَ الصَدر ينهضُ بالرزايا، ويُحسنُ أن يُطيع وأن يُطاعا.....

 

ذكريــات

وفي فترة قريبة لاحقة، تفيض عواطف الشاعر الخالد، فيكتب قصيدة "ذكريات" وهي تشي من عنوانها وحسب، بما عـنّ للجواهري من احاسيس وانفعالات نابضة موحشة مؤلمة... ومن ابيات القصيدة:

يا ((ذكرياتُ)) تحشّـدي فِرقا، تَسَـعُ الخيـالَ وتملأُ الأُفُقا

و تأهّبي زُمراً تجهزني، محضَ الأسى والذُعرَ والقلقا ....

     يا ذكرياتٌ كلّها حُرَق، َتطَأ الفؤادَ، وتُلْهِبُ الحَدَقا

من لي بشِعرٍ خالقٍ شجناً، للناس يُعجزهم بمـا خَـلَـقا

هي صُورةٌ حمراءُ من شَجني، ُدمي اليَراعَ وتُرعب الوَرَقا ...

 

غضبــة

   ... ويتعرض الجواهري من احدى الصحف المنسوبة الى واحد من الاحزاب العراقية آنذاك، لاكاذيب وأفتراءات لئيمة حاولت ان تطال منه ومن مواقفه خلال الوثبة، وأحداثها وتداعياتها... وقد نظم الجواهري قصيدة لاذعة عنونها بـ"غضبـة" ليرد فيها على تلك المزاعم الحقود، وجاءت ابيات مقدمتها في حوار مع النفس، وذلك اسلوب معهود عند الشاعر الخالد :       

     عَرَتِ الخطوبُ وكيف لاتعرو، وصَبَرْتَ أنتَ ودِرعُكَ الصبرُ

وصَبرتَ أنتَ وأنتَ ذو ثقةٍ، أنْ لو تشاءُ لزُحزِحَ الأمر ....

عَرَتِ الخطوب فما خَفَضْتَ لها، من جانحٍ وكذلكَ النّسْرُ

ومَضَيْتَ تَنتَهبُ السما صُعُداً، لك عند غُرّ نُجومها وَكر...

وفي سياق القصيدة، ودفاعا عن الذات، ومن خلاله الشأن العام- وكلاهما متشابكان عند شاعر البلاد والأمة العراقية - يتطرق الجواهري الى بعض مواقفه، والى كتابات المدعين حوله، شامخا، متباهيا بما عنده من عطاءات فيقول:

عَرَتِ الخطوبُ وكيف لا تَعرو، وطريقُ مثلِكَ ـ صامِداً ـ وعْـرُ

عَدَتِ الضّباعُ عليك عاويةً، ظنّاً بأنّك مأكلٌ جَزْرُ

فتـذوّقْـتْـك فقال قائلُهــا:إنّ الغَضَنفَر لحمُه مُـرّ

وخَلَصت حُرّ الوَجه ذا ألَقٍ، ووجُوهُهُم مطموسةٌ عُفـْرُ

حَسَدوك أنّكَ دُسْتَ هَامَهُمُ، ُمتجبّراً، و لنَعْلِكَ الفَخْرُ...

ثم تستمر القصيدة في تبيان صفات من يقود تلك الصحيفة التي تطاولت.. ويرد الشاعر بكل مباشرة، وبتعابير تدل على الهضيمة، وتكشف المستور من الأمور، خاصة وان "بعض القوى السياسية قد أخذت تدير ظهرها للشعب..." بحسب ما جاء في مقدمة القصيدة، في ديوان الجواهري العامر:

و ((زعيمُ)) قومٍ كالغُراب به، صِغَرٌ وفي خُطُواتِهِ كِبْــرُ

يغتَـرّ فـي ما لا يُشـرّفُـه، جَهِلَ المُغَفّل كيفَ يَغْتَرّ

يغتَرّ إنْ ألقَوا بمعـدتِه، عَفِنَ الطعام فراحَ يجتَرّ

بادي الغَباء تكادُ تقرأه، بالظنّ لا خَبَرٌ ولا خُبْــرُ

أضحى ((وزيراً)) فاغتدى رَهِقاً، مثلَ ((الحمارِ)) يؤودهُ الوِزْر..    

     قل ((للصحيفةِ)) أنت قائدُها، سَفَهاً، وأنتَ زعيمُها الحـرّ

إني ـ ولي في المجد مُتّسَعٌ ـ عَفّ عن استغلالِه بَـرّ

     لم أدّخر منه سوَى نَشَب، هو للبـلاد وأهلِهـا ذُخْـر

غَنِيَت به الأجيالُ طاعمةً، منها السمينَ، وعَضّني الفقر

لا أستَغِلّ فأنتَ لي عِظةٌ، فيما أتيتَ، وأنت لي زَجْـرُ!!

 

هاشم الوتري

في حزيران 1949 اي بعد نحو عام وأشهر قليلة على وثبة كانون 1948 يدعى الجواهري لحفل تكريمي ببغداد، للطبيب الشهير، هاشم الوتري، فيتمنع اولاً، ثم يشارك بقصيدة بائية طويلة، أشتهر احد ابياتها، بشكل كبير جدا على لسان العراقيين وهو "أنا حتفهم الج البيوتَ عليهمُ، أغري الوليد بشتمهم والحاجبا" ... وجاء مطلع القصيدة تكريما للمحتفى به:

مَجّدتُ فيكَ مَشاعِراً ومَواهبا، وقضيْتُ فَرْضـاً للنوابغِ واجِبا

والمُبدعينَ ((الخالقينَ)) تنوّرتْ، شتّى عوالِمَ كُنّ قبلُ خرائبا

شرفاً ((عميدَ الدارِ)) عليا رُتبةٍ، بوّئْـتَـهـا في الخالدين مراتبا...

وأذ تتناول الجواهرية الثائرة، أوضاع البلاد، وتفضح وتنتقد وتنور، يؤشر الشاعر الخالد لمواقف الدكتور الوتري الوطنية خلال احداث وثبة كانون، وقد كان في حينها عميداَ للكلية الطبية ببغداد، ومستشفاها، ودارها الطبية، التي استباحها رصاص وشرطة ذلك العهد، والتي نقل اليها جرحى الاحداث، ليعالجوا، ولينقذ من ينقذ، ويستشهد البعض متأثرين بأصاباتهم، ويوثق الجواهري لمواقف الوتري النبيلة فيقول: 

ولأنتَ صُنْتَ ((الدارَ)) يومَ أباحَها، باغٍ يُنازلُ في الكريهةِ طالبا

الغَيّ يُنْجِدُ بالرَصاص مُزَمْجِراً، والرّشدُ يُنجِدُ بالحجارةِ حاصبا

وَلأنتَ أثخَنْتَ الفؤادَ من الأسى، للمُثخَنينَ مِن الجِراحِ تعاقُبا

أعراسُ مملكةٍ تُزَفّ لمجدِها، غُررُ الشّبابِ الى التّرابِ كواكبا

 

ذكرياتي

وأذا ما كان السابق من الحديث يدور حول تأرخة الجواهري، لوثبة كانون العراقية عام 1948 شعرا، كما هو عنوان موضوعنا، تجدر الاشارة وخاصة للباحث الدؤوب والحريص، الى ان هناك في بداية الجزء الثاني من "ذكرياتي" للشاعر الخالد، صفحات مطولة، تتحدث عن ارائه ومواقفه، كما رؤاه، حول تلك الوثبة الشعبية الهادرة، واحداثها وتداعياتها الوطنية والسياسية وغيرها .. كما تجدر الاشارة ايضا الى ان للجواهري ميمية اخرى بعنوان "اليك اخي جعفر" نشرت عام  1968 بمناسبة مرور عشرين عاما غلى ذكرى وثبة كانون، وجدانية في غالبية ابياتها، واشبه ما تكون خلاصة معاناة في رسالة يناغي الشاعر فيها، ويناجي، اخيه الشهيد جعفر، حافلة بالذكريات والاستذكارات والخلاصات ... / رواء الجصاني: براغ في 2017.1.24.

-------------------------------------------------------

هوامش واحالات:

المصادر: ديوان الجواهري، ذكرياته، معلومات عائلية.

صورة التشييع، من ارشيف الدكتور جعفر حبة.

اللوحة: "كولاج" عباس الكاظم، للجواهري وهو يلقي "اخي جعفر" .

 

 

 

 

 

 

باستعارة من قصيد

الجواهري الخالد

برقيات سياسية، وغيرها،

 بمناسبة بدء عام 2017

 

رواء الجصاني

 

الى من يتباكون على حال البلاد، ولكنهم يثيرون البغضاء والتشدد:

يلغُ الدماءَ مع الوحوش نهارهُ، ويعود في الليّل التقيّ الراهبا

الى البسطاء، أو المتقصدين، الذين يحاولون ان يساووا بين ابناء الوطن الواحد، دون تمييز بين الظالمين والمظلومين:

ودعْ ضميركَ يحذر من براءتهِ، ففي البراءة مدعاةٌ الى الزللِ

الى الطيبين ممن لم يتابعوا حال الأمم، ومعاناتها وتضحياتها: :

رُحْماكَ.. تاريخَ الشعوبِ تَحَدَّنا، ما شِئْتَ، إلّا أنَّنا بُلَداءُ

لكل السياسيين الذين يتباكون على الوطنِ، من خارج الحلبة، ومن الابراج:

وما انتَ بالمعطي التمردَ حقهَ، اذا كنتَ تخشى ان تجوعَ وان تعرى

للأصدقاء الذين يدعون للتسامح، دون حدود:

ولطالما حصدَ الندامةَ مسمحٌ، وأتى بشرٍ ثمارهِ الاسماحُ

ولقد تكون من القساوةٍ رحمةٌ، ومن النكالِ مبرةٌ وصلاحُ   

لكل الصامتين، بهذه الحجة أو تلك، ممن لا يواجهون الزيف والتدليس:

واذلّ خلقِ الله في بلدٍ طغت فيه الرزايا من يظلّ محايدا

الى الذين يستمرون بالشتم، والرياء تحت واجهة النقد وحرية الرأي:

ولا تدعوا الخصامَ يجوزُ حداً، بحيث يعودُ رخصاً وأبتذالا

لجميع الاحباء ممن يرون تشدداً في السطور السابقة:

ومن القساوةِ في العتابِ مودةٌ ومن الثناءِ خديعةٌ ورياءُ

الى " المتشائلين" وكاتب هذه التمنيات من بينهم:

لا تَلمْ أمسكَ في ما صَنعا، أمسِ قد فاتَ ولنْ يُسترجعا

فأطرحهُ، وأسترحْ من ثقلـــــهِ،  لا تضعْ أمسكَ واليومَ، معا

لجميع ممن احبّ أو كره، او نسيّ أو تناسى، المودة والصحبة الجميلة :

              سلاماً أيها الأحبابُ، من قطعوا ومن وصلوا

               سلاماً كله قبلُ، كأن صميمها شُعـلُ

 

 

 

شهادات ووقائع من

 

ضفاف الذكريات / القسم التاسع

 

عن  العراق الجديد.. ما بعد 2003

 

رواء الجصاني

 

.. وفي العقد الاخير بشكل خاص، لتشرْ – ايها الرجلُ- ايضا الى ان ثمة آراء ومزاعم اخرى، قد اقتنعت بها ومنها: ان دعاة المقاومة، ومدعيها، بعد عام 2003 كانوا يزيدون القتل والدمار في الوطن المبتلى، وان بعضهم: "يلغ الدماء مع الوحوشِ نهاره، ويعود في الليل، التقيّ الراهبا"... وانك اعتقدت، برؤية اخرى أثارت الكثير من النقاش، وكذلك اللغو! خلاصتها ان تقسيم العراق الى اقاليم، خير من الاحتراب والقتل والدمار. كما ولك تصورات عديدة اخرى"خارج السرب" عن مدى فائدة الديمقراطية لبلد تعمّ الامية فيه مثل العراق، وكلا الموقفين، والرأيين السابقين- اللذين افسدا، وما زالا للود قضية!- منشوران على مواقع اعلامية عديدة، الاول في الشهر الاول من عام 2014 تحت عنوان " من اجل ألانسان، وانهاء الدمار: فلتقسم البلاد العراقية، ويُعاد توحيدها. ولم لا ؟؟؟". والثاني بعنوان "لاسباب عديدة، ومنها قطع الطريق على الارهابيين... فلتؤجل الانتخابات، بل وتلغى ايضا" ونُشر في آذار2014...

كما وزدْ معلومات أخرى، ودعْ الناس بين مؤيد ومختلف، حولك وضدك، فتلكم سنّة الحياة، ولا تكن مثل البعض "توسط كاللبنِ الخاثرِ" وقلْ: انك لم تؤمن منذ البدء بما صفق له الآخرون، وتعني "الربيع العربي" مطلع العام 2011... وانك رحت تؤمن بيسار عريض، لا احزاب "ثورية" من طرازات قديمة، مع كل التبجيل لما قامت به من تجديد، وما زالت...واخيراُ في هذا السياق فلتفجر مجدداً "قنبلتك" غير المتوقعة من كثيرين، ألا وهي انك ترى في "تحصيص" السلطات والادارات في العراق الجديد، طريقاً مناسباً، وموضوعياً ضمن ظروف البلاد وتاريخها وجغرافيتها وتطور مجتمعها، وثقافته ووعيه الجمعي.

ولمزيد من التأرخة، فلتكشف هنا، لمن يهمه الامر، وحتى لمن لا يهمه - وما عليك بالمتربصين وأعوانهم- انك قد صرحت وتداولت – ايها الرجل- في كل تلكم الشؤون، وغيرها، مع مسؤولين وسياسيين ورسميين، بارزين، في القيادات الجديدة لعراق ما بعد الدكتاتورية، ومن ابرزهم: جلال الطالباني، وحيدر العبادي، وحميد مجيد موسى، واسامة النجيفي، والسيد عمار الحكيم، ومحمود المشهداني، وهادي العامري، وهوشيار زيباري، وحسين الشهرستاني... وجمع محترم آخر، وذلك في لقاءات ومناسبات مختلفة، وبكل مصارحة وووضوح. ولتكتفِ هنا – مؤقتاً- ولتتابع عن وقائع ومحطات اخرى تالياً عن بعض خصوصيات و"أسرار" ذات صلة !!!

 

 

 

 

شهادات ووقائع من

ضفاف الذكريات / 8

تأرخـــة...ومحببــات،

في السياسة والحياة

رواء الجصاني

----------------------------------------------

فاتك، وأنت على عُجالة، وكأن الطير فوق هامتك، ان تتذكر أكثر – ايها الرجل- بعض مما احببت من كتاباتك، حسبتَ أنها، اقرب اليك من غيرها، وبعضها يعود لنحو نصف قرن، وإن كانت في نشرات حائطية، في الاعدادية المركزية، ومنها "قالوا في ليلى" جمعتها واستليتها من دواوين واجزاء الاغاني، لابي فرج الاصفهاني..وكذلك " الدراسة" التي نشرتها في صفحة الطلبة والشباب عام 1974 تحت عنوان" من اجل اتحاد راسخ لطلبة البلدان العربية" بتوقيع "ابو سمار" وهو الاسم الذي كنت تكنى به ذلك الحين، وما زال الكثير ينادونك به الى اليوم.. كما لا تغفل عن زاويتك شبه الاسبوعية في الصفحة المهنية بالجريدة الغراء ذاتها، اواخر السبعينات الماضية، وعنوانها" نقابيات" وكنت تتابع فيها، وتنتقد، وتمتدح، نشاطات العديد من المنظمات والنقابات العراقية، وتزعم ما تزعم من مفاهيمك ورؤاك في شؤون العمل الجماهيري- الديمقراطي، الذي ولعت به، وما زلت.

... كما تذكّر ان من بين كتاباتك التي بقيت مميزة، عندك على الاقل، في الاعوام القليلة الماضية، ما نشرته تحت عنوان "وصفي طاهر، رجل من العراق" وهو تمهيد لكتاب جامع عن ذلك الشهيد الوطني، تعمل على اتمامه خلال اشهر، لا أكثر، مثلما وعدت وتعد.. وكذلك توثيقاتك الثلاثة، المنشورة عام 2008 وعناوينها تشي بمضمونها، دون كثير عناء، وأولها وأكثرها غنى" تاريخ عراقي في ذاكرة براغ" وبعدها " أسماء وشؤون عراقية في ذاكرة موسكو" ثم الثالثة" والاخيرة " أسماء وشؤون عراقية في ذاكرة باريس"... ذلك بالاضافة طبعاً لما جاء ذكره في الحلقات السابقات، عن توثيقاتك، وشهاداتك العديدة واهمها عن الجواهري الخالد، وكتابك، الاول في مضامينه: "الجواهري... اصداء وظلال السبعينات" الصادرعام 2001 عن "بابيلون" للاعلام والنشر في براغ.

- بعض شؤون، ربما ليست مهمة!

مرة اخرى،  لتستدرك ما فاتك ان تشير اليه – ايها الرجل- في ما سبق وكتبت من هذه الضفاف على السيرة والذكريات، وصرح هنا بانك ترددت في هذه الاضافات، ولربما خشية من عفّ لسانٍ، أو احترازاً من ان تَشقى!! ومع ذلك فلتكتب انك رحت نباتيا منذ عامين ونصف، سائرا على هدى المعري في التاريخ القديم، ومحمود صبري وهادي العلوي، في التاريخ الحاضر. وجاهر بانك رحت لا تطيق حتى الجلوس على مائدة تحوي بعض "خلاصات" مجازر حيوانية، لا تعرف كيف يتلذذ بها أغلب البشر.

كما وصرح ايضاً- ايها الرجل- بعشقك للحياة والجمال، والمرأة رمزهما المطلق، ودون مدى، وبانكّ لم تكن باطنياً في ذلك: قناعة وتاريخاً وتجارب ومفاهيم... وبحْ ايضاً بأنك محب ووفيّ، وبكل ما استطعت، للاصدقاء الذين يسيرون على اربعة، واحبهم اليك الكلاب الذين جنيّت، وأولهم "بابل" فقد تصاحبتما معا طوال ستة عشر عاما، وليفارقك، وتفتقده الحياة، خريف عام 2014... وقد سبقه في تلك الحال "عنتر" الاسود الانيق. وها أنت لديك اليوم مدللاك التوأم: "بهار" و"فـلفل" الشقيّان اللذان لا تستطيع فراقهما لاكثر من ساعات قليلة فقط، وكذلك هو حالهما، كما تظنّ، وليس كل الظن اثم في عالم اليوم- وكم تحب ان تكرر هذه اللازمة التي صارت بعض كتاباتك معروفة من خلالها- وان لم توقع عليها بإسمك الصريح.. وأعترف بهذه المناسبة بأن لديك العشرات من الكتابات و"الشقشقيات" التي وقعتها باسماء مستعارة، لاسباب لم يحنْ بعد الكشف عنها !!!. -------------------------------- يتبع

 

 

شهادات ووقائع من

 

شهادات ووقائع

 من ضفاف الذكريات -7-

في دروب السياسة،

 وميادينها... وتنظيماتها

رواء الجصاني

بعد السطور السابقات من  "على ضفاف السيرة والذكريات" ها انت تدخل – ايها الرجل- في معمان التوثيق لمحطات ومواقف في ميادين العمل السياسي والوطني، الذي خضتها على مدى عقود، انطلاقاً وتوسطاً، وما برحت، وان " كلّ الجواد...ولم تزل تعتامهُ صبواتُ مهــر" !!

وأما الانطلاقة فقد كانت - ولا بدّ لها ان تكون كذلك - وانتَ في وسط وعائلة واخوان، سبقـك جلّهم فـي دخول ذلــك المعترك التنويـري والوطني، بذاك القدر او هذا، والوالــد "السيد جواد" أولهم، وان كان بلا تحـزب، ولاغلو.... اما الوالدة "نبيهـة" فيكفي أنها شقيقــة وحيدة لاربعة أخوة استثنائييــن، منهما اثنان أبرزان: الاول "جعفــر" شهيــد وثبــة كانـون الثانـي عام 1948.. وثانيهما، االجواهري الرمز.

اذن، فقد مرت مرحلتا الطفولة والفتوة في مثل تلكم الاجواء، ورحتَ وانت أبن ثلاثة عشر، تشتد عوداً، وخاصة وقد عشت بعض اجواء الانقلاب البعثي الاول في الثامن من شباط الاسود عام 1963 حين كنت مع الوالدة، في الايام الاولى للكارثة: صباحاً في معتقل خلف السدة، لمتابعة شأن الوالد، التربوي المتميز، المحتجز هناك...وظهراً، بعض الاحيان، في مركز شرطة الفضل، حيث مقر الحرس القومي- الفاشي، ترافق الوالدة وهي تتابع حال أخيك "صفاء" المُعتقل، والمدمى، في ذلك المسلخ البشري.

* فــي الوطـــن....

وهكذا يتصلبُ الفتى اكثر فأكثر، ليلتحق بتنظيمات الحزب الشيوعي العراقي، صديقاً، فمرشحاً فعضواً، ولتزدد شيئا فشيئاً المواقع والمسؤوليات اهمية في معترك العمل الوطني، وتتنوع، ولربما بشكل غير معهود.

ولتوجز من جديد – ايها الرجل- ولا تسهب أو تنسَ انك تكتب ظلالاً للسيرة والذكريات، وليس تفاصيل عنها. وقلْ ان من بين ما أشغلته من مهام نضالية وسياسية طوال عقد السبعينات: عضوا في الهيئة المسؤولة عن منظمة بغداد الطلابية، وخاصة في عهد منظمِها: الشهيد، علي حسن(ابو حيدر).. ثم مشرفاً على تشكيلات الحزب في العديد من كليات ومعاهد جامعة بغداد، ومنها اكاديمية الفنون الجميلة، وكليات القانون والسياسة، والاداب، والادارة والاقتصاد، والزراعة، وقطاع المعاهد... وعديد آخر، واللهمَّ لا يُسجل عليك ذلك اعترافا!! فيتحفز "البواقــون".

... والى جانب ما تقدم، فضفْ لا تُخفِ انك شغلت ولفترات مختلفة في العقد السبعيني ذاته: عضوية مكتب العمال المركزي، مع صادق جعفر الفلاحي، وعبد العزيز وطبان، وعبد الامير عباس، وبمسؤولية، عبد العزيز وطبان. وما بين هذا وذاك، مهامك في صحيفة الحزب المركزية "طريق الشعب". وانتسابكَ في مدارس ودورات سياسية في بغداد، والخارج، ولبعض تشكيلات المكتب المهني المركزي.

*... وفــي المغتــرب

اما بعد اللجوء الى براغ، ومع مطلع عام 1979 والى ان "تقاعدت" فقد تعددت المهام ايضا وتنوعت: سياسياً واعلامياً وتنظيمياً، وغيرها كثير. ولكن من أبرزها مسؤولياتك في لجنة تنظيم الخارج للحزب الشيوعي، معنياً بمتابعة شؤون العمل الطلابي، الديمقراطي، في اوربا خاصة، والخارجي عموماً.. كما ومتابعتك وإشرافك على عدد من التشكيلات التنظيمية الاوربية.. ولتعترف(!) من جديد، مادام قد مرّ على ذلك اكثر من ربع قرن، ان من بين تلك البلدان التي تابعت عملها وأشرفت عليها: المانيا الاتحادية، واليونان، والدانمارك.. وعدا ذلك فلا تكشف اسرارا اكثر، فالمهام "أمانات" كما هي المجالس !!.. ولكن، لا بأس ان "تخرق!" القاعدة قليلاً، ولـ"لتعترف!" ايضاً بأنك عملت في تلكم المهام الحزبية، وكان المسؤولون عنها راحلون أجلاء، هم: زكي خيري ونزيهة الدليمي وثابت حبيب ورحيم عجينة، لفترات وبتشكيلات مختلفة ... وكذلك مع آخرين أعزاء تمنى لهم طول العمر .

 --------------------------------- يتبع

 

 

 

 

 

ضفاف الذكريات / 6

 

في رحاب الثقافة والمثقفين

 

رواء الجصاني

 

والان فلتعد الى بعض لمحات خاطفة عن شؤون ثقافية لها علاقة بك، ولك علاقة بها – ايها الرجل- طوال عقود، ابتداء من انغمارك هاوياً في الكتابة والصحافة، ولا تكرر ما تطرقت اليه في حلقات سابقة من هذه الضفاف على السيرة والذكريات. ولكن لا بأس ان تستطرد قليلاً فتشير الى مكتبتيك التى فيهما ما فيهما من اصدارات ومؤلفات ومخطوطات ومجلدات، واحدة اينعتها في بغداد وحتى الاغتراب اواخر العام 1978 الى براغ، حيث اينعت فيها ايضا مكتبة يكفي ان تقول بانها الاولى والاخيرة في بلاد التشيك، لما تضمه من كتب واهداءات ونوادر المحتويات.. وكم شغل بالك- ويشغله - الى من ستؤول تينك المكتبتان، بعد ان يطول بك العمر!!!.

وما دام الحديث سالكا في الشأن الثقافي والادبي، فأتعب الناس من جديد- ايها الرجل- و"أضجرهم" بالحديث عن "شقشقياتك" الشعرية، في تلكم الايام والليالي، من تلكم الاعوام، ولا تسترسل، وتذكر ما قاله الجواهري في احدى حالاته: "أني اخاف عليّ بعض شهودهنّه"... كما تذكر عموم كتاباتك وتوثيقاتك ذات الشأن الثقافي، ومشاركاتك في العديد من الفعاليات ذات الصلة، عامة وخاصة، ومن اهمها على ما تزعم، احتفائية اربيل عام 2000 بذكرى مئوية الجواهري مع كتاب وشعراء وفنانين وسياسيين بارزين، ولعل ما يغطي بعض شؤوون تلكم الفعالية المهيبة، ما قد نشرته في صحيفة الزمان اللندنية، ثم وعلى مواقع اعلامية عديدة، تحت عنوان " حين احتفل الكورد بمئوية شاعر العرب الاكبر" بعيد ايام من اتمام الحدث.

كما ولتؤرخ هنا ايضا- ايها الرجل- عن مشاركاتك في العديد من فعاليات رابطة الكتاب والصحفيين والفنانين العراقيين في اوربا، والخارج، خلال عقد الثمانينات، ومنها رئاسة فرع تلك الرابطة في تشيكوسلوفاكيا، عام 1988 والتي ضمت هيئته الادارية:حسين العامل وقيس قاسم ورزكار محمد.. ولتشرْ ايضا الى مشاركتك مع عبد الاله النعيمي، وحميد برتو، في ملتقى الرابطة الاوربي في برلين عام 1989 وكذلك في عدد من اجتماعاتها التنظيمية الاخرى مع نخبة من المعنيين، صحفيين وكتاباً وفنانين.. ولا تفوتك ان تؤرخ ايضا فتتذكر ان من بين اعضاء فرع الرابطة ببراغ، وداعميها، الراحلون الاعزاء: اضافة الى زكي خيري ومحمود صبري: شمران الياسري وقادر ديلان وعادل مصري ومحمود البياتي، ومصطفى عبود... والحح، وشرْ، ان من بين نشاطاتك الحيوية في الرابطة، ببراغ، اواخر الثمانينات الماضية، تنظيم وادارة ندوة مهيبة وسط براغ تحدث خلالها المفكر والرائد الكبير محمود صبري عن نظريته "واقعية الكم" وشارك فيها مفيد الجزائري، وبحضور جمهور غفير ندر ان تجمّع في مثل تلك الفعاليات. كما تحدث عن اصدار نشرة "مرافئ" التي "هيمن" عليها لاحقا صادق الصايغ، ليحولها من براغية محلية، الى صوت اوربي، اضافي، للرابطة. وقد استقطبت اهتماماً لافتاً لما كانت عليه اعدادها من فحوى وشكل، تميزا بجهد حريص..

ولتتـــوقف هنا، وتتباهى مجددا – أما شبعــت من التباهي ايها الرجل ؟!- بعلاقات وثقى زاهية مع عشرات المثقفين والشعراء والفنانين، العراقيين الباهرين.. وأذا ما فات عليك استذكار لمحات ومحطات ثقافية "مهمة" اخرى، فما عليك ألا و تستدرك ذلك في كتابات قادمات، ما دمت قد أزمعت ان توثق جملة من الاضافات، تشمل مالم تسعف به الذاكرة، فتشملها حلقات هذه الضفاف على السيرة والذكريات. -------------------------------------- يتبع

 

 

 

 

شهادات ووقائع من ضفاف الذكريات / 5

خمسة عقود مع الجواهــري

رواء الجصاني

هاهي ظلال جديدة على ضفاف السيرة والذكريات، ولانها شاملة هذه المرة، متنوعة المحطات واللمحات ، فسهل الامر عليك - ايها الرجل- وعلى الذين يقرأون لك، وأنثر التوثيق على ثلاثة محاور زمنية، وان تداخلت، وتحدثْ مااسطعت ايجازاً، عن تلكم العقود الخمسة مع الجواهري العظيم، مابين ولادتك عام 1949 ورحيله الى الخلود عام 1997... وقد كان، ويبقــى: خالاً وانساناً وعبقرياً، متفردأً في غير زمانه، ومكانه وأهله، كما قيلَ ويقال!!!. وأسبق، وقلْ بانك لن توفي في هذه العجالة الا ببعض يسير مما عندك، فقد كتبت ونشرت نحو مئتي مادة وحادثة وشهادة، وما زالت الجعبة والذاكرة تفيض بالكثير الكثير:

*فـي بغـــــداد...

تفتح عينيك على الدنيا، وانت في بيت وعائلة، بل ومجتمع، تنضح احداثها وتفيض، وتغرق بالجواهري ... وتستذكر، كالطيف احياناً، ما اختزنته الذاكرة من عقود ستة، واكثر: جلسات ليلية شبه يومية، واحاديث ووقائع وطنية وسياسية، واجواء ثقافية وصحفية واجتماعية، وغيرها، متشابكة دون حدود .... وكذلك سفرات عائلية منها الى النجف حيث منبت العروق، والى علي الغربي، حيث الجواهري "مزارعاً" و"متزوجاً" حديثاً.. كما والى دمشق، التي لجأ اليها مخلفاً "غاشية الخنوع" وراءه ...

ثم تتذكرـ وأنت أبن ثمانِ ونيف، الجواهري ذا الرئاستين، بعد قيام الجمهورية الاولى عام 1958 لاتحاد الادباء، ومجلس نقابة الصحفيين... وخلافاته مع رئيس الوزراء الزعيم عبد الكريم قاسم، والتي اضطر بسببها للاغتراب الى براغ عام 1961 وبعد ذلك عودته لبغداد بعد سبع سنوات "خالها سبعين لا كدراً، لكن لحاجتها القصوى الى الكدر" بحسب قوله. كما تذكر ليلة العودة، وانت والعائلة تستقبلونه في مطار بغداد مع جماهير غفيرة، ومن المطار الى البيت الذي استأجره له نجله "فلاح" في منطقة الداوودي، قرب بيتكم، ولا تفصل بين البيتين سوى مائتي متر لا اكثر .. وبمناسبة الحديث عن البيوت، وثقْ هنا، عسى ان ينفع التوثيق، انك – ايها الرجل - قد ساهمت عام 1970 في التخطيط الاولي لخارطة دارته الاولى والاخيرة للجواهري، ملكاً صرفاً، في العراق، باعتبارك مهندساً، ولم يكن قد مرّ على تخرجك غير أشهر قليلة ..

... ثم تبدأ سنوات السبعينات، والشاعر الخالد يتناصف الاقامة خلالها بين بغداد، وبراغ، وفي تلك الفترة ما فيها من وقائع حلوة ومرة، وشؤون وشجون، واستثناءات، ولعلك قد وُفقتَ في تغطيتها، بقدر ما، في كتابك الموسوم" الجوهري: اصداء وظلال السبعينات" الصادرعام 2001 في براغ، عن دار "بابيلون" وتوزيع مؤسسة المدى الدمشقية، آنئذِ ...

*... وفـي بــراغ

مع أواخر العام 1978 تنتقل اقامتك – ايها الرجل- الى براغ لاسباب سياسية، وملاحقات امنية، كما وردت – وترد- بعض تفاصيلها في هذه "الضفاف على السيرة والذكريات".. وقد سكنت في "شقيّقــة" الجواهري لبضعة اشهر، اولاً، حتى توفرَ لك "ملاذ آمن" في عاصمة بلاد التشيك، التي يعود اليها الجواهري يحمل "منقارا واجنحة" ليس الا، ليستقر مغترِباً من جديد، وحتى رحيله في دمشق عام 1991 فيعطر متربتها هناك عام 1997 والى اليوم..

وعلى مدى أثني عشر عاما في براغ (1979-1991) كانت اللقاءات مع الجواهري الخالد، يومية تقريباً، ومن برامجها ما يمكن الافصاح عنه، وقسم اخر يندرج تحت مقولة "للمجالس أمانات" !!! ومع ذلك فتلك كتاباتك المنشورة عن حقبة الثمانينات الجواهرية تغطي مساحات توثيقية واسعة، وتنقل وقائع وشهادات، إزعمْ – ايها الرجل- بأنها تسمن من جوع، وظمأ التواقين للتعرف على بعض تراث وأرث الشاعر العظيم، وصرح علناً: بانك الوحيد الذي عايش، وسجلّ، ونشرَ عن تلك الفترة الزمنية، المليئة بالاحداث، الادبية والسياسية والوطنية، والاجتماعية...

كما ووثق بانك كنت طوال تلكم السنوات الاثنتي عشرة: المؤتمن الاقرب للشاعر العظيم على "اسراره" وخصوصياته، وأتراحه وأفراحه، وحتى على بعض دوافع قصائده في تلك الفترة، وانطلاقة كتابة مذكراته... وكم كنت وكنت!! ثم ندمت بعد فوات الاوان، لأنك لم تقضِ وقتاً اطول واطول مما قضيته معه، وكم حذرك الخال العبقري، مزاحاً وجدية، من ذلك الامر، ولكنك ما طاوعتَ وفضلت نشاطك السياسي، و"الخاص"!!! في احيان كثيرة على ان تكون معه..

*... وفــي دمشــق

توزعت جلّ ثمانينات الجواهري، تقريبا، كما هو معروف للمتابعين، بين براغ، جنة الخلد التي "اطالت الشوط من عمره" ودمشق "التي احبها لا زلفى ولا ملقا"...وقد شاركته – ايها الرجل- تلك الحال، بقدر وشكل، أو آخر.. فقد كانت سوريا وطنا اضافياً تحضّنك لأكثر من ثلاثة عقود، وتحديدا للفترة 1979-2010... زائرا ومعارضاً وناشطاً جماهيرياً ولمرات عديدة في العام الواحد، وفي جميعها، او اغلبها الأعظم، مقيماً في دارة الجواهري، والعائلة، بدمشق ..

  وهكذا كتبت – ايها الرجل- تفاصيل لا عدّ لها في توثيقك الموسوم: "مع الجواهري في دمشق" المنشور عام 2013 في صحف ومواقع اعلامية عديدة، وفيه ما فيه من ذكريات ووقائع واحداث. ومن شذرات ذلك التوثيق، شئ عن مجالس الجواهري، وضيوفه وخصوماته، وعائلياته، وليلياته، ومشاركتك في اختيار" العيون من اشعاره" عام 1985 والاعداد الاولي لتحرير جزأي ذكرياته عامي 1989-1990 وعن نكبتيه برحيل زوجته" آمنة" عام 1992 وقبلها رحيل اخته "نبيهة" عام 1987...وغيرها وغيرها، وحتى تموز1997حين نال منه الموت اللئيم- الذئب- الذي بقي يطارده عقوداً، وفوق نيوبه دم اخوته، واحبته، وصحابه ...

كما وتذكرْ هنا – ايها الرجل- جلسات ما بعد منتصف الليل، حين تنفرج الاسرار والاسارير، وينحسر الستار عن الكلام المباح، وغير المباح، وتشتد المناكدات، ويُصرحُ بالتقيمات للاشخاص والاطر والاحداث والوقائع... وتوقف هنا، وعدْ لمقولة: ان للمجالس امانات، وقِ المؤمنين، وغيرهم، شرور القتال، فما عاد في المقدور مزيدا من قدرة التحمل والجدال، وخاصة مع اولئك الذين لا يستحقون المنازلات!!!... اما المخلصون ممن يهمهم حب التنوير والثقافة والادب، والسياسة، والجميل غير الممل، فدلّهم - ايها الموثق- الى نحو 70 شهادة وواقعة أرختَ لها تحت عنوان" مع الجواهري بعيدا عن السياسة والادب" نشرت ربيع العام 2014 في عشرات الصحف والمواقع الاعلامية، وغيرها ....---------------------- يتبع

 

 

 

 

 

 

شهادات ووقائع

 

من ضفاف الذكريات -4-

 

في عواصم ومــدن العالـــم

 

رواء الجصاني

بين مشاركات في مؤتمرات ومهرجانات وندوات وغيرها، كما للسياحة وإن قلّت، قُدر لك – ايها الرجل- ان ترى وتزور وتقيم في حوالي ثمانين عاصمة ومدينة، متوزعات في اكثر من ثلاثين بلدا، في مختلف انحاء المعمورة، واحياناً لاكثر من مرة ومرة .. فمن نيويورك الى بيونغ يانغ، ومن مراكش الى عدن، والى اثينا وروما وموسكو ولندن والقاهرة، وطهران واسطنبول.... توزعت تلكم المدن والعواصم التي رأيت. اما دمشق وبلاد الشام، فتغنّ، وأحزنْ، وحدثْ، عن عدد مرات زياراتك لها، فلها الكأس المعلى، والى اليوم "وإن كُسيت على رغم دخانا" ...

   ولعلك لا تبالغ ان أطربتَ – او أضجرتَ- قراءك ان قلت بان لك في كل مدينة وعاصمة ذكريات الكثير منها طرز الروح، عاطفة ووجداناً، باحباء واصدقاء، وزملاء، وقبلهم: صديقات وزميلات، باهرات منورات.. كما ووقائع واحداث، اجتماعية وسياسية وثقافية، وغيرها !!! وإحذر! فان افضت اكثر فستكون"سيرة وذكريات" شاملة، وليست"ضفافاً" كما زعمت في العنوان الرئيس لهذا التوثيق.

ولكي "تملّح" ما أشرت اليه، نوه على الاقل، الى بعض وقائع حدثت لك – ايها الرجل- في عدد من تلكم العواصم والمدن، ومن بينها حين، حجز لـكَ المضيفون اليمنيون الجنوبيون عام 1980 ولحميد مجيد موسى"ابو داوود" وعبد الاله النعيمي، للسفر بالطائرة الى صوفيا، من عدن، التي كنتم في وفد رسمي اليها.. والى الان لاشئ غير طبيعي، ولكن الدهشة انك اكتشفت، وبالصدفة فقط، وعشية بدء الرحلة، ان مسار طائرة العودة يشمل التوقف ساعة" ترانزيت" في مطار بغداد، المحتل آنذاك من عصابات النظام الارهابي!!! وقد الغينا السفر، بالطبع، وإلا فكمْ كانت "اللقمة" مغرية لتلك العصابات، بأن يصيدوا ثلاثة مطلوبين بامتياز، جاؤوا اليهم بأرجلهم، وإن كانوا عبر الطائرة !!!...

وعلى اية حال فلتزدْ خلاصاتٍ ولتقل: ان كل تلكم المدن والعواصم التي زرتها، وفرت لك المزيد من الاطلاع، وبمديات مختلفة، على صعيد المعرفة، والتاريخ والجغرافيا، والثقافات المتنوعة.. واكتفِ هنا، وعلى ان تعود للمزيد في كتابات تالية، وأحسبْ ان جميع ما أشرت له في السطور السابقات رؤوس اقلام، لتفاصيل قادمة ...-------------------------------- يتبع

 

 

 

 

شهادات ووقائع

 

من ضفاف الذكريات -3

 

نساء ونساء في رحاب الذاكرة

 

رواء الجصاني

 

لأنهن من زنّ الحياة، فلابد ان يحظين بكل تمييز ممكن، وانت تتابع ضفاف ذكرياتك ايها الرجل، وهكذا رُحْ واعتمد ذلك المنحى فوثق عن نساء باهرات كانت لهن علاقات انسانية ووطنية واجتماعية وسياسية معك، كما انت معهن، وأكثر. واذ تستمر على تلك الخطى التي اعتمدت، باتجاه التوقف عند اسماء الراحلات والراحلين، وحسب، مع استثناءات قليلة، فلا بد ان تأتي في البال اولاً، الوالدة الجليلة: نبيهة الجواهــرى، وقد سبق واشرت لها، وعنها في سطور سابقات...

ثم تابع وتذكر  الفقيدة العزيزة: امونة جعفر، زوجة الجواهري الخالد، الخال الاقرب، الذي قال عنها عام 1957، وأوفى، ببضعة كلمات معبرة تغني عن جمل وعبارات، حين قال انها كانت، وحتى في جموحها " لون من الادب"... كما وتذكر والدة زوجتك نسرين: الراحلة الجليلة: بلقيس عبد الرحمن، أرملة الشهيد وصفي طاهر، المناضلة، الصادقة الصبور، والتي عشت معها في بيت واحد لاكثر من عشرين عاماً في براغ، دع عنك السنين الخوالي في بغداد.. وايضا نزيهة الدليمي، الشخصية الوطنية، التي كانت تتابعك سياسياً اواخر السبعينات الماضية، ضمن مسؤولياتها في العناية بتنظيمات الخارج للحزب الشيوعي العراقي...

 كما لا يجوز الا وان تُشر- وذلك اضعف الايمان- الى الشهيدة البطلة، زهور اللامي، رفيقتك في الهيئات القيادية لتنظيمات بغداد الطلابية، اواسط السبعينات. كما لا تنسً ان تصرح ايضا ان عميدة "عمومة" مصري، كانت رفيقتك في التنظيمات القيادية للحزب في موسكو.. ثم وثق، بل وافتخر بعلاقتك الاجتماعية مع فنانة الشعب، زينب، ولقاءاتكم بصور شتى، في بغداد وموسكو وعدن ودمشق..

والان، فلتعترف(!) ان بشرى برتو كانت تشرف على نشاطك، ورفاقك: الشهيد الابي نزار ناجي يوسف( ابو ليلى) وفراس الحمداني، وعيسى العزاوي، وحكمت الفرحان، وغيرهم، في لجنة العمل المهني المركزية، ببغداد في السبعينات.. كما انها- بشرى- تكفلت بالمسؤولية السياسية عنك في براغ، اواخر الثمانينات.. ثم اعترف ايضا بانك كنت، وسعاد خيري، في لجنة تنظيم الخارج للحزب الشيوعي اوائل الثمانينات... كما وتذكر سلوى زكو في صحيفة "طريق الشعب" السبعينية، وهناء ادور، وانتما تتابعان النشاطات الديمقراطية العراقية في دمشق، اواسط الثمانينات... وكذلك نضال وصفي طاهر، وخاصة فترة عملها معك ببراغ، ولنحو عقد من الزمان، في مسؤليات حزبية وديمقراطية وطلابية..ولا تغفل - وهل يمكنك ذلك ؟- المناضلتين: الشهيدة الباسلة شذى البراك، وشقيقتها سوسن، وعلاقاتكم الاجتماعية والسياسية والحزبية على مدى اعوام... وهكذا تبتدأ شدة الورد، ولا تنتهي.

لقد باتَ عليك ان تتوقف- ايها الرجل- فقد اطلت، ولربما تستهويك الاعترافات المقبولة، وغيرها، وقد يضجر المتابعون حين تنهمر، تتلألأ، الاسماء والذكريات والسير، وقد يعود بك التوثيق الى زميلاتك في الدراسة الجامعية، والوظيفية، والنضالية، وخاصة الى تلكم الشابات الزاهرات التي كُلفت بالاشراف على نشاطهن في تنظيمات الحزب الطلابية ببغداد، والديمقراطية، وقرينتاهن في براغ، وفي الجمعيات والروابط الطلابية، المنتشرة عنفواناً في نحو عشرين بلدا، واوربا بشكل خاص.. واستدرك، وتمنّ لو سمحنّ لك، وسمحت الظروف، بذكر اسمائهن، ولاسيما البارزات منهن نشاطاً، وحيوية، وإتقاداً، ولا شك بأنك ستوافق في الحال لو كان الامر بيدك وحدك.

... اما عن العلاقات الاجتماعية والانسانية، وما بينهما، مع من "زنّ الحياة" فستستطرد السطور دون حدود، ولربما ستزداد أعين الحساد اتساعا، واحمرارا.. فأحذر، واحترز، لأن ما عندك من لواعج وشجون يكفيك لدهر !!!! .------------------------------- يتبع

 

 

 

 

شهادات ووقائع على ضفاف الذكريات – 2

 

ربع قرن في حركة طلابية مجيدة

 

رواء الجصاني

 

في الرابع عشر من  نيسان عام 2008  وتحت العنوان اعلاه، وبمناسبة الذكرى الستين لمؤتمر السباع الطلابي الشهير، ببغداد، نشرتَ – ايها الرجل –توثيقا مفصلاً عن بداياتك الطلابية، نشاطا ونضالاً، وحتى عام 1989 حين "تقاعدت"... وها انت تحاول من جديد ان تجمع شتات السيرة والذكريات، فماذا ستكتب هذه المرة؟

... هل ستفصل اكثر عن مواقف ونجاحات وشجون، ام ستخشى- وماذا تخشى اصلاً ؟- من هذا وذاك؟.. هل ستتحدث بصراحة؟ ام ستركنها لفترة قادمة، وتتحجج من جديد بأنك توثق "ضفافاً" وحسب لسيرة وذكريات، وليس كل "السيرة" وكل "الذكريات" !!... ومع ذلك فلتتمرن، ولتضف بعض محطات من هنا ومن هناك في مسار ربع قرن، من العمل والنشاط الطلابي.

قلْ، مثلا، انك تفخر بمشاركتك في ذلكم النضال الطلابي المتشابك مع النضال الوطني، في حركة، وتنظيم، واطار، اتحاد الطلبة العام، والذي كان، وما برح، شعاره الاساس ينضح بذلك التشابك، ونصه:"من اجل حياة طلابية حرة... ومستقبل افضل"... ثم زدْ وبارك، كما يقول المؤمنون: ان ذلك الاتحاد الطلابي العتيد، مدرسة وتاريخ لجحافل مناضلين من اجل الغد الافضل، منهم من أُستشهد، وخلدَ، ومنهم من سجن وعذب وتحمل ما تحمل، ولم يحد عن الدرب... كما وأشِرْ على الاقل- ايها الرجل الموثق- وحتى دون اسماء في هذه المرحلة: ان مدرسة "اتحاد الطلبة العام" خرجت العشرات من القيادات والنشطاء البارزين، في الحركة الوطنية العراقية، وعلى مدى اعوام، بل وعقود، ومنهم الى اليوم، يجوبون ارجاء العراق شمالاً ووسطاً وجنوبا..

ثم، سجل، وتباهَ مرة اخرى - ولم لا؟ - ان مهامك ونشاطاتك الطلابية - الوطنية تنوعت وتعددت، لتشمل الاعلام والتنظيم مرة، والعلاقات العربية والعالمية مرة اخرى... ومرر – ايها الرجل – ان من بين هذه وتلك المهام التي تشرفت بها، اشغالك عضوية سكرتارية الاتحاد مطلع السبعينات الماضية، وخوض الانتخابات الطلابية عام 1970 "متزعماً" قائمة الاتحاد، في معهد الهندسة العالي ببغداد، ثم شغلت عضوية اللجنة التنفيذية لرابطة الطلبة العراقيين في الاتحاد السوفياتي عام 1972 ثم عدت لبغداد عام 1973 لتعود الى سكرتارية الاتحاد، ولتشرف على صفحة الطلبة والشباب في جريدة "طريق الشعب" المناضلة المعطاء، وحتى عام 1976...

كما واكمل تباهيك، مادمت قد بدأت به - ايها الرجل المتباهي بنضال وعطاء- ووثق انك كُلفت في براغ، وانتخبتَ سكرتيراً عاماً للجنة التنسيق للجمعيات والروابط الطلابية العراقية (الديمقراطية) خارج الوطن للاعوام 1980- 1985.. وفي نفس الفترة: تسنمت مهام التمثيل الخارجي لاتحاد الطلبة العام، ومندوبه لدى سكرتارية اتحاد الطلاب العالمي، ومقرها في العاصمة التشيكية براغ... وضف بكل ثقة واعتزاز ان تلكم الجمعيات والروابط، وهي فروع الاتحاد في الخارج، تحملت في مسارات نضالها مسؤوليات اساسية في حملات التضامن الجماهيرية، مع كفاح طلبة وشعب العراق، ضد الارهاب والقمع البعثيين، وخاصة في الفترة 1979- 2003.. ومرة اخرى ذكّر من يريد تفاصيل اكثر، بالعودة الى ما نشرته في توثيقك ذي الصلة عام 2011 تحت عنوان "جمعيات وروابط الطلبة العراقيين خارج الوطن، ربع قرن ضد الدكتاتورية والارهاب" والمنشور على عشرات المواقع الاعلامية.---------------------------------------- يتبع

 

 

 

 

شهادات وقائع على ضفاف الذكريات / 1

 

بين الصحافة والثقافة... والسياسة

 

رواء الجصاني

في بغداد"دجلة الخير"...

...ها قد حان الوقت الان للتوثيق عن بدايات النشاط الصحفي الاول، فأرخ ايها الرجل أنك واكبت صدور جريدة "طريق الشعب" العلنية، منذ ساعاتها الاولى عام 1973 وحتى عام 1978 إذ توليت فيها مسؤولية صفحة "الطلبة والشباب" ثم "الصفحة المهنية" التي أختصت باخبار وشؤون نقابات مختلفة، عدا العمالية، فضلا عن "مهام" اخرى... اما التفاصيل عن تلك الفترة التي دامت نحو ستة اعوام، فأدع من يشاء، ولم يضجر بعد مما تكتب، لقراءة توثيقك المفصل عن ذلك، والمنشور اوائل عام 2014 في العديد من المواقع الاعلامية تحت عنوان "ستة اعوام في طريق الشعب".

وفي اواخر العام 1978 يحين موعد "الهروب" الاضطراري من العـــراق، وبدء اعوام الغربة التي ظننت- ايها الرجل- انها لن تطول عقودا كما حدث، ويستمر... فإلى براغ، جنة الخلد، المرئية، وليست المسموعة، على ذمة "الجواهري" ارتحلت من بغداد، وصارت عاصمة التشيك ملاذاً ووطنا جديدا اضافيا، والى اليوم... وفيها – في براغ- حيث الفصول الاربعة - ودائما بحسب الجواهري الخالد- تسلمت، وبعد لا ازيّد من اسبوع فقط من الوصول اليها، مهاماً اعلامية وصحفية عديدة، وطنية وسياسية الطابع عموما، ومنها لفترات متباينة الطول والقصر: في المكتب الاعلامي، الخارجي، للحزب الشيوعي العراقي، الذي حرر وطبع واصدر ووزع العديد من المجلات والنشرات بالعربية والانجليزية والاسبانية، للمساهمة في مقارعة النظام الدكتانوري البائد... ولتوثق هنا ان من بين الاسماء التي عملت معها، وعملوا معك، ولفترات مختلفة في هذا المجال: شمران الياسري(ابو كاطع) وسعاد خيري وفالح عبد الجبار ومجيد الراضي وحسين العامل، و باشراف نزيهة الدليمي، فترة، ثم ثابت حبيب العاني. وعذرا سلفا لمن لم تسعف الذاكرة بالاشارة له... ولتمرر هنا انك سعيت – وستسعى- في هذه الضفاف من السيرة والذكريات، الى الابتعاد ما استطعت عن تعداد الاسماء، وتركز على الراحلين وحسب، احترازا من سهو او نسيان، او"زعل" احباء واصدقاء ومعارف.

... وفي براغ "مزهر الخلد"

ثم يحل العام 1989 وتنقلب الدنيا، وتهوي انظمة، وتعلو اخرى، وتنكفأ النفوس قبل العقول، بعد انهيار الشكل، والنموذج على الاقل .. ويتيح استبدال نظام الاقتصاد ذي التخطيط المركزي في البلاد التشيكية الى اقتصاد السوق الحر، امتحان القدرات الذاتية، وخوض غمار المغامرات، فتطلق مع عبد الاله النعيمي، منبرا للاعلام والتنوير، باسم "بابيلـون" ولتستمر تلكم المغامرة الى الان، وها هي تنهي يوبيلها الفضي، برغم كل المتاعب وصعوبات السباحة ضد التيار، ولتخسر كل ما تملك ( وهل ثمة ما تملك اصلاً؟) لكي يدوم المشروع الى الان، بل ويتسع، وينال محبة الاكثرين، جنبا الى جنب كيد وكدر الحاسدين والعاجزين.. وكما هو الامر في سطور سابقة، وفي حال اخرى، تلكم هي التفاصيل موثقة بتفاصيل "مملة!" واسماء ونجاحات وشؤون وشجون، منشورة على مواقع اعلامية، وصحف عراقية وعربية، تحت عنوان:"بالف دولار من الجواهري، وبريشة محمود صبري، ابحرت "بابيلون" عام 1990".

ترى هل أوفيت؟ ام هنالك مسافات التأشير اليـــه؟... لا احد يدري ولكن، وعن الحلال والحرام فلتزد - ايها الرجل- سطورا اخرى، في مسيرة الخمسين عاما من الاسهام والنشاط في العمل الصحفي، والاعلامي، ومنها اصدار نشرة رابطة الكتاب والصحفيين العراقيين، الاوربية باسم "مرافئ" تحت مسؤولية صادق الصايغ، والاشراف العام لنحو سبعة اعوام عن كل الاصدارات الخارجية لاتحاد الطلبة العام، وفروعه الخارجية، فضلا عن المقالات والتوثيقات والدراسات، الثقافية والسياسية، وما اليها، والتي كانت بالعشرات، ولا تقل مئات- وان كانت!- احترازا من المتربصين، واولئك ممن عناهم الجواهري واشباههم في بعض مقصورته الشهيرة : ومنتحلين سمات ِ الأديب يظنونها جبباً ترتدى.... ولكن لتتباهى في ذات الاوان بتراث وعمق صلات، ومودة مع عشرات الزملاء والاصدقاء والاحباء، الذين عملت معهم، وعملوا معك، وزاملتهم وزاملوك، باسقين ألقين، في رحاب الصحافة والاعلام، ولتفخر بعلاقاتك معهم، وعلاقتهم معك، ممن قربوا او بعدوا، او تواصلوا ويتواصلون، وفي كل ذلك رصيد ما وراءه رصيد أجل !!.

--------------------------------------------------- يتبع

 

 

 

جرى ذلك قبل خمسة وأربعين عاماً (1/2)

 

الجواهـري في حديث خاص لسامي مهدي

 

عن البيئة والتمرد

 

والصحافة والنقاد... والشعر الحر

 

 

قراءة وعرض: رواء الجصاني

 

------------------------------------------------------------------------------

قبل خمسة وأربعين عاما، وفي حزيران/ يونيو 1971 تحديدا، يجري الشاعر والكاتب سامي مهدي، حوارا مطولاً في بغداد، مع الجواهري الخالد، نشره في مجلة "المثقف العربي" تميز بالصراحة والجرأة وفي اختيار المحاور، فضلاً عن الأستنطاق- بتعبير استعاري- خاصة وان  الاجواء في البلاد العراقية كانت  متشابكة،  ثقافيا وسياسيا - على اشمل وصف. وقد أرتأيت وأنا في "معمان" الارشيف الجواهري العامر، أن أعيد نشر الحوار لتميزه كما أسلفت، وبشكل شبه كامل، بأستثناء بعض الأيجازات، وإضافة عناوين فرعية، فضلاً عن هوامش توضيحية، كما ازعم ... وها هو في التالي:

--------------------------------------------

"كنت قد قدرت ان لقائي بالجواهري سيستغرق ساعة او اكثر قليلا. وانه سيكون جافاً أو حتى مملاً، ولكنه استغرق أربع ساعات، وكان متعة عظيمة لي"... هكذا يقدم سامي مهدي لحواره المنشور في مجلة المثقف العربي البغدادية، ويضيف:

... "في البداية لاح لي انه يتحفظ في الحديث فخمنت انه يريد ان يطمئن الى أمانتي بعد ان افتقد أمانة الكثيرين. ولكن ما ان استغرقنا الأخذ والرد حتى انطلق على سجيته وراح يسترسل حد انه كان ينسى في كل مرة أصل ما بدأنا به.

كان صوت – الجواهري- دائم التغير فهو يعلو مرة حد الصياح وينخفض أخرى حد الهمس، وبدا لي انه ليطربه ان يستعيد معك ذكرياته، حلوها ومرها، وان تنصت له وتشجعه على الاسترسال معك، فحينذاك تراه وقد احمر وجهه من لذاذة، وتهدج صوته من نشوة، كما لو ان حمى خمرة قد ألم به. فرأيت ان يحدثني عن مصادر ثقافته، قلت له أراك تقرأ روسو فمن هم أبرز من قرأت لهم؟".

* ويجيب الجواهري:

..."سؤالك عن أبرز من قرأت لهم صعب، لقد قرأت كثيراً، وقد بدأت القراءة منذ ان كان عمري عشر سنوات، كان بيتنا يساعد على ذلك، وأستطيع أن أقول انني قرأت لأغلب المشاهير. قرأت لبلزاك واناطول فرانس وبودلير صاحب ازهار الشر. قرأتُ هؤلاء مترجمين، مع انني اجيد – القراءة – القراءة – فقط بالفرنسية. وغير هؤلاء قرأت شيللر صاحب اللصوص، وقد أعجبتني رواية مدام بوفاري".

ماهي مصادر ثقافة الجواهري، ومن أين؟

* ثم يسأل سامي مهدي "وماذا بعد عن مصادر ثقافتك؟" ... فيّرد الجواهري:

" ان الأهم هو البيئة: البيت والمدينة والقطر والظروف ونمط الحياة السائدة. ان البيئة التي نشأت فيها بيئة خاصة. كان بيتنا (مشبك عروق) دون كل البيوت. كان ملتقى كبيراً لعوائل مختلفة الأصول. كما كان محفل علم وأدب، أما أبي فكان شاعراً رقيقاً، إلا انه هجر الشعر تقىً وورعاً مثلما فعل الحبوبي الكبير... اما بالنسبة للبيئة العراقية في ذلك الحين فلعلك قد قرأت عنها، وعرفت من أي بؤس وأي تخلف كانت تعاني... اذن فقد كانت هذه البيئة مصدرا غنيا وقد زودتني بخبرات عديدة. على ان اكثر ما اثر بي منها طفراتي من حدود البيئة العائلية والنجفية الى البيئة البغدادية، فلقد فتحت لي هذه الطفرات آفاقا رحيبة وكان ان حددت لي طريقي العام".

* ويتابع الجواهري اجابته على السؤال ذاته فيقول:

"اثر بي من تلك البيئة تناقضها وتقلباتها، فنحن لم نكن عائلة كادحة، كنا من البيوتات ولكنا مع ذلك كنا نبيت ليلا بلا عشاء، وحتى بلا خبز. ولقد برزت هذه التأثيرات في مظهرين عام وخاص. ففي المظهر العام فرضت عليّ البيئة ان أكون مع الجائع العاري. لذا أصبحت ملتزما رغما عني. وفي المظهر الخاص طغى على حياتي وشعري عنف لم أخلق له. أنا في حقيقتي أكره العنف، وأشعر أحياناً ان عنفي في غير محله فأشجب نفسي ولكنني لم استطع الا ان أكون كذلك، أنا مثل بطل بلزاك في رواية الزوج الضائع (حسن التفكير سيء التصرف)، وحين قرأت الرواية قلت: هذا هو أنا...

... شيء آخر أورثتنيه البيئة، وهو حب الحياة. أنا أحب الحياة، ولقد نما في هذا الحب على نحو لم أكن أتصوره انه ينمو كلما تقدم بي العمر حتى انني لأجده في بعض الأحيان لا يتناسب وسني، وعندئذ لا أجد إلا أن أفلسفه. ان حبي للحياة، كما أعتقد مجرد رد فعل للظروف التي مرت بي لقد كنت محروماً وما حبي للحياة إلا تعويض لهذا الحرمان".

الجواهري: أشعر احياناً باني كنت عنيفا أكثر مما ينبغي

* ووفق سامي مهدي، في الحوار ذاته وعنه:

"كان ابو فرات أشبه بمن يعترف، وبين الحين والآخر كان ينتبه لنفسه فيعتدل ويحدق فيّ ليرى مدى تأثير حديثه عليّ. اما أنا فكنت أهرب بوجهي عنه لئلا أقطع عليه استغراقه في الاعتراف. كنت أتركه لانفعالاته. ثم سألته: يعرف عنك انك بار بعائلتك، فكيف توفق بين هذا البر وبين عنفك ومواقفك الحدية".

* ويردّ الجواهري، منطلقاً، ومن بين اجابته:

"أنا أحب العائلة، أذوب في العائلة، وفي أقسى الظروف كنت أحاول المستحيل حتى لا تتضرر، كنت أدللها وكان هذا يكلفني عناءا أكبر، وفي الحق ان العائلة لم تكن تتدخل في مواقفي قبل ان اتخذها، أو انني لم أكن أدع لعواطفي تجاهها ان تؤثر على موقف أزمع اتخاذه. غير انني مع ذلك كنت احتاط لها قبل اتخاذ الموقف. ثم ما عساي ان أصنع اذا جاءت الأثمان أكبر من استعدادي لها؟ أحياناً كنت انقد نفسي فأشعر انني كنت عنيفا أكثر مما ينبغي وحتى أكثر مما كنت أريد".

ويستمر الجواهري فيتحدث خلال الحوار نفسه عن مثال لما تعرض له، والعائلة بسبب مواقفه، فيسرد تفاصيل عن أجواء وتداعيات بائيته الشهيرة، عن هاشم الوتري، وبيتها الأشهر الذي خاطب به المسؤولين العراقيين عام 1949 ونصه "أنا حتفهم ألجّ البيوت عليهم، أغري الوليد بشتمهم والحاجبا"(1)...

لماذا راح الجواهري صحفيا؟

* وفي ثنايا الحوار يكتب سامي مهدي:

 "... قلت لأبي فرات: ان علاقتك بالصحافة تبدو لي غريبة، فهلا أوضحت لي كيف تكونت هذه العلاقة ومدى تأثيرها على شعرك؟"...

ويجيب الجواهري:

"كنت مهووساً بإصدار جريدة، ولكن لم أكن أدري ما هو هدفي بالضبط لعلّ ذلك يعود الى اتصالي بالصحافة عن طريق النشر، أو لعله طموح ذاتي في النشر، أو رغبة في الحصول على مورد حر، وربما كان الدافع رغبتي في خوض السياسة. وعلى أية حال كانت الصحافة بالنسبة لي هي الدنيا، وكنت أعيش جو الصحافة على كثب. وهكذا تركت الوظيفة وأصدرت (جريدة الفرات) التي سميت ابني باسمها.

على انني وان امتلكت ذوقا صحفيا، فأنني لم أكن صحفيا ناجحا. كنت أشعر بأن ثمة تعارضا بين الصحافة والشعر. كانت الصحافة تغرقني في غمرة الاحداث وتشدني اليها فتصرفني عن الشعر في كثير من الاحيان، ومع ذلك فانني ما زلت احب الصحافة واحسب انني استطيع الان مزاولتها. ولكنها من جانب آخر كانت توسع لي الآفاق السياسية".

* ويضيف الجواهري مسترسلاً:

"هذا لا يعني انني لم اقدم شيئا مجديا في الصحافة. فغالبا ما كنت اكتب الافتتاحيات وغالبا ما كانت هذه الافتتاحيات تحرك الجو السياسي. ومن جانب آخر كانت الرأي العام ملتقى للشعراء الشباب، وكانوا يعتبرون النشر فيها مقياسا لمواهبهم. بدر شاكر السياب كان ينشر عندي ومن اهم ما نشرته له همزيته التي قالها في الوثبة وقد نشرتها بعد ان قدمت لها. بدر كان يعمل عندي مترجما. وقبل ذلك كان يريد مني ان اقدم لديوانه. ففي ذات يوم كنت في زيارة والد عزيز الحاج، كان صديقي وكنت اعرف عزيز من خلال هذه الصداقة. فجاءني - عزيز - مع ديوان صغير لبدر وطلب مني ان اقدم له. واحتراما لعلاقة الصداقة اخذت الديوان ولكني لم اقدم له رغم انه بقي عندي شهورا ثلاثة، أنا لا أؤمن بالتقديم، امين الاعور (صحفي لبناني) أرسل لي منذ ثلاث سنوات ملحمة تاريخية بـ 400 صفحة على ان اقدم لها. الملحمة جيدة ومازالت عندي ولكنني لم افعل شيئا. هكذا أنا لا أؤمن بالتقديم".

----------------------------- يتبع الجزء الثاني والاخير

** مع تحيات مركز الجواهري/ براغ

 

 

 

 

بين الجواهري والامام الحسّين:

مآثـر وشعـر*

 

كتابة وتوثيق: رواء الجصاني

بلا خوض مباشر في عوالم النجف الروحية، والاجواء الدينية والادبية للاسرة الجواهرية، وتاريخها واثارها العلمية، دعونا نغور لماماً في قصيدتي "عاشوراء" و" آمنت بالحسين" للجواهري الخالد، وما تشيان، بل وتلهبان به، حول ماثرة "الطف" واحداثها الاليمة، والعبر المستوحاة من الثورة الحسينية، ومنابعها وجذورها ومبادئها وافاقها..

 والقصيدة الاولى: "عاشوراء" منظومة ومنشورة عام 1935 وكانت بثمانية وستين بيتاً، استعرض فيها الجواهري، ووثق خلالها العديد من الاحداث التاريخية، الثورية والماساوية في ان واحد، وبالاسماء المقرونة بالاوصاف التي تليق – بحسب رؤاه – بالمضحين من اجل المبادئ، من جهة، وبمعارضيهم، بل ومحاربيهم وقتلتهم، من جهة ثانية...

هيَ النفسُ تأبى أن تُذَلّ وتُقهَرا، ترَى الموتَ من صبرٍ على الضيم أيسَرا

وتخـتارُ محموداً من الذِكرِ خالداً...على العيش مذمومَ المَغَـبّـة مُنكَرا

  وكما هو ديدنه، شبك الجواهري العام بالخاص، وبحورات مع الذات ً، ليستخلص وفي ابيات محدودات، ولربما في بيت واحد متفرد، عبرة العبقري الخابر للحياة:

ونُكّسَ يـومَ الطـفّ تـاريخُ أمـة... مشى قبلَها ذا صـولـةٍ متبختِرا

فما كان سهلاً قبلَها أخذُ مـوثـق على عَرَبيّ أن يـقولَ فيغـدِرا...

 وسيرا على عادته، ايضا، يوجزالشاعر المنوّر عظات واقعة الطف، وما سبقها وتلاها من بطولات وامجاد خالدة، ثم يروح موجهاً، دون وجل او تردد:

أقـول لأقوامٍ مَضَـوا في مُصابه... يسـومونه التحريـفَ حتى تغيّرا..

دعُوا رَوعةَ التاريخ تأخـذْ مَحَلّـها... ولا تُـجهِدوا آياتِه أن تُـحوّرا

وخلّوا لسانَ الدهر يَنطقْ فإنّه...بليـغٌ إذا ما حـاولَ النطـقَ عَـبّـرا

 واذ جاءت "عاشوراء" في زمانها - والجواهري انذاك في عقده الثالث وحسب - مباشِرة في المعاني والتصريح، واقرب للتوثيق التاريخي، هدر الشاعر الخالد بعد مرور اثني عشر عاماً، بعصماء "آمنت بالحسين" التى فاضت بالتعبير عن المواقف والمفاهيم الطافحة بالإباء والشموخ، والممجدة للفداء والتضحيات، كما هي الحال في الفرائد الجواهرية العديدة، وان اختلفت في الصور والاستعارة:

فـداء لمثـواك من مضـجـعِ... تـنـوّر بـالابلــج الأروعِ

ورعياً ليومـك يوم "الطفـوف"... وسـقياً لأرضك من مصرع

تعـاليت من مُفـزع للحتـوف... وبـورك قبـرك مـن مَفزع

وياعِظَةَ الطامحينَ العِظام، للاهينَ عن غَـدِهِمْ  قُنَّـعِ

 وفي مقابل ذلك تماماً، لم يجامل الشاعر الكبير أو يتهاون في هجو الخنوع والانحناء، وأولئك المقيمين على الذل، بل وحتى من يتوسط "كاللبن الخاثر" وغيرهم من اللاجئين "لأدبار الحلول فسميت وسطاً، وسميّ أهلها، وسطاءَ"..

 ولربما نجتهد، ونصيب، فنرى في "آمنت بالحسين" مجمعاً للشواهد والأدلة الأبرز على الرؤى الجواهرية المتميزة، وبمقاييس بالغة الرفعة، في تبجيل "الواهبين النفس" فداءً للمبادىء التي يؤمنون بها، وتلكم بلا شك هي التضحية الأضخم للدفاع عن القيم والذود عنها، كما يؤمن ويثبت ويصدح صاحب "آمنت بالحسين"...

 وفي مقاطع تالية من العصماء ذاتها يستمر الجواهري في الاتجاه الذي يريد اعلانه عن تضحيات الحسين الثائر و"نهجه النير" الذي بات "عظة الطامحين العظام" لاولئك "اللاهين عن غدهم" والقنوعين دون احتجاج وتمرد أو ثورة...

....   كما يفيض عديد آخر من أبيات القصيدة بعواطف ومشاعر انسانية فائقة التعبيــر في تقديس الثبات والصمود لرجل يـــوم "الطفوف" و"الملهم المبدع" الثابت أمام "سنابــك خيـــل الطغاة" دون خوف أو رهبة... وبهــدف أن يُطمر "جديب الضميـــر بآخـــر معشوشب ممــرع"...

شممتُ ثـراك فهب النسيم... نسيم الكرامـة من بَلقـعٍ

وطفت بقبرك طوفَ الخيال... بصومعـة المُلهـم المبدع

تعـاليت من صاعق يلتظي... فـان تـدجُ داجية يلمـع

ثم يروح الجواهري ليتمثل مأثرة الحسين التاريخية، و"يمحص" الأمر دون أن يرتهب من "الرواة" أو يخدع بما ينقلون، ويمضي هادفاً للحقيقة لا غيرها، وبدون "تزويق" أو مبالغات... وبعد ذلك فقط، يجد الشاعر أن في فداء الحسين دفاعاً عن مبادئه، وقائع لا أعظم منها، وهو "أن يطعم الموت خير البنين، من الاكهلين الى الرضع

 "... ثم يحل مسك الختام، فتجدد القصيدة تقديس ذلك الصمود والعطاء الذي "نوّر" من ايمان الجواهري، وفلسفته في الإباء والفداء، والتي تجسدت، كما سبق القول، في الكثير من قصائده ومن بينها: "سلام على مثقل بالحديد - 1951 " و"بور سعيد – 1956" و"كردستان - موطن الأبطال- 1962" والى "اطياف الشهداء الخالدين- 1963" و"فلسطين الفداء والدم - 1970" فضلاً عن قصــائد الوثبـة، الشـهيـرة، عــام 1948...

تمثلـتُ يومـك في خاطـري... ورددت "صـوتك" في مسـمعي

ومحصـت أمـرك لم "ارتهب"... بنقـل "الرواة" ولـم أخــدع

ولما ازحـت طـلاء "القرون"... وسـتر الخـداع عن المخـدع

وجدتـك في صـورة لـم أُرعْ... بـأعـظــمَ منهـا ولا أروع

 وللاستزادة، نقول أن قصيدة "امنت بالحسين" المتفردة في المبنى والمعنى، والرؤى، نشرت في جميــع طبعات ديوان الجواهري العامر، ومنــذ العام 1951 وقد خُط خمسة عشر بيتاً منها بالذهب على الباب الرئيس للرواق الحسيني في كربلاء، كما أُنشدت، وتُنشد، في مختلف المجالس والمناسبات الاحيائية لواقعة "الطف" التي تصادف كما هو معروف في الأيام العشرة الأولى من شهر محرم، كـــل عــام...

 

-------------------------------------------------------------------------------

من كتاب" الجواهري ... بعيون حميمة" الصادر في بغداد وبراغ عام 2016

 

 

 

بعيون حميمة... مع الجواهري

 

في بغداد وبراغ ودمشق (*)

 

رواء الجصاني

 

    كان العنوان الاول لهذا الكتاب، موسوم بداية الامر بـ "خمسة عقود مع الجواهري".. وتلكم العقود المقصودة هي التي قضيتها في بغداد وبراغ ودمشق، مع محمد مهدي الجواهري، امتدت بين عام 1949 حين ولدتُ، وتاريخ رحيله عام 1997.

    ... ثم تغير العنوان بعد استمزاج آراء أقربين وقريبين، ليكون على حالته التي ترون. وفي ذلكم رحاب اوسع وفضاءات اشمل، تتيح لي على ما حسبت، غمرةً اكثر في بعض عوالم الجواهري، المنتهية الى لا مدى، وكذلك التوثيق لما أتباهى بكونه جديدا وغير مطروق، يضاف الى ما هو منشور، ومحرر عن الشاعر الرمز، في عشرات الكتب والمقالات والدراسات، وغيرها.

     لقد تمازحت مع الجواهري مرة، بأني سأدخله التاريخ(!) عندما اكتب عنه، كاشفاً ما أباحه لي طوال ازيد من اثني عشر عاماً متصلة حافلة ( 1979-1990) كنت فيها مؤتمنه الأول على كل ما عنده، خاصاً وشخصياً، وشؤوناً تصلح، ولا تصلح للنشر، وغير ذلك كثير كثير!. دعوا عنكم اليوميات البيتية والعائلية على مدى عقود، وعشقي اللا متناهي لشعره ومواقفه وجرأته وتمرده... وها أنا ذا أفي بالعهد، ولكن بالمقلوب، اي لكي ادخل التاريخ بكتابتي عنه، بهذه الرؤى والذكريات، والشهادات واليوميات والصور.

    صحيح ان قسماً مما احتوته الصفحات التاليات، كنت قد نشرته بهذا الوسع او ذلك الشكل، ولكن الاضافات والتأرخة المتوافقة مع بعضها، فضلا عن الجديد، وغير هذا وذاك، جاءت لتقرب القارئ أكثر فأكثر من المرجو والمؤمل لـ"هوامش" وحسب  في حياة الجواهري الثرية، الشخصية والاجتماعية والثقافية والوطنية والسياسية، وآرائه ورؤاه، في الفكر والشعر ... ويمتد التوصيف بلا حدود، وبلا عمد او تصنع. فتلكم بعض سمات الجواهري، وواقعه، وليس بالمقدور الاختصار، وإن قسرا.

   وللتوضيح، فلقد عمدتُ الابقاء، في العديد من الكتابات المنشورة سابقاً، على حالها، باستثناءات قليلة، وكل ذلك بهدف التوثيق الادق، ومن الناحية الزمانية بشكل رئيس. كما ان مهمة عسرى واجهتني في مسألة التبويب والترتيب، إذ تتشابك خصوصيات الجواهري مع عمومياتها، وكذلك في التواريخ والمكانات، والأولويات والثانويات والاواخر.. والحال ذاتها في ما يتعلق بتشابك وجدانياته ووطنياته وغزلياته واخوانياته، وغيرها. 

   وعلى ذات المسار الذي أتبعته في اصداراتي السابقة، وكتاباتي المنشورة عن الجواهري، فقد تأنيت مرات ومرات بشأن مراعاة واختيار الصياغة، واستخدام المفردات، واسلوبية الكتابة، الواجب اتباعها في مؤلَفٍ يطمح ان يكون موضع اهتمام متلقين من مختلف المشارب والمعارف والاتجاهات.. ولكم ان تقدروا مديات الحيرة التي تنتاب المرء وهو يسعى للتوفيق بين كل تلك المختلفات والمتداخلات. وقد انتهجت منحى "الوسطية" وقد اكون تمكنت .

     وهكذا راحت "الخلاصة" التي سترونها في القادم من الصفحات، ولتكملها صور مختارة من نحو الف صورة وصورة، هي اشبه بالف ليلة وليلة !.. فهل ستتمكن ثلاثمئة وست وثلاثون صفحة – حقاً - من ان تفي العبقرية والخؤولة بعض حقها.. ؟!

    أخيراً، وقبل ان اسوح بكم في عوالم الشاعر الخالد، وامزجته، ومحطات في سيرة مئة عام من حياته التي خبط فيها "الدنى والناس طراً، وآلى ان يكونهما، فكانا" .. أقول، قبل ذلك دعوني اشير الى ان هذا الكتاب غير ربحي، وهــا هو ابن اخت الجواهري، صفاء الجصاني،  يتبنى تعضيد طباعته ونشره. اما التنفيذ الفني، فقد كان - ومثلما هي العادة في اصداراتي السابقة كلها – بجهد وعناية ذات الانامل الذهبية، نسرين وصفي طاهر..

------------------------------------------------------------

(*) بداية وتقديم كتاب:

"الجواهري بعيون حميمة" – بغداد/ براغ عام 2016 .

اصدار: مركز الجواهري للثقافة والتوثيق . – تنفيذ: بابيلون للاعلام والنشر.

- 336 صفحة من القطع الكبير.

 

 

 

 

مساهمة في حفل أحتفائي بالمثقفيّن

الوطنيين:الراضي، وجيـان(*)

وكنا كالزروعِ شكتْ محولاً، فلما أستمطرتْ، مطرتْ جرادا

- رواء الجصاني

  في فترة طغيان ألم، وهضيمة وإنتفاض، كتب الجواهري الكبير، موثقاً وناقداً ومحرضاً، عام 1984 سينية معبرة، من بين ابياتها، اثنان بليغان كما أدعي، اخترتهما مدخلاً لمساهمتي هذه في  المناسبة التي نجتمع خلالها، احتفاء بمثقفين وطنيين: د. مجيد الراضي، والاستاذ يحيى بابان- جيان، الذين عانا ما عانا، من جحود أليم، عوضاً عما يستحقان من  وفاء وتقدير... وفي ذينك يهدر الجواهري، مخاطبا صلاح خالص:

"أصلاحُ" أنّا رهنُ مجتمعٍ، يخشى اللصوصَ، فيذبح العسسا

يـُزهى بفارســهِ اذا أفتُرسا، وبضوءِ نجـــمٍ ساطــعٍ طُمسا..

    ولكن في رحم ذلك "المجتمع" الذي تقصد الجواهري في اشاعة شمولية الوصف القاسي عليه، بهدف التثوير والأهابة، ثمة منورون، كما وساعون للتنوير، جهدوا، وأجتهدوا، وما برحوا، في اعلاء شأن الاعتراف بالكفاءات والقيم، واعني بهم، "اصحابنا" الشيوعيين الذين ينظمون هذا الحفل الاحتفائي، تقديراً، بقدر الممكن، لاصحاب القلم والفكر والعطاء. وذلك ما مثلّ ويمثل نهجاً وتقليدا تليداً لحزبهــم العراقي، العريق، اينما، وكلما  استطاع الى ذلك سبيلا !!.

   والراضي وجيان، المحتفى بهما اليوم، عُرفا ومنذ عقود مديدة، بجهد مثابرفي ميادين الثقافة والابداع، والنشاط الوطني. وكانا، ضمن جحافل المشاركين - وكل حسب طاقته - مع نضالات القوى والاحزاب والحركات الوطنية الحقة.. بل دعوني أقول للتعميم، مع جماهير شعبهم التي ضمئت، وشكت المحول... ولكن حينما "أستمطرت، مطرت جرادا"... ذلك الجراد الذي طغى في البلاد منذ عقود، وما برح طاغياً: ظلاميين وطائفيين وقوميين متعصبين، وتكفريين، وسواهم. دعوا عنكم علمانيين مرتدين، ومناضلين منكفئين، وكتبة ملثمين، هنا وهناك.. وهكذا زاد المحول محولاً، وسمُن الجراد، وتكاثر بلا مدى،  فزاد فتكاً بالوطن والناس، وعسى القادم اقل عسفاً وجورا .

  وبعيدا عن التفاصيل والسير الذاتية التي امام الجميع في قاعة هذا الحفل، وخارجها، عن المثقفين الوطنيين، الراضي وجيان، أقول: شِيئ لي ان اكون قريباُ بهذا القدر أو ذاك منهما، ومعهما، وزهاء اربعة عقود: زمالة ورفقة وصحبة، وما بينها.. في مهام هذه المختصة السياسية أو تلكم الهيئة الحزبية، وسواهما، أو في اجتماعات ونشاطات رابطة المثقفين العراقيين في الخارج. أو خلال سياقات عمل اعلامي، وأخر.. دعوا عنكم في فعاليات ولقاءات شخصية وعامة، وغيرها عديد... وقد تشاركنا، وشاركنا في مهمات مختلفة هنا وهناك، وما برحنا على تلكم الحال... و أظن- وليس كل الظن أثما – ان لا أحد بمستطاعه إلا وأن يشير لمواهب وعطاءات المحتفى بهما، ويوثق لهما وعنهما. وهكذا كان الفضل السبّاق، للشيوعيين العراقيين في الجمهورية التشيكية، الذين بادروا لهذه الفعالية التي ستبقى متميزةً في الاحتفاء بالراضي وجيان، لهما السؤدد والخير والعمر المديد.

  وكما بدأت  ببيتين جواهريين، ها انا اختم ببيتين، ولـ"لأفـوه الأودي" هذه المرة، قالهما، ضمن قصيدة حكيمة قبل أزيد من 14 قرناً، وما زالت الحال سائدة على حالها، كما أزعم من جديد، وإن راحت تلكم الحال في مناحيّ اشمل، وأقسى، وتباينت: ظروفاً واشخاصاً ووقائع متشابكة ظلماء، ولكن المغزى بقيّ واحداً، أحدا.. خلاصته: بلا ثقافة ومثقفين، وقرّاء وكتّاب، ومؤلفين ومتلقين، ونخبة وجمهور، وبلا أن تُعرف الحدود والمقاييس، وأن ينتشر الفكر ويشاع، فلا منجى من الهلاك، ليس في البلاد العراقية وحسب، بل في الدنيا كلها... لقد أطلتُ ولم تعرفوا بعد الى الان ذينك البيتين المعنيين الذين يوجزان الاحوال والامور، فهاكم القصيدَ في بيت القصيد:

لا يَصلُحُ الناسُ فوضى لا سَراةَ لهم.... ولا سَراةَ إذا جُهّالُهم سادوا

تُلفى الأُمورُ بِأَهلِ الرُشدِ ما صَلَحَتْ  ... فَإِن تَوَلَّوا، فَبِالأَشرارِ تَنقــادُ

------------------------------------------------

(*) القيت هذه المساهمة في حفل احتفاء تكريمي للمثقفيّن الوطنيين: عبد المجيد الراضي، ويحيى بابان(جيان) أقيم ببراغ مساء الثلاثاء: 2016.8.9  قلدهما فيه الاستاذ مفيد الجزائري، وسام الذكرى الثمانين لتأسيس الحزب الشيوعي العراقي، بعد مداخلة مسهبة عن حياة، ومحطات في مسيرة عقود مديدة  للمحتفى بهما.. تلاه سفير العراق: د. وليد حميد شلتاغ الذي القى ايضاً كلمة تكريمية موجزة بالمناسبة.

 

         

 

 

 

 

تسعة عشر عاما

 

على رحيل الجواهري الخالد

 

ياآبنَ الفراتيّنِ قد أصغى لكَ البلدُ

 

زعمـاً بأنـك فيهِ الصـادحُ الغـردُ

 

- رواء الجصاني*


قبل تسعة عشر عاماُ، وفي وصبيحة الأحد، السابع والعشرين من تموز عام الفٍ وتسعمئة وسبعة وتسعين، تحديداً، استنفرت وكالات أنباء ومراسلون وقنوات فضائية وغيرها من وسائل اعلام، لتبث خبراً هادراً، مؤسياً، هزّ مشاعر، ليس النخب الثقافية والسياسية فحسب، بل والألوف الألوف من الناس في شتى الارجاء:

"الجواهري يرحل إلى الخلود في احدى مشافي العاصمة السورية - دمشق،عن عمر يناهز المئة عام..."

... وهكذا يطبق "الموت اللئيم" اذن على ذلك المتفرد الذي شغل القرن العشرين، على الأقل، ابداعاً ومواهب، ثم لتروح الأحاديث والكتابات تترى بعد الخبر المفجع، عن عظمة ومجد الراحل العظيم:

- المتميز بعبقريته التي يتهيّب أن يجادل حولها أحد. 

- السياسي الذي لم ينتم ِ لحزب، بل كان "حزباً" بذاته، يخوض المعارك شعراً

وفكراً ومواقف رائدة...

- الرمز الوطني الذي أرخ للبلاد وأحداثها بأتراحها وأفراحها من داخل الحلبة، بل ووسطها، مقتحماً ومتباهياً:

أنا العراق لساني قلبه ودمي فراته وكياني منه اشطارُ

- وذلك الراحل الخالد، نفسه: حامل القلم الجريء والمتحدي الذي "لو يوهب الدنيا بأجمعها، ما باع عزاً بذل المترف البطر".. ناشر صحف "الرأي العام"و"الجهـــاد" و"الثبات" ... ورفيقاتهن الأخريات ...

- منوّرٌ متميزٌ من أجل الارتقــاء، صدح مؤمناً على مدى عقـود حياته المديدة:

"لثورة الفكر تاريخ يحدثنا، بأن ألف مسيح دونها صلبا"..

- صـاحب "يوم الشـهيد" و"آمنت بالحسين" و"قلبي لكردستان" و"الغضب الخلاق" و"الفداء والدم"... شامخ، يطأ الطغاة بشسع نعل ٍ عازبا..

- والجواهـري ايضا وايضا: متمرد عنيد ظـلّ طـوال حياتـه باحثاً عن "وشـك معترك أو قرب مشتجر".. كيّ "يطعم النيران باللهب"! ..

- مبدعٌ بلا حـدود في فرائـد "المقصورة" و"زوربـا" و"المعـري" و"سـجا البحـر" و"أفروديـت" و"أنيتـا" و"لغة الثياب" و"أيها الأرق" وأخواتهن الكثار...

- وهو قبل كل هذا وذاك "أحب الناس كل الناس، من أظلم كالفحمِ، ومن أشرقَ كالماس".

- كما انه "الفتى الممراح فراج الكروب" الذي "لم يخل من البهجة دارا" ..

- رائدٌ في حب وتقديس من "زُنَّ الحياة" فراح يصوغ الشعر "قلائداً لعقودهنَّ" ... و"يقتبس من وليدهن نغم القصيد" ..

- وديع كالحمامة، ومنتفض كالنسر، حين يستثيره "ميتون على ما استفرغوا جمدوا" ..

- وهو لا غيره الذي قال ما قال، وما صلى "لغير الشعر من وثن " ... فبات الشعراء يقيسون قاماتهم على عمود قامته الشامخ...

-ا نه وباختصار: ذلك الطموح الوثاب الذي كان، ومنذ فتوته "يخشى أن يروح

ولم يبقِ ذكرا" ... فهل راحت قصائده - حقا - "ملؤ فم الزمان"!! وهل ثبتت

مزاعمه بأن قصيــده "سيبقى ويفنى نيزك وشهاب" وهو القائل:

وها هو عنده فلك يدوي..... وعند منعمِ قصر مشيدُ

يموت الخالدون بكل فج ٍ .. ويستعصي على الموت ِ الخلودُ

ترى هل صدق بما زعم ؟؟!!

... التاريخ وحده من انبأنا، وينبئنا عن الامر، ويا له من شاهد حق ٍ عزوفٍ عن الرياء!!

---------------------------------------
*رئيس مركز الجواهري للثقافة والتوثيق

 

 

الجواهري في عواصم ومدن الدنيا

قصيدة ... وثلاث زيارات لبولندا

توثيق: رواء الجصاني

-----------------------------------------------

... وهذه هذه "مقامة" اخرى من "مقامات" الشاعر الخالد، محمد مهدي الجواهري، في دول العالم، عواصم ومدناً، وما بينهما. عربية وأوربية وآسيوية وأفريقية وأمريكية. ولقد احصيت على عجالة، ومن الذاكرة وحسب، فتجاوز العدد الخمسين مدينة وعاصمة، ومنطقة وحتى قرية احيانا. دعوا عنكم مقاماته في"العراق وشطيه والجرف والمنحنى" شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً ووسطا..

... نقول "مقامات" ونعني بها حلوله في تلك البلدان وعواصمها ومدنها، إقامة أو مرورا، او مشاركة في مؤتمرات ثقافية وسياسية حينا، أو اغتراباً ونفياً، احايين اخرى . وما بينهما دعوات واستضافات رسمية، او سياحة وارتياحاً وعلاجا. ولفترات تطول أو تقصر، وعلى مدى نحو سبعة عقود، كما نوثق ..

... ولا ندري هنا، إن كان ثمة اي شاعر عربي أو غير عربي، قد طاف في ارجاء الدنيا، مثل ذلك الجواهري، وهو لا يحمل غير "منقارٍ وأجنحة، اخف ما لمّ من زاد أخو سفر" كما يوثق عن حاله تلك، في عصمائه: "أرح ركابك" عام 1969.. أما ما يميّز ذلكم "الطوفان" في العالم أكثر فأكثر، انه – الشاعر العظيم- قد أرخ للكثير من "مقاماته" وحله وترحاله، شعرا معجباً بتلك المدن والعواصم، واهلها ومجتمعاتها.. مقارناً وشاكياً ومحاوراً وشاكراً، ومهضوماً ومهموماً، وسوى ذلك من حالات ومحاور وتأرخات.

   وبعد هذه المقدمة العامة، دعونا نرجع لموضوعنا، الذي يحمله عنوانه، ونقصد "مقامة الجواهري البولندية" فنقول انها أبتدأت بعيّد انتهاء حرب  القرن الماضي، العالمية الثانية، حين دُعي الشاعر الخالد، للمشاركة في مؤتمر عالمي للمثقفين من اجل السلام عقد عام 1948 بمدينة " فروتسواف" الواقعة غرب بولندا، وقد كان العربي الوحيد فيه، الى جانب اسماء وشخصيات عالمية لامعة من ابرزها، الرسام الفرنسي الكبير بابلو بيكاسو(1). ولمن يريد الاستفاضة اكثر، فذلك هو الجزء الثاني من مؤلف الجواهري، الموسوم بـ"ذكرياتي" يحمل الكثير والمتعدد من التفاصيل، عن ذلك المؤتمر، وعن اجوائه وظروفه، باستضافة  بولندا، الخارجة الى الحياة من جديد بعد ان دمرتها تماماً – أو كادت- قنابل الحرب...

     لقد جاءت الدعوة للشاعر الكبير الى المؤتمر، باعتباره مفكرا ومثقفا وطنيا مميزا، وداعية للسلام والحرية، كما تؤكد ذلك قصائده وكتاباته، ومواقفه خلال، وبعد حرب العالم الثانية. وقد أعتبر ذلكم المؤتمر، بحسب العديد من التأرخات والتوثيقات، اللبنة الاولى على طريق تأسيس، وإنبثاق مجلس السلم العالمي، ذائع الصيت.

    ومن جملة ما جاء به ايضاً، مؤلفه " ذكرياتي – الجزء الثاني"  بهذا الشأن، وقائع عن ظروف سفرته وصعوباتها، وفرحه بالدعوة الموجهة " اليه للمشاركة في "مؤتمر يحضره العمالقة من المثقفين الاوائل، ويا لها من دعوة، ويا له من مؤتمر خطير"  يعقد في بولندا " البلد الذي يعد في قاموس المتحكمين، من البلدان الحرام" ذلكم الوقت، بحسب ما كتبه الشاعر الكبير..

  وفي سياق تأرخته وحديثه عن الزيارة، قال الجواهري في ذكرياته ذاتها، انه توجه الى وارسو عبر باريس " وبعد يومين خصصا للاستراحة، كان موعد انعقاد المؤتمر، وكنت اقضي ساعاتي في التجوال عبر شوارع وحدائق هذه العاصمة الجبارة- او ما تبقى منها- لان فارصوفيا- وارسو،  ويا للهول كانت خرائب واطلالاً، وبقايا قصور فخمة"...  وتابع "ما زلت اذكر  تلك السقوف المتدلية المعلقة التي تأبى السقوط، وكل قنابل "هتلر" وقذائفه لم تستطع ان تحني هاماتها، وترميها ارضا...". وهكذا يروح مسهباً في وصف الاحوال، معبراً عن  رؤاه في اسبابها ومسبباتها، وغيرها من شؤون وشجون . 

     وأيضاً، بحسب الجزء الثاني من ذكريات الشاعر الخالد، فأنه زار وشاهد "فرصوفيا- وارسو" عام 1963 اي بعد 15 عاما على زيارته الاولى لها. وجاء في الذكريات: ان تلك العاصمة " ارتدت كبريائها، ونهضت من تحت الرماد" ... وتساءل مع نفسه:" أهذه "فارصوفيا" التي رأيتها مدمرة وأطلالاً وخرائب؟... أهي تلك المدينة المنهارة تتحول  الى هذه البدائع والجنان؟... واردف:" وتصورت كم هو عظيم الانسان البولوني الذي استطاع خلال هذه الفترة الزمنية القصيرة ان يحول الرماد جمالاً، والخرائب حدائق، والابنية المتهدمة ابراج حضارة" (2)..

    ولم يتحدث  الجواهري في ذكرياته اعلاه عن اسباب تلك الزيارة الثانية الى بولندا، عام 1963 .. ولكن الديوان العامر، يؤرخ عن الامر، وشعراً هذه المرة بالطبع، ويوثق عن وارسو، التى تُسمى بلغة اهلها السلافيين " فرشافا" وتعريبها "فرصوفيا ".. وجاء في مقدمة قصيدته بالمناسبة انه زارها تلبية لدعوة رسمية، وقد القى خلال فترة اقامته فيها رائعته متعددة القافية، امام مؤتمر للطلبة العراقيين. وجاء في مطلعها (3):

(فـرصـوفيـا): يـا نجمـةً تَـلالا، تُـغـازلُ السُـهـوبَ والتّـلالا

                                      و تَسـكُب الرقّـةَ والـدّلالا

فوقَ الشفاهِ الظامئاتِ الحامياتِ الحانيه..

من ذا يوفّي سحرَكِ الحلالا؟، وحُسـنَكِ المـدمّـرَ الـقَـتّـالا

يُـجشّـــمُ الـلـذّةَ و الأهـوالا، حالانِ، ألأحلى أمرّ حالا

إذا أجـلـتُ فكريَ الجـوّالا، فـي كيفَ صيـغَ حسنُكِ ارتجالا

أتـعـبَـتِ الأســــطـورةُ الخَـيـالا ...

وتستمر القصيدة في الوصف، والوجدانيات والشكوى والحنين والتغزل والغزل:

(فرصوفيا): والحسرةُ الحرّى تُريح الكَبِدا، واحسرتا أنّي وُلِدتُ تحتَ أطلالِ الردى

جئتكِ فـي (الستّينَ) ما أشقى وأدنى عددا، إذ مَيْعتي تهرّت اللّحمةُ منها والسّدى

(فرصوفيا): آهٍ على شَرْخِ صِباً تبدّدا، آهٍ على صادحِ أيكٍ لم يجد عندي صَدى

غَرّدتُ إذ ناح وأمسِ نُحتُ لما غرّدا، لم أغترف غيدَك إذ كنت الفتيّ الأغيَدا ...

ثم ينتقل الشاعر الخالد ليسجل ويصف ما علق بذاكرته من اجواء زيارته السابقة لـ (فرصوفيا – وارسو) عام 1948 كما سبق القول، فكتب:

(فرصوفيا): والدم يَستَبقي مدى الدهر دَما، والموت بالعزة يبني لحياةٍ سُلّما

(فرصوفيا): أمسِ رأيتُ الحَجَرَ المكوّما، كان جنيناً وفؤاداً ويداً ومِعصَما

جيلٌ تأبّى أن يُطاطي فَرَموه فرَمى،  لولا الرجولاتُ أراح نفسَه واستَسْلَما

(فرصوفيـا): ما أبدَعَ الأمثـالا، يستـنهـضُ الجيـلُ بهـا أجيـالا....

وبحسب التاريخ الموثق، وأنا شاهد عيان هنا، تلقى الجواهري عام 1986 - وهو مغترب عن بلاده، ومقيم في براغ -  دعوة رسمية لزيارة بولندا، وحضور مؤتمر عالمي، جديد، للمثقفين، من اجل السلام، تستضيفه وارسو، بمشاركة نحو 200 كاتب وعالم ومفكر وأديب اجنبي، من نحو 50 بلدا، اضافة لزهاء 200 آخرين من اقرانهم البولنديين،  وقد لبى الشاعر الخالد تلك الدعوة بعد تمنع وتردد، وكان - في تلك المشاركة الجديدة في المؤتمر الجديد- واحدا من قلة سبق ان شاركت في المؤتمر العالمي، الاول، للمثقفين دفاعا عن السلم في العالم، الذي انعقد عام 1948 في مدينة فروتسواف البولندية، كما اسلفنا.

ووفق معلومات خاصة(4) فقد رافق الجواهري الخالد خلال تلكم الزيارة الثالثة الى وارسو، الناشط الطلابي والوطني، الفقيد شاكر الدجيلي،  كما التقى معه طلبة، وسياسيون عراقيون كانوا يدرسون  او يقيمون هناك، وكانت الزيارة في كانون الاول 1986..

وبعد اختتام الفعالية، وعودة الجواهري الى براغ، تحدث لنا ، ولنخبة من صحابه واصدقائه، بإنتشاء ولأكثر من مرة، عن مشاركته في تلك الفعالية الثقافية- السياسية المميزة، وما رافقها، مستعيدا بعض ذكريات ولقاءات عن زيارتيه الاولى والثانية، السابقتين لبولندا..كما نشر عدد من وسائل الاعلام العراقية والبولندية عن تلك المشاركة الجواهرية. (5).

 

 

* احالات وهوامش -----------------------------------------------------

     (1) كتب السيد احمد حسين، متابعة مفصلة بشأن الزيارة الاولى للجواهري الكبير الى بولندا، ونشرتها مجلة "الثقافة الجديدة " عام 1998 وكذلك في شبكة الانترنيت على الرابط:  http://www.althakafaaljadeda.com/ahmad_hussain.htm

   ومما جاء في تلك المتابعة: ان تلك الفعالية كانت بعنوان " المؤتمر العالمي الأول للمثقفين- للدفاع عن السلام"  وقد افتتح صباح يوم الأربعاء 25 آب/ اوغسطس 1948 على قاعة كلية الـ«بوليتكنيك» (Polytechnic) في مدينة فروتسواف.

(2) كتاب "ذكرياتي" الجزء الثاني / الاربعينات – الفصل المعنون: مؤتمر المثقفين العالمي.

(3) ديوان الجواهري / قصائد الستينات ..

(4) تفضل علينا د. صالح ياسر، مشكوراً، بتوفير بعض معلومات ذات صلة، حصل عليها في تموز2016  عن زيارة الجواهري الثالثة الى وارسو عام 1986..

(5) أعـدَّ وكتب د. مجيد الراضي، متابعة حول الزيارة الثالثة، والاخيرة، للجواهري الى وارسو، ونشرها في القسم الثقافي من جريدة " الغد الديمقراطي" اوائل العام 1987..

 

 

 

قصائد جواهرية تؤرخ

لجمهورية 14 تموز... وعنها

 

توثيق: رواء الجصاني

 

كما هي الحال في تأرخة الجواهري للأحداث الجسام العراقية والعربية، بل والعالمية أيض، والتعبير عن مواقفه ورؤاه الوجدانية والسياسية والفكرية منه، جاء موقفه، وقل مواقفه، بشأن التغيير الرئيس ، وربما الأهم في تاريخ العراق الحديث، ونعني به حركة الرابع عشر من تموز عام 1958... والتي أشعلت ثورة عارمة انهت النظام الملكي، واستبدلته بالجمهوري، الذي قيل ما قيل، ويقال، إيجاباً وسلباً حوله...

... لقد رأى الجواهري في تلكم الثورة التحررية بحسب البعض، أو الحركة العسكرية الانقلابية وفق بعض آخر، مسك ختام وطني لعقود من الحراك الشعبي والجماهيري في العراق، من أجل الحرية والازدهار، بل والتقدم بمفاهيم ذلك الزمان... وهكذا سرعان ما نظم، وفي الأيام الأولى لقيام ذلك التغيير المدوي قصيدته النونية المطولة، ومن مفتتحها:

جيشَ العراق ولم أزلْ بك مؤمنا ... وبأنك الأملُ المرجى والمنى

وبأن حلمك لن يطولَ به المدى وبأن عزمك لن يحيق به الونى

جيش العراق اليك ألف تحية، تستاف كالزهر الندي وتجتنى

حمل الفرات بها اليك نخيله، ومشى بدجلة جرفها والمنحنى

فلقد اعدت اليهما صفويهم، من بعدما غصا بأدران الخنا

ثم تلت "جيش العراق" قصائد عديدة أخرى تؤرخ للحدث، ومسيرته، وتوجه الجماهير الشعبية لاسناده وتأطير مساره، محذرة من الاضطرابات واستغلال الأمور، بما يقود لخلاف ما آمن به الجواهري من ضرورات ومباديء من أجل النهوض والارتقاء والوحدة والتلاحم، بعيداً عن العصبوية والفئوية والحزبية والعنصرية، وسواها من آفات اجتماعية ووطنية...

وفي عودة للديوان الجواهري الحاشد، نجد ثمة قصائد كثيرة في شؤون، وشجون الحدث، والأحداث التي نعنى بها في هذا التوثيق ومنها: باسم الشعب، انشودة السلام، عيد العمال العالمي، المستنصرية... وغيرها عديد.

ومن بين ما تحت أيدينا بعجالة، مختارات من قصائد الشاعر الخالد الجواهري في  تلكم السنوات الاستثنائية، ومنها  نونيّة مطولة خاطب بها شبيبة وطلبة العراق عام 1959 راح خلالها موثق، وحادي، ومحرضاً لحب الوطن والدعوة لازدهاره ورقيه، ومما جاء فيها:

أزف الموعد والوعد يعنّ.. والغد الحلو لاهليه يحن ُ

والغد الحلو بنوه انتم، فاذا كان له صلب فنحن

فخرنا انا كشفناه لكم، واكتشاف الغد للاجيال فن

ثم وقع ما وقع من تنابز فانحرافات وتفرد وعسف، كما واحتراب بغيض بين التيارات الشعبية والسياسية، طال حتى الجواهري ، وهو ذو المنصبين: رئيس اتحاد الأدباء، ونقيب صحفيي البلاد، في آن واحد، فتعرض لتجاوزات وحملات اعلامية واجراءات سلطوية، وصلت حدّ اعتقاله، وإن لساعات، مما اضطره للاغتراب بعيداً عن البلاد عام 1961، هضيمة واحتجاج، واحترازاً من ايذاء اكبر، قد يصل حد اغتياله... ولتلك الحال تفاصيل مطولة وذات أكثر من مغزى، تناولها الجواهري في الجزء الثاني من ذكرياته الصادر عام 1991، وكذلك في قصائد عديدة، ومن بينها نونيته الأشهر دجلة الخير عام 1962 ومما جاء فيها بذلك الصدد:

يا دجلة الخير أدرى بالذي طفحت، به مجاريك من فوق الى دون

ادرى بانك من الف مضت هدر، للآن تهزين من حكم السلاطين

تهزين ان لم تزل في الشرق شاردة من النواويس ارواح الفراعين

يا دجلة الخير كم من كنز موهبة، لديك في القمم المسحور مخزون

لعل تلك العفاريت التي احتجزت، بحملات على اكتاف دلفين

لعل يوماً عصوفاً هادراً عرم، آت فترضيك عقباه وترضيني

وعلى أية حال، فقد ترضي هذه الايقاعات والرؤى، الموجزة ، بعض، أو تغضب آخر، إلا  انها سعت لكي تكون بعيدة عن العواطف ، والتي عمرها ما كانت حكما موضوعيا في تقييم الوقائع التاريخية.... كما نجتهد، وقد نصيب...

-------------------------------------------------------------------------------

مع تحيات مركز الجواهري للثقافة والتوثيق/ براغ

 

 

 

الجواهـــري، في رؤى عن الموت

 

، ذلك الوحش الذي يحيط بنا...

 

توثيق: رواء الجصاني

-----------------------------------
*
الموت... ذلك الكائن الحي المشوه، قاسي القسمات، وحش الملامح، لا يفارقنا ظله البغيض ابداً، لا في ليل ولا في نهار. ولا في يقظة ولا في منام.

*ومع هذا فان انياب هذا الوحش ومخالبه الناشبة فيمن فات من احبابنا، ومن احباب الناس، ومن اعزائنا ومن اعزاء الناس.. لابد ناشبة اليوم او غداً، شئنا أو أبينا، فيمن عندنا منهم، وفيمن عند الناس....

*مخالب ذلك الوحش- الموت- تحمل معها، وعلى قطرات الدم المتساقطة منها، لا عبرة وعظة وحسب، بل وتسلية وعزاء أيضاً فيمن نشارك وفيمن يشاركون معنا من ضحايا هذا الوحش..

*هذا الذئب المتربص بنا، هذا الموت، يحمل معه إلى الأبد، والى مطاوي الغيب المجهول، قلبنا، وحبنا، وذكرياتنا، وسحرنا... وبكلمة واحدة فأعز من عندنا وأعز ما لدينا.

-------------------------------
 
 *من رسالة بعث بها من براغ، محمد مهدي الجواهري، بتاريخ: 1965.4.12 الى أخته، نبيهة،  في بغداد، يواسيها فيها برحيل زوجها، جواد الجصاني..

 

 

 

خلال امسية ثقافية لعواد ناصر في براغ

 

نعــم ... ثمة ينابيع في صحارى الغربة(*)

 

رواء الجصاني

---------------------------------------------------------------------------

.. في "لمـة" حميمة ببراغ قبل نحو عامين، مثل هذه التي نتمسى بها اليوم، اخترتُ لمقدمتي عن البروفيسور عبد الرضا على، عنوان " ثمة ينابيع في صحارى الغربة" .. وها هي الايام تترى ليفيض نبع اخر في براغ، واعني به شاعرنا: عواد ناصر ...

... تعارفنا – غيابيا اول الامر!- في بغداد مطلع السبعينات الماضية، حين كان كلانا ناشطين في صفوف اتحاد الطلبة العام.. ثم ليكلف بعدها- عواد-  جندياً "أجباريا" بضعة اعوام ...وقرأت له وعنه، وهو يدخل "حلبة الادب" والشعر في تلكم السنين، ولأعلم بعدها انه ولج بيروت في اواخر ذلك العقد، بعد تفاقم المحن العراقية في عهد البعث الثاني، ولينشط  هناك محررا وكاتبا في صحافة واعلام المقاومة الفلسطينية، وليروح بعدها "جندياً" ولكن مناضلا متطوعاً هذه المرة في صفوف الانصار الشيوعيين، مع نخبة مثقفين امتازوا عنا نحن "مناضلي" اوربا، بمواقفهم ومواقعهم وجغرافيتهم..

... وفي اواسط الثمانينات، او حواليها، التقينا مرات ومرات في رياض وأفياء دمشق الشام- وتباً لجاحديها اليوم- وقد كانت حينها تحتضن المهاجرين والمهجرين، لا ان تصدرهم كما هي حالها الان، وهي صبورا على البلوى... ونشط "عواد" في تلك الفترة في الاعلام والثقافة الوطنية العراقية، وغيرها، شاعرا وكاتبا ومثقفا.. دعوا عنكم انساناً وجليسا أنيساً بشهادات متابعين واحباء ومعارف، كما حساد و"اعد- قاء" وما بينهم ..

    ولم يكتفِ الرجل بحيويته، ثقافة وشعرا وعلاقات، بل اختار، وتقصد، ان يكون في البؤرة الاجتماعية ايضا، ولعله في سبيل ذلك، تقصد فسكن ليس في قلب دمشق، بل في قلب قلبها.. واتذكر هنا شقيقته، في الصالحية، على بعد امتار من"شربت ابو شاكر" الدمشقي، شبيه "جبار ابو الشربت" في نؤاسية بغداد.. كما كانت تلك الشقةُ، المزدهاةُ مَربعاً، على بعد لا اكثر من خمس دقائق مشياً عن "مقهى الروضة" الدمشقي الذي احتله العراقيون، مثقفين وغيرهم، ولربما بديلاً عن مقهى "المعقدين" البغدادي الشهير...

...وهكذا جمعتنا فضاءات اخرى، كان فيها عواد ناصر، ناشطا ثقافيا ووطنيا مثابرا، ومنها في موسكو صيف 1985 حين شاركنا سوية في مهرجان الشبيبة والطلبة العالمي، برفقة وصحبة نخبة مثقفين عراقيين مميزين، اذكر منهم، بحسب حروف الهجاء :  جبر علوان، زهير الجزائري،كوكب حمزة.. وسامي كمال... وعذرا لمن سهت الذاكرة عن الاتيان باسمائهم في هذه العجالة  ..

   وفي النصف الثاني من الثمانينات الماضية، يحل عواد ناصر في براغ، ضيفا / سائحا، لينظم له فرع رابطة الكتاب والصحفيين والفنانين العراقيين، لقاء ثقافياً جميلاً في اجوائه وحضوره، ومادار فيه ... واضيف هنا- وانا المغرم بالتوثيق والتأرخة كما ازعم- ان عواداً انضم بعد تلك الفعالية لسجل اقران من الشعراء العراقيين الذين أموا براغ- جنة الخلد- عبر عقود، وما فتئوا: امسياتٍ وكتاباتٍ ومشاركات في فعاليات ثقافية، ومن بينهم – وما علينا بالسياح والزوار– وبحسب التسلسل الزمني، لكي لا نزعل احدا : صادق الصايغ، عبد الوهاب البياتي، زاهد محمد، مظفر النواب، الفريد سمعان، هاشم شفيق، عبد الكريم كاصد، محمد حسين الاعرجي، حميد الخاقاني، فاضل العزاوي، شمعون صومائيل، جابر الجابري، سعدي يوسف ... دعوا عنكم الجواهري الذي تعرفون.. وبمناسبة طفوح اسم الشاعر العظيم، ها انا احرضكم لان يحدثكم/ يحدثنا، ضيفنا المبدع، ولو بلمحات من علاقة سادت بينهما- واعني الشيخ الثمانيني، ومريده الثلاثيني- في دمشق الشام، وعلى الاقل عن لقائهما الاول، وعن مشاعره- عواد-  عشية ذلك اللقاء ...

  .... اخيراً، وعذراً ان اطلت، لنستمع سوية الى عواد ناصر الذي يحل بيننا "يحمل منقاراً واجنحة، اخف ما لمّ من زاد اخو سفر" كما اي شاعر – شاعر، فكيف وهو الشرقي من العمارة ، البغدادي - العراقي الانتماء والعطاء، البعيد عن الطائفية والمناطقية، وفرسانها المسفرين، والملثمين... وهو، واعني – عوادنا-  شآمي الهوى، بيروتياً ودمشقيا... لندني- اوربي الاغتراب...  وكم اعلن- ويعلن- مواقف ومبادئ ومشاعر: مرة عن "كآبته من اجل الفرح" وثانية مؤرخاً لـما " حدث ذات وطن"  وثالثة داعية للرقص "ما زالت الوردة هنا" ... واخرى صداحاً بـ " احاديث المارة" وهكذا، ولعل القادم احلى ...

    اقول لعل القادم احلى، وأزيد، بل وافيّض، لأن شاعرنا، مثقف حيوي، لا يركد: "سبوحاً بلا حدود، يعانق الموجة تلو الاخرى، لا يخشى ساحلاً منها ولا يخافَ قرارها".. رقيق آناً، وغاضب متمرد في اخر، وبحسب الزمان والمكان، وهواجس الروح وحناياها... واظنه سيبقى يمتشق الكلمات من مشجب لغته التي تعمر يوماً بعد ثانٍ، ثابتاً على مساره ... وسيبقى يحب، ويتغرم، ويحزن حد النشيج، ويتظاهر " حتى ضده" كما يعترف ويوثق ذلك علنا، مع سبق الاصرار والترصد.. وتبقى شجونه وشؤونه الاولى والاخيرة، كما ادعي من جديد: الوطن والانسانية، والاهل، والناس.." كل الناس، من اظلم منهم كالفحم، ومن أشرق كالماس".....

مرحبا بعواد ناصر في براغ !!! .

--------------------------------------------------------------------

(*)  مساهمة في تقديم عواد ناصر، خلال امسية ثقافية- اجتماعية أتممها له في براغ، بمناسبة مروره فيها: المنتدى العراقي، ومركز الجواهري ...

 

 

 

 

 

الجواهري بضيافة ملك المغرب.

.. وقصيدة عاصفة

 

قراءة وتوثيق: رواء الجصاني

 

يحل محمد مهدي االجواهري ضيفاً على العاهل المغربي الحسن الثاني، عام 1974 في الرباط وطنجة ومراكش. وإذ يُحتفى به بكل استثناء، صرحاً عراقياً وعربياً أول، يغتاظ متنطعون ونهازون "ثقافيون!" إلى جانب سياسيين "ثوريين!" من ذلكم الزمان، ليهاجموا المحتفى به من "جبهات" وبلدان عدة، وبتحريض  أحزاب، وأنظمة "ثورية!" ايضاً، ولكن على طرائقها الخاصة...

ومن بين تلك الهجمات مقالات ومواضيع "أدبية!" حاولت أن تهز دوح الشاعر العظيم، وتطال من تاريخه، وتصفه "مهادناً" مرة، و"مرتداً" مرة ثانية، لأنه قبل استضافة ملكية حلم بها المهاجمون ذاتهم، ليلاً ونهاراً، بل وسعوا إليها بكل دأب، ولكنهم لم ينالوا وإن بعضاً يسيراً منها، فراح غضبهم وحسدهم، يتجسد في مزاعم وتقولات وأكاذيب بائسة، و"ثورية" مدعاة أكدت السنوات التالية واقعها وحقيقتها، فانكفأ أصحابها، لا يُعرف لهم صوت أو صدى... وأمام كل ذلك لم يجد الجواهري من وسيلة دفاع مناسبة، سوى الشعر فكتب، تحية.. ونفثة غاضبة:

سماحاً إن شكا قلمي كلالا، وإن لم يُحسن الشعرُ المقالا
أتبغون الفُتوة َ عند همّ، على السبعينَ يتَّكلُ اتكالا...

فما شمسُ الظهيرة وهي تـَـغلي، كمثل الشَّمس قاربت الزَّوالا

 

وبعد هذه الافتتاحية الجواهرية "التقليدية" يجوب القصيد وفي أكثر من ثمانين بيتاً في الوصف والفخر، وحتى الغزل، ليصل إلى المواجهة المفروضة... وقبل أن تنطلق ساعة الصفر، راح الشاعر يمهد للآتي، ملمّحاً لبعض يسير من تاريخه وصرحه الخالد ومسيرته المتفجرة أبداً بالمواقف والتحديات، وإن زعم هذه المرة بالتعب والرغبة في الاستراحة من معترك الحياة، بعد صعاب جمّة وهجرة واغتراب، ومعاناة من بعض أهل الدار وغيرهم، على مدى عقود:

حماةَ الفكر.. قِيْلةَ مستنيب، يجنبُ نفسَه قيلا وقالا
تنقلَ رحلُهُ شرْقاً وغرباً، وحط هنا بسوحِكُمُ الرِّحالا
يحاول بعدَ دنيا من عذابٍ، عن الدنيا وما فيها اعتزالا
فصونوه من العادِينَ ضبحاً، ووقوه التماحكَ والجدالا...
ففي جنبيَّ نـَـفْسٌ لو تراءت، لكُمْ لرأيتُمُ العَجَبَ المُحالا
أَسُلُ النصلَ عن جُرح ٍ نزيف ٍ، فأَلْقي تحت حُفْرته نِصالا

 

... وخلافاً لكل "المزاعم" التي باح بها العديد من الأبيات السابقة، وغيرها، تفنن الجواهري في وسائل المواجهة، ودروب الردّ على المعتدين، لينبيء – بقصد، أو غير قصد – أنه ما برح في عنفوان الشعر والعطاء، وان شمس ابداعه لم تغادر موقعها برغم السنوات السبعين، وبقيت تغلي بكل الكبرياء والاقتدار... ولكي يثبت ذلك علناً مع سبق الاصرار، راح يضيف:

وقلتُ لحاقدينَ عليَّ غيظاً، لأني لا أُحبُّ الاحتيالا
هَبُوا كلَّ القوافِلِ في حِماكُمْ، فلا تَهْزوا بمن يَحْدُو الجِمالا
ولا تَدَعوا الخصامَ يجوزُ حدّاً، بحيثُ يعودُ رُخْصاً وابتذالا
وما أنا طالبُ مالاً لأني، هنالكَ تاركٌ مالاً وآلا
ولا جاهاً، فعندي منه إرث، تليدٌ لا كجاهـِـكمُ انتـِـحالا

 

... ثم، ولكي يختم القصيدة بمثل مطلعها، في تناسق وسياق مرسومين بدقة متناهية كما يبدو، يطلق الشاعر الكبير عنان مخزونه المتراكم، واحتياطيه اللامحدود، للرد على القوالين، منوّهاً إلى تجاربه السابقة مع مثلائهم، وربما جالت بذهن المتابع هنا قصائد الأربعينات والخمسينات الجواهرية الشهيرة، حين يقرأ الأبيات الأخيرة من هذه اللامية "الدفاعية" الفريدة:


حَذار ِ فإنَّ في كَلِمي حُتوفاً، مخبأة ً، وفي رَمْل ٍ صلالا
وأنَّ لديَّ أرماحاً طِوالا، ولكنْ لا أُحِبُّ الاقتِتالا
تَقَحَّمْتُ الوَغَى وتَقَحَّمَتْني، وخَضتُ عَجاجها حَرْباً سِجالا
فكانَ أَجَلَّ مَن قارعتُ، خصمٌ، بنُبْل ِ يراعه رَبِحَ القِتالا
فكم من قَوْلة ٍ عندي تَأبَّى، لها حسنُ الوفادة ِ أنْ تُقالا
ستُضرَبُ فيهم الأمثالُ عنها، اذا انطَلَقَتْ وجاوَزَت ِ العِقالا
وعندي فيهمُ خبرٌ سَيَبْقى، تغامَزُ منه أجيال تَوالى
حّذار ِ فكم حَفَرتُ لُحودَ عار ٍ، لأكرمَ منكمُ عَمّاً وخالا

 

... وهكذا وبتلكم الكلمات والتعابير "الثائرة" وهو وصف يستخدمه الجواهري كثيراً، تخلص القصيدة إلى مبتغاها، وليبقى التاريخ شاهداً على ان التحذيرات التي جرى اطلاقها قد فعلت مفعولها، فلم يرد المعنيون، وبعضهم ممن لا يمكن ان تبخس كفاءاته الأدبية والسياسية... ونحجم حالياً عن التصريح بالأسماء ذات العلاقة، وربما نعود لتقديم المزيد من "الكشوفات" في أوقات لاحقة.

 

 

 

 

 

لواعج ومواجهات

 

 في "مقصورة" الجواهري

 

قراءة: رواء الجصاني

 

يعرف المتابعون والموثقون جيدا، بأن الشاعر العظيم، محمد مهدي الجواهري، نادرا ما كان يجيب عن أسئلة من قبيل: أي قصائده أحب إليه من غيرها... ولكنه كثيراً ما بادر إلى تمييز "المقصورة"، بل ووصفها في مرات عديدة، بأنها الأفرد والأخلد... ويكفي الاستدلال هنا بقوله "لو فنيت جميع أشعاري لبقيت المقصورة"...

وتلك القصيدة – الملحمة، تتعدى أبياتها المئتين والعشرين، وهي الأطول من بين جميع قصائده التي يتجاوز عدد أبياتها الخمسة والعشرين ألف بيت، اذاع مقاطع أولى منها – من المقصورة- عام 1947 ثم نشرت كاملة سنة 1948  مع تقديم يشير إلى أن ثمة مئة وخمسين بيتاً أخريات، عصفت بها الرياح إلى "دجلة الخير"، فضلاً عن خمسين بيتاً فقدت لأسباب أخرى...

برغم الاباء ورغم العلى، ورغم أنوف كرام الملا
فأنت مع الصبح شدو الرعاة، وحلم العذارى إذ الليل جا
واذ انت ترعاك عين الزمان، ويهفو لجرسك سمع الدنى
الحت بشعرك للبائسين، بداجي الخطوب، بريق السنا

 

وبعد هذا الافتتاح الشموخ، يجوب الجواهري مختلف أغراض الشعر العربي المعروفة، إلا اننا سنتوقف هنا عند محورين رئيسين وحسب، وهما ما يتعلقان بلواعج الجواهري، ومواجهاته، بحسب العنوان الذي تُنشر هذه التأرخة تحته... ففي الأبيات التالية يبرز الشاعر العظيم هضيمته من سياسيي البلاد، وصنائعهم وغيرهم، مناشداً "الكرماء" خصوصاً، للتضامن معه، كحال شخصية، ولكنها معبرة عن هدف عام، يعبر من خلاله عن مشاعر ناس لا يعدون أو يحصون:

 

إلا من كريم يسر الكريم، بجيفة جلف ٍ زنيم عتا
فيا طالما كان حد البغي، يخفف من فحش أهل البغا
انبيك عن أطيب الأخبثين، فقل أنت بالأخبث المزدرى
زقاق من الريح منفوخة، وان ثقـّـل الزهو منها الخطى
واشباح ناس، وان أوهموا، بأنهم "قادة" في الورى

 

وفي سياق "المقصورة" يعود الشاعر ليهدد "الأرذلين" بكل سلاح الكلمة، واليراع الأبي، وليعاتب، وبكل هضيمة وتألم، "أمته" العراقية التي لم تنصف شاعرها، وحامل لواء تنويرها وابداعها... كما يركز "عتابه" على القادة والزعماء، أو من يدعون تلك الزعامةّ الثقافية والسياسية:


بماذا يخوفني الأرذلون، ومم تخاف صلال الفلا
أيسلب منها نعيم الهجير، ونفح الرمال، وبذخ العرا !!
بلى ان عندي خوف الشجاع، وطيش الحليم، وموت الردا،
إذا شئت أنضجت نضج الشواء، جلوداً تعاصت فما تشتوى
وأبقيت من ميسمي في الجباه وشماً كوشم بنات الهوى
فوارق لا يمحي عارهن، ولا يلتبسن بوصف سوى
بحيث يقال إذا ما مشى الصليّ بها، ان وغداً بدا
وحيث يعير أبناؤه بأن لهم والداً مثل ذا

 

... وهكذا يستمر الشاعر في قصيدته ليوثق هذه المرة مواقفه ونهجه ورؤاه للحياة والمجتمع، مبارزاً المتجاوزين، متباهياً بالضمير، وداعياً النفس أولاً لأن تكون أمثولة للآخرين... وقد جاء كل ذلك عبر الاعتداد والعنفوان الجواهري المعروف:

 

أقول لنفسي إذا ضمها، وأترابها محفل يزدهى
تسامي فإنك خير النفوس، إذا قيس كل على ما انطوى
وأحسن ما فيك ان الضمير، يصيح من القلب إني هنا
تسامي فان جناحيك لا يقران إلا على مرتقى
كذلك كل ذوات الطماح والهم، مخلوقة للذرى
شهدت بأنك مذخورة لأبعد ما في المدى من مدى
وانكِ سوف تدوي العصور، بما تتركين بها من صدى

 

وفي تسلسل محسوب، وببراعة متناهية في اختيار المباشرة، أو الرمزية، يفضح الجواهري الكبير المدعين والمتنطعين، وفي ذهنه بالتأكيد حالات ومواقف ملموسة، تعبر عن ظاهرة عامة، سائدة آنذاك – ولعلها تضاخمت اليوم – في البلاد العراقية... ونرى في هذا الشأن ما يزيد من رؤى الجواهري التبشيرية والانتقادية على حد سواء، ويضخم من عمق منجزه الابداعي الثري:

 

ومنتحلين سمات ِ الأديب يظنونها جبباً ترتدى
كما جاوبت "بومة ٌ" بومة ً تقارضُ ما بينها بالثنى

ويرعون في هذر ٍ يابس ٍ من القول، رعي الجمال الكلا
ولاهين عن جدهم بالفراغ، زوايا المقاهي لهم منتدى

 

... ثم في مقاطع لاحقة - وقل قصائد أخرى ولاتخف -، يعود شاعر الأمة ليتوقف عند هضبات الوطن، وشطيه والجرف والمنحنى، فيتغزل، ويتباهى، ويصف، كما الأم والعاشق والقائد!. ولا يكتفي بذلك فيجوب طبيعة البلاد ويصف نخيلها وحقولها، بل وحتى ضفادعها التي تنقل على الشاطئين بريد الهوى!... أما في ختام "المقصورة" - القصيدة البانورامية المجيدة، فيحاول الجواهري أن يعتذر عن فورانه وغضبه في أبياته السابقة، الناقدة والمحرضة باتجاه النهوض والانهاض، فيعود ممجداً "بلداً صانه" وكلاهما – الشاعر والوطن – في موقع التلاحم والانسجام والتداخل الذي لا فكاك منه... كما يزعم هو، على الأقل!...

مع تحيات مركز "الجواهري" للثقافة والتوثيق

www.jawahiri.com

 

 

 

 

قبل اربعة عقود، عن

 

بعض مثقفين وأدباء

 

الجواهـري: "بهم عوزٌ الى مددٍ،

 

 وأنتَ تريدهم مددا

 

قراءة وتوثيق: رواء الجصاني

 

تنشر مجلة "الديار" اللبنانية، بتاريخ 1976.3.21 الصورة الاخيرة لعصماء جواهرية جديدة، وقدمت لها ان الشاعر العظيم ينتقد فيها "عصره المليء بالزيف والخداع، وهو يسمو متعالياً بكبرياء الشاعر... وهي ضرب من الطموح الى تجاوز النفس والآخرين، في محاولة اختراق للمستحيل.." وقد راحت تعبر من ابياتها الأول عن مبادىء وثوابت نافذة في صورها وأغراضها، إذ تقول:

أزح عن صدرك الزبدا، ودعه يبث ما وَجدا...
ولا تكبت فمن حقب ذممتَ الصبر والجلدا
أأنت تخاف من أحدٍ،  أأنت مصانعٌ أحدا ؟!
أتخشى الناس، أشجعهم يخافك مغضباً حردا
ولا يعلوك خيرهم، ولست بخيرهم ابدا
ولكن كاشف نفساً، تقيم بنفسها الأودا

 

* ويتواصل القصيد نابضاً على مدى أكثر من مئة وأربعة عشر بيتاً، يحرض فيه الشاعر العظيم الذات، لتبارز، وتجابه، وان لم يكن المتطاولون يستحقون المنازلة أحياناً:

تركت وراءك الدنيا، وزخرفها وما وعدا
ورحت وانت ذو سعة، تجيع الآهل والولدا…
أزح عن صدرك الزبدا، وهلهل مشرقا غردا
وخل "البومَ" ناعبة، تقيء الحقد والحسدا
مخنثة فان ولدت، على "سقط" فلن تلدا…

 

* ثم يناجي الجواهري "خلاً" سعى ان يتساءل او يحاجج مدافعاً، أو مبرراً، فأوضح له الشاعر ما يستحق من توضيح، لكي يمهد الدرب، خائضاً المواجهة المنتظرة:

ألا انبيك عن نكد ٍ، تُهوّن عنده النكدا
بمجتمع تثير به، ذئاب الغابة الأسدا…
خفافيش تبص دجىً، وتشكو السحرة الرمدا
ويعمي الضوء مقلتها، فتضرب حوله رصدا…

 

* … وبعد ذلك التعميم في الأبيات السابقة، ينتقل القصيد، معتمراً الصراحة والوضوح، ليشي، وان بدون تسمية، الى "واحد" أو أكثر من الأدباء والمثقفين الحاسدين، والمنافقين من ذوي الوجوه المتعددة، الذين جهدوا حينذاك لاستغلال الظروف، وتحت رايات "التحديث" الحقيقية أو المدعاة، لإيذاء الرمز الوطني المتألق ابداعاً ومواقف، فراح يمسك بتلابيبهم، ولا فكاك لهم من "قبضة" الشعر غضباً:

وصلف ٍ مبرق ختلاً، فان يرَ نُهزةَ رعدا
يزورك جنح داجية، يُزير الشوق والكمدا
فان آدتك جانحة، اعان عليك واطردا..
وآخر يشتم الجمهور، لفَّ عليك واحتشدا...
يعدُّ الشعر أعذبه، اذا لم يجتذب احدا

 

* وقبيل ختامها، وحين تثور القصيدة، يحاور الجواهري نفسه، ويوجهها، مستذكراً بكل عنفوان، ومستنداً الى حقائق ووقائع ورؤى لا يجادل فيها سوى المعوزين جاهاً وارثا:

أبا الوثبات ما تركتْ، بجرد الخيل مطردا
يضج الرافدان، بها، ويحكي "النيلُ" عن "بردى"
ويهتف مشرق الدنيا، بمغربها اذا قصدا:
ترفع فوق هامهم، وطرْ عن ارضهم صعدا
ودع فرسان "مطحنة" خواء تفرغ الصددا...

 

* واخيرا، يعاتب الشاعر، اصدقاء ومحبين، وغيرهم، ممن يعتقد انهم معنيون باتخاذ الموقف المناسب، المنسجم، ولكنهم سكتوا ولم يتنادوا إليه، خشية هنا، وخوفاً هناك، فيخاطبهم مشفقاً على حالتهم، ومعيباً عليهم المهادنة والمساومة... وربما محاولاً أن يجد لهم مبرراً يُسامحون عليه:

وغافين ابتنوا طنباً، ثووا في ظله عمدا
رضوا بالعلم مرتفقاً، وبالاداب متسدا…
يرون الحق مهتضَماً، وقول الحق مضطهدا
وام "الضاد" قد هتكتْ، وربُّ "الضاد" مضطهدا
ولا يعنون - ما سلموا - بأية طعنة نفدا
بهم عوزٌ إلى مددٍ، وانت تريدهم مددا…

-------------------------------------------------

مع تحيات" مركز الجواهري" للثقافة والتوثيق

www.jawahiri.com

 

 

 

الجواهـري... عـن

 

"منغولٍ من التاتارِ وغــــدٍ"

 

قراءة وتوثيق: رواء الجصاني

 

يحلّ عام 1967 وكان محمد مهدي الجواهري، الرمز الوطني والثقافي العراقي الابرز،  يعيش في براغ، حاملاً هموم وشجون الاغتراب الاضطراري خارج بلاده، وأذ بأحد المفكرين العروبيين البارزين، من وجهة نظر البعض، والمشكوك في عروبته وأصله وصلاح أفكاره، من وجهة نظر بعض آخر، يقوم في بيروت بنشر مذكرات شملت في جزء منها شؤوناً عن عمله  في العراق، حين أُستقدمَ اليه من سوريا،  ليسهم في "اصلاح" بعض شؤون التربية والتعليم، فأشاع فتنة هنا، وأخرى هناك، حتى اضطر الملك فيصل الاول، لابعاده الى مهمة اخرى خارج " التربية والتعليم" بعد أزمة سياسية ووطنية واسعة... وقد  أعاد ذلك "التربوي" و" المنظر" في مذكراته، سموماً طائفية خبيثة، حاولت ان تشوه التاريخ، وتطال الجواهري.. فكان لابدّ من التصدى، ومواجهة المعني، واضرابه، ولكن بكل عنفوان وشموخ.. فكتب الشاعر العظيم رده شعراً، متفجراً، ومما جاء فيه:

سهرت وطال شوقي للعراق، وهل يدنو بعيدٌ باشتياق ِ...
احبتي الذين بمن امني، بلقياهم، أهونُّ ما ألاقي...
ابثكم شكاة اتقيها، فتصرعني وتمسك من خناقي
اغمزاً في قناتي من عُداة ٍ، تناهشني، وصمتاً من رفاقي...

ثم تثور القصيدة فينال ذلك المتجاوز، وربعه، ما يستحقون من أوصاف. مبرزة "بعض" الحقيقة لا كلها.. وإذ نمتنع حالياً عن التصريح باسم المعني، نشير إلى أنه يُعـد أحد رموز الطائفية المقيتة التي جرى تأجيجها بعيّد تأسيس الدولة العراقية الوليدة، في اعقاب الحرب العالمية الاولى:

ومنغول ٍ من التاتار" وغْـدٍ، تراضع والوغادةُ من فواقِ
إلى "يمن" إلى "حلب" تسمى، إلى "مصر" إلى درب الزقاق ِ
وكل ضاق بالملصوق ذرعاً، وأيٌ فيه مدعاة التصاق ؟
أوجه القرد، أم خلق البغايا، أم النعرات، أم نذر ِ الشقاق؟
أم النسب المؤثل بالمخازي، أم الحسب المسلسل في رباق ِ

ثم يستمر الجواهري في "تخليد!!" المعتدي، موثقاً بعض الوقائع التاريخية، وكاشفاً جوانب من الحقيقة، وها هو يصف الحال دون زيادة او نقصان، فكتب عن "المعني":
ولما حمت الأقدار ألقت، به جيف البطون إلى العراقِ...
ليجمع حوله سفلاً تلاقى، كما التقت الخفاف على الطراق ِ...
"زنامى" يعطفون على زنيم، كما عطف الجناس على الطباق...
وما برح العراق محك صبر ٍ، يطاق بأرضه، غير المطاق
كأن غرائب الدنيا تنادت، على وعد لديه بالتلاقي

... وإذ نشرت القصيدة الجواهرية، وانتشرت، لاذ المعني، بالاختباء والصمت، وكذلك مناصروه، وانصاره، منذ نصف قرن والى اليوم.. وهكذا تمر الاعوام والعقود ، ويزداد خلود الشاعر العظيم، وينطفئ الوهج الطارئ لذلكم المتطاول الطائفي، حتى يكاد ان يُنسى، وتلكم هي شهادة التاريخ ...

----------------------------------------------------

القصيدة كاملة في ديوان الجواهري العامر.. والواقعة التي تشير لها القصيدة مثبتة في الجزء الاول من مذكرات الشاعر الخالد - دمشق 1989.

تفاصيل ذات صلة في كتاب: "الجواهري ... ديوان العصر" للاستاذ حسن العلوي- دمشق 1986.

تفاصيل اخرى، ضافية، في كتاب د. عبد الحسين شعبان، الموسوم "الجواهري..

جدل الشعر والحياة" دمشق-1997.

 

 

 

 

 

من ذكريات"ثوري متقاعد!"

 

بمناسبة الاول من آيار

 

كنتُ في مكتب العمال

 

الشيوعي المركزي، قبـل اربعـة عقـود

 

- كتابة وتوثيق: رواء الجصانـي

 

... يحل يوم الاول من آيار، عيد العمال العالمي، فتطير بك الذكريات - ايها "الثوري المتقاعد!!!" - وذلك الى اربعة عقود خلت، ولعامي 1975 - 1976  تحديدا، حين كُلفتَ، فأستجبتَ، لأن تُنسب الى مهمة سياسية جديدة، أضافية، وهي عضوية "مكتب العمال المركزي" في الحزب الشيوعي العراقي....

   وهكذا رحتَ، تنشط، - الى جانب مسؤولياتك الحزبية في الهيئة القيادية لتنظيمات الحزب الطلابية ببغداد- في رحاب اضافية، هي على اقل وصف، ارحبُ واهمُّ قطاعات النضال والنشاط للحزب الشيوعي، حزب العمال والفلاحين، اولا وقبل كل شئ آخر، كما ينبغي آنذاك ..

... ولأن الحدث قد مرّ عليه اكثر من عقود، فلا تخف – ايها الثوري المتقاعد – من ان "تكشف !"  ما قد يراه البعض اسرارا، فتقول ان ذلك المكتب المركزي، كان يتشكل من- مع حفظ الالقاب والصفات والسمات -: عبد العزيز وطبان، مسؤولاً، ومن بين اعضائه صادق جعفر الفلاحي، وآخرون من ممثلي المنظمة العمالية ببغداد، وها انت بينهم معنياً بشؤون النشر والاعلام، والتثقيف، ومهام نقابية، اخرى.. اما اجتماعاته الاسبوعية او الدورية، فكانت تعقد في الغرفة المحددة له بمقر اللجنة المركزية للحزب الشيوعي، ببغداد..

   ولتضف موضحا باختصار: ان مكتب العمال المركزي، تشكل ليكون هيئة استشارية مختصة، تتبع قيادة الحزب، للعناية بالنشاط الشيوعي، وتوجهاته في النقابات العمالية،  مركزا وفروعا، وجميعها راحت آنئذٍ، تحت سيطرة وهيمنة مسؤولي الحزب الحاكم، واعضائه، ومؤيديه، عن حق وباطل.. ذلك الى جانب اهتمامه – المكتب-  بالجوانب الفكرية والاقتصادية والاعلامية، للشؤون التي تخص عمال العراق وحياتهم وتطلعاتهم، ونضالاتهم المطلبية والاجتماعية، وحقوقهم النقابية وغيرها ...

 ولتوثق هنا في هذه المحطات والخلاصات – ايها الناشط العمالي هذه المرة!- انك قد كلفت في المكتب، بمتابعة شؤون صفحة حياة العمال والفلاحين في جريدة الحزب المركزية، العلنية في ذلك الوقت: طريق الشعب. وتبعاً لذلك فقد كان التنسيق بشأن الامر يتم، بهذا الشكل والقدر او ذاك، مع المسؤول السياسي عن الصفحة، عبد السلام الناصري- ابو نصير، عضو اللجنة المركزية للحزب.. ومن بين ذلك التنسيق ايضا حضور اجتماع هيئة تحرير الصفحة احيانا، وكان المسؤول الصحفي عنها، الشاعر المبدع :مخلص خليل..

   كما لتتذكر ايضاً، وتصرح، – ايها الثوري المتقاعد- بان المهام داخل مكتبـ (كم) العمالي الشيوعي المركزي، كانت موزعة على هذا النحو: شؤون الدراسات الاقتصادية - الاجتماعية ذات العلاقة، عند عبد العزيز وطبان، وشؤون التنظيم النقابي، عند صادق الفلاحي.. ومما تطير اليه الذاكرة، انك قمت بتهيئة عدد من المحاور والخلاصات، تم التداول حولها، ومناقشتها، لعل من اهمها حول:

 الثورة التكنولوجية، ومواصفات الطبقة العاملة الجديدة، والمتغيرات المستقبلية.

 التنظيمات النقابية في ظل سلطة البرجوازية الصغيرة، والموقف من وجود اكثر من تنظيم واطار نقابي عمالي، في بلد واحد.

- ضرورات تحول هيئاتنا الشيوعية الحزبية من تنظيمات قطاعية (طلاب، مثقفين، عمال، موظفين...) الى تنظيمات محلية مختلطــة في مناطــق سكنية واحدة (مدينة، بلدة، محلة، قرية...).

    ومن المؤسف ان تلك الخلاصات والوثائق، قد فقدت، او ضاعت او اهملت، لسبب أو اخر، دون ان يصار الى ارشفتها وحفظها، برغم انها كانت خطوطا ومؤشرات واتجاهات، وليست دراسات موسعة، وقد قمت بنشر بعضها تحت عنوان " نقابيات" في الصفحة الاسبوعية المتخصصة بالمنظمات المهنية، التي كنت مسؤولا عنها، لعدة سنوات، في "طريق الشعب" الصحيفة المركزية للحزب.

   ولكي لا تكون هذه الذكريات، وهي عجولة – عاجلة، ثقيلة او مملة، فلتلطفها – ايها الثوري المتقاعد-  ببعض اللقطات التي تظنها مناسبة، ومن بينها كيف كان صادق جعفر الفلاحي، يناكدك ممازحاً، فيرحب بك حين يلتقيك بالقول: اهلا بالشيوعي العامل، والطالب، والمهندس، تلميحاً لمسؤوليتي، في ان واحد: في اللجنة المحلية الطلابية الشيوعية ببغداد، وعضويتي في مكتب العمال المركزي.. وكذلك الى عملي الوظيفي مهندسا تنفيذيا في مؤسسة استصلاح الاراضي، بوزارة الري..

  ولأن اللقطة تجر اخرى، خلاصتها: ان مهمتي الوظيفية، في اوائل السبعينات، كانت تحمل المسؤولية عن نحو 120 عاملا زراعيا، وميكانيكيا، واداريا، وذلك في احد مشاريع مؤسسة التربة واستصلاح الاراضي، في اللطيفية... وكان من بين اولئك العمال والعاملين، رجل فارع الطول، ذو شخصية مؤثرة، مسؤول عن العمال الميكانيكيين. وقد تقربت منه، وتقرب مني، ثم نويّت السعيّ لترشيحه الى الحزب.. وبعد، وخلال فترة مهمتي في مكتب العمال المركزي، واذ بذلك الرجل يحل ضيفاُ معنا في احد اجتماعات المكتب، وكان: المناضل والنقابي المخضرم، عبد الامير عباس- ابو شلال، عضو اللجنة المركزية للحزب، او المرشح لها لسنوات مديدة ...

 اما اللقطة الثالثة والاخيرة، فهي ماجرى لبيان كُلفت بصياغته بمناسبة عيد العمال العالمي،  في الاول من آيار عام 1975 وانجزته حقاً في الموعد المقرر، ليقوم ابو ذكرى- عبد العزيز وطبان، بـ"تهذيبه" اول الامر "من الخارج عن المألوف"  ثم لـ"ينقحـه" سياسيا بعد ذلك، ابو نصير – عبد السلام الناصري، ولينشر فعلاً في يوم المناسبة، على الصفحة الاولى من عدد "طريق الشعب" – الصحيفة المركزية للحزب الشيوعي العراقي... ولكن- وهنا اللقطة - فقد نُشر البيان الذي اعددته باسم مكتب العمال المركزي، ولكنه خرج للنشر بعد "التهذيب" و"التنقيح" وكأنه مكتوب لكل آن وزمان ومكان، وقد يصلح ايضا لمناسبة طلابية او ثقافية او غيرها، لو غُيرت كلمة او اثنتان فيه .. وقد مرّ الامر دون تعقيد، مراعاة للتحالف الجبهوي القائم حينئذِ، خاصة وان "الثوري المتقاعد" صاحب مسودة البيان، وصياغته الاولى كان ملكياً اكثر من الملك، متفائلاُ بالتحالف السياسي القائم في تلك الفترة، ومؤمناً بان كل ما يكون، ممكن، من اجل السير بالشعب والوطن الى امام!!!!..... ولكن، جاءت النتائج معروفة، وبعد فترة وجيزة ليس إلا، وكان ماكان، وحدث ما حدث، من جانب حزب البعث الحاكم، واجهزته الارهابية...

 

 

 

بمناسبة الذكرى 68

 

لمؤتمر "السباع" الخالد

 

جمعيات وروابط الطلبة العراقيين

 

خارج الوطن: 1978-2003

 

ربع قرن ضد الدكتاتورية والارهاب

- رواء الجصاني*

    بعد ان خبت كل الامال في امكانية "اصلاح" النظام الذي اباح ما أباح من وعود وعهود وقيم ودماء، اعلن المزيد من قوى الشعب العراقي الوطنية عام 1978 معارضته العلنية والمباشرة لانهاء السلطة الدكتاتورية في البلاد، التي شددت من اجراءاتها القمعية ، ونزعت كل لبوساتها وبراقعها التي تزيت ، او حاولت التستر، بها ...

   وفي ضوء تلكم الاوضاع والتطورات المتسارعة ، تنادى نشطاء وسياسيون لاعادة النشاط لجمعيات وروابط الطلبة العراقيين خارج الوطن بعد "تجميد" عملها لفترة دامت حوالى اربعة اعوام . وهكذا راحت الاشهر االاخيرة من عام 1978 والاولى من عام 1979 تشهد حركة دؤوبة على تلك الطريق ، وفي العديد من العواصم، والاوربية منها بشكل رئيس ...

وما هي سوى بضعة اشهر وحسب ، حتى انعقدت مؤتمرات استثنائية لتلكم الجمعيات والروابط واتخذت قراراتها بالغاء " التجميد" استجابة لنداء اتحادها المركزي،اتحاد الطلبة العام في الجمهورية العراقية، وأكدت شعارها الرئيس : من اجل التفوق العلمي والعودة للوطن... وشعارات اخرى راهنة ، للتضامن مع طلبة وشبيبة وشعب العراق في النضال ضد الكتاتورية والارهاب ، واقامة النظام الديمقرطي ..

... وهكذا انطلقت جمعيات وروبط وتشكيلات الطلبة العراقيين في : المملكة المتحدة والاتحاد السوفياتي والمانيا الاتحادية وبرلين الغربية وبلغاريا وفرنسا والدانمارك والمجر والسويد وبولندا وايطاليا ورومانيا وبلجيكا والمانيا الديمقراطية واليونان ويوغسلافيا والنمسا وسوريا ولبنان واليمن الديمقراطية والولايات المتحدة الاميركية واليونان والهند وتشيكوسلوفاكيا ... انطلقت لتبدع وتتألق في مختلف مهمات العمل المهني – الديمقراطي – الاجتماعي، بأشكال واساليب ومستويات متنوعة ، ولتبرز في المقدمة بصورة رئيسة مهام التضامن مع طلبة وشبيبة وجماهير بلادهم ... ولأننا نؤرخ هنا لهذا الجانب من النشاطات تحديدا ، نقول ان العواصم والمدن الاوربية والعالمية قد شهدت المئات من الفعاليات والمهرجانات والتظاهرات التي ساهمت بكشف المزيد من الحقائق عما كان يجري تحت سلطة الحرب والارهاب في العراق ، في ربع القرن الذي نوثق له وعنه: 1978-2003... ذلك فضلاً عن النشرات والبيانات والاصدارات ، وبلغات واشكال مختلفة .

   لقد حرصت الجمعيات والروابط الطلابية العراقية خارج الوطن ، وعبر اعضائها ومؤازريها واصدقائها ،النجب على ابسط وصف ، حرصت على ان لا تفوت فرصة تتاح الا وكان لها صوت وموقف ونشاط يتناسب وقدراتها ، في فضح جرائم النظام الدكتاتوري وسياساته التى اكتوت بها جماهير الشعب العراقي على مدى عقدين ونصف ... دعوا عنكمو ما عانت منه بلدان الجوار، وحتى غير الجوار... وكل ذلك الى جانب التحاق العشرات من اعضاء تلكم الجمعيات والروابط ، طالبات وطلاب ، في تشكيلات الحركة الوطنية ، السياسية والجماهيرية والمسلحة ، داخل العراق ... وما برح سجل شهداء الحركة الوطنية االخالدين يحفل باسماء اولئك المناضلين الذين أنهوا، او تركوا مقاعد الدراسة ليعودوا الى الوطن ، مشاركين ابناء شعبهم في خوض المعارك الباسلة .

وبالاضافة الى كل هذا وذاك ، كان منتسبو الجمعيات والروابط الطلابية خارج الوطن فاعلين في اعلاء صوت التضامن مع اتحادهم المناضل – اتحاد الطلبة العام، وفصائل الحركة الوطنية العراقية عموما، داخل الوطن، وذلك في العشرات من المنابر والمنتديات والنشاطات المحلية والاقليمية والعالمية، وسواء التي انعقدت في البلدان التي يدرسون او يقيمون فيها ، او خارجها، وفقاً لما يكلفون به ... ونذكر من بينها ، ونحن هنا معنيون وشهود عيان : المؤتمرات السنوية للجمعيات والروابط الطلابية ذاتها ، والمهرجانات المرافقة ، و اللجان التضامنية ونشاطات وندوات ومؤتمرات اتحاد الطلاب العالمي في المدن والعواصم الاوربية وغيرها ... وكذلكم هي الحال في فعاليات المهرجانات العالمية للطلبة والشباب ، والتي انعقدت خلال الفترة التي نكتب عنها – 1978-2003- ومنها في هافانا وموسكو وبيونغ يانغ ..

    وفي هذا السياق لا يجوز ان نغفل هنا - وان سريعاً - الدورالبارز للجنة التنسيق بين الروابط والجمعيات الطلابية خارج الوطن، ومقرها في براغ ، في مجالات المتابعة والتوجيه للنشاطات والفعاليات التضامنية، وغيرها ، مع طلبة وشبيبة وشعب العراق في نضالهم الثابت من اجل انهاء الدكتاتورية وقيام النظام الديمقراطي. ومما نشير بهذا المجال: الاصدارت الدورية التي كانت تنشرها "اللجنة" بلغات مختلفة واهمها " طلاب العراق" بالغتين العربية والانجليزية ، وكذلك الاسبانية احياناً ... ذلكم الى جانب العشرات من البيانات والنشرات التنظيمية والجماهيرية وسواها....

   وعلى صعيد ذي صلة نوثق ايضا للدور المهم الذي نهضت به اللجنة – لجنة التنسيق بين الجمعيات والروابط الطلابية خارج الوطن – في تمثيل قيادة الاتحاد الام، اتحاد الطلبة العام في الجمهورية العراقية، على الصعيد الخارجي، ولدى السكرتارية الدائمة لاتحاد الطلاب العالمي في براغ، ومن الطبيعي ان كل نشاطات "اللجنة " التي نتحدث عنها ما كان له ان يكون بذلك المستوى المشهود له – على اقل وصف – لولا مساهمات الجمعيات والروابط الطلابية العراقية خارج الوطن : المادية والاعلامية ، فضلا عن المشاركات المباشرة الاخرى ...

   وبهدف التأرخة ايضا نثبت في متابعتنا هذه ، والتي كم نتمنى ان يزيد اليها المعنيون ، ان العشرات من اعضاء ونشطاء تلكم الجمعيات والروابط الطلابية العراقية التي نوثق لها وعنها ، يواصلون اليوم في بلادهم ذات النهج ، من اجل العراق الديمقراطي الجديد ، ومن بينهم عشرات المناضلين السياسيين والنشطاء الوطنيين ، الذين تسنموا ، وما فتئوا، مهاماً جليلة ومسؤولة في احزابهم ومنظماتهم المدنية ... وكم أظنهم مستمرين بالتباهى - ولم لا ؟- بتاريخهم وتراثهم وانتمائهم للعمل الطلابى الوطني – المهني ..
أخيرا، وأذ يتزامن نشر هذه المساهمة مع الذكرى الثامنة والستين لمؤتمر "السباع" الخالد ، الذي انبثق عنه اتحاد الطلبة العام الاول في البلاد العراقية ، كم نتمنى – مرة اخرى واخرى – ان يبادر ذوو الشأن ، ولاسيما منهم : النشطاء الطلابيون "المتقاعدون" مثلنا ، فيكتبون ذكريات وتجارب تمد شباب الغد بالمزيد من الخبرات وهم على طريق النضال الديمقراطي والوطني.. فهم ، ونحن من بينهم ، على درب واحد ،على ما نزعم... مرددين سوية ما قاله الجواهري الكبير في بغداد بمناسبة طلابية عام  1959:

ياشبابَ الغد انا فتيةٌ ، مثلكم فرّقنا في العمر ســنُ...

…والغدُ الحلو بنوه انتمُ ، فأذا كــان لكم صلـبٌ، فنحنُ

فخرنا انا كشفنـاهُ لكم ، وأكتشافُ الغـد للأجيال ، فـنُ

----------------------------------------------------
* السكرتير العام للجنة التنسيــق بين روابط وجمعيـات

الطلبة العراقيين خارج الوطن، للفترة : 1980- 1985

 

 

 

 

بمناسبــة الذكــرى الرابعة لرحيله

 

محمـود صبــري ...

 

بعيدا عن السياسة والفـن

 

- رواء الجصاني

 

   نشر، وكتبَ، اهلٌ واصحاب ومثقفون ومتابعون - وما برحوا- الكثير الكثير،  عن محطات تاريخية في حياة محمود صبري، ومواهبه وفكره ومنجزه، الفني والثقافي والسياسي، الثري... ولكن دعوني - في ذكرى رحيله الرابعة التي تصادف الثالث عشر من نيسان الحالي- احدثكم عن لمحات من نهار وليل تقليديين في حياة ذلك العبقري، وبما قد يسهم في ان تكتمل الصورة النيّرة عنه كما أزعم، لما فيها من اشارات ومؤشرات تتشابك لتضئ انسانية رجل متفرد، وقد "قــلّ الرجالُ فقيـــلَ: ذا رجلُ" ..

** ليالٍ ونهارات 

   يبدأ نهار محمود صبري، التقليدي متأخرا بعض الوقت، إذ يسهر غالباً ما بين قلمه وفرشاته وأفكاره وعوالمه المتألقة، وعادة ما يكون إفطاره بسيطاَ، يحضره بنفسه عجولاَ، ثم يستمر بمتابعة الاخبار، وجلها من اذاعات تبث بالانجليزية، مبتعداَ عن الضجيج الاعلامي العربي ... دعوا عنكم مجافاته للتلفزيون الذي لم يكن ذا صحبة معه، بل ولم يضمه اثاث شقته ذات الغرفتين، المتواضعة والانيقة في آن، والتي عاش فيها-  المفكر والفنان العراقي الوطني، الكبير، صاحب نظرية "واقعية الكم"- طوال عقود، في الدائرة العاشرة من العاصمة التشيكية – براغ.. 

   ولأن الرجل يتابع شؤونه لوحده، ويجهد ألاّ يكلفُ احد بها- الا في ضروريات لا حول له بها، خاصة وان لغته التشيكية ليست بالكافية - لذلك كان في "الظهريات" يراجع البريد، ويتسوق لمتطلبات البيت التقليدية، ويعود لمواصلة البحث والقراءة والترجمة، والغوص في الكتب والمصادر الفكرية – الفلسفية في الغالب الاعم .

   ولأنه نباتي، فلم يغرق في "هموم" الغداء والعشاء وما بينهما، مكتفياً بالفاكهة والخضار ومشتقات الالبان، وبعض الحلوى. ولكن دون الاستغناء عن الشاي المرادف، وعلى طريقته الخاصة .. وهكذا كان يستغل اقصى ما استطاع من وقت للبحث والعطاء.

    والرجل قليل الزيارات، وخاصة في الاعوام العشرين الاخيرة من حياته الزاخرة، ولا ابالغ فأقول بأنها بقيّت اكثر من محدودة. وكذلك كانت الحال بشأن استقباله للزائرين والضيوف، مع الاستثناءات طبعاً للقريبين والمقربين، ومن المختارين الذين يظنهم بعيدين عن الضجة والضجيج، وعن الكلام والاحاديث المكرورة المملة، ثقافية كانت أو سياسية، وعداهما.... ولكنه وفي نفس الوقت، ما اجلّه في تعقب واحترام المناسبات الخاصة والشخصية للاصدقاء والمعارف، وحتى غيرهم، المفرحة منها والمحزنة .

   ولاغراض التريض، وتغيير الاجواء، كان محمود صبري يحب التمشي طويلاً، وفي المساحات الخضراء عادة ، وحتى لساعتين متواصلتين احياناً. وقد "تورطت" معه اكثر من مرة، حين كان ذلكم الثمانيني مسترسلاً في متعته، وانا ذو الخمسين الى جانبه، الهث للحاق به!!! .. حتى بدأت اهـــرب من ذلك التقليد، لنستعيض عنه بجلسة مقهى هنا، أو رحلات قصيرة بالسيارة، هناك. 

** شخصيات وخصوصيات

    وأذ تستدرجني الكتابة، وتتشابك اليوميات والذكريات، بشؤون اخرى، فلأحدثكم عن بعض السمات الشخصية للراحل الجليل، المرادفة للممتلئين وحسب. ومن ذلك تواضعه الجم مع الكبير والصغير، النابه والبسيط، القريب والبعيد. وكم من المرات أخجلَ الاخرين بتلكم الصفة الاستثناء، النابعة باقتناع دون تصنع أو ادعاء....

    كما اشهد هنا بأني لم اسمع من الرجل، ولأزيد من ربع قرن من الرفقة والمرافقة شبه الاسبوعية، ولا كلمة سوء عن احد، ولا انتقادا او نقدا شخصيا. سوى حوارات وجدل دقيق حريص، عميق متأصل. ولقد حاولت، فعجزت، وأنا في خضم هذه التأرخة العجلى، أن استذكر ولو مشاركة كتابية واحدة لمحمود صبري، تُشمُّ منها قسوة او مغالاة أو يُلاحظ فيها تشددٌ شخصي....

    غير ان ذلكم الثبات اعلاه، غير مشمول، طبعاً، في ما يتعلق بالجوانب الفلسفية والفكرية، والوطنية، التي لا مساومة او تردد لديه بشأنها. ومن يريد دليلاً، واحدا على الاقل، فليعد لدراسةٍ لم تتكرر كما أدعي، حول المقارنة بين "العفلقية والفاشية" نشرها الفقيد الرائد، سنتي 1963و1964 على صفحات ثلاثة اعداد من مجلة "الغد" التي اصدرتها في براغ، اللجنة العليا للدفاع عن الشعب العراقي، برئاسة الجواهري الكبير، والتي تشكلت بعيّد الانقلاب البعثي الدموي الاول في شباط 1963. وقد كان الرجل- محمود صبري- يشغل المسؤولية الفعلية عن تحريرها، بصفته عضوا في تلكم اللجنة العليا . 
   ... ولأن الالتزام بالمواعيد، وبالوعود، ظاهرة حضارية، فمن الطبيعي تماماً ان تكون تلك من سمات محمود صبري. وهنا دعوني اتباهى مجدداً فأتحدث عن ايفاء الرجل بقراره في تبني مشروع "بابيلون" للثقافة والاعلام، الذي اطلقنــــاه، أنا وعبد الاله النعيمي، أواخر العام 1990 ... فقد بقي الرجل راعياً معنوياً للمشروع، بل ومصمماً لابرز اصداراته الصحفية، وموجهاً له، وحتى الايام الاخيرة من رحيله الى عالم الخلود. وهكذا ما زال غلاف المجلة اليومية، ثم الاسبوعية، التي ما برحت تصدرها مؤسسة "بابيلون" منذ ازيد من ربع قرن، بأسم " انباء براغ"، يحمل ذات الغلاف الذي صدر به العدد الاول، بتصميم: محمود صبري .

    والرجل أنيق ليس في كتاباته وأفكاره وفنه وقيمه، وحسب، بل اقترن كل ذلك بأناقته في الملبس والترتيب، وكيف لا وهو الفنان – الانسان. ولا تتخيلوا ان تلكم الاناقة، والمظهر، نتيجة ثياب ممهورة بغالٍ أونفيس، كما يفعل الاخرون! .. فبكل بساطة كان يلبس محمود صبري، ولكن بذوق وتناسق. وقبل ان انسى لا بد ان اضيف الى كل ذلك: أن الطبيعة قد حبته شكلاً وقواماً ممشوقاً، فارعاً، مما اضاف اليه وسامة متميزة، كما هو تميزه في عوالمه ومنجزه الثري. 

    أما عن أعتداد محمود صبري بعطائه، وشخصيته، فلا اظن أن أثنين من عارفيه يختلفان بأنموذجته في ذلكم الشأن، وليس من منطلق الغرور، أبداً، ولكن من فيض ثقته العميقة بالنفس، وقناعاته المستندة الى ما آمن به من مبادئ وأفكار وقيم. وكل ذلك بعيداً عن الاضواء، والبهرجة والافتعال. وهكذا بقي الفقيد مَحج الرواد، وكل ذوي الفهم والمعرفة، والعاملين في مجالات الفكر والثقافة والسياسة والفن... وميادين الوطنية الحقة، وليست المدعاة!. 

   ... ثم دعوني أتوقف أيضاً عند واحدة أخرى من مآثر محمود صبري، وتلكم هي عزوفه الراسخ عن شؤون ذاتية كم سعى ويسعى اليها آخرون... واعني هنا ابتعاده وحتى ايامه ألاخيرة عن الطلب أو المطالبة بحقوق وطنية وسياسية ووظيفية، إذ لم تَدر في خلده هموم الراتب التقاعدي، أو احتساب الفصل السياسي- دعوا عنكم الجهادي!!- بعد سقوط النظام الدكتاتوري في العراق عام 2003 . وقد بقي الرجل خارج اللعبة، بعيداً عن لاعبيها، ومحترفيها، الذين نسوا أو تناسوا - مع أستثناء هنا وآخر هناك- احد ابرز رجالات العراق في القرن العشرين، فكراً وقيماً ومبادئ، ومواقف . 

   أخيرا، وكما هي عادتي في الاحتراز من مقصودين، أقول ان كل ما سبق من وقفات جاء عن معايشة مباشرة، على مدى ربع قرن، وكم يعجبني ان أتباهى بها، فكم مثل محمود صبري، كان، وكم بقي مثله، أو سيأتي؟... وأما قِيل:
يموتُ الخالدونَ بكل فجٍ، ويستعصي على الموتِ، الخلودُ؟!

------------------------------------------------------------

 

 

 

 

"الجواهــري صحفيــــاً"

 

... موسوعة جديدة في تاريخ العراق الحديث

 

قراءة ورؤى: رواء الجصاني

 

   بثلاثة مجلدات، وبأزيد من الف وخمسمئة صفحة من القطع الكبير، صدر قبل فترة وجيزة، مؤلفُ جديد موسوم: "الجواهـري صحفياً" من المجحف حقاً ان يسمى كتاباً، كما هي عليه التعابير السائدة، إذ  فيه ما فيه من توثيق وتأرخة لعقود مديدة في تاريخ العراق الحديث، وبشكل ادق، للفترة 1930- 1960.. ولن نأتي بجديد اذا ما قلنا كم هي مهمة  و"غنية" احداث ووقائع تلكم الاعوام الثلاثين.

   والرجل الصحفي المقصود هنا ليس صحفياً بالمعنى المعروف، وحسب، بل انه جامع لصفات وسمات متشابكة، منها وليس كلها: شاعر ونائب برلماني وسياسي ومفكر ومثقف، وكل ذلك بحسب النقاد والعارفين والمتابعين، على اختلاف ارائهم وتقييماتهم، كما ونياتهم، إن شئتم !. ولذلك، ووفقه، جاءت صفحات الكتاب / الموسوعة "مليئات حقائبها من التجاريب" والاراء والوقائع، والخصومات والصداقات، الثقافية والسياسية، وغيرهما عديد حافل،  يثبتها الجواهري: شاهد عيان من وسط الحلبة تماماً، بل وفي بؤرتها بقول اصح.

    ومن البديهي والحال هكذا ان تتشابك عشرات  العشرات من افتتاحيات وكتابات ومقالات الجواهري، التنويرية المتمردة الهادفة للارتقاء، مقرونة بالوقائع والشواهد، عن شؤون البلاد العراقية، وشعوبها: عرباً  وكورداً وتركماناً وآشوريين وغيرهم، مسلمين ومسيحيين ويهودا وأيزيديين وصابئة، واخوانهم، من عراقيي دجلة الخير، والفرات الزاهي .. وكل هذا وذلك موشى بالاناقة الجواهرية المعهودة: لغة ومفردات وتنبؤات. ويكثر الوصف والتوصيف، وما هنا مجاله.

    والمؤلَف الذي نكتبُ هذا الموجز والعرض العاجل عنه، انما جاء في الوقت الذي احوج ما تكون اليه شعوب العراق- وهي على حالها التي ندري!-  بهدف الاستنباط والاستذكار، والتذكر- وعسى ان تنفع الذكرى- دعوا عنكم الاتعاظ الذي ما برح غائباُ، او مغيّباً مع سبق الاصرار والترصد، وحتى الان على الاقل، مع كل اهميته، بل واستثنائيته.. "ومن لم يتعظ لغدٍ بامس، وان كان الذكي هو البليد" على حد ما قاله وهدر به الجواهري ذاته عام 1979.  

   ولكي لا نتهم باننا نروج للكتاب/ الموسوعة "تجارياً" ودرءاً للتربص – وما اكثر المتربصين!- نقول بان التكاليف قد تحملها "كفاح" النجل الثالث للجوهراي الخالد، فضلا عن جهده الاستثنائي في التجميع والترتيب والتصنيف، وغيرها من متطلبات اتمام هذا التاريخ الجواهريّ العراقيّ الثري، وعلى مدى ثلاثة اعوام، كما تقول المقدمة.

   اخيراً، لنا - نحن المتبطرين!- تمنيات وإن فات آوانها، وهي ان المؤلَف "لـو" توزعت مواده على اجزاء محددة، بعضها لافتتاحيات ومقالات الجواهري نفسه، والبعض الآخر لكتابات الذوات، المثقفين والسياسيين والشخصيات العامة وغيرهم، ولا سيما اللامعين منهم، المنشورة في صحف الشاعر العظيم. نقول "لـو" حدث ذلك - لسهّل الامور للباحثين والمختصين والقراء والمتابعين، كل لغاياته، بدلا من جمعها سوية، كما جاءت به في الاجزاء الثلاثة، متداخلة، وفق الترتيب الزمني .

---------------------------------------------------------

ملاحظات وإحالات:

المؤَلَف اهداءٌ كريم من معدّهِ وموثقه، الباحث الجهود: د. كفاح محمد مهدي الجواهري.. وقد حمله متفضلاً، من بغداد الى مركز الجواهري في براغ: المهندس الصديق، أثير فالح الحيدري.

صمم الغلاف، المهندس عمار، حفيد الجواهري من نجله،  الدكتورفلاح.

صدر الكتاب / الموسوعة عن دار ومكتبة" عدنــان" للطباعة والنشر والتوزيع- بغداد/ اواخر العام 2015. 

 

 

 

بمناسبة ذكرى ميلاده

 

السادسة والتسعين

 

عـادل مصري(ابو سرود)..

 

. مناضل من هذا الزمان

كتابة وتوثيق: رواء الجصاني

   في سياق ما ُكتب ويُكتب من تاريخ وذكريات عن البلاد العراقية، وجوانب من سجلها الوطني، وعن سياسييها ومناضليها واحداثها، طفحت – وما برحت -  كتابات اختلط فيها الغث والسمين، ولاسباب متعددة الاهداف والاغراض ..  وقد تلفت الانتباه بهذا الشأن وقفات وتأرخة طالت او قصرت عن شخصيات واحداث عامة، كثير منها يستحق، وآخر غير قليل له ما له، وعليه ماعليه..

   وبحسب روئ قد لا تكون جديدة على الكثيرين،  اقول بأن تدوير الكتابة عن احداث وشخصيات بذاتها، اقل فائدة من التوثيق لجوانب وشخصيات واحداث اخرى، غير منتشرة كثيرا- على ابسط وصف -  ولا سيما وان في تاريخ بلادنا العديد الشامل مما لم يجر التوقف عنده، ولاسباب معروفة أو سواها...

   لقد كان من المخطط ان تكون لهذا التوثيق فضاءات اوسع، تأخذ بالاعتبار بعض تأرخة اضافية واراء ورؤى، سياسية وشخصية وما بينهما.. ولكني أثرت ان اوجز اولاً، لاسجل خلاصات عامة، وعلى ان اتوسع بها في وقت آخر- آمل الاّ يطول- مع توثيقات تكمل ما نهدف اليه، وهو كثير، ولكن اقلّه ايفاء مناضلين وطنيين بعض ما يستحقون، وذلك "اوسط الايمان" على ما نحسب!!!.

بدايات سياسية

    والرجل الذي نتحدث عنه في هذه التأرخة هو: عادل مصري، مناضل وطني من العراق، ولد في  مدينة"مندلي" بتاريخ 1920.3.8.. انتسب للحزب الشيوعي منذ فتوته، وكان واخته عمومة - عميدة، من الكوادر النشيطة في العمل الحزبي بمختلف اشكاله - السري طبعا- حتى قيام الجمهورية العراقية الاولى في الرابع عشر من تموز عام 1958 ..

    وبعد فترة وجيزة من قيام الجمهورية، اطلقت السلطة العراقية  الجديدة سراح عادل مصري، ضمن عفو عام عن السجناء والمعتقلين السياسيين. وكان يقبع أنذاك في سجن بعقوبة يقضي مع رفاقه محكوميته الاخيرة، ومنذ عام 1949  تحديدا، متنقلا خلالها بين سجون بغداد ونقرة السلمان والكوت... 

   ان متابعة سريعة لبعض تاريخ "مصري" العلني، في اواسط الاربعينات، تبين ان مسؤوليته السياسية والنضالية الابرز في تلك الفترة كانت مهمته، سكرتيرا عاماً لـ "عصبة مكافحة الصهيونية"التي عنى بها الحزب الشيوعي العراقي، وأجيزت رسميا في بغداد عام 1946 (*)..وقد اعتقل وسجن لمرات عدة بسبب نشاطاته في العصبة، وغيرها، وآخرها قضاؤه عشرة اعوام في السجن، بعد اعتقاله ببيت سري، في محلة القاطرخانة ببغداد، يحوي الات ومتطلبات طباعة واستنساخ حزبية. وكان من بين الذين حُكموا معه في الفترة ذاتها، وبقضايا ونشاطات سياسية مختلفة، وبمدد مختلفة: عزيز محمد وزكي خيري وأرا خاجادور، وكذلك اخته عميدة(عمومة)مصري.(**)

  وحين اطلق سراح عادل مصري، بعد قيام الجمهورية عام 1958 كما اسلفنا، كلفه حزبه الشيوعي العراقي بمهام تنظيمية وسياسية عديدة، ومن ابرزها عام 1959 في التشكيل القيادى لتنظيم الحزب في كركوك، حيث تزوج فيها من رفيقته روناك علي، وانجبا هناك عام 1961 ولدهما الوحيد: سرود (***) ثم ليكنى به لاحقا، وطوال حياته السياسية، والخاصة والعامة، وحتى رحيله بتاريخ 1993.5.29 في براغ، حيث مثواه فيها الى اليوم.

بعيدا عن العراق

     بعد الانقلاب الدموي البعثي الاول ، في شباط الاسود عام 1963 واغتيال الجمهورية العراقية الاولى، وسقوط  سلطة الزعيم عبد الكريم قاسم (1958-1963) وشيوع المجازر التي نفذتها اجهزة الانقلاب بحق الالوف من الشيوعيين والوطنيين: قتلا وتعذيبا وعسفا وسجنا.. اضطر ابو سرود للاختفاء عن الانظار، ولمدة عامين، ثم استطاع الخروج من العراق الى سوريا اولا، ومنها الى تركيا وايران، وليستقر بعدها في جمهورية قرغيزيا، بترتيبات من الحزب الشيوعي السوفياتي، حيث بقي يعمل هناك باختصاصه المهني، كهربائياً، في مصنع للمضخات، ثم في احد معامل النسيج، وحتى اوائل السبعينات الماضية، بحسب المسؤول الشيوعي العراقي البارز، وعضو قيادة اتحاد النقابات العالمي لفترة مديدة، أرا خاجادور، الذي اضاف لنا في حديث خاص، مطلع العام الجاري 2016:  لقد كنت في زيارة رسمية الى موسكو، وقد تفاجأت بوجــود "ابو سرود" بذلك المقام والعمل، منذ سنوات عديدة.. فتدخلت لدى المسؤولين الشيوعيين التشيك، وقد نجحت في ان ينتقل الرجل الى براغ عام 1973 ولتلتحق به بعد ذلك زوجته "روناك" وأبنه"سرود" عام 1975 وليقيم ويعمل، وينشط حزبيا وسياسيا فيها، لعقدين تاليين من الزمان ..

   وفي مستقره الجديد، كرس "ابو سرود" جل وقته ، لتحمل مهام ومسؤوليات حزبية عديدة وحتى حيان الرحيل . وقد توظف اعلامياً، لعدة اعوام في القسم العربي باذاعة براغ، مع عصبة من المثقفين والصحفيين العراقيين، وكان – بحسب مزامنيه في الاذاعة ذاتها- من الملتزمين بشكل مثالي بضوابط ومتطلبات ذلك العمل.

    لقد تنوعت مهام "ابو سرود" الحزبية والسياسية وما بينهما، في براغ، ومن ابرزها اشغاله عضوية مكتب تنظيم الخارج للحزب الشيوعي العراقي، وقد جهد حريصا في تلك المهمة، ونحن هنا شهود عيان، اذ ترافقنا لعدة سنوات في تشيكلة ذلك المكتب، وفي هيئة واحدة، تابعها واشرف عليها، قياديون عديدون في الحزب، ومنهم على التوالي: نزيهة الدليمي، ثابت حبيب، حميد مجيد موسى، كاظم حبيب، آرا خاجودور، ورحيم عجينة ...

    لقد كان ابو سرود في تلكم الهيئة الحزبية، عضوا حينا، ومنسقا لها حينا اخر، نموذجا للشيوعي الملتزم، بعيدا عن التجاذبات والاراء الخلافية، الواقعية، او المدعاة، دعوا عنكم التنابز بالمسؤوليات والمهام.. كما كان بعيدا كل البعد عن الطموحات الذاتية، او المكاسب الشخصية، جهوداً والى ابعد الحدود في احترام قرارات وتوجيهات المركز الحزبي، وكل ذلك ضمن الضوابط التي كانت تسود في تلك الفترة، من التزام وثقة بقرارات الهيئات الاعلى .. وقد ترتب عليه بسبب ذلك  ان يتحمل ملاحظات وانتقادات من هنا وهناك، نسي اصحابها، او تناسوا، بان الرجل كان صلة وصل، وليس صاحب هذا القرار او ذلك، وقد كان اداء التوجيهات الحزبية - اصابت ام اخطأت- واجباً مقدساً، لا يجوز التهاون فيه، حتى وان كان هناك اعتراض اوعدم اتفاق، وتلك هي ضوابط وظروف، والتزامات ذلكم الزمان، ولسنا هنا بمعرض التدقيق او التفسير والتقييم لها.

شهادات شخصيــة

   الى جانب ما يمكن الادلاء به من شهادات شخصية، ثمة اجماع بأن عادل مصري" ابو سرود" كان شخصية عراقية حميمة، ومناضلاً حريصاً في صفوف حزبه الشيوعي العراقي، وتميز بكل السمات الانسانية المعهودة: الاخلاص والتواضع والتفاني والتسامح، والعلاقات الاجتماعية المخلصة مع الغالب الاعم ممن تعرف عليهم، وتعرفوا عليه، في الحزب والعمل والحياة. ولعل ما قد يؤشر الى ذلك وبدلالة بينة، علاقاته الوطيدة مع العشرات من رفاقه - قيادات وقواعد - واصدقائه، لعل من ابرزهم، على ما نشهد: الجواهري الكبير ومحمود صبري وغائب طعمة فرمان، وقادر ديلان، وغيرهم من النخب والشخصيات العراقية التي اقامت، او مرت في براغ لسنوات عديدة.. وأشهد ايضا ان شقته كانت، برغم صغرها، اشبه بمقر حزبي وسياسي، كما ومضافة اجتماعية، أمها العشرات من الشخصيات السياسية والثقافية وغيرها، وطوال سنين.

   لقد حرص عادل مصري- ابو سرود، ان يكون، وهو واجهة الحزب في براغ، على التواصل الجميل مع رفيقاته ورفاقه، العراقيين خصوصاً، والعرب عامة، بكل حميمية، وتفاعل. حاضرا ومشاركاً في مختلف المناسبات السياسية والثقافية، فضلا عن الاجتماعية.. ولا شك، وهو ذو ذاكرة حادة،  ان تكون لاحاديثه ومحطاته التاريخية والنضالية، وخاصة مع قيادات الحزب الشيوعي العراقي الاولى، اهتمامات المتلقين، وبكل تشوق، ومن بينها ذكرياته مع، وعن، قائد الحزب الاول، يوسف سلمان يوسف- فهد، في التنظيم والمعتقلات والسجون، وحتى استشهاده، حين نفذت فيه السلطات الملكية حكم الاعدام عام 1949.    

     لقد كانت حياة عادل مصرى- ابو سرود، منذورة، حقا لا قولاً، لحزبه وبلاده وشعبه، بحسب قناعاته ورؤاه ومفاهيمه،  ودون ان يكل او يمل، وبلا امتيازات او مقابل، بكل ما تعنيه الكلمة من معنى . وقد دام على تلكم الحال، بكل قناعة واعتزاز طوال حياته الاجتماعية والحزبية والسياسية، ونأمل - كما سبق القول-  ان نستطيع كتابة تأرخة اوثق، واكثر تفصيلا  عنه، في وقت قريب قادم، داعين بهذه المناسبة رفاق ( ابو سرود) واصدقائه للمساهمة في ذلك الطموح، وهو بعض وفاء لمناضل وطني صميمي، من ذلك الزمان، الذي له ما له، وعليه ما عليه...  

-------------- احالات وهوامش

* عصبة مكافحة الصهيونية: عنى بها الحزب الشيوعي العراقي، اواسط الاربعينات الماضية، في ظل تأزم الاوضاع في فلسطين وازدياد الهجرة اليهودية اليها، وبدايات الصراع المسلح، وكانت تنشط – في مرحلة الاعلان عنها، كما بعد اجازتها رسميا - باصدار البيانات السياسية وتنظيم الفعاليات والتظاهرات الشعبية، كما اصدرت صحيفة خاصة بها حملت اسم" العصبة" .

** عميدة ( عمومة)مصري: مناضلة عراقية عريقة، ولدت عام 1922 ونشطت في العديد من تنظيمات الحزب الشيوعي العراقي، ومهامه، وتعرضت بسبب ذلك للمضايقات والملاحقات والسجون، وأٌضطرت للخروج - الرحيل عن العراق الى موسكو بعد انقلاب البعث الفاشي الاول في شباط 1963  لتكلف هناك ايضا بمسؤوليات حزبية وسياسية مختلفة، وحتى رحيلها عام 1995 .

*** سرود مصري: اكمل دراسته الثانوية والجامعية والعليا ببراغ، في العلوم الهندسية، وقد نشط طوال سنوات في العديد من المنظمات الجماهيرية والسياسية، ثم ليتفرغ بعدها للعمل المهني والاستثماري، والى الان .

 

 

ثلاثة وخمسون عاماً على كارثة

شباط االاسود في العراق (2/2)

زوجة الشهيد وصفي طاهر، تتذكر ...

( القسم الثاني والاخير)

رواء الجصاني

 

 وتؤرخ لعشية انقلاب البعث الدموي، وساعاته الاولى

 

------------------------------------------------------------------------------------------------

    في هذا القسم الثاني والاخير من توثيقنا بمناسبة الذكرى الثالثة والخمسين للانقلاب الدموي في العراق  (شباط 1963)  نستمر في اجتزاء نصوص اخرى من مخطوطة مذكرات / ذكريات: بلقيس عبد الرحمن، زوجة العميد الشهيد وصفي طاهر، احد ابرز اقطاب ثورة / حركة الرابع عشر من تموز 1958  التي اسست للجمهورية الاولى، واغتالها البعثيون الاوائل في ذلك الانقلاب المشؤوم، بالتحالف مع العسكريين المتعصبين، وغلاة القوميين والمناطقيين والطائفيين، واقطاب وموالي العهد الملكي المتضررين...

   وإذ لا نريد الخوض في التفاصيل خلال هذه الكتابة، نؤشر وحسب الى بعض ما تشي به النصوص والاجتزاءات التالية- بل وتؤرخ بشهادات عيان - لجوانب من نتائج التفرد السلطوي الذي تبناه زعيم الجمهورية الاولى، عبد الكريم قاسم،  فكراً ونهجاً عملياً، مستهيناً بكل الاصوات والمواقف التي حذرت من عواقب ما ستؤول اليه الامور، ودعت لضرورة الانتباه والتصدي والردع، ولكن لا حياة لمن تنادى، فحدث المتوقع، وكانت الحصيلة انهار دماء، واحداث ومآسٍ ما فتئت تداعياتها – كما نزعم – تتضاعف وحتى يومنا الراهن، والعديد الغالب منها، يتسبب به ورثة فكر ومنهج وممارسات انقلابيي شباط الاسود، وان تغيرت المواقع والاساليب والادعاءات والمزاعم، وتدرع اربابها بهذه الاقنعة او تلك، فالجذور ذاتها، والقتلة انفسهم.. ومرة اخرى، ومن جديد، بل ودائماً، نكرر الحكمة الجواهرية المدوية: 

ومن لم يتعـظْ لغـدٍ، بامسٍ، وان كان الذكيّ، هو البليدُ

---------------------------------------------

 

الانقلابيون يستولون على السلطة

في صفحات عديدة من ذكرياتها، تكتب بلقيس عبد الرحمن، خلاصات عديدة عن الانقلاب المشؤوم  في ساعاته الاولى ومنه: "حين وصل وصفي الى بيت عبد الكريم قاسم، وكان قريباً من بيتنا، اتصلوا في الهاتف بمعسكر الرشيد، وطلب منهم الزعيم ان يخمدوا الفتنة، ولكنهم كانوا يسخرون منه ويشتمونه... وقال وصفي لعبد الكريم – بحسب شهود عيان - هذه نتيجة أخطائك وهذا ما كنا نتوقعه، فأجابه: "ليس الآن وقت ملامة يا وصفي، تعالوا معي الى وزارة الدفاع لنرى، ونتصل بالقطعات العسكرية الاخرى"، وهكذا ذهبوا جميعاً الى هناك، وقد كان في مقر الوزارة نفسها معادون، الى جانب الضباط والمراتب المخلصين هناك... وتضيف بلقيس: "كان وصفي قد أبعد العسكريين المعادين للجمهورية من كتائب الدروع، وعيّن المؤيدين بدلهم، احترازاً مما قد يحدث. فقد كان المتآمرون قبل ان يقوموا بأي شيء، يحسبون لقطعات الدروع الف حساب، لذلك اوهموا عبد الكريم قاسم بان وصفي، ومؤيديه، ومعه الحزب الشيوعي، سيقومون بانقلاب عسكري ضده، ويتسلمون الحكم. وقد صدقهم، بل راح يشكّ حتى بوصفي، فكلّف أجهزة الامن بمراقبته".

ولتأكيد بأن هناك من كان يتابع تحركات وصفي طاهر، تكتب زوجته بلقيس: "ذات مرة، كنّا، ومعنا ابنتنا الأصغر هند، في السيارة، وكان وصفي يقودها، واذا بسيارات من الأمن، تتبعنا وكان السائق يجلس في المقعد الخلفي. ولم يتحمل – وصفي - تلك المتابعة فاستدار وراح يلاحقهم، فأخذت سيارتهم تسير بسرعة، وهو خلفها، وكلما أسرعوا، أسرع وراءهم في محاولة للقبض عليهم، ولم يتركهم إلا بعد ان توسلنا به ليترك الموضوع"...

وفي موقع آخر ذي صلة، توثّق بلقيس بان محاولة جرت لتسميم وصفي طاهر، بقهوة قُدمت له من الخياط الذي كان يخيط عنده ملابسه، وأصابته جراء ذلك رجفة، وحمى شديدة، ثم جرت معالجة الحالة طبياً، وقد هرب ذلك الخياط بعدها... كما جرت محاولة أخرى لاغتياله في عيادة طبيب الاسنان، الذي أخبر وصفي بمحاولة يقوم بها البعض للحصول على مواعيد مجيئه للمعاينة، وفشلت المحاولة أيضاً.

وفي سياق ذي صلة، تنقل بلقيس أيضا، عن وصفي طاهر ان العميد الطيار جلال الأوقاتي، قائد القوة الجوية، كان مراقباً أيضاً بحسب اوامر الزعيم قاسم، لأنه كان عضواً في الحزب الشيوعي، ومن قبل قيام ثورة 14 تموز. وقد استقال من الخدمة العسكرية في العهد الملكي، وفي اول يوم من الثورة عيّنه عبد الكريم قائداً للقوة الجوية، باقتراح من وصفي، وقد كانا أصدقاء، ويحملان أفكاراً ديمقراطية، ولذلك فان المتآمرين وقبل ان يقوموا بأية خطوة ساعة انطلاق تحركهم في 8 شباط 1963، نفذوا عملية اغتيال جلال الأوقاتي، وقد كانت تلك ساعة الصفر للانقلاب المشؤوم"...

... وفي صفحات تالية من ذكريات / مذكرات بلقيس نقرأ: في صباح اليوم التالي (9/2/1963) وكنت قد غفوت قليلا، واذ صحوت، وجدت الجميع يبكون ليخبروني باستشهاد وصفي، وعبد الكريم، والمهداوي، ولم اصدق الخبر من هول المفاجأة. ثم رجعنا الى بيتنا في منطقة العلوية، وجاء عمي طاهر (والد وصفي، ووالدته، وجمع من الاهل، وأولهم أخي، قدري عبد الرحمن، وزوجته، نوال علاء الدين، ووالدة زكي خيري) في محاولة للمواساة وتخفيف الفاجعة"...

توثيقات عن الساعات الأخيرة

مثلما كانت هناك العشرات من "الشهادات" و"الاجتهادات" و"التوثيقات" بشأن تأرخة شؤون التهيئة لثورة 14 تموز 1958 وتنفيذها، ومسيرتها، ومن ثم الاجهاز عليها في 8 شباط 1963... ظهرت "شهادات" و"اجتهادات" و"توثيقات" بشأن مصرع وصفي طاهر واستشهاده، مدافعاً عن قناعاته ومبادئه...

... تكتب بلقيس في ذكرياتها – مذكراتها التي تركتها مخطوطة قبل رحيلها عام 2001: علمت بعد شهور من انقلاب شباط الاسود، ومن احد العسكريين المرافقين واسمه نعيم سعيد، بأن وصفي طاهر ذهب مع عبد الكريم قاسم الى مقر وزارة الدفاع في باب المعظم، وكان يعاتبه بشدة ويقول له، "هذا ما حذرتك منه"، وكان الأخير يردّ: "ليس وقت هكذا حديث الآن". وحينما اشتد القصف على الوزارة، وكان وصفي يتصدى للانقلابيين، طلب من مرافقه وسائقه، ان يخلّصا نفسيهما ويتركاه لوحده، فهو سيدافع عن الثورة الى اخر قطرة من دمه، وذلك ما كان بالفعل.

وبعد نحو عدة أعوام، وفي 2007 تحديداً، يُعرض برنامج تلفزيوني ببغداد، بمناسبة الذكرى السنوية للانقلاب الفاشي، ويتحدث فيه أحد آخر عسكريين اثنين بقيا مع وصفي طاهر حتى اللحظات الأخيرة، وهو مرافقه الشخصي نعيم سعيد، فيؤكد أن وصفي طاهر طلب منه، وكذلك من سائقه فيصل عذاب، وكانوا جميعا في مقرات وزارة الدفاع يقاومون الانقلابيين، طلب منهما ان يسلما نفسيهما، بعد وضوح النتيجة، ونفاد الذخيرة، قائلاً لهما انه هو المطلوب أساسا من الانقلابيين، وحينما استدارا، وبعد ذلك بلحظات، سمعا صوت طلق ناري، انهى بها وصفي طاهر حياته.

وهكذا يتخذ وصفي طاهر القرار، كما قرر، وأفصح عن ذلك، أمام زوجته، وأمام عبد الكريم قاسم بالذات، في أوقات سابقة، بأنه سيقاوم أية محاولة لاسقاط الثورة، وسيحتفظ بآخر طلقة لنفسه...

وبحسب المتحدث، نعيم، في البرنامج التلفزيوني الذي جرت الاشارة اليه في السطور السابقة، فانه، وفيصل، مددا وصفي طاهر، واغمضا عينيه، وقاما بتسليم نفسيهما للانقلابيين. ومن المعروف والموثّق، كيف عرض تلفزيون بغداد، الذي سيطر عليه انقلابيو 8 شباط جثة وصفي طاهر، وبأسلوب حاقد ولئيم، لا لشيء إلا لاحباط عزائم المواطنين، المقاومين للانقلاب في حينها، وكذلك لطمأنة أنفسهم من الرعب الذي كان يحيط بهم من قيادات الثورة التموزية.

واستطراداً في الحديث عن هذا الشأن، تنقل هند، إبنة وصفي طاهر الصغرى، انها، وبعد عودتها الى العراق اثر سقوط نظام الطاغية صدام حسين، في نيسان 2003 اتصل بها مواطنون محددون ليدلوها الى قبر جماعي "سري" في مدينة المعامل ببغداد، يضم عدداً من رفات شهداء انقلاب الثامن من شباط الدموي، ومن بينهم وصفي طاهر... وقد حافظ بعض العراقيين الأوفياء على ذلك السر، طيلة أربعة عقود، ليكشفوا الأمر بعد انهيار الحكم البعثي الثاني في البلاد... ومازالت الاجراءات الرسمية، والإنسانية، مستمرة الى اليوم، للكشف والتوثيق حول ذلك الموضوع.

-------------------------------------------------------------------------------

(*) شهادات بلقيس عبد الرحمن مستلة من مؤلًف: " وصفي طاهر.. رجل من العراق" – كتابة وتوثيق: رواء الجصاني ونضال وصفي طاهر، الصادر عام 2015 بطبعتين عن:  بابيلون للثقافة والاعلام - براغ، ودار الرواد المزدهرة – بغداد .

 

 

 

 

ثلاثة وخمسون عاماً على كارثة

شباط االاسود في العراق عام 1963

رواء الجصاني

 

زوجة الشهيد وصفي طاهر، تتذكر وتؤرخ لعشية انقلاب البعث الدموي، وساعاته الاولى

    ليس بالضرورة ان تكون قراءة التاريخ، وتوثيقه، دعوة للثأر او الاثارة دائماً، ولكن ذلك قد يكون بهدف التنبيه والتأشيرعلى الاقل، لكل البلهاء الذين لا يعون، او الذين  لا يريدون ان يستفيدوا من تجارب ووقائع الحياة، واحداثها، بحسب الجواهري الخالد، في بيته المدوي:

ومن لم يتعـظْ لغـدٍ، بامسٍ، وان كان الذكيّ، هو البليدُ

    ولا ندري – بل وربما ندري، ونتعمد خلاف ذلك! -  كم نحتاج، وسنحتاج، اليوم لفهم  وتبني تلكم الحكمة الجواهرية في عراقنا المعاصر، وثمة مخلصون و"طيبون" وغيرهم من يدعون – بدون ضوابط -  للتسامح ونسيان الماضي، ولربما انهم ما برحوا مأخوذين  بذلك الشعار الشهير: عفا الله عما سلف، الذي تبناه زعيم الجمهورية الاولى، عبد الكريم قاسم، طوال تفرده بالسلطة، حتى راح من عفا عنهم يسوقونه اولاً، مع ابطال نجباء، الى محرقة البعث الاولى، يوم الثامن من شباط عام 1963 الذي نكتب هذه السطور بمناسبة ذكراه السنوية الثالثة والخمسين التي تمر هذه الايام..

   وان كانت الغرابة لا تثيرنا كثيرا حين يتحدث العامة عن "ضرورات التسامح" و"أهميات الالفة" و"حسنات النسيان" ... دعوا عنكم الغفران . ألا ان الغرابة تثيرنا وبلا حدود حين يتحدث بذلك الاتجاه، سياسيون ومثقفون، ديمقراطيون – أو هكذا ينبغي-  بطيبة مرة، وعن قصدية مبتغاة، لمرات ومرات، وبدعاوى "الوطنية" وشعارات مكرورة مثل:  "الاهم قبل المهم" و" العدو الاشمل" و" المؤامرة ضد الامة" ... و ما الى ذلك من مشابهات ومزايدات، لسنا في حال التصدى لها في هذه الكتابة على الاقل .

   وبذلك الاتجاه الذي تعمدته السطور السابقات، اي للوقاية والاحتراز من الطيبة الزائدة، نسعى هنا لتحفيز الذاكرة – وذلك اوسط الايمان – من خلال اجتزاء شهادات تاريخية وثقتها بلقيس عبد الرحمن، زوجة الشهيد العميد، وصفي طاهر، احد ابرز اقطاب ثورة / حركة الرابع عشر من تموز عام 1958 التي اطلقت الجمهورية العراقية الاولى، وحتى اغتيالها في الانقلاب البعثي الاول في شباط الاسود عام 1963 (*).

عشية الانقلاب المشؤوم

تكتب بلقيس، زوجة وصفي طاهر، وهي شاهدة عيان: "بتاريخ الأربعاء 6/2/1963 اتصل الزعيم عبد الكريم قاسم هاتفياً بوصفي طاهر، ليلا، وطلب حضوره الى مقره بوزارة الدفاع، فأسرع ليرتدي ملابسه، ويتوجه الى هناك على الفور، وبقي الى صباح اليوم التالي - الخميس 7/2/1963. وحينما عاد، قال لي: "لقد اطلعني الزعيم على قائمة بأسماء الضباط الذين يدبرون مؤامرة ضد الثورة، واكثرهم من البعثيين"... وقد أجابه – وصفي: "وماذا تريدني ان اعمل وانا ليس لي غير مسدسي؟! سأنزل الى الشارع مع الشعب واقاتل"... فردّ عليه قاسم: "لا تتكلم هكذا؟ فأنا سأسحق المتآمرين، ولن ادع اية مؤامرة تمر". فقال له وصفي: "ليكن في علمك ان المعادين للثورة من الرجعيين وغيرهم، التفوا حول البعثيين، ومعهم اذناب الاستعمار، والقوة كلها سلمتها لهم، في ذات الوقت الذي جرى فيه ابعاد المخلصين من الضباط، وحتى الجنود، عن المراكز المهمة، وانا – وصفي – وغيري من محبيك، نتوقع كل ساعة ان تحدث مؤامرة، ولكنها ستكون هذه المرة حالة كبيرة لا نعرف نتيجتها، وربما تنجح، وعندها سينتقمون من كل مؤيديك والجمهورية". وقد أجابه الزعيم: "اطمئن، الجمهورية قوية والشعب قوي، وسوف ترى كيف سأقضي على المتآمرين". فقال له وصفي: "انت المسؤول عن سلامة البلاد والشعب، ويجب ان تأخذ حذرك، ولا تصدق لاحقاً كلام المنافقين""...

صبيحة الانقلاب

وتستمر "بلقيس" في ذكرياتها المخطوطة، فتقول: "في صبيحة يوم الانقلاب المشؤوم (الجمعة 8 شباط 1963) كنا نشاهد التلفزيون على الفطور، فاتصلت بنا احدى الصديقات لتنقل لنا بأن خبراً يُذاع من مأذنة جامع المأمون، غرب بغداد، التي تسكن قريباً منه، يقول بان هناك ثورة ضد الزعيم عبد الكريم قاسم... فأرتدى وصفي  ملابسه فوراً، ليخرج الى حيث يقيم الزعيم، وكان معه 90 ديناراً أعطاها لي. ولما وصل الى هناك اتصل بنا وقال لا تبقوا في البيت، لأن المتآمرين هجموا على بيت العقيد فاضل عباس المهداوي (رئيس محكمة الشعب). وقد ذهبنا فعلاً الى بيت اقربائنا... وفي اتصاله الهاتفي الأخير معي، قال لي: نحاول السيطرة، وكوني شجاعة".

يتبع / القسم الثاني والاخير

------------------------------------------

(*) شهادات بلقيس عبد الرحمن مستلة من مؤلًف: " وصفي طاهر.. رجل من العراق" – كتابة وتوثيق: رواء الجصاني ونضال وصفي طاهر، الصادر عام 2015 بطبعتين عن:  بابيلون للثقافة والاعلام - براغ، ودار الرواد المزدهرة – بغداد .

 

 

 

 

" بابيلـون" للثقافة والاعلام

في يوبيلها الفضي

 

رواء الجصاني

 

    في اواخر عام 2010 نشرنا تأرخة حملت عنوان " بألف دولار من الجواهري، وبريشة محمود صبري، أبحرت "بابيلون" من براغ، قبل عشرين عاما ".... وها هي خمسة اخرى من الاعوام تمر ليصير الحصاد ربع قرن، يوبيلاً فضياً، لأول وأخر مؤسسة عربية في بلاد التشيك، تفردت بشؤون الثقافة والاعلام، وما حولهما وبينهما كثير من الرحاب..

... وأما مبلغ الألف دولار، ولا غير، فهو قرض من الجواهري الخالد، مثّل ثلث "الرأسمال" المطلوب لبدء العمل.. واما ريشة المبدع الكبير محمود صبري، فهي التي طرزت الاصدارات الأولى لـ"بابيلون"  فضلاً عن توجيهاته ورعايته الشاملة. وهكذا صدر العدد "صفر" من النشرة الاخبارية الأولى اوائل عام 1991 لتسجل ريادة أولى على الصعيد الثقافي والاعلامي في براغ، ولتترى بعد ذلك، وإلى اليوم، مطبوعات ونشريات وفعاليات متنوعة الاهداف والاشكال، ولكن بسمات واحدة نزعم أن خلاصتها: الموضــوعيــة والتميـــز... ومعـــروف ما هو مردود ذلك - دعوا عنكم الجوانب الإيجابية - من غيظ وحسد، ولانزيد...

... وأذ تتوالى الأعوام الخمسة والعشرون، تستمر "المغامرة" في "طلب مروم"، لو بُذل قســـط بسيط مما استنزفه من جهد مثابر في مشروع آخر - غير ثقافي أو اعلامي بالطبع - لتحققت مقابل ذلك عوائد وفوائد جمة من نوع آخر، ما كانت، ولم تكن، من توجهات "بابيلون" أو طموحاتها... فالمتناقضان لا يجتمعان في مستقر واحد، كما ينبئ التاريخ، ويسجله بحرص... وقد كُفيّ المؤمنون شر "الأرباح" المادية، ليستعاض عنه بشارات تميّز، وحصاد فخر.

لقد تبوأت "بابيلون" للاعلام والثقافة والنشر ما تبوأته من مكانة، في المساهمة بمجـــالات التنويـــر والاعــلام، ولتصــــبح بشـــهــادات "متربصـــين" قبل زملاء واحباء، مَعلمـــاً ثقافياً واجتماعياً، ولاسيما في بلاد التشــــيك ولدى أهلها، مواطنين وجاليـــات عربيـــة، وغيرها، وخاصة من عُنيّ منهم بشؤون التبادل المعرفي، والتأرخة والتوثيق، وما إلى ذلك من قياسات ومقاييس...

...ان التوقف عند مناســـبة اليوبيل الفضي لانطلاقة "بابيلون" بمثـــل هذه السطور، الموجــــزة، لا تدع لنا فرصة واسعة لـ "تقييم" المكاسب والخسائر، ولا عرض "حسابات" الحقـــل والبيــــدر: امتنـــاناً للأصحاب، أو انتقــــاداً للآخرين... وبمباشرة أكثر صراحة: لمن "حرص" على استمرار "بابيلون" في النشاط والعطاء، ولمن "حرص" على "مواجهتها" بهذا الشكل أو غيره، لأسباب معروفة في بعضها، وأخرى في "نفس يعقوب"!... ولكن كل ما نبتغي قوله، وعلى عُجالة: ان النجاح الأصيل هو ذلكم الذي يتحقق مع الصعوبات، لا بدونها، وإلا لأصبح الأمر ترفاً ومجالاً يسرح به القادرون وغيرهم، على حد سواء، ولعل ذلك ما لا يستحق التوقف عنده...

ان الكتابة لكم تعسر حين يراد بها أن تعبّر، وتوجز في آن.. ولاسيما في محاور ومجالات تتنوع رغبات التوقف عندها، بين الاستعراض والتقييم، وما بينهما...
ونستذكر البدايات، وتلكم الأيام الأول، وساعات العمل التي امتدت احياناً من السادسة صباحاً، وحتى منتصف الليل... وللأوائل هنا موقع متميز: عبد الاله النعيمي" الشريك" المؤسس، وذات الانامل والطبائع الذهبية : نسرين وصفي طاهر، الى جانب جهود: صادق توما توماس و ياسر رزق وجمال الجواهري ويحيى زكي خيري...

... ثم تصدر "النشرة العربية".. الوليد البكر، الرائدة في شكلها ومضمونها، التي شهدتها براغ، باللغة العربية، كل يوم، ولنحو سبعة أعوام 1991-1997...
وتتنوع الاصدارات. متتالية : فمن أسبوعية "الاقتصادية" وشهرية "أهلاً" الموجهة للجالية، وفصلية "الحياة التشيكية" السياسية الثقافية الجامعة... إلى الكاتلوج التجاري السنوي، ثم "بانوراما عربية" باللغة التشيكية هذه المرة، وما تلكم سوى بعض الحصيلة الاولى... وتستمر "بابيلون" في اصداراتها الجديدة، والمتجددة وفقاً للحاجة والظروف... اضافة لاصدارها العديد من الكتب والنشريات المتميزة، وبلغات متعددة ومنها عن: الجواهري، نزار قباني، محمود درويش، محمد الشرفي، وكذلك عن شؤون وقضايا يمنية وليبية وسورية وعراقية... وغيرها.

... ونتباهى هنا : ان "بابيلون" قد التقت وحاورت في مقابلات صحفية العشرات من المسؤولين الرسميين والسياسيين والشخصيات العامة، وفي المقدمة: رؤساء جمهوريات وحكومات، ووزراء خارجية، وبرلمانيون، عرباً، وتشيك... وقد يطول التعداد، ونحن عازمون على الإيجاز والتأشير، فقط.... كما ونتباهى أيضاً - ولم لا ؟؟- بان جمعا حاشدا لمسؤولين وسياسيين وسفراء ودبلوماسيين ونخباً ثقافية: عربية وتشيكية وأجنبية، قد زاروا مكاتب "بابيلون" للتعارف والاطلاع وتبادل الآراء وغيرها من الشؤون العامة... ولعلنا قادرين في قريب قادم على اصدار "البوم" مصور عن تلكم الزيارات التي نعتز بتوثيقها، لما فيها من تارخة ومغازٍ عديدة...

ان من غير المقبول تماماً، ان نتابع مسارات "بابيلون" في أعوامها العشرين، دون وقفة وفاء لراحلين أعزاء عملوا معها، وتحملوا بعض أعباء نشاطاتها، وخاصة في البدايات: السودانيان د. فتح الرحمن احمد هاشم، ود. عبد الرحمن احمد... والعراقيان أمل محمود بهجت، وزكي خضر، وكذلك المستعرب التشيكي فلاديمير هايسكي، فلهم جميعا نفثة وفاء وذكرى طيبة دائماً...

... كما لا يجوز هنا إلا ونتوقف لنؤشر جهود ومشاركات أكثر من خمسين اعلامياً وكاتباً ومحرراً ومترجماً وادارياً وفنياً: مصرياً وعراقياً وسورياً وفلسطينياً ويمنياً وسودانياً وعرباً آخرين، إلى جانب التشيك، من الذين ساهموا وبهذا القدر أو ذاك في انطلاقة "بابيلون"، وديمومتها، وتطوير عملها... منوهين بهذا الشأن الى مشاركات متميزة، ولفترات طالت او قصرت، لنخبة من المثقفين الذين تعاونوا مع بابيلون في مجالات الكتابة اوالتحرير او الترجمة، وفي مقدمتهم : د. مجيد الراضي ومفيد الجزائري ويحيى بابان ( جيان ) و د. عدنان الاعسم... وعذرا لمن شطحت - او تقصدت ؟- الذاكرة عن البوح باسمائهم...

لقد تعدت حدود ومهام "بابيلون" الاعلامية، لتتحول إلى منبر ثقافي واجتماعي عام: ندوات ودراسات واستشارات ومساهمات في فعاليات عربية ودولية... مبرزين بهذا السياق جهودها التي ما برحت قائمة في التقريب بين أبناء الجاليات العربية في تشيكيا وبقدر المستطاع، وضمن الامكانيات المتاحة....

واذا كان كل ذلك الذي وثقنا له، وبمنتهى الإيجاز، قد تحقق بجهود مثابرة وحثيثة، برغم محدودية الموارد والامكانيات المادية – وعسى ان تكرهوا شيئاً... -  فلابد من القول ان مشاريع طموحة عديدة أخرى كانت - وما فتئت ـ في "أجندة" بل "أجندات" بابيلون، ولكن: ما كل ما يتمنى المرء يدركه، وسنبقى نردد بيت الجواهري العظيم، مع تغير كلمة واحدة وحسب :

 ذهب الناس من الدنيا بمال ونعيم، وذهبنا نحن بـ"التاريخ" والذوق السليم

مع تحيات"بابيلون" للثقافة والاعلام

www.babylon90.com

 

 

 

 

 

 

بين الجواهري والامام الحسين..

 

مآثــر وشعــر

 

رواء الجصاني

 

      لم يتردد الجواهري ذات يوم من الاعلان- بوضوح لا ينافس، وبصوت هادر-  عن مواقفه، وترسيخ رؤاه في الإباء والشموخ والفداء، وذلك في فرائد عديدة، وقصيد زاخر بالابداع... وإذا ما اختلفت في الصورة والاستعارة، فهي متشابكة في المفاهيم ومباشرة في المقاصد... وفي مقابل ذلك تماماً، لم يجامل الشاعر العظيم أو يهادن  في هجو الخنوع والانحناء، كما وأولئك المقيمين على الذل، بل وحتى من يتوسط  "كاللبن الخاثر" وغيرهم من اللاجئين "لأدبار الحلول فسميت وسطاً، وسميّ أهلها، وسطاء"..

     ولربما نجتهد، ونصيب، فنرى في قصيدة "آمنت بالحسين" المنشورة عام 1947 مجمعاً للشواهد والأدلة الأبرز عن تلكم المفاهيم الجواهرية المتميزة... فالمطولة ذات الاكثرمن ستين بيتاً ، تفيض من مطلعها، وحتى ختامها، بآراء ومقاييس بالغة الرفعة في تبجيل "الواهبين النفس" فداءً للمبادىء التي يؤمنون بها، وتلكم بلا شك التضحية الأضخم للدفاع عن القيم والذود عنها... كما يرى صاحب "آمنت بالحسين" فيقول:


فـداء لمثـواك من مضـجـع ... تـنـوّر بـالابلــج الأروع ِ

ورعياً ليومـك يوم "الطفـوف" ... وسـقياً لأرضك من مصرع ِ

تعـاليت من مُفـزع ٍ للحتـوف ... وبـورك قبـرك مـن مَفزع ِ

 

   وهكذا، وبدءاً من بيتها الأول يحدد الجواهري الاتجاه الذي يريد قوله في تضحيات الحسين الثائر و"نهجه النير" الذي بات "عظة الطامحين العظام" لاولئك "اللاهين عن غدهم" والقنوعين دون احتجاج وتمرد أو ثورة... كما يفيض عديد آخر من أبيات القصيدة بعواطف ومشاعر انسانية فائقة التعبير في تقديس الثبات والصمود لرجل يوم "الطفوف" و"الملهم المبدع" الثابت أمام "سنابك خيل الطغاة" دون خوف أو رهبة، وبهدف أن يندحرَ "جديب الضمير بآخر معشوشب ممرع"...


شممتُ ثـراك فهب النسيم ... نسيم الكرامـة من بَلقـع ِ
وطفت بقبرك طوفَ الخيال ... بصومعـة المُلهـم المبدع ِ
تعـاليت من صاعق يلتظي ... فـان تـدجُ داجية ُ يلمـع ِ

 

    وفي مقاطع أخرى من القصيدة يتمثل الشاعر مأثرة الحسين التاريخية، ويمحص الأمر دون أن يرتهب من "الرواة"، أو يخدع بما ينقلون، هادفاً للحقيقة لا غيرها، وبدون تزويق أو مبالغات... وبعد ذلك فقط، يجد الجواهري أن في فداء الحسين دفاعاً عن مبادئه، وقائع لا أعظم منها، وفي سبيلها " يطعم الموت خير البنين، من الكهلين الى الرضّع"...

 ثم تعود القصيدة لتجدد في الختام تقديس ذلك الصمود والعطاء الذي "نوّر" ايمان الجواهري، وفلسفته في الإباء والفداء والتي تجسدت، كما سبق القول، في الكثير من قصائده ومن بينها "بور سعيد 1956" و"كردستان ... موطن الأبطال 1962" و"فلسطين الفداء والدم 1970"، فضلاً عن قصــائد الوثبـة، الشـهيـرة، عــام 1948... ومما جاء في ختام "آمنت بالحسين":


تمثلـتُ يومـك في خاطـري ... ورددت "صـوتك" في مسـمعي
ومحصـت أمـرك لم "ارتهب" ... بنقـل "الرواة" ولـم أخــدع ِ
ولما ازحـت طـلاء "القرون" ... وسـتر الخـداع عن المخـدع ِ
وجدتـك في صـورة لـم أُرعْ ... بـأعـظــمَ منهـا ولا أروع

وللاستزادة، نقول أن القصيدة نشرت في جميع طبعات ديوان الجواهري، ومنذ العام 1951، وقد خُط خمسة عشر بيتاً منها بالذهب على الباب الرئيس للرواق الحسيني في كربلاء، كما أُنشدت، وتنشد، منذ عقود والى اليوم في مختلف المجالس والمناسبات الاحيائية لواقعة "الطف" التي تصادف كما هو معروف في الأيام العشرة الأولى من شهر محرم، كل سنة.

 

 

 

 

اضواء وظلال عن بعض

 

سبعينات الجواهري في براغ

 

رواء الجصاني

 

لم يرح الجواهري ركابه كما وعد في قصيدة العودة (1969) وبقي حتى سنوات عشر تالية يروح العراق زائراً أو مقيماً مؤقتاً ليعود الى براغ حيث شقته – او شقيّقته كما كان يصطلح عليها – والى اجوائه الخاصة التي تعود عليها وألفها منذ عام 1961.

وفي ضوء تلكم الاقامتين، في بغداد وبراغ، كان الجواهري مطمئناً ومسروراً، حيث البديل قائم وان تعددت واختلفت الظروف. وبقيّ يحسب الحساب لهذا الواقع بكل جدية. وقد بذل منتهى الحرص لتجاوز أي اجراء او قصور قد يؤدي لفقدانه مثل ذلك الامتياز، أي حق الاقامة الدائمة في براغ.

كان البرنامج اليومي لحياة الجواهري في مستقره البراغي خلال فترة السبعينات تقليدياً الى حدود بعيدة. ومن بعضه اعداد طعامه بشكل شخصي والتمشي، وسماع الاخبار من الاذاعات بشكل خاص، دون التلفزيون الذي لم يكن على ود ٍ معه، على أقل وصف، وطيلة حياته. فضلاً عن القراءة طبعاً، وارتياد مقاه ٍ محددة من أبرزها "سلافيا" المطل على نهر الفلتافا البراغي، و"سلوفنسكي دوم"  الذي كتب فيه مملحته الى صالح مهدي عماش، ومقهى "اوبسني دوم" الذي كان يسميه بـ "الحضرة"، وصالونا فندقي "يالطا" و"الكرون". اما وجبات الطعام، وخاصة في فترة الغداء، فكان يتناولها في البيت بشكل عام، وعند الضرورة في المطاعم والحانات الشعبية والبسيطة، ووقوفاً بعض الأحيان...كما كان يشارك حضوراً أو شعراً في عدد من الأمسيات والفعاليات الرسمية أو الاحتفالية العربية والعراقية التي تقام بهذه المناسبة الوطنية او الاجتماعية أو تلك.

ويشير نجاح، النجل الثالث للجواهري، والمقيم في براغ منذ عام 1960 بهذا السياق بأن معارف والده وأصدقاءه المقربين في براغ خلال السبعينات، بعد ان عاد من عاد منهم الى العراق، كانوا محدودين جداً، وفي مقدمتهم الراحل موسى اسد، الذي كان عاشقاً للجواهري شاعراً وانساناً وصديقاً، وعدد من الممثلين السياسيين العراقيين والعرب في مجلة قضايا السلم والاشتراكية واتحاد النقابات العالمي واتحاد الطلاب العالمي والذين كانوا يتغيرون بين فترة وأخرى.

ويضيف نجاح "لقد كان الوالد يميل الى مداراة نفسه بنفسه، ويركن في الغالب الى اصدقاء محدودين، وحتى الى واحد فقط، في بعض الاحيان، وبما ينسجم ومزاجه. وكان يعتمد في تلك الفترة عليّ وابن اخته رجاء الجصاني في انجاز ما لا يستطيع انجازه منفرداً، كمعاملات السفر والترحال ومتطلبات الاقامة وغيرها من الشؤون الشخصية".

وفي احاديث خاصة كان الجواهري يستذكر باهتمام كيف كانت براغ في السنوات السابقة حيث للمرء اكثر من اختيار، مشيراً باعتزاز الى الراحلين فيصل السامر وزكي خيري وقاسم حسن، والى آرا خاجادور وعزيز الحاج ونوري عبد الرزاق ومهدي الحافظ وعادل حبه وأقرانهم.

واستناداً لاستذكارات الجواهري، فان زيارات وسفرات المثقفين والشعراء والسياسيين العراقيين والعرب الشخصية والرسمية الى براغ لا تكتمل ما لم "يداهمونني في البيت او المقهى سواء شئت ذلك أم كرهت" حسب تصريحاته. وفي عودة لبعض الارشيف المتوفر نجد العديد مما يوثق اشارات الجواهري بهذا الخصوص.

وعلى سبيل المثال تقول الشاعرة لميعة عباس عمارة في ذكريات لها منشورة في صحيفة الشرق الأوسط اللندنية (4/9/1996): "كان آخر لقاء لي مع الجواهري في براغ خلال السبعينات. لم يتغيّر الجواهري، ظل ذلك الرشيق، الأنيق، الوسيم، الظريف، الصعب. وبقيت أنا تلك المعجبة السعيدة لأنها تنفست من هواء غرفة ضمته، وجلست يوماً مجلسه"... وبالمناسبة، سبق للجواهري ان قال حول الشاعرة ذاتها في حوار نشرته صحيفة الجمهورية البغدادية بتاريخ 8/11/1975 : "انها أحسن من كثير من الشعراء... والحقيقة انها شعرها رقيق، وهي "بنت طيبة"... ان الشاعر لا يمكن ان يكون كريهاً أو خبيثاً أو لئيماً وبغيضاً... ولميعة تنطبق عليها الميزات الجيدة، فهي وديعة ورقيقة وانسانة".

وفي السبعينات أيضاً، وتحديداً في أوائل تشرين الثاني (نوفمبر) من سنة 1970، وكذلك في صيف 1975 يزور الجواهري في براغ، المترجم والكاتب سليم طه التكريتي الذي يتحدث عن تينك الزيارتين في كتابه "محمد مهدي الجواهري" الصادر عن دار الساقي اللندنية 1989 عن مدى اهتمام الشاعر الكبير به في براغ. ولكن التكريتي يختلق ويتصيّد أيضاً ما أشبع رغبته ودوافعه، أسوة بما جاء بمجمل الكتاب. وقد علّق الجواهري حول ذلك ببساطة، واستغراب، وتسامح "جازاه الله... ذلك الأعمى، ناكر الجميل، سليم طه".

وإذ يشير الشاعر الخالد في الجزء الثاني من ذكرياته (ص 325) الى "مداهمة" الراحل صالح مهدي عماش، ود. سعدون حمادي، ووفد رسمي عراقي مرافق لهما، مقهاه المفضل في السبعينات "سلوفنسكي دوم".. يوثق ارشيف الرسائل الموجهة للجواهري عام 1976 رسالة من د. محمد حسين الأعرجي عنونها بـ "استاذي الكبير، الحبيب ابا فرات حفظه الله وأطال من عمره، ومن بين ما جاء فيها: "لا أعرف كيف أشكرك على ضيافتك الكريمة، واهتمامك الأبوي بي، فلقد شرفتني بهما شرفاً كبيراً لا يقوم به حمدٌ، ولا يوفيه شكر...".

كما تشير بعض الأوراق والوثائق الشخصية زيارة الشاعر مظفر النواب لبراغ عام 1970 والى لقاءات عديدة حصلت بين الشاعرين، وامتدت لسهرات مشتركة كان من حصيلة احداها سبعة أبيات للجواهري "يؤرخ" فيها لحوار جرى بين النواب، الشاعر والرسام، واحدى جميلات التشيك – وما أكثرهن".

كما يشير د. زاهد محمد في كتابه "الجواهري صناجة الشعر العربي في القرن العشرين" (ص 55) الى زيارته براغ عام 1971 ولقائه مع الجواهري وتطرقهما للحديث عن الأوضاع في العراق، من جملة ذكرياته عن الشاعر.

وفي السياق ذاته تجدر الاشارة الى حرارة ترحاب الجواهري بالكاتب والصحفي العراقي الراحل شمران الياسري (ابو كاطع) خلال اقامته في براغ اواسط السبعينات، والتي وصلت الى حد اعارته شقته (شقة الجواهري) ليسكن فيها ابو كاطع فترة غير قصيرة وهو أمر نادر لا يكرره الشاعر الكبير، إلا استثناء.

ويحدث ان يزور الشاعر الفلسطيني سميح القاسم براغ عام 1973 ويلتقيه الجواهري، وهو من محبيه، أكثر من مرة، وتجمعه والضيف الزائر سهرة في مغنى "كاسكادا" الشهير وسط العاصمة التشيكية، وتلك دليل مودة متميزة من الجواهري. ومن وحيّ تلك السهرى يكتب الجواهري قصيدة غزل متفرّدة بعنوان "يا بنت شيطان" ومطلعها:

يا بنت شيطان كفاهُ أن يكون اباك، فخرا

كان التقرب منه كفرا، وارى التغرب عنك: كفرا

وهكذا تختلف الزيارات واللقاء ونشاطات ويوميات الجواهري في براغ خلال السبعينات، وهي اذ تتنوع مستوىً وشكلاً، وحتى مضموناً، إلا انها تبقى جميعها في اطار حياة شاعر متنوع والارادات والأمزجة والمواقف والرؤى، وكل ذلك بعض من تفرّده.

ولربما من المناسب هنا، رداً على تقولات البعض من جهة، ولتوثيق الاحداث والوقائع، وذلك هو الأهم، نشير الى ان مستقر الجواهري البراغي خلال السبعينات لم يكن سوى شقة اعتيادية الموقع والبناء والأثاث، في منطقة براغ السادسة، حيّ بترشيني، تتكون من غرفتي نوم، وصالون استقبال متواضع، ومطبخ ومرافق صحية، تقع في عمارة تقليدية، أثاثها أكثر من بسيط ...ولكن تلك الشقة التي قضى فيها الجواهري زهاء ثلاثة عقود، نظم فيها الشاعر العديد من قصائده البارزة وحدد فيها مسواقفه الأهم. كما ان تلك الشقة الصغيرة المتواضعة – لا غيرها – شهدت لقاءات واستضافات الجواهري لعشرات المفكرين الأدباء والمثقفين والمسؤولين السياسيين والرسميين العراقيين والعرب، وحتى بعض الأجانب.

مع تحيات "مركزالجواهري" فـي براغ

www.jawahiri.com

 

 

 

 

تراتيل ما بعد الغروب، وعند اعتاب  الفجر

(8)

رواء الجصاني

--------------------------------------------------------------------

31- سكن الليلُ ليعلو، في حنايا الروحِِ همسُ

لنديمٍ علّهُ يغفو، وفي عينيّ يرســـو

هو في قلبيّ اعراسٌ، وافاقٌ وأنــسُ

ساساقيه وأحنو، حالنا: ماءٌ وغَـرسُ

---------------------------------------

32-... وسَمتْ! لتروي بعضَ ما جفّا !

وتمنعتْ! توحي بما يَخفى

هي لحظةٌ  لكنها ابدٌ،

ما اروعَ النهديّن إن شفّا !!!

---------------------------------------

33- كلُّ اللواتي جئنَ قبلكِ، من سرابِ

انتِ اللبابُ، ولن احبّ سوى اللُبابِ

----------------------------------------

34- يتيهُ الـ"راءُ" نشواناً على شفتيّنِ من عسلِ

يسامرُ راقصاً، جذِلاً، حنينَ الروحِ والمُقلِ..

هلمي، حيثما شئتِ، بلا حرجِولا وجلِ

وهاتي وجهكِ النوارَ، يَسري في حمى القبلِ

-----------------------------------------

35- هيّ أن تبوحَ ولا تبوحَ، كلاهما، أمـرٌ، أمرُّ

في قلبها شوقٌ يفيضُ، وعندكَ الخبرُ المُسِرُّ!

فلكمْ حبتكَ، ولم يُـذعْ، لـ"الحالِ" والاشواقِِ، سرُّ !

فآنهلْ، من الذكرى، ولا تحسبْ لـ"عمرٍ" او لـ"عمرو" !!

------------------ من مخطوطة تحت الطبع

 

 

 

 

 

تراتيل...عند أعتاب الفجر (7)

رواء الجصاني

 

26- "سكنَ الليّلُ" ولكنْ، ضجَّ  في الروحِ صدى:

لا تضيعي العمرَ هيا، نجعلُ الامسَ غدا

ان ما فاتَ، فقد فاتَ هباءً وسدى

فتعالي نشبكُ القلبين، من دونِ مدى

-----------------------------------

27- باهي، وحسبكِ ان تباهي ... بالاخمصينِ، الى الجباهِ

بالخمرةِ المعطارِ ما بيـــن "المشاربِ" والشفاهِ

كلُ الحرامِ إذا أستهنتِ بما حُبيــــــتِ من الالهِ!!!

------------------------------------

28 - ما بأيدينا .. دعينا،

ننثرُ الاشواقَ جمرا

نكتوي فيها، ونمضي،

ويروحُ الصبرُ ذكرى..

كمْ سلكناهُ، ولكنْ، لم نعدْ نملكُ صبرا !!!

-------------------------------------

29- سكنَ الليّلُ فماجتْ وحشةٌ تُسعِـرُ جمرا

ثم جُنتْ أهـةٌ تحنو، وتهتاجُ باخرى

يتعانقنَ ويلهثنَ معاُ، كــرّاَ وفـــرّا

لستٌ ادري من هيّ الاحلى، وانْ كانتْ أشرّا

--------------------------------------

30- ليسَ لي إلاّكِ نبعاً.... دُمتِ يا فيضَ الحنينْ

يا نهاراً ضاءَ عمراً، ظَلِمتْ فيه السنينْ

------------------------------------

* من مخطوطة تحت الطبع

 

 

 

تراتيل..عند أعتاب الفجر (6)

 

نصوص: رواء الجصاني

16- "سكنَ الليـّلُ" فجاءتني على كتفيَّ تغفـو

تَنثرُ الاطيابَ.. والشَعرُ على صدري يَرفُّ

اهِ كمْ تسرينَ في قلبي، وكمْ نحوكِ، أهفـو

----------------------------

17- وسجا الليّلُ، ليطفــو فوقً جمرِ الحزنِ، حزنُ

ولـتسمو في خبايا الروحِ، اشواقٌ تئـنُّ

أينَ عني ذلكَ السمارُ، والروضُ الأغنُّ

أترى يحنو، فلا يُبخلُ وصلاً  أو يَضنُّ ؟!!

-----------------------------

18- "سكنَ الليّلُ" ليصفو عندهُ سحرُ الغزلْ

ولتغفو بينَ عينيكِ سحاباتُ الاملْ

ولتسجوعندَ نهديكِ ينابيعُ عسلْ

هاتِها - يا حلوةَ الاعنابِ- سَكراتُ  قُبلْ

------------------------------

19- ظَلِمَ الليّلُ، وها وجهكِ نجمٌ يتلالا

راحَ يُغريني لإهواكِ "حراماً" و"حلالا"

فتشبُّ الروحُ تغلي، بعد أن كادتْ زَوالا

ويعود الشيخُ صباً، لا يرى منكِ مُحالا!!!

-----------------------------

20-- سكنَ الليّلُ ولكن! كم تُرى شَبتْ همومُ

تُلهبُ الدنيا، وها عنديّ حلتْ، او تحومُ

-----------------------------

من مجموعة تحت الطبع

 

 

 

 

محمود صبري في ذكرى رحيله الثالثة

 

خمسة وثمانون عاماً

 

من الابداع، والعطاء الوطني والفكري

 

1927- 2012

 

 

توثيق: رواء الجصاني

 

---------------------------------------------------------------------

+ ولد في بغداد، وانهى دراسته في العلـوم الاجتماعيـة من بريطانيا عام 1949... وله ابنة (ياسمين) وابن (محمد).-

+ برز في خمسينات القرن الماضي في مجالات الفن العراقي الملتزم ضمن ما سمي "جماعة الرواد" وله العديد من المشاركات في المعارض العراقية والعالمية.

+ عمل في مؤسسات اقتصادية ببغداد (1949-1960) وآخرها مدير عام مؤسسة المعارض العراقية بعد ثورة 14/تموز 1958.

+ نشط ومنذ أربعينات القرن الماضي في فعاليات وأطر الحركة الديمقراطية والوطنية العراقية، وخاصة في المجالات الثقافية والفكرية.

+ استقر في براغ منذ عام 1963 منشغلاً في الاهتمامات السياسية والنظريـة، وقد شارك في العديد من الفعاليات والمؤتمرات والندوات العربية والدولية المهمـة، ومن بينها عضـوية "اللجنـة العليا للدفـاع عن الشعب العراقي" إلى جانب الجواهري وجلال طالباني ونزيهـة الدليمـي وفيصـل السـامر وذنون ايوب وصلاح خالص ونوري عبد الرزاق... كما شارك عام 1991 في مؤتمر بيروت للقوى والحركات والشخصيات العراقية المعارضة للنظام الدكتاتوري.- له العديد من البحوث والدراسات والمقالات الفكرية والسياسية والفنية، وقد نَشر – كما نُشر عنه – في الكثير من الصحافة ووسائل الاعلام العراقية والعربية والعالمية وبلغات مختلفة.

+ يُعد من أبرز فناني العــراق ومثقفيه المعاصرين، وهو صاحب نظرية "واقعية الكم" العلميــة الفنية المهمـة التي اطلقها سنة 1971... ولها موقع خـاص على شـبكـة الانتـرنت: www.quantumrealism.co.uk

+ رحل في لندن بتاريخ 13/4/2012 ووري الثرى هناك في تجمع مهيب، وكتب ونُشــر عــن الحدث حشد كبير من المثقفين والسياسيين العراقيين وغيرهم.

 

رؤى وشهـــــــــادت وآراء

يشتق الخيال مادته من المعرفة، ويكتسب درجة ابداعه وقوته منها، هذا ما يؤمن به محمود صبري، فالانسان يعرف الطبيعة عبر عمله عليها... وهكذا تنطلق نظرية (واقعية الكم) من الارتباط الديالكتيكي بين المعرفة والعمل الذي يحتوي عنق "الوعي" وهذا ما يميز الانسان عن سواه من المخلوقات... ان (واقعية الكم) كما قدمها محمود صبري في لوحاته وبيانه وتنظيراته، لا تقول أكثر من أن الفنان يجب أن يشترك مع العالم من جديد – كما اشترك معه في الماضي – في تحري الواقع الموضوعي والكشف عنه. ان هذا يعني ببساطة: مزج الفن من جديد بوظيفته الاجتماعية التي تميز بها عبر العصور: تمكين الانسان من السيطرة على الطبيعة وتغييرها – وبالتالي تغيير نفسه.

             ---------- محمد الجزائري

صحيفة "الزمان" اللندنية 16/4/1999

 

كان لمحمود صبري تخطيط قوي جعله الأساس في ما يرسم من مشاهد الفقر والشظف والتمرد، مؤكداً على الطريقة العراقية في الحياة، جاعلاً منها صرخة عنيفة في وجه الظلم، اجتماعياً كان أم سياسياً.

    ----------- جبرا ابراهيم جبر

ا"موسوعة اعلام العراق في القرن العشرين"

 

نضجت فكرة التحالف الوطني بين الكتل والاحزاب الوطنية وقد استلم محمد حديد مطلع عام 1958 رسالة من الحزب الشيوعي العراقي حملها عزيز الشيخ من قائد الحزب الشيوعي سلام عادل، يطلب فيها لقاء بمكتبة كورونيت - في عمارة مرجان - الباب الشرقي... التقى الاثنان ثم اجتمعا في بيـت محمود صبري واتفـقا على ضـرورة قيام جبهة وطنيـة تضم جميـع الاطراف السياسية بما في ذلك حزب الاستقلال.

----- صحيفة الاتحاد

  بغداد – 2007

 

تتأكد مكانة الفنان الرائد محمود صبري، بدءا بتلك الأعمال واللوحات التي اتخذت الموضوعة الاجتماعية والسياسية وفعل الالتزام في الفن منحى لها، فكانت لوحتا " الشهيد 1950 " ، ثورة الجزائر 1956" من أهم الأعمال التي وثّقت هكذا اتجاه في الفن العراقي. وتاليا في اكتشافه نظرية " واقعية الكم " التي عّرف بها في معرضه الشخصي الأول ببراغ عام 1971.

----- صحيفة المدى

  بغداد - 2007

 

ليس سهلا الكتابة عن قامة بمستوى قامة محمود صبري ، خاصة عند نقص الوثائق وقلة المعلومات وصمت فناننا الكبير وتواضعه وزهده وابتعاده عن المهرجانـات والأضواء المغرية لغيره، إضافة لتجاهل الجهات الثقافيـة المسـؤولة وغمطهـا حقوق هذا المبدع الخـلاق، وكذلك الجهات اللاحكومية والتي تدعي الأهتمام الكاذب بالثقافة والمثقفين والأرث المعرفي والفني... وكذلك مؤسسات المجتمع المدني والأحزاب السياسية الديمقراطية، واليسارية منها بالذات، ودور النشر والمجلات الثقافية وغيرها.

----------   فيصل لعيبي

 موقع الفنان العراقي

 

تعرفت على محمود صبرى كفنان قبل ان اتعرف علية كانسان وكنت من ضمن الذين شاهدوا معرض الرواد الذي احدث ضجة فنية كبيرة وقتها، كان ذلك عام 1950... وبعدها تطورت وتوثقت بيننا العلاقة واشتركنا فى اجتماعات عديدة ناقشنا فيها مختلف المواضيع الفنية والاجتماعية وما الى ذلك من الشؤون ذات الاهتمام المشترك.

------- غائب طعمة فرمان

 موسكو 1984

 

محمود صبري من اوائل الفنانين العرب الذين كتبوا بعمق فى حقل النظرية وأسسوا فى العراق والبلدان العربية الوعي التشكيلي المؤثر الذي استطاع فيما بعد ان يؤثر، ليس على جيله فقط، وانما ان يكون بمثابة رسالة مهمة لها ابعاد تتجاوز المرحلة التى يعيش فيها الرسام ويتجاوز القيمة المتحفية الى قيمة التفاعل والاستمرارية فى حياة الشعب العراقي والفنانين التشكيليين والوعي بشكل عام ـ الوعي التشكيلي العراقي.

                                                                  ----- صادق الصائغ

فيلم "توق إلى الحرية"

 

أفكار ومساهمات وابداعات محمود صبري، الفكرية والوطنية والفنية، تراث لابد وان يحافظ عليه، ويخلد، فذلك بعض من عطاءات العراق، الاستثنائية... ومبدعيه الاستثنائيين.

                                                                   ------- مركز الجواهري

براغ -2012

 

 

 

 

تراتيل عند اعتاب  الفجر (5)


نصوص: رواء الجصاني


--------------------------------------------

16- سلامٌ على نيّراتِ العيونِ، وشدوِ الخدودِ، وقلبٍ حنا

وحلوِ الشفاهِ، وفيض الرضابِ، وجمرِ العذارى اذا الليل جا

على الشعَرِ إذ يلثمُ المفرقـيّـنِ، كسحر النجوم تُنيرُ السما

أحبك جماً برغمِ السنين، وبعدِ المسار، ورغم الملا !

وأعشقُ فيكِ ربيعَ الحياة، يَصيحُ من القلبِ: اني هنا..

-------------------------------

17- ياسامرَ الروحِ لا تبخلْ بعاطفةٍ، دعّها،

ولا تَدعي "صِغراً" ولا "كبِرا"...!!!

------------------------------

18- سكنَ الليلُ، وها همْ "بؤساء" يَنشرون،

بؤسَ حرفٍ، وادعاءاتٍ، وزعمٍ وظنونْ

قلتُ - والناسُ حيارى- ليتكمْ لـو تعرفون:

ان "أولئـك" كانوا، ذات أمس، يلهثــون!

-------------------------------

19- أنت يا "بابـلُ"* أسمـى،
من كثيرٍ يحملُ "الانسان" إسما !!
فلكمْ صيّرت طعم العمرِ، أحلى...

آهِ  ما أعبق انفاسك، فـلاّ

فلتكن ذكراكَ افياءً وظـلاّ

--------------------------------

20- سكن الليل وها شعّ على الروح خيالُ

جاءَ يختالُ وفوق الحاجب المعقودِ، خالُ

ومن العينين: ينسابُ لهيبٌ ودلالُ

بجمالِ الروح يسمو، يُفتدى ذاك الجمالُ

--------------------------------------

+ بابل: كلبٌ أنيق، عاش مع صاحب هذه النصوص،

طوال ستة عشر عاما...

 

 

 

 

 

تراتيل..عند اعتاب الفجر (4)

رواء الجصاني

 

12- أتحبني ؟ ...

وترنحتْ بالشوقِِ ترمضني

تختالُ بين الصدرِ والحضنِ

تسمو باهاتٍ الى المزنِ ...

يا انت ِ -"أفروديت"- يا نبضي

حلي "الوثاقَ" وهاتني زمني

-----------------------------

13- سكنَ الليـلُ، فهبتْ نسمةٌ تشبكُ أخرى

يتبادلـنَ الهوى، بوحاٌ، ولا يُخفيـنَ ســرا

عارياتٍ، ناثراتِ الحـبَّ نبراساً وسحرا

آهِ  لو كنا - كما الانسام - لا نضمـرُ شَــرا

----------------------------

14- ولأنتِ لي! ما شئتِ، أو شاءَ القدرْ

إن خــفَّ حبكِ أو تَخفى، أو ظهــرْ

هلا سمعــتِ- حبيبتي- ترنيمةً:

"لا بدّ من "صنعا" وإن طالَ السفرْ"

-----------------------------

15- تيهي على كتفي، وزيدي،

 وإذا ضمئتِ فمن وريدي

خلي سنابلكِ الحسانَِ تفيضُ بالعطرِ الفريدِ

أما الشفاهُ النافرات، فهنّ ابياتُ القصيدِ

------------------- من مخطوطة تحت الطبع

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

تراتيل..عند اعتاب الفجر

(3)

رواء الجصاني

 

--------------------------------------------------------------

"سَكـنَ الليلُ" فمادتْ، تنثرُ الانفاسَ، فـُـلآ

تـُسبِلُ الجفنيّنَ، كيّ تـُلهبَ في العينينِ كـُحلا

فيعيدُ الحبُ ذاك الليثَ - بعد الشـحِ- شِبلا

يَجمعُ "العشرينَ" و"الخمسينَ": أقماراً، وظّلا

---------------------------------

 سكن الليّلُ فشعَ الشوقُ ينسابُ  لهيبا

لربوعٍ، وصحابٍ منهمو راحَ حبيبا!!

لـ"دروبٍ" ولكتبٍ، دونها كنتُ جــديبـا،

هــي جاهٌ، وتراثٌ، ومدىً، يبقى رحيبـــا

----------------------------------

10- "سكــنَ الليّلُ" ليحلو، أرَقٌ حـلّ نديما

رحتُ اشكوه، ويشكوني، يتيماً، ويتيما

ينثــرُ الصبرَ، جميلاً وحنيناً، وأليما

فأناجيه- كما كنتُ مدى العمرِ- حميما

--------------------------------

11-"سكنَ الليّلُ" فهل يسكنُ شوقٌ وحنينُ؟

لحبيبٍ "كان" يوماً.. حَليّت فيه السنونُ

فمتى ينجابُ عن ليليَّ حبٌ وجنونُ؟

ويروحُ القلبُ مزماراً، لما سوفَ يكونُ !!

------------------------------ * من مخطوطة تحت الطبع

 

 

 

 

 

 

 

 

 

تراتيل، عند اعتاب الفجر (2)

 

كتابات: رواء الجصاني

 

-------------------------------------------

4/ سكنُ الليلُ فراحت، غصةٌ في القلبِ حَيرى:

كيفَ يرجو المرءُ صبراً، ويرى القاتلَ حرّا

في بلادٍ راحَ فيها الموتُ يَستشري، ويُشرى،

حلوّها مــرٌ، وأفيــاءٌ بها صارت أمــرّا

------------------------------------------

5/ سكنُ الليلُ، فدوى صوتُ "فيروز" نديــا

 نابضاً في الروح يسري، ويناجي: "سوف احيــا" !!

فهلمي، نبتةً في القلب،  كي نمضي، سويا

ونحيـل الصمتَ شعراً، ويبيـسَ العمر، ريّــا

----------------------------------------

6/ سكـنَ الليــلُ وها انتَ مع الاهاتِ، تسري

وتُفيضُ الألمَ المدرارَ في عسرٍ، ويُســرِ

حاملاً في الصدرِ همّ العمرَ، والدنيا، وتجري

وتراكَ الناسُ ممراحاَ، وما في الروحِ تدري!!

-----------------------------------------

7/  سكن الليل، فهاتي، وأفرجي عني الكروبا

ودعيني مبحراً في سحرِ عينيك، حبيبا

لا ابالي، كيفما درتِ، شمالا أوجنوبا !

حيثما كنتِ معي، طبتُ: ربيعاً وطيوبا

---------------------- من مخطوطة / تحت الطبع

 

 

 

 

 

 

تراتيل على اعتاب  الفجر

(1)

 

كتابات: رواء الجصاني

 

============================

"سكنَ الليلُ" فعنتْ لي رؤىً، راحتْ سدى

أنضيعُ العمرَ نشكو همّنا دون مدى؟!

 أسنبقى نترجى"لـيتَ" كي تأتي غدا ؟!

 أم نمني النفسَ في بعضِ فتاتٍ، وهدى !!

------------------------------

سكنَ الليلُ،  ليؤرقني حبيبٌ ليس يُنسى

كم أحالَ المّــر حلوا، ودَجيّ الليل شمسا

صرتُه ذاتاً، فراحت كلُ اشجانيّ عرسا 

ليس سراً، صار لي: يوماً، وآفاقاً، وأمسا

------------------------------

سكنَ الليلُ فبانَ الزيفُ في وجهِ الدنى

فترى نجماً بسوماً زاهياُ دون عنا

وترى غيماً كذوباً حاملاً همّ الونى

اهِ لو راح بديلَ العتمِ بعضٌ من سنا

 

 

 

 

أوقفوا حملات الاستجداء، وأمنعوا أن تُنسب للعراقييـن

توصيفات مقيتة اخرى

رواء الجصاني

 

   ها نحن خارج السرب من جديد، نغرد، او نندب، ولا فرق، ونثير محبين او غيرهم، وكل من موقف، ولا فرق ايضا..

  وهذه المرة نعني ما يسمى بجمع تبرعات في عدد من بلدان العالم، والاوربية خصوصاً، وهي ليست سوى استجداء مبطن ومنظم، على اساس اعانة أعزاء كرام، اغلبهم من الثكالى والارامل والاطفال، وعوائل نازحة أو مشردة في البلد العجيب، ولا ضمير لاحدٍ، واي كان، ما لم، ولا،  يتعاطف معهم..

    منظمات خيرية هنا وجمعيات مدنية هناك، وكلها تتسابق، وفي الاعلام خاصة، وتتبارى في "حملات" لجمع التبرعات- واكرر، انها حملات استجداء لا غير- لعراقيين منهكين منكوبين، في بلادهم، ام الخير والثراء، والثروات، ولكنها المباحة للمارقين، ولكروش زعامات بها- من كثر ما اعتلفتْ- مسٌ من الحبلِ.

   اعرف واعرف واعرف، ان ثمة دوافع انسانية قد تريح الكثيرين ممن يقومون بهذه الحملات لدعم المنكوبين العراقيين، كشكل من اشكال التضامن، والشعور بالمسؤولية تجاه مواطنيهم داخل البلاد، ولكن هناك ايضا كرامة وطن وشعب، لا يجوز ان تُهان بهذه الطريقة البأساء، في ان تُمدّ الايادي لشحذ معونة ما.

    كما واسبق من يريد ان يصطاد فأقول: نعم، ليس جميع من "يتزعم" حملات الاستجداء، له مصلحة اخرى غير اراحة الضمير. ولكن لا تنسوا ان من بينهم "رجال"علاقات عامة، و"ارباب" مصالح تجارية، وطالبو جاه ونضال ووطنية مدعاة، على حساب كرامة العراقيين المنكوبين. بل وبعضهم من شارك، بهذا الشكل اوذاك، في اشاعة الدمار والقتل، والى دفع البلاد لما وصلت اليه اليوم، فراحوا يتباكون اليوم، وينتهزون الفرص، ويغنمون.

    نعم! سيتبرع الاجانب للعراقيين، حين تعرض عليهم صور الاطفال العراة، والنساء المأزومات والشيوخ المجهدين.. ولكن كل تبرعاتهم النقدية، وكذلك العينية مثل حفاضات الاطفال والبطانيات، وعلب ادوية يكاد مفعولها ان ينتهي، وحتى المدافئ البائسة، وشبيهات اخريات: لا تشبع جوعا ولا تروي عطشا، ولا تحفظ كرامة. فكل ما سيجمع – مدنياً، ومن الناس- لا يساوي غير بعض تكاليف هذه السرقة، او تلك الفعالية الحكومية، او ذلك المشروع البطر، ولن ندخل في تفاصيل ووقائع باتت معروفة، بل ومملة بسبب التكرار والاعادة، والاجترار.

     ومع ذلك، على سبيل المثال لا الحصر، ليس الا ، نقول  ان المرء ليحار حقا حين يسمع خبرا حديثاً، موثوقاً، بان العراق تبرع بثمانية وعشرين مليون دولار لمساعدة منكوبين اشقاء، عن طريق الجامعة العربية، ثم لا يكف متطوعون عراقيون من استجداء معونات لاهلهم، من مواطني، ومؤسسات مدنية في بلدان اخرى . وما علينا هنا بمن سيجادل بالتبرعات والهدايا والمعونات الحكومية، فتلكم لها ظروف واحوال وحسابات اخرى، وتقاليد دولية، متبادلة من عقود .

   ثم، وقبل ان تُمدّ الايادي والنفوس للغير والغرباء، فلتتركز الحملات بين العراقيين انفسهم اولاً، فثمة من هو قادر، واكثر، في التبرع والاعانة والغوث، لمواطنيه، ان كانت الدولة لا تقدر– حقا- في ان تغطي احتياجات المنكوبين، وتلك من مسؤولياتها الاولى، ودعونا نسمع غير ذلك، ان كان هناك من يقوى فيرد .

    لقد قالت العرب، وخير ما قالت بهذا الشأن على الاقل: "اذا ما أبتليتمْ، فأستتروا" وكم علينا ان نتوعى من مغازي هذه الحكمة المعبرة.. فلنستتر، ولا ندع المزيد من الحراجة تلفنا امام انظار العالم، حين يقولون، سراً، بل وحتى علناً بعالي الصوت: انكم تَفتون وتأدلجون وتثقفون بعيدا عن الانسانية والتحضر، وتحرقون بلدكم، وتقتلون بعضكم البعض، ثم تأتونا فتطلبون- تستجدون!- المعونة منا، وانتم من اعرق واثرى شعوب الكون .

   ترى أما شَبِعنا من اوصاف وتوصيفات أطلقت، وتطلق علينا، باننا لا نعيش في عالم اليوم، بل في قرون سالفة، اساليب ورؤى وقيماً ومواقف، ومع ذلك نروح لنساهم، متطوعين، فندفع لان يُقال عنا: هاهم العراقيون يستجدون، ويحطون من اقدار وكرامة شعبهم!!! .

    ان من يُستجدى لهم اليوم، كرام، وان شاءت لهم الاقدار والاوضاع في ما آلوا  اليه، فلا تحرجوهم بهذه الحملات المهينة، وتستجدون لهم . وعوضاً عن ذلك دعونا نعود لاصول المآسى، وجذورالكوارث، التي حلت بالبلاد، والعباد، ونستذكر، ودائماً، المتسببين بها، فكراً وتوجهات، وممارسات، ولنتنور ونتعظ، فذلك ما يجنب تكرار حالات النزوح والهجرات، والنكبات والخراب، والقتول. فبلا تنور وتنوير سيبقى الظلام محيقاً بنا من الجهات الست، وليس الاربع فقط، ولنتذكر بعض حِكم الشعوب وخلاصات العباقرة، والمتنبئين، ومما قالوه بما نحن عليه قائمون:

لا يَصلُحُ الناسُ فَوضى لا سَراةَ لَهُم، وَلا سَراةَ إِذا جُهّالُهُم سادوا

 

 

 

 

 

 

 

علــى ضفــاف السيرة، والذكريــات

القسم التاسع، والاخير

رواء الجصاني

----------------------------------------------

   ها أنت تكاد ان توشل جعبتك – ايها الرجل- من ضفافك على بعض السيرة والذكريات، وكلها جاءت تمارين لتعانق الموجَ، في فترات قادمة، سبوحاً مع التيار، كما وضده، ولتفصل، وتفيض بما عندك من شهادات ووقائع، وتجارب، عشتها، أو شيئ لك ان تعيشها، طوال عقود، مكرراً: فما تخاف وما ترجو وقد دلفت"ستون" راحت كخيل السبق تطردُ.. وفي هذه الحلقة الاخيرة، من تلكم الضفاف، فلتستدرك ما قد فاتك سهواً، أو زدْ ما تريد من إضافات، نوه اليها اعزاء في ملاحظاتهم العاجلة، ودعْ "ملاحظات" اخرى زعم اصحابها حرصاً، ولكن بئس ما زعموا !

 

13- لقاءات واحاديث مع رؤساء عراقيين وعرب واجانب

   وأول ما لديك من استدراكات واضافات لما فاتتك الاشارة اليه وانت تسيح في عواصم ومدن الدنيا، فضلا عن بغداد، الاستقبالات او اللقاءات والاحاديث الصحفية، ومابينهما، مع  أحد عشر رئيس جمهورية، وذلك خلال مشاركاتك ايها الرجل في مؤتمرات وندوات وفعاليات دولية، أوفي غمار مهامك الاعلامية، وغيرها... وهم بحسب التواريخ هذه المرة:

1- الرئيس العراقي عبد الرحمن محمد عارف- بغداد عام 1968.

2 - الرئيس السوري حافظ الاسد - دمشق عام 1982.

3– الرئيس السوفياتي، ليونيد برجنيف - موسكو 1983.

4– الرئيس التيشكوسلوفاكي،غوستاف هوساك- في براغ 1984.

5- الرئيس البلغارى تيدور جيفكوف – صوفيا عام 1985.

6– الرئيس الكوري الشمالي كيم ايل سونك- بيونغ يانغ 1989.

7 - الرئيس التشيكي فاتسلاف هافل، في براغ 1994.

8– الرئيس المصري حسني مبارك، - براغ 1997.

9- الرئيس زين العابدين بن علي- تونس عام 2004.

10- الرئيس العراقي جلال طالباني- في براغ عام 2005.

11- الرئيس التشيكي فاتسلاف كلاوس- براغ عام 2009.

 

14- وخلاف الرأي "كــــم!!" أفسد في الودّ قضية

... والتحوير في المقولة الشهيرة اعلاه واضح كما تزعم- وكم زعمت وتزعم ايها الرجل؟!- ولعلها خير مفتتح لما تريد ان تسرب من خلاله بعض ما احببته، وأشعته، من قناعات ومواقف، كنت فيها خارج السرب، وقد حققت ما ترومه من ذلك: نقدات، وانتقادات، ونقاشات، من، ومع قريبين، وبعيدين.. وما عليك بمن امتلأت قلوبهم وانفسهم بالغيظ والحسد، فراحوا يتسلقون فما وصلوا، ولكنهم ما كفوا، ولا أتعظوا بحكمة: رحم الله من عرف حده، فوقف عنده!!.

     وهكذا اجتهدتَ في الـتأكيد ومنذ عقود فرأيت بأن من يسعى ويتفيقه بنفي وجود الطائفية في العراق، ماهو إلا طائفي مقنّع، اشد ايلاماً من اولئك الذين يظهرون ميولهم ومواقفهم، الطائفية، بل وممارساتهم لها... كما اجتهدت فأثرت علناً – مزاحاً وقصداً- شعار "دور النقود في تحول الناس" فعابك البعض من  المعنيين، وأن بخفيةٍ وتلثم، ليحاولوا ان يطالوك، ولو ببعض كتابات لئيمة ..

   ثم رحت تجاهر وتشيع- ايها الرجل- وكأنك تبحث عن مشتجرٍ هنا ومعتركٍ هناك، بأن الحياة "تجريب وتمرين" وان المنكفئين وحدهم من يلعنون حظوظهم التي اوصلتهم لتلكم الحال، ناسين أو متناسين بان ليس للانسان إلا ما سعى... كما جاهرت، وما برحت، بضرورة ان يكون لكلِ موقعه ومكانته في المجتمع والحياة، بحسب "طاقته" و"قدراته"...

 

15- ومحطات اخرى في السياسة وعوالمها

     .. ولا بدّ وانتَ تختصر ربع قرن من النشاط السياسي والتنظيمي في الوطن وخارجه، بسطور معدودات، أن تسهو- ايها الرجل- عن محطات هنا واخرى هناك، دعْ عنك ما "قد" تقصدت ان تتناساه... ولعلّ ما يلحّ في ان تشير اليه، وتنويهاً على الاقل، انه عُرض عليك بعد "تقاعدك" عن العمل الحزبي، ان تعود من جديد لتنشط في هذا " التيار" أو تلك "الحركة" او ذلك "التحالف" وغيرها وغيرها من أطر وطنية وسياسية ... ولكن دون جدوى، فقد ارتأيت ألّا تكون عبئاً على احد، ولا أن يكون اخرون عبئاً عليك .

     كما ونوه مثبتاً، ودون وجل، بانك كنت وما زلتَ معتقداً بمظلومية جنوبيي العراق، وفراتييهم، النجباء، اضعاف اقرانهم في بقاع البلاد العراقية الاخرى، وكذلك كانت قناعاتك  تماماً بشأن الامة الكردية الموزعة، والمشتتة قسراً منذ عقود مديدة.

    ولتصرح أكثر وتقلْ انك رحت، ومن زمان ليس بالقصير، مؤمناً ببعض الليبرالية، وشيء من الماركسية، وآخر من الرأسمالية، بل والفوضوية حتى، نظرياتٍ وافكاراً وممارسات. ولعلّك بتَّ تمزج ما لايمزج، وتخلط المتناقضات، وربما ( ولم لا؟!) لكي تكون بعيدا عن الجمود والرتابة والتعود... وقد يكون كل ذلك بعضَ، أو كثيرَ، أنكفاء بعد انهيار تجربة الانظمة الاشتراكية في شرق ووسط اوربا..

وكفّ عن التفاصيل وخفاياها – ايها الرجل- ولا تعطِ روحاً لخاملين، وغيرهم، ولا تشفِ غليلَ من ينتظر!!.

 

16- تأرخـــة... وتوثـــيق، ومحببــات

   فاتك ، وأنت على عُجالة، وكأن الطير فوق هامتك، ان تتذكر أكثر – ايها الرجل- بعض مما احببت من كتاباتك، حسبتَ أنها، اقرب اليك من غيرها، وبعضها يعود لنحو نصف قرن، وإن كانت في نشرات حائطية، في الاعدادية المركزية، ومنها "قالوا في ليلى" جمعتها واستليتها من دواوين واجزاء الاغاني، لابي فرج الاصفهاني..وكذلك " الدراسة" التي نشرتها في صفحة الطلبة والشباب عام 1974 تحت عنوان" من اجل اتحاد راسخ لطلبة البلدان العربية" بتوقيع "ابو سمار" وهو الاسم الذي كنت تكنى به ذلك الحين، وما زال الكثير ينادونك به الى اليوم .. كما لا تغفل عن زاويتك شبه الاسبوعية في الصفحة المهنية بالجريدة الغراء ذاتها، اواخر السبعينات الماضية، وعنوانها" نقابيات" وكنت تتابع فيها، وتنتقد، وتمتدح، نشاطات العديد من المنظمات والنقابات العراقية، وتزعم ما تزعم من مفاهيمك ورؤاك في شؤون العمل الجماهيري- الديمقراطي، الذي ولعت به، وما زلت.

   ... كما تذكّر ان من بين كتاباتك التي بقيت مميزة، عندك على الاقل، في الاعوام القليلة الماضية، ما نشرته تحت عنوان "وصفي طاهر، رجل من العراق" وهو تمهيد لكتاب جامع عن ذلك الشهيد الوطني، تعمل على اتمامه خلال اشهر، لا أكثر، مثلما وعدت وتعد.. وكذلك توثيقاتك الثلاثة، المنشورة عام 2008 وعناوينها تشي بمضمونها، دون كثير عناء، وأولها وأكثرها غنى" تاريخ عراقي في ذاكرة براغ" وبعدها " أسماء وشؤون عراقية في ذاكرة موسكو" ثم الثالثة" والاخيرة " أسماء وشؤون عراقية في ذاكرة باريس"... ذلك بالاضافة طبعاً لما جاء ذكره في الحلقات السابقات، عن توثيقاتك، وشهاداتك العديدة واهمها عن الجواهري الخالد، وكتابك، الاول في مضامينه: "الجواهري ... اصداء وظلال السبعينات" الصادرعام 2001 عن "بابيلون" للاعلام والنشر في براغ .

 

17- بعض شؤون، ربما ليست مهمة!

    مرة اخرى، وأخيرة حقا هذه المرّة، تستدرك ما فاتك ان تشير اليه – ايها الرجل- في ما سبق وكتبت من هذه الضفاف على السيرة والذكريات، وصرح هنا بانك ترددت في هذه الاضافات، ولربما خشية من عفّ لسانٍ، أو احترازاً من ان تَشقى!! ومع ذلك فلتكتب انك رحت نباتيا منذ عامين ونصف، سائرا على هدى المعري في التاريخ القديم، ومحمود صبري وهادي العلوي، في التاريخ الحاضر. وجاهر بانك رحت لا تطيق حتى الجلوس على مائدة تحوي بعض "خلاصات" مجازر حيوانية، لا تعرف كيف يتلذذ بها أغلب البشر.

   كما وصرح ايضاً- ايها الرجل-  بعشقك للحياة والجمال، والمرأة رمزهما المطلق، ودون مدى، وبانكّ لم تكن باطنياً في ذلك: قناعة وتاريخاً وتجارب ومفاهيم ... وبحْ ايضاً بأنك محب ووفيّ، وبكل ما استطعت،  للاصدقاء الذين يسيرون على اربعة، واحبهم اليك الكلاب الذين جنيّت، وأولهم "بابل" فقد تصاحبتما معا طوال ستة عشر عاما، وليفارقك، وتفتقده الحياة، خريف عام 2014... وقد سبقه في تلك الحال "عنتر" الاسود الانيق. وها أنت لديك اليوم مدللاك التوأم: "بهار" و"فـلفل" الشقيّان اللذان لا تستطيع فراقهما لاكثر من ساعات قليلة فقط، وكذلك هو حالهما، كما تظنّ، وليس كل الظن اثم في عالم اليوم، وكم تحب ان تكرر هذه اللازمة التي صارت بعض كتاباتك معروفة من خلالها، وان لم توقع عليها بإسمك الصريح.. وأعترف بهذه المناسبة بأن لديك العشرات من الكتابات و"الشقشقيات" التي وقعتها باسماء مستعارة، لاسباب لم يحنْ بعد الكشف عنها !!!.

 

18- وأخيــرا....

      ها انت تودع "الضفاف" لتعِد بانك ستكون في الخضم – ايها الرجل- السبوح، لتسهب أزيد وأزيد، حتى يَملّك الناس، في تفاصيل وشهادات واحداث، لتقل انها دامت خمسين عاماَ على الاقل، كنت خلالها حريصاً، كما تحسب، في ان تتبنى "أوسط الايمان" باللسان والقول، والكتابة...

     ثم ولتجهر قبل الختام بأنك، وبرغم كل احترازاتك، تحملت ملاحظات وتقييمات، وكما "نقدات" من اعزاء، و"أعدقاء" وما بينهم، ولكنك سرت متبنياً ومتمثلاً بشاعر الامتين، حين صرح هادرا، مخاطبا معنيين، ونخباً، وما اليهم، وغيرهم :

خيرُ الشفاعة لي بأني كاشفٌ حرّ الضميرِ، وقائلٌ: هذا أنا

    كما وجدد – ايها الرجل- ما كنتَ قد ابتدأت به اولى الحلقات، من هذه الضفاف على السيرة والذكريات، بأن حب الناس كان لك، وسيبقى ، أماً وأبا...  وبانكّ عاشرت بمعروف، وسامحت من اعتدى، من غير العامدين، وفارقت بالتي هي احسن كل اولئك الذين "على ما أستفرغوا، جمدوا" ... واهدر بصوت عالٍ: سلاماً ايها الاحباب من قربوا، ومن بعدوا...

----------------------------------- في براغ – اواسط الشهرالاول من عام 2015

   

  

   

 

 

على ضفاف السيرة والذكريات

القسم الثامن

في رحاب السياسة، وميادينها

رواء الجصاني

      بعد حلقاتك السابقات، على ضفاف السيرة والذكريات، ها انت تدخل – ايها الرجل- في معمان التوثيق لمحطات ومواقف في ميادين العمل السياسي والوطني، الذي خضتها على مدى عقود، انطلاقاً وتوسطاً، وما برحت، وان " كلّ الجواد...ولم تزل تعتامهُ صبواتُ مهــر" !!

   وأما الانطلاقة فقد كانت - ولا بدّ لها ان تكون كذلك- وانتَ في وسط وعائلة واخوان، سبقك جلّهم في دخول ذلك المعترك التنويري والوطني، بذاك القدر او هذا،  والوالد "السيد جواد" أولهم، وان كان بلا تحزب، ولاغلو.... اما الوالدة "نبيهة" فيكفي أنها شقيقة وحيدة لاربعة أخوة استثنائيين، منهما اثنان أبرزان: الاول "جعفر" شهيد وثبــة كانون الثاني 1948 .. وثانيهما، االجواهري الرمز.

    اذن، فقد مرت مرحلتا الطفولة والفتوة في مثل تلكم الاجواء، ورحتَ وانت أبن ثلاثة عشر، تشتد عوداً، وخاصة وقد عشت بعض اجواء الانقلاب البعثي الاول في الثامن من شباط الاسود عام 1963 حين كنت مع الوالدة، في الايام الاولى للكارثة: صباحاً في معتقل خلف السدة، لمتابعة شأن الوالد، التربوي المتميز، المحتجز هناك...وظهراً، بعض الاحيان، في مركز شرطة الفضل، حيث مقر الحرس القومي- الفاشي، ترافق الوالدة وهي تتابع حال أخيك "صفاء" المُعتقل، والمدمى، في ذلك المصلخ البشري.

فــي الوطـــن ....  

وهكذا يتصلبُ الفتى اكثر فأكثر، ليلتحق بتنظيمات الحزب الشيوعي العراقي، صديقاً، فمرشحاً فعضواً، ولتزدد شيئا فشيئاً المواقع والمسؤوليات اهمية في معترك العمل الوطني، وتتنوع، ولربما بشكل غير معهود .

    ولتوجز من جديد – ايها الرجل- ولا تسهب أو تنسَ انك تكتب ظلالاً للسيرة والذكريات، وليس تفاصيل عنها. وقلْ ان من بين ما أشغلته من مهام نضالية وسياسية طوال عقد السبعينات: عضوا في الهيئة المسؤولة عن منظمة بغداد الطلابية، وخاصة في عهد منظمِها: الشهيد، علي حسن(ابو حيدر) .. ثم مشرفاً على تشكيلات الحزب في العديد من كليات ومعاهد جامعة بغداد، ومنها اكاديمية الفنون الجميلة، وكليات القانون والسياسة، والاداب، والادارة والاقتصاد، والزراعة، وقطاع المعاهد... وعديد آخر، واللهمَّ لا يُسجل عليك ذلك اعترافا!! فيتحفز "البواقــون" .

    ... والى جانب ما تقدم، فضفْ لا تُخفِ انك شغلت ولفترات مختلفة في العقد السبعيني ذاته: عضوية مكتب العمال المركزي، مع صادق جعفر الفلاحي، وعبد العزيز وطبان، وعبد الامير عباس، وبمسؤولية، عبد السلام الناصري . وما بين هذا وذاك، مهامك في صحيفة الحزب المركزية "طريق الشعب". وانتسابكَ في مدارس ودورات سياسية في بغداد، والخارج، ولبعض تشكيلات المكتب المهني المركزي.

... وفــي المغتــرب 

   اما بعد اللجوء الى براغ، ومع مطلع عام 1979 والى ان "تقاعدت" فقد تعددت المهام ايضا وتنوعت: سياسياً واعلامياً وتنظيمياً، وغيرها كثير. ولكن من أبرزها  مسؤولياتك في لجنة تنظيم الخارج للحزب الشيوعي، معنياً بمتابعة شؤون العمل الطلابي، الديمقراطي، في اوربا خاصة، والخارجي عموماً.. كما ومتابعتك وإشرافك على عدد من التشكيلات التنظيمية الاوربية.. ولتعترف(!) من جديد، مادام قد مرّ على ذلك اكثر من ربع قرن، ان من بين تلك البلدان التي تابعت عملها وأشرفت عليها: المانيا الاتحادية، واليونان، والدانمارك.. وعدا ذلك فلا تكشف اسرارا اكثر، فالمهام "أمانات" كما هي المجالس !!..

مـواقــف ورؤى...

... ترى وماذا عن التفاصيل العامة، عن مهامك في بغداد وبراغ، والمواقف السياسية والتنظيمية وما اليها ومعها، والنجاحات والاخفاقات، و"المناكدات" ؟؟ ولربما تلكم الشؤون هي الاهم الذي يجب ان يُنشر، او يشار اليه، ولكن فلتؤجل ذلك ايها الرجل، وبذات الذريعة: انك تكتب لمحات واصداء حاليا، وان غدا لناظره قريبُ!!! ومع ذلك فأستدرك مرة اخرى، وليست أخيرة، ونوه الى انك كنت ميالاً حيناً الى التشدد، وباقصاه، خاصة وان "ارهاصاتك" السياسية الاولى كانت مع تنظيم "القيادة المركزية" التي حُسبت على اقصى اليسار في حينها .. ثم رحت "جبهوياً" اكثر من  المطلوب حيناً آخر، وإن لفترة وجيزة، وقد يناسب هنا ان "تتعكز"على مقولات: السياسة فن الممكن، وأن التاريخ يكتبه المنتصرون...

   .. ثم ضفْ ايضا بشأن بعض الرؤى السياسية العامة، بأنك كنت متهيباً من جدوى الكفاح المسلح في الثمانينات، وإن "جاملت" ولم تصرح بذلك بصوت عال.. كما انك لم تؤمن، والى اليوم،  بان ماجرى في الرابع عشر من تموز 1958 في العراق ثورة، بل حركة عسكرية، ثم جماهيرية، ليس إلا، وقد وثقتَ تلك الرؤى في عدد من الكتابات والندوات والمجالس السياسية، علنا مع سبق الاصرار، وعلى الاقل منذ ازيد من ربع قرن .. كما انك لم ترَ، ولا ترى بأن الجيش العراقي، صاحبً امجاد وبطولات كما يعتقد، ويتغنى بذلك البعض، بل ان ذلك الجيش – وبحسب مزاعمك ومتابعاتك طبعاً- سبب آخر في تدمير البلاد والعباد طوال تسعين عاما على اقل تقدير ..

...وعن العراق الجديد

   .. وفي العقد الاخير بشكل خاص، لتشرْ – ايها الرجلُ-  ايضا الى ان ثمة  آراء ومزاعم اخرى، قد اقتنعت بها ومنها: ان دعاة المقاومة، ومدعيها، بعد عام 2003 كانوا يزيدون القتل والدمار في الوطن المبتلى، وان بعضهم: "يلغ الدماء مع الوحوشِ نهاره، ويعود في الليل، التقيّ الراهبا"... وانك اعتقدت، برؤية اخرى أثارت الكثير من النقاش، وكذلك اللغو!  خلاصتها ان تقسيم العراق الى اقاليم، خير من الاحتراب والقتل والدمار. كما ولك تصورات عديدة اخرى"خارج السرب" عن مدى فائدة الديمقراطية لبلد تعمّ الامية فيه مثل العراق، وكلا الموقفين، والرأيين السابقين- اللذين افسدا، وما زالا للود قضية!- منشوران على مواقع اعلامية عديدة، الاول في الشهر الاول من عام 2014  تحت عنوان  " من اجل ألانسان، وانهاء الدمار: فلتقسم البلاد العراقية، ويُعاد توحيدها.  ولم لا ؟؟؟" . والثاني بعنوان "لاسباب عديدة، ومنها قطع الطريق على الارهابيين... فلتؤجل الانتخابات، بل وتلغى ايضا" ونُشر في آذار2014  ...

      كما وزدْ معلومات أخرى، ودعْ الناس بين مؤيد ومختلف، حولك وضدك، فتلكم سنّة الحياة، ولا تكن مثل البعض "توسط كاللبنِ الخاثرِ" وقلْ: انك لم تؤمن منذ البدء بما صفق له الآخرون، وتعني "الربيع العربي" مطلع العام 2011... وانك رحت تؤمن بيسار عريض، لا احزاب "ثورية" من طرازات قديمة، مع كل التبجيل لما قامت به من تجديد، وما زالت. ..واخيراُ في هذا السياق فلتفجر مجدداً "قنبلتك" غير المتوقعة من كثيرين، ألا وهي انك ترى في "تحصيص" السلطات والادارات في العراق الجديد، طريقاً مناسباً، وموضوعياً ضمن ظروف البلاد وتاريخها وجغرافيتها وتطور مجتمعها، وثقافته ووعيه الجمعي. 

    ولمزيد من التأرخة، فلتكشف هنا، لمن يهمه الامر، وحتى لمن لا يهمه- وما عليك بالمتربصين وأعوانهم- انك قد صرحت  وتداولت – ايها الرجل-  في كل تلكم الشؤون، وغيرها، مع مسؤولين وسياسيين ورسميين، بارزين، في القيادات الجديدة لعراق ما بعد الدكتاتورية، ومن ابرزهم: جلال الطالباني، وحيدر العبادي، وحميد مجيد موسى، واسامة النجيفي، والسيد عمار الحكيم، ومحمود المشهداني، وهادي العامري، وهوشيار زيباري، وحسين الشهرستاني ... وجمع محترم آخر، وذلك في لقاءات ومناسبات مختلفة، وبكل مصارحة وووضوح.

      ولتكتفِ هنا – مؤقتاً- ولتتابع عن وقائع ومحطات اخرى تالياً عن بعض خصوصيات و"أسرار" ذات صلة !!!

------------------------------------------ يتبع

 

 

 

على ضفاف السيرة والذكريات

القسم السادس

شــؤون ومحطات ثقافيــة

رواء الجصاني

--------------------------------------

عن مركز الجواهــري

    عادة ما يكتب المعنيون، والموثقون، سيرهم وذكرياتهم، منطلقين من البدايات، وها أنت تقلب الآية – ايها الرجل- فتكتب من الآواخر، وتبتدئ  بها، فهي أعز عندك، وعليك، حصاد عمر زاهٍ .. وتعني بذلك تأسيسك لمركز الجواهري الثقافي في براغ، منبراً متفرداً، للعناية بتراث وأرث الشاعر العظيم .

   ولتتباهَ من جديد،  بأنك كنت بمفردك وراء الفكرة والانطلاقة، والمتابعة، ومنذ عام 2000 وما برحتَ، والى اليوم. ولا تنسَ قضية التمويل، ولتصرحْ بان كل ما عندك من مال (وهل لديك منه اصلاً!!) قد وُهب لمشروع العمر، وكم شمخت، وتشمخ  اكثر، حين تسجل للتاريخ هنا، بأن لا احد، لا من الاقربين ولا من الابعدين، قد ساهـم بدعم مادي لهذا المنبر الذي علا ويعلو صوته وعطاؤه كل يوم ويوم، ولا حاجة لك بهم، سوى ان يكفوا عنك، حسدا، على الاقل.. ولكن فلتستدرك هنا، وتذكر بالحسنى، وعلى الاقل ايضا: نسرين وصفي طاهر وعدنان الاعسم، اللذين استمرا وحيديّن خارج السرب، مشاركيّن في الجهد  التحريري والكتابي، والتنفيذي لمركز الجواهري ذي الصيت والصوت.. وكذلك هي حال  المستعرب، والمترجم  التشيكي المتميز، الفقيد يارومير هايسكي. اما مؤسسة بابيلون للاعلام فقد كانت وما زالت من يحتضن المركز، موقعا وادارة ومتطلبات اخرى ..

   ... ثم توقف ايها الرجل، وترجل، ولا تأخذ الناس بالمديح والعموميات، وسجل ولو قليلاً عن بعض ما قمت به، والمركز من نشاطات، ولتعدد وحسب ان من بينها، ودون تسلسل زمني حالياً :

الشروع بتوثيق نحو اربعة الاف ورقة ورسالة، وصورة، للجواهري، لا نسخ اصلية لها سوى في المركز.

اتمام 85 حلقة عن الشاعر الخالد تحت عنوان " الجواهري ... ايقاعات ورؤى" بُثت في اعوام 2009-2011 من اذاعة  "العراق الحــر" في براغ .

نشر 50 حلقة اسبوعية عن الجواهري في صحيفة "التآخــي" البغدادية عامي2007-2008 .

المساهمة في مسلسلات وبرامج توثيقية خاصة عن الجواهري، والمشاركة المباشرة فيها، لفضائيات عديدة من بينها: السومرية، الجزيرة، المستقلة، والشرقية.

انجاز كتاب تحت عنوان" الجواهري، قصائد وتاريخ ومواقف " بالتعاون مع كفاح الجواهري، النجل الثالث للشاعر العظيم.

- إتمام فعالية استذكار باهرة في براغ، بشهادة الجميع، بمناسبة مرورعشرة اعوام على رحيل الجواهري الخالد، ومن ابرز الذين شاركوا فيها: المبدعان الألِقان: عبد الكريم كاصد، وعباس الكاظم، والمستعربان التشيكيان القديران: ياروسلاف اوليفريوس، وليبوش غروباتشيك.

... اما الابرز من كل هذه وتلك من انجازاتك – ايها الرجل- وبأسم المركز، فهما قضيتان حظيتا، وتحظيان، لدى المتابعين، وممن يهمهم الامر حقاً، لا ادعاء. أولاهما انقاذ البيت، المُلك، الاول والاخير، للجواهري في العراق ( بغداد - حي القادسية ) من البيع، والهدم لاقامة مشروع تجاري مكانه. وبمبادرتك التاريخية وما ترتب عليها، وبتضامن المحبين، مثقفين وشعراء وفنانين وشخصيات عامة، قررت أمانة بغداد عام 2010 استملاك البيت، واعتباره مبنى تراثياً، وسلمت بدله المالي نقدا الى الورثة، من بنات وأبناء الشاعر الخالد، اواخر العام 2011. 

    اما القضية الثانية، والمعنوية هذه المرة، فهي قيامك – ايها الرجل الموثق- باختيار وتنسيق ابيات من شعر الجواهري الخالد، لتقدمها مشروع نشيد وطني، وطني، للعراق الجديد، وقد اتفقت اللجنة المعنية في البرلمان العراقي – او كادت – على اختيار ذلك النص بعد تداولات ومشاورات طويلة، واخرها عام 2013 وما برح الامر تحت وصاية البرلمان الجديد..

   وخلاصة لهذه المحطة من ضفاف الذكريات والسيرة، فلتقل – ايها الرجل- كم ثمة تفاصيل اخرى، جميلة ومؤلمة في آن، حول مركز" الجواهري" ببراغ، ومؤكدٌ إن وقت البوح بها سيحين، ولو تأخر، فالتاريخ شاهد حق، عزوف عن الصمت !!!.

 في اجواء الثقافة والمثقفين

      والان فلتعد الى بعض لمحات خاطفة عن شؤون ثقافية لها علاقة بك، ولك علاقة بها – ايها الرجل- طوال عقود، ابتداء من انغمارك هاوياً في الكتابة والصحافة، ولا تكرر ما تطرقت اليه في حلقات سابقة من هذه الضفاف على السيرة والذكريات. ولكن لا بأس ان تستطرد قليلاً فتشير الى مكتبتيك التى فيهما ما فيهما من اصدارات ومؤلفات ومخطوطات ومجلدات، واحدة اينعتها في بغداد وحتى الاغتراب اواخر العام 1978  الى براغ، حيث اينعت فيها ايضا مكتبة يكفي ان تقول عنها انها الاولى والاخيرة في بلاد التشيك، لما تضمه من كتب واهداءات ونوادر المحتويات.. وكم شغل بالك- ويشغله- الى من ستؤول تينك المكتبتان، بعد ان يطول بك العمر !!!!.

      وما دام الحديث سالكا في الشأن الثقافي والادبي، فأتعب الناس من جديد- ايها الرجل-  و"أضجرهم"  بالحديث عن "شقشقياتك" الشعرية، في تلكم الايام والليالي، من تلكم الاعوام، ولا تسترسل، وتذكر ما قاله الجواهري في احدى حالاته: "أني اخاف عليّ بعض شهودهنّه"...  كما تذكر عموم كتاباتك وتوثيقاتك ذات الشأن الثقافي، ومشاركاتك في العديد من الفعاليات ذات الصلة، عامة وخاصة، ومن اهمها على ما تزعم، احتفائية اربيل عام 2000 بذكرى مئوية الجواهري مع كتاب وشعراء وفنانين وسياسيين بارزين، ولعل ما يغطي بعض شؤوون تلكم الفعالية المهيبة، ما قد نشرته في صحيفة الزمان اللندنية، ثم وعلى مواقع اعلامية عديدة، تحت عنوان " حين احتفل الكرد بمئوية شاعر العرب الاكبر" بعيد ايام من اتمام الحدث.

     كما ولتؤرخ هنا ايضا- ايها الرجل- عن مشاركاتك في العديد من فعاليات رابطة الكتاب والصحفيين والفنانين العراقيين في اوربا،  والخارج، خلال عقد الثمانينات، ومنها رئاسة فرع تلك الرابطة في  تشيكوسلوفاكيا، عام 1988 والتي ضمت هيئته الادارية:حسين العامل وقيس قاسم ورزكار محمد.. ولتشرْ ايضا الى مشاركتك مع عبد الاله النعيمي، وحميد برتو،  في ملتقى  الرابطة الاوربي في برلين عام 1989 وكذلك في عدد من اجتماعاتها التنظيمية الاخرى مع نخبة من المعنيين، صحفيين وكتاباً وفنانين .. ولا تفوتك ان تؤرخ ايضا  فتتذكر ان من بين اعضاء  فرع الرابطة ببراغ، وداعميها، الراحلون الاعزاء: اضافة الى زكي خيري ومحمود صبري: شمران الياسري وقادر ديلان وعادل مصري ومحمود البياتي، ومصطفى عبود ...  والحح، وشرْ، ان من بين نشاطاتك الحيوية في  الرابطة ، ببراغ، اواخر الثمانينات الماضية، تنظيم وادارة ندوة مهيبة وسط براغ تحدث خلالها المفكر والرائد الكبير محمود صبري عن نظريته "واقعية الكم" وشارك فيها مفيد الجزائري، وبحضور جمهور غفير ندر ان تجمّع في مثل تلك الفعاليات. كما  تحدث عن اصدار نشرة "مرافئ" التي "هيمن" عليها لاحقا صادق الصايغ، ليحولها من براغية محلية، الى صوت اوربي، اضافي، للرابطة. وقد استقطبت اهتماماً لافتاً لما كانت عليه اعدادها من فحوى وشكل، تميزا بجهد حريص ..

     ولتتـــوقف هنا،  وتتباهى مجددا – أما شبعــت من التباهي ايها الرجل ؟!-  بعلاقات وثقى زاهية مع عشرات المثقفين والشعراء والفنانين، العراقيين الباهرين.. وأذا ما فات عليك استذكار لمحات ومحطات ثقافية "مهمة" اخرى، فما عليك ألا و تستدرك ذلك في حلقة قادمة، ما دمت قد أزمعت ان توثق جملة من الاضافات، تشمل مالم تسعف به الذاكرة، فتشملها حلقات هذه الضفاف على السيرة والذكريات.

-------------------------------------------------------------- يتبع 

 

 

 

 

علــى ضفــاف السيرة، والذكريــات

 

القسم الخامس

 

قيـمٌ، وعلاقات وصداقات، وما بينهما

 

رواء الجصاني

 

   "ذهـــب الناسُ من الدنيا بِمُلْـــكٍ ونعيــمِ، وذهبنا نحــن بـ"التاريخ" والذوقِ السليـــمِ" ..هكذا تكاد ان تنطبق المقولة الجواهرية عليك – ايها الرجل- فها أنت في احلى العمر! ولكنك خالي الوفاض من "ارصدة" و"اطيان" ولا تدري هل تفرح بتلك الحال، ام تنكفأ؟ ولا تقل تحزن لأن لديك  في دنياك علاقات وثـقى، تزهو بها، وبيادر محبة تبادلتها مع الناس، اصدقاء ومعارف وغيرهم. فلتصدح إذن، مقلداً الخالد العظيم: حببت الناس كل الناس، من أظلمَ كالفحم ومن اشرق كالماس.

   ... وأفصحْ ايضا بأنك كنت، وما زلتَ - وتأمل ان تبقى- ترى من صميم الخلق السويم، الوفاء والاخلاص، وان جحد "البعض" ! فهكذا جُبلت بيتاً وعائلة وبيئة، وظروفاً وحياة... والآن كفْ عن المديح، ولا تنس ان ثمة من سيقول لك "من مدح نفسه ذمها" ولو انك لا تؤمن بذلك، ولك مبرراتك..  وتساءل مع نفسك –ايها الرجل- قبل الاخرين: هل ثمة رصيد ارفع واسمى من تكون مقرباً أول للجواهري، ولمحمود صبري؟ وان تكون لك صلات مودة وعلاقات خاصة متميزة مع عشرات باهرين - وقل مئات ولا تخفْ-  جلهم أوفياء، رفاقاً وزملاء ومعارف واصدقاء واحباء.. وقد امتدت بل وترسخت تلكم العلاقات، ولم يفسدها خلاف الرأي، الا في حالات محدودة، والاستثناء يثبت القاعدة، أو ليس كذلك ؟!.

    وما دام السرد قد بدأ، ولأنك متعدد الاهتمامات والانشغالات في حياتك العامة والعملية – ايها الرجل- فذلك هو رصيد علاقاتك وصداقاتك، متنوع هو الاخر، ومتوزع ومتشابك بين مثقفين وسياسيين متميزين، كما مع عشرات الادباء والشعراء والفنانين والاكاديميين والصحفيين، وزملاء ورفاق درب ونضال، ودراسة ومهنة، وطفولة وفتوة وشباب، في البلاد، ومختلف ارجاء المعمورة ... واعتذر منهم هنا من جديد، لأنك تبتعد عن التصريح، وإن عزّ عليك ذلك، لأنك عمدتَ في مجمل ضفاف سيرتك وذكرياتك، ألا تسجل اسماء الاحباء طالت اعمارهم، كي تبعد احتمال ان تنسى  احداً او "تزعل" آخر في التقديم والتأخير، ولكي لا تفسح مجالا لمن يريد ان يتصيّد من اولئك الراصدين الخالين من همِ وشغل..

   كما لا تتردد – ايها الرجلُ- إحترازاً من "حسد" هنا، او "تقول" هناك، فقد "تدبّغَ" جلدك من اولئك المتربصين، ورحْ وسجل امثلة وحسب، لمزيد من التوثيق والامعان في "التباهي" بأن من بين من تعتز، وتزهو بالعلاقة الوطيدة معهم، اولئك المنورين الذين كم استضافتهم شقتـك الصغيرة  في براغ، وخلال فترة زمنية محدودة ليس الا، ولمرات عديدة، مجتمعين تارة، ومنفردين تارة اخرى، كالجواهري وثابت حبيب ورحيم عجينة وزكي خيري وشمران الياسري"ابو كاطع" وصالح دكلة وعادل مصري وعامرعبد الله، ومحمد حسين الاعرجي، ومحمود صبري، ومحمود البياتي، ونزار ناجي ... ولمن لم ينتبه، نوّه الى ان تسلسل الاسماء السابقة جاء بحسب حروف الابجدية العربية.

  ... وعن الاصدقاء والاحباء الذين طرزوا ارض الوطن، شهداء خالدين، فلا شك ان لهم سجل ذهبي، أنار– وسيبقى ينير- كل العراق، وأستذكارهم شرف لمن يوثق عن ذلك، فهم الذين يُشرفون، ولتتشرف – ايها الرجل- وتعدْ بأنك تتحفز لأن يكون لهم موقعهم الأميز، في المؤجل الارحب من تفاصيل ذكرياتك الموعودة، ولهم الفضل في ذلك، وليس لك ..

... وإذ قررت ان تؤجل الحديث عن الأهل والاقارب من أسرتي: الجصاني والجواهري، وغيرهما، في هذه المرحلة من "ضفاف السيرة والذكريات" .. فلتتذكر- ايها الرجل- بل وحذارِ ان يغلبك النسيان، علاقاتك وصلاتك مع احباء واصدقاء وزملاء ومعارف متميزين، فقدتهم الحياة مثل: حسين العامل وحميد المحل وجميل منير، وصفاء الحافظ، وطارق شريف، وعادل الربيعي، وعطا الخطيب، وعمر بوتاني، وغائب طعمة فرمان، وفؤاد سالم، وفراس الحمداني،  وكمال السيد، ومحمد سعيد الصكار، ومصطفى الدوغجي، ومصطفى جمال الدين، ومصطفى عبود، وموسى اسد، وهادي العلوي، ويوسف الصايغ، ونمير حنا.. وجمع عزيز كثير اخر، ممن تعرفت عليهم، وامضيت اوقات ثمينة، حافلة معهم، طالت أوقصُرت، ومن بينهم من جاءت الاشارة اليه في المحطات التي سبقت، او لحقت، في الاجزاء الاخرى من هذه الذكريات والسيرة..

   اما عن الاصدقاء والمعارف العرب، ممن قامت، او توطدت العلاقات معهم، فلهم سجل زاه ايضاً، منهم من تشاركت معه في مؤتمرات وندوات عربية وعالمية في مختلف عواصم ومدن الدنيا، ومن هم في أطر السياسة وفعاليتها، وعديد آخر في مجالس ومناسبات مختلفة، شيئ لك – ايها الرجل الموثق- ان تكون حاضرا فيها معهم، وبينهم ...

   ترى هل أوفيت الحديث والاستذكار والتسجيل في هذه المحطات من ضفاف هذه الذكريات، والسيرة؟ ستكون غير وفيّ أو أمين لو اجبت ايجاباً. فالصداقة والصلات الانسانية لديك – ايها الرجل- مبادئ ومفاهيم وقيم تبنيتها عن قناعة بكونها الرصيد الاسمى للمرء في الحياة، وكمْ تعجبتَ، وتتعجب، وستبقى، من قدرة العيش دون الناس مهما كانوا، فكيف بالاقربين والابعدين؟ كما وكمْ وكمْ أعبتَ على أولئك الذين إنكفأوا فأبتعدوا - ومهما كانت المبررات- عن العيش دون حلاوة العلاقات الاجتماعية، وإن ترتبت عليها او بسببها مرارات أو اخرى، ولقد اصابك منها ما اصابك، ولكنك كنت تروح تهدئ النفس بحكمة ملهمك:

سامح القوم انتصافاً، وأختلق منك اعتذارا

علّهم مثلك في مفترق الدرب حيــارى!!!

  وبالمناسبة فقد كان الجواهري العظيم يكرر، عندما كنت "اناكده" حين يسمح مزاجه، بأن له أعداء كثيرون، فيقول: من ليس له اعداء، لا اصدقاء له... ولقد عشت – ايها الرجل – عديدا من تلك الحالات، فتلقفك المتصيدون، وكم كنت اكثر لؤما منهم!! حين صفحتَ عنهم فراحوا يلمسون ما صنعوا، دون ان يدروا، او يدرون ولا يفقهون. وهكذا هي سنة الحياة، ولاسيما من شاءت له الاقدار، وشاء هو نفسه، ان يكون في عوالم الحياة العامة، متجاوزاً الذاتيات جهد ما استطاع. ولتزعم هنا من جديد – ايها الرجل- بأنك قد تعمدت وسعيت، وسلكت الطريق الاجهد، ولعل في باطن سريرتك تقول: إن الحياة معاناةٌ، وتضحيةٌ، حبّ السلامة فيها أرذل السبلِ...

---------------------------------------- يتبع  

 

 

 

 

 

 

علــى ضفــاف السيرة، والذكريــات

 

القسم الرابع

 

رواء الجصاني

 

6- خمسة عقود مع الجواهــري

   هاهي ظلال جديدة على ضفاف السيرة والذكريات، ولانها شاملة هذه المرة، متنوعة المحطات واللمحات ، فسهل الامر عليك - ايها الرجل- وعلى الذين يقرأون لك، وأنثر التوثيق على ثلاثة محاور زمنية، وان تداخلت، وتحدثْ مااسطعت ايجازاً، عن تلكم العقود الخمسة مع الجواهري العظيم، مابين ولادتك عام 1949 ورحيله الى الخلود عام 1997... وقد كان، ويبقــى: خالاً وانساناً وعبقرياً، متفردأً في غير زمانه، ومكانه وأهله، كما قيلَ ويقال!!!. وأسبق، وقلْ بانك لن توفي في هذه العجالة الا ببعض يسير مما عندك، فقد كتبت ونشرت نحو مئتي مادة وحادثة وشهادة، وما زالت الجعبة والذاكرة تفيض بالكثير الكثير:

فـي بغـــــداد... 

   تفتح عينيك على الدنيا، وانت في بيت وعائلة، بل ومجتمع، تنضح احداثها وتفيض، وتغرق بالجواهري ... وتستذكر، كالطيف احياناً، ما اختزنته الذاكرة من عقود ستة، واكثر: جلسات ليلية شبه يومية، واحاديث ووقائع وطنية وسياسية، واجواء ثقافية وصحفية واجتماعية، وغيرها، متشابكة دون حدود .... وكذلك سفرات عائلية منها الى النجف حيث منبت العروق، والى علي الغربي، حيث الجواهري "مزارعاً" و"متزوجاً"  حديثاً.. كما والى دمشق، التي لجأ اليها مخلفاً "غاشية الخنوع" وراءه ...

    ثم تتذكرـ وأنت أبن ثمانِ ونيف، الجواهري ذا الرئاستين، بعد قيام الجمهورية الاولى عام 1958 لاتحاد الادباء، ومجلس نقابة الصحفيين... وخلافاته مع رئيس الوزراء الزعيم عبد الكريم قاسم، والتي اضطر بسببها للاغتراب الى براغ عام 1961 وبعد ذلك عودته لبغداد بعد سبع سنوات "خالها سبعين لا كدراً، لكن لحاجتها القصوى الى الكدر" بحسب قوله. كما تذكر ليلة العودة، وانت والعائلة تستقبلونه في مطار بغداد مع جماهير غفيرة، ومن المطار الى البيت الذي استأجره له نجله "فلاح" في منطقة الداوودي، قرب بيتكم، ولا تفصل بين البيتين سوى مائتي متر لا اكثر .. وبمناسبة الحديث عن البيوت، وثقْ هنا، عسى ان ينفع التوثيق، انك – ايها الرجل - قد ساهمت عام 1970 في التخطيط الاولي لخارطة دارته الاولى والاخيرة للجواهري، ملكاً صرفاً، في العراق، باعتبارك مهندساً، ولم يكن قد مرّ على تخرجك غير أشهر قليلة ..

   ... ثم تبدأ سنوات السبعينات، والشاعر الخالد يتناصف الاقامة خلالها بين بغداد، وبراغ، وفي تلك الفترة ما فيها من وقائع حلوة ومرة، وشؤون وشجون، واستثناءات، ولعلك قد وُفقتَ في تغطيتها، بقدر ما، في كتابك الموسوم" الجوهري: اصداء وظلال السبعينات" الصادرعام 2001 في براغ، عن دار "بابيلون" وتوزيع مؤسسة المدى الدمشقية، آنئذِ ...

... وفـي بــراغ

   مع أواخر العام 1978 تنتقل اقامتك – ايها الرجل- الى براغ لاسباب سياسية، وملاحقات امنية، كما وردت – وترد-  بعض تفاصيلها في هذه "الضفاف على السيرة والذكريات".. وقد سكنت في "شقيّقــة" الجواهري لبضعة اشهر، اولاً، حتى توفرَ لك "ملاذ آمن" في عاصمة بلاد التشيك، التي يعود اليها الجواهري يحمل "منقارا واجنحة" ليس الا، ليستقر مغترِباً من جديد، وحتى رحيله في دمشق عام 1991 فيعطر متربتها هناك عام 1997 والى اليوم..

  وعلى مدى أثني عشر عاما في براغ (1979-1991) كانت اللقاءات مع الجواهري الخالد، يومية تقريباً، ومن برامجها ما يمكن الافصاح عنه، وقسم اخر يندرج تحت مقولة "للمجالس أمانات" !!! ومع ذلك فتلك كتاباتك المنشورة عن حقبة الثمانينات الجواهرية تغطي مساحات توثيقية واسعة، وتنقل وقائع وشهادات، إزعمْ – ايها الرجل- بأنها تسمن من جوع، وظمأ التواقين للتعرف على بعض تراث وأرث الشاعر العظيم، وصرح علناً: بانك الوحيد الذي  عايش، وسجلّ، ونشرَ عن تلك الفترة الزمنية، المليئة بالاحداث، الادبية والسياسية والوطنية، والاجتماعية...

   كما ووثق بانك كنت طوال تلكم السنوات الاثنتي عشرة: المؤتمن الاقرب للشاعر العظيم على "اسراره" وخصوصياته، وأتراحه وأفراحه، وحتى على بعض دوافع قصائده في تلك الفترة، وانطلاقة كتابة مذكراته... وكم كنت وكنت!! ثم  ندمت بعد فوات الاوان، لأنك لم تقضِ وقتاً  اطول واطول مما قضيته معه، وكم حذرك الخال العبقري، مزاحاً وجدية، من ذلك الامر، ولكنك ما طاوعتَ وفضلت نشاطك السياسي، و"الخاص"!!! في احيان كثيرة على ان تكون معه..

... وفــي دمشــق

  توزعت جلّ ثمانينات الجواهري، تقريبا، كما هو معروف للمتابعين، بين براغ، جنة الخلد التي "اطالت الشوط من عمره" ودمشق "التي احبها لا زلفى ولا ملقا"...وقد شاركته – ايها الرجل-  تلك الحال، بقدر وشكل، أو آخر.. فقد كانت سوريا وطنا اضافياً تحضّنك لأكثر من ثلاثة عقود، وتحديدا للفترة 1979-2010... زائرا ومعارضاً وناشطاً جماهيرياً ولمرات عديدة في العام الواحد، وفي جميعها، او اغلبها الأعظم، مقيماً في دارة الجواهري، والعائلة، بدمشق ..

   وهكذا كتبت – ايها الرجل- تفاصيل لا عدّ لها في توثيقك الموسع، الموسوم:" مع الجواهري في دمشق" المنشور عام 2013 في صحف ومواقع اعلامية عديدة، وفيه ما فيه من ذكريات ووقائع واحداث. ومن شذرات ذلك التوثيق، شئ عن مجالس الجواهري، وضيوفه وخصوماته، وعائلياته، وليلياته، ومشاركتك في اختيار" العيون من اشعاره" عام 1985والاعداد الاولي لتحرير جزأي ذكرياته عامي 1989-1990 وعن نكبتيه برحيل زوجته" آمنة" عام 1992 وقبلها رحيل اخته "نبيهة" عام 1987...وغيرها وغيرها، وحتى تموز1997حين نال منه الموت اللئيم- الذئب- الذي بقي يطارده عقوداً، وفوق نيوبه دم اخوته، واحبته، وصحابه ...

   كما وتذكرْ هنا – ايها الرجل- جلسات ما بعد منتصف الليل، حين تنفرج الاسرار والاسارير، وينحسر الستار عن الكلام المباح، وغير المباح، وتشتد المناكدات، ويُصرحُ بالتقيمات للاشخاص والاطر والاحداث والوقائع...  وتوقف هنا، وعدْ لمقولة: ان للمجالس امانات، وقِ المؤمنين، وغيرهم، شرور القتال، فما عاد في المقدور مزيدا من قدرة التحمل والجدال، وخاصة مع اولئك الذين لا يستحقون المنازلات!!!... اما المخلصون ممن يهمهم حب التنوير والثقافة والادب، والسياسة، والجميل غير الممل، فدلّهم -ايها الموثق- الى نحو سبعين شهادة وواقعة أرختَ لها تحت عنوان" مع الجواهري بعيدا عن السياسة والادب" نشرت على عدة حلقات ربيع العام 2014 في عشرات الصحف والمواقع الاعلامية، وغيرها ....

-------------------------------------------------------------

7- في عواصم ومــدن العالـــم

  بين مشاركات في مؤتمرات ومهرجانات وندوات وغيرها، كما للسياحة وإن قلّت، قُدر لك – ايها الرجل- ان ترى وتزور وتقيم في حوالي ثمانين عاصمة ومدينة، متوزعات في اكثر من ثلاثين بلدا، في مختلف انحاء المعمورة، واحياناً لاكثر من مرة ومرة .. فمن نيويورك الى بيونغ يانغ، ومن مراكش الى عدن، والى اثينا وروما وموسكو ولندن والقاهرة، وطهران واسطنبول.... توزعت تلكم المدن والعواصم التي رأيت. اما دمشق وبلاد الشام، فتغنّ، وأحزنْ، وحدثْ، عن عدد مرات زياراتك لها، فلها الكأس المعلى، والى اليوم "وإن كُسيت على رغم دخانا" ...

    ولعلك لا تبالغ ان أطربتَ – او أضجرتَ- قراءك ان قلت بان لك في كل مدينة وعاصمة ذكريات وذكريات، ما برح الكثير منها تطرز الروح، عاطفة ووجداناً، باحباء واصدقاء، وزملاء، ومعارف، وقبلهم: صديقات وزميلات، باهرات منورات... كما ووقائع واحداث، اجتماعية وسياسية وثقافية، وغيرها !!! وإحذر! فان افضت اكثر فستكون"سيرة وذكريات" شاملة، وليست"ضفافاً" لهذه وتلك، كما زعمت في العنوان الرئيس لهذا التوثيق، وصفهُ بالممتع، وأن زعم الدعاة بغير ذلك .

   ولكي "تملّح" ما أشرت اليه، نوه على الاقل، الى بعض وقائع حدثت لك – ايها الرجل-  في عدد من تلكم العواصم والمدن، ومن بينها حين حجز المضيفون اليمنيون الجنوبيون عام 1980 لك، ولحميد مجيد موسى"ابو داوود" وعبد الاله النعيمي، للسفر بالطائرة الى صوفيا، من عدن، التي كنتم في وفد رسمي اليها.. والى الان لاشئ غير طبيعي، ولكن الدهشة انك  اكتشفت، وبالصدفة فقط، وعشية بدء الرحلة، ان مسار طائرة العودة  يشمل التوقف ساعة" ترانزيت" في مطار بغداد، المحتل آنذاك من عصابات النظام الارهابي!!! وقد الغينا السفر، بالطبع، وإلا فكمْ كانت "اللقمة" مغرية لتلك العصابات، بأن يصيدوا ثلاثة مطلوبين بامتياز، جاؤوا اليهم بأرجلهم، وإن كانوا عبر الطائرة !!!... 

   وعلى اية حال فلتزدْ خلاصاتٍ ولتقل: ان كل تلكم المدن والعواصم التي زرتها، وفرت لك المزيد من الاطلاع، والمعلومات، وبمديات مختلفة، على صعيد المعرفة، والتاريخ والجغرافيا، والثقافات المتنوعة..واكتفِ هنا، وعلى ان تعود للمزيد في كتابات تالية، وأحسبْ ان جميع ما أشرت له في السطور السابقات رؤوس اقلام، لتفاصيل قادمة ...

 ----------------------------- يتبع 

 

 

 

 

علــى ضفــاف السيرة، والذكريــات ...(3)

 

رواء الجصاني

ربع قرن في حركة طلابية مجيدة

   تحت العنوان اعلاه، وبمناسبة الذكرى الستين لمؤتمر السباع  الطلابي الشهير، ببغداد، نشرتَ – ايها الرجل - توثيقا مفصلاً عن بداياتك الطلابية، نشاطا ونضالاً، وحتى عام 1989 حين "تقاعدت" ... وها انت تحاول من جديد  ان تجمع شتات السيرة والذكريات، فماذا ستكتب هذه المرة،؟ 

  ... هل ستفصل اكثر عن مواقف ونجاحات وشجون، ام ستخشى- وماذا تخشى اصلاً ؟- من هذا وذاك؟ .. هل ستتحدث بصراحة؟ ام ستركنها لفترة قادمة، وتتحجج من جديد بأنك توثق "ضفافاً" وحسب لسيرة وذكريات، وليس كل "السيرة" وكل "الذكريات" !!... ومع ذلك فلتتمرن، ولتضف بعض محطات من هنا ومن هناك في مسار ربع قرن، من العمل والنشاط الطلابي .

    قلْ، مثلا، انك تفخر بمشاركتك في ذلكم النضال الطلابي المتشابك مع النضال الوطني، في حركة، وتنظيم، واطار، اتحاد الطلبة العام، والذي كان، وما برح، شعاره الاساس ينضح بذلك التشابك، ونصه:"من اجل حياة طلابية حرة... ومستقبل افضل" ... ثم زدْ وبارك، كما يقول المؤمنون: ان ذلك الاتحاد الطلابي العتيد، مدرسة وتاريخ لجحافل مناضلين من اجل الغد الافضل، منهم من أُستشهد، وخلدَ، ومنهم من سجن وعذب وتحمل ما تحمل، ولم يحد عن الدرب... كما وأشِرْ على الاقل- ايها الرجل الموثق- وحتى دون اسماء في هذه المرحلة: ان مدرسة "اتحاد الطلبة العام" خرجت العشرات من القيادات والنشطاء البارزين، في الحركة الوطنية العراقية، وعلى مدى اعوام، بل وعقود، ومنهم الى اليوم، يجوبون ارجاء العراق شمالاً ووسطاً وجنوبا ..

   ثم، سجل، وتباهَ  مرة اخرى - ولم لا؟ - ان مهامك ونشاطاتك الطلابية - الوطنية تنوعت وتعددت، لتشمل الاعلام والتنظيم مرة، والعلاقات العربية والعالمية مرة اخرى... ومرر – ايها الرجل –  ان من بين هذه وتلك المهام التي تشرفت بها، اشغالك عضوية سكرتارية الاتحاد مطلع السبعينات الماضية، وخوض الانتخابات الطلابية عام 1970 "متزعماً"  قائمة الاتحاد، في معهد الهندسة العالي ببغداد، ثم شغلت عضوية اللجنة التنفيذية لرابطة الطلبة العراقيين في الاتحاد السوفياتي عام 1972  ثم عدت لبغداد عام 1973 لتعود الى سكرتارية الاتحاد، ولتشرف على صفحة الطلبة والشباب في جريدة "طريق الشعب" المناضلة المعطاء، وحتى عام 1976...

   كما واكمل تباهيك، مادمت قد بدأت به - ايها الرجل المتباهي بنضال وعطاء- ووثق انك كُلفت في براغ، وانتخبتَ سكرتيراً عاماً للجنة التنسيق للجمعيات والروابط الطلابية العراقية (الديمقراطية) خارج الوطن للاعوام 1980- 1985.. وفي نفس الفترة: تسنمت مهام التمثيل الخارجي لاتحاد الطلبة العام، ومندوبه لدى سكرتارية اتحاد الطلاب العالمي، ومقرها في العاصمة التشيكية براغ  ... وضف بكل ثقة واعتزاز ان تلكم الجمعيات والروابط، وهي فروع الاتحاد في الخارج، تحملت في مسارات نضالها مسؤوليات اساسية في حملات التضامن الجماهيرية، مع كفاح طلبة وشعب العراق، ضد الارهاب والقمع البعثيين، وخاصة في الفترة 1979- 2003  .. ومرة اخرى ذكّر من يريد تفاصيل اكثر، بالعودة الى ما نشرته في توثيقك ذي الصلة عام 2011 تحت عنوان "جمعيات وروابط الطلبة العراقيين خارج الوطن، ربع قرن ضد الدكتاتورية والارهاب" والمنشور على عشرات المواقع الاعلامية.

------------------------------------------------

نساء ونساء في رحاب الذاكرة

    لأنهن من زنّ الحياة، فلابد ان يحظين بكل تمييز ممكن، وانت تتابع ضفاف ذكرياتك ايها الرجل، وهكذا رُحْ واعتمد ذلك المنحى فوثق عن نساء باهرات كانت لهن علاقات انسانية ووطنية واجتماعية وسياسية معك، كما انت معهن، وأكثر. واذ تستمر على تلك  الخطى التي اعتمدت، باتجاه التوقف عند اسماء الراحلات والراحلين، وحسب، مع استثناءات قليلة، فلا بد ان تأتي في البال اولاً، الوالدة الجليلة: نبيهة الجواهــرى، وقد سبق واشرت لها، وعنها في سطور سابقات   ...

   ثم تابع وتذكر طيبة، امونة جعفر، زوجة الجواهري الخالد، الخال الاقرب، الذي قال عنها عام 1957، وأوفى، ببضعة كلمات معبرة تغني عن جمل وعبارات، حين قال انها كانت، وحتى في جموحها " لون من الادب" ... كما وتذكر بلقيس عبد الرحمن، زوجة الشهيد وصفي طاهر، المناضلة، الصادقة، أم زوجتك الصبور، نسرين، والتي عشت معها في بيت واحد لاكثر من عشرين عاماً في براغ، دع عنك السنين الخوالي في بغداد.. وايضا نزيهة الدليمي، الشخصية الوطنية،  التي كانت تتابعك سياسياً اواخر السبعينات الماضية، ضمن مسؤولياتها في العناية بتنظيمات الخارج للحزب الشيوعي العراقي ... كما لا يجوز الا وان تُشر- وذلك اضعف الايمان- الى الشهيدة البطلة، زهور اللامي، رفيقتك في الهيئات القيادية لتنظيمات بغداد الطلابية، اواسط السبعينات. كما لا تنسً ان تصرح ايضا ان عميدة "عمومة" مصري، كانت رفيقتك في التنظيمات القيادية للحزب في موسكو.. ثم وثق، بل وافتخر بعلاقتك الاجتماعية مع فنانة الشعب، زينب، ولقاءاتكم بصور شتى، في بغداد وموسكو وعدن ودمشق..

   والان، فلتعترف(!) ان بشرى برتو كانت تشرف على نشاطك، ورفاقك: الشهيد الابي نزار ناجي يوسف( ابو ليلى) وفراس الحمداني، وعيسى العزاوي، وحكمت الفرحان، وعدنان عاكف واترابهم، في لجنة العمل المهني، الحزبية المركزية، ببغداد في السبعينات.. كما انها- بشرى- تكفلت بالمسؤولية السياسية عنك في براغ، اواخر الثمانينات.. ثم اعترف ايضا بانك كنت، وسعاد خيري، في لجنة تنظيم الخارج للحزب الشيوعي اوائل الثمانينات... كما وتذكر سلوى زكو في صحيفة "طريق الشعب" السبعينية، وهناء ادور، وانتما تتابعان النشاطات الديمقراطية العراقية في دمشق، اواسط الثمانينات... وكذلك نضال وصفي طاهر، وخاصة فترة عملها معك ببراغ، ولنحو عقد من الزمان، في مسؤليات حزبية وديمقراطية وطلابية، ولا تغفل - وهل يمكنك ذلك ؟- المناضلتين: الشهيدة الباسلة شذى البراك، وشقيقتها سوسن، وعلاقاتكم الاجتماعية والسياسية والحزبية على مدى اعوام ... وهكذا تبتدأ شدة الورد، ولا تنتهي.

   لقد باتَ عليك ان تتوقف- ايها الرجل-  فقد اطلت، ولربما تستهويك الاعترافات المقبولة، وغيرها، وقد يضجر المتابعون حين  تنهمر، تتلألأ، الاسماء والذكريات والسير، وقد يعود بك التوثيق الى زميلاتك في الدراسة الجامعية، والوظيفية، والنضالية، وخاصة الى تلكم الشابات الزاهرات التي كُلفت بالاشراف على نشاطهن في تنظيمات الحزب الطلابية ببغداد،  والديمقراطية، وقرينتاهن في براغ، وفي الجمعيات والروابط الطلابية المنتشرة عنفواناً في نحو عشرين بلدا، واوربا بشكل خاص .. واستدرك، وتمنّ لو سمحنّ لك، وسمحت الظروف، بذكر اسمائهن، ولاسيما البارزات منهن نشاطاً، وحيوية، وإتقاداً، ولا شك بأنك ستوافق في الحال لو كان الامر بيدك وحدك.

... اما عن العلاقات الاجتماعية والانسانية، وما بينهما، مع من "زنّ الحياة" فستستطرد السطور دون حدود، ولربما ستزداد أعين الحساد اتساعا، واحمرارا.. فأحذر، واحترز، لأن ما عندك  من لواعج وشجون يكفيك  لدهر !!!!

--------------------------------------- يتبع

 

 

 

 

 

علــى ضفــاف السيرة، والذكريــات ...(2)

 

رواء الجصاني

 

ايه يا عهد الصبا لو طلل عاد ...

    بعد "المقدمة" و"البدايات" السابقتين، ها قد بدأت الصعوبة تشتد، وانت على وشك الولوج – ايها الرجل- في التوثيق لجديات الامور، في "اطراف السيرة" و"على ضفاف الذكريات" ... وتحير في ترتيب الاولويات والثانويات. فلتأخذ استراحة ما  اذن، ولتعد من جديد، وأن باختصار،  فتتحدث عن بعض سنوات الطفولة، غير الشقية، ولتتذكر هواياتك الرياضية وغيرها، وان كان بعضها قصير الامد، مثل كرة السلة في نادي الكرخ، بمدينة المنصور البغدادية، ولعبة الشطرنج التي برزتَ فيها وما برحت،  كما وجمع الطوابع، ونحت الخشب، وقراءات مجلتي "سمير" و"السندباد".. وتاليا، قصص "ارسين لوبين" و"شارلوك هرمز"  ووثق هنا ان من كان يشجعك على القراءة، هو الوالد "السيد" الذي كان الاخر قارئاً نهماً كمجايليه من اهل النجف، الارباب، واسرها العريقة.

   ولكي لا تملي على الناس مزيدا من التفاصيل، وربما المملة، اختصر- ايها الرجل- ومرّ سريعاً على هواياتك الاخرى مثل تجليد الكتب اوقات الظهيرة، او الاعتناء المفرط بدراجتك الهوائية، وتزيينها لجذب الانظار، ولفت انتباه بنات الجيران، وغيرهن قريبات وبعيدات، واصطياد ما يمكن اصطياده !!.. ولا تنسَ وانت في هذا "المعمان" ان تتذكر السفرات مع العائلة الى النجف، في دار جدك عبد الحسين بن صاحب الجواهر، حيث السراديب وعبق تاريخها، وحمام البيت وخاصة في العطل المدرسية الصيفية. وكلك السفرتين اللتين ما زالتا تعبق في الذاكرة، وذلك الى كرمنشاه، وطهران، بضيافة خالك عبد العزيز الجواهري، والاخرى الى الشام، حيث الخال الاخر، الاقرب، محمد مهدي الجواهري، وعائلته، وكل ذلك وانت ابن خمس وست  سنوات لا اكثر ...

   كما تذكر ووثق – ايها الرجل- مدرستك الابتدائية في شارع الضباط، بالاعظمية، ثم متوسطة كرادة مريم، وبعدها في المتوسطة الغربية، واهتمامك بالنشاط اللامدرسي، مثل المشاركة في مسابقات الخطابة، وفي النشرات الحائطية، وكذلك في فرق "الكشافة" و"الجوالة" ومحاولة تعلم العزف على العود، لنحو ستة اشهر، ولكن دون جدوى !!! ولكنك نجحت على المسرح، وامام الجمهور في حفل سنوي، وانتَ تغني"احبك" لناظم الغزالي، وقد ربحت الجائزة الاولى، دون منافس اخر، وقد يكون السبب وراء ذلك ليس جودة الاداء، فقط، بل لانك ابن مفتش عام وزارة المعارف !!!!.

 

خمسون عاماً في الصحافة والاعلام

 

   بالتمام والكمال، تمر في هذه الايام (اواخر العام 2014) اعوام خمسون على بدايات نشاطك الصحفي – ايها الرجل- حين نشرت لقطات كتابية  تحت عنوان "صواريخ"  في مجلة " الفكاهة" الاسبوعية لصاحبها حميد المحل، وكذلك صفحة "كوكتيل" التي كٌلفتَ، او تبرعت بتحريرها  .. وبعد ذلك باشهر، سعيّت، مع ليث الحمداني، ومحمد عبد الجبار الشبوط، وسعد السعد، لتاسيس "جمعية هواة الصحافة" ووضعتم نظاماً داخلياً لها، وعلى امل توسيع الفكرة الى حقيقة اكبر، لولا تشتت الاهتمامات، وبدء الانحياز الى النشاطات الوطنية  والسياسية، كما سيرد التوثيق بشأن ذلك لاحقاً...

    واستبقْ الاجابة، على سؤال مفترض أو مفتعل عن سبب كل ذلك المزاج، والهوى الصحفي، وحب الكتابة والقراءة، ليتجذر لاحقا: داء ودواء معاً، وقل: ان الحال نمت، و"أستفحلت" في ظلّ اجواء بيتية، وعائلية لا فكاك منها، وتذكر بشكل خاص تقاليد وإرث وتراث "السيد" الوالد، واصدقائه الادباء والمثقفين، الذين يصعب حصرهم،  ومنهم مثلا : الشيخ على الخاقاني، صاحب مكتبة "البيان" وقاسم، وجاسم الرجب، وعبد الكريم الدجيلي، ونعيم بدوي ... كما لا يجوز ان تنسى ( وكيف تنسى؟) ذلكم الخال "الشاعر" واجواءه وصحفه ومطبعته، وصولاته وجولاته المعروفة، علنا مع سبق الاصرار..

     وتحت حجة انك على "اطراف السيرة"  و"ضفاف الذكريات" وليس في الصميم منهما، فلتهرب من التفاصيل مؤقتاَ- ايها الرجل- ولتوجز جهد مستطاعك، ولتوثق انك، وبعد انهاء الغربية المتوسطة، والاعدادية المركزية، قُبلت في كلية الصحافة والاعلام بجامعة بغداد عام 1967 ولم تداوم فيها، لانك أقنعتَ بدراسة الهندسة، بعد"نقاشات" و"مداولات" عائلية بان الصحافة لا تحتاج لشهادة، وذاك خالك امامك خير شاهد، وان الهندسة شهادة ومكانة !!!..

       وتوسع اكثر، وإن ضجر المتلقون، ووثق انك ساهمت بتحرير نشرات اتحاد الطلبة العام السرية، مطلع السبعينات الماضية، وقبلها كدت ان تصدرمجلة  "محترمة" وانت في دراستك الجامعية بمعهد الهندسة التطبيقيـــة العالي ... كما وتذكر مسؤوليتــــك عن اصدارات نقابة المهندسيــــن التطبيقيين، عام 1971.. وكذلك مهامك الاعلامية في الهيئة القياديــــــة لرابطة الطلبة العراقيين، واصداراتها في موسكو، عام 1972.

  في بغداد"دجلة الخير" ...  

  وها قد حان الوقت الان للتوثيق عن بدايات النشاط الصحفي الاهم، فأرخ ايها الرجل بأنك واكبت صدور جريدة "طريق الشعب" العلنية، منذ ساعاتها الاولى عام 1973 وحتى عام 1978 إذ توليت فيها مسؤولية صفحة "الطلبة والشباب" ثم "الصفحة المهنية" التي أختصت باخبار وشؤون نقابات مختلفة، عدا العمالية، فضلا عن "مهام" اخرى... اما التفاصيل عن تلك الفترة التي دامت نحو ستة اعوام، فأدع من يشاء، ولم يضجر بعد مما تكتب، لقراءة توثيقك المفصل عن ذلك، والمنشور اوائل عام 2014 في العديد من المواقع الاعلامية  تحت عنوان "ستة اعوام في طريق الشعب".

       وفي اواخر العام 1978 يحين موعد "الهروب" الاضطراري من العـــراق، وبدء اعوام الغربة التي ظننت- ايها الرجل-  انها لن تطول عقودا كما حدث، ويستمر ... فإلى براغ، جنة الخلد المرئية، وليست المسموعة، على ذمة "الجواهري" ارتحلت من بغداد، وصارت عاصمة التشيك ملاذاً ووطنا جديدا اضافيا، والى اليوم ... وفيها – في براغ-  حيث الفصول الاربعة -ودائما بحسب الجواهري الخالد- تسلمت، وبعد لا ازيّد من اسبوع  فقط من الوصول اليها، مسؤوليات ومهاماً اعلامية وصحفية عديدة، وطنية وسياسية الطابع عموما، ومنها لفترات متباينة الطول والقصر: في المكتب الاعلامي، الخارجي، للحزب الشيوعي العراقي، الذي حرر وطبع واصدر ووزع العديد من المجلات والنشرات بالعربية والانجليزية والاسبانية، للمساهمة في مقارعة النظام الدكتانوري البائد... ولتوثق هنا ان من بين الاسماء التي عملت معها، وعملوا معك، ولفترات مختلفة في هذا المجال: شمران الياسري(ابو كاطع) وسعاد خيري وفالح عبد الجبار ومجيد الراضي وحسين العامل، و باشراف نزيهة الدليمي، فترة، ثم ثابت حبيب العاني. وعذرا سلفا لمن لم تسعف الذاكرة بالاشارة له... ولتمرر هنا انك سعيت – وستسعى- في هذه الضفاف من السيرة والذكريات، الى الابتعاد ما استطعت عن تعداد الاسماء، لتركز على الراحلين الاعزاء وحسب، احترازا من سهو او نسيان، او"زعل" احباء واصدقاء ومعارف .

 

.... وفي براغ"جنة الخلد"   

 

  ثم يحل العام 1989 وتنقلب الدنيا، وتهوي انظمة، وتعلو اخرى، وتنكفأ النفوس قبل العقول، بعد انهيار الشكل، والنموذج على الاقل ..  ويتيح استبدال نظام الاقتصاد ذي التخطيط المركزي في البلاد التشيكية الى اقتصاد السوق الحر، امتحان القدرات الذاتية، وخوض غمار المغامرات، فتطلق مع عبد الاله النعيمي، منبرا للاعلام والتنوير، باسم "بابيلون" ولتستمر تلكم المغامرة الى الان، وها هي تدخل يوبيلها الفضي، برغم كل المتاعب وصعوبات السباحة ضد التيار، ولتخسر كل ما تملك ( وهل ثمة ما تملك اصلاً؟) لكي يدوم المشروع الى الان، بل ويبسق، وينال محبة الاكثرين، جنبا الى جنب كيد وكدر الحاسدين والعاجزين.. وكما هو الامر في سطور سابقة، وفي حال اخرى، تلكم هي التفاصيل موثقة بتفاصيل "مملة!" واسماء ونجاحات وشؤون وشجون، منشورة على مواقع اعلامية، وصحف عراقية وعربية، تحت عنوان:"بالف دولار من الجواهري، وبريشة محمود صبري، ابحرت "بابيلون" عام 1990" .

     ترى هل أوفيت؟ ام هنالك مافات التأشير اليـــه؟ ... لا احد يدري ولكن، وعن الحلال والحرام فلتزد   - ايها الرجل- سطورا اخرى، في مسيرة الخمسين عاما من الاسهام والنشاط في العمل الصحفي، والاعلامي، ومنها اصدار نشرة رابطة الكتاب والصحفيين العراقيين، الاوربية باسم "مرافئ" تحت مسؤولية صادق الصايغ، والاشراف العام لنحو سبعة اعوام عن كل الاصدارات الخارجية لاتحاد الطلبة العام، وفروعه الخارجية، فضلا عن المقالات والتوثيقات والدراسات، الثقافية والسياسية، وما اليها،  والتي كانت بالعشرات، ولا تقل مئات- وان كانت!- احترازا من المتربصين، واولئك ممن عناهم الجواهري واشباههم في بعض مقصورته الشهيرة : ومنتحلين سمات ِ الأديب يظنونها جبباً ترتدى.... ولكن لتتباهى في ذات الاوان بتراث وعمق صلات، ومودة  مع عشرات الزملاء والاصدقاء والاحباء، الذين عملت معهم، وعملوا معك، وزاملتهم وزاملوك، باسقين ألقين، في رحاب الصحافة والاعلام، ولتفخر بعلاقاتك معهم، وعلاقتهم معك، ممن قربوا او بعدوا، او تواصلوا ويتواصلون، وفي كل ذلك رصيد ما وراءه رصيد أجل  !! .

--------------------------------------------------------------------- يتبع

 

 

 

علــى ضفــاف السيرة، والذكريــات ...(1)

 

رواء الجصاني

 

* ... وخلّها حرة تأتي بما تلدُ 

 على مدى اكثر من خمسة عقود،  شيئ  لي، قدراً وطواعية، وما بينهما، ان اكون في خضم عوالم ومسارات عامة، ابتدأت واستمرت، وما برحت، ولا بدّ ان لها حدوداً، وسواء طالت ام  قصرت، يد الاعمار!

   والسيرة والذكريات كما أعي، محطات وتوثيق، وسجل تاريخي، مضئ تارة، ومعتم في اخرى، وضبابي بين تلك وهذه... وعادة ما  ينحاز المعنيون- وان لم يتقصدوا- وفي ميلٍ تلقائي لتسجيل وابراز ما هو مشرق منها بحسب رؤاهم، وان زينوا بعضها بعسل الكلام والسرد، او تناسوا بحجة النسيان... ولربما عمدوا ايضا الى هذه الحجة او تلك، احترازا من ان تُمسك عليهم هفوة هنا، اوكبوة هناك، او حتى  شبهات او وقائع "تزييف" في بعض الحالات!

   وأزعم ان الولع الاشد عندي في حب القراءة، وسأقول الداء العصي ولن أخاف، هو متابعة كتب واصدارات الذكريات والمذكرات، والتوثيــــق، والسير الذاتية، وما اليها. وفي جميعها، وعلى ما ازعــم ثانية: ثمة اختيارات تُستل، وافتعالات تهذب، وادعاءات باطنــــة او ظاهرة، ينتبه اليها المتلقي المتابع، بل ويصطــدم بها دون كثير عناء.... دعـــوا عنكم اولئك الذين لا قربى لنا، او تقارب، معهــم، ممن يدلسون ويحرفون، "ملثمين" كانوا ام "عراة".               

   ... وهكذا اذن، تعمدت ان ابتدأ بهذه السطور، لكي احترز بدوري، جهد ما استطيع، لانطلق بتوثيق جديد، وأعني به "على ضفاف السيرة و الذكريات" ليسعى فيجمـــع بيـــن شأني الخاص والعام، وكلاهما متشابكان، بل يكادان ان يتلاصقا، او هكذا  أُريد لهما ان يكونا.... فكيف يا ترى ستشيـــع كتابة تلكم "الضفاف" ايها الرجل، وهل ستخاف وقد راحت ستون عاماً "كخيلِ السبقِ تطّردُ"؟ .. أم ستدعها "حرةً تأتي بما تلدُ" ؟؟!!

* لا يولدُ المرءُ لا هراً، ولا سبعاً،

 لكنْ عصارة تجريـبٍ وتمريــنِ

     بعد السطور الاولى، التي مهدت لهذه "الضفاف من السيرة الذكريات" ها قد حان آوان السرد والتوثيق وما بينهما، وستُحار – ايها الرجل- من اين يكون البدء، والى مَ ينتهي، وبمَن يمر، ويستثني، ويفيض؟!...  ولأنك تريد ان تتميّز، وما بجديد عليك ذلك الطموح، فلتكتب دون تخطيط، او كثير تخوف، ولتصحح لاحقاً عند تطلب الامر، مع بعض الاعتذار!!!

    وكما هو الحال عند السابقين، وعند اللاحقين ايضا كما تتصور، فعليك  - ايها الرجل- أن تكتب عن النشأة والانتساب والحسب، والنسبِ. وتباهَ ولا تخف، فما انتَ طالبٌ مالاً، لانك "هنالك تاركٌ مالاً، وآلا"... اذن فلتقل ان السيد جواد بن السيد ابراهيم، بن السيد علي.... العريضي الجصاني، هو الوالد، الوديع، الاديب،  المولود في النجف، لأسرة فقه وعلم ودين، ثلاثة ارباعها تلف العمائم السوداء هاماتهم، وقد توفي في العاصمة السعودية، الرياض، بعد ان تغرب اليها اضطرارا، هضيمةً من اعتقال وعسف في عهد نظام البعث الاول، الاسود، في العراق عام 1963... وتوقفْ هنا – ايها الرجل الموثق- ولا تسترسلُ، ولا تنسَ ان ما تكتبه  ليس سوى"ضفافٍ" وحسب، لسيرة وذكريات.

   ولكن، ترى أيجوز ان لا تكتب عن الأم  "نبيهة" ؟ وهل تقدر ألاّ تقول بانها بقيت طوال عمرها ذي الخمسة والسبعيـــــن عاماً، متميـــزة لاكثر من سبب وبأكثــر من حال، ويكفي - ربما – لانها الشقيقة الوحيدة للجواهري العظيم، ومدللته، في اسرة فيها اربعة اخوة، استشهد اصغرهم – جعفر- في وثبة كانون عام 1948 ... وتأنّ - ايها  الرجل- ولا تكرر ما هو معروف عن تاريخ الاسرة الجواهرية، ولكن استدرك وقل لمن يريد الاستفاضة، فضولاً او محبة: ان في جحفل شعر الجواهري، العامر، ثمة اكثر من توثيق شعري، عن اخته، الحبيبة، التي بقي يناجيها "في تلك الدواوينِ" كما قال، وحتى رحيلها، فودعها بابيات مؤثرة، قلّ ان كتبَ مثلها من صميم قلبه ..

   والآن، هل من المفيد ان توثق، في باب النشأة والطفولة من "ضفاف الذكريات" فتورد: عاش للسيد جواد، وزوجته نبيهة، ستة ابناء، انتَ احدهم؟.. وما الذي يهم القارئ ان كتبت، ام لم تكتب، بانك الاصغر بينهم، وانك " الـ....." مثلاً؟! .... ثم تمهل ولا تزدْ، وتذكر ان خير الامور ما قلّ ودلّ، فلا احد – وقلْ "ربما" من جديد، وكم تحب هذه اللازمة؟- له نفسٌ ووقت لتفاصيل مملة، وما عليك – ايها الرجل- سوى ان تنتقل لمحور او باب اخر، ودع الناس يستريحون ....

    ولكن، استمحْ القراء برهة اخرى، واضف بعض محطات مختارة،  لا لانها "مهمة"  بل علّها تفيد في تبيان جوانب من جذور السيرة اللاحقة لكَ، ولضفاف ذكرياتك.. فاكتب مثلاً ان زواج السيد جواد ( 1909-1964) من نبيهـــة (1912-1987) اثار ضجة اجتماعية شهيرة، في اواسط  الثلاثينات الماضية، وكادت الحال ان تتفجر، لولا ان يقوم الجواهري، شقيق العروس، بـ"تهريب" الزوجين فجر يوم، وذلك من النجف الى "الرستمية"  قرب بغداد، تداركاً واحترازاً من قتلٍ ودماء. ومرة اخرى، أحلْ المتابع الشغوف – ان وجد-  ليقرأ في الجزء الاول من ذكريات الجواهري، ففيه ما فيه حول الامر ..

   كما واستدركْ ايضا، فلربما هناك من يريد معرفة المزيد عن "السيد" الوالد، فضفْ: انه عصامي، ديمقراطي الهوى ولم يتحزب، له اشعار اخوانية، ضليع في الرياضيات، تسنم مواقع تربوية عديدة، ومن اهمها: مدير معارف لعدة محافظات عراقية، كانت تسمى "الوية" في حينها، ومن بينها "البصــرة" و"بعقوبــة".. وكذلك "الكوت" التي كانت من نصيبك- ايها الرجل الموثق-  حين ولدت فيها بتاريخ 1949.11.24 .

    اما عن الاخوة الخمسة، فدع التفاصيل عنهم الى" الذكريات" وليس ضفافها، وقدم لذلك من الان: انهم متنوعو الاهتمامات، والرؤى، ومتميزون ايضا، اخذوا من اعمامهم واخوالهم، مع التنويه الى ان بعض ذلك "التميـز" كان استثنائياً في عديد من الاحيان، شؤوناً وشجونا !!!   ------------------------------ يتبع

 

 

 

 

هكذا آمن الجواهري

 

بمآثر الامام الحسين!!!

 

كتابة وتوثيق:

 

رواء الجصاني

 

* بعيداعن الخوض- خلال هذه التأرخة العاجلة- في عوالم النجف الروحية، والاجواء الدينية والادبية للاسرة الجواهرية، وتاريخها واثارها العلمية، دعونا نغور لماماً في دوافع، ورؤى قصيدتي "عاشوراء" و" آمنت بالحسين" للجواهري الخالد، وما تشيان، بل وتلهبان به، حول مأثرة "الطف" واحداثها الاليمة، والعبر المستوحاة من الثورة الحسينية، ومنابعها وجذورها ومبادئها وافاقها..

 

* والقصيدة الاولى: "عاشوراء" منظومة ومنشورة عام 1935 وكانت بثمانية وستين بيتاً، استعرض فيها الجواهري، ووثق خلالها العديد من الاحداث التاريخية، الثورية والمأساوية في ان واحد، وبالاسماء المقرونة بالاوصاف التي تليق – بحسب متبنياته– بالمضحين من اجل المبادئ، من جهة، وبمعارضيهم، بل ومحاربيهم وقتلتهم، من جهة ثانية...

هيَ النفسُ تأبى أن تُذَلّ وتُقهَرا ... ترَى الموتَ من صبرٍ على الضيم أيسَرا

وتخـتارُ محموداً من الذِكرِ خالداً...على العيش مذمومَ المَغَـبّـة مُنكَرا…

* وكما هو ديدنه الثابت، شبك الجواهري العام بالخاص، وبحورات مع الذات اساساً، ليستخلص وفي ابيات محدودات، ولربما في بيت واحد متفرد، عبرة العبقري الخابر للحياة:

ونُكّسَ يـومَ الطـفّ تـاريخُ أمـة... مشى قبلَها ذا صـولـةٍ متبختِرا

فما كان سهلاً قبلَها أخذُ مـوثـق على عَرَبيّ أن يـقولَ فيغـدِرا...

 

* وسيرا على عادته، ايضا، يوجز الشاعر المنوّرعظات واقعة الطف، وما سبقها وتلاها من بطولات وامجاد خالدة، ثم يروح موجهاً، دون وجل او تردد:

أقـول لأقوامٍ مَضَـوا في مُصابه ... يسـومونه التحريـفَ حتى تغيّرا..

دعُوا رَوعةَ التاريخ تأخـذْ مَحَلّـها ... ولا تُـجهِدوا آياتِه أن تُـحوّرا

وخلّوا لسانَ الدهر يَنطقْ فإنّه ... بليـغٌ إذا ما حـاولَ النطـقَ عَـبّـرا

 

 * واذ جاءت "عاشوراء" في زمانها، والجواهري آنذاك في عقده الثالث وحسب، مباشِرة في المعاني والتصريح، واقرب للتوثيق التاريخي، هدر الشاعر الخالد بعد مرور اثني عشر عاماً، بعصماء "آمنت بالحسين" التي فاضت بالتعبير عن المواقف والمفاهيم الطافحة بالإباء والشموخ، والممجدة للفداء والتضحيات، كما هي الحال في الفرائد الجواهرية العديدة، وان اختلفت في الصور والاستعارة:

فـداء لمثـواك من مضـجـعِ ... تـنـوّر بـالابلــج الأروعِ

ورعياً ليومـك يوم "الطفـوف" ... وسـقياً لأرضك من مصرع

تعـاليت من مُفـزع للحتـوف ... وبـورك قبـرك مـن مَفزع

 

* وفي مقابل ذلك تماماً، لم يجامل الشاعر الكبير أو يتهاون في هجو الخنوع والانحناء، وأولئك المقيمين على الذل، بل وحتى من يتوسط "كاللبن الخاثر" وغيرهم من اللاجئين "لأدبار الحلول فسميت وسطاً، وسميّ أهلها، وسطاءَ"..

ولربما نجتهد، ونصيب، فنرى في "آمنت بالحسين" مجمعاً للشواهد والأدلة الأبرز على الرؤى الجواهرية المتميزة، وبمقاييس بالغة الرفعة في تبجيل "الواهبين النفس" فداءً للمبادئ التي يؤمنون بها، وتلكم بلا شك هي التضحية الأضخم للدفاع عن القيم والذود عنها، كما يرى صاحب "آمنت بالحسين...

 

* وفي مقاطع تالية من العصماء ذاتها يستمر الجواهري في الاتجاه الذي يريد اعلانه عن تضحيات الحسين الثائر و"نهجه النير" الذي بات "عظة الطامحين العظام" لاولئك "اللاهين عن غدهم" والقنوعين دون احتجاج وتمرد أو ثورة.. كما يفيض عديد آخر من أبيات القصيدة بعواطف ومشاعر انسانية فائقة التعبير في تقديس الثبات والصمود لرجل يوم "الطفوف" و"الملهم المبدع" الثابت أمام "سنابك خيل الطغاة" دون خوف أو رهبة ... وبهدف أن يُطمر "جديب الضمير بآخر معشوشب ممرع...

شممتُ ثـراك فهب النسيم ... نسيم الكرامـة من بَلقـعٍ

وطفت بقبرك طوفَ الخيال ... بصومعـة المُلهـم المبدع

تعـاليت من صاعق يلتظي ... فـان تـدجُ داجية يلمـع

 

* ثم يروح الجواهري ليتمثل مأثرة الحسين التاريخية، و"يمحص" الأمر دون أن يرتهب من "الرواة" أو يخدع بما ينقلون، ويمضي هادفاً للحقيقة لا غيرها، وبدون "تزويق" أو مبالغات... وبعد ذلك فقط، يجد الشاعر أن في فداء الحسين دفاعاً عن مبادئه، وقائع لا أعظم منها، وهو "أن يطعم الموت خير البنين، من الاكهلين الى الرضع "... ثم يحل مسك الختام، فتجدد القصيدة تقديس ذلك الصمود والعطاء الذي "نوّر" من ايمان الجواهري، وفلسفته في الإباء والفداء، والتي تجسدت، كما سبق القول، في الكثير من قصائده ومن بينها: "سلام على مثقل بالحديد - 1951 " و"بور سعيد - 1956" و"كردستان - موطن الأبطال- 1962" والى "اطياف الشهداء الخالدين- 1963" و"فلسطين الفداء والدم - 1970" فضلاً عن قصــائد الوثبـة، الشـهيـرة، عــام 1948... وها هو الجواهري يناجي الحسين:

تمثلـتُ يومـك في خاطـري ... ورددت "صـوتك" في مسـمعي

ومحصـت أمـرك لم "ارتهب" ... بنقـل "الرواة" ولـم أخــدع

ولما ازحـت طـلاء "القرون" ... وسـتر الخـداع عن المخـدع

وجدتـك في صـورة لـم أُرعْ ... بـأعـظــمَ منهـا ولا أروعِ

 

* وللاستزادة، نقول أن قصيدة "امنت بالحسين" المتفردة في المبنى والمعنى، والرؤى، نشرت في جميع طبعات ديوان الجواهري، ومنذ العام 1951 وقد خُط خمسة عشر بيتاً منها بالذهب على الباب الرئيس للرواق الحسيني في كربلاء، كما أُنشدت، وتُنشد، في مختلف المجالس والمناسبات الاحيائية لواقعة "الطف" التي تصادف كما هو معروف في الأيام العشرة الأولى من شهر محرم، كل عام....

------------------------------------

... الصورة المصاحبة للموضوع:

من ارشيف السيد سلمان هادي آل طعمة، ألتقطت في الصحن الحسيني بكربلاء، بتاريخ 1947.11.26 قبيل القاء الجواهري الخالد(الثاني من اليسار) لعصمائه "آمنت بالحسين"... ويظهر من اليمين: الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء، السيد عبد المهدي المنتفجي، السيد صدر الدين شرف الدين...

مــع تحيات مركز"الجواهــري" للثقافة والتوثيق

www.jawahiri.com

 

 

 

بمناسبة الذكرى 17 لرحيل الشاعر الخالد

 

الجواهـــري على قارعة الطريق ...

 

حيث وُلد وأقام ورحل..

 

توثيق: رواء الجصاني

 

    لعل أوجز، وأوضحَ ما يُـفيـد المتسائل والباحث العجول عن بعض مواقف واتجاهات الجواهري، وفلسفته في الحياة، هو ما حفل به منجزه النثري "على قارعة الطريق" ذو الألف والثلاثمئة كلمة تقريباً... ومما يؤكد اجتهادنا هذا، الاهتمام البالغ الذي أولاه الشاعر العظيم لهذه الابداعية المتميزة، وذلكم بإعادة نشرها في مقدمة، وبطون غالبية طبعات دواوينه، ان لم يكن جميعها، وعلى مدى عقود مديدة، ومنذ عام 1940.

·            لقد ولد الجواهري "على قارعة الطريق" شريداً، كما يزعم في رمزية قاسية... وظل يسير واضعاً مطلع الشمس على جبينه، متحملاً كل تبعات ذلك من معاناة وآلام... ثم يواصل وفي استعارة غاضبة أخرى أنه يأكل- في سبيل طماحه الانساني التبشيري- حتى من لحمه، ولحم أولاده عندما تضطره الحاجة، ويطعمهم لحمه إن تطلب الأمر.

·            وحسب زعمه الثائر أيضاً، فقد ترك المدينة وأهلها لأنه رفض أن يرقص فيها مثل القرود التي لم تهب الطبيعة لأحد مثل حيلتها وصبرها على المجاراة... و"على قارعة الطريق" أيضاً وأيضاً، حيث اختبرها الجواهري، واختبرته، اكتشف الشاعر، كثيراً من الوقائع والحقائق التي تمكن في ضوئها من رسم وتحديد مساراته في الحياة، ولكي ينتهج بعدها الدروب والطرائق المناسبة في مجمل ما أراد من أهداف وغايات... وليبقى يغنى ما قدر له، ولكن لنور الشمس أولاً... وكما صرّح علناً لصديقه، عابر السبيل.

·            لقد كتب الجواهري تلكم "القصيدة المنثورة" قبل رحيله بنحو ستة عقود، ولكنه من شدة الإيمان بما جاء فيها من موحيات ورمزيات، ومحطات فلسفية، ظل يعتز بها، عصارة لبعض ما أراده من تنوير وإضاءات اجتماعية، عن طريق التحريض والاثارة، وهو سبيل اختطه في الكثير من قصائده، بهدف التمرد، والانهاض، والتطلع للحرية والارتقاء، وان غلت التضحيات.

·        
-----------------------------------------------------

·         مع تحيات مركز الجواهري في براغ

·         www.jawahiri.com

·          

 

هكذا أحتفل

 

 الجواهري بعيد ميلاده الثمانين

كتابة وتوثيق: رواء الجصاني

 


       مع حلول عام 1982 يحتفل الجواهري، الشيخ – الشاب، بعيد ميلاده الثمانين، وان اختلف مع بعض المؤرخين والنقاد الذين ثبتوا ولادته في عام  1898 بل وخاصم البعض منهم لذلك السبب... وبهذه المناسبة راح الشاعر العظيم يبث شجوناً كانت، وبقيت، واستمرت تؤرقه على مدى عقود، ومن أشدها ألماً، ما يزعمه ويراه، من جحود البلاد له، والتي اضطر للاغتراب عنها مرة أخرى واخيرة، مطلع عام 1980، بعد اشتداد ارهاب وعسف العهد الدكتاتوري الساقط، والذي طال بعض أهل بيته حتى... وقد انطلق في قصيدته التي نتوقف عندها يعاتب، ويدين زعامات سياسية وثقافية وغيرها، حاولت أن تنال من عبقريته وأدواره الوطنية والثقافية ... وهكذا جاءت رائعة :يـا ابـن الثـمـانـيـن" ومن مطلعها:

حسبُ "الثمانين" من فخر ومن جَذَل، غشيانُها بجَنان ٍ يافع ٍ خضل ِ
طلقٌ كما انبلج الإصباح عن سَحَر، ند ٍ، وزهرُ الربى عن عارض هَطِل
"
يا للثمانين" ما ملَّت مطاوحَها، لكن يُعاودها خوف من الملل

 ...
      ولم يشتعل ضرام آهات ولواعج هذه اللامية المطولة من تراكمات وحسب، بل ان الجواهري، وهو في غربته الجديدة في براغ، والتي صارت مديدة فيها، وفي دمشق، حتى رحيله في عام 1997، أُُبلغ بصدور كتاب لئيم، ألفه "أكاديمي" عراقي، حاول فيه ان يطال الشاعر العظيم، وبعض سيرته وحياته وابداعه. وقد تناولته بائية جواهرية ساخرة، هادرة، بعنوان "عبدة الغجرية" عام 1982 بعيّد نشر ذلك المؤلف المشبوه مضموناً وتمويلاً... وفي المقطع التالي اشارة، وان دون مباشرة، لذلك الحدث:


وأنت يا ابن "الثمانين" استرحتَ بها، كما تظنّنتَ من لوم ٍ ومن عذَل
جاءت تحييك في أعيادها قِذَعٌ، نكراءُ، لقَّنها الساداتُ للخَوَل
وفَّتْكَ نُذراً لها عما وَفيتَ به، من النذور ِ لَدُن أيامِكَ الأوَل
يا ابن "الثمانين" صبراً أنت صاحبُه، في ما تضيقُ به اضلاعُ مُحتمل ...
وكن كعهدك "سَحَّاراً" بمعجزة ٍ، ُتحوِّلُ الصَّابَ مسموماً إلى عَسَل ِ


...
  ثم تعود القصيدة في الأبيات اللاحقة لتردَّ على تلكم التجاوزات ولتواجه وتتصدى لاصحابها، وأسيادهم، الذين سعوا جاهدين للنيل من الرمز العراقي الكبير، بهذه "الحجة" تارة، وبغيرها، من مزاعم، تارة أخرى... وجميعها لم تستطع إلا أن تثير "زوابع في فنجان" بحسب الجواهري في مجالس خاصة... ثم لتخمد وأصحابها، وليبقى الشعر، والابداع وصاحبه، خالدين:


يا "ابن الثمانين" كم عولجت عن غَصص، بالمُغريات فلم تَشْرَقْ ولم تَمِل ِ
كم هزَّ دَوحَكَ من "قزْمٍ" يُطاولُه، فلم ينلْهُ ولم تقصر، ولم يَطُل ِ
وكم سعت "إمَّعاتٌ" أن يكون لها، ما ثار حولك من لغو ٍ، ومن جدَل ِ
ثبِّتْ جَنانك للبلوى فقد نُصبَتْ، لك الكمائنُ من غدر ٍ، ومن خَتَل ِ
ودَعْ ضميرَك يَحذَرْ من براءته، ففي البراءات ِ مَدعاةٌ إلى الزَّلَل ِ
لا تنسَ أنكَ من أشلاء مجتمع، يَدينُ بالحقد ِ والثارات والدَّجَل ِ
حرب ٍعلى كل "موهوبٍ" وموهِبة، لديه، مُسرَجة الأضواء والشُّعَل ِ ...
عصَّرتهم فتحمَّلْ وضرة الثقل، ودُستهم فتوقعْ غضبةَ الخَوَل


     وبعد كل التمهيد أعلاه، يحين الوقت كما رأى الشاعر، ليوضح المزيد من "التفاصيل" ذات الصلة ومنها هجوم "الأذناب" و"الأسياد" من جهة، وصمت "المحبين" و"القادرين" على الرد من جهة ثانية... ولعلّ مواقف الأخيرين كان أشد إيلاماً لأنهم تناسوا عهود الاخاء ومزاعم الود ومشاعر التقدير التي كانوا يبدونها للجواهري بمناسبة، وبغيرها، حباً واعجاباً حقيقياً أو زائفاً.. ويقول بهذا الشأن:


نُبِّئتُ "شِرذمةَ الأذناب" تنهشني، بمشهد من "رُماة ِ الحي"مـن "ثَعَل"
يا للحفيظَة ِ لم تظفَرْ بذي شَمم ٍ، وللشهامة ملقاة ً على طللِ


...
وهكذا يتواصل القصيد جدلاً وحواراً وفلسفة ورؤى حول "الأصالة" و"الرجولة" و"المدعين" و"الهاربين" و"الناكثين" وغيرهم، ممن لم ينتصروا للحق – كما يرى ذلك الشاعر على الأقل- منوهاً إلى تجاريب كثيرة كان لصولة الحرف فيها، الثبات والانتصار... وتستمر التساؤلات والادانة:


أيستثيرُ دمي "وغْدٌ" و"صاحبُه"، بما يثير رمال السَّهل ِ والجبلِ
ولا يندّ فمٌ، لا بَعْدَه خَرَسٌ، ولا تُمدُّ  يد ، لا تشْفَ من شلل ...
قد كان شوطُ رجولات ٍ مشرِّفةٍ،  لو كان تحت سِبالِ القَوم ِ مِنْ رَجُل..
الخانعين بمنجاة ٍ تسومُهمُ، جدعَ الأنوفِ، وذلَّ العاجز ِ الوكِل ...
والناكثين بعهد ِ الحَرْف ِ منتفضاً، على الضغائن والبهتان والدجل:
إن الحياة معاناة وتضحية، حب السلامة فيها أرذل السبل
وللبطولات جولات، وكم شهدت، سوح الوغى "لحماة الحرف" من بطل
وثمَّ من لعنة ِ الأجيال جازيةٌ، تقتصُّ من قولةٍ حَقٍّ ولم تُقَلِ


...
وقبيل ختام القصيدة التي بلغت أكثر من سبعين بيتاً يعود الشاعر المهضوم، موضحاً، ومدافعاً عن النفس أولاً، ثم ليفضح بكل صلابة وعنف مدعين مزعومين، و"زعاماتهم" التي لولاها لما استطاع أولئك ان "يستأسدوا" على الجواهري مستغلين غربته بعيداً، أو مبتعداً عن الوطن:


أقول "للخِدن" ما حالت مَودَّتُه، فظنَّ أن عهود الناس لم تَحُل ِ
سلني أُجِبْكَ بما يعيا "الجواب" به، وإن ينل منك إشفاقٌ فلا تَسَل ِ
فقد تقرحتُ حتى العظم من شجن، دامي الشكاة ِ بلوح ِ الصدر معتمِل
أُجِبْكَ عن نُصُبٍ أعلام ِ "مقلمَة"، غُفْل ٍ ، شتات ٍ إذا كشَّفتَهم ، هُمُل ِ
و"للتماثيلُ" يستوحى بها "مُثُلٌ"، خيرٌ من البشر الخالين من "مُثُل ِ"
"
خُرْس"وإن خَرقوا الأسماع في هَذَر، يُغْثي النفوسَ، وفي مرصوفة "الجُمَل"
وعن "كروش" "زعامات ٍ" كأنَّ بها،من فرْط ِ ما اعتلفتْ، مَسَّاً من الحَبَل
يستأسدون إذا مُدَّ العنانُ لهم، فإن يُشَدَّ تردَّوا بِزَّة "الحَمَل""...


...
وكما هي الخلاصات التي يقدمها القادرون في نهاية عطاءاتهم، أو الرتوش التي يضعها الفنانون قبيل عرض ابداعاتهم، يختار الشاعر فضيلة التحذير نهاية لقصيدته، ومذكّراً من يريد أن يتذكر قدرات الجواهري في مواجهة اللؤماء ومن يقف وراءهم، والاخيرين هم الأكثر قصداً من غيرهم على ما نظن:


يا "صاحبي" وحتوفُ "القوم" طَوْعُ يدي، وكم أتتهم "رياح الموت" من قِبَلي
أجِلْ يراعَك في آجالهم مِزقاً، فليس عندك بعد اليوم من أجل ِ
واضرب بهم أسوأ "الأمثال" سائرة ً، حتى تَثَلَّمَ فيهم مضربَ المَثَلِ !

-------------------------------------------------------------

مع تحيات مركز الجواهري في براغ

www.jawahiri.com

 

 

بمناسبــة الذكــرى الثانية لرحيله

محمـود صبــري

يوميات، وشهادات شخصية

كتابة وتوثيق: رواء الجصاني

       برغم مرور عامين على رحيل محمود صبري، الفنان والمفكر الرائد، والانسان قبل هذا وذاك،  لم ازل ما بين مصدق ومكذب ذلكم الخبر المؤسي، فتطوف الخيال بين حين وآخر ذكريات ومعايشات، دامت نحو ربع قرن، وقد كتبت عن بعض منها في الذكرى السنوية الاولى للفقيد الجليل التي صادفت في 2013.4.13 ...

... وإذ كتب، ويكتبُ، اهلٌ واصحاب ومعارف ومتابعون، قبل الرحيل وبعده، عن محطات تاريخية في حياة محمود صبري، ومواهبه وفكره ومنجزه الثري، دعوني احدثكم هذه المرة عن لمحات من نهار وليل تقليديين في حياة  ذلك العبقري، وبما قد يسهم في ان تكتمل الصورة النيرة عنه كما أزعم، لما فيها من اشارات ومؤشرات تتشابك لتضئ انسانية رجل متفرد، وقد "قــلّ الرجالُ فقيـــلَ: ذا رجلُ" ..

** صور يوميـــة  

     يبدأ نهار محمود صبري، التقليدي متأخرا بعض الوقت، إذ يسهر غالياً ما بين قلمه وفرشاته وأفكاره وعوالمه المتألقة، وعادة ما يكون إفطاره بسيطا، يهيئه لوحده، ثم يستمر بمتابعة الاخبار، وجلها من اذاعات تبث بالانجليزية، مبتعدا عن الضجيج العربي... دعوا عنكم مجافاته للتلفزيون الذي لم يكن ذا صحبة معه، بل ولم يضمه اثاث شقته ذات الغرفتين،  المتواضعة والانيقة في آن، والتي عاش فيها الرائد الكبير طوال عقود، في الدائرة العاشرة من العاصمة التشيكية – براغ..

     ولأن الرجل يتابع شؤونه بنفسه، ولا يرغب بتكليف احد بها- الا في ضروريات لا حول له بها، خاصة وان لغته التشيكية ليست بالكافية-  لذلك كان في الظهريات يراجع البريد، ويتسوق لمتطلبات البيت التقليدية، ويعود لمواصلة البحث والقراءة والترجمة، والغوص في الكتب والمصادر الفكرية – الفلسفية في الغالب الاعم .

      ولأنه نباتي، فلم يغرق في "هموم" الغداء والعشاء وما بينهما، مكتفياً بالفاكهة والخضار ومشتقات الالبان، وبعض الحلوى. ولكن دون الاستغناء عن الشاي المرادف، وعلى طريقته الخاصة .. وهكذا كان يستغل اقصى ما استطاع من وقت للبحث والعطاء.

     والرجل قليل الزيارات، وخاصة في الاعوام العشرين الاخيرة من حياته الزاخرة، ان لا ابالغ فأقول بأنها بقيّت اكثر من محدودة، وكذلك كانت الحال بشأن استقباله للزائرين والضيوف، مع الاستثناءات طبعاً للقريبين والمقربين، وممن كان يظنهم  بعيدين عن الضجة والضجيج، والكلام والاحاديث المكرورة المملة، ثقافية كانت أو سياسية، وعداهما. ... ولكن وفي نفس الوقت، ما اجلّه في تعقب واحترام المناسبات الخاصة والشخصية للاصدقاء والمعارف وحتى غيرهم، المفرحة منها والمحزنة .

    ولاغراض التريض، وتغيير الاجواء، كان محمود صبري يحب التمشي، وفي المساحات الخضراء عادة ، وحتى لساعتين متواصلتين احياناً. وقد "تورطت" معه اكثر من مرة، حين يكون ذلكم الثمانيني مسترسلاً في متعته، وانا ذو الخمسين الى جانبه، الهث للحاق به!!! حتى بدأت اهـــرب من ذلك التقليد، لنستعيض عنه بجلسة مقهى هنا، أو رحلات قصيرة بالسيارة، هناك.   

** لمحات شخصيــة

    وأذ تستدرجني الكتابة، وتتشابك اليوميات، بشؤون اخرى، فلأحدثكم عن بعض السمات الشخصية للراحل الجليل، المرادفة للممتلئين وحسب. ومن ذلك تواضعه الجم مع الكبير والصغير، النابه والبسيط، القريب والبعيد. وكم من المرات أخجل الاخرين بتلكم الصفة الاستثناء، النابعة باقتناع دون تصنع أو ادعاء....

        كما اشهد هنا اني لم اسمع من الرجل، ولأزيد من ربع قرن، ولا كلمة سوء عن احد، ولا انتقاد او نقد شخصي. سوى حوارات وجدل دقيق حريص، عميق متأصل.  ولقد حاولت وأنا في خضم هذه التأرخة العجلى، أن استذكر ولو مشاركة كتابية واحدة لمجمود صبري، تُشمُّ منها قسوة او مغالاة أو تشدد شخصي....

       غير ان ذلكم الثبات اعلاه، غير مشمول، طبعاً، في ما يتعلق بالجوانب الفلسفية والفكرية، والوطنية، التي لا مساومة او تردد لديه بشأنها. ومن يريد دليلاً فليعد لدراسة لم تتكرر كما أدعي، حول المقارنة بين " العفلقية والفاشية" نشرها محمود صبري، سنتي 1963و1964 على صفحات ثلاثة اعداد من مجلة "الغد" الصادرة في براغ، عن اللجنة العليا للدفاع عن الشعب العراقي، برئاسة الجواهري الكبير، والتي تشكلت بعيّد الانقلاب البعثي الدموي الاول في شباط 1963. وقد كان الرجل يشغل المسؤولية الفعلية عن تحريرها،  بصفته عضوا في تلكم اللجنة العليا .

... ولأن الالتزام بالمواعيد، وبالوعود، ظاهرة حضارية، فمن الطبيعي تماماً ان تكون من سمات محمود صبري. وهنا دعوني اتباهى مجدداً  فأتحدث عن ايفاء الرجل بقراره في تبني مشروع "بابيلون" للثقافة والاعلام الذي اطلقنــــاه، أنا وعبد الاله النعيمي، أواخر العام 1990 ... فقد بقي الرائد الجليل راعياً للمشروع، بل ومصمما لابرز اصداراته الاولى، وموجهاً له وحتى الايام الاخيرة من رحيله الى الخلود. وما زال غلاف المجلة اليومية، ثم الاسبوعية، التي ما برحت تصدرها مؤسسة بابيلون، ومنذ ازيد من ثلاثة وعشرين عاما، بأسم " انباء براغ" يحمل ذات الغلاف الذي صدر به العدد الاول، بتصميم: محمود صبري .

    والرجل أنيق ليس في كتاباته وأفكاره وفنه وقيمه، وحسب، بل اقترن كل ذلك باناقته في الملبس والترتيب، وكيف لا وهو الفنان – الانسان. ولا تتخيلوا ان تلكم الاناقة ، والمظهر، نتيجة ثياب ممهورة بغالٍ أونفيس، كما اولئك الاخرون! ..فبكل بساطة كان يلبس الرجل، ولكن بذوق وتناسق. وقبل ان انسى لا بد ان اضيف الى ذلك: أن الطبيعة قد حبته شكلاً  وقواماً ممشوقاً، فارعاً، مما اضاف اليه وسامة متميزة، كما هو تميزه في عوالمه ومنجزه الثري.

      أما عن أعتداد محمود صبري بعطائه، وشخصيته، فلا اظن أن أثنين من عارفيه يختلفان بأنموذجته في ذلكم الشأن، وليس من منطلق الغرور، أبداً، ولكن من فيض ثقته العميقة بالنفس، وقناعاته المستندة لما آمن به من مبادئ وأفكار وقيم. وكل ذلك بعيداً عن الاضواء، والبهرجة والافتعال. وهكذا بقي الفقيد الجليل مَحج رواد، وكل ذوي الفهم والمعرفة، والعاملين في مجالات الفكر والثقافة والسياسة والفن... وميادين الوطنية الحقة!  

     ... ثم دعوني أتوقف أيضاً عند واحدة أخرى من مآثر محمود صبري، وتلكم هي عزوفه الراسخ عن شؤون ذاتية كم سعى ويسعى اليها آخرون... واعني هنا ابتعاده وحتى ايامه ألاخيرة عن الطلب أو المطالبة بحقوق وطنية وسياسية ووظيفية، أذ لم تَدر في خلده هموم الراتب التقاعدي، أو احتساب الفصل السياسي- دعوا عنكم الجهادي!!- بعد سقوط النظام الدكتاتوري في العراق عام 2003 .وقدبقي الرجل خارج اللعبة، وكذلك عن لاعبيها الذين نسوا أو تناسوا - مع أستثناء هنا وآخر هناك- احد ابرز رجالات العراق في  القرن العشرين، فكراً وقيما ومبادئ . 

      أخيرا، وكما هي عادتي في الاحتراز من مقصودين، أقول ان كل ما سبق من وقفات جاء عن معايشة مباشرة، على مدى ربع قرن، وكم يعجبني ان أتباهى بها، فكم مثل محمود صبري، كان، وكم بقي مثله، أو سيأتي؟... وأما قِيل:

يموتُ الخالدونَ بكل فجٍ، ويستعصي على الموتِ، الخلودُ

 

 

 

 

 

مع الجواهري  بعيدا عن السياسة والادب !!- 15

الحلقة الخامسة عشرة( الاخيرة)

كتابة وتوثيق: رواء الجصاني

62- الجواهري وزكي خيري، وخلاف الرأي...

     من بين ابرز الشخصيات السياسية الوطنية، والشيوعية، التي جذبت الجواهـــري، وتجاذب معه، كان زكي خيري، برغم عدم اتفاقهما في العديد من المفاهيم، والشؤون، وخاصة العراقية، ولعل مقولة "وخلاف الرأي لا يُفسد في الود قضية" ينطبق في هذه الحال تماما.

      وأذكر هنا ان دعوة عشاء ضمت الرجلين، في شقتنا ببراغ أواسط الثمانينات الماضية، شهدت الكثير من الذكريات عن عقود وسنوات سالفة، عاشاها، وتعايشا معها سوية ، فكرا وسياسة وما بينهما كثير... ثم احتدم  الحديث عن رواهن عديدة، جدالاً ساخناً، واكثر من المعهود، خاصة وان كلاً من الجواهري وخيري، معتدٌّ برأيه، ولحدود بعيدة.. أما محاور ذلكم الجدال، والسجال، فكانت اجتهادات ورؤى سياسية ، ولكن من أهمها: الموقف من الجبهة الوطنية في العراق إبان سبعينات القرن الماضي، والحرب العراقية – الايرانية، والموقف"الاممي" منه... ولأن هذه المحطات التي نؤرخ لها، وبعض عنوانها "بعيد عن السياسة"  فلن نبوح بالمزيد !!!!

 

63- الجواهري عن بنت الشيطان.. وسميح القاسم

   كتب الجواهري، قصيدة فريدة، بعد رهان مع الشاعر الفلسطيني سميح القاسم، على الفوز بمطربة تشيكية فاتنة، في احدى مغاني براغ عام 1973ومن ابياتها:

 

يا بنت شيطان كفاهُ ان يكون اباك فخرا
كان التقربُ منه كفراً، وارى التغرب عنك كفرا
ما اوحشَ المغنى فان رقّصتِ منه فما احرّا
صيرته أنِساً، وكانت سوحه وحشاً تضرى..
وابحتِ "سرتك" التي ضاقت بما استودعتِ سرا
لم استطع صبرا، وهل غير الحمار يطيق صبرا...

 

وقد ردّ سميح القاسم ، ذو الثلاثين عاماً، معترفاً بفوز الجواهري - ابن السبعين في حينها – بذلكم الرهان قائلاً:


مهلاً فُُديتَ "ابا الفرات" فأنتَ بالحسناء احرى
اغريتُها شعراً، واغرتها شؤون منك اخرى ...
سحر ٌ– لعمري– ما صنعتَ ، وكان بعض القول سحرا

 

    .. وبالمناسبة، حكى لي الجواهري، بالترابط مع الواقعة اعلاه، ان سميح القاسم وصديقه، ورفيقه، محمود درويش، "أقتحما" ودون مقدمات، غرفته في احد فنادق العاصمة البلغارية - صوفيا، ذات صباح من صيف عام 1968 وكانا مشاركين في مهرجان الشبيبة والطلبة العالمي هناك، والجواهري ضيف شرف عليه... وأصرا ان يتصورا معه، حتى وهو في ملابس النوم، صادحين بما معناه: انها فرصة العمر، وبدون صورة معك، لا تكتمل مشاركتنا في هذه الفعالية التاريخية.

 

64- الجواهري يتيه ساعة في براغ

     حدث، ولظروف خاصة، أن استبدل الجواهري، مؤقتاً، "شُقيّقته" في منطقة براغ السادسة، بشقة صديقه عادل مصري" ابو سرود" في منطقة براغ العاشرة، والتي لا تبعد عن سكننا الا بنحو مئتي متر تقريباً، وكان قد تردد عليها اكثر من مرة. وجاء للعشاء لدينا ذات ليلة في عام 1987 وكنت حينها في موسكو بسفرة عمل.. وجرى ما جرى، بحسب ما تنقل نسرين وصفي طاهر، زوجة كاتب هذه السطور:

     كنت مع أختي نضال، وولداها من نزار جلال البياتي: بشار ووصفي. وكانت عندنا سعاد الجزائري وزوجها صادق الصايغ، وأنتظرنا الجواهري لاكثر من ساعة، والطريق لا يستغرق أكثر من عشر دقائق، فبدأ القلق يساورنا، وخرجنا جميعا متوزعين في كل الاتجاهات، للبحث عنه. وقد كدنا ان نتصل بالشرطة للمساعدة، لولا ان نسمع صوت"وصفي" ابن العاشرة في حينها وهو يصيح بصوت عال: وجدته .. وجدته!!. ووصل الجواهري تعباً بعد ان سار طويلاً، ولنعرف بعدها أنه اختار اتجاها معاكسا تماما لموقع شقتنا، ويبدو انه كان غاصاً في عوالمه، بعيدا عن الدنيا...

--------------------------------------------------------

.... وهكذا نتوقف عن الكلام المباح، وربما بعض غير المباح، عن شؤون خاصة وشخصية، للجواهري الخالد، ويوميات ومعايشات ظنناها- وما زلنا- تسلط ضوءاً اكثر حول ذلكم الذي "شغل الدنى والكون طراً، وآلى ان يكونهما، فكانا" وأقلاً على امتداد القرن العشرين. كما نحسب انها راحت تؤشر لجوانب من مواقف ورؤى جواهرية، بهذا الشكل او ذاك، ولمسارات من حياته المفعمة بالجديد والاستثنائي...

وأعترف هنا ان العديد من اللقطات والمحطات التي تم نشرها في الحلقات الاربع عشرة السابقة، حظيت بأهتمام محبين ومتابعين كثيرين، كما و"نقدات" من آخرين، بزعم ان بعض الخصوصيات لا يجوز النشر عنها. وبرغم ذلك فقد استمريت، مستلهماً ما قاله الجواهري عن نفسه ذات يوم:

خير الشفاعة لي بأني كاشفٌ حرَّ الضمير وقائلٌ: هذا أنـا

    كما وأعترف ايضاً بأن حساباتي كانت الاكتفاء بحوالي عشر لقطات وحسب، وإذ بالذاكرة- ويا ويلها- تقود لاكثر من ستين موقفاً ومحطة ولقطة جواهرية، لم يُكتب، أو يُنشر عنها من قبل، ودعوني أشير هنا للتاريخ، بأن ثمة في الجعبة، ووريقاتي، الكثير الآخر من "المحطات" الخاصة، والشخصية، وكم اتمنى لو يسعف الوقت، لكي ترى النور كما يُقــــال..

-------------------------------

مع تحيات مركز الجواهري في براغ

www.jawahiri.com

 

 

 

 

 

 

مع الجواهري بعيدا عن السياسة والادب !! (14)

كتابة وتوثيق: رواء الجصاني

 

58- الجواهري بضيافة ابي جهاد

      يزورالزعيم الفلسطيني خليل الوزير "أبو جهاد" براغ، في النصف الثاني من الثمانينات الماضية، لاجراء محادثات ، غير معلنة، مع الجهات السياسية الرسمية، ويشمل برنامجه الخاص لقاء مع الجواهري، الذي اصطحب معه ابنه "نجاح".. وبحضور سفير فلسطين سميح عبد الفتاح، وعدد محدود من اعضاء الوفد الزائر. وبحسب ما توفر من معلومات فان من اهم ما تناوله اللقاء، العتب الجواهري الشديد على نشر مجلة" فلسطين الثورة" موضوعاً، لشاعر سوري، اساءت للشاعر الخالد، وقد حمل ابو جهاد معه خلال اللقاء، اعتذارا فلسطينيا رسميا، حول ذلك الامر.... ويروي "نجاح" ان اهتماماً بالغاً أُحيط به الجواهري خلال اللقاء، اعتزازاً بمكانته، وتقديراً لعبقريته.

 

59- الجواهري "يَــلحَن" بالعربية !

    في الطريق مع الجواهري، بالسيارة، الى منتجع" كارلوفي فاري" الذي يبعد نحو ساعة ونصف عن براغ، وبعد احاديث و"ومناكدات" تقصدت ان أسمعه شريط كاسيت، لمختارات من بعض قصائده المحببة اليه، وبالقاء غنائي جواهري- حداء نجفي- كان يُوزن شعره عليه، ليعرف ان كان فيه خلل أو زحاف، ولا تخرج القصيدة للناس إلا بعد ذلك، بحسب العديد من تصريحاته ..

     وكنت اسمع بين برهة واخرى، خلال سماع الكاسيت، آهة من الجواهري تتبعها ثانية، وعلى مدى ربع ساعة تقريباً. ثم وبلهجة ممتعضة، طلب مني ان اغلق الشريط مع كلمتين: " فُكنه، كافي" . وقد حدست السبب، بل وكنت أتوقعه حتى... ثم فاجأته بالقول: ما رأيك بأسلوبي وطريقة تقليدي لك في الحداء؟... فأخذ نفساُ وصاح:

لمَ لمْ تقل ذلك من الأول؟ كدت أتفجر، فأنا لا يمكن ان ألحَن.. وقد كنت

 بين مصدق ومكذب نفسي بأن هذا التسجيل لي، ومع ذلك فقد أجدتَ

 في التشبه يا "..........."  !!.

     وأذكرهنا واقعة ذات الصلة، وهذه المرة مع مريد الجواهري، وتلميذه، محمد حسين الاعرجي، وكنت معه، وكفاح، نجل الشاعر الخالد، في غرفتين متجاورتين، باحد فنادق أربيل، خريف عام 2000 مشاركين في الاحتفاء بمئوية الجواهري .. وإذ بي أسمع الاعرجي منتحباً، حين كنت  أتغنى" أحدو" ببعض ابيات "دجلة الخير" و"قلبي لكردستان" على الطريقة الجواهرية – النجفية.. وترجاني ان أتوقف عن ذلك لأنه لا يتحمل المزيد من الأستذكار للشاعر الخالد.

 

60- سفير عراقي يفشل في استثارة الجواهري..

   روى لي الجواهري ذات مساء في اواسط الثمانينات الماضية، ان باهر فايق، سفير العراق لدى براغ في الستينات، ألح عليه لتلبية دعوة عشاء في بيته، وبعد ان عرف اسماء المدعوين، وهم  جمع محدود من الشخصيات والاصدقاء، وافق على حضور تلك المأدبة. 

    وخلال الجلسة لاحظت- والحديث للجواهري- ان صاحب الدعوة يتصرف معي بشكل غير طبيعي، من قبيل انه يُضيّف الاخرين قبلي، ويقطع حديثى عندما كان الاخرون يُنصتون، وهكذا. وإذ تكررت الحال، هممت بمغادرة الجلسة، ممتعضاً، واذا بباهر فائق، يحول دون خروجي، ويخاطب المدعوين: لقد فشلت خطتي المقصودة، فلقد أردت ان أغضب شاعرنا الاكبر، لكي احصل على بيت هجاء منه، بعد ان يأسي من بيت مديح، وأذ به يضنّ علي حتى بذلك. ... ثم اعتذر عن المقلب الذى لم ينجح، واستمرت الجلسة أخوانية.

 

61- الجواهـــري.. ولغة الثيـــاب

      كتب الينا "محب" انه تمعن في الصور المنشورة للجواهري، في السبعينات والثمانينات الماضية، وتبين له ان اربع بدلات فقط،  ظهر بها الشاعر الخالد طيلة ذينك العقدين: واحدة بنية اللون، وثانية رمادية وثالثة "مخططة" والاخيرة سوداء . ولم يعلق- المحب الراصد-  سوى بجملتين أو ثلاث: هكذا هو الرمز الذي شغل الدنيا والناس، بعيداً عن "الموديلات" والاربطة الموشاة، والقمصان المطرزة، وغيرها من مكملات..

   ونضيف: ان ذلك حقاً كان واقع الجواهري، فلم يهتم كثيرا بتلكم "الاضافات" التي يراها البعض ضرورية لاستكمال الشخصية.. وقد بقي بأقل "أنـــاقة" مفتعلة، مستنداً الى "أناقــة" شخصيته، وشعره، وسلوكه الانساني ..

   وما دام حديث الملابس سالكاً، دعوني أشهد ان الجواهري، في فترات بقائه لوحده في براغ، كان يغسل ثيابه- عدا البدلات- بنفسه، وينشرها، مع بعض كواء احيانا، وهن محدودات، وبسيطات، ولنقل تقليدية، لتقريب الصورة ... وهاكم ما كتبه هو عن بعض ذلكم الشأن عام 1977:

شَمّرتُ أرداني لنصفِ، وَغَسَلتُ أثوابي بكفّي

ونشرتُها للشمسِ للنّــظراتِ، للأرواحِ تَسفي..

وظللتُ أرمُقُها باسجاحٍ، وترمُقُني بعُنف

لغةُ الثيابِ عَرَفْتُهـا، وأجدتُها حَرفـاً بِحَرْف

لم أنخـدِعْ برفـيـفِـهـا، عِلماً بما تحتَ المِــرَفّ

فلَطالَمـا خَفَقَتْ على شرِسٍ، كجلدِ "الفيل" جِلف

ولطالمـا خَلقتْ على، سَمْحٍ كضوءِ الفجر عَفّ....

----------------------------------------

وللحديث صلة، في الحلقة الخامسة عشرة

مع تحيات مركز الجواهري في براغ

www.jawahiri.com

 

 

 

 

مع الجواهري بعيدا

عن السياسة والادب !! (13)

 

كتابة وتوثيق: رواء الجصاني

 

54- رسالة من الجواهري الى فاتسلاف هافــل

      تحت عنوان "رسالة من أديب الى أديب" وجه  الجواهري اوائل عام 1991   سطورا عاجلة الى فاتسلاف هافل، رئيس تشيكو سلوفاكيا، حول شأن شخصي، بعيد عن السياسة والثقافة، لم يحن الحديث عن تفاصيله بعد... وقد قام عبد الاله النعيمي بترجمة الرسالة الى الانجليزية، ولم تمر سوى أيام قليلة وحسب، حتى جرت متابعة الامر من جهة رئيس الجمهورية، وبكل اهتمام .

   وأذكر هنا كم تمنى الجواهري ان ترفق مع الرسالة ترجمات ما لشعره الوافر، بالتشيكية، عن براغ واهلها وطبيعتها وحسانها، ولكن دون جدوى، اذ لم تكن هناك اصلاً مثل تلكم الترجمات، برغم ان لفيفاً عراقياً- وعربياً ايضاً- من المثقفين والمترجمين، وبعضهم مشهود له بالقدرة والحرفية، احاط بالشاعر الخالد، ولنحو ثلاثين عاما في براغ، ولكن احداً لم يجهد، بل ولم يفكر- ربما؟- في اختيار وترجمة ولو ابيات معدودات من قصائد الجواهري، الى اللغة التشيكية. ودعونا نتباهى هنا- ولم لا؟؟- باننا في "مركز الجواهري" قد سبقنا الجميع في ذلك، فهيأنا، وساعدنا في ترجمة عدد مقبول، نسبياً، لمقاطع من قصائد الشاعر الخالد، واصدرناها مجموعات، ابتداء من عام 2000 ومن بينها مقتطفات من: "حببــــت الناس كل الناس" و"أطــــلت الشوط من عمري" و"بائعة السمك"و"براها" وغيرهن، أبدع بترجمتها الاديب والمستعرب التشيكي الحاذق: يا رومير هايسكي.

 

55- الجواهري، وبليغ حمدي وصفوان بهلوان

      في احدى مساءات دمشق، أواسط الثمانينات، شهد صالون الجواهري ضجة، وكنت هناك، حين جاء الموسيقار صفوان بهلوان، ملحن الابيات المختارة من قصيدة الشاعر الخالد عن سوريا "شممت تربك لا زلفى ولا ملقا" التي نظمها الشاعر الخالد عام 1978، وأدتها المطربة المتميزة، ميادة الحناوي ...

      وخلاصة الحدث التي نعني، هي ان صفوان بهلوان، وكان برفقة مدير عام التلفزيون السوري، فؤاد بلاط ، قال - وفي تصوره انه سيفرِح الجواهري- ان الملحن المصري الشهير بليغ حمدي، قد اعجب بشكل غير اعتيادي، حين سمع لحن وتوزيع موسيقى" شممت تربك" وأكد له – لبهلوان: انك  نحتَّ في الصخر! .. وهنا، أكفهرت الجلسة، وقامت قيامة الجواهري، فطلب من" بلاط" اعتبار موافقته على تلحين ابيات قصيدته، وغنائها، ملغاة، وخلاف ذلك، إن لم يستجب لطلبه، فسيغادر دمشق، ولن يعود لها . والسبب انه لا يريد ان يُغنى شعره "الصخـــر" والذي نحته "بهلوان" باعجاب من "بليغ" ...  وللقارئ ان يقدر مدى حرج المعنيين، خاصة وان التنويه للاغنية، وموعد بثها  قد ملأ وسائل الاعلام . ثم وبعد اعتذارات وتفسيرات، وتدخلات، عدل الجواهري عن غضبه، وبثت "شممت تربك" وكانت بحق، عملاَ واداءً متميزا.

 

56- الجواهري ووصفي طاهـــر

     في خضم الجهد المستمر لجمع ارشيف الجواهــري المتناثر- بكل أسف- هنا وهناك، تسلمت من "فــرزدق" حفيده، من نجله فلاح، رسالة مهمة بعثت بها الى الشاعر الخالد: بلقيس عبد الرحمن، أرملة العميد الشهيد، وصفي طاهر، أحد ابرز المشاركين بتأسيس الجمهورية العراقية الاولى، شملت سطورا مؤثرة، عن بعض وقائع ذات صلة بانقلاب الثامن من شباط ، البعثي الفاشي، عام 1963 ... واذ سننشر عن تلكم الرسالة التاريخية بشكل مفصل في كتاب نجهد على اتمامه قريبا، نستل في التالي سطورا عاجلة مما كتبته بــلقيس:

"لقد نبه ابو نضال "وصفي طاهر" الزعيم عبد الكريم قاسم، ولآلاف المرات، الى خطورة الوضع، وحذره من نتيجة سياسته، ولكنه كان يرد عليه بان الجمهورية قوية، ولا يستطيع حفنة من (الزعاطيط) كما كان يسميهم، القضاء عليها... فيرد عليه ابو نضال نعم (زعاطيط) ولكن وراءهم قوة الاستعمار والطامعين والحاقدين، وانك بسياستك هذه فتحت ثغرات لهم".

.... وللتوثيق ايضا، نعيد الاشارة هنا كما كتبنا عن ذلك في فترة سابقة، ان ثمة علاقة متميزة شدت بين الرجلين: الجواهري ووصفي طاهر، وعبر اكثر من حادثة وحديث، واهمها في السنتين الاوليتين بعد ثورة الرابع عشر من تموز، التي اطاحت بالحكم الملكي في العراق.

 

57- أهداء ثميــن من الجواهري..

      نشرت في فترة سابقة، مادة عن جزأي"ذكرياتي" للجواهري، واجواء كتابتها، وبعض شؤون ذات صلة بها، ومن بينها مساهمتي، وإن الجزئية، في متطلبات اعدادها. وقد صدر الجزء الاول منهما مطلع عام 1989  بطبعتين: أنيقــة وشعبية.. واذ اكون في دمشق في تلك الايام، كان طبيعياَ ان احصل على نسخة، بل واكثر. وأذ بالشاعر الخالد يمانع في ذلك، لاني أعتذرت ان أبقى معه اسبوعا آخر لنعود بعده معاً الى براغ . وأستمر الموقف على حاله، وما باليد حيلة... ثم فاجأني، قبل ساعتين فقط من موعد طائرتي، بنسخة من"ذكرياتي" مهداة الي بهذه الكلمات:

" ولدنا العزيز الموهوب، أهديه اليه مشفوعاً، بصميم حبي، وخالص تمنياتي... خالك المحب، محمد مهدي الجواهري- دمشق في 1989.2.2".

 

 

 

..................................................................

وللحديث صلة، في الحلقة الرابعة عشرة

مع تحيات مركز الجواهري في براغ

www.jawahiri.com

 

 

 

 

 

 

مع الجواهري بعيدا

عن السياسة والادب !! (12)

كتابة وتوثيق: رواء الجصاني

50- الصكـــار والجواهري

   ... وإذ تكون هذه اللقطات التوثيقية، عن بعض خصوصيات الجواهري، في طريقها للاكتمال، أو تكاد، في غالبها الاعم على الاقل، حمل الاثير خبراً مؤسياً آخرعن العراق ومن باريس هذه المرة، وذلكم هو رحيل المبدع الجامع، والانسان: محمد سعيد الصكار... وهكذا تُستفز الذاكرة فتطفح ببعض محطات ذات صلة، وأولها حب الجواهري، المعروف، وتقديره للفقيد الجليل . وهو حبٌ متبادل على ما نزعم، تميز بمواقف ووقائع عديدة أشهد أن من بينها، سطور رقيقة أسف فيها الشاعر - بسبب سفره- من تحقيق رغبة الصكار، الزائر براغ، باللقاء معه اوائل الثمانينات الماضية. وقد حملت تلكم السطور، أمانة، لمبدعنا الراحل، حين التقيت معه  في باريس، في مهرجان الشبيبة الشيوعي الفرنسي عام 1982 فحملني ردأ  قوامه "قبلات بلا حدود" للجواهري، مع مجموعة من الكتابات والاصدارات.

   وفي تلكم الفترة، أو بعدها بقليل، يخط الصكار، ويهدي لوحة متميزة، لبيت متميز من شعر الجواهري، ونصّه:

أنا العراقُ لساني قلبهُ، ودمي فراتهُ، وكياني منه أشعارُ

وقد بقي ذلكم الابداع يتصدر صالون مضافة الجواهري في دمشق، ومنذ اواسط الثمانينات، اعتزازاً باللوحة الفنية - الشعرية، وبمكانة صاحبها...

... وبحسب علي وجيه، فأن الأعمال الشعرية الكاملة للصكَار ضمت ثلاث قصائد ذات صلة بما نوثق له، هن: بطاقة إلى الجواهري، أبا الفرات، ورسالة من أبي فرات. ومنها الابيات التي جارى بها الفقيد رائية الشاعر الخالد في رثاء عدنان المالكي في دمشق عام 1957:

أبا الفراتين، هل كانتْ مكابرةً، ألاّ نصدّقَ أنّ الدهر أقدارُ

وهل تجاوزَ قدرَ النفسِ ذو ثقةٍ، منا، وهل خفَّ في الميزان معيارُ؟

أم المروءة أغوتنا، فغالَطَنا، على المروءة قوالون تجّارُ

حتى غدا الليلُ قبراً، والصباحُ دماً، وضاع في غمراتِ الموجِ بحّارُ..

       كما أذكر هنا حماسة الصكار، حين تصدى، مع عصبة محبة من الادباء،  لما حاول ان يتطاول به ناقد مصري أسمه محمد النويهي، على الجواهري، في مهرجان "المربد" - البصرة عام 1969 فنظم الفقيد بيتين بقيّا معبرين عن موقف جاد، وان جاء بشكل مازح، وقد ثبتهما محمد حسين الاعرجي في عديد من كتاباته، وانقلهما هنا، مع استبدال كلمة واحدة، عن الحلال والحرام!:

نقدُ النويهــــيّ لافذاذنــــــا، منقصةٌ ما بعدها منقصه

قد كتبَ" الدهرُ" على"إستهِ"... سيدخلُ الجنة من بعبصه!!!

    وقد استذكرت مع الصكار، ذينك البيتين، خلال مشاركتنا في فعاليات الاحتفاء بمئوية الجواهري في اربيل خريف عام 2000 والتى فاضت بأحاديث، وشؤون جميلة اخرى، كان فيها سيد الجلسات، وملحها، وكعادته.

 

51- أميرة تحكي عن بعض شؤون ابيها

    في احدى اماسي دمشق عام 2000 قالت لي "أميرة" وهي بكر الجواهري، والاحب والاقرب اليه - بشهادة الجميع على ما أدعي- أن والدها كان في البيت أكثر من حنون في العلاقات العائلية. وكان لا يميز بين الابناء الاربعة والبنات الثلاث، فهو خيمتهم جميعا..

       واسأل "أميرة" عن بعض يوميات الجواهري وبيتياته، وخاصة في الاربعينات والخمسينات، حين كانت تتحمل شؤون البيت مع الخالة / الام "أمونة" وتقول لي انه كان انسانا اعتياديا، أباً وزوجاً لا يحب البهرجة في الملابس وغيرها، ولا الشكليات الزائفة. قنوعاً في المأكل والمشرب، ودوداً في التعامل مع الغير، ولكنه واثق الخطى والرؤى على الدوام. محبا للجلسات الصداقية وان كانت ليست كثيرة، وأغلبها مع الاقربين.... أما مع والدته، فاطمة بنت الشيخ شريف، فهي اكثر من حب ورعاية وعناية، بل وتقديس.

      ثم كان لابد ان ان يتطرق الحديث الى مقامة الجواهري، مزارعاً!! في منطقة "علي الغربي" التابعة للعمارة جنوب العراق، وذلك منتصف الخمسينات الماضية، لنحو عامين. وباستثناء المعروف عن تلكم "المقامة" ثمة حادثة مهمة، وأستثنائية جرت هناك، دفعت بزوجة الجواهري"أمونة" واخته" نبيهة" وأنا صغيراً ذا خمسة اعوام، مصحوباً معهما، للسفر الى "علي الغربي" لملاحقة تلك الحادثة- الواقعة، أو النزوة الجواهرية على الاصح، وقد تفاجأ الشاعر المتمرد بـ"الوفـد" القادم اليه من بغداد، ثم لتحسم الامور بعد فترة وجيزة، وتصبح في خبر كان، كما يقولون. أما عن التفاصيل فقد "منعني" نجاح، نجل الجواهري الثالث، من البوح بها، وها أنذا أستجيب .

 

 52- الجواهري يحتل مكان العروس

      كان الجواهري يحضر في براغ، بين حالة وأخرى، وبحسب المزاج، مناسبات عامة هنا، واخرى شخصية هناك، وليبقى خلالها وقتاً محدوداً في الكثير من الاحيان ... ويحدث ان يَعقد كل من "يسار صالح دكلة" و"عبد الاله النعيمي" قرانهما عام 1985 ويُقام حفل اجتماعي بتلك المناسبة في احدى الصالات الانيقة، دُعي اليه جمع واسع من الاهل والاصدقاء والمعارف، يتقدمهم الشاعر الخالد وزوجته، الذي دخل القاعة مرحاً، وكأنه هو العريس ..             

      ثم، ولمحبته الخاصة لعبد الاله، وكان يسميه بـ "الامير" نسبة للوصي على عرش العراق حتى عام 1958: الامير عبد الاله، يروح الجواهري فيجلس الى جانبه، في صدر القاعة، وفي مقعد العروس بالذات، الذي كان شاغرا برهة. ويستمر الوضع على هذه الحال، فلا احد يستطيع ان يطلب من الجواهري تغيير مكانه، بل ولا حتى ان ينبهه الى ذلك. والى ان انتبه هو شخصيا للامر بعد فترة، فأنتقل لمكان مجاور، تاركاً العروسيين جنبا الى جنب، يستعدان لقفص الزوجية، والذي حصيلته الى الان على الاقل: فارس، وعمر .. 

 

53- موقـــف مع وزير خارجية

    بعد ظهر يوم عطلة ربيعي في براغ، عام 1991 كان الجواهري في حانة شعبية لتناول الغداء، وكنا معه: أنا ونجله نجاح، وإذ بوزير خارجية النظام الجديد في تشيكوسلوفاكيا، ييرجي دينتسبير، يصل الحانة ذاتها، مع بعض اصحابه، ليجلسوا قبالتنا، يأكلون ويشربون بكل بساطة وطبيعية ... وبعد قليل لاحظنا ان الشاعر الخالد قد تغير مزاجه قليلا، ثم إرتأى الانتقال الى مقهى أخرى، وما كان لنا ان نطيع.

    وفي تساؤلات مع الجواهري بشأن "تعكر" المزاج، تبين أنه  كان ينتظر ان يأتي الوزير للسلام عليه، وحين لم يقم بذلك، ضجر وقرر ترك الحانة.. وأذ حاولنا التخفيف من الامر، قال وبكل شموخ: إنه وزير اليوم، ولن يعرفه احد بعد فترة... في اشارة الى مكانته وخلوده، شاعرا ونابغة، بلا وزارة او منصب، ولعله كان يفكر بما قاله عام 1979 :

يموتُ الخالدونَ بكل فجٍ، ويستعصي على الموتِ الخلودُ

---------------------------------------------------

وللحديث صلة، في الحلقة الثالثة عشرة

مع تحيات مركز الجواهري في براغ

www.jawahiri.com

 

 

 

 

 

 

 

مع الجواهري بعيدا

·        عن السياسة والادب !! (11)

·          

·         كتابة وتوثيق: رواء الجصاني

·         46- الجواهري رئيس لجمهورية العراق

·            في النصف الاول من الثمانينات الماضية، ينشر ديفيد هيرست، المتابع المتخصص بشؤون الشرق الاوسط، في صحيفة "الهيرالد تربيون" الشهيرة، ان الرجل الانسب لزعامة العراق هو محمد مهدي الجواهري. فهو من الاكثرية الشيعية، ومقبول من السنة، لانه بعيد عن الطائفية بالمطلق. كما انه ليبرالي في افكاره عموماً، ودون ان يتحزب أويتعصب .... فضلا عن رموزيته ورصيده الشعبي الذي لا يجادل فيه احد .

·             وهكذا يقوم عبد الاله النعيمي، بترجمة المقالة/ المتابعة، ويطلع الجواهري عليها، ويزيد ذلك من انتشائه الشخصي اولا، ومن الافتخار اكثر فأكثر بمكانته الوطنية وتاريخه الثري. وفي تلكم الفترة يكون في براغ- زائرا او مقيما لفترة قصيرة- عامر عبد الله، الشخصية الوطنية، والشيوعية البارزة،  فيدعوه الجواهري، مع اصدقاء مقربين. وأشهد ان المحور الرئيس في تلكم الجلسة المسائية كان ما نشرته "الهيرالد تربيون". وما بين المزاح والجد والمناكدات، يصر الجواهري وكأن الامر قد حُسم، بانه لن يقبل الا ان يكون رئيساً للجمهورية بصلاحيات تنفيذية، وليس "بروتوكولياً" ولن يرضى باية تدخلات في مهامه، من اي كان، موجها الحديث بشكل مباشر لعامر عبد الله، والذي لم يكف هو الاخر من المنابزة والمناكدة، وضمن الاجواء الودية التي سادت  في الجلسة.

·          

·         47- الجواهري في ليبيـــا

·             بعد تردد طويل، قبل الجواهري دعوة رسمية لزيارة ليبيا، عام 1988 وتوجه اليها من براغ، وسعى لكي يقنعني ان اكون معه، دون جدوى، خاصة واني كنت في "الجماهيرية" قبل ذلكم التاريخ بفترة وجيزة... وعشية السفر طلب مني مجموعة دواوينه، ليقدمها هناك هدية، فتمنعت، حتى بعتها له بمئة دولار، وكنت حصلت عليها مجانا منه .

·            ... المهم ان السفرة كانت- لولا الجلسة التي نظمها له العراقيون في طرابلس- "ما تسوه" على حد تعبيرالجواهري. وحتى اللقاءات الرسمية، وبضمنها مع الرئيس معمر القذافي، لم تكن منظمة.... كما انه لم يَكتب عن الزيارة لا شعرا ولا نثرا، برغم منحه وساماً رفيعاً هناك . ثم تأزمت الحال أكثر حين لم يفِ المسؤولون الثقافيون في ليبيا، باتمام مشروع طرحوه عليه، وحصلوا على موافقته، وكان يشمل اعادة طباعة ديوانه العامر.

·             وبالمناسبة يختلط الامر لدى البعض، بشأن القصيدة الميمية التي كتبها الشاعر الخالد عام 1986 غاضبا من الغارة الاميركية على العاصمة الليبية- طرابلس، ويتصورونها ذات صلة بزيارته التي نؤرخ لها، والتي تمت عام 1988 كما سبق القول .

·          

·         48- سطورعن عبد العزيز الجواهــــري

·               في النصف الثاني من الثمانينات الماضية يزور محمد سعيد الطريحي، دمشق، وينقل معلومة توثق وفاة شقيق الجواهري الاكبر:  الشيخ عبد العزيز، الفقيه والشاعر، والباحث البارز، المهاجر الى ايران منذ عشرينات القرن الماضي. ويتأثر الشاعر الخالد، ويعتكف ساعات، ولا بدّ انه استذكر خلالها ايام الطفولة والصبا والشباب وما بعدها.

·               لقد كتب الجواهري عن شقيقه عبد العزيز، في الجزء الاول من ذكرياته، الصادر في دمشق عام 1989 ... كما كان يستذكره بالخير والمودة، والتقدير البالغ، في مختلف الجلسات البيتية، وغيرها، ليس كأخ أكبر وحسب، بل وأعترافاً بتعلمه منه، وبأدبه وشعره، ودوره في ولاية العائلة ورعايتها بعد رحيل الوالد الشيخ عبد الحسين.

·            وبالمناسبة فمن أهم ابداعات عبد العزيز، الادبية والبحثية، إتمامه لسبعة مجلدات فخمة، حملت عنوان "جواهر الاثــار" شملت الترجمة، شعرا، من الفارسية للعربية، فضلا عن التحقيق والتلخيص لـبعض منجز " مثنوي"- محمد جلال الدين الرومي. وأمامي الان الجزء السادس من تلكم المجلدات، أهداني اياه عبد العزيز، شخصيا، حين كنت بضيافته، برفقة أخته نبيهة، في طهران وكرمان شاه، خلال تموز 1968. وقد كدت أن اكون صهره لولا ان فازت بي، نسرين وصفي طاهر!!.

·              

·         49- الجواهري ومظفر النواب

·           يحدث ان يسهر الجواهري في براغ، عام 1970 مع الشاعر، والرسام، الضيف: مظفر النواب، الذي يُبهر باحدى حسان التشيك، ويسعى للتقرب منها بذريعة رغبته قي رسمها، ولكنها كانت "العليمة بابن آوى إذ تحلق للغراب" بحسب تعبير الجواهري، والذي يصف لنا في التالى ،الحكاية شعراً، مع التنويه الى اننا حذفنا كلمتين من النص ، خشية معترضين لهذا السبب أو ذاك ، حقاً أو باطلا:

·         وقال مظفر النواب يوماً لفاتنة من الغيد الحسان ِ
من التشيك اللواتي لست تدري بهن المحصنات من الزواني:
هلمي ارسمتك غداً، فقالت : غداة غدٍ وفي المقهى الفلاني
فقال بمرسمي حيث استقامت من الرسم المعاني والمباني
فقالت لا، ومن اعطاك ذهناً وعلمك التفنن في البيان
اداة الرسم تحملها سلاحاً ".............." مشحوذ السنان
ولكن كل ما تبغيه مني، خفوت الضوء، في ضنك المكان

·            ومما رواه لي الجواهري ان مظفر النواب التقاه خلال زيارته الى ليبيا عام 1988 وعاتبه على استعارة اسم "محمد المصباح" بدلا من اسمه، في الابيات اعلاه والمنشورة في طبعات الديوان حتى ذلك التاريخ، تحت عنوان" فاتنة ورسام". ومن بعدها فقط أفصح الجواهري: ان "محمد المصباح" هو" مظفر النواب" وذلك ما صُحح في طبعة بيروت عام 2000 .  

·         ---------------------------------------------

·         وللحديث صلة، في الحلقة الثانية عشرة

·         مع تحيات مركز الجواهري في براغ

·         www.jawahiri.com

·          

·          

·          

·          

·        مع الجواهري بعيدا

·        عن السياسة والادب !! (10)

·         كتابة وتوثيق: رواء الجصاني

·         ... وها هي حلقة أخرى، وليست أخيرة كما كان مخططاً، فقد جادت لنا الذاكرة بمزيد من اليوميات عن الجواهري، وبعض خصوصياته التي لم تُنشر، أو يُنشر  عنها سابقا... وعلّها توفي - كما اشرنا في حلقات مرت- بعض توثيق اضافي عن الشاعر الخالد.

·         42- يوم تقليدي للجواهري في براغ

·             يبتدأ نهار الجواهري في براغ في حدود التاسعة صباحاً، في الايام التقليدية، أن لم يكن ثمة أرق، انيس ام ممحل. وأذ يغتسل، ويعدّ "شايه" على نار هادئة، مع بعض العسل في كوب حليب، وما قسم الله، يختتم ذلك الافطارالخفيف عادة، بسيكارة أو اثنتين، مع فنجني قهوة على الطريقة التركية. ثم يتهيأ للخروج الى المدينة، سواء كانت درجات الحرارة فوق أو تحت الصفر، فذلك لا تأثير له . وعادة ما يستغرق الطريق بـ "الترام" حوالي أربعين دقيقة، فيكون موعدنا شبه اليومي منتصف النهار في مقهى"سلافيا" أو"الابوتسني دوم" وسط براغ، مع استثناءات بين حين وأخر .

·             وتمتد الجلسة لنحو ساعتين، بين الذكريات والشعر والسياسة، وما بينهما كثير!!. ثم يحل وقت العودة وغالبا ما كنت أوصله بالسيارة، مع توقف، لشراء وجبة شعبية سريعة، من السمك المقلي والبطاطا، أو سلطة خفيفة، تكون غداءه في البيت، إن لم يكن قد جهز طبخة ما ، مصحوبة بكأس من بيرة "بلزن" الشهيرة. ثم يحل موعد القيلولة "المقدسة"عنده لحوالي ساعتين الى ثلاث، بعد سماع الاخبار، ومن أذاعة لندن العربية في الغالب الاعم.

·            وتبدأ الامسية حوالي السابعة مساء، وبعد شاي تقليدي، خالٍ من اية مطيبات، كالهيل وغيره، يقرر حسب  المزاج، البقاء في البيت أو الخروج مجددا للتمشي أو "الأستقهاء" وذلك مصطلح خاص، نسبة الى المقهى، وحتى العاشرة، ليبدأ موعد سماع الأخبار، أو القراءة،  قبل ان يتضرر بصره منتصف الثمانينات، مع كأس، أو اثنتين على الاكثر، وعشاء خفيفا من بقايا الغداء، أو مايكون تحت اليد، ثم يخلد الى النوم، أو ألارق، أو الشعر والرؤى، وحسب الحال الجواهرية.... تلكم هي خلاصة اليوم التقليدي للشاعر الخالد،  دعوا عنكم النهارات والامسيات، والزيارات والاستضافات الاسثنائية ..

·          

·         43- في مؤتمر بيروت للمعارضة العراقية

·             مع انتهاء حرب الخليج الثانية التي تسبب بها غزو صدام حسين لدولة الكويت، ينعقد في بيروت، ربيع عام 1991 وبعد لآي، مؤتمر للقوى والاحزاب السياسية العراقية المعارضة.  وبعد لأي ايضاً، يوافق الجواهري، ذو الازيد من تسعين عاماً، على حضور تلكم الفعالية التاريخية، والتي تزامنت مع الانتفاضة التي شهدتها اربع عشرة محافظة عراقية ضد النظام الحاكم المتمترس في بغداد .

·             ومشاركة الشاعرالخالد في ذلك المؤتمر كان لها أكثر من مؤشر، ومؤشر، إذ وحده كان – وبقي- رمزاً وطنياً، موحداً، للعراقيين جميعاً، على اختلاف مشاربهم، ونحلهم وميولهم . وأذكر هنا جملة موجزة، معبرة بهذا الشأن للمفكر والفنان الفقيد محمود صبري حين قال: لقد كان الجواهري فصيلا "سابعاً" لوحده في المؤتمر... في إشارة، للاطراف العراقية، العربية والكردية، الستة، التي شاركت في تنظيم الفعالية تلك، وإطلاقها .

·                 ومن أبرز ما تبناه الجواهري في المؤتمر، وهذه المرة على ذمة الشخصية العراقية الوطنية، والشيوعية البارزة: زكي خيري: ان تنتقل نخبة من وجوه المجتمعين، بالطائرة الى بغداد، مع تغطية اعلامية وصحفية اجنبية واسعة، وليكونوا رأس رمح العمل لاسقاط النظام،  بدلا من الخطب والتنابز بالكلمات. خاصة وان فترة انعقاد  قد تزامنت – كما أسلفنا- مع اندلاع الانتفاضة الشعبية العارمة في البلد .  ولربما جاءت تلكم الفكرة في مخيلة الجواهري، انعكاسا لحال على ذلك الغرار، اتممتها بعض اطراف المعارضة التركية، ضد حكام نظام بلدها.

·          

·         44- الجواهري في بعض اخوانياته

·             كتبتُ في توثيقات سابقة، منشورة في عدد من وسائل الاعلام، عن بعض اخوانيات الجواهري، ومنها عن، ومع، طالباني والمخزومي ومظفر النواب وشاذل طاقة... وعديد غيرهم من الاخدان والاصدقاء وحتى المعارف، موثقة في الديوان العامر. كما جمع باحثون ومحبون آخرون، ومن بينهم الفقيد محمد حسين الاعرجي، عددا آخر من تلكم الاخوانيات..

·             ومع ذلك بقيت كثيرات أخريات لم توثق الى الان. ولكي لا نكرر المنشور سابقا، تقع بين أيدينا الان ونحن"نلملم" الارشيف، ونجهد في تنظيمه، ابيات اهداها الجواهري الى عادل حبه، المسؤول الشيوعي الاول في براغ عام 1974بمناسبة ولادة طفله البكر" سلام" ونقتطف منها:

·         سلمت"غلاماً" حبيبي سلام، يهزُ الصباح بوجهِ الظلامْ

·         يحثَّ الخطى نقلة نقلة، يُتم خطى الخالدين العظام

·         يشمر عن ساعدي باسل، يشق الطريق لركب السلام...

·         والقصيدة كاملة لدى "علي وجيه" الذي يهم اليوم في جمع ما لم ينشر من شعر الشاعر الخالد، ليضيف جديدا، كما هو عهده.

·          

·         45- الجواهري وحب الحيوانات... ومواقف منها

·             لا ادري ان كانت ثمة كتابة سابقة عن الحيوانات، الاليفة وغيرها، في قصائد  الجواهري. ولكني أذكر على الاقل ما كتبه فوزي كريم عما جاء في "مقصورة" الشاعر الخالد، عن "الضفادع" والتي يصفها معجبا "كأن بعينيك ياقوتتين، صاغهما عبقري جلى" ... كما أذكر كيف تحدث الشاعر الخالد عن مقته لقتل الحيوانات كما جاء في قصيدة قلبي لكردستان عام 1963" يهتاجني ذبح النعاجُ، وأغتلي، لـ"شويهة" عن صدر شاة تفطمُ".. وكذلك أشير الى ما شملته لاميته في الخمسينات الماضية وهو يخاطب راعياً وقطيعه، وهكذا في قصائد اخرى شتى... فضلا عما جاء في الجزء الاول من ذكرياته عن طفولته، وصخلته! و"فخاتي- حمام" البيت.... وكل الاشارات هنا عن الحيوانات الاليفة، دعوا عنكم ذكر المفترسات منها: الذئاب وعوائها، صلال الفلا، النسر وشموخه، الاسد وملكيته، و"الحمار يؤوده الوزرُ" ....

·         ... وأستذكر بهذا السياق واقعة سمعتها من "نبيهة" أخت الشاعر الخالد، ومدللته، انه سأل ذات صباح عن دجاجة الديك "المفقودة". وحين عرف انها ذُبحت وطُهيت لضيوف مفاجئين جاؤوا في الليلة البارحة، اسرع ليشتري دجاجتين بدلا من واحدة، وليدع الديك يعود فرحاً مرحاً بعد ان بقي ليلة واحدة بلا صاحبة !

·         -------------------------------------------------------------

·         وللحديث صلة، في الحلقة الحادية عشرة

·         مع تحيات مركز الجواهري في براغ

·         www.jawahiri.com

·          

·          

·          

·          

·          

 

مع الجواهري بعيدا

 

 عن السياسة والادب !! (9)

 

 

كتابة وتوثيق: رواء الجصاني

 

... وهذه هي حلقة جديدة- وآمل ان لا تملّوا- عن بعض يوميات الجواهري، وخصوصياته، علّها تضيف جديدا في التعريف بذلكم الشاعر والرمز العراقي العظيم، في القرن العشرين على الاقل ...

·         38- لقاء مع خامنئي في طهران 

·             في سعي لتغيير الاجواء، ومحاولة التهرب من"الارق" بل والقلق الذي أبعد عنه النوم الهادئ، وبخاصة بعد رحيل زوجته"أمونة" يُستضاف الجواهري، عام 1992 في الجمهورية الايرانية، بدعوة الامام خامنئي، ولفترة مفتوحة. وتلبى الدعوة، وقد كتب عن بعض شؤونها، السيد مدين الموسوي من زوايا شخصية، لم يكن فيها منصفاً، على أقل وصف. خاصة وان المجالس- ان وجدت- فهي أمانات، وقد قلت له ذلك علناً...

·            ... المهم، يغادر الجواهري الى طهران، ومدن ايرانية اخرى، وقد رافقه في مقامه هناك ابنه "نجاح" فترة من الزمن. ويبدو ان ذلكم التغيير لم يكن العلاج الشافي لارق الشاعر الخالد، وقلقه، فعاد من ايران الى مستقره الدمشقي، بعد اشهر معدودات .... ومن ابرز ما شهده " برنامج" الزيارة، اللقاء بالسيد خامنئي، المرشد الاعلى للجمهورية الايرانية، المحب، والحافظ  للكثير من شعر الجواهري، الذي كتب له ابيات شكر، ومجاملة سجلها على الصفحة الأولى من كتابه ( ذكرياتي) واهداها له ومن بينها:

·         لَكَ أهلٌ فَوقَ الذّرى وَمَحَلُ، لَكَ بَعدَ المكرُمات وَقَبلُ
فإغتَفِر لي ما جاءَ في ذِكرياتي، يا عَطوفاً عَلى خُطى مَن يَزِل

·         ونقل لي "نجاح" ان والده كان متعبا ً خلال الزيارة، ولم يكن برنامجه حيوياً، وكان طوال الفترة معتكف في دار الضيافة المتميزة التي خصصت له في طهران، باستثناء بعض الفترات القصيرة، للتجوال في متنزهات "شمرانات".. كما ولم يلتق الكثير من الذين كانوا يودون اللقاء معه، أو زيارته وباستثناءات محدودة ايضا... 

·         39- الجواهــــري عن أخته نبيهــة

·               ترددت في كتابة هذه المحطة والتأرخة، لاسباب خاصة، وإن كانت معروفة للكثيرين. وكان المفترض ان اتوسع بها، ولكن، ولتلكم الاسباب ذاتها، سأوجز هنا، مع وعد بتوثيق أشمل لاحقاً، وأزعم – كعادتي- أن يكون ذلكم التوثيق جديدا وغير مطروق،  كما هي هذه المحطات واليوميات، السابقات، واللاحقات منها.

·                والتأرخة التي اعني هنا، هي عن علاقة الشاعر الخالد بأخته، نبيهة، وهي الوحيدة في العائلة  بين اربع اشقاء، هم: عبد العزيز، محمد مهدي، عبد الهادي، و"محمد" جعفر، شهيد وثبة كانون الثاني 1948.. وهي – نبيهة- الرابعة في التسلسل،  وكانت مدللة الجميع، وأولهم "محمد مهدي" الجواهري، والذي ينقل نجله "نجاح" انه استمع منه، وبكل صراحة: انها الاشبه الي في كل شي.

·             لقد أصر الجواهري على زواج أخته، نبيهة، من صديقه، السيد النجفي، جواد  "العريضي" الجصاني، بعد"نهوة" عليها من ابن خالها عام 1935 وللقارئ ان يقدر من تلكم الحال كيف كانت مواقف الشاعر الخالد بالضد من التقاليد البالية، ومنذ عقوده الاولى. وثمة تفاصيل عن تلكم "النهوة" في الجزء الاول من ذكريات الجواهري الصادرة عام 1989.

·           ولكي لا نطيل عن شواهد ووقائع، يومية، عن العلاقات الحميمة والوثيقة، وربما الاستثنائية، بين الجواهري وأختــه، نشير لثلاث لقطات من الديوان العامر،  وأولها في قصيدته الشهيرة عام 1948  ومطلعها المعروف "أتعلمُ، أم انتَ لا تعلمُ" حين وصف اجواء الحزن البيتي على استشهاد جعفر فقال:

·         "وأختٌ تشق عليك الجيوب، ويُغرز في صدرها معصمُ" .

·            اما اللقطة الثانية فجاءت في اربعة أبيات أهدى بها الجواهرى ديوانه لنبيهة،عام 1974 وتحت عنوان "يا فرحة العمر" ومن بينها البيتان:

·         سلمتِ، أختيّ، أذ  لم يبقِ لي زمني، أخاً سواها ولا اختاً، تناغيني ...

·         حسبي وحسبك عن بعد وعن كثبٍ، أني أناجيك في هذه الدواوينِ

·            اما اللقطة الثالثة، فهي ابيات مؤثرة القاها الجواهري، باكياُ، امام ضريح أخته، وهي توارى الثرى في متربة السيدة زينب، بدمشق في تموز1987 ومنها:

·         "نبيهــة" ان الحياة ملعبه... ونحن فيها "طابة" ومضربه

·         رهن الليالي حيثما دارت بنا، كعقرب الساعة تحت الذبذبة....

·         حبيبتي"نبيهـــة" سنلتقي، عما قريب عند هذه المتربة !!

·           ثمّ، وبعد عشرة اعوام تماماً، وفي شهر تموز- ايضا- عام 1997
يرحل الجواهري ويواري الثرى على بعد امتار من ضريحي زوجته"أمونة" وشقيقته "نبيهة".

·         40- مع نجاح العطار، وعنها ..

·             قبل ان تكون وزيرة للثقافة في سوريا، خلال الثمانينات الماضية، عُرفت نجاح العطار، اديبة ومثقفة متميزة، دعوا عنكم حصولها على دكتواراه الادب من جامعة السوربون الشهيرة. ومن هنا توطدت علاقتها بالجواهري، وعلاقته معها: احتراماً ومحبة وتقديرا. وإذ يُقام احتفاء فخم بالشاعر الخالد في دمشق عام 1980 تشارك العطار بمداخلة بهية شيقة، جمعت التقييم والتأرخة وباسلوب ادبي انيق. .. وما كان من الجواهري الا ان يردّ التحية بمثلها، ولربما باجمل منها حتى، عبر قصيدة أنيقة، ومن ابياتها مخاطبا العطار:

·         وعجتِ علي فاكهة ونبعاً، وما أنا بالأكول ولا الشروبِ

·         وقد بالغت بالالطاف حتى، كأنك تحرصين على هروبي

·              ومما اسجله هنا مثالاً واحدا معبرا عن مدى اعتزاز وتقدير تلكم المثقفة الباهرة، للشاعر الرمز، أنه كلمها هاتفيا ذات نهار دمشقي عبق، ربيع عام 1988 ليطلب موعداً يزورها في مكتبها الرسمي، فما كان منها إلا  أن تفاجئنا وتأتي بعد نحو نصف ساعة لصالون الجواهري في بيته، وهي تقول بصوت عال: الجواهري هو الذي يُزار... وكانت ساعة لقاء ثقافي أدبي حميم، ملئ بزهو الحيوية والمحبة.  

·         41- إدمان على "لعــب الــورق"

·                أكاد أجزم بأن لا أحبّ للجواهري من "لعب الورق" مع الاهل والاصدقاء، تسلية، ويومياَ لو سمحت له الظروف. وكم وكم مدح مخترعها، أو مكتشفها، ولا أدري اي التعبيرين أصح!. وأظن انها كانت الطريقة المجربة الوحيدة بالنسبة له لكي يبتعد قدر ما يستطيع عما يتوقد به ذهنه من رؤى وآراء وأفكار، وعلى مدار الساعة، ان لم اكن مبالغاً... وقد رافقـــت تلكم اللعبة "البيتيـــة" في الغالب الاعم، الشاعـــر الخالد على مدى عقود حياته الطوال، فلم يكلَّ أو يملَّ منها، أو تكلّ وتملّ منه، يوماً ما.

·         .... وقد لايصدق البعض ان الجواهري ما كان يكاد ان يودع الزوار والاصدقاء الرسميين، مساء، في صالونه الدمشقي، إلا ونادى باعلى صوته: هاتوا "البطانية" والتي تفرش على المائدة لتبتدأ فترة "لعب الورق" مع من هو موجود من أهل البيت، وكذلك من الاصدقاء المقربين الذين يستبقيهم للمشاركة في التسلي، ومن بينهم حتى سياسيون بارزون !!... ولكي لا يذهب "البعض" فيتصور ان الهدف هو المقامرة الممقوتة، أقول: ان "الارباح" و"الخسائر" في الليلة الواحدة كانت محدودة جدا جدا، وربما لا تتجاوز ما قيمته العشرة دولارات، كحد أقصى. ومع ذلك فقد كان- الجواهري- يغضب ويتوتر، ويشتم، ويتهم، حين لا يربح، وأكيد لانه يريد، وكما هو في مناحي حياته كلها: التميز، والانتشاء، وليس للكسب المادي.

·         -------------------------------------------------------------

·         وللحديث صلة، في الحلقة العاشرة

·         مع تحيات مركز الجواهري في براغ

·         www.jawahiri.com

·          

·          

·          

 

 

مقالات سابقة

مع الجواهري

بعيدا عن السياسة والادب!(8)

كتابة وتوثيق: رواء الجصاني

 

    حَظيت، وما برحت، الحلقات السبع الماضيات، من هذه التأرخة واليوميات الشخصية عن الجواهري ، بمزيد من الاهتمام، وإن جاء بعضه منتقدا لأنها"خصوصيات" لا يجب البوح بها. ومع التقدير لاصحاب ذلكم الرأي، ها نحن نستمر في محطات ومعايشات وشهادات أخرى، علهّا تُزيد من التعرف أكثر وأكثر على ذلك الذي ملئ القرن العشرين، وشغل اهله، وما زال.   

  34- بارزاني في صالون الجواهري

     عادة ما كان رئيس الحزب الديمقرطي الكردستاني، مسعود بارزاني، حين يحل في دمشق، وفي النصف الثاني من الثمانينات تحديداً، يقوم بزيارة الجواهري، في دار ضيافته، وقد شيئ لي أن احضر أثنتين من تلكم الزيارات: الاولى، وكان معه القيادي في الحزب، روج نوري شاويس، وعدد من المستشارين. والثانية كانت بحضور المسؤوليَن في الحزب الشيوعي العراقي، عبد الرزاق الصافي وفخري كريم، وسياسيين اخرين.

    وكان الجواهري – كعادته- مرحباً، وبتميز، بضيوفه، متبادلاً معهم احاديث السياسة والتاريخ والشعر، الى جانب "المناكدات" المعهودة. ومن الطبيعي ان تكون هناك أستذكارات عن العلاقة بينه والزعيم الكوردي الكبير، الملا مصطفى برزاني في الستينات، وعن قصيدته الشهيرة عام 1963 ذات المطلع المدوي:

قلبي لكوردستانِ يُهدى والفـمُ- ولقد يجودُ بأصغريه المعدمُ

    وأشهد هنا مرة اخرى، ان مسعود بارزاني، أولاً، كما والضيوف، كانوا جميعاُ آذاناً صاغية، لاراء الجواهري واحاديثه وملاحظاته عن هذا الهمَ العراقي أو ذاك، خاصة وأن النظام الارهابي الحاكم حينئذٍ في البلاد، سالك في جرائمه ومآسيه، وحروبه الخارجية والداخلية .

      وفي سياق هذه التارخة، اشير ايضاً الى ان الشاعر الخالد، ولظروف واسباب يطول شرحها، ولانصيب لها هنا – في الوقت الحالي على الاقل- كاد ان يكون بضيافة الرئيس بارزاني، في كوردستان العراق عام 1992 ليستقر فيها بعد دمشق، والتفاصيل لدى "كفاح" نجل الشاعر الكبير ...

35- صحة عامرة كمنجزه العامر

     باستثناء بعض مشاكل الاسنان المؤقتة، والعملية التي اجراها لعينيه في باريس، في النصف الاول من الثمانينات، بقي الجواهري، وحتى تسعينات عمره، في صحة أستثنائية، بعيدا عن امراض العصر، وغيرها. فالقلب سليم، ولا شكوى من ضغط عالٍ أو منخفض، ولا سكري ولاغيرها . ولذلك فهو لم يحتمِ من الدهون أو السكريات، ولربما لا يعترف بـ" الكولسترول" وتأثيراته السلبية. كما بقي أكولاً، وشروباً،  ومدخناً متوسط الشراهة حتى سنواته الاخيرة.

    وأذ هوعلى تلكم الحال، فلم  يكن بحاجة، على العموم، لمراجعة طبيب، أو مشفى، او اجراء فحوصات دورية، وسواها. مع استثناءات معدودات وهي قضاء اوقات محدودة  في منتجع "كارلوفي فاري" التشيكي الشهير، لتغيير الاجواء، والتمتع بالطبيعة الآخاذة هناك، أكثر من الحاجة للاستشفاء، خاصة وان التكاليف كانت بسيطة جدا، ولربما لا تتجاوز المئة دولار في الاسبوع.

    وحدثني صديق الجواهري لعقود، وطبيبه عند الضرورة، السياسي السوري الشيوعي البارز، نبيه أرشيدات، وكنا في اربيل عام 2000 مشاركين في احتفاء الكورد بمؤية "شاعر العرب الأكبر"! قال: ان صحته، وحتى في سنوات عمره الاخيرة، عامرةً كعبقريته، وعطائه ومنجزه العامر.

36- جيب يرن به الذهب...

    عشية مغادرتي براغ الى دمشق عام 1990 للمشاركة في فعالية شبابية، حملني الجواهري رسالة الى احد معارفه السياسين العراقيين في سوريا، وكان متغاضباً معه، لأنه تقلب في مواقف اعتقدها الشاعر الكبير غير مناسبة ... وقد حدستُ أن في الأمر"إنَّ" كما يقولون، وذلك من نبرة الحديث، ومن علمي بأن أحد "الوشاة" قد نقل اليه ما نقل من مزاعم وأدعاءات . لذلك أخذت الرسالة وفي قرارتي ان لا اسلمها. أولا: لأخفف من وقع المغاضبة، وثانياً لأتحايل على الجواهري، فليس بالمقدور رد طلب له، وثالثا لابعد نفسي عن تأزم اعرف انه سينتهي بعيّد فترة، وأكون انا وسطه دون داع وضرورة  .

   وهكذا وصلت الشام، وبدلا من اهمال الرسالة، طغى علي الفضول، ففتحتها، وكان حدسي في مكانه، ففي الرسالة ما فيها من"عتاب" وأنتقاد، وأكتفي بنقل ما جاء في ختامها من "شعر" كُتبَ في عجالة، وعلى أن يُكمل لاحقا:

جيبٌ يرنُّ به الذهب... ومناضلون بلا تعبْ

فمن اليمينِ الى اليسارْ... ومن اليسار الى اليمينْ

سبحان رب العالمينّ!!!

    وللتأرخة فأن الشعر لم يُكمل، وقد عادت المياه الى مجاريها بين الجواهري وذلكم السياسي المعني، بعد اسابيع قليلة .

  45- الشاعر العظيم يرقص في التسعين

    كم تشوقَ، ويتشوق المحبون، لمعرفة بعض لمحات عن الجواهريّ، بعيداً عن "المقصورة" و"أنا حتفهم" و"آمنت بالحسين" و"أخي جعفراً" و"دجلة الخير" و"قلبي لكردستان" و"يا ابن الفراتين" وغيرها من المدويات... وقد يسألون وهم يشكّون أصلاً في أن تكون لمثل ذلك الشاعر الثائر المتمرد، ساعات فرح أو لحظات عشق أو أزمنة حب. وبين عشرات الوقائع والأحداث ذات الصلة، اسجل عن هذه الواقعة، والتي كنت قد كتبت عنها في تأرخة سابقة:

     في اليوم الأخير من عام 1985 والساعة تقترب من العاشرة ليلاً، والجواهري، وأنا، وبعض أهل البيت، في جلسة حميمة بقصر الروضة وسط دمشق الشام، المخصص لاستضافة الشاعر الكبير، ومن معه، ومن يحب، قلت له ممازحاً، ما معناه: الناس يرقصون ويفرحون في الشوارع والساحات والمقاهي ونحن جالسون هنا نحصي شؤون وشجون الماضي فحسب، ناسين أو متناسين أن غداً مطلع عام جديد ترقص الدنيا لاستقباله. أما أنت القائل:

لا تلم أمسك في ما صنعا ...امس قد فات ولن يسترجعا
امس قد ولّى ولن ينفعهُ ... حملك الهمّ له والجزعا
فاطرحه واسترحْ من ثقله ... لاتضعْ امسك واليومً معا

  ...ويسرح الجواهري هنية في التساؤل ذي الأكثر من مغزى، ولعله قلـّـبه من نواح عديدة مستعيداً ذكريات عقود وعقود، ومطالعَ وخواتمَ سنواتها، السعيدة منها والمؤسية... وما هي غير لحظات، إلا وهبّ شامخاً، داعياً الجميع للاستعداد والذهاب إلى فنـدق شيراتون الشام. ثم دقائق وينطلق وراء "رب البيت" وزوجته "أمونة" كل من : نسرين وصفي طاهر وجمال الجواهري، وكاتب هذا التوثيق، مقتحمين صالات الفندق الرحيبة، حيث البهجـة والموسـيقى والاحتفـال برأس السنة الجديدة..

   ... وهناك، يتزايد فرح المحتفلين، صبايا وفتية، شباناً وكهولاً، من الرجال والنساء، وهم يتطلعون إلى الجواهري الكبير بينهم يرحبون به فرحين ويتقربون منه ويتصورون معه، وليطوقوه وهو جذل، منتش، راقصين معه، وراقصاً معهم بكل مرح ٍ وسرور، ولحوالي عشرين دقيقة تقريباً، حتى تنطلق الثواني الأولى من العام الجديد: 1986 فيتضاعف الرقص والحبور مزداناً بجميلات الشام الذي لم يخف ِالجواهري، ولا يخجل من اعلان انبهاره بهن، ومثيلاتهن الحسان في براغ وبغداد وباريس وبيروت، واينما حللن وأقمن..

   بقي أن أقول أن الشاعر الخالد  كان آنذاك على ابواب التسعين عاماً فقط! وقد واصل فلسفته وحبه للحياة والجمال، ولم يكفّ عن التصريح بذلك علناً مع سبق الاصرار، حتى في ذلك العمر، بل وبعده بنحو عشر سنوات تاليات... ولنا عن ذلك شهادات ومعايشات !.

---------------------------------------------------

وللحديث صلة، في الحلقة التاسعة

مع تحيات مركز الجواهري في براغ

www.jawahiri.com

 

 

 

مع الجواهري بعيدا

عن السياسة و"الادب"!(7)

كتابة وتوثيق: رواء الجصاني

...وها نحن من جديد مع الجواهري الخالد، وما لم ينشر عنه، وبعض خصوصيات، بعيدة عن السياسة والادب(!) بقدر ما نستطيع،ونظن وفيها كما نظن- وليس كل الظن أثماً – ان في الكثيــــر منها رؤى ومواقف تؤشر لجوانب

مما نريد ونأمل ...

29- حافظ الاسد يزور الجواهري معزياً..

    أثناء وجود الجواهري في لندن أوائل عام 1992 في زيارة راحة وأستجمام، تتوفي زوجته "أمونة" بعد عارض صحي مفاجئ، وترسل الرئاسة السورية طائرة خاصة لنقل الجثمان الى دمشق، بصحبة الشاعر الخالد، وعدد من أفراد العائلة، والاصدقاء، ويوارى الثرى في متربة السيدة زينب، بتشييع مهيب، وابيات شعرمؤثرة يلقيها الزوج المكلوم، برحيل حبيبته، وسقف داره، بحسب وصفه، ومنها:

ها نحنُ أمّونةٌ ننأى ونفترقُ  ، والليلُ يمكثُ والتسهيدُ والحرقُ

والصبحُ يمكثُ لا وجهٌ يُصَبّحُني، به، ولا بسماتٌ منكِ تنطلقُ ...

خمسٌ وخمسونَ عشناها مراوحةً، نبزّ مَن سُعِدوا فيها، ومن شُنِقوا

 وأذ تحل مراسيم العزاء، يقوم الرئيس السوري حافظ الاسد في صبيحة اليوم الثاني، بزيارة الجواهري في مضافته الدمشقية، وفي سابقة استثنائية، معزياً، وليستمر هناك ملاطفاً ومخففاً من بعض الام الحزن عن الشاعر الخالد، وبعض افراد الاسرة الذين كانوا هناك، وعلى مدى اكثر من ساعة وأربعين دقيقة، وقد كان مقرراُ ساعة فقط، على حد بعض ما نقله اليّ "كفــاح" عن رحيل والدته. 

   وبحسب "نجاح" نجل الفقيدة البكر، فأن مجلس العزاء كان حاشداً، وقد أمّه العشرات من العراقيين المقيمين في دمشق، كما والسوريين، رسميين وسياسيين وشخصيات عامة وغيرهم. وأضاف، في لجة الحزن، وعلى حين غرة، سأله الجواهري: أين "رُواء"؟ فنقل اليه أن ظروفاً صحية طارئة، حالت دون تمكني من الوصول من براغ. ثم عوضتُ عن ذلك حين شاركت في مراسيم أربعين الفقيدة العزيزة. 

 

30- الجواهري ... والملح!

    سمعت من بعض" اهل البيت" عن واقعة حدثت في بيت الجواهري، في عقوده الاولى، وعن حبه لان يكون الطعام مالحاً، وأهمية ذلك له. ومرة وقد كان الملح اكثر من اللازم، ولتدارك الامر، اتفقوا بأن يقول احدهم على المائدة: لم الاكل "ماسخ" اليوم، خلافاً للحقيقة. وإذ بالجواهري يفور غضبا ويقلب "السفرة" أو يكاد، شاتماً ومعربداُ، لعدم اكتراث الاهل بطلبه وتوصياته الدائمة بأن لا ينسوا الملح الزائد في الاكل!!!

.... كان ذلك في عقود الجواهري الاولى، كما اسلفت. وقد استمر "الملح" ملك الطعام للشاعر الخالد، وحتى سنواته الاخيرة، دون أهتمام، بل ولا حتى تذكر بمضار ذلك صحياً، أو تأثيره على الضغط وغير ذلك. وللتوكيد، أنقل هنا ان مملحة، بل واكثر، كانت تحيط بالجواهري، اين ما كان، وأحداها صغيرة، وأنا شاهد عيان، في جيب "روبه" البيتي، في كثير من الاوقات .

 

31- الجواهري يؤسس "دار الرافدين" للنشر

   لم يكل الجواهري، أويكف عن الجديد والتميز، والمثير، حتى وهو في التسعينات، وهاكم هذه الحال التي أزعم انها تكفي لمزيد من الاستدلال على ما اريد التنويه اليه:

    في أواخر الثمانينات، وتزامناً مع اتمام مؤلفه ذي الجزأين" ذكرياتي" يفاجئنا الجواهري بأنه قرر ان يفتتح في دمشق" دارالرافدين" للنشر، ويعرض عليّ الانتقال من براغ، وأسكن معه، وتحمل مسؤولية العمل ... وقد ترددت طويلاً ثم أكتفيت بان أوعده بالمساعدة جهد ما استطيع، ولكن دون تحمل المسؤولية المباشرة ... وهكذا ينطلق المشروع ويُستأجر له مقر وسط دمشق، ويؤثث، وعلى ان يداوم فيه الجواهري نفسه، وان يتابع العمل معه، نجله "كفاح" والذي تحمل كل التبعات لاحقاً، بعد ان تخلى الوالد عن رغبته التسعينية، بعد فترة من قصيرة من الوقت..

    وللطرافة أذكر هنا ان الجواهري نزل علينا ذات صباح مبكر، غاضباُ على المصمم والخبير الطباعي آنذاك: إنتشال هادي كاظم، لأنه تأخر يومين ولم ينجز الورق الرسمي لـ" دار الرافدين" بحجة انه لم يعثر على صورة "نخلة" مناسبة تكون شعاراً  للدار، بحسب رغبة "صاحب العمل". ولكي تتوضح الحال أكثر، أقول ان الجواهري حين حاجج بالامر، اخرج من جيبه رسم "النخلة" المطلوبة، مستلة من احدى صفحات" المنجد" .

 

32- في المقامة المجرية

   لان الجواهري لا يحمل غير "منقار واجنحة" بحسب احد تعابيره، ولأسباب اخرى خاصة، تستعر حمى السفر لديه عام 1990 فيقرر الاقامة في العاصمة المجرية، بوادبست، موقعا اوربياً بديلاً عن براغ، ليتردد اليها من مضافته الدمشقية بين حين وآخر.

    وبرغم علمنا اليقين بأن تلك "النوبة" الجواهرية لن تطول، وانه لن يستبدل براغ التي "أطالت الشوط من عمره" فما كان في اليد من حيله امام القرار الجديد. وهكذا تردد الشاعر الشاعر على بودابست، لثلاث مرات احداهن طويلة نسبياً، قضاها باهتمام الناشر، وصاحب دار"صحارى" حميــد برتو، وعنايته، مع عصبة محبة وأولها: نبيل ياسين وأنتشال هادي كاظم... ثم أنتهت "النوبة" فعلاً وليعود الجواهري يتناصف  دمشق، وبراغ التي يبدو انه لم ينسَ وعده لها: عهد المرؤة ان أعود وان أعاد وان أعيدا!.

   وبرغم انه وصف بودابست بالجميلة، والمشرقة، ألا ان الجواهري لم يكتب عنها ولا بيتا واحداً، خلافا للعديد من عواصم ومدن العالم التي زارها او اقام فيها مثل وارسو وفارنا وأثينا وطاشقند وطهران ... دعوا عنكم العواصم والمدن العربية. ولعل ابرز حدث للجواهري في بودابست، انه وافق هناك على المشروع الذي عرضه الفنان ضياء العزاوي، وقد نفّذ لاحقا، وهو أصدار ألبوم أنيق، محدود التوزيع، وبحجم كبير، وورق فخم،  شمل لوحات فنية أستوحيت من بعض قصائد الديوان العامر..

 

.33- الجواهري طباخاً

    بسبب قضائه فترات طويلة لوحده في براغ، تعلم الجواهري بعض شؤون الطبخ، وأن يعدّ، طعامه بنفسه، في الكثير من الأحيان، ثم ليدعي بعدها أنه ماهر في تلكم الصنعة، ويا ويل من يقول بغير ذلك ..

    وأذكر من طبخاته المعتادة: "البامية" و"الباذنجان" وخليط الرز مع العدس، أو الماش، والكفتة المقلية، أو المسلوقة!... أما الطبخة الاشهى عنده، فهي ما يسمى"طاس الكباب" وبطريقة جواهرية خاصة. ولمن يريد تعلمها فهي كالآتي: تقطيع اللحم لقطع صغيرة، والبصل أيضا، مع توابل معينة، وكذلك البطاطة احياناُ... وتوضع كل تلك الخلطة، نيــةًً، ومع الرز، في آن واحد على نار هادئة، لساعتين او أكثر قليلاً، ثم لتصبح جاهزة للأكل. أما تلك الطريقة الجواهرية فهي ان يترك الطبخة تستوي بهدوء، ويستغل الوقت بالذهاب الى مقهى أو حانة قريبة، ويعود ليجد"طاس الكباب" منتظراً من يريده. وأشهد انه كان متميزا بتلك الطبخة، وليس كما قالت له زوجته "أمونة" في دمشق ذات يوم من عام 1957:

"رحت في حرفٍ تزخرفهُ، وعلى شئٍ سواه، غبي!!!"

----------------------------------------------

وللحديث صلة، في الحلقة الثامنة

مع تحيات مركز الجواهري في براغ

www.jawahiri.com

    

 

 

 

 

 

مع الجواهري بعيدا عن السياسة والادب!(6)

كتابة وتوثيق: رواء الجصاني

 

... ونستمر كما هي الحال في الحلقات الخمس الماضيات، لنوثق جوانب ويوميات، وخصوصيات عن الجواهري الخالد، ونجهد ان تكون جديدة في محتوياتها، وبعيدة عن السياسة والادب(!) جهد المستطاع...

24- زيارة الى عمان، وتحية للملك حسين

    بضيافة ملكية متميزة، يحل الجواهري عام 1992 في عمان، قادما اليها من القاهرة، ، ويلقي لاميته الشهيرة " يا سيدي أسعف فمي ليقولا .." في احتفال خاص، بحضور العاهل الاردني حسين بن طلال، والذي نزل من منصته، في سابقة أولى، ليشكر الشاعر الخالد بكل تقدير واعتزاز ... ولاننا بعيدون عن السياسة والادب، في هذه المحطات، فسنرد بايجاز على متقولين، ومن بينهم "متأدبون" ايضاً، ونؤكد ان كل الذي أدعوا به ، أو نسجوه من خيالاتهم، بعيد عن اية حقيقة، فلم تكن هناك اية جائزة مالية اختلقتها أوهامهم، بل وسام ملكي، وحسب، وتكريم رمزي يليق بمكانة ورفعة شاعر العرب الاكبر، ومنجزه الفكري والثقافي ...

   وأذ لم تتح لي ظروف العمل في حينها، المشاركة في تلكم "المقامة" الاردنية، فقد الححت بمتابعة شؤونها، عبر عدد من "اهل البيت" الذين كانوا مع الجواهري، ورافقوه، وأولهم نجله كفاح، والذي ربما سيتحدث يوماً عن تفاصيل وظروف الزيارة، ومناسبتها ... كما لنا عودة في تأرخة لاحقة عن بعض شؤون "اللامية" التي غنيت" أوبريتـاً" صيف العام ذاته، باجواء موسيقية وفنية أنيقة، تألقت فيها المطربة التونسية، صوفية صادق، والعازفون وفرقة الكورال.

25- مثقفات متميزات يحاورن الجواهري

     في اواسط الثمانينات الماضية، جاءت الصحفية اللبنانية هدى المر، الى براغ، لتجري مع الجواهري سلسلة لقاءات مطولة. وقد بُهر الشاعر الخالد بسماتها وشخصيتها المتميزة.. ومن بين "ممازحاته" معها، انه ما كان قد اباح لها بذلكم الكمِّ من المحطات التاريخية والشعرية، لو لم تكن هي من قام بتلك المهمة ... وأضاف: لقد عرفوا من يختارون، أنا الضعيف امامكن... وقد كان ما نُشر من حورات، حقاً، اكثر من جديد وحيوي.

.... واستذكر بهذا السياق، واعني به اللقاءات التي اجرتها مع الجواهري، صحفيات وكاتبات لامعات، ومن بينهن المثقفة الكويتية ليلى العثمان، في تلفزيون بلادها، عام 1979 وأظنه كان على الهواء مباشرة، وقد انطلق فيه الشاعر الخالد، وبمزاج استثنائي، وكشف فيه العديد والعديد من المحطات التاريخية، والمواقف. وهكذا الحال نفسه مع الكاتبة السورية، إعتدال رافع، في حوار بثلث كاسيتات تسجيل، ونشرته في عدد من وسائل الاعلام العربية،  اواسط الثمانينات الاخيرة .

...  ومن "مداهراتي" معه، قلت للجواهري في امسية ببراغ: انك تنطلق في مثل تلكم الحوارات" النسوية" بشكل واضح. فأجاب دون تردد: ومع من تريدني ان أنطلق، مع "المشوربين" الذين يشبهونك!!

26- عن لقائين مع مصطفى جمال الدين

   من بين الزوار البارزين لصالون الجواهري في دمشق، ولا سيما في النصف الثاني من الثمانينات الماضية، كان الشاعر والسياسي، السيد، مصطفى جمال الدين.. وقد صُودف ان اكون حاضرا لمرتين، خلال زياراته لذلكم الصالون.. وكان بصحبته في المرة الاولى كل من حسن العلوي، وهاني الفكيكي، إذ الثلاثة مزمعون على اطلاق مشروع اطار سياسي جديد باسم"المتحد العراقي" وعرضوا بيانه الاول على الجواهري الكبير، للاستئناس برأيه في الظاهر، وطموحا بأن يدخل ذلك "المعمان" أو يباركه على الاقل. وفي النتيجة لم يتحقق اي من ذينك الشأنين ...

    اما المرة الثانية فقد كانت جلسة عائلية، وكانت مع جمال الدين، عقيلته، ومن جملة ما تطرقت اليه الاحاديث، بالطبع: الشعر والسياسة وما بينهما. كما كان لابد ان يستمع، الحاضرون في تلك الجلسة، وكالمعتاد، للجواهري في بعض جديده – القديم. وقد كرر السيد الضيف كما هو معهود، الاستحسان والاشادة مرات عديدة . واذ بالشاعر الخالد يلتفت ليقول له مازحاً، مع مناكدة مقصودة: هل تسستحسن فقط! هل لك ان تأتي ببعض يشابه ما ماسمعت؟؟ واضاف:" والله ذبحتنا، بجميلك الشعري الستيني: بغداد ما أشتبكت عليك الاعصرُ، ألا ذوت، ووريق عودك أخضرُ" ... ثم وبعد توديع الضيوف، وحلا السهر والسمر، قال لي الجواهري: تزعم انك "أديــب" ترى بماذا يذكرك ذلك البيت والقصيدة، الجميلة للسيد مصطفى؟ فقلت بعد لحظات: انها على وزن وقافية ورويّ رائيتك عام 1951:  يا مصر تستبق الدهور وتعثرُ، والنيل يزخر، والمسلة تزهرُ" ... فانتشى، مع تعليق: والله حزرتها !!!!

27- الجواهري يغني: حرامات العمر من"ينكضي بساع" !!!

   من المعروف، أو يكاد، ان الجواهري لم يكن يحب اغاني المطربات، والمطربين كثيرا، خلاف"أغاني" ابي الفرج الاصفهاني، طبعاً!! واعني هنا بالتحديد في سبعيناته وثمانيناته وتسعيناته، أما قبل ذلك فلربما كان. وباستثناء اللقطة التي ساتحدث عنها، لم اسمع الشاعر الخالـــد يترنم او"يدندن" يومــــاً ما، وعلى مدى ثلاثة عقود، سوى بخمس كلمات من اغنية "يا نجوى" الشهيــــرة، من الحان محسن فرحان، واداء سعدون جابر، ونصّها: "حرامات العمر من ينكضي بساع" يعقب ذلك تنهد "أيه دنيا" وهي لازمته المعتادة.. ولعل تلكم الجملة الغنائية تناغمت في مخيلته بهذا القــــدر أو ذاك مع معنى بيت شعره القائل: "واركبُ الهوْلَ فـي ريعانِ مأمنَةٍ، حبّ الحياةِ بحبّ الموتِ يُغريني".

     ولكي تكتمل الصورة المقصودة  أقول: في اواسط الثمانينات، وفي مستقره بالعاصمة السورية، طلب الجواهري من المساعد المكلف برعايته" أبــو رامي" ان يشتري له من سوق "الحميدية" نسختين من شريط كاسيت يحوي الاغنية ذاتها.. الاول لتشغيله في السيارة التي يستخدمها بدمشق، والثاني لكي أحمله معي الى براغ... ولا تنسوا ان الشاعر الخالد كان آنذاك في اواسط ثمانيناته، ولم يبرح مردداً"حرامات العمر من ينكضى بساع "!!!

28- الف دولار لاطلاق "بابيلون"

   احتجت عام 1990 مبلغاً قدره الف دولار، لاطلاق مؤسسة "بابيلون" للثقافة والاعلام، من براغ، بالتشارك مع عبد الاله النعيمي، وكان ذلك المبلغ يشكل ثلث راسمال "المشروع" أو يكاد.. ولم يكن لي من سبيل اقرب، وانزه، غير الجواهري لاستدين منه، وذلك ماجرى، وقد وافق على الفور، ولكن مع بعض "مدح" لاذع، خلاصته: ان كل "حسابي" و"ثروتي" لديك، منذ سنوات، وأنت المخول الوحيد بالسحب والصرف، فلمَ تسألني إذن؟ .. مع التنويه الضروري هنا الى أن ذلك "الحساب" وتلك"الثروة" لشاعر العراق والعرب الاكبر لم تتجاوز سوى باضعاف، قليلة، المبلغ الذي استدنته، وأعدته بعد عام ..

  

وللحديث صلة، في الحلقة السابعة

مع تحيات مركز الجواهري في براغ

www.jawahiri.com

 

 

 

 

مع الجواهري  بعيدا عن السياسة والادب!(5)

كتابة وتوثيق: رواء الجصاني

... وهذه جولة جديدة نتصاحب فيها معاً في عدد من اليوميات الخاصة والشخصية، للشاعر والرمز الوطني العراقي الخالد، ولعلها تكون – كما في الحلقات الاربع السابقة- قادرة على السوح بالقرب ممن" شغل الدنى والكون طراً، وآلى ان يكونهما، فكانا"..

20- زعــل مع هادي العلوي

   ينشر الجواهري الجزء الاول من ذكرياته عام 1989 بعد جهد مثابر دام  نحو ثلاثة اعوام عمل، وقد نشرتُ عن ذلك بشئ من التفصيل في تأرخة سابقة . وكان من الطبيعي جدا ان يُكتب عن تلكم المذكرات والذكريات بهذا الشكل أو ذاك، ومن بينها في صحيفة بيروتية، مادة لقيت غضبا من الشاعر الخالد . وبعد وشاية، كاذبة، بل ولئيمة من "أحدهم" صدّق الجواهري بان كاتبها هو: هادي العلوي، الباحث الاميّز، وعاشق الجواهري منذ عقود، وصاحب الكتابات العديدة عنه... ولكي تكتمل"الوشاية" قِيل ان الاسم "الملصوق" تحت تلكم المادة المنشورة، هي إحدى الالاعيب الصحفية ... وهكذا راح الغضب يسري ليصل حد القطيعة، ولفترة من الزمان، مع العلوي، الذي راح ملتاعاً مما نُسب اليه، وأقتنع به الجواهري، الذي كان قد غضب منه، وعليه، في منتصف السبعينات الماضية، بسبب واقعة "سياسية- ادبيــة" ربما نعود لها في وقت آخر .

    ثم كنت في دمشق مطلع التسعينات، وحدثني الجواهري عن" صاحبي" العلوي، وفعلته!! وأذ ناقشت الامرمعه مكذباً، وحاولت لاجئاَ الى محاولة المقارنة بين اسلوب"صاحبي" والاسلوب التي كُتبت به المادة المعنية، شملني الغضب ايضاً لاني لا أقف الى  جانبه، وهو" المعتدى عليه"ً!! ثم غضب أكثر حين علم باني مع نجليه "نجاح" و"كفاح" قد زرنا  العلوي، الزاهد، في"بيتــه" لمعايدته، وكان متوعكاً، وكذلك محاولة منا لتطييب خاطره من الغضب الجواهري ...

21- مرحباً ابـــو جاســم

     كنا جالسين صيف عام 1979  أنا والجواهري، وزوجته أمونة، وأخته نبيهة، في شرفة مقهى "يالطا" وسط براغ، والناس يسيحون أفواجاَ، والشاعر غارق في عوالمه، مع حديث هنا و"حسرة" هناك، وما بينهما تطلع في جمال حسان براغ اللواتي "تخففن فما زدنّ على ما ارتدت حواء إلا اصبعا" كما وصفهن الجواهري ذات يوم... ثم، واذ نحن هكذا، يعلو صوت بغدادي حميم، ليسلم من على بعد أمتار: مرحباً "ابو جاسم" . ثم ليتقدم نحونا رجل في الستينات فيصافح الشاعر العظيم، وليسأله بكل اريحية: هل تتذكرني؟ أنا فلان، بائع الفواكه والخضار، في الحيدرخانة، اوائل الخمسينات، وكم بعتُ لك بالدين!. فجامله الجواهري كثيرا. وحينها عرفنا من هو "أبو جاسم" : انه "محمد" مهدي الجواهري، فكل "محمد" في العراق، يسمى "ابو جاسم" شاء أم أبى ...

22- من بعض"فـنـــون"الجواهري، مع صفاء الجصاني !

     يصل صفاء الجصاني، ابن أخت الجواهري الى براغ عام 1978 قادماً من بغداد، ويذهب بسيارة اجرة من المطار الى شقة خاله، الذي يرحب به ثم يدعوه- فجأة- وعلى الفور لان يروح "يتمشى" أو يشرب الشاي في مقهى قريب، وعلى ألا يعود قبل ساعة من الوقت. وما كان على الضيف، المتعب، سوى أن ينفذ المطلوب، وبلا جدال طبعا.... اما السبب فهو، وبأختصار: ان من كان يسوق سيارة الاجرة التي جاء بها "صفاء" الى شقة خاله، واحدة من حسان التشيك "اللواتي لستَ تدري بهنّ المُحصنات من الزواني" بحسب بيت شعر للجواهري. وقد أستلطفت التشيكية الحسناء، الشاعر الخالد ذا الثمانين عاماً، فأستلطفها مضاعفة، كما يبدو، وما كان منه الا ان يطلب من أبن أخته ذلك الطلب العاجل، بأن يتركهما منفردين...ولعله- الجواهري- أستذكر هنا ما قاله عن" جين" احدى جميلات لندن في الاربعينات :

ما شاء فليكتبْ عليّ الدهرُ اني لا أبالي

إن كان خصركِ في "اليمين" وكان كأسي في "الشمالِ"

23- ابيات "أخوانيــة"... لـ : آرا خاجودور وكاظم حبيب

      لاسباب يطول الحديث، بل والتكهن، بشأنها، سادت لدى الجواهري عام 1988 رغبة جامحة في ان يغيّر شقته في براغ، التى كان قد قضى بها اكثر من ربع قرن من الزمان. وقد حاول شخصياً، ولم يفلح، فلجأ الى المسؤول الشيوعي الاول في براغ آنذاك، كاظم حبيب- أبو سامر، لكي يسهل له ذلك عبر الجهات التشيكية المعنية بالتوجيه بمثل تلكم الامور. وأذ يتأخر كاظم  – بظن الجواهري- عن تلبية طلبه، عاد الشاعر الخالد الى صديقه الاخر، آرا خاجادور، أبو طارق، وكان معنياً بشكل رئيس بشؤون العلاقات السياسية والحزبية الشيوعية العراقية- التشيكية، ليتدخل في حلّ الامر.... ثم، لتحريك الموضوع، وعلى اساس انه شعر اخواني(!) يكتب الجواهري قصيدة يخاطب بها كلا الرجلين، ويحثهما بشكل تحريضي، وتنافسي، للتعجيل بتمكينه من تبديل شقته باخرى، وهي قضية ليست سهلة في حينها .

    وأذ لا تحضرني ابيات القصيدة الان، المحفوظة لدينا في الارشيف العامر، أتذكر من بينها: "يا ابا سامرِ كنْ شفيعي لكي ابدلُ الدار، دارا"... ثم يهدده- أن تباطأ-  باللجوء الى "آرا" والذي هـو "ابٌ لكل الغيارى". وهكذا تستمر المناورة الجواهرية، وتنجحُ، وتتغير الدار. مع استدراك اخير، أقول بأني لم استطع، والى الان، معرفة اي من صديقي الشاعر الكبير، نجح في "الفوز" بتحقيق طلبه.

وللحديث صلة، في الحلقة السادسة

مع تحيات مركز الجواهري في براغ

www.jawahiri.com

 

 

 

 

 

مـع الـجـواهـري بـعيـداعن السياسة والادب!(4)

كتابة وتوثيق: رواء الجصاني

 

...وهذه حلقة رابعة  من "السياحة" مع بعض خصوصيات ويوميات الجواهري الكبير، وهي برغم التعمد بأن تكون سريعة و"خفيفة " كما نزعم، الا أنها، وكما نزعم ثانية، تؤشر لجوانب من مواقف ورؤى جواهرية، بهذا الشكل او ذاك، لمسارات من حياته المفعمة بالكثير والكثير...

16- عن جائزة نوبل ونجيب محفوظ

   اتصل الكاتب والباحث محمد كامل عارف، من لندن، عام 1988 على هاتف شقة الجواهري في براغ، ليسأل لو تفضل الشاعر الكبير باي تعليق- لصحيفة الحياة- كما أتذكر- بمناسبة الاعلان عن منح جائزة نوبل للاداب، في تلك الليلة الى نجيب محفوظ... فطُلبَ منه ان يعاودَ الاتصال بعد نصف ساعة، وهكذا فعلاً أتصل الرجل من جديد، فأُعلم بالاعتذارعن تلبية المطلوب، لظروف خاصة..وقد كان ذلك، طبعاً، بحسب رغبة الجواهري، الذي كان مبتهجاً بنيل كاتب وروائي مصري جليل، تلكم الجائزة، ولكنّ له موقف من لجنة "نوبل" واسلوب اختياراتها، وطرائق عملها، ولربما، بالأساس، تأخرها عن منح جائزتها له – للجواهري، الذي علق على الاتصال الهاتفي بما معناه: كنت افترض ان "محمد كامل" يحبني، ولا "يتحرش" بي هكذا !!!! 

17- ابيات غاضبة، جزاء، وعقوبة

    ألح الجواهري عليّ في احد ايام 1987 للقاء، وكنت في مهمة سياسية لا استطيع تأجيلها، وكان هو ذا مزاج مأزوم . ولم ينفع الحاحه، فضرب الموعد وأكد انه سيكون بأنتظاري في كل الاحوال... وألا !! وحاولت فعلا ان اكون في الموعد المضروب، ولكن لم أفلح، فكان ما  كان من عقوبة وجزاء ..

     ففي صبيحة اليوم التالي، وباكراً على غير العادة، رنّ الهاتف، وإذ بالجواهري يتصنع اللطف، ويقول: طالبتني من فترة بان اكتب لك ابيات شعر، لتتباهى بها، فهاكها. ورحت اكتب، وانا بين مصدق ومكذب:

"رُواءُ" ايا قدوة المقتدي، بلحسِ"........" ولثمِ الردي

تمنعْ، ودعْ خالكَ السلسبيل، ضميئاً، بعيداً عن الموردِ

وكن ولدي سيد الطيّعين، وإلا فما أنـــتَ بـ"السيـــد" !

.... و"السيد" اعلاه تورية باني من السادة الحسينيين. كما تلت تلكم الابيات الثلاثة المنشورة في السطور السابقة، ثلاثة أخرى، وأشدّ تهكماَ، ومناكدة، لا أجرأ على كتابتها، وشملت حتى زوجتي " نسرين وصفي طاهر" التي كان يحبها الجواهري بتميز. وواضح للمتابع ان الابيات الستة المعنية هي تناصُ، وتحوير لبعض ابيات من قصيدته"عبادة الشر" الشهيرة .. ثم، وبعد ان قدرتُ مدى هضيمته، صالحته بطريقة لم يستطع ردّها، ولا اقدر ان اكتب عنها هنا، فليس كل ما "يحصل" يمكن البوح به!!!!

18- الجواهري... شاعر هندي

     في براغ اوائل الثمانينات الماضية، ضرب الجواهري موعدا مع الضيف القادم من بغداد، قدري عبد الرحمن، الشخصية العراقية المعروفة، لكي يلتقيا فى مقهى فندق "إسبيلنادا" وسط المدينة، بحسب الجواهري... وفي مقهى فندق"سبلنديد" القريب ايضا من المقهى الاول، كما ظنَ الضيف.  وبعد ان مرت  نصف ساعة على الموعد، انتبه "قـــدري" بأن شيئا ما قد حدث، لأن الشاعر الخالد لم يصل، وهو الجد دقيق في مواعيده. ثم نقل لنا ما يلي:

     حدستُ الخطأ، فهرولت مسرعاً الى "اسبيلنادا" الذي كان الجواهري قد غادره، ممتعضاً، بعد انتظار ممل، كما تبين لاحقاً. وصادفت هناك سائحاً عربياً متزناً، فسألته: ألم تلحظ  الجواهري هنا ؟ فأجاب السائح: نعم، قبل دقائق، كما أعتقد، ولكني سألته: هل انت الشاعر العربي الكبير؟ فأجابني : كلا، أنا شاعر هندي. فما كان مني- والحديث لا يزال لقدري عبد الرحمن - إلا ان أُجيبه: إذن أنه الجواهري لا غيره،  وهرولت مستعجلاً، لأعثر عليه، بعد مسافة قصيرة، وهو يتفجر غاضبا  .    

19- حوار متميز مع الجواهري... وكارثة

    عشية مغادرته الاخيرة لبراغ، خريف عام 1991 أجبرتُ الجواهري، ان أجري حوارا معه، وألا لن ارتب له بعض الشؤون، فوافق، بعد تمنع طبعا.وكان بحق حوارا متميزا حول مذكراته التي كان طبعها ونشرها قد اكتمل في تلكم الفترة.. وجاءت الاسئلة، كما والاجابات، وعلى مدى ساعة كاملة،  أقرب لاستكمال بعض ما لم تشمله تلكم الذكريات، ذات الجزأين. ... وكان الهدف من ذلك الحوار، فضلا عن التوثيق، خطوة اخرى على طريق ترسيخ مكانة مؤسسة "بابيلون" للثقافة والاعلام التي أطلقت نشاطها من براغ اواخر العام 1990 مع عبد الاله النعيمي ....

     وهكذا ولانشغالاتي، كلفتُ احد المتعاونين في عمل المؤسسة، وهو يحمل شهادة الماجستير، لكي يفرغ الشريط الصوتي على الورق، واكدت له باني سأحسب له ثلاث ساعات عمل مقابل ذلك، على ان يأتيني بالمطلوب في الصباح... وجاء الرجل فعلا، هاشاً باشاً، في الموعد المحدد، وليسلمني الشريط، قائلا ان تفريغه لم يستغرق منه سوى دقائق. وقد صعقت من الاجابة، لأني فهمت الامرعلى الفور، ومع ذلك صبرت قليلا، وسألته: واين الاوراق؟ فقال بكل بلاهة: لقد فهمت انك تريد ان افرغ الكاسيت، اي امسحه، وليس تفريغه على الورق !!! ... وأحترازا مما لا تحمد عقباه، تركت المكتب دون ان أجيب، ورحت هائماً، لاتصل تليفونياً، وأطلبُ من احد المسؤولين في المكتب: الرجاء ابلاغ المعني بانه ممنوح أجازة مفتوحة "تقديراً" لعبقريته .

 

وللحديث صلة، في الحلقة الخامسة

مع تحيات مركز الجواهري في براغ

www.jawahiri.com

 

 

 

 

 

 

مع الجواهري بعيدا عن السياسة والادب !!  (2) (3)

 

كتابة وتوثيق: رواء الجصاني*

 

ها هي بعض "يوميات" اخرى، من بعض المعايشات الخاصة، والشخصية مع الجواهري الخالد، وتأتي، كما جاء في مقدمة الحلقة الاولى، دون تكلفٍ او تزويق، وكما يَشي بذلك، عنوان هذه التأرخة والتوثيق، بعيداً عن السياسة والادب! مع حفنة استثناءات معدودات...

5- عتاب "ساخــن" مع الشيوعيين  

    في اواخر التسعينات الماضية، أحتفت مجلة" الثقافة الجديدة" العريقة، التي كان يصدرها في دمشق آنئذ، الاعلام المركزي لللحزب الشوعي العراقي، وذلك بمناسبة تسعينية الجواهري، وبملف خاص شمل مواقف وذكريات وغيرها... ومن المفترض، بمثل هذه الحال ان يفرح الجواهري، وقد فرح فعلا، مع بعض عتاب ساخن، للمسؤول الاول عن تلكم الشؤون في حينها، الشخصية الوطنية العراقية، عبد الرزاق الصافي، وهو من القيادات الشيوعية المقربة للشاعر الخالد، ولسنوات مديدة... أما سبب ذلكم العتاب الساخن فهو اعتماد تاريخ ولادة "مشكوك به" للشاعر الخالد، أذ كان يصر على انه كان من مواليد 1903.. بينما كبّر مسؤولو المجلة عمره ثلاث او اربع سنوات !!!

 

6- في الطائرة من دمشق الى براغ

    بعد تشييع اخته نبيهة، وموراتها الثرى، في متربة "الست زينب" الدمشقية، اواخر تموز من عام 1987 عدت مع الجواهري الى براغ، على رحلة الخطوط الجوية السورية، ومعنا نجله نجاح، وقد أهتم طاقم الطائرة كما هو معهود، بالشاعر الخالد، وارادوا ان يستضيفوه بقسم الدرجة الاولى، فأعتذر، وبقينا نتجاذب اطراف الحديث، واذ به، وهو يعرف "رهبتي" من السفر بالطائرة، راح يتغنى متقصداً بعجز مطلع قصيدته "اليأس المنشود" المنشورة عام 1947 : شرٌ من الشر، خوفٌ منه ان يقعا... ثم يكرر، بل ويزيد مفتعلا اسئلة واحاديث تدور كلها حول احتمالات سقوط الطائرة في البحر، وانه لا يجيد السباحة، أو انه يشم رائحة حريق .... وغيرها، وكل ذلك ليزيد من"قـلقي" وانا جالس جنبه، حتى هددته بالانتقال الى مقعد اخر بعيدا عنه، فكفّ قليلا ليعود الى المناكدة، ولم تنته الساعات الاربع، وهي مدة السفر، الا وكاتب هذه السطور تكاد ان تصيبه أكثر من سكتة قلبية، على الاقل ! .

 

7- موقــــف من التلفزيــــون

    خلاف "ادمان" الجواهري على استماع الاخبار من الراديو، الذي كان لا يفارقه حتى على سرير النوم، راح موقفه من التلفزيون، معاكساً تماماً ... وبقي لا يطيق صبراً، وخاصة عندما كان يتحدث، بينما يلتهي الاخرون بذلك الجهاز، ومهما كانت برامجه... واسوق هنا، بالمناسبة،  فورة الجواهري الغاضبة، حين كنا نتسامر ذات ليلة في صالته بدمشق، واذ به يشب واقفاً ويستعجل الذهاب الى المطبخ ليأتي بـ "يـدة هاون" لكي يهشم التلفزيــــون، الذى رفع بعـــض اهل البيت من صوتــــه، وهم يشاهــــدون مسلسلا عربياً، ولم يستمعــــوا لطلبه -الجواهري- بان يذهبوا لغرفة اخرى، ويدَعوننا- وبالاحرى يدَعونه- يواصل الحديث، بعيدا عن ضجيج البلهاء، بحسب تعبيره. ثم، ودفع الله ما كان أعظم، إذ وقفتُ حاجزا لمنع ما كاد ان يكون .

 

8- حوارات ليليـــــــة

    خلال سهراتنا بعد ان ينتصف ليل دمشق، التي "أحبَها، لا زلفى ولا ملقا".. كنت اطرح على الجواهري، والعديد من تلكم الليالي كان مع ابنه نجاح، بعض التساؤلات التي ترطب الاجواء، ومن بينها، على سبيل المثال، لا الحصرالذي يطول ويطول:

ما الأحب للجواهري من شعر غيره في الرد على الحاسدين؟ قال، للطرماح بن حكيم:

لقد زادني حبا لنفسي انني، بغيضُ الى كل أمرئ، غير طائلِ

واني شقي باللئام ولن ترى، شقياً بهم، إلا كريم الشمائلِ

ومن شعرك أنت في هذا المجال؟ فردّ، بعد لحظات:

أقول لنفسي اذا ضمها وأترابها محفلُ يُزدهى

تساميّ فانك خير النفوس اذا قيس كلُ على ما انطوى

وأحسن ما فيك ان الضمير يصيحُ من القلبِ: اني هنا

 

9- ثماني عجائب في الدنيا

  في جلسة بيتية بين الجوهري ونجله الثالث نجاح، وأذ كان الحديث ما كان! ضجر الجواهري، واذ به يسأل: اتعرف يا فلان كم هي عجائب الدنيا؟ وحين تلقى الجواب التقليدي بانها سبع، ردّ وبكل ثقة: لا، بل هناك واحدة اخرى، وهي اني جالس هنا لاسمع الان مثل هذا " الحديث"...    

 

ها هي إضمامة اخرى من يوميات خاصة وشخصية، ومعايشات مع الجواهري  على مدى سنوات مديدة، نوثقها هنا دون تكلف او تزويق، ولعلها تَشي أيضا ببعض رؤى وآراء الشاعر العظيم ...

 11- عتاب ساخن مع ياسر عرفات

      سألني الجواهري مساء يوم في براغ، اواسط الثمانينات، وبعصبية ظاهرة ان كنت قد قرأت ما نشره عنه، كاتب في صحيفة "فلسطين الثورة" لسان حال منظمة التحرير الفلسطينية، وكانت تصدر من قبرص آنذاك، وحين اجبت بنعم، غضب وعاتب، لاخفائي تلكم الامور عنه، والتي اوصلها له"محب- كاره"... ثم اختصر الجلسة في مقهى "سلافيا" حيث موعدنا شبه اليومي، واوصلته الى شقته، وكان يسميها بالـ "شقيقة" لمحدودية مساحتها. ثم ليتصل بي ليلاً ويطلب رقم هاتف صديقنا عبد الاله النعيمي، المتميز المعروف باللغة الانجليزية، ثم لأعلم لاحقا ان الجواهري قد اتصل به، واتفقا على موعد صباحي مبكر، ليترجم له سطرين عاجلين، ساخنين، أبرقهما، معاتبا ومغاضباً، الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، باعتباره المسؤول الاول، الاعتباري، عن مجلة "فلسطين الثورة". وقد اختتم ذينك السطرين الساخنين بعبارة" والبقية تأتي" ... ولنا وقفة اخرى عن تلكم "البقية" الاكثر غضبا ، والتي نشرتها صحيفة السفير البيروتية، وفي موقع متميز.

12- الجواهري يصفق، لي، واقفاً

     في حفل افتتاح مؤتمرعام لممثلي طلبة العراق الديمقراطيين في الخارج، عُقد صيف 1983 في مدينة قرب براغ، شارك الجواهري في الحضور، متصدرا لجمع من شخصيات سياسية وثقافية عديدة دُعيت لتلكم الفعالية. وكانت الكلمة الاولى لي، بحكم مهمتي آنذاك في ادارة العمل الطلابي، الديقراطي، العراقي خارج البلاد... واذ اخذنا الحماس، وتزامنا مع نشيد موطني، وقف الحضور جميعا : ضيوفاً ومندوبين، ليصفقوا، وبينهم الجواهري، الذي عاد بعد بضعة ايام، ليشتم الدنيا، ولكن للمناكدة، لانه اضطر للوقوف والتصفيق لرواء الجصاني !!!!!

13- نمـــر احلى من نســـر

    قلت للجواهري ذات نهار، متحرشاً: لو كنت مكانك لاخترت كلمة " نمر" بدلا من "نسر" في بيت لك ضمن رائيتك عام  1975 ونصّهُ: "عندي وداع حمامةٍ، فإذا استثرتُ، فجوعُ نسرِ" .... فضحك وردّ ببديهية جواهرية : وأنا لست مثلك، أنا استطعم اللحوم الطازجة... في تنويه الى ان النسر ينقض على فرائسه وهي حيةً.

14- مع عامر عبد الله وشهادات الدكتوراه

        في احدى الجلسات  الودية، وما اكثرها، بين الجواهري والشخصية الوطنية والشيوعية العراقية البارزة، عامر عبد الله العاني، في براغ اواخر الثمانينات الماضية، اعتذرت عن البقاء معهما، لالتزامي بموعد مسبق مع  "الدكتور فلان"... وذلك ما اثار الشاعر الخالد، ليقول، مُستفزَاً : وهل سيادة "الدكتور" اهم من هذه الجلسة؟ ... ثم التفتَ الى ضيفه قائلاً: يبدو- ابو عبد الله-  اننا أقل مستوى من جماعة "الدكتوراه" ولذلك لا احد مكننا منها، ولا نحن  نستحقها. ولم يقصر عامـــر فردّ: هكذا الدنيــــا - ابو فرات- ولسنا وحدنا من لا نستحقها، بل ولا زكي خيرى ولا محمود صبري  ولا هادي العلوي، ولا " فلان وفلان وفلان "  فنحن لسنا بمقامات وكفاءات "فلان وفلان وفلان ...." .

... أما انا فأعتذر هنا عن التصريح بالاسماء التي جاء ذكرها، فللمجالس أمانات كما تعودنا .

15- اسمــــاء وأسمـــاء وأسمــــاء

     في العديد من المرات، يختلط الامرعند البعض، فيتصورون ان اسم"رواء" مؤنث وحسب. وقد صادف ذلك معي في مناسبات عدة، ومن الطفها ان حُجز لي في احدى كابينات النوم بقطار بغداد- البصرة، مع احدى المهندسات المسافرات، وذلك في كابينة واحدة، وقد عُولج الامر في حينها دون "تعقيدات"... وحدثتُ الجواهري عن تلكم الواقعة، فأستلطفها!! وحملته المسؤولية عن تلك المفارقات التي تحدث معي، لان اختيار ذلكم الاسم، لي، أقترن ببيت من قصيدة "أتعلمُ ام أنتَ لا تعلمُ" الشهيرة، ونصه:" أخي جعفراً يا "رُواء" الربيعِ، الى عفنٍ بارد يسلمُ"... فالقصيدة نُظمت عام 1948 كما هو معروف، وجاءت ولادتي بعد ذلك بنحو عامين، وكانت اجواء الحزن ما برحت تلازم العائلة ...

 ولأن الشئ بالشئ يذكر كما يقال، أشير الى ان العديد من اسماء بنات واولاد الجواهري الخالد، جاءت أوائل، ومتفردة، كما ازعم، ومنها: فرات، كفاح، خيال، ظلال، وكذلكم أحفاده وحفيداته، بل وحتى اسباطه، ومنها: رائد  وأيسر، وبان ومحسد، وهيام، وزهراء وفرزدق، وديباج... وجميعها من اختيارات الجواهري، أو موحياته على الاقل.

 

وللحديث صلة، في الحلقة الرابعة

مع تحيات مركز الجواهري في براغ

www.jawahiri.com

 

 

 

مع الجواهري

 

بعيدا عن السياسة و"الادب"!!!

كتابة وتوثيق: رواء الجصاني

1))

    برغم ما تشهده البلاد العراقية، وشعوبها من "منغصات" وآلام بل ومآسٍ، تدوم وتدوم، دعوني- لعلّنا نغير بعض الاجواء-  اسوح بكم في بعض عوالم وخصوصيات محمد مهدي الجواهري، الصالحة للنشر طبعا، والتي لا يعرفها سوى معدودين، كما أحسب ... وقد يعجب البعض من بعض تلكم الخصوصيات، ولا يستطيع ان يتوقعها ذات صلة أصلاً، بذلكم الذي شغل القرن العشرين: شعراً وفلسفة ورؤى ومواقف، سياسية ووطنية وفكرية وثقافية .

   وأغلب ما سأبوح به، يجئ معايشات يومية، وشهادات عيان،  ولاسيما في براغ، جنة الخلد، التي اطالت الشوط من عمره، كما ثبت ذلك في قصيدته الشهيرة عام 1968 .. فقد شيئ لي ان اكون معه، على مدى أزيد من 12 عاماً، بكل يومياته، وأمزجته- وليس مزاجه- وشجونه وهمومه وافراحه واستراحاته!!!... ولنبدأ بالملموس فنحن في سرد بعيد عن" الادب" كما هو عنوان هذه الكتابة، وها نحن نسعى لأن نكون كذلك، وسنوثق دون ترتيب ولا تزويق، وعلى السليقة كما يُقال. ولكن، ومع عفوية الكثير مما سنتوقف عنده، نظن ان ثمة العديد من المدلولات التي تؤشر لجوانب من حياة الجواهري، العامة....

1- وزارة خاصة لشؤون الجواهري  

   في الطريق لايصاله الى مطار براغ، اواسط الثمانينات، انهمرت علينا طلبات  وتوصيات الجواهري، المتلاحقة، علينا، أنا ونجله نجاح، ومن بينها ان ندفع ايجار الشقة، ونرسل له شاي الاعشاب، وحبوب النوم، واصلاح الباب، وتحويل مئة دولار الى العملة التشيكية، وغير ذلك من شؤون ... واذ تمازحنا معه بان تلك الطلبات تحتاج لمجموعة عمل، بل ووزارة لشؤون الجواهري، ردّ علينا، وبكل "رهاوة": وهل تستكثرون علي مثل تلك الوزارة، يـــا "........" !!!

2- يا أم عوف... وأضحى التنائي

     في مناكدة معه، وكان ذو مزاج يتحمل مثل تلك" الدهريات" قلت للجواهري: انك "سرقت" لحن وموسيقى وقافية ورويّ :"أضحى التنائي بديلا من تدانينا.. وناب عن طيب لقيانا تجافينا" لابن زيدون الاندلسي، في قصيدتك" يا أم "عوف" عجيباتٌ ليالينا، يدنين اهواءنا القصوى ويقصينا"... فسرح قليلاً، وليردّ بعدها، مع "شتيمة" مزاح: هل تصدق انني لم اكن منتبهاً لهذه المقارنة الا الان، وبعد نحو ثلاثين عاماً على " ام عوف" ....

3- وهو ابن تسعين، لا يعقل!!

   أتصل الجواهري ظهر نهار في اواخر الثمانينات الماضية، ليؤجل، بل ويلغي موعدا مضروباً بيننا، مساءً – كما هي العادة شبه اليومية- وكان مرتبكاً، ولكنه ارتباك فرح . ولم يبح هو بالاسباب، ولم اكن فضولياً نحوها ...

    وعلى اية حال، اتصل ثانية، بعد العصر بقليل، وكان هذه المرة، بصوت يحمل نبرة حزن، واتفقنا على موعد جديد، عنده في البيت، وأذ بي اجدني انه كان متهيئاً للقاء مع معجبة "شرق – اوسطية"  تدرس في براغ، وعدت ان تزوره عصرا،  ثم عادت لتتصل به معتذرة، بحجة ان عائلتها منعتها من اتمام ذلكم اللقاء.. وعندها عرفت، سرّ ارتباكه المفرح اول الامر، ومن ثم نبرة الحزن في اتصاله الثاني !!!  ولملاطفته لم اقل شيئا سوى ان اردد على مسمعهِ واحدا من ابيات قصيدته التي يناجي بها نفسه عام 1970: "لجاجكً في الحبِ لا يًجملُ، وانت ابن سبعين لو تعقلُ" ... وكان الشاعر، الشاعر، في تاريخ هذه الواقعة على ابواب التسعين !!!!

 4- جلســـة في دمشـــق

   ليلة مغادرتي الي براغ في اوائل الثمانينات، عائدا اليها من دمشق، بعد قضاء بضعة ايام عمل، ثم استراحة بضيافة الجواهري في مستقره الشامي آنذاك، دعوت اصدقاء معدودين لعشاء هناك . ومن بينهم، بحسب تسلسل حروف الهجاء، لكي لا أزعل احداً: حسان عاكف حمودي، حميد برتو، فالح عبد الجبار،  لبيد عباوي، وعبد الحسين شعبان ... واللقطة هنا ان الشاعر الخالد، وكما هي العادة، تسيّد الجلسة والحديث، شعراُ وذكريات ومناكدات سياسية وغيرها، وعلى مدى نحو ثلاث ساعات، وكان هو المتحدث الاول، والاخير، او يكاد.  وبعد ذهاب الضيوف، اذ به يضع يديه على اذنيه، ويقول، عندي صداع من كثرة ما تكلم مدعووك !!!! في اشارة استباقية الى انه لم ينقطع عن الحديث طوال اللقاء، وحتى على مائدة الطعام ...

5- عن خطبة حفيدته نادية 

  جاءني جمال الجواهري،  الطالب في براغ، اواخر الثمانينات الماضية، وكان رقيقاً فوق العادة هذه المرة(!)  لكي أذهب معه الى الجواهري الكبير، والحصول على "موافقته" بشأن خطبته لـ حفيدته "نادية" من نجله الرابع "كفاح" . وهكذا ذهبنا مساء في الموعد المحدد، وبعد مقدمات شكلية حول الموضوع، سأل الجواهري، وماهو رأي المعنية؟ واذ عرف بموافقتها، أجاب بما معناه: هل هي التي ستتزوج أم أنا؟ أنها صاحبة القرار، وانا لست سوى مؤيد لها... ثم كاد جمال ان يطير فرحا.

وللحديث صلة في  القسم الثاني

مع تحيات مركز الجواهري في براغ

www.jawahiri.com

 

 

 

 

 

 

الجواهـــري... عشية،

وخلال كارثة شباط الاسود عام 1963

 

كتابة وتوثيق: رواء الجصاني

   قبل ان يطول اغتراب الجواهري إلى براغ كثيراً، حتى حلت كارثة شباط عام 1963 بكل مآسيها التي طالت "أهلاً وصحاباً وديارا" وفي شتى أرجاء البلاد العراقية... وكان لابدّ لشاعر الوطن أن يتخذ موقفاً، فاتخذ، برغم خلافاته ومواقفه العامة والخاصة التي كانت سائدة في حينها من قيادة السلطة التي طالها الانقلاب، وزعيمها عبد الكريم قاسم، وكذلك من والاه دون تحفظ ... وقد وثق الشاعر الكبير عن بعض ذلك في رائيته الموسومة "يا غريب الدار" عام 1962ومن أبياتها:

من لهمّ لا يجارى ولآهات حيارى

 ولمطوي على الجمر سراراً وجهارا

من لناء عاف اهلاً وصحاباً وديارا

تخذ الغربة داراً، إذ رأى الذل اسارا

     وإذ تنادى الالاف من معارضي الانقلاب، سياسيين وأكاديميين، ودارسين وغيرهم، في الخارج، للانتصار إلى أهلهم وبلادهم ضد القمع والارهاب، أفلحت جهودهم في اطلاق لجنة عليا للدفاع عن الشعب العراقي، وليتم اختيار الجواهري رمزاً وطنياً، وثقافياً، أولَ، وبالاجماع، لرئاستها، وقد اتخذت من العاصمة التشيكية براغ مقراً مركزياً لها، وذلك بعيّد فترة وجيزة من طوفان الدم الذي تسببه الانقلاب البعثي المشؤوم.

    وضمت قيادة تلكم "اللجنة العليا" شخصيات وطنية جليلة كان من أبرزها فيصل السامر ونزيهة الدليمي وذنون أيوب ومحمود صبري وصلاح خالص ، وايضا :جلال طالباني لفترة محدودة... ذلك إلى جانب ممثلي وتشكيلات اللجنة في عدد من عواصم ومدن أوروبا بشكل خاص.

   وفي ظلّ رئاسة الجواهري نظمت اللجنة العليا للدفاع عن الشعب العراقي، التي امتد نشاطها – عملياً – حتى مطلع 1965 العديد من النشاطات المهمة كالمؤتمرات والندوات واصدار البيانات وتنظيم حملات ومهرجانات التضامن في بعض البلدان الأوربية، الرأسمالية منها، والاشتراكية آنئذٍ... كما أصدرت اللجنة مجلة فكرية سياسية عامة باسم "الغـــد" لتتولى مهمات توثيق الاحداث وكشف الحقائق ومحاولة صياغة البدائل، لانقاذ البلاد، ووقف نزيف الدماء.

     وخلال تلكم الفترة، كتب الشاعر الكبير قصيدته الذائعة الصيت عن بغداد "دارة المجد، ودار السلام" وما حلّ بها من دمار وانتهاكات وسيول دماء غزيرة، وقد كان لتلك الميمية الهادرة، بحسب المتابعين والمؤرخين، أصداء واسعة في المعتقلات والسجون ولدى عموم الجماهير التي اكتوت بمجازر الانقلاب المشؤوم ... وهكذا جاءت أيضاً، وفي خضم تلكم الأحداث ميميته، الاخرى، التأريخية الثائرة عن نضال الشعب الكردي "قلبي لكردستان".

يا موطن الأبطال بثٌ مؤلم، وألذ اطراف الحديث المؤلمُ

سلّم على الجبل الأشم وعنده من ابجديات الضحايا معجمُ

سفرٌ يضم المجد من اطرافه، ألقاً كما ضم السبائك منجمُ

يا موطن الأبطال حيث تناثرت قصص الكفاح حديثُها والاقدمُ

حيث انبرى مجدٌ لمجد ٍ والتقى ، جيلٌ بآخر زاحف يتسلمُ

    كما نظم الجواهري في الفترة ذاتها عديداً آخر من القصائد الوطنية و"المقاوِمة" والانسانية... ومنها ملحمته "إلى أطياف الشهداء الخالدين" والتي جاء فيها:

سلاماً وفي يقظتي والمنام، وفي كل ساع ٍ وفي كل عام ِ

تهادي طيوف الهداة الضخام، تطايح هاماً على اثر هام ِ

ودقت مسامير خجلى عطاشى، بكف ِ المسيح فطارت رشاشا

بقايا دم للعصور التوالي تخضب بالمجد هامَ الرجال..

حماة الحمى والليالي تعودُ، وخلف الشتاء ربيع جديدُ

سيورق غصنٌ، ويخضر عودُ، ويستنهض الجيل منكم عميدُ

       ومما نذكره للتأرخة هنا ان تلكم القصائد التي أشرنا لها، ضمها إلى جانب شقيقات أخريات ديوان خاص حمل اسم "بريد الغربة" أشرفت على طباعته وتوزيعه لجنة الدفاع عن الشعب العراقي، ذاتها، وقد تبرع الجواهري بكامل ريع الديوان للتضامن مع أهل البلاد، الجاثمة تحت وطأة الانقلابيين وجرائمهم التي أدانتها كل قوى الخير في العالم.

   وإذ لا يتحمل الحديث الموجز هنا، لتفاصيل أخرى عديدة، نعد أن يتم السعيّ لتوثيق مفصل عن تلكم "اللجنة" ودور الجواهري في رئاستها، فضلاً عن تجربتها ونشاطاتها ، وكذلك عن التعقيدات التي رافقت عملها، ونأمل أن يتحقق ذلك في فترة قريبة قادمة...

 

 

 

الجواهري حول بعض

 

مواجهاته، و"آداب" الخصام

 

كتابة وتوثيق:

رواء الجصـاني

على مدى عمره الشعري الذي دام نحو ثمانين عاماً، واجه الشاعرالعظيم، محمد مهدي الجواهري (1998- 1997) معارك وخصومات ثقافية وسياسية، وما بينهما، بسبب مواقفه ورؤاه التنويرية، الداعية الى النهوض والارتقاء العراقي، والعربي، بل والانساني أيضاً...

وقد تعددت تلكم الخصومات، كما سنحاول ان نوضح، من وجوه وشخصيات، ورموز، ومعها. الى جانب تطاولات من طالبين "علو" بأي ثمن كان!... وفي جميع ردود الشاعر والرمز الوطني الخالد، ومواجهاته، أعتمد التعميم، بعيداً عن الشخصنة، والشؤون الذاتية، لأسباب نزعم ان من أهمها، اثنان، أولهما: سعيه لأن تكون آراؤه ورؤاه شاملة في دوافعها، ومعالجاتها... والآخر، هو اصراره ألا يدخل التاريخ أسماء وشخصيات، "يُخلدون" وان هجاءً، في ديوان شعره العامر...

وسألت الجواهري ذات نهار في براغ، أواسط الثمانينات، وكان رائق المزاج، يتحمل مثل تلكم الأسئلة، المثيرة على أقل وصف، ومنها: انك "مزدوج" في المواقف من المتطاولين، وحتى النقاد... فمرة تعتمد مقولتك "ولقد سكت مخطاباً، اذ لم أجد من يستحق صدى الشكاة مخاطباً" عام 1949 أو "ترفع فوق هامهم، وطرْ عن أرضهم صعدا" عام ( 1976) ..أو مقولة شعرية قديمة تقول:

 كبرت عن المديح، فقلت أهجو، كأنك ما كبرت عن الهجاء...

ولكنك في احايين اخرى ترد على متطاولين، وغيرهم، بشكل مباشر وقسوة مثل قولك عام (  1953 ):

عدا علي كما يستكلب الذيب، قوم ببغداد، أنماط أعاجيبُ

... او ما جاء في رباعيتك (1959-1960):

سيسبُ الدهرُ والتاريخ من اغرى بسبي...

يا لويل المشتلي كلباً لسبٍ المتنبي

 .... وكان جواب الشاعر الخالد، مباشراً وموجزا ومعبرا في آن واحد، و بما معناه، ان لكل حادث حديث، ولكل موقعة نزالها، ولكل ظرف متطلباته، كما لكل معتدٍ ومسف، ما يستحقه، وخاصة من لم يتعظ منهم ...

ويعرف المتابع الحريص ان الجواهري كان ذا ثقة متناهية بالنفس منذ عشريناته، وقبل ان يتربع عرش الشعر العراقي والعربي بسنوات طويلة.. ومن ضمن ما يمكن التأشير اليه هنا عن ردوده وعنفه وأنفته، وهو ما برح يافعا متطلعاً، ما جاء في تضمين نونية له اواسط العشرينات:

"ولو اني بليتُ بهاشميّ، خؤولته بنو عبد المدانِ

لهان على ما القى ولكن، هلموا وانظروا بمن ابتلاني"

وتينك البيتان اعلاه يذكراننا ببييت للشاعر الخالد جاء في بائيتـــه العصماء عام 1949 ونصــــه:

لقد أُبتلوا بيّ صاعقا متلهباً، وقد أُ بتُليتُ بهم جهاماً كاذبا

.. ثم تستمر تلكم "القسوة" و"العنف" الجواهري، في مختلف مراحل حياته الشعرية، فذاك هو قائل عام (  1935 ):

فإن تراني أُذكي القوافي بنفثةٍ، أرى اني على كتمانها غير صابرِِِ

... وفي مقصورته الاربعينية:

بماذا يخوفني الأرذلون، وممَّ تخاف صلال الفـــلا

اذا شئت أنضجت نضج الشواء، جلوداً تعاصت فما تشتوى

وابقيت من ميسمي في الجباهِ، وشماً كوشم بنات الهوى ...

... وهكذا في الخمسينات والستينات والسبعينات، والثمانيات... وحتى في التسعينات، ويطول الحديث وتكثر الشواهد، ولكل ذلك أسانيد ووقائع وشواهد ، عسانا نتابعها في فترات لاحقة، مقرونة بما عندنا من شهادات ومعايشات ...

**********************

    ودعونا نعود الآن للقسم الثاني من عنوان كتابتنا اليوم، عن الجواهري و"آداب" الخصام، فأقول انه مع كل قسوته، وعنفه، أعيدُ مجددا التنويه الى ان غالبية ردوده، وانتقاداته، راحت تتجاوز المعنيين، إلا في حالات محددة، فكانت لا تحتاج إلا لبعض جهد لكي يُعرف من هم أصحابها!... ومن بينها ما جاء في قصيدته عام (1948):

و"زعيم" قومٍ كالغراب به، صغََـَـرٌ وفي خطواتهِ كِبرُ...

بادي الغباء تكاد تقرأه، بالظن لا خًبَرُ ولا خُبرُ

أضحى "وزيرا" فأغتذى رهِقاً، مثل"الحمار" يؤوده الوزرُ

...أو في قصيدة " اي طرطرا" الشهيرة، وفيها ترميزات لاسماء معروفة :

شامخةً شموخَ قرن الثور بين البقر

أقذر من ذبابةٍ في مستحم قذر

فهي تطير حرةُ جناحها لم يُعر..

..... وهو – الجواهري-  يروح  كما سبق القول  لكي يثير في هجائه، الناس والقراء، ويدفعهم للمسار العام، برغم ان ثمة مقصودين محددين في تلكم "الهجوة" أو ذلك البيت من القصيد... وهاكم مثالاُ يقرب الصورة أكثر بشأن ما نعني، حين قال في نونيته الشهيرة، دجلة الخير (1962):

جبْ أربعَ النقد واسأل عن ملامحها ، فهل ترى من نبيغ ٍ غير مطعونِ..

عادى المعاجمَ "وغـدٌ" يستهين بها، يحصي بها "ابجديات" ويعدوني

شُلتْ يداك وخاست ريشة غفلتْ عن البلابل في رسم السعادينِ

.....او ما جاء في داليته الأخرى عام 1974:

و"مخنث ٍ" لم يحتسب ، في ثيّب ٍ خيطت وبكر ِ

أقعى، وقاد ضميره، ملآن من رجس ٍ وعُهر ...

"غالٍ" كأرخص ما تكون أجورُ غير ذوات طهر ِ

لم يُعل ِ قدري مدحه، وبذمه لم يُدن ِ قدري ...

... أو ما شملته قصيدته "سهرت وطال شوقي للعراق" عام 1969:

و"منغول ٍ" من "التاتار" وغْد ٍ، تراضع والوغادةُ من فواق ِ

إلى "يمن" إلى "حلب" تسمى، إلى "مصر" إلى درب الزقاق ِ

وكل ضاق بالملصوق ذرعاً، وأيٌ فيه مدعاة التصاق ؟

أوجه القرد، أم خلق البغايا، أم النعرات، أم نذر ِ الشقاق؟ ..

ولما حمت الأقدار ألقت، به جيف البطون إلى العراق ِ ...

ليجمع حوله سفلاً تلاقى ، كما التقتْ الخفافُ على الطراق ِ ...

"زنامى" يعطفون على زنيم ، كما عطف الجناس على الطباقِِ

********************

   وأعود لبعض "الدردشات" التي كانت شبه يومية مع الجواهري، وعلى أزيد من خمسة عشر عاماً، في براغ ودمشق، فأزعم اني "أحرجته" مرة حين سألته عن أبيات داليته العاصفة عام 1974:

ولا تدعو الخصام يجوز حداً، بحيث يروح رخصاً وابتذالا

تقحمتُ الوغى، وتقحمتني، وخضت عجاجها حرباً سجالا

وكان اجل من قارعت خصمٌ، بنبل يراعه، ربح القتالا

.....ومن ثم عودته في أبيات لاحقة من القصيدة ذاتها ليقول:

وما أنا طالب مالاً فأني، هنالك تارك مالاً وآلا

ولا جاهاً، فعندي منه أرث، تليدٌ لا كجاهكم انتحالا...

حذار فكم حفرت لحود عارْ لأكرم منكم عماً وخالاً...

   ... وقد ردّ الشاعر العظيم على "حرشتي" بالقول: لقد كان عليّ ان أقسو لأمنع المزيد من التطاول... ورحمة بالمعنيين بهم، وبنسلهم! فيدخلوا التاريخ من "أضيق" أبوابه، ولكي يكفوا ويعرفوا حجومهم، وقد كفوا حقا. إذ لم  يردّ، او يُجب، احد من الذين تطاولوا، ولقوا جزاءهم، شعرا، ولا بحرف واحد، احترازا من الاقسى والأّشد  ... وبحسب رأيه أيضاً:

فيا طالما كانَ حدّ البَغِيّ، يُخفّفُ مِن فحشِ أهل البِغا

      وبمناسبة الحديث عن حجوم بعض "المنتقِدين" و"المنتقـَـدين" أنقل هنا، كشاهد عيان، عن ثورة الجواهري العاصفة أواسط الثمانيات الماضية حين نشر محرر أو كاتب مغمور (وما أكثرهم اليوم) مادة في صحيفة "تشرين" الدمشقية الاشهر في زمانها، وقد تجاوز بعض حدوده فيها... فما كان من الشاعر الخالد إلا ويقرر مغادرة دمشق، والضيافة الرئاسية على الفور،غاضباً ومحتجاً، لشكه بان ثمة "مسؤولين" وقصد وراء ما كُتب، ولم يتراجع- الجواهري- الا بعد تدخل قيادات سياسية، وبعد اعتذار رسمي... وقد نُشر له ردٌّ عنيف في مغزاه ومعناه، وبشكل بارز في الصحيفة ذاتها، وأذكر انه حاجج في ذلكم الرد كيف اصبحت الأمور اليوم، تسف، كتاباً وصحفاً "سيارة" بعد ان كانت الحوارات والنقاشات على مستوى المتنبي وابن خالويه، في الفترات القديمة، وبين العقاد وطه حسين في العقود الأخيرة... وثم كيف انحدرت "الآداب" ليكتب من يكتب، وينشر من ينشر على ذمة يافطات حرية الرأي، وديقراطية الثقافة، ودون حساب للتاريخ والجغرافية والأصل والفصل...

وبهدف التوكيد على ما أشرت اليه في السطور السابقات، استشهد هنا ايضاً بما قاله الجواهري، في ذات المسار عام (  1982) ليقصد مسفين ومتطاولين، وليصول عليهم، ويجول فيهم:

كم هزّ دوحك من قزم يطاوله، فلم ينله، ولم يقصر، ولم يطل

وكم سعت "امعات" ان يكون لها، ما ثار حولك من لغوٍ ومن جدل

وعلى ذات نهجه، ورؤاه في "آداب الخصام"، وأصوله، نقرأ للجواهري الخالد مناقشة وجدلاً اجزم انه الابرز في كل نثرياته الادبية والفكرية والصحفية، وذلك مع طه حسين، احتوته مقدمة "الجمهرة" التي اصدرها الشاعر الخالد في عدة مجلدات، أواسط الثمانينات الماضية... فمع كل ملاحظاته وقسوتها، إلا انه اعاد ولمرات ومرات الاعتراف بـأستاذية، ومكانة من كان يناقشه...

ولأن الشيء بالشئ يذكر، نتوقف هنا أيضاً عند بعض رسائل وتحايا، واستذكارات، الجواهري، وكذلك اخوانياته، الأنيقة، المتميزة، برغم انه كان ما كان بينه، وبين أصحابها من خلافات وخصومات. وتحضرني هنا ابيات قصيدة ذات صلة، وهي في الموقف من د. سهيل ادريس حين خاطبه الجواهري، معاتباً، وغاضباً عام 1969:

و"صاحبٍ" لي لم أبخَسْهُ موهِبةً، وإنْ مشَتْ بعتابٍ بيننا بُرُد

نفَى عن الشعرِ أشياخاً وأكهِلـَـة، يُزجى بذاك يراعاً حبرُه الحَردُ

وما أراد سوى شيخٍ بمُفردِه، لكنَّهُ خافَ منه حين يَنفرد

بيني وبينَك أجيالٌ مُحَكَّمَةٌ، على ضمائرها في الحكم يُعتَمدُ

      ثم دعوني أذكّر أيضاً بمقطوعته ذات الستة أبيات التي يخاطب فيها نفسه عام     (1952) والتي جاء مطلعها، وكذلكم ختامها، ليوثــــق من جديد ما عنيناه في هــــذه الحــــال أو تلـــك :

غذيّتْ بشتمك – سيدَ الشعراء - ديدانُ أوبئة ٍ بغير ِ غذاء ِ

علقت زواحفها بمجدك مثلما، طمعَ العليق ُ بدوحة علياء ِ ...

نفسي الفداءُ لمخلص متعذبِ، اما الدعيّ ففدية لحذائي

... وللقارئ والمتابع ان يقدر كم هو وسع الهضيمة التي عانى منه الجواهري، ليكتب بمثل تلكم القسوة والمباشرة، وهو القائل يصف نفسه، ويُسبب غضبه، وفي اكثر من مرة، بمثل ما أورده ضمن ميميته الثائرة عام 1963والشهيرة بقلبي لكردستان:

يا ابن الشمالِ ولست مسعر فتنة، انا في وداعتي الحمام وأنعمُ

يهتاجني ذبح النعاجِ وأغتلي، لشويهة عن صدر شاةٍ تفطم

فإذا استثرتُ فعاذري، نفس بكل دنيئة تتبرمُ

*******************************

    أخيراً، يهمني أن أنوه هنا، لجميع من يهمه الأمر، ان ثمة رسالة دراسية بعنوان"هجائيات الجواهري" قدمها الباحث المتميز، عادل ناجح عباس البصيصي، ونال عليها درجة الماجستير عام 2011 وفيها جهد كبير، ومتميز ومفصل، يتناغم معه الكثير مما جاء في هذه الكتابة التوثيقية .

كما كم يهمني ايضاً أن أشير في الاخير، وحقاً هذه المرة، الى ان بعض دوافع كتابتي لهذه المادة، هو ما عجت، وتعج به، بعض مواقع الانترنيت، وغيرها من وسائل اعلام واتصال ، من مواضيع و"كتابات" هزيلة، مليئة بالسباب المشهر او المبطن، والشعبوية والشخصنة، دعوا عنكم الأخطاء النحوية والاملائية.. وغالبية اصحاب تلكم" الكتابات" وإن تدرعوا بالقاب وصفات، دراسية أو مهنية، لم يؤمنوا، بل ولم يسمعوا، بتلكم المقولة العتيدة: "رحم الله أمرئ عرف حده، فوقف عنده" .. والى ذلك فلينتبه المعنيون !!!.

مع تحيات مركز الجــــواهري في براغ

www.jawahiri.com

babyloncz@yahoo.com

 

 

 

 

من اجل ألانسان، وانهاء الدمار

تـقـسيـم الـبـلاد الـعـراقـيـة،

واعادة توحيدها... ولم لا ؟

رواء الجصاني

   منذ فترة ليست بالقصيرة ابدا، بقيت الافكار تتشابك  بلا انتظار او تراتب، هل أكتب، ام لا أكتب؟ في السياسة المباشرة،  الخائض غمارها منذ حوالي نصف قرن، وربما بلا وعي في البدء، بل هي تلكم الظروف التي شاءت "اذ لا يولد المرء لا هراً ولا سبعاً، لكن خلاصة تجريب وتمرينِ"...

   وبين تمنع وامتناع، وربما احتراز!!! ... ها هي الكلمات والتعابير تتدفق دون منهجة مسبقة، تثيرها، وتذكي اوارها، ما تشهده الامة العراقية، غير المكتملة الى اليوم، من مآسٍ وويلات، يتحمل الجميع مسؤوليتها، وان اختلفت – وهي مختلفة بالتاكيد – بين واحد واخر، وجمعٍ وثانٍ ... وحتى للجينات هنا تأثيراتها، ولا تسألون اكثر، فثمة رماة حجر وسهام، وهم لا يفقهون !... واخيرا رسي القرار، في خطى حكمة حوارية مع الذات انطلقت قبل نحو ستين عاما، تهدر في حال مشابهة، تخاطب النفس:

ولانتِ اذ لا تصدعين فواحشاً الا كراضية عن الفحشاء

     وخلاصات كتابة اليوم، الواقعية - كما أزعم- لا العاطفية، تذكرني بمواقف مشابهة كنت قد ابحتُ بها خارج السرب، منذ ازيد من خمسة وعشرين عاما، حين تساءلت، بلا براءة طبعاً، حول مدى ضرورة اعادة تقييم طبيعة ومسار حركة الرابع عشر من تموز، العراقية عام 1958 وبخاصة مسؤولية زعيمها الاوحد، عما جرى بعدها من ويلات. واذ ناقش الامر احباء واصدقاء،  تقبحَ "بعض" في حينها بردود انصاف الاميين... كما وراحت تلكم التساؤلات  تأخذ طريق البحث والتقويم شيئا فشيئا، وان بعد سنوات..اقول هكذا، واحسب ان كتابتي اليوم ستكون مثل سابقتها، تثير حوارا سياسيا هنا، وعتابا "صداقياً" هناك، ولربما سيمر وقت مديد قبل ان يستوعب دوافعها، اصحاب العواطف الجياشة، الحقيقية او المدعاة..

     واعني في هذه التساؤلات التي امام الانظار، بعد كل المقدمات المقصودة السالفة: عن ضرورة قصوى لاشهار اعادة توحيد، البلاد العراقية، عبر حل التقسيم، وان كان مؤلماً، وذلك على طريق انهاء الازمات التي ما برحت تتوالى، بل وتعنف اكثر كل يوم، فتروح مئات، بل الوف اخرى من الضحايا فداء لوحدة اراضي بلادِ – وليس وطن، واعني ما اقول.. وقد كنا حتى عام 2003 "كالزروعٍ شكت محولاً، فلما أستمطرت، مطرت جرادا"...

 ..... أترى أما ان الاوان للاعتراف الشجاع بحقيقة ان هناك العديد من المقومات التي تفرض اعادة تقسيم العراق، ومن ثم توحيده لا مركزيا، جهد المستطاع، من خلال الاقاليم، والفيدراليات، وليس بالشعارات والاغاني والهتافات والامنيات"القلبيـــة" .. كما وذر الرماد في العيون، اشباع للعواطف، او للدفاع عن مبادئ بلت، ومقاييس هرمت، واطاحت بها الحقائق، وثمة امامنا تجارب الاتحاد السوفياتي" السابق" ويوغسلافيا" السابقة" وتشيكوسلوفاكيا" السابقة" وما اكثر "السوابق" !! في هذا الحصر .

      لا اشك طبعا بان العديد سيتصدى بهذا الشأن، وسيبحث عن "اسس" و"وقيم" و"تفاسير" و"مبررات"... تتصدع كلها امام تساؤل واحدٍ أحد: ايهما اغلى يا ترى، البشر ام الارض؟ الحياة او الدمار؟ الذكريات والقرابة و" التراب" واللغة والتاريخ المشترك، الحقيقي او المزعوم، ام الحفاظ على ارواح الناس؟  فثمة "افق بنجيع الدماء تنور واختفت الانجم" ومنذ عقود، اذا كان هناك من يقرأ ويتنبأ، فيُجيد ...

      كم ستلتهب النفوس، فِرحةً وان شكلياً، حين يُقال ان العراق كان موحدا؟ وانه سيبقى كذلك؟ ... ولكن متى حدث ذلك، حقا؟  هل احدثكم عن ولايات البصرة والموصل وبغداد، التي بقيت تُدار من تركيا في زمن الاستعمار العثماني، وحتى مطلع القرن الفائت ؟ وهل كانت البلاد موحدة حقاً في العهد الملكي، وتلك هي معروفة – للمتابع طبعاً- خلاصات الملك فيصل الاول، في الثلاثينات الماضية تتحدث عن "امة عراقية" مشتتة ... كما ها هي امامنا معروفة اسباب ودوافع تمزيق البلاد واهلهاعام 1963 حين تمت الاطاحة بحكم الجمهورية الاولى. اما عن "عراق"  صدام حسين فقد كان"موحدا" فعلاً!! ولكن بالحراب والعسف الكارثي، بحرب ابادة ضد الشعب الكردي، شمالا، ومقابر جماعية جنوباً، وعنف واعدامات في الوسط . فعن اي عراق "موحد" تحدثوا، ويتحدثون ؟؟؟ الم تصدق تلكم النبوؤة التي قيلت عام 1946:

ذُعِرَ الجنوبُ فقيلَ: كيدُ خوارجٍ! وشكا الشّمالُ فقيلَ: صُنْعُ جِوار!
وتنابَزَ الوسَطُ المُدِلّ فلم يَدَعْ، بعـضٌ لبعـضٍ ظِـنّـةً لفَـخـار
ودعا فريقٌ أنْ تسودَ عَدالةٌ، فرُموا بكلّ شنيعةٍ وشَنارِ!

وهكذا، فلا بدّ ان نعيد ونعيد ما قد يصلح ايجازاً:" ومن لم يتعظ لغدٍ بامسِ وأن كان الذكيّ هو البليدُ"   

      ثم، ألن يُشبع العراق الفيدرالي، المرتجى والمؤمل، شهوات طالبي الزعامات والمناصب، فيروحون رؤساء وقياديي دول وبرلمانات وحكومات"عراقية" عوضا عن التقاتل على ثلاثة رئاسات فقط، وملحقاتها،  كما هي الحال اليوم، خاصة وان " قومي" رؤوس كلهم، ويا ويح مزرعة البصل، بحسب الشرقي الحكيم  !!!  .... دعوا عنكمما سيتحقق من "ارباح" عديدة اخرى مثل المليشيات التي ستتحول الى اجهزة شرعية تشبع جوع الهائمين بالعسكرة والسلطة، والفضائيات الخاصة لتعلي من تشاء من الجائعين للسمعة والجاه، وان كان انتحالا ... ولا ننسى هنا ما سيتوفر ليجنيه "الجناة" من مجالات  للنهب والاثراء والسلب والرشى والسرقات، وكل ذلك السحت الحرام سيتوزع بلا حسد او رقابة من الاطراف "الجغرافية" المتنافسة، فأهل مكة "أحق" بشعابها .... ولعل الاسبق والاهم من كل ذلك وهذا، هو ان التقسيم والاقاليم، والفدرلة، ستبيّن ودون حاجة لمزيد جهد: الكثافة السكانية والقوى والموارد والقدرات والحضارات والقيم والتراث، وغيرها . وربما سينفع ذلك، او جلّه على الاقل، في وقف الزيف والادعاء والتعالي والمزاعم وما اليها، فيعرف كلٌ وزنه وقيمته، ويعود واقعياً، فيعترف بالمساواة، والابتعاد عن الجعجة، وحينها ربما تصلح الحال لاعادة توحيد البلاد على اسس واقعية محددة .

     ولكي لا يأخذ علينا البعض، ولربما يزايد، بالاعراف والتقاليد الديمقراطية، والتحجج بان الناس لا ترغب، بل وترفض التقسيم، بمعنى انهم راضون بالقتل بديلا.. نقول: دعونا من ذرائع اهمية الوعي، واقاويل ضرورة "احترام" رغبات وهوى المواطنين، ولنتحدث  بالكلام المباشر، وليس بابن عمه. فعن اية ديمقراطية يجري التنطع؟ وثلاثة ارباع شعوب العراق مبتلاة بالعشائرية والامية، والجهل المعرفي، والموالاة العاطفية... ثم الا تكفي انهر الدم لكي نؤجل، ولا نقول نلغي، كلمة الديمقراطية، لعقود تالية وحتى يتوفر التعليم والامن والغذاء، وتستعاد بعض الروح الانسانية... هل نحتاج لان نضرب امثالا لكي نستوعب الحقيقة ونراها بعيون واقعية، وليست "افلاطونية" حالمة . هل تكفي براهين على ذلك ما حدث، ويحدث، في البلاد العراقية والسورية والليبية واللبنانية واليمنية؟... السنا شعوباً ومجتمعات " تخشى اللصوص، فتذبح العسسا" ؟ !!!! 

      سأبقى اتسائل، وبزعم تجربتي في السياسة، منذ خمسة عقود: كم من الويلات حلت بنا، او احللناها بأيدينا، لاننا لم نكن واقعيين، واعني النخب تحديدا، حين اجتهدنا فآلت بنا تلكم الاجتهادات الى الانكفاء والتوسل لتبريرات الظروف الموضوعية والجوانب الذاتية والقوى الامبريالية والتدخلات الاقليمية والتآمر، والعمالة ... ويطول التعداد ويعرض ويعلو، والنتيجة واحدة: انهار دم لا يعزف عنها المتسببون بها، او المشاركون بها، بل وحتى من يدثرونها بالاقاويل والاقوال...  

     وثم- من جديد- دعوني استبق المتفيهقين، كما دأبـــتُ، وأحترز منهم، فادعي ان ثمة- حقاً- مشتركات بين مواطني "الجغرافية" العراقية، ولنقل ان من بينها بعض تاريخ، وتداخل اجتماعي، وتشابك اقتصادي، وارث عاطفي. ولكن ايضا كم هي في المقابل: المقوِضات والمتناقضات والتضادات، في الوعي والثقافة والتقاليد والثوابت المذهبية والدينية والعرقية والقومية، والثارات والاحقاد المشتركة ؟...

        وفي سياق كل هذا وذلك، لنتصارح اكثر فنصدّ ونتصدى لمن سيرفع الصوت والقلم والتلميح، والنقاش، فيحكي عن المخاوف من تداعيات و"مآسي" التقسيم ويحذر من"ويلاته" المدعاة، او المحتملة او المؤكدة في بعضها .. فنقول: وماذا سيحل اكثر مما حلّ وساد، ويسود؟؟ وما اصدق تلك المقولة التي تهدرامام الاسماع :"شرٌ من الشرِ خوفٌ منه ان يقعا"... فكم من السنوات العجاف يجب ان تمر بعد، ليتزايد فيها الذبح على الهوية، وقطع الرؤوس، واغتصاب الممتلكات، وقبر البطون والتهام الاكباد وتفجير المدنيين، دعوا عنكم العسكريين... كم عشرات الاف اخرى من الضحايا يتطلب الامر لكي يفقه السياسيون، والموغلون بالطائفية، وأولو الامر، حقيقة الحال؟؟ ثم تالياً "يأسفون" ويعتذرون عن خطل ارائهم وتصوراتهم، ويتحججون مجددا بمفردات قاموسية جامدة عن الظروف الاقليمية، والدور الاسرائيلي والقوى العظمى، وكانهم اكتشفوا اقمارا جديدة ... و"لست ادري، ولا المنجم يدري" متى ستحل القدرة لدى المقصودين، فيتركوا القوالب الجاهزة، والثبات على الرؤى، وبدعوى عيب على "الرجال" ان يغيروا من المواقف والمبادئ التي اعتنقوها !!!..وما أروع واسمى النساء اللواتي لا تشمهلن تلكم المقولة"الاصيلــة"!!!

       كما واحسب ان سينبري طائفيون هنا، كما ومناضلون جدد هناك، ويلبسون ازياء الواعظين، فينكرون الخلافات الطائفية المتعمقة منذ  اكثر من اربعة عشر قرنا. وليزعموا مستدرين العواطف، ويدلسون بان كل ما جرى ويجري: صراعات نخبوية وليست مجتمعية . وان "الاعداء الطبقيين" و"الامبرياليين" و"المتشددين" و" الرجعيين" و"عملاء الاجنبي" واشباه هؤلاء واولئك، هم من يشيع نبرة- فقط نبرة!!!- الطائفية ويغذيها !!. ودعوني ازعم من جديد ان كل ذلك ليس سوى ابرز حالات التخندق والاسفاف والجرم الطائفي .. والا فلنحدد الحال ونعترف بالواقع والوقائع، وليأتي بعد ذلك البحث عن السبل الناجعة لوقف الاحتراب المذهبي، وليس اقتلاعه من الجذور، فتلك امنيات ومهمات لن تتحقق الا بعد يُشاع التنوير، ويتعفف المجتمع عن الجهل والتخلف اولا، وقبل كل شئ .

    اخيرا، ولو ان الموضوع  يتحمل الكثير والكثير، وليس من السهولة بمكان ان يُوجز ببعض مئات من الكلمات، اقول، وفي بعض قولي معاتبة لمن لايحرص بهذا القدر او ذاك على حياة الناس: ان لا تتركوا شعوب العراق تنقرض، تحت عباءات العاطفة والكبرياء، ومفاهيم" الارض والعرض" الموروثة البالية... ولا التغني بامجاد السلف، الصالح منهم او الطالح. فلم يعد هناك متسع من الوقت للقضاء على البلاء الظلامي الجاهل ... وليكن التقسيم، المؤقت او الثابت "معصية" وان لم تكن، فحتى الدين "أحلّ" المعصيات لضرورات جمة، وهل هناك أفتك من الضروريات التي نعني؟ ... أفليس "أذلُ خلقِ الله في بلدٍ طغت فيه الرزايا من يكون محايدا" ..

    اما الكلمات الاخيرة، في هذه الكتابة التي عمدت ان تكون مباشرة، فسأوجزها احترازا من شتامين متوقعين، وذلك ببيت شعر جواهري اثير، شافٍ وكافٍ، كما أظن، وليــــس كل الظن أثم في عالم اليوم :

خيرُ الشفاعة لي باني كاشفٌ حرَ الضمير وقائلٌ هذا أنا...

  

 

 

 

 

 

 

 

   سكتوا دهراً عن الجواهري... فنطقوا كفرا !!!

رواء الجصاني

--------------------------------------------------------

     برغم كل انتقادات الفنانين والمثقفين،  اساء مسؤولو محافظة بغداد للجواهري عمدا، مع سبق الاصرار، والترصد، بازاحتهم الستارعن نُصبٍ ممسوخ للشاعر العظيم، في مركز ثقافي ببغداد، ولا احد يدري تفاصيل، ودوافع ذلكم "النَصبِ " والاحتيال.

      نقول نَصباً واحتيالاَ، ونعني ما نقول، والا، فلم دبر ذلكم الامر بليل؟؟ وعلى عُجالة استثنائية؟؟ دون استشارة مبدعين او متخصصين، او دعوة لمنافسة، او اجراء تحكيم، لعمل يليق برمز وطني وثقافي علا شموخه، بل وطفح، وراح الشعراء والادباء والمثقفون، دعوا عنكم السياسيين الوطنيين، يتباهون بانتمائهم الى بلاد انجبته.

     والادهى والامّر ان نجل الشاعر الخالد، كتب باسم العائلة بشأن الامر، ملتاعاً، والتقى المسؤول الاول عن حكومة بغداد،علّ بمستطاعه ان يقنعه بوقف مهزلة النَصب - وليس النُصب!- قبل ان يُجسم التخلفُ في فهم الجواهري "المؤله الغريب" وتتشوه الاذواق، وتتأكد الاساءة، ووعد- المسؤولُ- خيرا، ثم ليتفاجأ الجميـــــع، يوم الجمعة الاخيرة، بازاحة الستار عن العمــل المشوه، ولربما كان الامـــر – المؤامرة- خارج امكانية الرجل، وصلاحيته في وقف التنفيذ !!!

   كما لا ندري، "ولا المنجمُ يدري" من اين أستمد الحاكمون بامر" بغداد" جرأتهم فيستخفوا، وعياً او جهالة، باراء المعنيين: فنانين ومثقفين وادباء، وان لا يستعبروا ما نشرته عشرات الوسائل الاعلامية، عن ذلكم التشويه الشنيع للجواهري الخالد، ومحاولة اختزال عبقريته وارثه الثري، ببعض لمحات بدائية عنه، وتجميع دلال قهوة وفناجين، لتوجزَ التعبير، بفقر متناهٍ، عن شاعر الامتين: العراقية، ورمزها الوطني. والعربية، وحافظ لغتها على امتداد القرن العشرين، على الاقل، وكم نتمنى ان يبارز احد في ما نقول، ونزعم . 

   ترى هل يعلمُ اولئكم السادة، الحاكمون بامرهم، ووعاظهم ,ومرضى حب الظهور، واترابهم، وكذلك الذي سلقَ الـ"النصب" المسخ، او الذين "امتدحوا" او" تفيقهوا" واضرابهم، هل يعلمون- دعوا عنكم المعرفة- ان الجواهري، لا غيره، هو صاحب: سلام على هضبات العراق، وافروديت، والمعري، وآمنت بالحسين، وقلبي لكردستان، ودجلة الخير، واكبرت يومك، وسجا البحر، ولغة الثياب، وفتى الفتيان؟؟... وغيرهن من الفرائد. وفي كلهن رموزيات ودلائل وموحيات، ورؤى بالغة الرفعة، بعيدا عن المباشَرة، والدجل والشعبوية والعامية والتبسيط المتخلف .

    هل قرأوا من قصيده المديد، مثلا:

أنا العراقُ.. لساني قلبهُ ودمي فراتُهُ، وكياني منه اشطارُ

   أما سمعوا – ومثلا ايضا:

ترفع فوق هامهم، وطرْ عن ارضهم صعدا

ودع فرسان "مطحنة" خواءٍ، تفرغ الصددا...

بهم عوزٌ الى مددٍ، وانت تريدهم مددا !!!

... ألم يفهموا قصده في الستينات الماضية :

يا نديمي، خذ بعرس القرود دفاً وغني،

وقل الاهـــلُ انتم والمحـــلُ ...

"جنة الخلد" دون قرد تُملُ !

      لقد سكتوا دهراً عن تنوير الجواهري وفكره وشعره، وسباقه المتعال طوال سبعة عقود في مضمار الكفاح الوطني. ونقول، اننا نتفهم مثل ذلك الصمت، المريب منه وغير المريب، فكلا الفريقين: هو، وهــم، على خلاف في الاراء والرؤى، والنظرة للحياة والمواقف منها... ولكن ان يكسروا صمتهم، وان ينطقوا كفرا، فذلك ما لا يجوز ان يسود، ويعــمّ ويتفشى، فلا مجاملة في المبادئ!  .. انه الجواهري، أبن الفراتين، مُلك للناس"كل الناس، من اظلم كالفحم ومن اشرق كالماس" وهكذا كان، "وسيبقى، ويفنى نيزك وشهابُ" "برغم أنوف كرام الملا" !!! 

مع تحيات مركز الجواهري للثقافة والتوثيق

www.jawahiri.com

 

 

ايضاً وايضاً...

 

عن الجواهري وايمانه بالحسين*

 

قراءة وتوثيق: رواء الجصاني

 

 

   ها نحن نستعيد في قراءة قديمة – جديدة، عينية الجواهري، الجدلية- الفريدة، في شموخ واباء وثورة وتضحيات الامام الحسين، مستذكرين في هذا المنحى ما كان الشاعر الخالد يقوله في مجالس وحوارات كثيرة، عن قصائده،: ان كل قديمه جديد، وما احرى بتلكم العينية ان تكون مثالا على ما نشي اليه ...

   

    وقديم الجواهري، الجديد، الذي نوثق عنه في السطور التاليات: عصماء "امنت بالحسين" التى هدر بها الشاعر الخالد عام 1947 وفاضت بالتعبير عن المواقف والمفاهيم الطافحة بالإباء والشموخ ، والممجدة للفداء والتضحيات، كما هي الحال في الفرائد الجواهرية العديدة، وان اختلفت في الصور والاستعارة :

 

فـداء لمثـواك من مضـجـعِ ... تـنـوّر بـالابلــج الأروعِ
ورعياً ليومـك يوم "الطفـوف" ... وسـقياً لأرضك من مصرع
تعـاليتَ من مُفـزع للحتـوفِ ... وبـورك قبـرك مـن مَفزع

 

   وفي مقابل ذلك تماماً، لم يجامل الجواهرى أو يتهاون في هجو الخنوع والانحناء، وأولئك المقيمين على الذل، بل وحتى من يتوسط "كاللبن الخاثر" وغيرهم من اللاجئين "لأدبار الحلول فسميت وسطاً، وسميّ أهلها، وسطاءَ"..

 

   ولربما نجتهد، ونصيب، فنرى في "آمنت بالحسين" مجمعاً للشواهد والأدلة الأبرز على الرؤى الجواهرية المتميزة، وبمقاييس بالغة الرفعة في تبجيل "الواهبين النفس" فداءً للمبادىء التي يؤمنون بها، وتلكم بلا شك هي التضحية الأضخم للدفاع عن القيم والذود عنها، كما يرى صاحب "آمنت بالحسين..."

 

    وفي مقاطع تالية من تلكم العصماء، القديمة – الجديدة، يستمر الجواهري في الاتجاه الذي يريد اعلانه عن تضحيات الحسين الثائر و"نهجه النير" الذي بات "عظة الطامحين العظام" لاولئك "اللاهين عن غدهم" والقنوعين دون احتجاج وتمرد أو ثورة.. كما يفيض عديد آخر من أبيات القصيدة بعواطف ومشاعر انسانية فائقة التعبير في تقديس الثبات والصمود لرجل يوم "الطفوف" و"الملهم المبدع" الثابت أمام "سنابك خيل الطغاة" دون خوف أو رهبة... وبهدف أن يُطمر "جديب الضمير بآخر معشوشب ممرع"...


شممتُ ثـراك فهب النسيم ... نسيم الكرامـة من بَلقـعٍ
وطفت بقبرك طوفَ الخيال ... بصومعـة المُلهـم المبدع
تعـاليت من صاعق يلتظي ... فـان تـدجُ داجية يلمـع


    ثم يروح الجواهري ليتمثل مأثرة الحسين التاريخية، و"يمحص" الأمر دون أن يرتهب من "الرواة" أو يخدع بما ينقلون، ويمضي هادفاً للحقيقة لا غيرها، وبدون "تزويق" أو مبالغات... وبعد ذلك فقط، يجد الشاعر أن في فداء الحسين دفاعاً عن مبادئه، وقائع لا أعظم منها، وهو "أن يطعم الموت خير البنين، من الاكهلين الى الرضع "...

 

تعاليتَ من "فَلَك" قُطْرهُ... يدورُ على المِحوَرِ الأوسع

فيا ابنَ "البتولِ" وحَسْبي بها.... ضَماناً على كل ما أدّعي

ويا ابنَ التي لم يَضَعْ مِثلُها   ... كمِثلِكَ حَملاً ولم تُرْضِع

    ويا ابنَ البطينِ بلا بِطنةٍ ..... ويا بنَ الفتى الحاسرِ الأنْزَع

 

ثم يحل مسك الختام، فتجدد القصيدة تقديس ذلك الصمود والعطاء الذي "نوّر" من ايمان الجواهري، وفلسفته في الإباء والفداء، والتي تجسدت، كما سبق القول، في الكثير من قصائده ومن بينها: "سلام على مثقل بالحديد - 1951 " و"بور سعيد - 1956" و"كردستان - موطن الأبطال- 1962" والى "اطياف الشهداء الخالدين- 1963" و"فلسطين الفداء والدم - 1970" فضلاً عن قصــائد الوثبـة، الشـهيـرة، عــام 1948...

 

تمثلـتُ يومـك في خاطـري ... ورددت "صـوتك" في مسـمعي
ومحصـت أمـرك لم "ارتهب" ... بنقـل "الرواة" ولـم أخــدع
ولما ازحـت طـلاء "القرون" ... وسـتر الخـداع عن المخـدع
وجدتـك في صـورة لـم أُرعْ ... بـأعـظــمَ منهـا ولا أروع

 

     وللاستزادة، نقول أن قصيدة "امنت بالحسين" المتفردة في المبنى والمعنى، والرؤى، نشرت في جميع طبعات ديوان الجواهري، ومنذ العام 1951 وقد خُط خمسة عشر بيتاً منها بالذهب على الباب الرئيس للرواق الحسيني في كربلاء، كما أُنشدت، وتُنشد، في مختلف المجالس والمناسبات الاحيائية لواقعة ومأثرة "الطــف"  ...

مع تحيات مركز الجواهري في براغ

www.jawahiri.com
-------------------

* جواهرية "آمنت بالحسين" ما برحت الاجيال ترددها، برغم مرور ستة وستين عاما على اطلاقها، وقد وجدت كتابتنا السابقة عنها بعض ما سُمي تقييمات(!!) من "ملثمين" لم يجرأوا ان ينشروها باسمائهم الصريحة، ولربما انهم خجلون من تلكم الاسماء على ما نحسب. وقد لقيت - ونعني"التقييمات"!! المزعومة- تعاطف بعض اخر، وذلكم ايضاً ليس غريباً بحسب ظننا "فلكل ساقطة المتاع ذميمة، سوق تتيح لها ذميما راغبا" ... ولن نعقب او نفصل اكثر، تاركين للتاريخ رصده وحكمه، وما اخلصه من قاضٍ بالعدل، عزوف عن الرياء.

 

 

 

 

الجواهـــري.. في أطروحات

 

دكتوراه، ورسائل ماجستير

 

كتابة وتوثيق: رواء الجصاني

 

في مفتتح اب (اوغسطس) 2010 حاز الدارس احمد الذهب، دكتواراه من جامعة السودان، عن اطروحته الموسومة صورة العراق في شعر الجواهري وشملت تمهيداً عن تاريخ البلاد العراقية وأحوالها الثقافية، وخمسة فصول عن حياة الشاعر العظيم ونشاطاته الثقافية والصحفية...

 وجاء في مقدمة ملخص الأطروحة التي حصلت على درجة ممتاز: لقد عاش الجواهري حياة طويلة حافلة بالنضال والإبداع امتدّت على مدى القرن العشرين كله تقريباً. إذ وُلد عام 1900 وتوفي عام 1997... وهي مرحلة مهمة وحاسمة من تاريخ العراق والأمة العربية. وكان في قلب أحداثها السياسية والاجتماعية والفكرية المختلفة، فسجّل كلّ ذلك في أشعاره بما أصبح فيما يُعد سجّلاً تاريخياً مهماً لبلده...

    واضاف ملخص الأطروحة التي أشرف عليها البروفيسور يوسف نور الدايم " لقد تميّز الجواهري بموهبة فائقة ومقدرة فنيّة عالية ونفس شعري نادر، إذ تجاوزت مجموعة كبيرة من قصائده المئة بيت، كما زاد بعضها على المئتين... مع المحافظة على القيمة الفنية والجمالية فيها... كما استطاع المحافظة على صورة القصيدة العربية القديمة بأوزانها التقليدية ونفسها العربي الأصيل متحدياً بذلك كلّ حركات التجديد الشعري التي عاصرها، كالمدرسة الرومانسية ومدرسة الشعر الحرّ ومدارس الحداثة الأخرى...

 وبحسب ما وصلنا من إيجاز لأطروحة الدكتور الذهب أيضاً: فإن من بين نتاج الجواهري الغزير الذي يبلغ عشرات الآلاف من الأبيات الشعرية في شتّى الأغراض الإنسانية المختلفة، اختارت هذه الدراسة الأكاديمية البحث في أشعاره التي وصف فيها بلده العراق بكلّ تفاصيله، محاولة بيان الصور الشعرية في قصائده وأدواتها الفنية، فاشتملت على تمهيد وخمسة فصول كان الأول عن وصفه الحسّي لبلده بمرابعه ورافديه ومدنه وقراه. والثاني عن أوضاعه السياسية التي كان الجواهري في الصميم منها فأظهرها في أشعاره واضحة جلية مؤثّرة، والثالث عن أحوال العراق الاجتماعية كما وصفها الشاعر ومنها: موضوعات الغنى والفقر والإقطاع والمرأة والشباب والتعليم وغيرها. أما الفصل الرابع فكان عرضاً للصور الفكرية التي تلمّسها الجواهري في بلده عبر تاريخه العريق فثبتها في ديوانه، كما وصف الأحوال الفكرية المعاصرة كحياة الشعراء ومجالس الأدب والرموز الثقافية فيه... وكان الفصل الخامس تخيلاً فنيّاً لصور الجواهري الشعرية التي وصف بها العراق أسلوباً وموسيقى وصورا...

 

    وبمناسبة هذا العرض الذي اقتبسناه في غالبيته مما أوجزه صاحب الأطروحة احمد الذهب، نزيد هنا ان ثمة رصداً سريعاً يعلمنا عن رسائل ماجستير ودكتوراه عديدة قد كتبت عن الشاعر الخالد... ومما يمكن ان نوثقه عنها:

1   -  شعرية النص عند الجواهري اطروحة دكتوراه لعلي الزهيري (جامعة بغداد- 2007)

2-  البنية الايقاعية في شعر الجواهري، اطروحة دكتوراه لعبد نور عمران (جامعة الكوفة عام 2008) .

3-  خصائص الأسلوب في شعر الجواهري، اطروحة دكتوراه لفوزي علي صويلح (جامعة صنعاء 2008).

4- التمرد والخضوع في شعر الجواهري رسالة ماجستير لنواف قاسم سنجاري (جامعة صلاح الدين/ اربيل) 2001.

5- خصائص الأسلوب في شعر الجواهري رسالة ماجستير لسهام قنبر علي (جامعة دمشق، 2002).

6- الصورة الفنية في شعر الجواهري، اطروحة دكتوراه لطارق عمر عريفي (جامعة دمشق، 2004).

7- الاتجاهات الموضوعية والفنية في شعر الجواهري، اطروحة دكتوراه لجميل عبد الغني محمد علي، جامعة الأزهر. .

8- دراسة نحوية دلالية في شعر الجواهري، اطروحة دكتوراه لصالح عبد العظيم الشاعر (جامعة القاهرة، 2009).

9-  المفارقة في الادب العربي الحديث محمد مهدي الجواهري أنموذجا، رسالة ماجستير لمنتهى حسن محمد علي )جامعة بغداد 2013).  

10-  ملامح الحس القومي  في شعر الجواهري رسالة ماجستير لسعد صابر نمال الدليمي( جامعة الانبار2009) .

11-  البنية الإيقاعية في شعر الجواهري، رسالة ماجستير لمقداد محمد شكر قاسم (جامعة اربيل.).

 12- - خصائص الاسلوب في شعر الجواهري (المطولات انموذجا) اطروحة دكتوراه - ساهرة عدنان العنبكي ( الجامعة المستنصرية – 2007).

13-- لغة الشعر عند الجواهري  اطروحة دكتوراه، لعلي ناصر غالب (جامعة البصرة 1995).

    14- شعرية النص عند الجواهري،أطروحة دكتوراه لعلي عزيز صالح الزهيري (كلية التربية ابن رشد جامعة بغداد 2007).

15- الصورة الشعرية عند الجواهري ، اطروحة دكتوراه  لرفل حسن الطائي (كلية الآداب – الجامعة المستنصرية 2007).

16- محمد مهدي الجواهري ودوره السياسي في العراق حتى عام 1997 رسالة ماجستير، لعباس غلام حسين (المعهد العالي للدراسات السياسية والدولية الجامعةالمستنصرية  2006 ).

17- هجائيات الجواهري، رسالة ماجستير، لعادل ناجح عباس البصيصي(كلية الاداب- جامعة الكوفة2011).

واخيرا دعونا نتعذر بضيق المجال، ونتحجج بالعُجالة، لنبرر تأخرنا في استعراض بحوث ودراسات جامعية أخرى عديدة عن الجواهري الكبير، لأساتذة ومبدعين متميزين، نعد ان نوثق لهم، وما كتبوه في فترات قادمة.

مع تحيات مركز الجواهري في براغ

www.jawahiri.com

 

 

.

 

 

 

في "طريق الشعب"

 

قبل أربعة عقود 1973-1978

 

شهادات واسماء ومشاهدات

 

 

كتابة وتوثيق: رواء الجصاني

 

ها انها أربعة عقود تمرّ بالتمام والكمال، وعساهـنّ تطول وتطول، ومابرحت ذكرياتها شاخصات، أنيقات... يزدن المرء في حق التباهي (ولم لا) بما كان، وكائن، وسيكون...

ففي مثل هذه الأيام من عام 1973 وبدايات خريفه بالذات، تبدأ خطوة السنوات الست في مدرسة- صحيفة  "طريق الشعب" اليومية البغدادية الاستثناء... وما مرت غير أسابيع وحسي، على عودتي من موسكو الى بغداد، بعد عام جميل ومتعب هناك، يُشاء،و بتوجيه من مهدي عبد الكريم- ابو كسرى، فأفرح، أن أكون ضمن "كادر" العلاقات في مقر الحزب الشيوعي ببغداد، المستقر على ضفاف شارع السعدون، البهيج آنئذ، حيث انطلقت منه اللبنات الأولى لاصدار الحزب الشيوعي العراقي صحيفته اليومية، العلنية، لتلتحم مع سابقتها "الفكر الجديد" الأسبوعية باللغتين الكردية والعربية... ثم لا تمر غير أيام وأيام وإذ بوجوه وشخصيات الحزب، الثقافية والسياسية، والمكشوفة خاصة، وما بينهما، تتردد، وتتوزع على "الوكر" الحزبي المُشهر هذه المرة، تشيع الحماس والعطاء والتطلع، في تلكم الشقة ذات الغرف الخمس، وحسب... وكنت، الشاب "الثوري" آنذاك، معنياً، وإن بشكل اولي حينها،  ببعض ادارة شؤون ذلكم المقر، السياسي – الاعلامي...

... وبحكم المسؤولية التي تسنمتها  في قيادة اتحاد الطلبة العام، والتنظيم الطلابي الحزبي في بغداد العاصمة، ثم تعهد إليّ مهمة الاشراف على صفحة "الطلبة والشباب" الأسبوعية في "طريق الشعب" وبالتنسيق مع ممثل عن سكرتارية اتحاد الشبيبة الديمقراطي، التي كانت تضم: عبد الخاق زنكنه وعدنان الجلبي، ونضال وصفي طاهر، وعدنان الشماع وغالب العاني، وتحت مسؤولية كمال شاكر... ثم يقرر "أولو الأمر" في فترة لاحقة ان أتفرغ – حزبيا- لمهام محددة، ومنها لشؤون الاعلام، والعلاقات مع التنظيمات الطلابية العراقية، الكردستانية بشكل رئيس، والعربية، واتحاداتها في بغداد: الفلسطينية، والتونسية، والاردنية، واليمنية، والمغربية، وكذلكم "الارتيرية" !!!... وأذكر من الأسماء "الطلابية" ذات الصلة التي واصلت، واستمرت، وبعضها الى اليوم، في نشاطاتها الوطنية والسياسية: الكورديين العراقيين، عادل مراد وانور عبد الله، والفلسطينيين عزام الاحمد، وحسن عصفور، وعاطف ابو بكر، واليمني، شائع محسن، والليبي، عيسى عاشور  ...

ولأن منظمة اتحاد الطلبة العام لم تُجز رسمياً، بل وجرى التشديد عليها، مثلها مثل المنظمات الشقيقة الأخرى: رابطة المرأة واتحاد الشبيبة الديمقراطي، فقد باتت صفحة "الطلبة والشباب" في طريق الشعب، ومكتبها "المتواضع" سواء في مقر المطبعة أول الأمر، عند القصر الأبيض، ومن ثم بمبنى التحرير في شارع السعدون، باتت شبه مقر لشؤون اعلام الاتحاد ونشاطات علاقاته... وهكذا راح يساهم في ذلكم الخضم من النشاط الاعلامي والاخباري، وبهذا القدر أو ذاك، رفاق وزملاء عديدون، ومن بينهم عدد من الوجوه "المكشوفة" آنئذٍ في كليات جامعة بغداد وغيرها: ابراهيم المشهداني وفيصل العاني وخالد متي وصبار نعيم وغفار كريم ونضال الليثي وكفاح حسن ونضال الليثي ومؤيد الحيدري ...

... والى جانب التوجه الاعلامي الطلابي "الثوري!!" لنا، كانت هناك الكوابح السياسية للمشرفين الصحفيين، والسياسيين "الأعلى" في تصحيح آراء،وشطب مواد، وتلطيف أخرى، وبما يتناسب والأجواء "الجبهوية" السائدة حينئذ... وكم وصل "الخصام" حدوداً في حينها، في ما كنا نريد، ولا يريدون، ويريدون ولا نريد !... ولا أنسى هنا أيضاً "حمائم" و"صقور" التنظيم الحزبي، والديمقراطي الذي كان يشارك في توجيه، وتوجهات "صفحة الطلبة والشباب" ومن بينهم: ابو حيدر) علي حسن) وعزيز عليان، ونمير العاني، وعلي الراعي، وهادي البلداوي، وعلي حنوش، ومهند البراك وعصام الناصري، ولؤي الآلوسي، وحسان عاكف حمودي العاني، وابراهيم عدوان...

... وحتى أوائل- اواسط العام 1974 كان محررو وأقسام "طريق الشعب" يتشاركون النشاط في مطبعتها قرب "القصر الأبيض" وفي شوارع مديرية الأمن العامة بالتحديد... ثم تتسع المهام، وينتظم العمل، ويتطلب الأمر انفصال أقسام التحرير الى مبنى آخر في شارع السعدون، المزدهر آنذاك، وقرب ساحة الجندي المجهول (الفردوس) حالياً... وقبل ذلك كنا، في المقر الأول، متشابكين مع أجهزة ومكائن الطباعة، وصب الرصاص، و"هدير" عجلات الطباعة، ولحين وصول الآلات الطباعية الجديدة، الألمانية "الديمقراطية" آنذاك.

وأذكر في الأسابيع الأولى من انطلاقة "طريق الشعب" كيف كان العمل التطوعي، والمهني، يستمر من قبل الجميع دون كلل، وبلا حساب للوقت (1)... فذلك سعدون علاء الدين البياتي، لولب المطبعة، في جلسة حامية مع زكي خيري المشرف السياسي على الجريدة... والى جانبهما  عبد السلام التاصري وفخري كريم ومحمد كريم فتح الله، يتداولون في مشروع "الافتتاحية"... وينتظرهما، فائق بطي ليتسلم المسودة الأخيرة، وليسلمها الى ليث الحمداني الذي كان يستعجل الأمر لكي يكتمل تصميم الصفحة الأولى، الأهم، مع اقتراح لاختصار مادة، أو تأجيل أخرى لعبد المجيد الونداوي ويحيى علوان، بسبب ضيق المجال أو لأسباب أخرى... ثم ها هما : جمال العتابي وعزيز النائب يهمّ احدهما بخط المانشيت المقرر... وثمة في غرفة أخرى سامي العتابي، ومؤيد نعمة يتناقشان، ويتمازحان في شؤون القسم الفني، وغيرها!!! ومعهما، في حينها، ولاحقا: كاكه مصطفى أحمد ومحمود حمد وقيس قاسم وانتشال هادي، عبد الرحمن الجابري، وبينهم وحولهم، وفي فترات مختلفة، متدربات ومتدربون نشطاء ...

* * *

وبوسط شارع السعدون، وفي المبنى الجديد، ذي الطابقين ونصف، ينتظم العمل أكثر فأكثر... وتتحول الصحيفة وأقسامها من "سوفيتات" أول الأمر، الى أقسام وادارة وغرف وقاعات عمل متكاملة أو تكاد...وهكذا تزدحم المساحات بالكفاءات والاعلاميين، مخضرمين، ومتدربين ، ولفترات طالت أو قصرت، وسترد الأسماء بحسب تسلسل حروف الهجاء جهد الامكان، مع حفظ الألقاب والتميز طبعا، لمثقفين وشعراء ومترجمين وصحفيين، باهرين، وسواهم ...

وممن تزدحم بهم الذاكرة: شمران الياسري" ابو كاطع" الممراح "المشاغب" بعموده اليومي، ومصطفى عبود ويوسف الصائغ ومجيد بكتاش وعديد آخر... وهناك في صفحة الشؤون العربية والعالمية، ومسؤولها ماجد عبد الرضا: ابراهيم الحريري وحميد بخش ورشدي العامل وعبد الاله النعيمي وفالح عبد الجبار... وفي الثقافية: سعدي يوسف وحميد الخاقاني وصباح الشاهر وفاضل ثامر. وبين اولئك وهؤلاء، صادق الصائغ، معني أول بصفحته الأخيرة ومرافئها ... اما في قاعات واروقة صفحات حياة الشعب والعمال والفلاحين والتحقيقات والمحليات، فثمة ذلكم الجمع المتعدد المواهب والمتنوع العطاء : ابراهيم احمد وجمعة الحلفي وجمعة ياسين وحميد برتو وذياب كزار "ابو سرحان" ورضا الظاهر وزهير الجزائري وصادق البلادي وضياء المرعب وعامر بدر حسون وعبد الرحمن عناد وعبد جعفر وعبد الله صخي وعبد المنعم الأعسم وعدنان حسين وعريان السيد خلف وعصام الخفاجي وفاضل السلطاني وفاضل الربيعي ومحمد خلف ومخلص خليل ونبيل ياسين وياسين طه... مع انتقالات  وانقطاعات بين حين وآخر، وتبادل مواقع للعمل في أقسام وصفحات الجريدة الأخرى، كالنظرية  والاقتصادية والمنوعات ومرحباً يا أطفال...

اما الصفحات المتخصصة الأسبوعية، مثل المرأة والطلبة والشباب، والمهنية، والزراعية، والتعليم والمعلم.. فلها محرروها ومختصوها ومن بينهم: حسن العتابي و "أبو سحر" وكاظم المقدادي وقاسم عجام ومحمود شكاره، وآخرون، وجميعهم تحت "طائلة" ومسؤولية غانم حمدون...

* * *

وتبعاً لـ "مسؤوليات" حزبية، فقد جُبت أكثر من قسم وصفحة، مشاركاً أو مسؤولاً... فمرة عن صفحة الطلبة والشباب كما سبق الحديث، وفترة متابعاً لصفحة العمال، بتكليف من مكتب العمال المركزي التي نُسبت حزبياً اليه أعوام 1975- 1977 مع صادق الفلاحي وعزيز وطبان وعبد الأمير عباس (2) ... وتارة بمسؤولية صفحة المنظمات والنقابات المهنية، بتوجيه حزبي أيضاً من لجنة توجيه العمل النقابي المركزية التي كنت فيها، وكان في قوامها لفترات متباينة: نزار ناجي يوسف وعيسى العزاوي وفراس الحمداني وحكمت الفرحان، وحمدي التكمجي، وباشراف بشرى برتو... دعوا عنكم المشاركة في بعض اجتماعات مجلس التحرير الموسعة، وكذلك في دورتين للاعداد الصحفي شملت محاضرات وتقييمات من المخضرمين، لنا نحن الشباب، آنذاك... وقد شارك في تلكم الدورات أيضاً، عدد من المعنيين بمراسلة "طريق الشعب" من المحافظات، وايضا من الهيئات الحزبية الأساسية (العمال، الطلاب، المثقفين، المرأة...)... وكان من بين برامج تلكم الزيارات لقاءات بمقر الحزب المركزي، واحدها مع السكرتير الاول عزيز محمد، وبحضورعبد الرزاق الصافي وحميد مجيد موسى وجمع من الكوادر القيادية الاخرى..

ولأنهنّ من زنّ الحياة، فدعونا نفرد هنا حيزاً من الذكريات والاستذكارات، للجميلات الانيقات اللائي تنورت بهنّ الصحيفة – المدرسة، على مدى ستة أعوام  بين شابات وشابات، ومنهنّ، وآمل ألا تخبو الذاكرة: أميرة مهدي وبدور الدده ورجاء الزنبوري وسعاد الجزائري وسعاد خيري و وسلوى الجلبي وسلوى زكو وسهام الظاهر و وعفيفة لعيبي وفاطمة المحسن ومنى سعيد ... اللواتي عمل بعضهن، أو تطوعن، في رفد "طريق الشعب" بكل ما هو ممكن، ولفترات مختلفة، سواء في الادارة او اقسامها الفنية، او في تحرير الصفحات اليومية، أو صفحة "المرأة" الأسبوعية المتخصصة...

* * *

وبحكم العمل الاعلامي، كما والمهام الحزبية، تكونت لكاتب هذا التوثيق، ومعه، صداقات وعلاقات، حميمة، بدأت ودامت وانقطعت، ثم تواصلت في المهاجر، وكلها مع ذلك الجمع المنور من كتاب ومحررين وصحفيين في "طريق الشعب" الجريدة- المدرسة ... وكذلك مع بعض ادارتها وشغيلتها، في فترات طالت او قصرت: ثابت حبيب العاني، حازم سلو،عبد الخالق زنكنه، نوزاد نوري، حيدر الشيخ، علي الجواهري، قاسم خضر، وسعيد- منيب ... ولقد تعززت تلكم العلاقات عبر الكثير من الفعاليات الاحتفائية والاجتماعية، سفرات وسهرات بمناسبات عدة مثل ذكرى تأسيس الحزب وسنوية انطلاق الجريدة وغيرهما، والتي كانت تقام في نوادٍ اجتماعية، أو على يخت نهري، أو مساحات خضراء (3) ..

* * *

     أخيراً دعوني استبق الأمر، بل وأحترز – كالعادة- من ملاحظات وتصويبات، وتقيمات، لأشير الى اني تعمدت، لهذا السبب او ذاك(!!) كما ولضيق المجال والوقت، ان أوجز في هذه المحطات، والتأرخة عن سنوات "طريق الشعب" الصحيفة – المدرسة، في آن، والتي شهدت عليها منذ انطلاقتها عام 1973 والى ان تذائبت عليها حملات وملاحقات اجهزة وذئاب العهد البعثي الثاني، واشتدت اواخر عام  1978... كما وأنوّه الى ان جميع ما ورد من وقائع، واسماء، ومنها لشهداء بواسل، وراحلين اجلاء، ومناضلين اشداء، قد جاء وفقاً للذاكرة وحسب، وعساها تدوم، فتقدر، ان تضيف جديدا اخر، وللتأريخ اولا، وكم حبذا لو "أستنهض" معنيون آخرون ذاكرتهم وشهاداتهم بهذا الشأن … 

-----------------------------------------------------------

احالات ... وملاحظات

 (1) وأذكر ذات ليلة قارصة البرد، وكنا في المطبعة مساءً، وتعطلت الماكنة القديمة، وإذ بمدير التحرير فخري كريم، يدعو المتبقين من المحررين للمساعدة في صب الرصاص، معه، لكي يتحول بعد ذلك الى حروف ، لاكمال الطبع، ولكي لا يتأخر صدور طريق الشعب، وتتوزع فجراً...

(2) - ومن الطرائف هنا اني كنت مهندساً في مشروع استصلاح أراضي اللطيفية عام 1974 وكان من بين فنيي المشروع الأساسيين، عبد الأمير عباس(أبو شلال) وقد تقربت منه، وهدفي كسبه الى صفوف الحزب، ولأفاجأ بعد فترة وجيزة، في مقر الحزب الرئيس ببغداد، بأنه كان مرشحاً للجنة المركزية، وكادرا حزبياً منذ عقود ...

(3) - في احدى تلكم الفعاليات، كان المشاركون "رسميين" لحدود بعيدة، بين خجل وخشية، وتردد، حتى بدأ رئيس التحرير، عبد الرزاق الصافي، مفتتحاً الرقص، وليتشجعن بعده الحاضرات، ولينطلق الحاضرون، بالرقص واشاعة أجواء الفرح والحبور.

 

 

 

 

 

 

لم آمن الجواهـــــري  بمآثر الامام الحسين؟!!

 

كتابة وتوثيق: رواء الجصاني

 

   * إذ نؤجل في هذة التأرخة الخوض في عوالم النجف الروحية، والاجواء الدينية والادبية للاسرة الجواهرية، وتاريخها واثارها العلمية، دعونا نغور لماماً في قصيدتي   "عاشوراء" و" آمنت بالحسين"  للجواهري الخالد، وما تشيان، بل  وتلهبان به، حول ماثرة "الطف" واحداثها الاليمة ، والعبر المستوحاة من الثورة الحسينية، ومنابعها وجذورها ومبادئها وافاقها..

 

 * والقصيدة الاولى: "عاشوراء" منظومة ومنشورة عام 1935 وكانت بثمانية وستين بيتاً، استعرض فيها الجواهري، ووثق خلالها العديد من الاحداث التاريخية، الثورية والماساوية في ان واحد ، وبالاسماء المقرونة بالاوصاف التي تليق – بحسب رؤاه – بالمضحين من اجل المبادئ، من جهة، وبمعارضيهم ، بل ومحاربيهم وقتلتهم، من جهة ثانية...


هيَ النفسُ تأبى أن تُذَلّ وتُقهَرا ... ترَى الموتَ من صبرٍ على الضيم أيسَرا

وتخـتارُ محموداً من الذِكرِ خالداً...على العيش مذمومَ المَغَـبّـة مُنكَرا

 

   * وكما هو ديدنه الثابت، شبك الجواهري العام بالخاص، وبحورات مع الذات اساساً، ليستخلص وفي ابيات محدودات، ولربما في بيت واحد متفرد، عبرة العبقري الخابر للحياة:


ونُكّسَ يـومَ الطـفّ تـاريخُ أمـة... مشى قبلَها ذا صـولـةٍ متبختِرا

فما كان سهلاً قبلَها أخذُ مـوثـق على عَرَبيّ أن يـقولَ فيغـدِرا...


* وسيرا على عادته، ايضا، يوجزالشاعر المنوّر عظات واقعة الطف ، وما سبقها وتلاها من بطولات وامجاد خالدة، ثم يروح موجهاً، دون وجل او تردد:


أقـول لأقوامٍ مَضَـوا في مُصابه ... يسـومونه التحريـفَ حتى تغيّرا..

دعُوا رَوعةَ التاريخ تأخـذْ مَحَلّـها ... ولا تُـجهِدوا آياتِه أن تُـحوّرا

وخلّوا لسانَ الدهر يَنطقْ فإنّه ...بليـغٌ إذا ما حـاولَ النطـقَ عَـبّـرا


  * واذ جاءت "عاشوراء" في زمانها، والجواهري انذاك في عقده الثالث وحسب، مباشِرة في المعاني والتصريح، واقرب للتوثيق التاريخي، هدر الشاعر الخالد بعد مرور اثني عشر عاماً، بعصماء "امنت بالحسين" التى فاضت بالتعبير عن المواقف والمفاهيم الطافحة بالإباء والشموخ ، والممجدة للفداء والتضحيات، كما هي الحال في الفرائد الجواهرية العديدة، وان اختلفت في الصور والاستعارة:


فـداء لمثـواك من مضـجـعِ ... تـنـوّر بـالابلــج الأروعِ
ورعياً ليومـك يوم "الطفـوف" ... وسـقياً لأرضك من مصرع
تعـاليت من مُفـزع للحتـوف ... وبـورك قبـرك مـن مَفزع


*  وفي مقابل ذلك تماماً، لم يجامل الشاعر الكبير أو يتهاون في هجو الخنوع والانحناء، وأولئك المقيمين على الذل، بل وحتى من يتوسط "كاللبن الخاثر" وغيرهم من اللاجئين "لأدبار الحلول فسميت وسطاً، وسميّ أهلها، وسطاءَ"..
ولربما نجتهد، ونصيب، فنرى في "آمنت بالحسين" مجمعاً للشواهد والأدلة الأبرز على الرؤى الجواهرية المتميزة، وبمقاييس بالغة الرفعة في تبجيل "الواهبين النفس" فداءً للمبادىء التي يؤمنون بها، وتلكم بلا شك هي التضحية الأضخم للدفاع عن القيم والذود عنها، كما يرى صاحب "آمنت بالحسين...


* وفي مقاطع تالية من العصماء ذاتها يستمر الجواهري في الاتجاه الذي يريد اعلانه عن تضحيات الحسين الثائر و"نهجه النير" الذي بات "عظة الطامحين العظام" لاولئك "اللاهين عن غدهم" والقنوعين دون احتجاج وتمرد أو ثورة.. كما يفيض عديد آخر من أبيات القصيدة بعواطف ومشاعر انسانية فائقة التعبير في تقديس الثبات والصمود لرجل يوم "الطفوف" و"الملهم المبدع" الثابت أمام "سنابك خيل الطغاة" دون خوف أو رهبة ... وبهدف أن يُطمر "جديب الضمير بآخر معشوشب ممرع...


شممتُ ثـراك فهب النسيم ... نسيم الكرامـة من بَلقـعٍ
وطفت بقبرك طوفَ الخيال ... بصومعـة المُلهـم المبدع
تعـاليت من صاعق يلتظي ... فـان تـدجُ داجية يلمـع


* ثم يروح الجواهري ليتمثل مأثرة الحسين التاريخية، و"يمحص" الأمر دون أن يرتهب من "الرواة" أو يخدع بما ينقلون، ويمضي هادفاً للحقيقة لا غيرها، وبدون "تزويق" أو مبالغات... وبعد ذلك فقط، يجد الشاعر أن في فداء الحسين دفاعاً عن مبادئه، وقائع لا أعظم منها، وهو "أن يطعم الموت خير البنين، من الاكهلين الى الرضع "... ثم يحل مسك الختام، فتجدد القصيدة تقديس ذلك الصمود والعطاء الذي "نوّر" من ايمان الجواهري، وفلسفته في الإباء والفداء، والتي تجسدت، كما سبق القول، في الكثير من قصائده ومن بينها: "سلام على مثقل بالحديد - 1951 " و"بور سعيد - 1956" و"كردستان - موطن الأبطال- 1962" والى "اطياف الشهداء الخالدين- 1963" و"فلسطين الفداء والدم - 1970" فضلاً عن قصــائد الوثبـة، الشـهيـرة، عــام 1948...

 

تمثلـتُ يومـك في خاطـري ... ورددت "صـوتك" في مسـمعي
ومحصـت أمـرك لم "ارتهب" ... بنقـل "الرواة" ولـم أخــدع
ولما ازحـت طـلاء "القرون" ... وسـتر الخـداع عن المخـدع
وجدتـك في صـورة لـم أُرعْ ... بـأعـظــمَ منهـا ولا أروع


* وللاستزادة، نقول أن قصيدة "امنت بالحسين" المتفردة في المبنى والمعنى، والرؤى،

نشرت في جميع طبعات ديوان الجواهري، ومنذ العام 1951، وقد خُط خمسة عشر بيتاً منها بالذهب على الباب الرئيس للرواق الحسيني في كربلاء، كما أُُنشدت، وتُنشد، في مختلف المجالس والمناسبات الاحيائية لواقعة "الطف" التي تصادف كما هو معروف في الأيام العشرة الأولى من شهر محرم، كل عام....

 

مع تحيات مركز"الجواهري" في براغ
www.jawahiri.com

 

 

 



 

الجواهــــــــــــــــري في بعض شجون

 

وهموم الذات، والشعب والبلاد ...

 

كتابة وتوثيق: رواء الجصاني

 

في خلاصات ومحطات سريعة تهدف للتوثيق بشكل رئيس، وإلى رصد وتأرخة بعض يسير من بحر لواعج الجواهري العظيم، ومواجهاته... نجهد في التالي من "مختارات" لنغطي كماً آخر من نماذج ذات صلة، ومن مجموعة قصائد عديدة... وان اختلفت الأغراض والتفاصيل والسياقات، وحتى الأزمنة:

 فقد جاء في قصيدة "شباب يذوي" التي نظمت عام 1931:

ذوى شبابيَ لم ينعم بسراء ِ
كما ذوى الغصن ممنوعاً من الماء ِ
سَدت عليّ مجاري العيش صافية
كف الليالي ، واجرتها باقذاء ِ

 

ومن رائية الشاعر الكبير التي حملت عنوان "المحرّقة" عام 1931 نقتطف:

أحاول خرقاً في الحياة فما اجرا
وآسف ان اروح ولم أبق لي ذكرا ...
لبست لباس الثعلبين مكرها ،
وغطيت نفساً انما خلقت نسرا ...
وما أنت بالمعطي التمرد حقه ،
إذا كنت تخشى أن تجوع وان تعرى

 

وفي تعبير عن لواعج مباشرة، يكتب الجواهري قصيدته "معرض العواطف" عام 1935 وجاء في مقدمتها:

أبرزت قلبي للرماة معرضا
وجلوت شعري للعواصف مَعرضا
ابرمت ما ابرمته مستسهلاً
ان حان موعدُ نقضهِ ان يُنقضا...
ومدحت من لا يستحق ، وراق لي ،
تكفيرتي بهجائه عما مضى ...
ووجدت في هتك الرياء مخاضة ً
وحلفت ابرح ما استطعت مخوضا

 

أما في عام 1944 فينشر الجواهري قصيدته الموسومة "إلى الرصافي" وفي عمومها اذكاء للتقدير، وتقريع للجحود:

تمرست "بالأولى" فكنت المغامرا
وفكرت "بالأخرى" فكنت المجاهرا ...
واني اذ اهدي اليك تحيتي ،
أهز بك الجيل العقوق المعاصرا
أهز بك الجيل الذي لا تهزه
نوابغهُ ، حتى تزور المقابرا

 

وبعيد وثبة كانون الثاني عام 1948، وإذ يتحرش نهّازون وتجار سياسة بمواقف الشاعر الوطنية، يرد الجواهري بقصيدة "غضبة" العنيفة، ومما جاء فيها:

عرت الخطوبُ وكيف لا تعرو ، وصبرت انت ودرعك الصبرُ ...
عرت الخطوب فما خفضت لها ، من جانح ٍ وكذلك النسر
ومضيت تنتهب السما صعداً ، لك عند غر نجومها وكر ...
عرت الخطوب وكيف لا تعرو وطريق مثلك ، صامداً، وعر
عدت الضباع عليك عاوية ، ظناً بأنك مأكل جزرُ
فتذوقتك فقال قائلها: ان الغضَـنفر لحمه مرُّ ...
حسدوك انك دست هامهمُ متجبراً ، ولنعلك الفخر...
مثل اللصوص يلم شملهم خيط الدجى ، ويحله الفجرُ

 

ومرة أخرى، ولن تكون أخيرة بالتأكيد في حياة الجواهري "العامرة" باللواعج، والمواجهات، يتعرض الشاعر الرمز عام 1952 لتطاول جديد، فينال الادعياء بعد ذلك جزاءً "خالداً" بالتعبير المجازي:

غذيت بشتمك – سيد الشعراء -
ديدانُ أوبئة ٍ بغير ِ غذاء ِ
علقت زواحفها بمجدك مثلما
طمع العليق ُ بدوحة علياء ِ ...
نفسي الفداء لمخلص متعذب ٍ
اما الدعيّ ففدية لحذائي

 

ويمر الشاعر عام 1954 بأزمة نفسية "طارئة" بسبب تجاوزات "طارئين" على السياسة والثقافة، فراح يخاطب الذات مستنهضاً الهمم والعزائم الجواهرية، معيباً الاستسلام والتردد، فقال:

خبت للشعر أنفاس ، أم اشتط بك الياس ...
أم الفكر باظلاف الوحوش الغبر ينداس ُ ...
نَعَوْك كأنما منعاك للغربان أعراس ...
ترفق ان جُرح "القوم" قتالٌ وحساس ...
وياصلّ الرمال السمر لا يرهبك نسناس ...
فما أنت وأقفاص ، بها يزحف خنّاسُ ...

 

وفي عام 1960، حين كان الجواهري في آن واحد: أول رئيس لاتحاد الأدباء العراقيين، وأول نقيب للصحفيين في البلاد، تسف صحف لئيمة، وأقلام أجيرة، وبتحريض زعامات رسمية وسياسية، فتتصدى لها بائية ثائرة، أدت الغرض بأبيات أربعة وحسب:

سيسبُ الدهرُ والتأريخ ُ من اغرى بسبي
لا أُولى سبوا ، فهم عبدان عبدان ٍ لربِّ
يا لخزي المشتلي كلباً لسب المتنبي ،
عرض كافور تهرى ، وله مليون كلب ِ

 

... وهكذا، ومع ثورة التنوير التي بقي الجواهري يواصلها ما عاش، يترافقُ تطاول هنا، ومحاولة تجاوز هناك، يترفع عنها الشاعر الكبير مرة، ويتجاهل غيرها مرة ثانية، ثم ليطلق عنان غضبه مرات أخر...  ولنا عند ذلك وقفات اخريات ..

مع تحيات مركز الجواهري

www.jawahiri.com

 

 

 

بماذا يخوفني الأرذلون ومم تخاف صلال الفلا

 

الجواهـــري: لو فُنيّت اشعاري كلها، لبقيت المقصورة !!!

 

قراءة وتوثيق: رواء الجصاني

 

نادراً ما كان الجواهري يجيب عن أسئلة من قبيل: أي قصائده أحب إليه من غيرها... ولكنه كثيراً ما بادر إلى تمييز "المقصورة"، بل ووصفها في مرات عديدة ، بأنها الأفرد والأخلد... ويكفي الاستدلال هنا بقوله "لو فنيت أشعاري كلها لبقيت المقصورة"...

 * وتلكم القصيدة – الملحمة، تتعدى أبياتها المئتين والعشرين، وهي الأطول من بين جميع قصائده التي يتجاوز عدد أبياتها الخمسة والعشرين ألف بيت، اذاع مقاطع أولى منها عام 1947، ثم نشرت كاملة سنة 1948، مع تقديم يشير إلى أن ثمة مئة وخمسين بيتاً أخريات، عصفت بهنّ الرياح إلى "دجلة الخير"، فضلاً عن خمسين بيتاً فقدت لأسباب أخرى... وكان الافتتاح:

برغم الاباء ورغم العلى ، ورغم أنوف كرام الملا
فأنت مع الصبح شدو الرعاة ، وحلم العذارى إذ الليل جا
واذ انت ترعاك عين الزمان ، ويهفو لجرسك سمع الدنى
الحت بشعرك للبائسين ، بداجي الخطوب ، بريق السنا

 

وبعد هذا الاستهلال الشموخ، تجوب القصيدة مختلف أغراض الشعر العربي المعروفة، إلا اننا سنتوقف هنا عند محورين رئيسين وحسب، وهما ما يتعلقان بلواعج ومواجهات الشاعر الخالد... ففي الأبيات التالية يبرز الشاعر العظيم هضيمته من سياسيي البلاد، وصنائعهم وغيرهم، مناشداً "الكرماء" خصوصاً، للتضامن معه، كحال شخصية، ولكنها ذات هدف عام، يعبر من خلاله عن مشاعر ناس لا يعدون أو يحصون:

ألا من كريم يسر الكريم، بجيفة جلف ٍ زنيم عتا
فيا طالما كان حد البغي ، يخفف من فحش أهل البغا
انبيك عن أطيب الأخبثين ، فقل أنت بالأخبث المزدرى
زقاق من الريح منفوخة ، وان ثقـّـل الزهو منها الخطى
واشباح ناس ، وان أوهموا ، بأنهم "قادة" في الورى

 

وفي سياق "المقصورة" يعود الجواهري ليهدد "الأرذلين" بكل سلاح الكلمة، واليراع الأبي، وليعاتب، وبكل حسرة وتألم، "أمته" العراقية التي لم تنصف شاعرها، وحامل لواء تنويرها وابداعها... كما يركز "عتابه" على القادة والزعماء، أو من يدعون تلك الزعامةّ الثقافية والسياسية:

بماذا يخوفني الأرذلون ، ومم تخاف صلال الفلا
أيسلب منها نعيم الهجير ، ونفح الرمال ، وبذخ العرا !!
بلى ان عندي خوف الشجاع ، وطيش الحليم ، وموت الردا ،
إذا شئت أنضجت نضج الشواء ، جلوداً تعاصت فما تشتوى
وأبقيت من ميسمي في الجباه وشماً كوشم بنات الهوى
فوارق لا يمحي عارهن ، ولا يلتبسن بوصف سوى
بحيث يقال إذا ما مشى الصليّ بها ، ان وغداً بدا
وحيث يعير أبناؤه بأن لهم والداً مثل ذا
 

... وهكذا يستمر الشاعر في قصيدته ليوثق هذه المرة مواقفه ونهجه ورؤاه للحياة والمجتمع، مبارزاً المتجاوزين، متباهياً بالضمير، وداعياً النفس أولاً لأن تكون أمثولة للآخرين... وقد جاء كل ذلك عبر الاعتداد والعنفوان الجواهري المعهود:

أقول لنفسي إذا ضمها ، وأترابها محفل يزدهى
تسامي فإنك خير النفوس، إذا قيس كل على ما انطوى
وأحسن ما فيك ان الضمير ، يصيح من القلب إني هنا
تسامي فان جناحيك لا يقران إلا على مرتقى
كذلك كل ذوات الطماح والهم ، مخلوقة للذرى
شهدت بأنك مذخورة لأبعد ما في المدى من مدى
وانكِ سوف تدوي العصور ، بما تتركين بها من صدى

 

وفي تسلسل محسوب، وببراعة متناهية في اختيار المباشرة، أو الرمزية، يفضح الشاعر الكبير المدعين والمتنطعين، وفي ذهنه بالتأكيد حالات ومواقف ملموسة، تعبر عن ظاهرة عامة، سائدة آنذاك – ولعلها تضاخمت اليوم – في البلاد العراقية... ونرى في هذا الشأن ما يزيد من رؤى الجواهري التبشيرية والانتقادية على حد سواء، ويضخم من عمق منجزه الابداعي الثري:

ومنتحلين سمات ِ الأديب يظنونها جبباً ترتدى
كما جاوبت "بومة ٌ" بومة ً تقارضُ ما بينها بالثنى
ويرعون في هذر ٍ يابس ٍ من القول ، رعي الجمال الكلا
ولاهين عن جدهم بالفراغ ، زوايا المقاهي لهم منتدى

 

... ثم في مقاطع لاحقة - وقل قصائد أخرى ولاتخف -، يعود شاعر الأمة ليتوقف عند هضبات الوطن، وشطيه والجرف والمنحنى، فيتغزل، ويتباهى، ويصف، كما الأم والعاشق والقائد!. ولا يكتفي بذلك فيجوب طبيعة البلاد ويصف نخيلها وحقولها، بل وحتى ضفادعها التي تنقل على الشاطئين بريد الهوى!... أما في ختام "المقصورة" - البانورامية المجيدة، فيحاول الجواهري أن يعتذر عن فورانه وغضبه في أبياته السابقة، الناقدة والمحرضة باتجاه النهوض والانهاض، فيعود ممجداً "بلداً صانه" وكلاهما – الشاعر والوطن – في موقع التلاحم والانسجام والتداخل الذي لا فكاك منه... كما باحت بذلك القصيدة ذاتها!...

مع تحيات مركز الجواهري

www,jawahiri.com

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الجواهــــري يغضب، فيتفجر، في الثمانين

 

 

كتابة وتوثيق: رواء الجصاني

 

كم هزَّ دَوحَكَ من "قزْمٍ" يُطاولُه فلم ينلْهُ ولم تقصر ، ولم يَطُل ِ

 

أحتفل الجواهري، الشيخ – الشاب، وعلى طريقته الخاصة، بعيد ميلاده الثمانين، وذلك عام 1982 وان اختلف مع بعض المؤرخين والنقاد الذين ثبتوا ولادته في عام 1898، بل وخاصم البعض منهم، واختصم معهم، لذلك السبب... وبتلك المناسبة راح الشاعر العظيم يبث شجوناً كانت، وبقيت، واستمرت، تؤرقه على مدى عقود، ومن أشدها ألماً، ما يزعمه ويراه، من جحود البلاد له، والتي اضطر للاغتراب عنها مرة أخرى واخيرة، مطلع عام 1980، بعد اشتداد ارهاب وعسف طال بعض أهل بيته حتى... وقد انطلق في قصيدته التي نتوقف عندها في هذا التوثيق، يعاتب، ويدين زعامات سياسية وثقافية وغيرها، في البلد المستباح، حاولت أن تتجاوز على عبقريته وأدواره الوطنية والثقافية:

حسبُ "الثمانين" من فخر ومن جَذَل ٍ
غشيانُها بجَنان ٍ يافع ٍ خضل ِ
طلقٌ كما انبلج الإصباح عن سَحَر ٍ
ند ٍ ، وزهرُ الربى عن عارض هَطِل...

 

... ولم يشتعل ضرام آهات ولواعج هذه اللامية المطولة من تراكمات وحسب، بل ان الجواهري، وهو في غربته الجديدة في براغ، والتي صارت مديدة فيها، وفي دمشق، حتى رحيله عام 1997، أُبلغ بصدور كتاب لئيم، ألفه "أكاديمي" "عراقي" اسمه عبد الله الجبوري، حاول فيه ان ينال من الشاعر العظيم، وبعض سيرته وحياته وابداعه. وقد تناولته بائية جواهرية ساخرة، هادرة، بعنوان "عبدة الغجرية" عام 1982، اثر نشر ذلك الكتاب المشبوه مضموناً وتمويلاً... وفي المقطع التالي اشارة، وان دون مباشرة، لذلك الحدث:

وأنت يا ابن "الثمانين" استرحتَ بها
كما تظنّنتَ، من لوم ٍ ومن عذَلِ
جاءت تحييك في أعيادها قِذَعٌ
نكراءُ ، لقَّنها الساداتُ للخَوَل
وفَّتْكَ نُذراً لها عما وَفيتَ به
من النذور ِ لَدُن أيامِكَ الأوَل...

 

... ثم تعود القصيدة في الأبيات اللاحقة لتردَّ على تلكم التجاوزات ولتواجه وتتصدى لاصحابها، وأسيادهم، الذين سعوا جاهدين للنيل من الرمز العراقي الكبير، بهذه "الحجة" تارة، وبغيرها، من مزاعم، تارة أخرى... وجميعها لم تستطع إلا أن تثير "زوابـــع في فنجــان" بحسب الجواهري في مجالس خاصة... ثم لتخمد وأصحابها، وليبقى الشعر، والابداع وصاحبه، خالدين:

يا "ابن الثمانين" كم عولجت عن غَصص
بالمُغريات فلم تَشْرَقْ ولم تَمِل ِ
كم هزَّ دَوحَكَ من "قزْمٍ" يُطاولُه
فلم ينلْهُ ولم تقصر ، ولم يَطُل ِ
وكم سعت "إمَّعاتٌ" أن يكون لها
ما ثار حولك من لغو ٍ ، ومن جدَل ِ
ثبِّتْ جَنانك للبلوى فقد نُصبَتْ
لك الكمائنُ من غدر ٍ ، ومن خَتَل ِ
ودَعْ ضميرَك يَحذَرْ من براءته
ففي البراءات ِ مَدعاةٌ إلى الزَّلَل ِ
لا تنسَ أنكَ من أشلاء مجتمع
يَدينُ بالحقد ِ والثارات والدَّجَل ِ
حرب ٍ على كل "موهوب ٍ" وموهِبة
لديه ، مُسرَجة الأضواء والشُّعَل ِ ...
عصَّرتهم فتحمَّلْ وضرة الثقل
ودُستهم فتوقعْ غضبةَ الخَوَلِ

 

 وإذ ينتهي التمهيد والاستعداد، يحين الوقت كما رأى الشاعر، ليوضح المزيد من "التفاصيل" ذات الصلة ومنها هجوم "الأذناب" و"الأسياد" من جهة، وصمت "المحبين" و"القادرين" على الرد من جهة ثانية... ولعلّ مواقف الأخيرين كان أشد إيلاماً لأنهم تناسوا عهود الاخاء ومزاعم الود ومشاعر التقدير التي كانوا يبدونها للجواهري بمناسبة، وبغيرها، حباً واعجاباً حقيقياً أو زائفاً... ويقول بهذا الشأن:

نُبِّئتُ "شِرذمةَ الأذناب" تنهشني
بمشهد من "رُماة ِ الحي" من "ثَعَل"
يا للحفيظَة ِ لم تظفَرْ بذي شَمم ٍ
وللشهامة ملقاة ً على طلل

 

... ويتواصل القصيد جدلاً وحواراً وفلسفة ورؤى حول "الأصالة" و"الرجولة" و"المدعين" و"الهاربين" و"الناكثين" وغيرهم، ممن لم ينتصروا للحق – بحسب الشاعر– مع التنويه إلى تجاريب كثيرة كان لصولة الحرف فيها، الثبات والانتصار... وتستمر التساؤلات والادانة:

أيستثيرُ دمي "وغْدٌ" و"صاحبُه"
بما يثير رمال السَّهل ِ والجبل
ولا يندّ فمٌ ، لا بَعْدَه خَرَسٌ
ولا تُمدُّ يد ، لا تشْفَ من شلل ...
قد كان شوطُ رجولات ٍ مشرِّفة ٍ
لو كان تحت سِبالِ القَوم ِ مِنْ رَجُل..
الخانعين بمنجاة ٍ تسومُهمُ
جدعَ الأنوف ِ ، وذلَّ العاجز ِ الوكِل ...
والناكثين بعهد ِ الحَرْف ِ منتفضاً
على الضغائن والبهتان والدجل:
إن الحياة معاناة وتضحية
حب السلامة فيها أرذل السبل
وللبطولات جولات، وكم شهدت
سوح الوغى "لحماة الحرف" من بطل
وثمَّ من لعنة ِ الأجيال جازيةٌ
تقتصُّ من قولة ِ حَقٍّ، ولم تُقَل

 

... وقبيل ختام القصيدة التي بلغت أكثر من سبعين بيتاً يعود الشاعر الغاضب، موضحاً، ومدافعاً عن النفس أولاً، ثم ليفضح بكل صلابة وعنف مدعين مزعومين، و"زعاماتهم" التي لولاها لما استطاع أولئك ان "يستأسدوا" على الجواهري، مستغلين غربته بعيداً، أو مبتعداً عن الوطن المثكول:

أقول "للخِدن" ما حالت مَودَّتُه
فظنَّ أن عهود الناس لم تَحُل ِ
سلني أُجِبْكَ بما يعيا "الجواب" به
وإن ينل منك إشفاقٌ فلا تَسَل ِ
فقد تقرحتُ حتى العظم من شجن
دامي الشكاة ِ بلوح ِ الصدر معتمِل
أُجِبْكَ عن نُصُبٍ أعلام ِ "مقلمَة"
غُفْل ٍ ، شتات ٍ إذا كشَّفتَهم ، هُمُل ِ
و"للتماثيلُ" يستوحى بها "مُثُلٌ"
خيرٌ من البشر الخالين من "مُثُل ِ"
"خُرْس ٍ" وإن خَرقوا الأسماع في هَذَر
يُغْثي النفوسَ ، وفي مرصوفة "الجُمَل"
وعن "كروش" "زعامات ٍ" كأنَّ بها
من فرْط ِ ما اعتلفتْ مَسَّاً من الحَبَل
يستأسدون إذا مُدَّ العنانُ لهم
فإن يُشَدَّ، تردَّوا بِزَّة "الحَمَل" ...

 

... وكما هي الخلاصات التي يقدمها القادرون في نهاية عطاءاتهم، أو الرتوش التي يضعها الفنانون قبيل عرض ابداعاتهم، يختار الشاعر فضيلة التحذير نهاية لقصيدته، ومذكّراً من يريد أن يتذكر قدرات الجواهري في مواجهة اللؤماء ومن يقف وراءهم، وأولئك هم الأكثر قصداً من غيرهم على ما نظن:

يا "صاحبي" وحتوفُ "القوم" طَوْعُ يدي
وكم أتتهم "رياح الموت" من قِبَلي
أجِلْ يراعَك في آجالهم مِزقاً
فليس عندك بعد اليوم من أجل ِ
واضرب بهم أسوأ "الأمثال" سائرة ً
حتى تَثَلَّمَ فيهم مضربَ المَثَل !

---------------------------------------

مع تحيات مركز الجواهري في براغ

www.jawahiri.com

 

 

 

في الذكرى السادسة عشرة لرحيل الجواهري:

 

فيا آبن الرافديّن ونعم فخرٌ    بأن فتى بني الدنيا: فتانا

 

* كتابة وتوثيق: رواء الجصاني

 

 

قبل ستة عشر عاما، وفي صبيحة الأحد، السابع والعشرين من تموز عام الف ٍ وتسعمئة وسبعة وتسعين ، تحديداً، أُستنفرت وكالات أنباء ومراسلون وقنوات فضائية وغيرها من وسائل اعلام، لتبث خبراً هادراً، مؤسياً، هزّ مشاعر، ليس النخب الثقافية والسياسية فحسب، بل والألوف الألوف من الناس، وخلاصته :-
"الجواهري يرحل إلى الخلود في احدى مشافي
العاصمة السورية دمشق عن عمر يناهز المئة عام"
... يطبق "الموت اللئيم" اذن على ذلك المتفرد الذي شغل القرن العشرين على الأقل، ابداعاً ومواهب، ثم لتروح الرؤى والأحاديث والكتابات تترى بعد الخبر المفجع، عن عظمة ومجد الراحل العظيم:-
- المتميز بعبقريته التي يخشى أن يجادل بشأنها أحد...
- السياسي الذي لم ينتم ِ لحزب، بل كان حزباً بذاته، يخوض المعارك شعراً ومواقف رائدة...
- الرمز الوطني الذي أرخ للبلاد وأحداثها بأتراحها وأفراحها من داخل الحلبة، بل ووسطها، مقتحماً ومتباهياً: -
أنا العراق لساني قلبه ودمي فراته وكياني منه اشطار
- وذلك الراحل العظيم نفسه : حامل القلم الجريء والمتحدي والذي "لو يوهب الدنيا بأجمعها، ما باع عزاً بذل المترف البطر"... ناشر صحف "الرأي العام" و"الجهاد" و" الانقلاب" و"الثبات" ورفيقاتهن الأخريات...
- منوّرٌ متميزٌ من أجل الارتقــاء على مدى عقـود حياته المديدة، مؤمن: " لثورة الفكر تاريخ يحدثنا، بأن ألف مسيح دونها صلبا"
- صـاحب "يوم الشـهيد" و"آمنت بالحسين" و"قلبي لكوردستان" و"الغضب الخلاق" و"الفداء والدم"... شامخ، يطأ الطغاة بشسع نعل ٍ عازبا...
- والجواهـري ايضا وايضا: متمرد عنيد ظـل طـوال حياتـه باحثاً عن "وشـك معترك أو قرب مشتجر"، كيّ "يطعم النيران باللهب"!...
- مبدعٌ بلا حـدود في فرائـد "زوربـا" و"المعـري" و"سـجا البحـر" و"أفروديـت" و"أنيتـا" و"لغة الثياب" و"أيها الأرق" وأخواتهن الكثار...
- وهو قبل كل هذا وذاك: " أحب الناس كل الناس، من شبّ ومن شابَ، ومن أظلم كالفحم، ومن أشرق كالماس" ..
- كما هو "الفتى الممراح فراج الكروب"، الذي "لم يخل من البهجة دارا" ...
- رائدٌ في حب وتقديس من "زُنَّ الحياة" فراح يصوغ الشعر "قلائداً لعقودهنَّ" ... و"يقتبس من وليدهن نغم القصيد" ..
- وديع كالحمامة، ومنتفض كالنسر حين يستثيره "ميتون على ما استفرغوا جمدوا .."
- وهو لا غيره الذي قال ما قال "ولم يصلّ لغير الشعر من وثن" ... فبات الشعراء يقيسون قاماتهم على عمود قامته الشامخ...
- انه وباختصار: ذلكم الطموح الوثاب الذي كان، ومنذ فتوته "يخشى أن يروح ولم يبقِ ذكرا" ... فهل راحت قصائده - فعلا - "ملؤ فم الزمان"!! وهل ثبتت مزاعمه بأن قصيده "سيبقى ويفنى نيزك وشهاب" وهو الصادح:
وها هو عنده فلك يدوي..... وعند منعم قصر مشيدُ
يموت الخالدون بكل فج ٍ .. ويستعصي على الموت ِ الخلودُ
ترى هل صدق بما قال ... التاريخ وحده من انبأنا
وينبئنا عن الامر، ويا له من شاهد حق ٍ عزوفٍ عن الرياء!!
-----------------------------------------------------
مع تحيات مركز الجواهري في براغ
www.jawahiri.com
فيس بوك: "براغ- مركز الجواهري"

 

 

 

 

 

الجواهري ...

 

في قصائد ومواقف

عن الرابع عشر من تموز

 

كتابة وتوثيق: رواء الجصاني

 

   على مدى ثمانية عقود، او حواليها، كان الجواهري مؤرخاً – على الاقل-  لأهم الأحداث العراقية والعربية، بافراحها وأتراحها، بل والعالمية أيضاً، معبرا بوضوح نادر عن مواقفه ورؤاه الوجدانية والسياسية والفكرية، من تلكم الاحداث، وعنها... وهكذا جاء موقفه، ولنقل مواقفه، بشأن التغيير الرئيس، وربما الأهم في تاريخ العراق الحديث، ونعني به حركة الرابع عشر من تموز عام 1958 التي أشعلت هبة عارمة، وانهت النظام الملكي، واستبدلته بالجمهوري، الذي قيل ما قيل، ويُقال، إيجاباً وسلباً حوله ...  

    لقد رأى الجواهري في تلكم الثورة التحررية بحسب البعض، أو الحركة العسكرية الانقلابية- الجماهيرية، وفق بعض آخر، مسك ختام وطنياٌ لعقود من النضال الشعبي والوطني في العراق، من أجل الحرية والازدهار، بل والتقدم بمفاهيم ذلك الزمان... وهكذا سرعان ما نظم، وفي الأيام الأولى لقيام ذلك التغيير المدوي، قصيدته النونية المطولة، ومن مفتتحها:

جيشَ العراق ولم أزلْ بك مؤمنا ... وبأنك الأملُ المرجى والمنى
وبأن حلمك لن يطولَ به المدى وبأن عزمك لن يحيق به الونى
حمل الفرات بها اليك نخيله، ومشى بدجلة جرفها والمنحنى
فلقد اعدت اليهما صفويهما، من بعدما غصا بأدران الخنا

     ثم تلت "جيش العراق" قصائد عديدة أخرى تؤرخ لذلكم الحدث، ومسيرته، وتوجه الجماهير الشعبية لاسناده وتأطير مساره. محذرة من الاضطرابات واستغلال الأمور، بما يقود لخلاف ما آمن به الجواهري من ضرورات ومباديء، ومن أجل النهوض والارتقاء والوحدة والتلاحم، بعيداً عن العصبوية، والطائفية والفئوية والحزبية والعنصرية، وسواها من آفات اجتماعية ووطنية... ومن بين ما نستشهد به هنا ما جاء في قصيدته بمناسبة عيد الاول من ايارعــــــام 1959:

يا أيـهـا العُمّـالُ صفـحَ تسـامحٍ، عمّـا تجيشُ ببثّـهِ خطَراتي
أنا لا أثيرُ ظُنونَكمْ، لكنْ فتىً، حراًّ يحبّ حرائرَ الصّرَخات
ما انفكّ تِنّينُ التحكّمِ قائماً، وتقاسمُ الأرباح فـي الشركات
ما زالت الشمّ النّواطحُ تُبتنى، من تلكمُ السّرِقات والرّشوات
لِم يُؤخَذُ المالُ المقطّعُ منكمُ، سحتاً، ولـم تُقطَعْ أكفّ جناة!

   وفي عودة للديوان الجواهري العامر، نجد ثمة قصيد حاشد في شؤون، وشجون ذلك  الحدث التموزي، وعموم الأحداث التي نعنى بها في هذا التوثيق ومنها: رائية "انشودة السلام" ودالية

"في عيد العمال" وبائية "المستنصرية"... وفي جميعها، وبهذا الشكل او ذاك، نصح الجواهري، وحذر ونوّر، منفرداً، او سوية مع العديد من القوى الديمقراطية والشخصيات الوطنية، قبل وقوع الانقلاب الفاشي عام 1963 الذي قضى على الثورة، من نتائج نهج  التفرد، والتسلط، وتجاوز المبادئ التي قامت تحت شعاراتها حركة الرابع من تموز 1958 العسكرية ، المدعومة شعبياً .... ولعل مراجعة وان عجولة لصحيفة الجواهري في تلكم الفترة، ونقصد بها "الرأي العام" تثبت بجلاء، كماً واسعاً من المناشدات الهادفة من جهة، والانتقادات الساخنة والحادة من جهة اخرى، التي كالها الشاعر والرمز الوطني الكبير ... فضلاً عما حوته فرائده اللاهبة، تعبيراً عن ضمائر الجماهير، الامينة على مستقبل البلاد وتطورها. ومن بينها- على سبيل المثال - ما جاء في قصيدته الموسومة "باسم الشعب" عام 1959 مخاطباً فيها المسؤول الاول، والاخير، في البلاد :

"عبد الكريم" وفي المراء جبانةٌ ، تُزرى، وصنو شجاعة، إصراحُ
كنت العطـوف به يُراض جماحُ ، فكن العنـوفَ، به يُهاضُ جناحُ
لا تأخذنــكَ رحمة في موقف، جــدٍ، فجـدُ الراحميـــن مزاحُ
ولطالما حصد الندامةَ مسمحٌ، وأتى بشرٍ ثمارهِ الاسماحُ
ولقد تكون من القساوةٍ رحمةٌ، ومن النكالِ مبرةٌ وصلاحُ

   ومع كل ذلك لم تنفع تلكم النصائح والمناشدات المخلصة، ولم تُؤخذ التحذيرات المدعمة بالملموسيات والتجاريب، بموضع الحرص على امن البلاد ومسار التحولات الديمقراطية المرجوة، بل وبدلاً عنها، راح عسف السلطات "الجمهورية" يتمادى فيشمل الجواهري ذاته، والى حد اعتقاله فترة من الوقت، برغم انه شاعر الامة العراقية، ورئيس اتحاد ادبائها انذاك، ونقيب صحفييها الاول... مما اضطره، احترازاً على حياته، للاغتراب القسري عن الوطن، شبه هارب "من رافديه" محتجاً، وضاغطاً، بهذا الشكل اوذاك على ولاة الامر، بل وواليه بتعبير أدق، لتدارك ما لا تحمد عقباه . ولعل من المناسب للتوثيق الملموس هنا، الاشارة الى المواجهة المباشرة، ذائعة الصيت ، بينه – الجواهري - والزعيم عبد الكريم قاسم، في مقره بوزارة الدفاع، بسبب ماكتبه الشاعر والرمز الخالد، دفاعا عن "الثورة" وضد التجاوزات على المواطنين ، وخاصة مقاله في اواسط 1959: ماذا في بلدة"الميمونة" بمدينة العمارة.

    واذا كانت هذه الحال مع الجواهري، صاحب"أنـــا العراق" و"المقصورة" و" اخي جعفراً" و"هاشم الوتري".. والرمز الثقافي والوطني الابرز في البلاد، فللمتابع ان يستنتج، ودون كثير عناء، كيف كانت السلطات تتعامل مع انصار الديمقراطية عموماً، بينما تتغاضى في الآن  ذاته عن توجهات واستعدادات المتضررين من سقوط العهد الملكي، والقوى والشخصيات الشوفينية والظلامية والطائفية، لقلب نظام الحكم، والانتقام من الجماهير الشعبية، وقياداتها، دعوا عنكم قادة وضباط حركة الرابع عشر من تموز، الوطنيين الاحرار.

     لقد تكررت مناشدات الجواهري وتحذيراته من تجميد الحياة الدستورية وتغييب الديمقراطية، كما من مغبة التفرد في الحكم، ومن التخبط السلطوي، و"المساواة" - على اقل وصف- بين القوى الوطنية والشعبية، من جهة، ومناهضيها، المناوئين للتحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية المبتغاة، من الجهة المقابلة  ... وهكذا راحت تعلو دعوات هنا لليقظة من احقاد الموتورين، وتتعالى دعوات هناك لنبذ الفرقة والغلو، ولمزيد من التلاحم بين ابناء الشعب، ولرصد المتامرين في الداخل والخارج، والاستعداد لمواجهتهم قبل فوات الاوان، ومن بين ما نستعين به للتوثيق بهذا الشأن ما جاء في قصيدة الجواهري " أزف الموعد" التي ناشد فيها الطلاب العراقيين ،عام 1959:

أزف الموعد والوعد يعنّ.. والغد الحلو لاهليه يحنُ

والغد الحلو بنوه انتم، فاذا كان له صلب فنحن

فخرنا انا كشفناه لكم، واكتشاف الغد للاجيال فنّ ..

يا شبابَ الغدِ كونوا شِرعةً ، للعلا والبأسِ واللطفِ تُسَنّ

سالموا ما اسطعتُمُ حتى إذا، شنّها حرباً أخو بغيٍ فشُـنّوا

وابدأوا الخيرَ سباقاً بينكم، فإذا بُـودئـتمُ الشـرّ، فثـنّـوا

... اخيراً، وفي نهاية هذا التوثيق العجول، لا بدّ وأن نلفت النظر الى ما سجله الجواهري حول الرابع عشر من تموز، في الجزء الثاني من ذكرياته، اذ نرى فيه مؤشرات وأشارات مهمة لمن يريد ان يقرأ التاريخ بمزيد من الموضوعية، بعيدا عن التشنجات، والعصبيات، وإسقاط الاجتهادات اللامسؤولة، لهذه الاغراض أو تلك ... وعلى أية حال، فقد ترضي هذه الكتابة بعضاً، أو تغضب آخر، إلا انها سعت لكي تكون بعيدة عن العواطف، والتي عمرها ما كانت حكما عادلا في تقييم الوقائع التاريخية، كما نزعم، وقد نصيب.

... وختاما- وحقاً هذه المرة- ها نحن نقتطف بعض ابيات من سيمفونية "دجلة الخير" التي نشرها الجواهري الخالد اواخر العام 1962 ونزعم ان فيها الكثير والكثير من الرؤى والاراء بشأن عموم ما شهدته البلاد العراقية في تلكم الفترة العصيبة :   

يا دجلة الخير أدرى بالذي طفحت، به مجاريك من فوق الى دون

ادرى بانك من الف مضت هدرا، للآن تهزين من حكم السلاطين

تهزين ان لم تزل في الشرق شاردة من النواويس ارواح الفراعين

يا دجلة الخير كم من كنز موهبة، لديك في القمم المسحور مخزون

لعل تلك العفاريت التي احتجزت، محملات على اكتاف دلفين

لعل يوماً عصوفاً هادراً عرماً، آتٍ فترضيك عقباه وترضيني..

-----------------------------------------------------------

مع تحيات مركز "الجواهري" للثقافة والتوثيق

www.jawahiri.com
Jawahiricint@yahoo.com

 

 

حين مجدَّ الجواهري

 

مع اقتراب ذكرى 14 تموز

 

محطات تاريخية عن وصفي طاهر،

 

وشهادات عن قيام الجمهورية

 

الاولى... وأغتيالها !!!!

 

* كتابة وتوثيق: رواء الجصاني

 

    يجد الباحث والمتابع، وحتى القارئ العابر، معلومات واجتهادات في  العشرات من الكتب والدراسات والوثائق، بهذه التفصيلات أو تلك، عن مواقف وأدوار وصفي طاهر، أحد أبرز قادة ثورة الرابع عشر من تموز (يوليو) العراقية عام 1958. وبهذا السياق تأتي كتابتنا عنه اليوم لا لتسعى للتكرار، بل تحاول ان تنقل جوانب معينة، عن حياة ذلك الرجل، ولتكمل - او تأمل أن تكمل - تفاصيل وخلفيات وأحداث ما كُتب بشأنه.
وقبل ايراد بعض ذلك الجديد الذي نزعمه عن وصفي طاهر، ينبغي القول على ما نعتقد، ان كثيراً مما احتوته الكتب والدراسات والوثائق التي أشرنا لها، والتي تطرقت، أو توقفت عند بعض آراء ومواقف ذلك الرجل العراقي، وأدواره في الثورة التموزية، وما قبلها وبعدها، بحاجة إلى تمحيص وتدقيق حريصين، خاصة وان "مؤلفين" و"مؤرخين" قد اسقطوا المزيد من أهوائهم وتصوراتهم وقراءاتهم الذاتية، الشخصية، على ما كتبوا، بعيداً عن التوثيق والأمانة حيناً، ولأغراض في نفس "يعقوب"، وغيرها في أحايين أخرى. وحول كل ذلك متابعات أخرى نعد بالجهد لاتمامها، فائدة للمتابعين، وتثبيتاً للتاريخ.

من هو وصفي طاهر ؟؟

   وفي عودة لجديدنا الموعود عن وصفي طاهر نقول بأنه من مواليد 10 تموز 1918 ببغداد، من عشيرة البياتي العراقية العريقة في تاريخها وأصولها... فوالده، وجده من المساهمين والمؤسسين لطلائع جيش البلاد أوائل القرن الماضي... وقد أكمل تعليمه الابتدائي في مدرسة المأمون، والمتوسطة والاعدادية في الثانوية العرابية. وقد حاول وهو ابن السادسة عشرة أو السابعة عشرة التطوع مع مئات الشبان، وغيرهم، من بلدان العالم المختلفة، لمقاتلة الفاشية الاسبانية في الثلاثينات الماضية. وقد نجح ضغط العائلة في الساعات الأخيرة في منعه من تحقيق ما عزم عليه.
    تخرج الرجل من الكلية العسكرية ببغداد عام 1939 برتبة ملازم، ليتنقل، وينقل بعدها الى مدن وبلدات في مختلف أرجاء البلاد، مما منحه فرصاً ووقتاً ومجالاً للتميز في عراقيته لاحقاً، والتعرف على المزيد من الأصدقاء والمزاملين له في تشكيلات الجيش وقواته المسلحة... وقد تدرج في مهماته العسكرية حتى رتبة عقيد عند قيام ثورة تموز، وليستشهد وهو برتبة عميد (زعيم) في التاسع من شباط (فبراير) عام 1963. وقد رفض التمتع بأي قدم إضافي في ترقياته، حينما كان مقرراً ومعنياً بهذا القدر أو ذاك، عن مسؤولية تلك الترقيات للفترة 1958-1963.

    وفي سياق الكتابة عن بعض المحطات المهمة في حياة الرجل العسكرية، يقول التسلسل الزمني ان وصفي طاهر قد شارك في أحداث عام 1941 المعروفة بحركة رشيد عالي الكيلاني، إذ كان ضمن القوات العراقية التي تشابكت مع القوات البريطانية في سن الذبان / الحبانية وقد استطاع مع تشكيله العسكري التابع له، الانسحاب الناجح، والنجاة من الأسر الذي شمل الكثير من القطعات العراقية بعد خسارتها للمواجهات والمعارك التي دارت حينذاك. ولا يجوز هنا، ونحن في سياق الحديث عن بعض حياة وصفي طاهر في الجيش، ان نتجاوز حماسه للمشاركة في الحرب العربية – الاسرائيلية عام 1948. وقد تم نقله، بناء على طلبه، الى احدى الوحدات الفعالة في فلسطين اعتباراً من 12/7/1948، ليعين آمراً لحامية "طوباز" بعد أقل من شهر على ذلك التاريخ. ثم ليشغل آمر سرية فوج الشعراوية، فمسؤولية السرية الثالثة لفوج خالد ابن الوليد، وليتولى بعد ذلك آمرية حراسة مقر القيادة العسكرية العراقية في تلك الحرب... وقد شارك، ضمن مختلف مشاركاته الفعلية الأخرى، في تشكيل أول فصيل للمقاتلين الفلسطينيين خلف خطوط القوات المعادية. وكان حينها آمراً لرتل فرعون، وساهم في معركة الاشرفية وفرونة في 1/8/1948 وكذلك في معركة جنين... وقد كان معه في تلك الفترة الملازم (الشهيد في عام 1963) فاضل البياتي، وقد أصدرت القوات الاسرائيلية امرا لعملائها باغتيال وصفي بعد العمليات الجريئة والمفاجئة ضدهم.

     يعود الرجل الى بلاده من الاردن وفلسطين بعد معايشة للاحداث والوقائع ومشاركته الفعلية فيها، ليحمل المزيد من الاصرار الثوري، والقناعة في ضرورة التغيير، وليبدأ هذه المرة بتحركات عملية في سياق النضال التحرري وذلك منذ عام 1950 حيث انطلق في اتصالات عديدة، وليكون أحد ستة مؤسسين لحركة تنظيم الضباط الأحرار في العراق، والهيئة العليا لها بعد ذلك... وقد صرح لزوجته (بلقيس عبد الرحمن) وهي أمينة سره منذ ارتباطهما عام 1943  بأنه من زكّى الزعيم (العميد) عبد الكريم قاسم أمام مسؤولي التنظيم، وقد أصبح لاحقاً رئيساً له، كما هو معروف... ووفقاً لشهادات وكتابات العديد من رفاقه، ومن مختلف الاتجاهات، كان وصفي طاهر لولب التنظيم ومحوره الفاعل طيلة سنوات. وقد قبل مهمة المرافق الأقدم لرئيس الوزراء عام 1953 وذلك لحساسية ذلك الموقع وفائدته لنشاطات تنظيم الضباط الاحرار في تهيئته لحركة عسكرية ضد النظام الملكي السائد آنذاك، ونجحت في 14 تموز (يوليو) 1958 من الاطاحة به .

وقائع عن التحضير لثورة تموز، وانطلاقتها.. واغتيالها

     لقد استمرت جهود وصفي طاهر، بل وزادت بشكل مضاعف خلال السنوات الثلاث الأخيرة التي سبقت قيام الثورة، ونعني بذلك تحديداً الفترة 1956-1958... ويعلمنا شهود عيان من أهل البيت، وخاصة من خلال ما سجلته بلقيس عبد الرحمن، أرملة الرجل، والتي رافقت مسيرته تلك، ان قيادات الضـباط الأحـرار كانت تجتمع في دار العـائلة بمنطقة الصليخ في بغداد عامي 1957-1958... وكانت هي بالذات – بلقيس- من تعنى بمراقبة الأجواء الخارجية، وشهدت احياناً ولعدة مرات، انعقاد اجتماعين في آن واحد، في غرفتين منفصلتين، أحدهما لعسكريين، والآخر لمدنيين، ثم علمت من زوجها لاحقاً، انهما كانا لقيادات من الضباط الأحرار، ولمسؤولين شيوعيين، وكل على انفراد، وقد كان "وصفي" يتنقل بين غرفتي الاجتماع في البيت، لنقل ومناقشة الآراء والملاحظات المتبادلة بين الجانبين اللذين لم يتفقا على عقد اجتماع مشترك لأسباب صيانية من جهة، وسياسية من جهة أخرى. ولم يكن يعرف تلك التفاصيل من الضباط، غير عبد الكريم قاسم، ومحي عبد الحميد، العضو هو الاخر في لجنة الضباط الاحرار ....

... وفي فترة التمهيد للثورة وقيامها في تموز 1958 تتحدث لنا المعلومات العائلية عن محاولة سبقت ذلك الموعد بشهرين، ولكنها لم تنفذ، وقد قام وصفي طاهر ليلتها بتوديع زوجته وتوصيتها بأن تفتح المذياع عند الساعة السادسة صباحاً، ولكن الرجل عاد بعد ساعات ليبلغها بتأجيل موعد الحركة... ثم تتكرر الحال ذاتها ليلة الرابع عشر من تموز، ولكن لتنجح الثورة هذه المرة، وليبث راديو بغداد في الصباح الباكر بيانها الأول... ثم يعود وصفي طاهر مساء ذلك اليوم ليبقى نصف ساعة فقط لطمأنة العائلة، والتوجه ثانية الى وزارة الدفاع حيث تجتمع قيادة الثورة وزعيمها عبد الكريم قاسم...


عن حقيقة مقتل نوري السعيد      

    ووفقاً لشهادات المصادر نفسها، ونقلاً عن وصفي طاهر شخصياً، فأنه كان مكلفاً باعتقال نوري سعيد، الذي نجح بالهرب من البيت، فجر يوم الثورة، بعد ان علم بتحركات عسكرية "مريبة"... وعند ورود خبر إلى القيادة في اليوم التالي، بمقتل ذلك السياسي الملكي الأهم في البتاوين، ذهب وصفي طاهر الى موقع الحدث ليجده قد فارق الحياة فأوعز بنقله ودفنه في مقبرة باب المعظم، ومن دون ان يطلق أية رصاصة، كما ذكر في مصادر مختلفة "مطلعة" أو مدعية... ثم جرى ما جرى بعد ذلك من اخراج الجثمان، وسحله، والتمثيل به في ظل هياج شعبي غير مسيطر عليه... وقد استثار ذلك الأمر غضب عبد الكريم قاسم، ووصفي طاهر وعدداً آخر من قيادات الثورة، مثلما استثارهم أيضاً اطلاق الرصاص على العائلة المالكة، وتصفيتها في قصر الرحاب، اذ كان من المتفق عليه بين قيادة تنظيم الضباط الأحرار تسفيرها الى خارج العراق.
... وهكذا تستمر الاحداث، ويبقى وصفي طاهر ملازماً لصديقه الشخصي، الزعيم عبد الكريم قاسم، مساعداً أول له، ومسؤولاً عن ادارة المقر الرئيس لقيادة الثورة، ولنحو عامين، ليبدأ بعدها العد التنازلي، ليس في علاقة الرجلين وحسب، بل في مجريات ومسيرة البلاد عموماً... فقد بدأت الدسائس تفعل فعلها، وبشكل محبوك من جانب المناوئين، والانتهازيين، وركاب الموجة، وفقاً لتقييمات وصفي طاهر، والذي أبلغ ذلك لعبد الكريم قاسم صراحة، وبأمثلة ووقائع ملموسة، ولكن الأخير لم يعد ذلك الذي كان، وقد بات يحسب حساباته الخاصة، متفرداً في قراراته واجراءاته دون استشارة احد... وفي موقف للتأثير في تلك الاحداث، حاول وصفي طاهر ان يعرب عن احتجاجه، وان يضغط بأساليب مختلفة لاصلاح الأمور، ومن بين ذلك انقطاعه عن التواصل مع زعيم الثورة، والاكتفاء بقضاء ساعات قليلة فقط، في المقر الرئيس بوزارة الدفاع، ليعود الى البيت، متأثراً وعصبي المزاج مؤكداً ان ما يجري لا ينسجم مطلقاً مع ما اتفق عليه، وخاصة التفرد في القرارات، وعدم تسليم السلطة لمدنيين عبر انتخابات برلمانية... إلا ان كل ذلك لم يمنع" وصفي" من الاستمرار في "مهمته" الرسمية، وفي محاولات التأثير على عبد الكريم قاسم وتنبيهه لمكامن الخطر المحيق، ليس به وحده، وانما بمصير الشعب والبلاد عامة، ولكن من دون جدوى، فيستمر الحال على وضعه بل ويزداد تدهوراً، وحتى الأيام الأخيرة التي سبقت وقوع الانقلاب الفاشي في الثامن من شباط 1963.


عشية الانقلاب الفاشي المشؤوم

...  وفي تفاصيل ذات صلة، نوثق هنا، ان عبد الكريم قاسم، وقبل يومين فقط من ذلك التاريخ المشؤوم، قد أتصل هاتفياً بوصفي طاهر في البيت، ليطلب منه الحضور العاجل... فيقوم الرجل بالذهاب مباشرة الى المقر الرئيس بوزارة الدفاع، وليطلع على قائمة بأسماء الذين يهيئون لانقلاب عسكري والاجراءات الحاسمة المقررة تجاههم يوم السبت، التاسع من شباط... ولكن الانقلابيين استطاعوا كما هو معروف استباق الأمر، والقيام بحركتهم الفاشية قبل ذلك بأربع وعشرين ساعة فقط. وارتباطاً مع بعض تفاصيل الحدث الأبشع في تاريخ البلاد الحديث. وبعد ورود أخبار أولية صبيحة الجمعة الثامن من شباط عن تحركات الانقلابيين، انتقل وصفي طاهر على الفور الى بيت "قاسم" لقيادة الموقف المقابل، وقد اتصل بعد ذلك من وزارة الدفاع ليطلب من زوجته أن تنتقل مع بناتهما الاربع الى احد بيوت الاقارب لمزيد من الأمان، بعد ان هاجمت فرق من المسلحين الفاشيين بيوت بعض القيادات العسكرية المؤثرة، ومنهم جلال الأوقاتي وفاضل عباس المهداوي... وفي آخر اتصال هاتفي قال الرجل لزوجته انه ورفاقه يحاولون السيطرة على الموقف، ودعاها الى الشجاعة والصبر، وكان ذلك عند الساعة الثامنة والنصف من مساء اليوم المشؤوم: الجمعة 8 شباط (فبراير) 1963...

وفي حديث تلفزيوني عُرض عام 2007 بمناسبة الذكرى السنوية السوداء للانقلاب الفاشي، أكد أحد آخر عسكريين اثنين بقيا مع وصفي طاهر حتى اللحظات الأخيرة، وهو مرافقه الشخصي نعيم سعيد، ان الرجل طلب منه، وكذلك من سائقه فيصل عذاب، وكانوا جميعا في مقرات وزارة الدفاع يقاومون الانقلابيين، طلب منهما ان يسلما نفسيهما، بعد وضوح النتيجة ونفاذ الذخيرة، لانه هو المطلوب أساسا... وحينما استدارا بعد ذلك بلحظات، سمعا" نعيم وفيصل" صوت طلقة نارية انهى بها وصفي طاهر حياته، كما كان قد قرر وأفصح عن ذلك، أمام زوجته، وأمام عبد الكريم قاسم بالذات، في أوقات سابقة، من انه سيقاوم أية محاولة لاسقاط الثورة وسيحتفظ بآخر طلقة لنفسه... ويضيف المتحدث "نعيم"، انهما مددا "وصفي" واغمضا عينيه، وقاما بتسليم نفسيهما للانقلابيين. ومن المعروف كيف عرضت العصابة الانقلابية الفاشية الجثمان عبر التلفزيون لاحقاً لا لشيء إلا لاحباط عزائم المواطنين، المقاومين في حينها، وكذلك لطمأنة أنفسهم من الرعب الذي كان يحيط بهم من قيادات الثورة التموزية. واستطراداً في الحديث عن هذا الشأن، تنقل ابنة الرجل الصغرى "هند" انها، وبعد عودتها الى العراق اثر سقوط نظام الطاغية في نيسان (أبريل) 2003، اتصل بها مواطنون معنيون ليدلوها على قبر جماعي سري في مدينة المعامل يضم عدداً من رفاة شهداء انقلاب الثامن من شباط الدموي، ومن بينهم وصفي طاهر... وقد حافظ بعض العراقيين الأوفياء على ذلك السر، طيلة أربعة عقود، ليكشفوا الأمر بعد انهيار الحكم البعثي الثاني في البلاد.
    وأخيرا، وقبل نهاية هذا التوثيق الموجز، لمسيرة "رجل من العراق" حافلة بعطائها، وبإجماع حتى العديد من مناوئيه، لابد من التطرق الى بعض سمات وصفي طاهر الشخصية، وقد عمدنا ان يكون الحديث عنها في ختام هذه السطور لكي لا تؤثر في موضوعية ودقة المعلومات، والسيرة، ليطلع عليها القراء والمتابعون، وليس المتصيدون وطلاب المجد الزائف الذين ما برحوا يحاولون دس معلومات لئيمة بين آونة وأخرى حول الكثير من الأحداث... ومن بين ما نهدف للتوقف عنده توثيقاً، وليس لأمر آخر: كان وصفي طاهر ذا شخصية نافذة ومتميزة بين عائلته، وأصدقائه ومعارفه، وقد غلب الشأن الوطني والعام دائماً عنده أمام الذاتي والخاص، وقد كان برغم جديته، ومبدأيته، انساناً متواضعاً في حياته العائلية والشخصية، مثقفاً من طراز استثنائي، يحب الموسيقى العالمية، وشغوفاً بالقراءة، والشعر، وكانت لديه مكتبة عامرة يكفي القول أنها شكلت مصدراً تمولت منه عائلته بعد استشهاده لفترة من الوقت... كما تجدر الاشارة الى ان ثمة تميزاً فريداً في صداقاته وارتباطاته الاجتماعية لعل من مؤشراته، العلاقات الوطيدة التي ربطته مع الجواهري، وزكي خيري ورفعت الحاج سري وثابت حبيب العاني وشخصيات متميزة أخرى، من مختلف المشارب والاتجاهات، وفي ذلك بحد ذاته ما يوميء إلى دلالات ومؤشرات اضافية عديدة، توضح شيئاً من صورة ذلك الرجل العراقي الذي نسجل لبعض سيرته التاريخية...

--------------------------------------------------------------------

* هوامش واحالات:

- لكل الاحداث اعلاه، شواهد ووقائع عديدة، ربما تسنح فرص قادمة لتوثيق المزيد عنها.
- جميع ما تمت الاشارة اليه يستند الى معايشات ومعلومات عائلة وصفي طاهر، وبخاصة كتابات أولية لزوجة الرجل، وقد كانت تسعى لاعدادها لاحقاً على شكل مذكرات وذكريات... ولكنها توفيت في مغتربها بالعاصمة التشيكية، براغ بتاريخ 19/3/2001

قبل ان تتمكن من اتمام الأمر.

- جرى حذف العديد من الأسماء والشهادات الأخرى للاعتقاد بان من غير المناسب الحديث عنها في الفترة الراهنة، وفي مثل هذه الظروف القاسية التي يمر بها العراق.
- لوصفي طاهر: بكر اسماها نضال، وثلاث بنات أخريات هن: نسرين، ومي، وهند، وجميعهن اضطررن للاغتراب عن بلادهن مع آلاف العراقيين، لأسباب سياسية، ومنذ أواخر سبعينات القرن الماضي.

 

 

 

 

العظيم، "قفص العظام" !!!

 

رواء الجصاني

 

 

... و"قفص العظام" في العنوان أعلاه، وصف أشاعه الجواهري عن والدته، فاطمة، في قصيدته الذائعة عام (1951)  وكانت نحيفة جداً، جراء تراكمات الهضيمة والحزن والأذى والهموم والشجون، وقد زارها وهي على تلكم الحال، في بيت طفولته وعائلته بالنجف، مودعاً، وهو يقرر الاغتراب إلى مصر، ضائقاً بالاجواء السياسية السائدة في العراق آنذاك، وغاضبا من النخب الوطنية والثقافية والمجتمع عموماً... وجاء مطلعها:

تعالى المجدُ يا قَفصَ العِظامِ، وبورِكَ في رحيلِك والمُقامِ

وبورك ذلك العُشّ المُضوّي، بوحشته.. وبالغُصص الدوامي...

تعالى المجدُ لا مالٌ  فيُخزي، ولا مُلْكٌ يُحلّلُ بالحرام

ولا نشبٌ تُهانُ الروح فيه، فتَخضَعَ للطّغاة وللطّغام

ولكن مهجةٌ عَظُمَتْ فجلّت، وَجَلّ بها المرومُ عن المَرام

ويعود الجواهري في مقطع تالٍ من ميميته ذاتها ليضيف لوالدته وصفا أخر بالغ التأثير، فيناديها بـ "أم الرزايا" منوهاً بشكل خاص لفقدانها ولدها الأصغر، جعفر، شهيد وثبة كانون الثاني الجماهيرية في بغداد عام 1948:

تعالى المجدُ يا أمّ الرزايا، تَمَخّضُ عن جبابرةٍ ضخام

تملّى القبرُ منها أيّ عطرٍ، ووجهُ الأرضِ أيّ فتىً هُمام

وُهبْتِ الثورةَ الكبرى دماءً، وروحاً وارتكنتِ إلى حُطام

ونوّرتِ الدروبَ لساكنيها، وعُدْتِ من ((السواد)) إلى ظلام

وأبْتِ كما يؤوبُ النّسْرُ هيضَتْ، قوادِمُــــهُ بعـاصفـــةٍ عُرام

ولكي تتضح صورة ما يعانيه الشاعر الخالد، في حينها من هضيمة، راح يستمر في مناجاة والدته، وهو "يحج" اليها مودعاً، مرتحلاً الى رحلة غربة وشيكة، كما سبق القول، مستذكراً سنواته الأولى في حضنها الرؤوف، والبيت، والفطام، وقد مرتّ على ذلك سنوات خمسون:

 

حَجَجْتُ إليكِ والدنيا تلاقي، عليك بكل قاصمةٍ عُقامِ

وفي صدري تجولُ مسوّماتٌ، من البلوى عَصَيّنَ على اللّجام

وأُمّاتُ المطامح في ضلوعي، حواشدُ يضطربنَ من الزّحام

وطارتْ بي على الخمسينَ ذكرى، أقلّتني إلى عهدِ الفطام

وحُطّتْ بين تلك وبين هذي، حُمُولٌ من دموعٍ وابتسام

ورحتُ أُعيذُ أعداداً رطاباً، وأحطاباً إلى ((عُشّ الحمام)) (1)

... ورفّتْ في ندِيفٍ منْ مشيب، ذوائبُ لم ترِفّ على أثام

وضوّت من جبينك لي غضونٌ، بها يَغْنى الزمانُ عن الكلام

وطُفتِ بخاطري حتى تمشّى، حنانُكِ مثلَ بُرْءٍ في سَقام

ثم يختتم الجواهري ميميته الثائرة، والحنون في آن، فراح يودع بمفردات جلها ايجاز لمعاناة، واعتذارعما قد يسببه اغترابه القريب، والفراق الجديد، من آلام إضافية للأم التي طفحت عندها الآلام، مثبتاً مرة اخرى بعض مواقف ورؤى اختطها طيلة عقود في الشموخ والاباء :

فيا شمسي إذا غابت حياتي، نشدتُك ضارعاً ألاّ تُغامي

ويا ((متعوبة)) قلباً وروحاً، أخافُ عليكِ عاقبةَ الجَمام

ويا مكفوفةً عن كلّ ضرّ، نشدتُكِ أن تَكُفي عن ملامي

فليس يُطيقُ سهماً مثلَ هذا، فؤادي وهو مُرْتَكَزُ السّهام

لقد كنت الحسامَ على ظروفٍ، حُمِلْتُ بها على حدّ الحسام

وقد كنتُ الحرون على هجين، يحاول أن يُسَيّرَ من زمامي

وليس رضيعُ ثديكِ بالمجاري، وليس ربيبُ حِجْرِكِ بالمُضام

ولعل ما يناسب المقام هنا، ونحن نتابع، ونوثق، ولوعلى عجالة، ان نشير الى صورة أخرى من صور مناغاة، واشارات الجواهري ومناجاته لوالدته، وعنها، مقتبسين مما جاء في ختام قصيدته الشهيرة، بمناسبة استشهاد أخيه جعفر عام 1948 حين يصف الحال آنذاك، بعد ان تأكد الخبر الفاجع، وينوّه الى حال الام "العجوز" والأخت الوحيدة، فيخاطب فقيده الأعز:

.. إلى أنْ صَدَقْتَ لهمْ ظَنّهم، فيا لكَ من غارمٍ يَغنَمُ

فهمْ بك أولى فلمّا نَزَل، كجَذْرٍ على عَددٍ يُقسم

وهم بك أولى، وإن رُوّعَت ((عجوزٌ)) على فِلذةٍ تلطِم

وتكفُرُ أنّ السما لم تعُدْ، تُغيثُ حَريباً، ولا تَرْحَم

و"أختٌ" تشُقّ عليك الجيوب، فيُغرَزُ في صدرهــا مِعصَم

تناشِدُ عنك بريقَ النّجوم، لعلّك مِن بينها تنجُم

وتَزْعُمُ أنّك تأتي الصّباحَ، وقد كذّبَ القبرُ ما تَزْعُم

ثم تمر على الجواهري سنوات حبلى بالشجون والهموم الوطنية والثقافية وما بينهما:اغتراب، واعتقال، وقنوط، وتمرد، وثورة، وكبوة، وانطلاق، وثبات وعلو وشموخ، وكلها تصيب، وتؤثر، وتقلق، وجميعها تلهب الوالدة المبتلاة، فتزداد هموماً وشجوناً ... وهاهو الابن المتفرد، يضطرمجدداً للاغتراب الى براغ عام 1961 تاركاً أهلاً وصحاباً وديارا، حين رأى "الذل اسارا" و"رأى العيش مجاراة زنيمٍ لا يُجارى"... وهناك يسمع النبأ المفجع برحيل والدته عام 1961... ففاض يوثق شعراً، بعض آلامه، وحزنه، لذلكم الرحيل، مستذكراً في ذات الوقت شقيقه الشهيد جعفر، كما جاء في نونيته الأشهر "دجلة الخير" عام 1962 حين يقول في شبه خاتمة للقصيدة العصماء:

ويا ضجيعَي كرىً أعمى يلفّهما، لفّ الحبيبين فـي مطمورةٍ دُون

حسبي وحسبُكما من فرقةٍ وجوىً، بلاعجٍ ضَرِمٍ كالجمْرِ يَكويني

لم أعدُ أبوابَ ستينٍ، وأحسبني، هِمّاً وقفتُ على أبواب تسعين

يا صاحبيّ إذا أبصرت طيفَكما، يمشي إليّ على مَهلٍ يحييني

أطبقتُ جَفناً على جَفَنٍ لأبصُرَه، حتى كأنّ بريقَ الموتِ يُعشيني

إنّي شممتُ ثرىً عفناً يضمّكما، وفـي لُهاثي منه عِطرُ (دارين)

بـنـوةً وإخاءً حلفَ ذي ولَـعٍ، بتربةٍ في الغدِ الداني تغطّيني

لقد وَدِدتُ ـ وأسرابُ المنى خُدع - لو تَسلمان وأنّ الموتَ يطويني

قد مُتّ سبعينَ موتاً بعد يومِكما، يا ذلّ من يشتري موتاً بسبعين

لم أقوَ صبراً على شجوٍ يرمّضُني، حرّانَ فـي قفصِ الأضلاعِ مسجون

تصعدتْ آهِ من تلقاء فطرتها، وأردفت آهةٌ أخرى بآمين

ولعل ما يعبرايضاً عن بعض ذلكم الحزن والألم، ولكن نثراً هذه المرة، ما جاء في رسالة التعزية التي بعث بها الجواهري، من براغ، الى اخته، "نبيهــــة"(2)  وهي في العراق، مواسياً برحيل والدتهما فكتب اليها:

" ... انك تعلمين مدى صعوبة ان يمشي القلم على الورق في ظرف مثل هذا الظرف، وبحادث كهذا الحادث. ولولا انني أعد نفسي مسؤولا امامك، وامام الواجب بأن اقول لك شيئا، لما سهل علي مجرد الاشارة الى مثل هذه الخسارة ...

... ان كل شيء قد يهون لدي، الاّ تصوري انها حملت معها إلى قبرها جبلاً ضخماً من الآلام، ومن الذكريات، ومن العبر القاسية. لقد رأيت أن أعزيك فأسأت اليك من حيث لا اريد بما اثرت من أشجان، أو بما زدت فيها تقريباً. فاذا بكيت فأضيفي دمعى لحسابي فان عيني جمود. واذا تسليت بالصبر الجميل، فكما هو المأمول فيك..." (3).

وأخيراً دعونا نوثق اضافة اخرى، وبعضها ، شهادة عيان لكاتب هذه التأرخة، عن تلكم الامرأة الشموخ، الاستثناء، والدة الجواهري العظيم: فاطمة، ابنة الشيخ شريف، وزوجة الشيخ عبد الحسين، وكلاهما، اي الأب والزوج، عالمان وفقيهان، حفيدان مباشران للامام الشيخ محمد حسن الجواهري، صاحب المؤلف الاشهر:" جواهر الكلام في شرح شرائع الاسلام ". كما انها أخت آية الله الشيخ عبد الرسول. وكنيّت بأم (عبد العزيز) نسبة الى بكرها، الفقيه والشاعر المعروف. وقد أنجبت بعده كلاً من: (محمد مهدي) شاعر العراق والعرب الاكبر، و(عبد الهادي) الاديب "المتمرد"... ثم (نبيهة) وهي الشقيقة الوحيدة بين الأخوة الأربعة، الذين كان آخرهم، الشهيد جعفر.

أما ما يرد بشكل صريح عن المُوثق لها، في مؤلف "ذكرياتي" للجواهري، الى جانب اشارات متعددة أخرى، فهذا النص الذي كتبه الشاعر الخالد عن أمه، الأثيرة والمؤثرة، قوية الشخصية، والنافذة في العائلة والأسرة، وباجماع كل من عرفها:

"ولا تقلُّ والدتي "فاطمة بنت الشيخ شريف" عن والدي في التعبّد والايمان. ورغم انها ربة بيت، إلا انها تعلمت القراءة قليلاً من الكتابة وشيئاً من التذوق في مجال الشعر والأدب. وعنها ورثت ذلك، بل وزادت عليه، شقيقتي الوحيدة (نبيهة). ورغم تعبّد والديّ، وايمانهما النظيف، إلا انهما لم ينجيا من عقابيل العوائل النجفية العريقة كلها، وهو حب التنافس" (4)

 

مع تحيات مركز الجواهري الثقافي

www.jawahiri.com

babyloncz@yahoo.com

 

 

--------------------------------------------------------------------

هوامش واحالات:

(1) "عش الحمام": أشارة الى ما يتذكره الجواهري، في فترة طفولته، من اوكار للطيور في باحة منزل العائلة في النجف.

(2) نبيهة: تزوجت من التربوي، والمربي المعروف، السيد جواد الجصاني.

(3) نص الرسالة المنوه عنها منشورعلى الصفحة 229 من كتاب "الجواهري بلسانه، وقلمي" لمؤلفه، سليم البصون – بغداد 2013.

(4) الاقتباس مستل من مؤلف "ذكرياتي" للجواهري. الصفحة 45 الجزء الأول - / دمشق 1989.

 

 

 

 

حين يُزيــح الجواهــري،الزبد عن صدره !!

 

قراءة: رواء الجصاني

 

ينشر الجواهري عصماء جديدة عام 1976، وفيها ينتقد "عصره المليء بالزيف والخداع، وهو يسمو متعالياً بكبرياء الشاعر ... وهي ضرب من الطموح الى تجاوز النفس والآخرين، في محاولة اختراق للمستحيل..." بحسب ما جاء في تقديم القصيدة ذاتها، والتي تعبر من بيتهــــــــــا الأول عن مبادىء وثوابت نافذة في صورها وأغراضها، إذ تقول:

أزح عن صدرك الزبدا ، ودعه يبث ما وَجدا ...
ولا تكبت فمن حقب ذممتَ الصبر والجلدا
أأنت تخاف من أحد ٍ ، أأنت مصانعٌ أحدا
أتخشى الناس، أشجعهم يخافك مغضباً حردا
ولا يعلوك خيرهم ، ولست بخيرهم ابدا
ولكن كاشف نفساً ، تقيم بنفسها الأودا

ويتواصل القصيد نابضاً على مدى أكثر من مئة وأربعة عشر بيتاً، يحرض فيه الشاعر العظيم الذات، لتبارز، وتجابه، وان لم يكن المتطاولون يستحقون المنازلة أحياناً:

تركت وراءك الدنيا ، وزخرفها وما وعدا
ورحت وانت ذو سعة ، تجيع الآهل والولدا…
أزح عن صدرك الزبدا ، وهلهل مشرقا غردا
وخل "البومَ" ناعبة ، تقيء الحقد والحسدا
مخنثة فان ولدت ، على "سقط" فلن تلدا…

ثم يناجي الجواهري "خلاً" سعى ان يتساءل او يحاجج مدافعاً، أو مبرراً، فأوضح له الشاعر ما يستحق من توضيح، لكي يمهد الدرب، خائضاً المواجهة المنتظرة:

ألا انبيك عن نكد ٍ ، تُهوّن عنده النكدا
بمجتمع تثير به ، ذئاب الغابة الأسدا…
خفافيش تبص دجىً ، وتشكو السحرة الرمدا
ويعمي الضوء مقلتها ، فتضرب حوله رصدا…

… وبعد ذلك التعميم في الأبيات السابقة، ينتقل القصيد، معتمراً الصراحة والوضوح، ليشي، وان بدون تسمية، الى "واحد" أو أكثر من الأدباء والمثقفين الحاسدين، والمنافقين من ذوي الوجوه المتعددة، الذين جهدوا حينذاك لاستغلال الظروف، وتحت رايات "التحديث" الحقيقية أو المدعاة، لإيذاء الرمز الوطني المتألق ابداعاً ومواقف، فراح يمسك بتلابيبهم، ولا فكاك لهم من "قبضة" الشعر غضباً:

وصلف ٍ مبرق ختلاً ، فان يرَ نُهزةَ رعدا
يزورك جنح داجية ، يُزير الشوق والكمدا
فان آذتك جانحة ، اعان عليك واطردا ..
وآخر يشتم الجمهور  ، لفَّ عليك واحتشدا..

يعدُّ الشعر أعذبه، اذا لم يجتذب احدا

 

وقبيل ختامها، وحين تثور القصيدة، يحاور الجواهري نفسه، ويوجهها، مستذكراً بكل عنفوان، ومستنداً الى حقائق ووقائع ورؤى لا يجادل فيها سوى المعوزين جاهاً وارثاً:

أبا الوثبات ما تركتْ ، بجرد الخيل مطردا
يضج الرافدان ، بها، ويحكي "النيلُ" عن "بردى"
ويهتف مشرق الدنيا، بمغربها اذا قصدا:
ترفع فوق هامهم، وطرْ عن ارضهم صعدا
ودع فرسان "مطحنة" خواء تفرغ الصددا...

واخيرا ، يعاتب الشاعر، اصدقاء ومحبين، وغيرهم، ممن يعتقد انهم معنيون باتخاذ الموقف المناسب، المنسجم، ولكنهم سكتوا ولم يتنادوا إليه، خشية هنا، وخوفاً هناك، فيخاطبهم مشفقاً على حالتهم، ومعيباً عليهم المهادنة والمساومة... وربما محاولاً أن يجد لهم مبرراً يُسامحون عليه:

وغافين ابتنوا طنباً، ثووا في ظله عمدا
رضوا بالعلم مرتفقاً ، وبالاداب متسدا…
يرون الحق مهتضَماً، وقول الحق مضطهدا
وام "الضاد" قد هتكتْ، وربُّ "الضاد" مضطهدا
ولا يعنون - ما سلموا - بأية طعنة نفدا
بهم عوزٌ إلى مددٍ ، وانت تريدهم مددا…

*  مع تحيات مركز"الجواهــــري" في براغ *

www.jawahiri.com

jawahiricent@yahoo.com

 

 

 

 

بمناسبة الذكرى 65 لمؤتمر السباع الخالد

من نضالات الطلبة العراقيين الديمقراطيين

خارج الوطن (1978-2003)

 

شهادات وتوثيق:

رواء الجصاني*

 

 تصادف في هذه الايام، وفي الرابع عشر من نيسان 2013 تحديدا، الذكرى الخامسة والستون لتاسيس اول اتحاد عام في العراق، الذي اعلن عن قيامه في مؤتمر ساحة السباع ببغداد. وها نحن نغتنم حلول الذكرى لنحاول توثيق بعض يسير من خضم نضالي غزير، لجموع الطلبة العراقيين خارج الوطن، وتحت راية جمعياتهم، وروابطهم العتيدة، فروع ذلكم الاتحاد العريق، صاحب الامجاد والمفاخر والبطولات، وهي شهادات ميدانية، نسجلها، بل ونتباهى بها( ولم لا؟) عن الفترة الممتدة من 1978- 2003 ... وعسى أن يهمّ الاخرون من "الشباب" المتقاعد مثلنا، وما اكثرهم، فيكتبوا عن تجاربهم ومحطاتهم في ذلك الربع قرن، وما قبله وما بعده...

-----------------------------------------------

    بعد ان خبت كل الامال في امكانية "اصلاح" النظام الذي اباح ما أباح من وعود وعهود وقيم ودماء، اعلن المزيد من قوى الشعب العراقي الوطنية عام 1978 معارضته العلنية والمباشرة لانهاء السلطة الدكتاتورية  في البلاد، التي  شددت من اجراءاتها القمعية، ونزعت كل لبوساتها وبراقعها التي تزيت، او حاولت التستر بها. ...وفي ضوء تلكم الاوضاع  والتطورات المتسارعة ، تنادى نشطاء وسياسيون لاعادة النشاط لجمعيات وروابط الطلبة العراقيين خارج الوطن بعد "تجميد" عملها لفترة  دامت حوالى اربعة اعوام. وهكذا راحت الاشهر االاخيرة من عام 1978 والاولى من عام 1979  تشهد حركة دؤوبة على تلك الطريق، وفي العديد من العواصم، والاوربية منها  بشكل رئيس ...

   وما هي سوى بضعة اسابيع وحسب، حتى انعقدت مؤتمرات استثنائية لتلكم الجمعيات والروابط  واتخذت قراراتها بالغاء " التجميد" استجابة لنداء اتحادها المركزي، اتحاد الطلبة العام في الجمهورية العراقية، وأكدت شعارها الرئيس : من اجل التفوق العلمي والعودة للوطن، وشعارات اخرى راهنة، للتضامن مع طلبة وشبيبة وشعب العراق في النضال ضد الكتاتورية والارهاب، واقامة النظام الديمقراطي ..

  ... وهكذا انطلقت جمعيات وروبط  وتشكيلات الطلبة العراقيين في : المملكة المتحدة والاتحاد السوفياتي والمانيا الاتحادية وبرلين الغربية  وبلغاريا وفرنسا  والدانمارك والمجر والسويد  وبولندا وايطاليا ورومانيا وبلجيكا  والمانيا الديمقراطية  واليونان  ويوغسلافيا والنمسا  وسوريا ولبنان واليمن الديمقراطية  والولايات المتحدة الاميركية واليونان والهند وتشيكوسلوفاكيا  ... انطلقت لتبدع وتتألق  في مختلف مهمات العمل المهني – الديمقراطي – الاجتماعي، بأشكال واساليب ومستويات متنوعة ، ولتبرز في المقدمة بصورة رئيسة مهام التضامن مع طلبة وشبيبة وجماهير بلادهم ... ولأننا نؤرخ هنا لهذا الجانب من النشاطات تحديدا ، نقول ان  العواصم والمدن الاوربية والعالمية قد شهدت المئات من الفعاليات والمهرجانات والتظاهرات التي ساهمت بكشف المزيد من الحقائق عما كان يجري تحت سلطة الحرب والارهاب في العراق، في ربع القرن الذي نوثق له وعنه: 1978-2003... ذلك فضلاً عن النشرات والبيانات والاصدارات، وبلغات واشكال مختلفة .

   لقد حرصت تلكم الجمعيات والروابط  الطلابية العراقية خارج الوطن ، وعبر اعضائها ومؤازريها واصدقائها ،النجب على ابسط وصف ، حرصت على ان لا تفوت فرصة تتاح الا وليعلوا لها صوت وموقف ونشاط يتناسب وقدراتها، في فضح جرائم النظام الدكتاتوري وسياساته التى اكتوت بها جماهير الشعب العراقي على مدى عقدين ونصف، دعوا عنكمو ما عانت منه  بلدان الجوار، وحتى غير الجوار من جور ذلك النظام...  وقد كان كل ذلك النشاط الاعلامي والجماهيري يترافق ويتزامن مع نضالات أشد، وابهى، ونعني بها التحاق العشرات من اعضاء تلكم الجمعيات والروابط ، طالبات وطلاباً، في تشكيلات الحركة الوطنية، السياسية والجماهيرية والمسلحة، داخل العراق ... وما برح سجل شهداء الحركة الوطنية االخالدين يحفل باسماء اولئك  المناضلين الذين أنهوا، او تركوا مقاعد الدراسة، ليعودوا الى الوطن ، مشاركين ابناء شعبهم  في خوض المعارك الباسلة .

    وبالاضافة الى كل هذا وذاك ، كان منتسبو الجمعيات والروابط الطلابية خارج الوطن فاعلين في اعلاء صوت التضامن مع اتحادهم المناضل – اتحاد الطلبة العام ، وفصائل الحركة الوطنية العراقية عموما، داخل الوطن ، وذلك في العشرات من المنابر والمنتديات والنشاطات المحلية والاقليمية والعالمية، وسواء التي انعقدت في البلدان التي  يدرسون او يقيمون فيها، او خارجها، وفقاً لما يكلفون به ... ونذكر من بينها، ونحن هنا معنيون وشهود عيان : المؤتمرات السنوية للجمعيات والروابط الطلابية ذاتها ، والمهرجانات المرافقة، واللجان التضامنية، ونشاطات وندوات  ومؤتمرات اتحاد الطلاب العالمي في المدن والعواصم الاوربية وغيرها ... وكذلكم هي الحال في فعاليات المهرجانات العالمية للطلبة والشباب، والتي انعقدت خلال الفترة التي نكتب عنها: 1978-2003  ومنها في هافانا وموسكو وبيونغ يانغ ..
   وفي هذا السياق لا يجوز ان نغفل هنا - وان سريعاً - الدورالبارز للجنة التنسيق بين الروابط والجمعيات الطلابية خارج الوطن، ومقرها في براغ، في مجالات المتابعة والتوجيه للنشاطات والفعاليات التضامنية، وغيرها، مع طلبة وشبيبة وشعب العراق في نضالهم الدؤوب من اجل انهاء الدكتاتورية وقيام النظام الديمقراطي.  ومما نشير بهذا المجال:  الاصدارت الدورية التي كانت تنشرها "اللجنة" بلغات مختلفة واهمها " طلاب العراق" بالغتين العربية والانجليزية، وكذلك الاسبانية احياناً ... ذلكم الى جانب العشرات من البيانات والنشرات التنظيمية والجماهيرية وسواها....

    وعلى صعيد ذي صلة نوثق ايضا  للدور المهم الذي نهضت به اللجنة – لجنة التنسيق بين الجمعيات والروابط الطلابية خارج الوطن – في تمثيل قيادة الاتحاد الام، اتحاد الطلبة  العام في الجمهورية العراقية، على الصعيد الخارجي ، ولدى السكرتارية الدائمة لاتحاد الطلاب العالمي في براغ، ومن الطبيعي ان كل نشاطات "اللجنة " التي نتحدث عنها ما كان له ان يكون بذلك المستوى المشهود له – على اقل وصف – لولا مساهمات الجمعيات والروابط الطلابية العراقية خارج الوطن : المادية والاعلامية ، فضلا عن المشاركات المباشرة الاخرى ...
      وبهدف التأرخة ايضا نثبت في متابعتنا هذه، والتي كم نتمنى – كما اسلفنا- ان يزيد اليها المعنيون، ان العشرات من اعضاء ونشطاء  تلكم الجمعيات والروابط الطلابية العراقية التي نوثق لها وعنها، يواصلون اليوم في بلادهم ذات النهج ، من اجل عراق ديمقراطي الجديد، ومن بينهم عشرات المناضلين السياسيين والنشطاء الوطنيين، الذين تسنموا، وما فتئوا، مهاماً جليلة ومسؤولة في احزابهم ومنظماتهم المدنية ... وكم أظنهم مستمرين بالتباهى - ولم لا  مرة اخرى؟- بتاريخهم وتراثهم وانتمائهم للعمل الطلابى الوطني – المهني ..

       أخيرا، وأذ يتزامن نشر هذه المساهمة مع الذكرى الخامسة والستين لمؤتمر "السباع" الخالد، الذي انبثق عنه اتحاد الطلبة العام الاول في البلاد العراقية ، كم نتمنى – مرة اخرى واخرى – ان يبادر ذوو الشأن، وأكرر: النشطاء الطلابيون "المتقاعدون" مثلنا، فيكتبون ذكريات وتجارب تمد شباب الغد بالمزيد من الخبرات وهم على طريق النضال الديمقراطي والوطني.. فهم، ونحن من بينهم ، على درب واحد ،على ما  نزعم... مرددين سوية ما قاله الجواهري العظيم في بغداد بمناسبة المؤتمر الثاني للاتحاد عام 1959 :

    ياشبابَ الغد انا فتيةٌ، مثلكم فرّقنا في العمر ســنُ...
…والغدُ الحلو بنوه انتمُ ، فأذا كــان لكم صلـبٌ، فنحنُ
فخرنا انا كشفنـاهُ لكم، وأكتشافُ الغـد للأجيال ، فـنُ
 ----------------------------------------------------
 *  رواء الجصاني، السكرتير العام للجنة التنسيــق بين روابط وجمعيـات
 الطلبة العراقيين خارج الوطن، وممثل اتحاد الطلبة العراقي العام، لدى سكرتارية اتحاد الطلاب العالمي، للفترة : 1979- 1986 . 

 

 

 

 

 

في ذكرى رحيله السنوية الاولى

 

محمود صبري ..

 

نصف قرن من الابداع في براغ

 

توثيـــق ... وشهـــادات

 

رواء الجصانــي

 

أمضى المفكر والفنان الرائد محمود صبري، حوالي نصف قرن في العاصمة التشيكية - براغ، منغمراً في البحث والتنظير والابداع، كما وفي النشاط العراقي العام، والسياسي المباشر منه، وكل ذلك يتطلب – كما نزعم – توثيقاً ملموساً، لذلك التاريخ الشخصي الثري من جهة، والوطني الحافل، من جهة ثانية. وهكذا فان هذه الكتابة ومحاولة التأرخة، قد تروح، وحسب، حافزاً، ومحفزاً، لجمع من المعنيين والمتابعين والاصدقاء، لاضفاء المزيد والمزيد من التفاصيل ذات الصلة بالراحل الجليل... وإذ ندلو بدلو في ذلكم الكم الجزيل والوفير، نثبّت ان ما سيرد عن الفترة 1963 الى 1979 قد اعتمد على وثائق وأوراق جمة... ثم، ومن الفترة 1979 وحتى تاريخ الرحيل المؤسي، للفقيد، في الثالث عشر من نيسان 2012 فجاء اعتماداً على معايشة مباشرة، ومشاهدات ملموسة...

في الشـــأن الوطنــي

فور وصوله إلى براغ، أوائل العام 1963 يشارك محمود صبري، وبجزالة، في مهام اللجنة العليا للدفاع عن الشعب العراقي التي تشكلت بعيّد انقلاب الثامن من شباط، البعثي، الفاشي، في العراق. وقد ترأسها كما هو معروف، الجواهري الكبير، وضمت جمعاً من الشخصيات السياسية والثقافية البارزة ومنها: نزيهة الدليمي، فيصل السامر، ذو النون أيوب، صلاح خالص، وكذلك جلال طالباني لفترة محدودة، ممثلاً عن الحركة التحررية الكوردستانية... وقد تولى الفقيد الجليل في تلكم اللجنة، رئاسة تحرير مجلتها "الغد" التي صدر منها ثلاثة أعداد، كان من ضمن موادها، الدراسة المقارنة، المهمة، التي كتبها حول الفاشية والعفلقية(1) .

وفي شؤون ذات صلة، وابداعياً هذه المرة، يؤرخ محمود صبري في براغ لبعض من نضال شعبه العراقي، وحركته الوطنية، عبر اثنتي عشرة لوحة بالزيت، صدرت بألبوم موحد عام 1964 ومن بينها عن الشهيد حسين الرضي (سلام عادل) سكرتير الحزب الشيوعي العراقي الذي أعدمه الفاشيون عام 1963 . وقد كان ومحمود صبري في علاقة شخصية، وسياسية وطيدة، منذ أواسط الخمسينات، وفي إطار التمهيد لحركة الرابع عشر من تموز 1958... (2)

ثم يستمر المفكر والفنان المبدع في اهتماماته، بالشأن الوطني، على مدى العقود اللاحقة، ونشير هنا من بين ما نشير اليه:  بحوثه ودراساته، وكتاباته، وحواراته السياسية، المنشورة أو المسجلة، ولقاءات الشخصيات الوطنية معه، ولقاءاته معها، خاصة وان العاصمة التشيكية براغ كانت مركزاً أممياً، للشؤون النظرية على الاقل، للحركة الشيوعية العالمية، من خلال مجلة قضايا السلم والاشتراكية، الى جانب مقرات ومراكز : الفيدرالية الدولية للنقابات، ومنظمة الصحفيين العالمية، واتحاد الطلاب العالمي. وقد كان في جميع تلكم المنابر، من يمثل قيادة الحزب الشيوعي العراقي فيها، اولى العديد منهم اهتماماً  بأفكار محمود صبري، وآرائه التجديدية والتنويرية. بينما اعتبرها عديد آخر، من أقطاب السياسة، الماركسيين آنذاك، خارجة عن المألوف السائد، والمقبول، على أبسط وصف...

كما  ونوثق لمحمود صبري أيضاً في هذه التأرخة الموجزة، الكثير من النشاطات المباشرة، ومنها في الندوات والمؤتمرات والفعاليات السياسية والفكرية، في براغ ولندن وغيرهما، ومن أبرزها مشاركته في مؤتمر المعارضة العراقية في بيروت عام 1991 لمناهضة نظام  صدام حسين الدكتاتوري. وايضاً دراسته التي لم تنشر كاملة عن التجديد في الفكر الماركسي (3). . وكذلك ما شمله الحوار الموسع معه بعنوان "واقعية الكم بين الفلسفة وعلم الجمال" والذي نُشر في بيروت عام 1981(4) ... ذلك فضلاً عن تفاصيل أخرى نشير لها، وهي تحمل مؤشرات عميقة في مدلولاتها، ومنها: الجدال بين علماء اجتماع وسياسيين من ممثلي قيادات أحزاب شيوعية حاكمة، مع محمود صبري، حول نظريته "واقعية الكم" وعلم الجمال الماركسي، وذلك في مقر مجلة قضايا السلم والاشتراكية، ببراغ، أواسط الثمانينات الماضية . وكذلك مناظرة الراحل الجليل حول التجديد والتنوير والجدال الماركسي والبريسترويكا، مع  الشخصية الوطنية – الشيوعية، زكي خيري، في ندوة لفرع رابطة الكتاب والصفحيين العراقية، نظمت في  براغ عام 1988(5). كما نشير في السياق نفسه، الى المقترح الابداعي الذي قدمه محمود صبري لقيادة الحزب الشيوعي العراقي  في اواخر الثمانينات ، بتجديد شعار الحزب، وذلك بأن يكون للقلم، رمزاً للمثقفين، مكان وسط ، بين مطرقة العمال، ومنجل الفلاحين، ولم يحظَ المقترح، كما يبدو بالقبول، وإلى اليوم (6). كما كان الفقيد، الى جانب كل هذا وذاك  حريصاً، جهد ما سمح به الوقت والانشغالات، على حضور الكثير من الفعاليات المحلية في براغ، وخاصة الجماهيرية والديمقراطية العامة، كالندوات والمحافل التضامنية والمناسبات الوطنية والاستذكارية (7).

ومما هو حري بالتأرخة أيضاً – باعتقادنا – التنويه ولو الموجز، إلى اهتمامات الراحل الجليل، بعهد ما بعد سقوط نظام صدام حسين عام 2003... وتطلعاته الى عراق جديد، وقد واكب المفكر والمبدع الجليل مختلف التطورات، مقيّماً بالايجاب، التحولات المدنية والديمقراطية، ونابذاً لما شهدته البلاد من مآس ودمار. مع التأكيد هنا بأن تلكم الشخصية الوطنية الرائدة، لم تلقَ الاهتمام الحكومي الرسمي بها لا من قريب أو بعيد، كما نشهد على ذلك، وبثقة .... باستثناءات محلية محدودة في براغ، الاولى قبل رحيله، والثانية بعده(8) .

في الشأن النظري، والابداعي

... وكما هي اهتمامات، ومثابرة محمود صبري، الوطنية والسياسية المباشرة، يبرز مثيلها في الشأنين النظري – الفكري، والابداعي، ولا شك فثمة مشتركات وتداخلات بين المضمارين.  وهكذا ايضا كان للفقيد الجليل محطاته المتميزة، بل والرائدة في براغ، وأهمها: اطلاق "اعلانه" عام 1971 ذي الشأن بنظريته "واقعية الكم" . وقد اقام في براغ ايضا عام 1972 معرضاً حول تلكم النظرية التي ترتكز على ارتباط الفن بالعلم والمستقبل، والتي أثارت، وما برحت الى اليوم، جدالات واهتمامات عديدة ومتشعبة لدى المختصين والمتابعين، العلماء والسياسيين وغيرهم.

وتتوالى المحطات والنشاطات ذات الصلة، بأشكال متعددة، ويتداخل فيها الابداعي مع السياسي، وبحدود متشابكة، كما اسلفنا... فهناك لوحتان من أعمال الراحل- الخالد، في خزائن الكاليري الوطني التشيكي... وهنا علاقات وطيدة مع المبدعين التشيك، وغيرهم من المثقفين والفنانين العراقيين والعرب، الحريصين، والذين لا تكتمل زياراتهم الى براغ إلا باللقاء مع "الأستاذ" صبري... ذلك ان لم تكن تلكم الزيارات مقصودة له فقط، تأرخة وزيادة معرفة، وتعلماً. ونشهد شخصياً هنا، بهذا السياق، الى حواراته مع فيصل لعيبي، وعباس الكاظم واسماعيل زاير، المنشورة والمسجلة وكذلك مع بهجت صبري وقتيبة الجنابي، اللذين انتجا فيلمين تسجيليين في براغ عن الراحل، الخالد، وذلك عامي 2007 و2008 حمل الأول عنوان "محمود صبري بين عالمين" والثاني "انعكاس ضوء". كما ولا يفوتنا ايضاً التوقف برهة لنشير الى الندوة المهمة التي نظمها فرع رابطة الكتاب والصحفيين والفنانين العراقين في قاعة المحاضرات بمتحف"لينين" ببراغ عام 1988 وقد عرض  خلالها الرائد الكبير بعض خلاصات عن نظريته في واقعية الكم، وشؤون فكرية وسياسية عامة(9) .

كما ونوثق هنا أيضاً الى الاهتمامات الاضافية الأخرى التي لم يكن ليقصر فيها الرائد الكبير، في براغ، برغم مشغولياته وانشغالاته العلمية والفلسفية والابداعية ومن بينها، للمثال وليس للحصر: اتمام تصاميم وتشكيلات فنية لرابطة الكتاب والصحفيين، ورابطة المرأة العراقية، والمنتدى العراقي في الجمهورية التشيكية، وعديد آخر.

وفي ذات الشأن الذي نوثق له، ولربما وبشكل متميز هذه المرة، ننوه هنا الى العناية المتميزة التي أولاها محمود صبري لمشروع "بابيلون" الثقافي الاعلامي، الذي انطلق في براغ اواخر العام 1990 ... وقد تبناه فكرة ومشروعاً،  توجيهاً ورعاية، وتصاميم ومتابعة أسبوعية، بل ويومية بعض الأحيان... وقد عزم على تطوير ذلك المشروع، بكل حميمية، وبهدف ان يطلقه من واقعه المحلي، الى منبر فكري عام، ومن بين ذلك مشروع اصدار مجلة ثقافية فكرية(10). وتكررت الحال ذاتها، وبحرص حميم، عشية التهيئة لاطلاق مركز "الجواهري" للثقافة والتوثيق عام 2002 والذي كان محمود صبري يتابع أمره، وحتى جزئيات اطلاقه، ومن بين ذلك محاولته لتوفير الدعم المادي له، وثمة لهذا الموضوع  تفاصيل عديدة، ليس من حيز مناسب للتوقف عندها، في التأرخة على الأقل.

   خاتمة – مقدمة، لتوثيق آخر...

... وإذا ما كان هذا التوثيق الموجز قد تحدد بشأنين بارزين، متداخلين، لا فكاك بينهما، ونعني بهما الوطني – السياسي، والابداعي – الفكري، فثمة ثالث متميز، ونعني به الشأن الاجتماعي، الانساني، لمحمود صبري، وعلاقاته العامة وحياته اليومية، وزهده وشموخه... ونزعم ثالثة – وأخيرة  هذه المرة– انها جديرة بالتوثيق، إذ تعبر عن الكثير من صفات المثقف العبقري، المتواضع الكبير، وذلك ما نعد بالسعي لاتمامه، محاولة لبعض وفاء لمعلم، وصديق نتباهى بالتفرد معه، بعلاقة شخصية وخاصة، وعلى مدى ثلاثة عقود على الأقل.

هوامــــــش واحـــــالات

1- اعاد اعلام الحزب الشيوعي العراقي، في شباط الماضي نشر تلكم الدراسة بحلقاتها الثلاث .

2- تفاصيل وافية حول ذلك في ذكريات السياسي العراقي البارز محمد حديد ... ونشير هنا ايضا الى اللقاء بين سلام عادل، ووصفي طاهر، ممثل حركة الضباط الأحرار، في بيت محمود صبري، في بغداد، عشية حركة الرابع عشر من تموز 1958 التي أسست للجمهورية الاولى في العراق.

3- نشرت مجلة "الطريق" اللبنانية أواخر التسعينات فصلاً منها، باهتمام مباشر من المفكر كريم مروه، بعد لقائه مع محمود صبري- بحضورنا-  في بــراغ .

4- اتمم الحوار: مجيد الراضي وفالح عبد الجبار ويحيى بابان (جيان).

5- نشرتها مطبوعة "مرافئ"  الدورية، في اصدار خاص، وكان يشرف عليها، صادق الصائغ، في براغ، كمنبر أوربي للرابطة .

6- نشرت المقترح (القلم بين المطرقة والمنجل) الصحيفة المركزية للحزب الشيوعي العراقي أوائل التسعينات.

7- نشير هنا على سبيل المثال لا الحصر، الى بعض حضور، ومشاركات محمود صبري في براغ، ومنها: حفل افتتاح مؤتمر الطلبة العراقيين في الخارج الذي انعقد عام 1983. وكلمته المهمة في اربعينية غائب طعمة فرمان، عام 1990 ... ومشاركته في اجتماع تمهيدي، عام 1998  لتشكيل هيئة للتضامن مع نضال الشعب العراقي ضد الدكتاتورية والارهاب. وكذلك  حضوره لحفل الاحتفاء المهيب بمئوية الجواهري، عام 2000.

8- تم في براغ، عام 2008 وبرعاية سفير العراق، ضياء الدباس، احتفاء انيق بمناسبة العيد الثمانيني لمحمود صبري. كما ورعى سفير العراق، حسين معله الحفل التأبيني للراحل الجليل في حزيران2012.

9-  حضر الندوة نحو مئة شخص، وتحدث خلالها، اضافة لمحمود صبرى، كاتب هذه التأرخة، ومفيد الجزائري، وكذلك، الشخصية الوطنية العراقية البارزة، عامر عبد الله.  

10- حملت، وتحمل، اغلفة مطبوعات "بابيلون" منذ اثنين وعشرين عاما والى اليوم، تصاميم رئيسة، اتممها محمود صبري، خصيصا، لتلكم الاصدارات.

 

 

 
الرئيسية || من نحن || الاذاعة الكندية || الصحافة الكندية || اتصل بنا