أحمد الحبوبي الكبرياء والضمير في تجلياتهما عبد الحسين شعبان
“كان الضباب كثيفًا يحجب قرص الشمس صبحية ذلك اليوم، فيشيع في النفس الضيق والانقباض، فقد كان واطئًا، مخيّمًا على أسطح المنازل، مطبقًا على الشوارع، تتعذّر معه الرؤية، ويلفح الوجوه بنداه القارص”. هذا ما بدأ به أحمد الحبوبي سرديته الأثيرة في كتابه “ليلة الهرير”.
ليلة الهرير وليلة لشبونة
حين أخبرني الحبوبي (أبا غسان) في النصف الثاني من التسعينيات أنه أنجز نصًّا، ما يزال مترددًا في نشره، وهو ما حصل له وما شهده وشاهده وسمعه في تلك الليلة الكابوسية (20 – 21 كانون الثاني/ يناير 1970)، وكنت قد استمعت إلى بعض تفاصيلها حتى هتفت من أعماقي إنه كتاب يستحقّ النشر، بل أكثر من ذلك، سيكون أقرب إلى بانوراما لتراجدية المشهد العراقي.
سردية “ليلة الهرير” هي صنو رواية “ليلة لشبونة” للروائي الألماني إريش ماريا ريمارك، وتفصح ليلة لشبونة حقيقة ما كان يجري أيام حكم الزعيم النازي أدولف هتلر، حيث يصف فيها ريمارك، من خلال ليلة واحدة، وبحبكة درامية مثيرة، حالة الخوف والرعب والهلع الدائم التي كان يعيشها الناس، واضطرار العديد من المثقفين لمغادرة البلاد نحو المنفى، الذي هو لا يقلّ رعبًا، خصوصًا ملاحقة رجال الأمن الألمان، الذين كانوا يحصون أنفاس المعارضين والمنفيين.
قصر النهاية
أما ليلة الهرير، فهي ليلة واحدة قضاها في قصر النهاية، وهو القصر الملكي المعروف باسم “قصر الرحاب”، والذي تمّ الانتهاء من بنائه في العام 1937، وأقام فيه الأمير عبد الإله الوصي على العرش، وسُمي بقصر النهاية لأنه شهد نهاية العائلة المالكة في يوم 14 تموز / يوليو 1958، إذْ قُتل فيه الملك فيصل الثاني وخاله الأمير عبد الإله وجدتّه الملكة نفيسة (والدة عبد الإله)، وعدد من أفراد العائلة المالكة. وتحوّل بعد انقلاب 8 شباط / فبراير 1963 إلى معتقل للتعذيب، ثم استُخدم لفترة قصيرة مقرًا لمديرية السياحة العامة، ولكن أُعيد افتتاحه بعد انقلاب 17 – 30 تموز / يوليو 1968، وأغلق في العام 1973، إثر ما عُرف بمؤامرة ناظم گزار (مدير الأمن العام) في 30 حزيران/ يونيو من نفس العام.
وكانت تلك الليلة المشؤومة كفيلة بأن تنطبع في ذاكرة أحمد الحبوبي لدرجة أصبح مسكونًا بها بقدر ما سكنت هي في ذاكرته، لما شهده من إذلال ومحق للكرامة الإنسانية، واستخفاف بحياة البشر دون اعتبار لأي قيم أو قوانين أو شرائع دينية أو أعراف اجتماعية، حيث كان الموت يخيّم فوق رؤوس الجميع، ففي 24 ساعة نُحر فيها 57 ذبيحة، كما يقول الحبوبي، ويضيف: لم أشكّ أن كلّ من جيء به إلى قصر النهاية كان أمر إعدامه معدًّا سلفًا، وإن لم يُعدم بعضهم فإن ظروفًا جدّت واعتبارات حالت دون تنفيذ الإعدام، وأنا واحد ممن خدمته الظروف والاعتبارات. وهكذا وجدتني أحيا من جديد حياة أحلى ما فيها مر، فما زالت وقائع وأحداث وشخوص قصر النهاية عالقةً بذهني حتى الآن.
ليس هذا فحسب، بل أن كوابيس تلك الليلة ظلّت تراوده بين الفينة والأخرى، خصوصًا وأن عقله لم يستوعب، وهو المحامي، أن يتم إعدام الضحايا دون محاكمة، لاسيّما وأن عملية الإعدام كانت تتم بدم بارد لأشخاص بعضهم لا يعرف حتى تهمته، بل مجرّد ما أشيع عن مؤامرة، وكان الهدف من عملية الإعدام الجماعية، وبالطريقة الهمجية التي تمّت، هو محاولة لفرض ثقافة الإذعان والخضوع، وكبت أي رأي معارض لكي يكون درسًا لا يُنسى.
كان الحبوبي وهو يعيش لحظات تلك الليلة بتفاصيلها، بانتظار ما يخبّئه له القدر، فبين ساعة وأخرى يتلو الحرّاس أسماء وجبة جديدة من المعتقلين ليسوقونهم إلى ساحة قصر النهاية، وبعد دقائق كان يسمع رشقات إطلاق النار، لتأتي وجبة أخرى تنتظر دورها، ويبقى هو معلقًا، كأنه سؤال بغير جواب، فمتى سيأتي دوره؟ وقد أعدت قراءة هذا المقطع أكثر من مرّة، مستذكرًا قصيدة الشاعر اليوناني قسطنطين كفافي “البرابرة قادمون”، وهكذا عاش تلك الليلة في دوامة الانتظار المرعب، وكأن لسان حاله يقول: لماذا يريدون الإمعان في تعذيبي أكثر طالما أنني سأُعدم؟ وبعد حين يستمع إلى الإذاعة العراقية وهي تذيع أسماء المتآمرين الذين يذهبون إلى مزبلة التاريخ، كما يصرخ أحد الحرّاس بعد كلّ وجبة إعدام.
ناداه أحد الضباط الشباب المسؤولين، واعتقد أن دوره قد حان، فاستغفر الله وردّد كلّ نفس ذائقة الموت، وإذا به يطلب منه أن يتبعه، ولكن المفاجأة، كانت هي الأخرى من العيار الثقيل، حين طلب من حارس أدنى منه رتبة أن يوصله بسيارة إلى الشارع قائلًا: “تفضّل أستاذ”، وسار أمامه ثم سلّمه بعض حاجياته وأوراقه بما فيه هويّته. يقول الحبوبي: بعد هنيئة أصبحت طليقًا حرًّا أمشي على رجليّ بفضل العناية الإلهية التي لطفت بي وانتزعتني من براثن الموت قبل أن يبتلعني. ربما كان ذلك حلمًا، حتى وإن كان في اليقظة، فالأحلام هي الحقيقة الوحيدة حسب المخرج الإيطالي المبدع فيلليني،
هكذا وجد نفسه في الشارع ينتظر سيارة تاكسي، وإذا بسيارة المحامي موسى صبّار أحد أصدقائه المتوجّه إلى النجف تقف بجانبه ويسأله ” ماذا تفعل هنا؟”، خصوصًا وقد كان غير حليق وشعره منفوش، فأجابه “أنتظر سيارة أجرة” وكان في وضع غير طبيعي، وظلّت الأسئلة تتوالد في رأسه، ما الذي حصل؟ وكيف حصل؟ ولماذا حصل؟ أي لماذا تمّ اعتقاله وتعريضه إلى مثل هذا الرعب؟
لقد صوّر الحبوبي تلك المشاهد الوحشية بعدسة فنان ماهر، استخدم ريشته بطريقة حاذقة، وغمّس قلمه بحبر الأديب، هكذا كانت الصورة القلمية مصحوبةً برؤية بصرية عكسها بمرارة وألم شديدين، مقبّحًا كلّ ما له علاقة بازدراء قيمة الإنسان وكرامته، ففي مدّة اﻟ 24 ساعة التي عاشها في قصر النهاية ظلّ شبح الموت، “الذئب اللئيم” على حد تعبير الجواهري الكبير، يحوم حوله، بل إنه كان يحصد ما يقابله في طريقه بين الأروقة والغرف الرطبة مستذكرًا وجوه وحركات وأصوات الضحايا والجلادين.
النقد الذاتي
استحضر الحبوبي في تلك الليلة، وهو في لحظة وداع الحياة، كلّ صفاته وطفولته، فكتب باستعادة تلك اللحظة:
“كان حديثي مع نفسي قاسيًا، وهو عبارة عن حساب عن الماضي الذي راح بحسناته وسيئاته، أحصي هذه وتلك، وندمت على كثرة سيئاتي، وتمنّيت لو أنها كانت أقل، وحزنت على مواقف أسأتُ فيها لأصدقاء بدافع الوطنية والنضال… وكانت أسعد اللحظات تلك التي عدت فيها إلى طفولتي البريئة والدنيا من حولي ضاحكة مبهجة”.
لم يدوّن الحبوبي نقده الذاتي ومراجعاته تلك وهو في حالة استرخاء وطمأنينة، وإنما جاءته وهو في حالة ترقّب وانتظار وقلق ورعب، فقد ظلّت يده على قلبه ينتظر ساعة الفرج، إذْ أن كلّ لحظة كانت تعني دهرًا بحساب الزمن، فقد كان الجميع مجرّد أرقام وقوائم. وبالنسبة له كان الموت هو الأقرب عنده، حتى أنه كان يشعر بالضيق ويتساءل: لماذا تأخروا؟ كان يريد الخلاص، حتى دخلت عليه مجموعة من الشباب، يتقدّمهم شاب بادره بالسؤال: “أنت فلان التي جاءت بك سيارة النجدة؟”، فأجابه: نعم كما يقول، فالتفت إلي من كام معه قائلًا لهم: حان موعد الموت.
استعار الحبوبي عنوان سرديته من التاريخ، فهي الليلة التي كان فيها البرد قارصًا إلى الحدّ الذي كان فيها الجنود يسمعون هريرًا كهرير الكلب، أي أنينه بسبب اشتداد البرد، خصوصًا بتداخل الأصوات في القتال، وكانت ليلة الهرير خاتمة لحرب صفين (38 ﻫ)، حيث تكسّرت الرماح وتثلّمت السيوف وتعبت الخيول، وفي تلك الليلة قُتل الأمام علي، فيقول الحبوبي، قد يكون الكلب أحسن حالًا إذا ما عثر على مكان يقيه من شدّة البرد، ونزلاء تلك الليلة حلّوا خفافًا كملابسهم فلا تثريب عليهم لو سمع لهم هرير، ويضيف أمّا أنا فقد كنت أهرّ من شدّة البرد كما يهرّ الكلب تمامًا.
الحبوبي روائيًا
حين قرأت “ليلة الهرير”، قلت مع نفسي، لعلّ روائيًا يسكن في أعماق أحمد الحبوبي، فهذا القومي العربي الأصيل، الوزير السابق والمحامي المعروف، هو نتاج ثقافة دينية – مدنية، وإن كان متمسّكًا بأرومته العربية، إلّا أنه كان منفتحًا على الثقافات الأخرى، وقارئًا من الطراز الأول، وكاتبًا دقيق العبارة، وعذب الأسلوب، أصدر العديد من الكتب، إلّا أن ليلته اللشبونية، “ليلة الهرير”، كانت الأكثر شهرة وانتشارًا وإثارةً لما تضمّنته من حبكة درامية، عرضها بأسلوب أخّاذ ومؤثّر.
اعتذار عن ماذا؟
مؤخرًا توقّفت عند كتابه الجديد الذي أهداني إياه، والذي هو بعنوان “رسالة اعتذار إلى الشعب العراقي”، فها هو يكتب وقد تجاوز عقده التاسع بعد تجارب مريرة ليقدّم اعتذارًا ليعكس صدقيّته العالية وثقته الكبيرة بنفسه، ليس باعتباره مذنبًا أو مرتكبًا أو ظالمًا، وهو ما لم يفعله هؤلاء المذنبون والمرتكبون والظالمون، بل لأنه وعد الشعب العراقي تحقيق طموحاته وآماله في الحريّة والوحدة العربية والعيش الكريم، لكنه لم يتمكّن من ذلك، لأن الظروف عاكسته ولأن توازن القوى والتداخلات الدولية والإقليمية كانت حائلًا أمام ذلك. والكتاب هو عبارة عن رسالة وزّعها في العام 2018، إضافة إلى لمحة من مذكراته، فهو صاحب تاريخ عريق، بدأ عضوًا في حزب الاستقلال، وكان ممثلًا له في جبهة الاتحاد الوطني في النجف (1957)، وحلقة وصل مع القيادة العليا في بغداد، ثم عضوًا في قيادة الاتحاد الاشتراكي (1964)، وأحد أبرز قيادات الحزب العربي الاشتراكي، ذو الاتجاه الناصري، حيث كان مؤمنًا بقيادة الرئيس جمال عبد الناصر للمشروع النهضوي العربي.
وفي بيته المتواضع في شارع محي الدين أبو العز بالقاهرة، تتصدّر مدخله صورته مع عبد الناصر، فهو من أقدم المنفيين العراقيين، حيث اضطّر إلى مغادرة العراق بعد تعرّضه للاعتقال والملاحقة في العام 1959، وعاش في القاهرة لغاية العام 1963، ومن ثم منفيًا منذ العام 1970 وإلى اليوم، على الرغم من زياراته بغداد منذ العام 2003 بين الحين والآخر، وسبق أن تعرّض هو ومجموعة القوميين المنفيين في القاهرة، عارف عبد الرزاق وعرفان وجدي ومبدر الويس وآخرين، إلى عملية اغتيال جماعية، كشفتها السلطات المصرية واعتقلت المنفذين، وحتى في أيام المعارضة في السبعينيات والثمانينيات ولغاية الاحتلال، ظلّ موقفه متوازنًا ومعتدلًا، فقد رفض المشاريع الخارجية، كما وقف ضدّ الحصار على بلده، وظلّ يدعو إلى تعاون وطني فعّال للإطاحة بالديكتاتورية.
يقول الحبوبي في رسالته المثيرة: بعد أن دخلت البلاد في دوامة الاحتراب الطائفي والعرقي وفقًا لنظام المحاصصة، (الذي يقوم على الزبائنية السياسية والغنائمية المصلحية)، وانبثق منه فساد إداري ومالي وسرقة وتهريب وتجويع وإفلاس وبطالة وخوف وإرهاب داعشي وميليشيات وعنتريات وبطولات فارغة كما يقول،: أفلا يستحق هذا الشعب المستظام أن نعتذر له؟ نحن الذين نتصدّى لحكمه.. السابقون منّا واللاحقون لنا، فقد جرّعناه الغصص والمنغصات نحن أبناؤه.. نعم يجب أن نعتذر لهذا الشعب العظيم، ونطلب منه الغفران لا النسيان.
عاش الحبوبي في ظروف المنفى حياة بسيطة، وكان بيته مفتوحًا، ولسانه معطّرًا وكفّه نظيف، وقد رفض العديد من المغريات والمناصب التي عُرضت عليه.
كان الحبوبي يقظ الضمير عزيز النفس، كيف لا وهو سليل العائلة العربية العلمية والأدبية، حيث كان عمه السيد محمد سعيد الحبوبي، الفقيه والشاعر، قائدًا لحركة الجهاد ضدّ الاحتلال البريطاني في الشعيبة، وجُرح فيها، وعند عودته توفي في مدينة الناصرية، وأطلق اسمه على أهم ساحة فيها، تلك التي تنطلق منها أعمال الاحتجاج اليوم للمطالبة بالعدالة الاجتماعية وتوفير فرص عمل ومحاربة الفساد.
مع أحمد الحبوبي في منزله بالقاهرة (2024)
مع أحمد الحبوبي ووميض عمر نظمي في منزل الحبوبي في القاهرة (1999)