“أنا أعتذر”… ولكن رشا عمران

لا يمكن لصاحبة هذه السطور سوى احترام أصحاب حملة “أنا أعتذر” السورية، التي تنتشر حالياً في وسائل التواصل الاجتماعي، ذلك أن مَن أسّسوا هذه الحملة مجموعة من المعارضين القدماء لنظام الأسدين (الأب والابن)، وسُجنوا في معتقلات الأسد قديماً وحديثاً، ولا يمكن لأحد أن يشكّك في وطنيّتهم أو في أهداف هذه الحملة، التي تُتداول للتوقيع من أبناء الطائفة العلوية حصراً في سورية، في محاولةٍ منهم للمساهمة في تحقيق السلم الأهلي أو تعزيز الوحدة الوطنية في سورية، التي تبدو كما لو أنها على أبواب حربٍ أهليةٍ حقيقية، بمعنى حربٍ بين المكوّنات المجتمعية لا حرب دولة ضدّ الشعب، كما حدث خلال الخمسة عشر عاماً الماضية.
ذريعة القائمين على هذه الحملة أن النظام السوري اعتمد (أكثر ما اعتمد) في حربه الماضية، على الطائفة العلوية التي شكّلت ما يشبه العضد القوي لحمايته من الانهيار، من خلال تجنيده فقراءها في قوى الأمن والجيش لربطهم هم وعائلاتهم به، ومن خلال تطوّع قسمٍ لا يُستهان به من شبابها في مليشيات طائفية ارتكبت من الجرائم والمجازر ما لا يمكن التغاضي عنه، أو منح العفو لمرتكبيه منهم بذريعة “عفا الله عمّا مضى”، من أجل حماية السلم الأهلي.
ربّما هذا ما دفع القائمين على الحملة لإطلاقها؛ إحساسهم بالمسؤولية من منطق انتمائهم بيولوجياً لطائفة تُتَّهم بأنها “طائفة “الإجرام” و”طائفة القتل” و”طائفة المجازر” و”طائفة النظام القاتل”، رغم أن الموقّعين على الحملة هم ممّن وقفوا مع الثورة منذ بدايتها، ونُكِّل بهم وبعائلاتهم، واحتملوا ما احتملوه من الإهانات والتهديدات والارتكابات من شبّيحة العهد البائد، بوصفهم “خونة الطائفة” بقدر “خيانتهم للوطن“.
ورغم النبالة الواضحة في أهداف هذه الحملة، إلا أن مطلقيها تعرّضوا (كما العادة) للشتائم والتخوين من ذباب إلكتروني يشتغل منذ سقوط النظام على التحريض الطائفي الموجّه نحو طرفَين، العلويّين والأقلّيات من جهة، والأكثرية من جهة ثانية. ويستهدف غوغائيو الطرفَين، ممّن يرون في هُويَّاتهم الطائفية ما يمايزهم عن غيرهم، وممّن يعتقد واحدهم أن مظلوميته تتفوّق على مظلومية الآخر، وكأنّ السوريين حالياً في سباق لتكريس مظلوميات لا يُدرِك أصحابها أنها ستأخذهم جميعاً مع سورية، نحو الفناء.
على أن خطر حملة كهذه لا يقف عند تخوين أصحابها، ولا عند التشكيك بنياتهم، بل يتجاوزه إلى تكريس التعميم النمطي التجريمي للطائفة العلوية بأكملها، وإلقاء تبعات ما حصل كلّه عليها وحدها، ما يعني تبرئة باقي المجرمين من غيرها، وإعادة تدويرهم في الحكم والدولة الجديدة بعد “تكويعهم”، وتقديمهم فروض الطاعة اللازمة. ما يعني أيضاً إقصاء طائفةٍ بأكملها عن كلّ شيء، بمن فيهم أبرياؤها وثوريّوها ومناضلوها، والتعامل معهم بوصفهم جزءاً من هذه الكتلة الصمّاء الموصومة بالإجرام، وهذا بكلّ حال مطلب بات بعض مثقّفي سورية ينادون به صراحةً: اجتثاث الطائفة العلوية على طريقة اجتثاث البعث، من دون أيّ إدراك لما سيسبّبه ذلك من خطر كبير على سورية.
يشكّل العلويون ما يقارب 10% من عدد سكّان سورية حالياً. هؤلاء، في حال اجتثاثهم كما يطالب بعضهم سوف يتحوّلون قنبلةً موقوتةً بيد أيّ دولة لا تريد لسورية الاستقرار، وما أكثر هذه الدول. واجب الدولة حالياً هو حمايتهم، لا بوصفهم أقليّةً، بل بوصفهم مواطنين. واجب الدولة معاقبة المجرمين منهم تحت بند العدالة الانتقالية، التي تعاقب كلّ المذنبين، واجب الدولة حمايتهم من الانتقام العشوائي بسبب التحريض اليومي. واجب الدولة إعادة تأهيل من لم يشارك منهم في ارتكاب الجرائم، ومن لم تتلطّخ يده بدم إخوته. واجب الدولة، التي أتت بعد ثورة الكرامة والعدالة، أن تعدل بينهم وبين باقي الشعب. واجبها أن تعاقب المذنبين كلّهم وتتبنّى الأبرياء كلّهم. ولا يحدث هذا إلا بالمواطنة (فقط بالمواطنة) القائمة على تطبيق القانون على الجميع من دون تمييز، ومن دون استثناء، بعد ذلك تصبح الاعتذارات ذات فائدة وتؤتي نتائج حقيقية، ذلك أنها سوف تسهم في إعادة بناء العقد الاجتماعي بين السوريين، أمّا الآن فهي ليست سوى صرخة يائسة وخافتة وسط ضجيج غوغائي لا يُصغي لأيّ صوت عاقل.