إسرائيل ونحن بين خراب آت وعمار بحاجة لجسور متينة جواد بولس

تساءلت في مقالتي الأخيرة ماذا لو جرت الانتخابات الإسرائيلية اليوم؛ وافترضت أن مشاركة المواطنين الفلسطينيين فيها باتت مهدّدة لسببين رئيسين، الأول سياسة الحكومة العنصرية التي قد تعرقل هذه المشاركة، والثاني، اتساع حجم نزعة مقاطعة هذه الانتخابات على خلفية الأحداث الأخيرة، والتغييرات الحاصلة داخل إسرائيل وفي المنطقة. ما زالت صورة الاصطفافات السياسية غير واضحة، الا أننا شهدنا مؤخرا تحركين لافتين، يحملان مؤشرات حول احتمالاتها المستقبلية؛ حيث قامت بالتحرك الأول “القائمة العربية الموحدة” حين بادر رئيسها منصور عباس بتسليم بنيامين نتنياهو وثيقة سماها مبادرة “جسور التصالح والسلام”. أما التحرك الثاني فقد قرأنا عنه في بيان مشترك أصدرته قيادتا “حزب التجمع الوطني الديمقراطي” “والجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة” بعد اجتماع مشترك تناولتا خلاله “سبل تعزيز الشراكة بين الإطارين، في ظل التحدّيات الخطرة التي تفرضها الحرب على الشعب الفلسطيني وإسقاطاتها على المواطنين العرب في البلاد”.
يعيش المواطنون في إسرائيل تحت ضغوط حالتين عامتين منفصلتين ومتصلتين في آن واحد: استمرار حالة الحرب واعتداءات جيش الاحتلال العسكرية في غزة ولبنان وسوريا والضفة المحتلة من جهة، ومن جهة ثانية التداعيات السياسية الاجتماعية الحاصلة داخل المجتمع اليهودي. يحاول نتنياهو عرقلة إمكانيات التوصل إلى حالات وقف النار على الحدود الإسرائيلية، ويستمر في تأجيج الصراعات وتصعيد وتائرها، مستغلا حالات عدم الاستقرار هذه كذرائع لإسكات معارضيه السياسيين، “وكمولّدات” لمشاعر الخوف داخل المجتمع الإسرائيلي، وكذخيرة تُبعد عنه مخاطر نهايات الإجراءات الجنائية القضائية الجارية ضده في المحاكم الإسرائيلية.
لقد تمتعت حكومة نتنياهو، بعد عملية السابع من أكتوبر 2023، بدعم شبه مطلق من قبل جميع طبقات وشرائح المجتمع الإسرائيلي؛ وباشرت، ووراءها شعب كامل، في حربها الوحشية على غزة، غير مقيدة بأية كوابح أخلاقية أو قانونية. وبينما كان الإسرائيليون يواجهون انهيار مسلماتهم وقناعاتهم حول قوتهم العسكرية الخارقة وتفوّق قدراتهم الاستخباراتية على كل مستحيل ومعجزة، ويسعون للانتقام لهيبتهم، استمرت حكومة نتنياهو ووكلاؤها بتنفيذ مخططهم في الانقلاب على الحكم، وإنجاز ما سموه، بخبث وبمكر كبيرين، مشروع “الإصلاح القضائي” والسيطرة على جميع الأجهزة الأمنية والإدارية التنفيذية في الوزارات وهيئات الحكم، تساندهم في ذلك الأكثرية المطلقة من أعضاء البرلمان الإسرائيلي (الكنيست). ورغم ما أنجزه نتنياهو وشركاؤه، نجد أن هنالك تراجعا في الإجماع الذي حصل عليه في بدايات حربه على غزة، وأن بعض العقبات الجدية ما زالت تقف في وجهه ووجه حكومته. أول هذه العقبات وأهمها هي المستشارة القضائية للحكومة، التي ترفض الانصياع الأعمى لجميع قرارات ومشاريع الحكومة، وتعلن من حين لآخر معارضتها لها، حتى لو أدى ذلك، كما جرى مرارا، إلى مواجهات حقيقية وصاخبة. أما العقبة الثانية فتتمثل في رئيس جهاز المخابرات العامة (الشاباك)، حيث شهدنا في الأيام الأخيرة تصعيدا لافتا في المعركة بين الاثنين، وتبادلا للاتهامات حيال قضية من يتحمل المسؤولية الأساسية على وقوع “الكارثة” في أكتوبر.
تخدم هذه الصراعات، في نهاية المطاف، سياسة نتنياهو ومخططه؛ فنشر الفوضى في الدولة وخلخلة أواصر الحكم القديم، والتشكيك بضرورة المحافظة عليه، وزعزعة ثقة المواطنين بمن يقف في وجهه، مثل قضاة المحكمة العليا والمستشارة القضائية للحكومة ورئيس جهاز المخابرات، يخدم هذا المخطط. وقد قرأنا أن وزير القضاء يريف ليفين، طالب قبل يومين سكرتير الحكومة بعقد جلسة طارئة وعرض قضية إقالة المستشارة القضائية للتصويت الفوري عليها داخل الحكومة؛ وكذلك قرأنا عن مطالبة نتنياهو ووزرائه أن يقيلوا رئيس الشاباك، وبعضهم طالب بتقديمه إلى القضاء. وسبقت ذلك معركة شنها نتنياهو وحلفاؤه على مكانة المحكمة العليا وضد رئيسها الحالي القاضي يتسحاك عميت. لم تنته هذه المعركة بعد؛ فرئيس الحكومة ورئيس الكنيست ووزير القضاء الإسرائيلي، لم
يعترفوا بشرعية انتخاب رئيس المحكمة وقاطعوا جلسة تنصيبه وما زالوا يقاطعونه.
إسرائيل ماضية إلى مجهول مقلق ومخيف؛ فكل ما عايشناه فيها خلال العقود الماضية، رغم قساوته وعجفه، سيختفي، وسيحلّ مكانه الأسوأ والأوحش؛ ويكفينا أن نقرأ نتائج استطلاعات الرأي بين المواطنين اليهود، ومواقف اكثريّتهم ضد استمرار وجود الفلسطينيين على أراضيهم، أو بقائنا كمواطنين في إسرائيل. فالأكثرية الكبرى بين المواطنين اليهود لا تثق بنا، وتدعم تهجيرنا من الدولة والتخلص منا. قد يقول البعض أن لا جديد تحت شمس العنصرية الصهيونية الحارقة، وعقيدتها الاستعمارية التاريخية. لا اكتب كي أناقش هؤلاء ولا كي أقنعهم، فأنا أعيش على تخوم الاحتلال وفي قلبه عقودا من الزمن، وأعي ما تغيّر وكيف حصل ويحصل ما حصل، واستحضر مشاهد الدم والنزوح في غزة لغزة، والضفة المحتلة، وأعرف أن لا مكان للمقامرة ولا للمهادنة ولا للمزايدة ولا للجهل؛ فالعميان والجهال والقابضون على السراب، هم من لا يرون الفوارق بين ما كان وما هو آت. نحن أبناء قوم واجهنا مكر الصهيونية، وجهل عربنا وغدر بعضهم، بصبر وبإصرار وبحكمة وبتقية، فنجونا بعد أن جفت حلوق جدودنا وتعبت المدامع. لم نكن أيتاما على موائد اللئام ولن نكون، لكننا تعلمنا أن نفرّق بين وحش كاسر يهاجم بيتك ليقتلك أو ليقتلعك، وطير جارح يحلق فوقه. كانت إسرائيل “تحترمنا وتشكك فينا” فأوكلت مهمة ترويضنا لجهاز مخابراتها، في حين كان يُعدّ واحدة من بقراتها المقدسة. واليوم إسرائيل لا تحترمنا وتعتبرنا أعداء لها، ولا تثق بجهاز مخابراتها، ولا بأن يوكل شأننا. حكام إسرائيل الحاليون يعدّون لنا أجهزة قمع جديدة لا تعرف المحرمات ولا احترام حقوق المواطنة، بحدها الأدنى، أجهزة تمتلك “اليقين” كما امتلكته جميع فرق الموت. هذه الفرق موجودة وعتادها جاهز ونفوس عناصرها سكرى وشهيّاتهم مفتوحة كشهية القروش الجائعة.
أقول هذا بينما أطلع القراء على معطيات إحصائية أعدها ونشرها “معهد سياسات الشعب اليهودي jppi” قبل بضعة أيام، جاء فيها أن 85% من المواطنين اليهود الذين يعرفون أنفسهم باليمينيين (مصوتي حزب الليكود وأحزاب الصهيونية الدينية على تفرعاتها) لا يثقون بجهاز المخابرات الإسرائيلي، ولا برئيسه فهم يرونه يساريا منحازا ضد اليمينيين! دهشت عند قراءة معطيات هذه الدراسة، فهي تعزز ما نعرفه عن إسرائيل الجديدة، وعن شعبها الذي يرفض أن يتعايش معنا ولا يؤمن بإمكانية ترويضنا، ويفكر بخلق الفرص للتخلص منا، أو من كثيرين منا. إنها إسرائيل الجديدة التي تسرح في سماء الشرق وتقصف وتمرح في عصر امبراطور اهوج اسمه دونالد ترامب الذي ترقص على إيقاعه قمم السراب العربية بينما منطقتنا تغلي كالمرجل: نارها تأكل أهلها ونارها؛ ونحن، المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل، نقف على حافة نارها ونعدّ الأيام بقلق وبخوف ولا نعرف كيف ومتى سينتهي عصر الفوضى الحالي ولا كيف ستنتهي معارك اليهود ضد اليهود، وأي ثمن سندفع؛ فقد تنتهي المعارك والنظام في الدولة حطام، وسوائب الفاشيين يحومون على عتبات أبوابنا وينبشون فراشنا. وقد تنتهي والدولة فيها بعض عُقّال يؤمنون بصناديق الاقتراع حكما ودروبا للنجاة. لا وقت لدينا سواء أن وقع الخراب أو أن استحكم العقل وانتصر محبو الحياة. نراوح في مطارحنا ووراءنا السيل جارف، وهو ككل سيل غشيم وأعمى، ولا يوارب. لن يكفينا بيان ودعوة للتصالح ولا اجتماع قد يصبح يتيما بين أخوة كانوا أعداء، وأفاقوا وهم يفتشون عن سبل تعيدهم أشقاء وحلفاء في وجه عدو عاتٍ.
كنا نقول ذات يوم أننا كمواطنين عرب لن نستطيع وحدنا النجاة؛ بيد أن اليهود المعارضين للفاشية لن يستطيعوا وحدهم الانتصار ودحر الفاشية والفاشيين؛ واليوم أقول: نحن المواطنين العرب لن نستطيع وحدنا النجاة، لكن الفاشيين وحدهم قادرون على الانتصار، إلا إذا نجحنا، وهذا دورنا وواجبنا، ببناء جسور المواجهة بيننا بداية، ثم مع جميع القوى اليهودية، على ندرة وجودها، المؤمنة بقدسية الحياة..
كاتب فلسطيني