إقرأوا في كتاب نواف سلام.. «لبنان بين الأمس والغد»! محمود القيسي *
* الفساد آفة تهدد أسس الحضارة الإنسانية،
وتضعف الدول والمجتمعات، وربما تؤدي إلى انهيارها وحذفها عن الخريطة البشرية
- *إنّ صلة المواطن بالدولة في لبنان، لم تكن يومًا مباشرة، بل كان عليها أن تمرّ دومًا
عبر العلاقات المتشعبة، التي تربط الطوائف بالنظام السياسي.
لذلك لم يتمكن الفرد من تحقيق ذاته كمواطن بالمعنى الكامل
* في كُلِّ الدول والأنظمة والمُؤسسات، التي لا تهبُّ داخلها رياحُ النّقدِ
الحادّة والمحاسبة والتغيير، ينمو في أحشائها الفساد بكل أنواعه القاتلة
“لبنان بين الامس والغد” تأليف: رئيس الحكومة اللبنانية المكلف القاضي سلام، الكتاب الذي يتصدّى لأصول المسألة اللبنانية، الهيمنة الطائفيّة، المواطنة المُكبّلة، (الدولة غير المكتملة) ثمّ لجذور الحرب ومساراتها بين 1975 و1989، أي حتّى اتّفاق الطائف الذي أنهى الصراع المُسلّح، لكنّ السلام الذي أنتجه (بقي هشًا).
”حتى لو أثبتت المواقف أن الطيب لا يعيش،
إياك أن تبحث عن مكان شاغر بين الأوغاد.”..
مارتن لوثر.
في مدخل كتابه لبنان بين الأمس والغد، يقول رئيس الوزراء اللبناني المكلف القاضي نواف سلام “تتمثّل مأساة اللبنانيين في أنّ مواطنيّتهم مقيّدة ودولتهم غير مكتملة، وهي مأساةٌ تتخطّى انتماءاتهم الطائفية أو السياسية، وتعرّجات التاريخ، وما حملت في طيّاتها من عنف ودماء. إنّ صلة المواطن بالدولة في لبنان ، لم تكن يومًا مباشرة، بل كان عليها أن تمرّ دومًا عبر العلاقات المتشعبة، التي تربط الطوائف بالنظام السياسي. لذلك لم يتمكن الفرد من تحقيق ذاته كمواطن بالمعنى الكامل، كما أنّ الأرجحية السياسية للجماعات الطائفية، لا تزال تمنع قيام دولة فعلية، بما يفترضه ذلك من قدرة على بسط سيادتها في الداخل، كما في الخارج. هذه الإشكالية المؤلمة هي ما يجمع بين فصول هذا الكتاب، التي كُتِبت في الأصل كأبحاثٍ مستقلة وفي فتراتٍ مختلفة، امتدّت على أكثر من ربع قرن”.
كان الكتاب ومازال منذ اليوم الاول لميلاده التقليدي.. ومنذ اليوم الاول لميلاده الثاني في البيئة الرقمية، أهم أيام تاريخ بداية إنتشار المعرفة. أعتبر صاحب كتاب (بين الأمس واليوم والغد)، الأستاذ الجامعي ومدير مكتبة هارفرد روبرت دارنتون أن اختراع الكتابة، شكّل فتحاً في تاريخ الإنسانية، في ميادين العلم والثقافة والاجتماع، وعبر الكتاب المطبوع، انتشرت المعلومات والأفكار، بطريقة أسرع وأكثر فاعلية من أي وقت مضى، والتي كان لها أحياناً تأثير على مجريات التاريخ نفسه. واكد دارنتون أن كتابه هذا هو كتاب عن الكتب، واعتذار من الكلمة، ماضياً وحاضراً ومستقبلاً. وهو كذلك إثبات لموقع الكتاب في البيئة الرقمية، التي تحولت اليوم إلى واقع حاسم في حياة الملايين من البشر.
أضافت الحضارة الإغريقية القديمة للبشرية كنوزا من المعرفة والعلوم الإنسانية، وتنوير وأنوار لم ولن تنطفئ. ناقش أفلاطون في بداية كتاب الجمهورية على لسان سقراط فكرة العدالة, وكيف نبني دولة عادلة أو أفراد يحبون العدالة، ما هو هدف أفلاطون في الجمهورية، ما هو موضوع الجمهورية؟ تدور الجمهورية حول العدالة. في هذا الحوار، يتعهد أفلاطون بإظهار ماهية العدالة، ولماذا من مصلحة كل شخص أن يكون عادلاً، ويفعل ذلك في سياق أخلاقي وسياسي…
يقدم سقراط في المحاورات داخل الكتاب، تعريفًا للعادل وهو الحكيم والصالح، وإن المتعدي هو الشرير والجاهل، وهو يظن إن الأنسان يميل بطبعه إلى التعدي أكثر من العدالة, والدولة ينبغي أن تعلم الافراد حب العدالة، ويشبه أجزاء الدولة بأجزاء الإنسان…
ويقسم الانسان إلى الرأس وفيه العقل, وفضيلته هي الحكمة، القلب، وفيه العاطفة، وفضيلته هي الشجاعة، والبطن وفيه الشهوات وفضيلته هي الاعتدال وليس التخمة…والدولة العادلة هي التي يقوم كل فرد فيها بواجبه الأخلاقي… الحاكم يحكم، الجندي يحمي والشعب يعمل… وهكذا تكون فكرة العدالة في النفس البشرية… العقل يضبط الشهوات، العواطف تساعد العقل في عمله، كالغضب ضد الاعمال المنحطة والخجل من الكذب..
والعدالة الاجتماعية هي جزء من هذه العدالة الداخلية/عدالة النفس البشرية… في كُلِّ الدول والأنظمة والمُؤسسات، التي لا تهبُّ داخلها رياحُ النّقدِ الحادّة والمحاسبة والتغيير، ينمو في أحشائها الفساد بكل أنواعه القاتلة.
ويقول سقراط في المحاورات، ان الطمع وحب المزيد من الترف، هي العوامل التي تدفع بعض الناس للتعدي على الجيران وأخذ ممتلكاتهم، أو التزاحم على الأرض وثرواتها، وكل ذلك سيؤدي الى الحروب…وعندما تزيد ثروة التجار، تظهر منهم طبقة، يحاول أفرادها الوصول الى المراتب الاجتماعية السامية، عن طريق المال، فتنقلب احوال الدولة، ويحكمها التجار وأصحاب المال, فتهبط السياسة، وتنحط الحكومات وتندثر.
ثم يتعجب سقراط ويقول: إذا كنا في المسائل الصغيرة كصنع الأحذية مثلا، لا نعهد بها إلا الى اسكافي ماهر، أو حين نمرض لا نذهب إلا إلى طبيب بارع، ولن نبحث عن أجمل واحد ولا أفصح واحد، وإذا كانت الدولة تعاني من علة.. ألا ينبغي ان نبحث عن أصلح الناس للحكم والقيادة؟!
ويستطرد الفيلسوف الاغريقي الكبير سقراط قائلًا: وإذا كنا في ظروف سيئة، والدولة منهارة من كثرة الفاسدين داخلها وخارجها، فعلى الأقل نفحص ماضي كل مرشح للحكم والسلطة، كم عنده مبادىء كم عنده نزاهة، كم عنده من وطنية وكم عنده من اخلاق.. ولم نعهده كذاب، وكيف أمضى حياته قبل محاولته أستلام السلطة والحكم؟ وهذه هي أبسط طريقة.. وفي النهاية يقول “ان العدالة اذن هي ليست القوة المجردة، وهي ليست حق القوي، إنما هي تعاون كل اجزاء المجتمع تعاونًا متوازنا فيه الخير للكل… ونكون نحن مجانين إذا لم نستطع ان نفكر بمصدقية، ومتعصبون إذا لم نرد ان نفكر، وعبيد إذا لم نجرؤ ان نفكر.
وهو على العتبة ما قبل الأخيرة في تشكيل حكومته الأولى.. أصبح ضرورة في الوعي والضرورة قراءة كتابه… أو ضرورة قراءة أهم ما خطه القاضي نواف سلام عن لبنان.. عن مفهوم الدولة المدنية.. عن المواطنة الجامعة.. وسيادة القانون… كي نتماهى ونكون على بينة من خلفية العهد في أقل تقدير. نعم، قراءة كتابه: “لبنان بين الامس والغد” تأليف: رئيس الحكومة اللبنانية المكلف القاضي سلام، الكتاب الذي يتصدّى لأصول المسألة اللبنانية، الهيمنة الطائفيّة، المواطنة المُكبّلة، (الدولة غير المكتملة) ثمّ لجذور الحرب ومساراتها بين 1975 و1989، أي حتّى اتّفاق الطائف الذي أنهى الصراع المُسلّح، لكنّ السلام الذي أنتجه (بقي هشًا). من هنا دعوة المؤلف إلى إقامة (جمهورية ثالثة) تستند إلى مبدأ إعلاء منطق المؤسسات على أي أعتبار آخر، بما يسمح بإقامة (دولة مدنية)، عادلة وفاعلة، على أساس مبدأ (المواطنة الجامعة) ومفهوم (سيادة القانون)….
هذا دون ان ننسى قطعيًا أنه لولا (وثيقة مؤتمر الطائف)، التي كانت ولادتها أشبه بالمعجزة السعودية والأساطير اليونانية القديمة، كان كتاب القاضي سلام -الأهم- غير موجود وطرح مفهوم الجمهورية اللبنانية الثالثة مجرد سراب.. أو مجرد أوهام… في خضم الأزمات التي يعاني منها بلدٍ مثل لبنان عانى ما عاناه… لا يكفي كتاب سلام، رجل القانون والدبلوماسي والأستاذ الجامعي والسفير اللبناني لدى الأمم المتحدة في نيويورك، ورئيس محكمة لاهاي الدولية السابق، بتشخيص أسبابها العميقة المتراكمة كمًا ونوعًا، عبر عشرات السنوات، بل يفتح آفاقًا لعلاجها من خلال تقديمه مجموعة اقتراحات آخرى عملية لمًا ذكر أعلاه… يستند المؤلف في كتابه هذا إلى تنوّع معارفه العلمية، وإلى خبرته السياسية الطويلة، مستهدفًا قبل كل شيء، البحث في أسلوب موضوعي رصين، عن السبيل التي تُتيح للبنان الخلاص من محنته وعذاباته…
نعم، كتاب “لبنان بين الأمس والغد”… الكتاب الذي شدّد فيه السفير والمندوب الدائم للبنان لدى الأمم المتحدة في نيويورك بين عامي ٢٠٠٧ و ٢٠١٧، أستاذ القانون الدولي القاضي سلام، أكثر من مرة على إن الحاجة إلى التعديل الدستوري، يجب ألا تؤخر أبدًا القيام بالإصلاحات التي اقرّها الطائف أصلًا، ولم يتم تنفيذها بعد، ولا سيما تلك المتعلقة بالتجاوز التدريجي للطائفية، وفي مقدمها أحكام المادة ٢٢ من الدستور، التي تدعو إلى إنشاء مجلس للشيوخ ينحصر فيه التمثيل الطائفي، وانتخاب مجلس النواب “على أساس وطني لا طائفي”…
يرى مركز أبحاث PEAC، في ظل هذه الأوضاع المستجدّة، وفي حضرة مجلس نيابي فاقد للرمزية الوطنية، وللحس الوطني وللمصداقية التشريعية، التي من أول أولوياته المفيدة للمجتمع اللبناني، ولديمومة الجمهورية اللبنانية، ضرورة إجراء متابعة دقيقة لمرحلة تشكيل حكومة العهد الأولى. لا سيّما في ظلّ هذا الكمّ من المواضيع المطروحة عبر وسائل الإعلام، أو على لسان بعض المسؤولين المُطالبين بـ”حكومة جامعة”، والمحاولات المكشوفة لبعض المكوّنات السياسية، التي كانتْ سياستها غير متلائمة مع النصوص الدستورية، والتي تُطالب اليوم في المشاركة السياسية، عبر الإحتفاظ ببعض المواقع، التي كانت تُهيمن عليها في المراحل السابقة.
الدستور واضح، والإسهاب في الشروحات تفصيليًا، في تحليل المراحل السابقة بالوقائع الملموسة، والتي أوقعت الجمهورية في حالة خراب ودمار وتعطيل ممنهج للديمقراطية، تُغني عن البحث في إيجاد الأسباب الموجبة، لعدم مشاركة من كانوا السبب في ضياع الديمقراطية، وضرب أواصر الجمهورية، واحتكار القرار على كافة المستويات.
الفساد في المجتمعات والدول بكل أشكاله، وأنواعه الأخلاقية والاجتماعية، وأثره في إضعاف الدول وسقوطها نماذج تختلف بين دولة ودولة، حسب طبيعة المجتمعات، وفي لبنان على سبيل المثال، لم يأت شبيها لنا في كتاب… الفساد آفة تهدد أسس الحضارة الإنسانية، وتضعف الدول والمجتمعات، وربما تؤدي إلى انهيارها وحذفها عن الخريطة البشرية. وهنا يصبح من الواجب الوطني، الذهاب في رحلة عميقة، لنستكشف فيها جذور هذه الظاهرة، وتأثيراتها القوية على المجتمعات والدول، ودولتنا اللبنانية خصوصًا، مع تقديم نماذج من الفساد في لبنان كمثال تاريخي بارز. ونعرف من خلاله كيف يتحول الفساد الأخلاقي، إلى قوة مدمرة تجعل بعض الدول الكبرى، تتفكك وتتقسم وتنهار، وكيف كان التدهور الأخلاقي وانتشار الرذائل وانهيار القيم، عوامل رئيسة في سقوط دولة، كانت في يوم من الايام دولة فاعلة، والتي كانت يومًا قيمة مهمة في محيطها وفي والعالم…
نرى الكثير من التحليلات للعلاقة بين القوة والأخلاق، وبين الفساد والانهيار، ونستكشف القيم التي تحقق الاستقرار والازدهار، التي تبني مجتمعًا قويًّا متماسكًا، قائمًا على أسس أخلاقية راسخة، تجعله قادرًا على الصمود والاستمرار والبقاء!
- كاتب لبناني عن موقع (جنوبية)