مقالات رأي

الجدار وبرج المراقبة: ركائز مبكرة للصهيونية الإبادية صبحي حديدي

 

لا يستبعد المؤرخ الإسرائيلي البارز إيلان بابيه أنّ أوائل مفكّري الحركة الصهيونية وقادتها، في أوروبا القرن التاسع عشر، قد أَمِلوا في أن تكون فلسطين أرضاً خاوية خالية، وأنه إنْ تواجد فيها بشر فليسوا أكثر من قبائل منقطعة الجذور لا تقطن الأرض أصلاً. بذلك، يتابع بابيه في مقالة لامعة نُشرت مؤخراً باللغة الإنكليزية تحت عنوان «جدار وبرج مراقبة: لماذا تفشل إسرائيل» فإنّ المهاجرين اليهود قاصدي تلك الأرض الخاوية سوف يشيدون مجتمع رخاء، وقد يجدون طريقة لتمييز أنفسهم بمنأى عن العالم العربي.
ما نعرفه كحقيقة واقعة، يكتب بابيه: «هو أنّ نفراً قليلاً من أوائل مهندسي الصهيونية كانوا على يقين تامّ بأنّ فلسطين لم تكن أرضاً خالية» لكنهم «كانوا أكثر عنصرية واستشراقاً، على غرار بقية أوروبا، من أن يدركوا كم كان المجتمع الفلسطيني التقدمي على صلة بالحقبة، مع نخبة مدينية متعلمة ومسيّسة وجماعات ريفية تعيش بسلام داخل نظام أصيل من التعايش المشترك والتضامن». كان ذلك المجتمع الفلسطيني «على عتبة الحداثة، مثل العديد من المجتمعات الأخرى في المنطقة، حيث امتزج الموروث التقليدي مع الأفكار الجديدة. وذاك كان بمثابة أساس للهوية الوطنية، ورؤية للحرّية والاستقلال على تلك الأرض ذاتها التي سكنوها طوال قرون».
الصهاينة، في تقدير بابيه، أدركوا مسبقاً أنّ فلسطين للفلسطينيين، لكنهم اعتبروا السكان الأصليين «عقبة ديمغرافية، يتوجب إزالتها كي ينجح المشروع الصهيوني لبناء دولة يهودية»؛ ومن هنا نشأت النظرة الصهيونية إلى صيغة «مشكلة فلسطين» بوصفها غير قابلة للحلّ إلا بترحيل الفلسطينيين وإحلال المهاجرين اليهود محلّهم. فوق هذا، «توجّب أن تُسلخ فلسطين عن العالم العربي وتُبنى كمخفر أمامي، يخدم طموحات الإمبريالية والاستعمار الغربيين للهيمنة على الشرق الأوسط بأكمله».
ولهذا، يساجل بابيه، بدأ الأمر من جدار وبرج مراقبة، وقد اعتُبر العنصران في رأس الركائز المطلوبة لـ«عودة» يهودية مفترَضة إلى الأرض الخالية، وهما باقيان حتى الساعة في كلّ مستوطنة صهيونية؛ رغم معضلة موازية كانت تشير إلى انعدام الجدران وأبراج المراقبة في فلسطين تلك الحقبة: «الناس تحركوا بحرّية، داخل البلد وخارجه، وتمتعوا بمناظر القرى على امتداد الطريق، مثلما توفّر الطعام لكلّ عابر سبيل». التناقض تعزز أكثر مع حقيقة مضادة، هي أنّ «المستوطنات الصهيونية كانت تعتمد سياجات دينية حول بياراتها وحقولها، فتصنّف كلّ من يقترب منها تحت بند اللصّ أو الإرهابي. ولهذا فإنهم، منذ البدء، لم يشيدوا مساكن إقامة إنسانية، بل أقاموا حصوناً ذات جدران وأبراج مراقبة، فانعدم الفارق بين المدنيين والجنود في المجتمع الاستيطاني».
وعلى نحو أو آخر، فإنّ كلّ صهيوني وافد، سواء أَمِل في العثور على أرض خالية، أو صمّم على جعلها خالية، جرى تأهيله ليكون جزءاً من مجتمع استيطاني عسكري لا وظيفة له تسبق تطبيق حلم الأرض الخالية بالقوّة العارية. وبسبب خديعة الانتداب البريطاني حول توفير حقّ تقرير المصير لجميع الشعوب العربية، ثار الفلسطينيون خلال الثلاثينيات، فقمعت ثوراتهم الإمبراطورية ذاتها، وفي موازاة ذلك كان المشروع الصهيوني في سنة 1948 يتخذ وجهة التطهير العرقي، فأسفر عن طرد نصف السكان الأصليين خلال سنوات النكبة.

وفي عام 2020 كانت 100 سنة قد انقضت على محاولة التطبيق، بالقوّة، لرؤيا تحويل «أرض خالية» إلى كيان يهودي؛ واقتضت الحاجة، وما تزال، مليارات ومليارات من أموال دافع الضرائب الأمريكي لإدامة حلم الأرض الخالية في فلسطين، والبحث الصهيوني المحموم لإنجازه؛ والثمن الإنساني الذي دفعه الفلسطينيون لقاء هذا المشروع كان هائلاً وجسيماً. «هذه هي خلفية السياسة الإبادية الراهنة التي تعتمدها إسرائيل في غزّة، وخلال حملة القتل غير المسبوقة في الضفة الغربية»؛ يستخلص بابيه. الأمر الذي يدفعه لتساؤل أخير: «كيف يمكن للغرب وللشمال العالمي الزعم بأنّ هذا المشروع العنيف لإبقاء ملايين الفلسطينيين تحت نير القمع، تتولى تنفيذه ‘الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط’؟».
وفي الوسع، عند هذه الفقرة من مقالة بابيه، استكمال المشهد بالعودة إلى كاتب إسرائيلي آخر هو جدعون ليفي؛ الذي اقترح ذات يوم الفرضية التالية: كيف نتخيل منطق إعلان وعد بلفور وقد تمّ عكسه، فتتلقى الأقلية الفلسطينية، التي تعيش اليوم في دولة الاحتلال، وعداً بـ«وطن قومي» للفلسطينيين، لا يكون نصيب الإسرائيليين فيه سوى حفنة «حقوق مدنية ودينية» محدودة؟ وأمّا الفارق الآخر فإنه حقيقة أعداد الأقلية اليهودية في فلسطين ساعة سطّر آرثر جيمس بلفور الكلمات الـ 76 التي صاغت وعد حكومة صاحب الجلالة إلى اللورد ليونيل والتر روثشيلد، بتسهيل إقامة وطن قومي لليهود؛ الذين كانوا أقلّ من عُشر عدد سكان فلسطين!
وبالتالي، وفي موازاة استيهامات أوائل مهندسي الصهيونية حول الجدار وبرج المراقبة، كان المشروع الاستعماري البريطاني يقترح استيلاد مشروع استعماري استيطاني صهيوني على أرض فلسطين، وتلك «الخطيئة الأولى» لم تكن الوحيدة التي اقترفتها بريطانيا بحقّ العرب، بما في ذلك «الحلفاء» من ملوك وسلاطين أمراء؛ لكنها كانت الأخطر على مستقبل المنطقة، والأقبح ــ سياسياً في الواقع، وليس أخلاقياً فحسب ــ ضمن تراث استعماري حافل بالقبائح. لا يغيّر من هذا التشخيص أنّ منظمات صهيونية إرهابية، من طراز «أرغون» و«شتيرن» ردّت مكرمة الانتداب البريطاني على طريقتها: من نسف المعسكرات البريطانية في فلسطين، إلى اغتيال الوسيط السويدي الكونت برنادوت، ليس من دون المرور بتفجير فندق الملك داود في القدس على سبيل استهداف قيادة الأركان البريطانية.
وحين احتفلت رئيسة الوزراء البريطانية الأسبق تيريزا ماي بالذكرى المئوية للوعد، صحبة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو؛ تناست أنّ اثنين من رؤساء حكومات إسرائيل السابقين، مناحيم بيغين وإسحق شامير، كانا على لوائح الإرهابيين المطلوبين من التاج البريطاني: الأوّل لأنه كان الآمر بتنفيذ عملية تفجير الفندق وإزهاق أرواح 91 شخصاً بينهم 28 من الرعايا البريطانيين، والثاني لأنه كان خليفة أبراهام شتيرن قائد المنظمة المعتقل لدى البريطانيين بتهمة الإرهاب.
على المستوى العقائدي، كان صهيوني عتيد مثل أبا أخيمئير، أحد كبار رجالات الحزب العنصري الذي أسسه زئيف جابوتنسكي، لا يتماهي مع فلسفة التاج البريطاني وأمثال بلفور أو لويد جورج، بقدر ولعه بالفلسفة الفاشية وشخصية بنيتو موسوليني؛ إلى درجة أنه أطلق على جابوتنسكي صفة «دوتشي يهودا والسامرة»! كذلك اعتبر أنّ صعود أدولف هتلر يسدي خدمة «خماسية» للحركة الصهيونية: تخليصها من «ميوعة» الصهاينة الإنسانيين، أمثال آحاد هاعام؛ وإثبات إفلاس الذين يفضّلون تحسين أوضاع اليهود في الشتات، بدل نقلهم إلى فلسطين؛ وتقديم دليل جديد على استحالة اندماج اليهود في مجتمعاتهم «المضيفة»؛ وإضعاف الشيوعية السوفييتية عبر تطهير ألمانيا، أعظم الأمم في عالم «الأغيار» من شبح الشيوعية الذي تنبأ به «اليهودي العاقّ كارل ماركس»…
وأياً كان تشديد بابيه على الجدار وبرج المراقبة بوصفهما في عداد الركائز الأبكر للمشروع الصهيوني حول إفراغ فلسطين من سكانها الأصليين وترسيخ خرافة الأرض الخالية، فإنّ مسارات التحوّل اللاحقة التي اقترنت بالصهيونية الأمّ، وما بعد الصهيونية، كانت أقرب إلى تنشئة مسخ شائه منها إلى تطوير مشروع. وجرائم الحرب الإبادية الراهنة، مثل تواطؤ ورثة الإمبريالية والاستعمار في غالبية الديمقراطيات الغربية، شواهد جلية وشاخصة؛ هيهات أن تنفع في حجب همجيتها أيّ… جدران أو أبراج مراقبة.

كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

زر الذهاب إلى الأعلى