مقالات رأي

الزمن القديم الجميل والعشوائيّة الحديثة رشا عمران

 

أدمنُ على متابعة الأفلام المصرية القديمة، أو أفلام “الزمن الجميل” كما يطلق عليه. لدي يومياً ما أسميها فقرة الترفيه في حياتي، حيث أبحث عن فيلم مصري من تلك المرحلة وأشغله وأنا مسترخية تماماً لا أفكر بشيء. وغالباً لا أركّز كثيراً مع الفيلم، لأنني أعرف كل مشهد فيه، ذلك أنني كنت شاهدتُه مرّات من قبل، وقد تستغربون لماذا أتابعه إذا!. تشبه هذه النوعية من الأفلام لي أغنياتٍ أحبّها. أحفظها عن ظهر قلب، لكنني أشغلها دائماً بحثاً عن متعةٍ تصل إلي منها. في الأفلام المصرية القديمة تصل إلي متعة مشابهة، تكمن غالباً في اللهجة المصرية ذات الإيقاع الهادئ التي كانت في أفلام الزمن الجميل، واختفت اليوم من كل ما يتعلق بالفن المصري، سواء في كلمات الأغاني أو في حوارات الدراما التلفزيونية أو في السينما والمسرح.

إيقاع اللهجة المصرية التي تقدّم بها الفنون حالياً سريع جدّاً. يصعب علي كثيراً أحياناً فهم الكلام والحوارات في الدراما والسينما. في الأغاني، غالباً سبب عدم فهمي الكلام أن من يغنّون حالياً معظمهم مؤدّون وليسوا مطربين، لم يتدرّبوا على الغناء الأكاديمي، ولديهم مشكلات ضخمة مع مخارج حروف الكلمات، حيث يبدون كأنهم يدمغونها مع الحرف السابق لها، تاركين لذكاء المستمع مهمّة اكتشاف ما يقولون. إضافة إلى أن الغناء بات لا يحتاج إلى موهبة، فتقنيات الصوت الحديثة المشغّلة بواسطة الذكاء الاصطناعي كفيلة بتحسين نوعية أنكر الأصوات وأكثرها قباحة ونشازاً. ثم يبدو ما يقدّم أنه يستهدف شرائح كبيرة من المجتمعات العربية أصيبت، منذ وقت طويل، بالتلوّث السمعي، بحيث لم تعد قادرة على الاستماع إلى ما يمكن تسميتها الأغنية النظيفة التي كانت تقوم على ثلاث ركائز: صوت مختلف لديه قدرات عالية ولحن جميل بموسيقى تراعي إظهار خامة الصوت وقدراته، وكلمات شعرية جميلة، فصحى أو محكية. لدى الأغنية العربية، منذ عقود، جملة أو جملتان موسيقيتان وأصوات محدودة وكلمات بالغة الركاكة.

وفي الدراما والسينما، حتى في الأعمال النخبوية، نادراً ما يفهم غير المصري الحوار الدائر في المشهد. هناك طريقة في النطق لدى غالبية الممثلين، ومنهم نجوم الصف الأول، تحتاج مشاهداً من نوع خاص ليفهم ما يقال. ورغم أنني أعيش منذ 13 عاماً في القاهرة، إلا أنني، مع ذلك، لا أتمكن من فهم حواراتٍ كثيرة في السينما والدراما التلفزيونية. والغريب أن هذه الطريقة في الكلام لا أسمعُها كثيراً في الحياة خارج الدراما. فأنا أفهم كل كلمة يقولها أصدقائي وجيراني وبواب العمارة وبائعة الخضار ومحصل الكهرباء وعامل النظافة… إلخ. وحدهم من لا أفهم عليهم حقاً الأجيال الشابة من خرّيجي المدارس الدولية. لم أستطع معرفة السبب الذي يجعلهم يتكلمون بسرعة غريبة، مدغمين الأحرف بعضها ببعض، ومستعينين بكثير من تصريفات شاذّة لمفردات إنكليزية، وكأنهم، بهذه الطريقة في النطق، يحاولون التمايز عن باقي أفراد المجتمع، بحيث تشكل لكنتهم تجمّعاً (كومباوندا) لغوياً يضاف إلى التجمّعات السكنية المنعزلة التي يعيشون فيها.

يتغيّر كل شيء في المجتمع تبعاً للمتغيرات الاقتصادية. هذه نظرية مؤكّدة ومثبتة، والفنون هي العاكس الأول والأهم لهذه المتغيرات. في “الزمن الجميل” كانت التقسيمات الطبقية والاقتصادية واضحة، والطبقة المتوسطة الحامية للمجتمع من الانهيار كانت قائمة وموجودة بقوة، وهو ما كان يظهر في الفنون، في السينما والطرب والموسيقى. كان هناك أيضاً اختلاط بين الطبقات أتاح المجال لامتزاج ثقافات مجتمعية أنتجت موسيقى عبقرية مزجت الشعبي بالكلاسيك الشرقي والغربي، وأنتجت سينما تراعي طبقات المجتمع كافة، ولديها رسالة تتناسب مع تلك المرحلة من الزمن. لاحقاً، لم ينتج الانفتاح الاقتصادي، وما تلاه من الانهيارات الاقتصادية المتلاحقة والمتراكمة، سوى ما يشبهه: فنون بهويات مشوّشة لا ملامح واضحة لها وبأداءات ركيكة يقدّمها أنصاف موهوبين أو عديمو موهبة في كل مجالات الفن، الانهيارات الاقتصادية أنتجت متغيّرات مذهلة في المجتمع. كان الأكثر وضوحاً فيها ظاهرة العشوائيات التي تمكّنت ثقافتها من غزو المجتمع المصري والعربي بقوة وسرعة، بحيث أصبحت “العشوائية” في الفن هوية المرحلة التي نعيش فيها.

 

زر الذهاب إلى الأعلى