سياسة

السياسة العدائية التي ينتهجها ترامب تتحدّى أجندته “أميركا أولا” د. ألون بن مئير *

أميركا أولا" لا يمكن أن تعمل إلاّ عندما تحظى بالاحترام، وليس بالخوف، ويجب أن تكون أميركا نشطة دوليا حتى يكون لها دور لائق.

ترامب يفتح على نفسه أبواب الأزمات

 

السياسة العدائية التي ينتهجها ترامب تتحدّى أجندته “أميركا أولا” د. ألون بن مئير *

أميركا أولا” لا يمكن أن تعمل إلاّ عندما تحظى بالاحترام، وليس بالخوف، ويجب أن تكون أميركا نشطة دوليا حتى يكون لها دور لائق.

 

في أقل من ثلاثة أسابيع من توليه منصبه، أصدر الرئيس الأميركي دونالد ترامب عشرات الأوامر التنفيذية المتهورة التي من شأنها أن تقوض بشكل خطير أجندته “أميركا أوّلا” والزعامة العالمية لأميركا بدلا من تعزيزها.

لقد توقّع الملايين من الأميركيين أن يتصرف ترامب بشكل شاذّ بمجرد عودته إلى الرئاسة، لكن عددا أقل كثيرا توقعوا منه أن يصدر عشرات الأوامر التنفيذية المتهورة والمدمرة بهذه السرعة.

إن سحب الولايات المتحدة من العديد من وكالات الأمم المتحدة هو أحد أكثر الخطط فظاعة والتي من شأنها أن تقوّض بشدة أجندته “أميركا أولا” بدلا من خدمة مصالحها على المستوى العالمي والمحلي. ومن الصعب أن نتخيّل ما سيحدث لأميركا في غضون عام أو عامين إذا لم يستيقظ الجمهوريون في الكونجرس ويمنعوه من متابعة هذه الأجندة الخطيرة. إنهم لا يستطيعون وضع أميركا في المقام الأول إلاّ من خلال الحفاظ على المشاركة العالمية وممارسة الزعامة وإبداء الرأي على الطاولة بدلا من التخلي عن دورها ومسؤوليتها لروسيا والصين اللتين ستستغلان كلّ فرصة لتقويض المصلحة الوطنية لأميركا.

ولكن ما يفشل ترامب في إدراكه هو أن الأمم المتحدة، على الرغم من بيروقراطيتها المتضخمة وفشل بعض وكالاتها في التكيّف مع الظروف العالمية المتغيّرة، لا تزال تلعب دورا حاسما في الشؤون الدولية، حيث تولت الولايات المتحدة زمام المبادرة واستفادت منها بشكل مباشر. ويجتمع رؤساء الدول في الأمم المتحدة مرة واحدة في السنة ويتبادلون وجهات النظر، وهو ما يؤدي غالبا إلى تقليل التوتر بين مختلف البلدان

وعلاوة على ذلك، يبدو أن ترامب ومستشاريه الجاهلين يتجاهلون أهمية الأمم المتحدة باعتبارها المنظمة الدولية الوحيدة التي تسعى، من بين أمور أخرى، إلى الحفاظ على السلام والأمن الدوليين وحماية حقوق الإنسان وتعزيز التعاون الدولي وتوفير المساعدات الإنسانية التي تشتد الحاجة إليها.

والواقع أن الأمم المتحدة تظل لا غنى عنها على الرغم من أوجه القصور التي تعاني منها في مجالات مختلفة. ويتعيّن على ترامب “المصلح”، أن يساعد في إصلاح أوجه القصور التي تعاني منها وكالات مختلفة، ليس من خلال وقف تمويل عملها الأساسي، بل من خلال تولي زمام المبادرة والعمل مع بلدان أخرى لجعل هذه الوكالات كفؤة وفعالة. وهذا بالتأكيد في مصلحة الولايات المتحدة ويكمّل أجندته “أميركا أولا”.

إن العديد من وكالات الأمم المتحدة مستهدفة بسحب التمويل لأن ترامب يتهمها على نطاق واسع بالفساد وإهدار الموارد. ومرة أخرى، من غير الممكن تفسير كيف يتم استهداف هذه الوكالات، بغض النظر عن أوجه القصور فيها، بسحب التمويل عندما تقدم خدمات أساسية يحتاجها المجتمع الدولي.

تعمل منظمة الصحة العالمية (WHO) التي تأسست عام 1948 على حماية الصحة العالمية. ومن بين العديد من وظائفها المهمة للغاية تتوقّع منظمة الصحة العالمية وتستجيب لحالات الطوارئ الصحية العالمية، بما في ذلك الأوبئة العالمية مثل كورونا (كوفيد – 19). كما تعمل على القضاء على الأمراض المعدية، بعد القضاء على الجدري في عام 1980. وعلاوة على ذلك، تضع المنظمة معايير صحية دولية وتراقب اتجاهات الصحة العالمية من خلال البحث وجمع البيانات لتوجيه السياسة الصحية القائمة على الأدلة.

كيف يمكن بحقّ السماء أن يخدم سحب التمويل منها فكرة “أميركا أولا” إذا لم يكن للولايات المتحدة أي رأي في تشغيلها ؟ الأمراض لا تبقى محصورة بشكل أنيق داخل الحدود وترك أكبر هيئة صحية عامة تعاونية في العالم سيجعل الولايات المتحدة آخر من يعرف متى تنتشر الأوبئة القاتلة.

إن مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة هو هيئة حكومية دولية مسؤولة عن تعزيز وحماية حقوق الإنسان العالمية. انسحبت الولايات المتحدة منه في يونيو 2018 في عهد ترامب لكنها أعلنت عن إعادة مشاركتها في عام 2021 في عهد بايدن. كانت للولايات المتحدة علاقة معقدة مع هذه الهيئة في عهد رؤساء مختلفين، ويرجع ذلك أساسا إلى اتهامات الولايات المتحدة بأن الهيئة كانت ولا تزال معادية لإسرائيل.

بالإضافة إلى ذلك، ترتكب بعض الدول الأعضاء في هذه الوكالة انتهاكات لحقوق الإنسان في بلدانها، مما يقوّض مصداقيتها كوصيّ على حقوق الإنسان. مرة أخرى، حقوق الإنسان مقدسة؛ وأيّ مساهمة في حمايتها مطلوبة. وينبغي على الولايات المتحدة، التي دافعت عن حقوق الإنسان، أن تكون دائما في المقدمة وأن تعالج ما هو خطأ في هذه الوكالة المهمة بدلا من وقف تمويلها والسماح للصين وروسيا بالتأثير على تركيزها واتجاهها.

منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) هي وكالة أخرى يريد ترامب معاقبتها. تسعى هذه الوكالة التي لا غنى عنها إلى إحلال السلام من خلال التعاون الدولي في التعليم والعلوم والثقافة وحماية التراث المادي وغير المادي للعالم. هنا مرة أخرى، انسحبت الولايات المتحدة من اليونسكو في عهد ترامب في عام 2019، مشيرة في المقام الأول إلى تحيّز المنظمة المزعوم ضد إسرائيل ولكن أيضا بسبب المتأخرات المتزايدة والحاجة إلى إصلاحات جوهرية.

أعادت الولايات المتحدة الانضمام إلى اليونسكو في عام 2023 في عهد بايدن لأنه أدرك أهميتها، الأمر الذي عوّض عن أوجه القصور فيها. إن انسحاب ترامب من هذه الوكالة لا يخدم أجندته “أميركا أولا”، خاصة عندما يتم تجاهل مخاوف الولايات المتحدة ومصالحها ولم يعد يتم البحث عن مساهمتها.

تقدم وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى (الأونروا) المساعدة والحماية للاجئين الفلسطينيين المسجلين في جميع أنحاء الشرق الأوسط. خفّض ترامب التمويل في عام 2018؛ وبايدن أعاد العمل بالوكالة في عام 2021، لكن الكونغرس أقرّ حظرا لمدة عام واحد على تمويل الأونروا حتى 25 مارس 2025. لا شك أن هذه المنظمة التي يبلغ عمرها ثمانية عقود تقريبا تعاني من البيروقراطية وتفتقر إلى الكفاءة، وقد أدين عدد قليل من العاملين بها في غزة بمساعدة حماس في هجومها على إسرائيل. ومع ذلك، لا تزال تقدّم خدمات أساسية تعتبر في الوقت الحاضر أكثر احتياجا من أيّ وقت مضى.

أجل، إعادة تنظيم وتبسيط عملياتها بشكل كبير أمر ضروري للغاية، ولكن لا يمكن إصلاح ذلك دون مشاركة مباشرة من الولايات المتحدة. فمن خلال التخلي عن الأونروا تتخلى الولايات المتحدة عن دورها القيادي في إيجاد حل للصراع الإسرائيلي – الفلسطيني. والواقع أن العديد من المشاركين في العملية قالوا صراحة إن الزعامة الأميركية مطلوبة أكثر من أيّ وقت مضى، وبوجه خاصّ الآن بعد استمرار اشتعال الحرب في غزة وأصبح اللاجئون الفلسطينيون في وضع مزر.

الواقع أن اتفاق باريس، الذي تم تبنيه في ديسمبر 2015، يهدف إلى الحد ّمن ارتفاع درجات الحرارة العالمية إلى 1.5 درجة مئوية فوق مستويات ما قبل الحقبة الصناعية. ويُطلب من البلدان المتقدمة تقديم المساعدة المالية للدول الأقلّ نموّا لتحقيق أهداف المناخ. لقد انسحب ترامب من اتفاق باريس في ولايته الأولى ويفعل ذلك مرة أخرى. والاعتقاد السائد لدى أغلب الجمهوريين بأن تغيّر المناخ غير موجود، على الرغم من الأدلة الساحقة، وهو أمر لا يعدو أكثر من مهزلة.

ولكن دع الأمر للجهلاء المتعمدين لتجاهل العواصف غير المسبوقة والأعاصير والحرائق وارتفاع مستويات سطح البحر ودرجات الحرارة لأنهم يرفضون رؤية الواقع. ولكن من المؤسف أن الانسحاب من اتفاق باريس مرتبط أيضا برغبة ترامب في توسيع إنتاج الوقود الأحفوري في الولايات المتحدة، وهو ما يخلف تأثيرا بيئيا سلبيا كبيرا على الولايات المتحدة بقدر ما يخلّفه على البلدان الأخرى، إن لم يكن أكثر.

ومن المؤسف أنه مع دخول إدارة ترامب الجديدة ولاية ثانية، لا ترى الأمم المتحدة بأن البيت الأبيض معاد لها بشكل استثنائي فحسب، بل إن العديد من أصدقاء وحلفاء الولايات المتحدة يشعرون بالحيرة والقلق الشديد بشأن ما قد يفعله الرئيس الأميركي بعد ذلك. إنهم يخشون ألا يأتي أيّ خير من إدارة ترامب هذه، ويستعدون للأسوأ.

يتعيّن على ترامب أن يتذكر أن “أميركا أولا” لا يمكن أن تعمل إلاّ عندما تحظى بالاحترام، وليس بالخوف، ويجب أن تكون أميركا نشطة على الساحة الدولية من أجل أن يكون لها دور لائق بها بدلا من تهميشها والسماح لدول أخرى، مثل روسيا والصين، بسدّ الفجوة. هذا من شأنه أن يجعلها “أميركا أخيرا ” وليس “أوّلا”.

 

د. ألون بن مئير

  • اكاديمي وكاتب امريكي
زر الذهاب إلى الأعلى