مقالات رأي

العلاقات الإيرانية ــ الأمريكية:  ما بعد غزة ولبنان صبحي حديدي

العلاقات الأمريكية – الإيرانية، في معادلاتها التي تكرست خلال عقود ما بعد إسقاط الشاه وانتصار الثورة الإسلامية سنة 1979، ليست على هوامش حرب الإبادة الإسرائيلية الراهنة ضدّ قطاع غزّة والعدوان على لبنان الجنوب والضاحية والشمال، وليست أيضاً مجرّد “ضرر جانبي” يُلحق المزيد من الأذى بعلاقات واشنطن مع طهران؛ بل هي في قلب التأزّم والصراع، مترسخة في ذرى المستويات الراهنة من احتمالات التصعيد الأعلى والمواجهة المباشرة..
للمرء أن يجادل، اتفاقاً أو اختلافاً أو حتى تثمين قيمة أو تبخيسها، بصدد التقديرات الأبعد للولي الفقيه علي خامنئي من وراء الإصرار على تعبئة سلّة النفوذ الإقليمي الإيرانية بأغراض شتى، تكتيكية سياسية ومكسبية تارة أو ستراتيجية وعقائدية غالباً؛ وأياً كانت مقادير إسناد طهران للأذرع الإيرانية في المنطقة، على امتداد لبنان والعراق واليمن وسوريا؛ أو مقادير التواني عن الدعم، أو استبداله بحوار الصفقات المتبادلة مع واشنطن وتل أبيب والاتحاد الأوروبي، في ملفات أعلى أولوية لدى طهران، وأشدّ إلحاحاً وضغطاً على الداخل الشعبي والمحلي الإيراني.
وليس للمرء ذاته أن يمتلك، في المقابل، رفاه إغماض الأعين عن أقنية عديدة متنوعة المسارب والمواقع، بين واشنطن وطهران حول ما هو أبعد من الراهن التكتيكي، أي ما بعد بعد قواعد الإشراف على، أو تسيير وتوجيه، “حزب الله” أو “أنصار الله” أو “الحشد الشعبي” أو “حماس”؛ نحو الدرجات الفعلية، الملموسة والنفعية والذرائعية وذات الصلة الوثيقة بمسمّى “الريالبوليتيك”، حيث ملفات البرامج النووية والصاروخية والعقوبات الاقتصادية الخانقة والدأب الإسرائيلي على كسر ما يمكن كسره من شوكة طهران في المنطقة.
في وجهة أخرى من المسألة الشائكة هذه، يصحّ عدم الفصل بين تطوّر راهن ومتواصل وحمّال عواقب ومفاعيل، مثل الإبادة الإسرائيلية في قطاع غزّة وحروب دولة الاحتلال على أذرع إيران في لبنان واليمن وسوريا، من جهة أولى؛ وتنازل الولي الفقيه، غير البعيد عن التكتيك والرضوخ في آن معاً، لقبول ترشيح رئيس إيراني جديد إصلاحيّ الشخصية والتوجّه، وترتيب فوزه في الانتخابات على حساب الجناح المتشدد، من جهة ثانية. ثمة هنا روابط لا تخفى، حتى إذا بُذلت محاولات، بلهاء أو تكاد، للتعمية عليها أو استبعادها أو نفيها؛ وعلى رأسها آفاق تحرّك الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان وفريقه السياسي والدبلوماسي والاقتصادي والتكنوقراطي (ولكن ليس العسكري أو الأمني، وقيادات “الحرس الثوري” خاصة)، نحو تعدل أو تحسين أو تخفيف حدّة العلاقات الإيرانية مع الخارج الإقليمي عموماً، والغرب والولايات المتحدة خصوصا.

ولقد مضى زمن، لم تنقرض سياقاته الفعلية تماماً، شهد هذا التصريح التالي، من الرئيس الإيراني الأسبق محمد خاتمي: “الحضارة الأمريكية جديرة بالاحترام. وحين نثمّن جذور هذه الحضارة، فإن مغزاها يصبح واضحاً أكثر. هنالك في بليموث، ماساشوستس، صخرة يحترمها كلّ الأمريكيين، ويبجّلونها. إن سرّ الحضارة الأمريكية يكمن في هذه الصخرة. ففي مطلع القرن السابع عشر رسا على هذه الصخرة 125 من الرجال والنساء والأطفال الذين غادروا إنكلترا بحثاً عن أرض بكر يقيمون عليها حضارة متفوّقة. والسبب في احترام الأمريكيين لهذه الصخرة هو أنها كانت أوّل يابسة رسي عليها الحجاج البيوريتان”.
يومذاك، مطلع العام 1998، كان خاتمي في السنة الثانية من ولايته الرئاسية الأولى، يقود فريقاً إصلاحياً واعداً ومبشّراً بالكثير؛ وكان يتحدّث إلى فضائية الـ CNN دون سواها، تحاوره مواطنته/ ابنة بلده كريستيان أمانبور التي كانت آنذاك مراسلة ميدان بارزة ونجمة ساطعة. ومن حيث المبدأ، كان ذلك الحوار الأوّل من حيث النوع والمحتوى والمستوى منذ انتصار الثورة في إيران، ومن خلاله سعى خاتمي إلى توجيه أكثر من رسالة سياسية ــ عقائدية إلى الداخل (حيث ترقى الفحوى إلى مستوى العلاج بالصدمة)؛ قبل العالم والغرب والولايات المتحدة (حيث لا رسائل مبطنة بسبب وضوح العبارة مثل اتضاح سياقاتها ودوافعها).
وكان خاتمي أشدّ ذكاءً وحصافة من أن يصرف نصف ساعة في مديح “الأمّة الأمريكية العظيمة”، ودقائق معدودات فقط في ملامة القيادات الأمريكية؛ ثمّ يعتبر هذه الحصيلة رسالة “اعتدال” هادفة إلى فتح صفحة جديدة في العلاقات الإيرانية ــ الأمريكية، خصوصاً وأنّ السطور الأولى في تلك الصفحة لن تكتبها مبادرة دبلوماسية من أيّ نوع (معلنة أو خفية، فالأمر سيان)، بل يدشّنها “أساتذة الجامعات والكتّاب والعلماء والفنانون والصحافيون والسيّاح” كما اقترح خاتمي.
اعتدال خاتمي، بصدد تخفيف الاحتقان في العلاقات بين واشنطن وطهران، تحطم سريعاً على كتلة صلبة أخرى غير الصخرة البيوريتانية صانعة خرافات الحلم الأمريكي؛ إذْ كان مبدأ “الاحتواء المزدوج” ينتظر بالمرصاد أيّ جهد يتوخى الحوار مع أبرز أعضاء “محور الشرّ” كما شخّصه الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن. وإذْ تولى رجال من أمثال إليوت ابرامز، مساعد وزيرة الخارجية الأمريكية يومذاك، تسويق المفاصل الكبرى المستحدثة (شكلاً، فقط) في نظرية الاحتواء العتيقة؛ فإنّ أيّ مستوى ثانٍ أو ثالث أو عاشر للحوار الحضاري مع إيران إنما ظلّ يمارسه أمثال بطريرك الاستشراق برنارد لويس، الذي قال باستحالة الحوار ثقافياً ودينياً وتاريخياً.
كذلك فإنّ إعادة إنتاج مبدأ الاحتواء اقتضت، لاحقاً، توسيع المفهوم (والبعض يقول العكس: ضغطه واختصاره وتبسيطه!) إلى العقيدة التالية: أيّ حوار مع إيران (معتدلة كانت أم متشددة، خاتمي أم أحمدي نجاد أم رئيسي أم بزشكيان…) ينبغي أن يخلق ديناميات جديدة للمبدأ القديم، لا أن يعطّل ديناميات سابقة ترسخت بفعل تطبيقه على نحو أو آخر. أكثر من ذلك، الحوار الوحيد المفيد مع إيران، من وجهة نظر واشنطن، هو ذاك الذي سيكون على حساب طهران وخدمة المصالح الأمريكية وتجميد البرامج النووية والصاروخية، والإبقاء على قواعد اشتباك منضبطة وتحت السيطرة بين دولة الاحتلال وأذرع إيران وميليشياتها.
وكان حسن نصر الله، الأمين العام السابق لـ”حزب الله”، قد اشتُهر بعبارة “ما بعد بعد حيفا”، التي جاءت في خطبة تموز (يوليو) 2006، وباتت شائعة الاستخدام في توصيف الملابسات الأبعد من بعيد مرئي، إذا جاز التأويل هكذا. مشروع بالتالي استعادة ذلك التعبير في التشخيص، النسبي الجزئي أو حتى الكامل المتكامل، للمستوى الراهن من التفاوض (المقايضة، كما قد يساجل البعض) حول فتح وإعادة تقييم ملفات العلاقات الإيرانية ــ الأمريكية.
واليوم، في غمار أحدث قرارات الرئيس الأمريكي جو بايدن، حول تعديل الموقف العسكري الأمريكي في الشرق الأوسط بما يدعم “الالتزام بأمن إسرائيل من التهديدات الإيرانية”، ليست مفرطة في التشاؤم تلك الخلاصة التي تقول إنّ قاعدة البيت الأبيض بصدد العلاقة مع طهران تسير هكذا: لا فائدة، أيها السادة، لكم دينكم ولنا ديننا. وبالأحرى: لكم صخرتكم (في القدس أو في قم أو في أمّ القرى، أو أينما شئتم)، ولنا صخرتنا في بليموث؛ وأن تمتدحوا صخرتنا أمر جميل، ولكنه لا يُلزمنا بامتداح أيّ من صخوركم!
ولعلّ المحتوى الأذكي في رسالة خاتمي كان ذاك الموجّه إلى الإيرانيين أنفسهم، عن طريق الأمريكيين: “المقاربة الأنغلو ــ أمريكية للديانة نهضت على مبدأ أنّ الديانة والحرية منسجمان ومتطابقان. وأعتقد أن بحث الإنسانية عن السعادة يستوجب الجمع بين الروحانية الدينية وفضائل الحرّية”.
وذاك محتوى يُستحسن تحويله، اليوم، إلى بزشكيان؛ وإلى كلّ الأنظمة والفصائل والميليشيات التي تضع الديانة فوق الدنيا، والفتوى… ما بعد السياسة.

* كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

 

 

زر الذهاب إلى الأعلى