الفعل الثقافي ضامن للسلم الأهلي رشا عمران

عند خروج مجموعة من أصدقائنا من المعتقل، في سورية في عام 2011، إثر مظاهرة عرفت يومها بمظاهرة المثقّفين، كنّا في انتظارهم عند باب المحكمة، وكانت هناك مجموعة من شبيحة النظام البائد يحملون عُصيّاً في أيديهم استعداداً للضرب. كانت تقودهم يومها سيّدة لم تتوقّف عن السبّ والشتائم والزعيق. أتذكر أن من بين ما قالته في شتائمها جملة أراها تعبّر تماماً عن نظرة النظام البائد للمثقّفين: “هلق انتو يا شويّة… لولا بشّار الأسد كنتو بتعرفوا شوي يعني ثقافة؟!”. عند تلك السيدة (الشبّيحة) كانت الثقافة تعني الولاء لبشّار الأسد، من غير ذلك الولاء المثقّفون ليسوا سوى مجموعة من الـ”…”، أراد بشّار الأسد أن يعلّمهم الثقافةَ، لكنّهم عضّوا يده.
طوال حكم الأسديْن، عُومِل المثقّفون بوصفهم سقط متاع، لا يقدّمون ولا يؤخّرون، وأُقصي منهم من لم ينضو تحت إطار مؤسّسات البعث. تعزّز هذا أكثر في زمن بشّار الأسد الذي اعتبر أنه استطاع وضع يده على المثقّفين حين سيطرت بطانته على شركات الإنتاج التلفزيوني، وقرّبت العاملين في هذا القطاع وصدّرتهم بوصفهم النخبة الثقافية لسورية، أمّا آلاف المثقّفين الآخرين من كتّاب ومفكّرين ومترجمين وسياسيين، خصوصاً المستقلّين منهم، فكانوا يعاملون إمّا باستخفاف وعدم اكتراث، وإمّا بوصفهم مجموعات غير مرضيٍّ عنها، ومتآمرةً تريد تقويض أركان السلطة. ولتعزيز هذه النظرة في المجتمع أُنشِئت بروباغاندا لا يستهان بها، تزعّمتها المؤسّسات الثقافية لدى النظام، ولا سيّما اتحاد الكتاب العرب، الذي كان سيف النظام الأول في إقصاء كلّ من يخرج عن الإطار المحدّد للمثقّف، أو لكلّ صوت يعترض على أيّ سلوك سلطوي، والمدهش أن تلك الأصوات كلّها، كانت تصنّف تحت اسم المجتمع المدني، الذي كان محظوراً في سورية، وتطلق صفة خائن وعميل على من ينتسب إليه. هكذا ضاعت أصوات المثقّفين الحقيقيين في سورية، في زحمة أصوات أبواق النظام من جهة، وفي التركيز الكامل في الوسط الفنّي، بوصفه صورةَ الثقافة السورية، من جهة أخرى.
لم يتغيّر الأمر (للأسف!) بعد الثورة، مع أن الغالبية العظمى من المثقّفين الذين كانوا سقط متاع لدى النظام وقفوا مع الثورة منذ لحظتها الأولى، ساندوها بمواقفهم وكتاباتهم وأصواتهم في المنابر الثقافية في العالم، وكان يمكن للمثقّفين أن يكونوا صِمَام أمان الثورة والمجتمع، لولا أن المجتمع السوري، ومنه المجتمع الثوري، كان متلبّساً للفهم الأسدي للثقافة ودورها، فأُقصيَت الأصوات المثقّفة في الثورة، تلك الأصوات التي كانت تنادي بنبذ ما يُضعف الهُويَّة السورية ويُقصيها، لكن التطوّرات التي طرأت على مسارات الثورة جعلت من الشعبوية حالةً ثورية انجرّت إليها مجموعات لا يستهان بها من المثقّفين السوريين، الذين انزاحوا نحو الخطاب الشعبوي ذي المظلومية المذهبية، وعزّزته وسائل التواصل الاجتماعي، التي لعبت دوراً كبيراً في إقصاء المثقّف الوطني السوري لصالح مثقّف فئوي، ساهم في ترسيخ الخراب المجتمعي.
اليوم، ما تحتاج إليه سورية في ظلّ الاستقطاب المذهبي والقومي الحاصل، هو عودة صوت المثقّف الوطني، الذي يشكّل ضمانةً حقيقيةً للسلم الأهلي والمجتمعي. ولم نسمع (للأسف!)، خلال الشهرين الماضيين، في كلّ خطاب السلطة الحالية أيّ كلمة تخصّ الثقافة أو العمل الثقافي السوري، وكأنّ الثقافة هي أيضاً سقط متاع عند حكام سورية الجدد، الذين يتكلّمون عن السلم الأهلي، من دون وضع خطّة عمل لتحقيقه هذا السلم، فما يُعتمَد حتى اللحظة يتمّ بذهنية عسكرية استخدمها نظام الأسد، وأوصلت البلاد الهاوية. ما تحتاج إليه سورية اليوم هو فعل ثقافي يومي، وفعل مدني يومي. ما تحتاج إليه هو وضع سياسة ثقافية تساهم في تنشيط المجتمع وأخذه من حالة الاستقطاب نحو المواطنة. وبالتأكيد، أنّ السنوات السابقة أفرزت عدداً كبيراً من نشطاء العمل الثقافي والمدني في الداخل والخارج، لكن هؤلاء يحتاجون إلى حاضنة مجتمعية وحاضنة أمنية، تكفل حمايتهم في الظرف الحالي، وهذه مسؤولية الحكومة الجديدة، التي ينبغي لها تجاوز أخطاء النظام السابق في التعامل مع المثقّفين، إن كانت معنيةً (كما تقول) في بناء سورية شاملة، يؤسّس لها سلم أهلي مستدام.