المحاسبة والعدالة الانتقالية… ووقائع الساحل السوري عمار ديوب
خيار الإدارة السورية الوحيد، وعدا المحاسبة وتطبيق العدالة الانتقالية، الإسراع بالإعلان الدستوري وتشكيل حكومة وطنية

حدثت الجرائم في الساحل السوري، لأن قيادة الجيش وقوى الأمن العام والاستخبارات
لم تفرض سياستها بشكل كامل ودقيق على الفصائل المنضوية ضمنها
زال النظام القديم في سورية، ولكنّ النظام الجديد لم يبنِ دولةً بعد، وما حدث في مدن الساحل السوري يومي الجمعة والسبت الماضيين يأتي في إطار عمل بقايا النظام القديم على تخريب الجديد، وأملاً في سيناريوهات عدّة، إمّا فرض حكم ذاتي خاصّ بالساحل، أو عقد صفقة مع الإدارة للوصول إلى عفو عام عن كبار مجرمي النظام القديم، أو استدعاء تدخّل خارجي لإسقاط النظام. … لم تلقَ القوة التي قتلت 15 من قوات الأمن العام، ولاحقاً أكثر من مائة في المعارك، وحاولت السيطرة على مدن الساحل، تأييداً من السكّان، وهم سنّة وعلويون ومسيحيون وتركمان وسواهم. وقد جعل عدم التأييد هذا مسألة إخماد التمرّد تنتهي خلال يومين، وعاد بقايا النظام إلى مخابئهم في الجبال العالية. …هل كان التمرّد مدعوماً من دول خارجية؟ هناك تكهّنات كثيرة، ولكن سرعة حسم التمرّد تشير إلى ضعف هذا السيناريو.
هناك إجماع لدى أهل الساحل، ولدى أغلبية السوريين، على رفض أيّ تمرّدات من بقايا النظام على الإدارة الجديدة، وهناك رفض واسع لأيّ تدخّلات إقليمية أو دولية لتخريب الفترة الانتقالية التي تمرّ فيها سورية التي لم تتعافَ بعد، وبالكاد بدأت النهوض. تزيد سياسات الإدارة الجديدة الخاطئة من عدم التعافي وتعوق النهوض. هناك مشكلة كبرى للسوريين مع تلك السياسات، يتكثّف نقدها في أنها استئثارية، وتتفرّد بالحكم، وتتجاهل الأسس الوطنية في بناء الجيش وتسيير شؤون الدولة وإعادة بناء مؤسّسات الدولة، ويغلب عليها الطابع الإسلامي السلفي، وليس المدني، وترفض إشراك بقيّة السوريين، بدءاً بالسُّنة.
حدثت انتهاكات وجرائم حرب واسعة في مدن الساحل. حدث قتلٌ على الهُويَّة الطائفية العلوية، وتردد أن عدد الذين قتلوا 300 شخص، ولم تتكشّف الأعداد النهائية بعد. حدثت سرقات وعمليات نهب وإهانات طائفية وإذلال طائفي، وأُجبر بعض الناس على تقليد أصوات الحيوانات. خرج الرئيس الانتقالي، أحمد الشرع، بخطاب إلى الشعب، وأشار إلى كثير ممّا جرى، لكنّه لم يُحدّد بدقّة من ارتكب المجازر والانتهاكات وسيحال على المحاكم ويحاسب. هناك سوابق كثيرة في الانتهاكات والقتل، سيّما في حمص، من دون أن يحال مرتكبوها على محاكم. ولهذا، أولى الخطوات للثقة بالرئيس وبالدولة الجديدة هي المحاسبة، والرفض الحاسم للانتهاكات، والبدء بتطبيق إجراءات العدالة الانتقالية، التي تأجلّت كثيراً.
كان الخلاف الجوهري مع نظام التوحّش السابق حول غياب الفصل بين السلطات وسيطرة الأجهزة الأمنية على الدولة وغياب النظام الديمقراطي، وحول التمييز بين المواطنين والفساد. وبعد الثورة، في رفض منهجية المحاسبة لقادة الأفرع الأمنية والعسكرية، التي تفنّنت بأشكال التعذيب والقتل والإجرام، وكانت بإشراف كاملٍ من بشّار الأسد وأخيه ماهر، وكبار القادة الأمنيين والعسكريين. قادت تلك الممارسات إلى عزلة السلطة وإدانتها دولياً، وعزلتها عربياً، وفي النهاية رحيل النظام. يجمع معظم الدستوريين والقوى السياسية والمثقّفون السوريون على ضرورة تطبيق العدالة الانتقالية، وعلى أن التأخّر فيها أدّى (ويؤدّي) إلى العدالة الانتقامية، وما جرى في الساحل من جرائم وقتل طائفي إنما بسبب التأخّر في تطبيق العدالة. لم يتطرّق خطاب الشرع أخيراً إلى هذا الموضوع الدقيق، ولم يتطرّق إلى المسائل التي أصبحت في حكم الضرورة اليومية، فقد شُكّلت اللجنة المُكلّفة تقديم مقترح للإعلان الدستوري، ولكن ليس هناك من وقت لإعلانه من الرئيس، وكان هناك وعد بحكومة انتقالية وطنية في مطلع مارس/ آذار الحالي (2025)، ممثّلة للسوريين كافّة، وتراجع الحديث عنها. التأخّر في المسائل سابقة الذكر يُبقي كامل السلطات بيد الإدارة الحالية التي أصبحت سياساتها محطّ انتقادات واسعة داخلياً وخارجياً، وبدأت بالتشدّد بعد المجازر التي حدثت في الساحل.
خيار الإدارة الوحيد لتتجنّب العقبات الداخلية والخارجية كافّة، وعدا المحاسبة وتطبيق العدالة الانتقالية، الإسراع بالإعلان الدستوري وتشكيل حكومة وطنية بالفعل، وإشراك الشعب في مختلف مؤسّسات الدولة، من أصغرها إلى أكبرها، والكفّ عن عدم الثقة بالشعب، فمن هذه الثقة تتشكّل الثقة بالدولة الجديدة، والعكس صحيح، فهما متلازمان، ومن دون ذلك سورية معرّضة لمختلف أشكال التفكّك والانقسام، بل الحرب الأهلية والتدخّلات الخارجية.
أوجدت الجرائم في الساحل نوعاً من التفكّك المجتمعي الواسع. أخافا، حجم الجرائم ونوعيتها، سوريين كثيرين بأن يكون المستقبل كالماضي، وأن تشهد سورية نظاماً مستبدّاً، تُجيد قيادته الكلام المعسول، بينما تغمض العين عن انتهاكاتٍ تابعة لقوى الأمن والجيش. … نعم سورية في مرحلة انتقالية، ولم يتشكّل الجيش بشكلٍ وطني ومهني واحترافي بعد. هناك سبب مركزي في ذلك، أن من كُلّف مسؤولية ذلك ليس عسكرياً، هم من قادة الفصائل الذين قاتلوا النظام، ولم يُستدعَ كبار الضبّاط الذين انشقوا عن النظام ليتسلّموا مهمّة التشكيل هذه. حدثت تلك الجرائم، لأن قيادة الجيش وقوى الأمن العام والاستخبارات لم تفرض سياستها بشكل كامل ودقيق على الفصائل المنضوية ضمن الجيش وجهاز الأمن العام. هناك فصائل ومجموعات لم تقم بانتهاكات، بينما أخرى قامت بما ذكرنا منها، وكثير من انتهاكاتها موثّقة ومنشورة، وبدأت التقارير الحقوقية تُضمِّنها، ومن هنا ضرورة المحاسبة والمحاكمة للجناة، وكلّ تأخير سيُعزّز الابتعاد من الإدارة الجديدة، ويفتح الباب واسعاً لفشلها.
لا تَحتمل سورية تجاهل كثير من النقد السابق للإدارة. الأزمات تتراكم وتتعقّد وقد تنفجر، وانفجار بعضها في الساحل قد يكون إنذاراً للإدارة بأن هناك ما هو أسوأ؛ الأزمة المعيشية التي تتفاقم يومياً، كتأخّر إصلاح الكهرباء وتعثر النهوض بالاقتصاد والتعطيل المستمرّ لمؤسّسات الدولة كلّها. … ما ذُكر أعلاه يتفاعل، وقد يؤدّي إلى الانفجار المجتمعي.
المصدر : (العربي الجديد) لندن