مقالات رأي

المدارس العربية في إسرائيل وذكرى السابع من أكتوبر جواد بولس

 

مع حلول الذكرى الأولى لأحداث السابع من أكتوبر، وزعت وزارة التعليم الإسرائيلية منشورا رسميا على جميع المدارس، وبضمنها المدارس في المدن والقرى العربية، أعلنت فيه ضرورة الاحتفال وتحويل المناسبة إلى «يوم قومي للذكرى» وذلك وفق قرار حكومي خاص، شمل جميع المؤسسات التعليمية والأوساط السكانية. لا يعرف الكثيرون من مديري المدارس والمعلمين من العرب كيف يتعاملون مع ما أنزل عليهم، ولا كيف يواجهون الحدث، أو كيف ينفذون ما جاء في المنشور؛ خاصة بعد أن أكدّت مقدمته على أن «إسرائيل تتذكر وتحتفي بأحداث مفصلية، ساهمت بتحديد هويتها، سواء كانت تلك لحظات عظيمة في تاريخها، أو مصائب ألمّت بها خلال السنين، وتحوّلت كلّها إلى أيام ذكرى بارزة في التقويم العبري السنوي.
احتفال جهاز التعليم بهذه المناسبات يحول الإرث التاريخي والثقافي والقومي إلى جزء من الهوية الشخصية لجميع مواطني الدولة، وإلى عامل مهم بتشكيل هوية الشعب اليهودي القومية في الدولة وفي جميع أرجاء العالم». وبناء على هذا طولبت المدارس باتخاذ الخطوات الكفيلة بتحقيق أهداف الاحتفال، وإدماج خلاصات الحدث، التي فصّلت بشكل مطوّل في المنشور، في حياة الطلاب وتحويلها كجزء من الذاكرة والهوية الجمعيتين للمواطنين.
لفتت نظري هذه القضية لأنها في الواقع تعكس أحد تفاصيل الواقع المعقّد الذي يواجهه المواطنون العرب في إسرائيل، خاصة في هذه الظروف التي لا تخفي فيها الحكومة الاسرائيلية نواياها في ملاحقتهم وامتحان سلوكهم المواطني بشكل يومي، هذا من جهة، ومحاولتها، من جهة ثانية، إتمام عملية «التدجين» ومطالباتهم بتنفيذ ما من شأنه أن يتعارض ومشاعر انتمائهم القومي وضرورة تماهيهم مع قرار أو عملية تستهدف «تشكيل هوية الشعب اليهودي القومية»، وهي ما يطالب بها المنشور المذكور.

تذكرنا هذه الحالة بواقعنا كطلاب في السنوات التي تلت عام 1948، وبالواقع الذي عاشه آباؤنا المعلمون حين طولبوا من قبل وزارة التعليم الإسرائيلية، حديثة العهد في حينه، بأن يقيموا الاحتفالات المناسبة للاحتفال بيوم الاستقلال الإسرائيلي. كان المواطنون العرب الباقون في وطنهم يعيشون تحت أوامر الحكم العسكري الإسرائيلي، وكانت الأجواء مشبعة بمشاعر النكسة، حيث لم يتبقّ من مقوّمات المجتمع العربي المتين ومؤسساته السابقة سوى بقايا نجحت، رغم كل شيء، بالصمود وتضميد الجراح ولملمة الأشلاء والسعي وراء بوصلة حكيمة، مكّنتها في النهاية من إفشال سياسة الحكومات الإسرائيلية التي كانت تهدف إلى تذويب ما تبقى من هوية شعب وتحويل أفراده إلى مجموعات من المحتاجين والعمال عند أصحاب الدولة الجدد وفي خدمتهم. أذكر كيف كانت معظم المدارس، في تلك السنين، في القرى والمدن العربية تُجبَر على الاحتفال بيوم استقلال الدولة، وتتزيّن بالاعلام البيضاء والزرقاء، وتنظف الساحات وتُصفّ الكراسي ويُفتتح الحفل بغناء جوقة من الطلاب وهي تنشد «بعيد استقلال بلادي، غرّد الطير الشادي، عمّت الفرحه البلدان حتى السهل والوادي». لا أدري إذا كانت تعليمات وزارة التعليم تصل في حينها بمناشير رسمية ومنمقة، لكنني أعرف أن ما تمّ كان جزءا من سياسة حكومية رسمية استهدفت ممارسة سلطتها بعنفوان محتل ضد من تجرأوا وبقوا منزرعين في قراهم ومدنهم ولم يرحلوا، وإذلالهم بشكل مبرمج وابتلاعهم «كرخويات» سائغة ومستسلمة. لا أحد يستطيع أن يتكهن كيف سيتعامل مديرو المدارس العرب وطواقم المعلمين مع ما طلب منهم؛ وعندما سألت بعضهم عن الموضوع اتضح أن القضية «لن تخضع لموقف موحّد، بل ستعتمد على كل مدير ومعلم وجيل الطالب المتلقي»، كما أوضح لي أكثر من معلم ومعلمة. ففي بعض المواقع سوف يتجاهلون الموضوع بشكل تام ومتعمّد، لكنه سيبقى في مدارس أخرى مرهونا بشخصية المدير، أو المعلم «وشجاعته أو جبنه»، إذ إنه في النهاية سيحترم الطلاب، خاصة في الصفوف الدنيا، رأي المعلم «وسيتعرضون إلى عملية غسل دماغ قد يعززها الأهل أو يخففونها، إذا كانوا من ذوي مواقف واعية ووطنية»، فالمعلم/ة، في تلك المراحل التدريسية هم «أصحاب سلطة وتأثير تلقيني كبيرين» كما نعرف. قد يظن البعض أننا إزاء قضية هامشية وليست من «قضايا الأمة»، وهي، لذلك، ليست جديرة بالمتابعة ولا بمناقشتها؛ لكنني أراها عكس ذلك، فهي تشكّل أحد مظاهر البلبلة والالتباس الذي تعاني منه مجتمعاتنا في السنوات الأخيرة، ومصدرها يعود إلى حالة التدهور الحاصل داخل مجتمعاتنا، وفقدان دور الحواضن الواقية، التي كان لها الأثر الفاصل في حماية المفاهيم الاجتماعية والسياسية المشكّلة لهوية مجتمعاتنا الوطنية، والساهرة على تنظيم علاقاتها الطبيعية السليمة ضمن معادلة المواطنة المركبة داخل إسرائيل.
لم يتعدّ عدد المواطنين الفلسطينيين الباقين في وطنهم في عام 1948 المئة وخمسين ألفا؛ ورغم قلّة عددهم وما لاقوه من سياسة الاضطهاد القومي وعنصرية حكومات إسرائيل المتعاقبة، نجحوا باستعادة أطرهم السياسية المحلية وبناء مؤسساتهم الاجتماعية وحماية منظوماتهم التعليمية من الانهيار الشامل وتحويلها إلى منابت زرعت بأساليب حكيمة وصابرة، رغم محاولات المؤسسة الإسرائيلية الرسمية، في نفوس الأجيال الجديدة، منظومات من القيم الإنسانية والوطنية السليمة ومشاعر الانتماء الهوياتي الجمعي، حتى صاروا يعرفون في العالم بصنّاع «يوم الأرض» وما كان قبله من وقائع وما تلاه. أمّا اليوم وبعد أن ناهز عدد المواطنين العرب في داخل اسرائيل المليونين، نجدنا نعاني من حالة «سيولة» شاملة تعمّ جميع مرافق حياتنا، ونمضي ونحن على حالة التيه، في وضع نكاد نفقد فيه جميع مكتسبات الأجيال السابقة ونعيش حالات من التمزق الاجتماع الداخلي السرطاني والعدمية السياسية المؤرقة والمخيفة. لقد قرأنا قبل أيام أن وزارة التعليم الإسرائيلية تحاول تمرير مقترح لقانون سيلزم الوزارة بتزويد جهاز المخابرات العامة باسماء جميع المعلمين ومطالبة القيمين عليه بفحص أهلية كل معلم من الناحية الأمنية كشرط لقبوله في سلك التعليم. يعارض جهاز المخابرات الحالي هذا المقترح بينما تصر الحكومة على تشريعه وخلق آلية ملاحقة جديدة يكفلها القانون، ومن سيتولون رئاسة جهاز المخابرات في الحقبة المقبلة. لقد اخبرتني إحدى المعلمات انها طولبت بالحضور للمدرسة يوم الأول من أكتوبر لأن مدرستها قررت ألا تلتزم بقرار الاضراب العام الذي اقرته «لجنة المتابعة العليا» و»اللجنة القطرية لرؤساء السلطات المحلية العربية». اختارت المعلمة أن تشرح لطلابها في هذا اليوم عن مخاطر «قانون القومية» «وقانون كمينتس» وعن أحداث أكتوبر 2000 وكيف أسقطت شرطة إسرائيل ثلاثة عشر شهيدا من بين مواطنيها العرب خلال احتجاجاتهم السلمية على سياسة الحكومة. بعد انتهاء الدوام سُئلت هذه المعلمة عمّا فعلته وتم إبلاغها أن عددا كبيرا من أهالي الطلاب اعترضوا واحتجوا أمام إدارة المدرسة على ما فعلته، مع أن شرحها كان ضمن حديث معلوماتي عادي واعتمد على مصادر ووثائق إسرائيلية وحسب.
معلمونا، ومثلهم قطاعات واسعة من مجتمعاتنا، يواجهون واقعا خطيرا؛ فلا مؤسسات الدولة سترحمهم، ولا قيادات مجتمعهم ومؤسساته جاهزة وقادرة على اسعافهم؛ أمّا الأخطر فيأتيهم من قبل جهات ناشطة بيننا ومن خارجنا تطالبهم بواجب الانضواء كجبهة داخلية في الحرب الدائرة بين الأمّة وعدوّتها إسرائيل.
وبعودة إلى السابع من أكتوبر الماضي والمقبل، فلسوف تتصرف كل مدرسة وفق نوازعها الفئوية ودوافع القيمين عليها، وسيترجمون ما جاء بمنشور وزارة التعليم الإسرائيلية وخلاصات السابع من أكتوبر كل على هواه؛ ولسوف تزداد حالات البلبلة والالتباس، والشعب يراوح في وضع متذبذب وهائج ينذر باحتمالات السقوط على جميع الجبهات والغرق.
فمن يضع البوصلات فوق ساريات سفننا؟
كاتب فلسطيني

 

زر الذهاب إلى الأعلى