الياس خوري: حيث لا تُطفأ شموس صبحي حديدي
شهادتي في الياس خوري (1948 – 2024) يسهل أن تكون مجروحة، مطعوناً بها مبدئياً، عاطفية البواعث، وجدانية التأمل، ثقافية الركائز، سياسية الأبعاد… كان الراحل أكثر من صديق شخصي، وأقرب من زميل في صحيفة «القدس العربي»، وأبعد من ناقد حصيف؛ وكان أدفأ حميمية من رفيق لم يجمعنا حزب سياسي واحد بقدر ما قرّبه منّا، نحن السوريين، انحيازه الأخلاقي العالي والشجاع لانتفاضة الشعب السوري بعد 2011، وقبلها ما سُمّي بـ»ربيع دمشق»، حين فتح خوري صفحات «ملحق النهار الأسبوعي» لحوار أوّل مبكر مع رياض الترك، ولمقالات كثيرة تتناول استبداد آل الأسد.
ولأنها كذلك، وأكثر أيضاً كما يتوجب أن أضيف، فلعلّ الأجدى لهذه السطور أن ترحّل استذكار خوري إلى منطقة أخرى؛ ليست محايدة تماماً ولا وسيطة كذلك، هي شخصية الروائي؛ التي تشرّفت هذه السطور بتناولها في مناسبات مختلفة، وكلما خرج الراحل بعمل روائي فريد لا يستوجب التحليل المتعمق المتأني فقط، بل التثمين الصريح بأعلى ما تملكه الأدوات من قدرة على الإنصاف. ولا تخفي هذه السطور اعتزازاً خاصاً بمادة مطوّلة مسهبة، بعنوان «باب الشمس: الحكاية التاريخية والرواية الفلسطينية الكبرى»، نُشرت في فصلية «الكرمل»، العدد 58، كانون الثاني (يناير) 1999، على امتداد 25 صفحة.
كانت هذه الرواية ذروة نوعية، وتتويجية ربما، في ميل خوري إلى إنهاض العمل الروائي على مبدأ «الحكاية المفتوحة»: تلك التي لا تبدأ تماماً من حيث ينبغي أن تبدأ، ولا تنتهي تماماً حيث يقود التوقّع إلى اكتمال نهاية من نوع ما؛ ولكنها تواصل إعادة إنتاج خلاصاتها الحكائية اعتماداً على إدخال، وإعادة إدخال عناصرها الصغيرة والكبيرة في شبكة متحركة، متغايرة، مفتوحة.
إلياس خوري، صبحي حديدي ،فاروق مردم بك
فقرات الدراسة المنشورة في «الكرمل» رجحت جملة اعتبارات حكمت نزوع خوري إلى هذا الخيار، وشكلت في الآن ذاته إجابات فنّية بارعة على أسئلة كلاسيكية طرحها علم السرد المعاصر، في سعيه إلى رصد سلطة الحكاية. وتلك الاعتبارات صالحة أيضاً، ضمن يقين شخصي بالطبع، لمناقشة خيار الحكاية المفتوحة في رواية خوري «مجمع الأسرار» بصفة محددة، خصوصاً أنّ هذه الرواية، وقبلها «رحلة غاندي الصغير»، 1989؛ و»مملكة الغرباء»، 1993؛ رسمت منعطفاً تقنياً فارقاً، ومن باب الذهاب إلى مقارنة مع روايات خوري الأربع السابقة التي تدور مناخاتها في مدينة كبيرة هي بيروت أو تمثيلاتها.
ولم يكن ثمة عجب بالغ في أنّ «مجمع الأسرار» أرهصت، كثيراً في الواقع، بما سيفعله خوري في «باب الشمس»: توزيع الحكاية الواحدة على معظم أو جميع فصول العمل، واستجماع خيوطها بين حين وآخر دون الوصول بها إلى خاتمة، وتنويع أصوات السرد وزوايا رؤية الواقعة، وتوزيع مشاركة الأطراف في صناعة الحكايات، واعتماد الإرجاء ــ والكثير منه في الواقع ــ قبل إغلاق حبكة ما، فرعية أم مركزية. وليس بغير دلالة شكلية صريحة، لعلها تأخذ أيضاً هيئة المفتاح الأسلوبي إلى العمل، أنّ خوري يبدأ 11 فصلاً، من أصل 16، بعبارة متماثلة واحدة هي «هكذا بدأت الحكاية» أو «بدأت الحكاية هكذا».
والحال أنّ هذا الإيحاء بالبداية لم يكن سوى قناع معلن لنهايات مفتوحة، ضمن سلسلة حكايات مفتوحة؛ وذاك أوّل اللعبة السردية، من دون أن يكون منتهاها تماماً. إذْ يحدث غالباً أن تدير شخصيات الرواية وقائع حكاياتها فتتولّى سردها وعرضها والتعليق عليها؛ ويحدث أيضاً أن يتدخّل ساردٌ ما لينطق بصوت هذه الشخصية أو تلك، دون أن ينحلّ فيها تماماً؛ أو أن يعلّق ساردٌ ثانٍ يزعم الحياد، فيشكك في هذا أو ذاك من خيوط الحكاية؛ أو أن يلعب سارد ثالث دور المراقب «المتطفّل» على الحدث، فيخرج عن السياق لكي ينبهنا مثلاً إلى أنّ ابن سيرين هو مؤلّف كتاب «تفسير الأحلام»، أو أنّ سيّدنا آدم هو أوّل شاعر عربي وليس الملك الضليل امرأ القيس؛ وما إلى ذلك من طرائق تفتيت جسم «الحكاية المفتوحة»، وتوزيعها على أصوات وأطراف وزوايا نظر تعدْدية.
وقد تتعدد دوافع خوري في هذا الولع بتفتيت كتلة الحكاية إلى جسوم كثيرة، لكنّ الأرجح أنها لا تخرج عن مبدأ حاجة البشر إلى الحكايات، والمزيد منها؛ لأنها تتيح اختبار النفس البشرية في تنوّعاتها المعقّدة، والحوارية على قدم المساواة، ضمن هامش خالٍ من المجازفة والأذى، لأنّ ما يُختبَر ليس سوى «نَفْس حكائية» قائمة في مستوى الإمكان والتخييل والحكي في نهاية المطاف، وهي نَفْس ليست «اسم عَلَم» على حدّ تعبير رولان بارت. وامتلاك البشر طاقة هائلة في سرد الحكايات وتبادلها واستقبالها، هو أحد أوجه اجتماعهم واشتراكهم في إنشاء جماعي لعالم منتظم ذي معنى. وعن طريق تداول الحكاية، وتوسيعها إلى حكاية عن الحكاية وكتابة على الكتابة وعنها، ثمة سُبُل لاستكشاف معنى الحياة الإنسانية، أو حتى اختراع ذلك المعنى إذا عزّ اكتشافه.
.. حيث لا تُطفأ شموس، كما للمرء أن يفترض انطلاقاً من مخزون سردي في «باب الشمس» و»مجمع الأسرار»، أو أيّ من ثلاثية «أولاد الغيتو» آخر أعمال الراحل؛ وحيث الحكاية الفلسطينية الكبرى باقية، تنتثر على نفسها ومن نفسها، وفي فضاءات شتى تتوزع.
(القدس العربي) لندن