بعض إشكاليات الجمعيات المهنية ومشكلاتها عبد الحسين شعبان
حين نشرت كتابي “المجتمع المدني – الوجه الآخر للسياسة: نوافذ وألغام” في العام 2008، عاتبني بعض الأصدقاء بأن نقدي لمنظمات المجتمع المدني قد تستفيد منه الحكومات، وقال آخرون أنك أحد أعمدة المجتمع المدني عربيًا، فلماذا تصوّب السهام إليه؟
وكان جوابي أن قيمة أية تجربة بنقدها، وكنت باستمرار، كمثقف، أشعر بحاجة إلى نقد تجربتي السياسية والفكرية والثقافية والحقوقية، وذلك بهدف استشراف آفاق جديدة وتدقيق وتصويب توجهاتها، واستخلاص الدروس والعبر الضرورية منها، انطلاقًا من معيار أساس قوامه “النقد والنقد الذاتي”، لذلك لم أتوان عن إضاءة المظاهر الإيجابية والتوقف عند بعض المظاهر السلبية والنواقص والثغرات التي ترافق إداء إداراتها، والمثالب والعيوب التي تصاحبها على المستويين الموضوعي والذاتي.
لقد لعبت المنظمات المهنية في الأربعينيات والخمسينيات دورًا مهمًا في الدفاع عن الحقوق والحريات، وفي بلورة بعض المطالب الوطنية والمهنية، لاسيّما نقابات المحامين والصحفيين والمعلمين والعمال واتحادات الطلبة والمرأة وغيرها، لكن مثل هذا الدور تراجع كثيرًا بحكم الصراع السياسي، ومحاولات الأحزاب والقوى الهيمنة عليها وحرفها عن مسارها نحو توجهاتها الأيديولوجية الضيقة.
فعلى سبيل المثال لا الحصر، كان الصراع في العراق حادًا وإقصائيًا وإلغائيًا وتهميشيًا، وهو ما سارت عليه جميع القوى والجماعات السياسية دون استثناء، فبعد ثورة 14 تموز / يوليو 1958، احتدمت سوح المعارك، واحتربت القوى مع بعضها، وفاز الشيوعيون بالقدح المعلّا، في حين ظلّ غرماؤهم قعيدي حسرات، بسبب محاولات احتكار العمل لصالحهم، سواءً أكان الأمر بصورة مباشرة أو غير مباشرة، ولذلك انشطرت العديد من المنظمات أو تأسست منظمات موازية للأصل، مثل اتحاد الطلبة والمرأة لاحقًا واتحاد الأدباء والكتاب، وساد نوع من المنافسة المحمومة وغير العقلانية للاستحواذ على المواقع في العديد من النقابات والاتحادات، سواءً في القسم العربي من العراق، ولاسيّما في العاصمة بغداد أو في القسم الكردي من العراق، خصوصًا المنافسة بين الحزب الديمقراطي الكردستاني والحزب الشيوعي العراقي.
وفي الفترة التي أعقبت انقلاب 8 شباط / فبراير 1963، مورس شكل جديد من أشكال احتكار العمل المهني والنقابي لصالح البعثيين دون سواهم، فضلًا عن اعتقال واستشهاد العديد من قادة المنظمات المهنية السابقة، وفصل المئات من منتسبيها من وظائفهم.
وبعد انقلاب 18 تشرين الثاني / نوفمبر من العام ذاته، ولاسيّما بعد تأسيس الاتحاد الاشتراكي العربي (1964) اقتفاءً بالتجربة المصرية الناصرية، انحصرت إدارة المنظمات المهنية بالقوميين وأعضاء الاتحاد الاشتراكي عمليًا وضمن الظروف السائدة، وهكذا أُقصي العديد من إدارات المنظمات المهنية السابقة واعتُقل العديد منهم، ولم يسمح للصوت الآخر بالانتعاش، حتى بعد في بعض الانتخابات المهنية.
وبعد انقلاب 17 تموز / يوليو 1968 بدأت مرحلة جديدة من احتكار العمل المهني، من جانب منظمات تابعة للسلطة، فتم توزيع المقاعد بين الأحزاب المؤتلفة وإقصاء الآخرين، لاسيّما الشخصيات المستقلة. وشهدت الفترة الأولى تحالفات محدودة في نطاق اتحاد الأدباء ونقابة الصحافيين والجمعية العراقية للعلوم السياسية، ولاسيّما بين البعثيين والشيوعيين، مع شروط يحدّدها الفريق القابض على السلطة، وشملت المرحلة الثانية تحالفات مع الكرد، ثم بسبب الصراعات السياسية تبخّرت هذه القوى جميعها، لينفرد حزب البعث لوحده في إدارة هذه المنظمات، وهو الأمر الذي ساد على نحو ربع قرن تقريبًا.
وحتى بعد الاحتلال الأمريكي للعراق العام 2003، حاولت بعض الجهات السياسية التمترس خلف بعض المنظمات المهنية، وتجييرها لصالحها، أو أسست منظمات تابعة لها. ولعلّ من يلحظ أداء بعض المنظمات المهنية، يستطيع أن يحكم على انحيازاتها لهذه الجهة أو تلك، ومحاباتها لهذا الفريق أو ذاك، واستبعادها لهذه المجموعة أو تلك، بما فيها عدم قبولها للرأي الآخر ومنحه الفرصة المتكافئة، فضلًا عن الهوّة السحيقة التي تفصله عن المهنية، سواء لاعتبارات دينية أو طائفية أو قومية إثنية أو أيديولوجية حزبية، ناهيك عن الدور الكبير الذي لعبه المال السياسي، بما فيه من الجهات الخارجية المانحة وأجنداتها الخاصة التي تريد توظيفها، وحسب بول بريمر الحاكم المدني الأمريكي للعراق (13 أيار / مايو 2003 – 28 حزيران / يونيو 2004) فأإه أنفق 800 مليون و 800 ألف دولار على ما سمّاه المجتمع المدني. ولم تقل أية جهة مدنية أو إعلامية أنها تسلّمت أموالًا منه، مع أن بعض الجهات عاشت بحبوحة غير معهودة انعكست على ممالئاتها للاحتلال الأمريكي تحت عناوين مختلفة، في حين ظلت بعض المنظمات فقيرة ومعدمة، لاسيّما تلك التي اتخذت موقفًا رافضًا للاحتلال.
من مراقبتي لمجمل عمل المنظمات المهنية العراقية والعربية، خلال العقود المنصرمة، لاحظت غياب النقد الجاد والموضوعي، والنقص الفادح في ثقافة الحوار واحترام الرأي الآخر وعدم قبول حق الاختلاف والإقرار بالتعددية والتنوع والتسامح، وهو ما تناولته بالتفصيل في كتابي “المجتمع المدني – سيرة وسيرورة” (2012)، إذْ أن معظم مجالس الأمناء أو الإدارات شكلية ولا رأي لها باتخاذ القرار الذي يتحكم به الرئيس أو الأمين العام، وأحيانًا مع ثلة من أصحابه وعائلته.
وبالتدرّج فقد كانت الثقافة السائدة لعقود تقوم على الصوت الواحد والرأي الواحد والمسؤول الواحد، بل إن العديد من إدارات هذه المنظمات لم تحرك ساكنًا في الدفاع عن حقوق أعضائها، حين يتعرضون للاعتقال أو التعذيب، في حين كان مجرد اعتقال صاحب رأي سياسي في الخمسينيات يكفي أن يتطوّع نخبة لامعة من المحامين للدفاع عنه تحت عنوان “لجنة معاونة العدالة”.
للأسف فقد أصبح السكوت أو التواطؤ أو المشاركة أحيانًا في قمع الرأي الآخر جزء لا يتجزأ من عقيدة الإدارات المتعاقبة، والتي تعتّق بعضها في إدارة هذه المنظمات، فلم يتجرّأ مسؤول في إدارة هذه المنظمات على السؤال علنًا عند اعتقال أو ملاحقة زملائه من أصحاب الرأي الآخر، إن لم يبرّر ذلك أو يشارك فيه وفقًا للمناهج الطائفية والحزبية والتوجهات الأيديولوجية، وهكذا اتّجهت أغلبية هذه المنظمات إلى الأحادية والإطلاقية وأصبحت رديفة للسلطات، ووجهًا آخر من أوجهها.
والأكثر من ذلك أن إدارات هذه المنظمات بدت وكأنها جزءًا من أثاثها، فهذا أمين عام مكث في موقعه نحو ربع قرن، وذاك أمين عام ثم رئيس أوشك على توليه المسؤولية نحو 5 عقود من الزمن، وذاك مسؤول جاء بموظفي مكتبه ليكونوا أمناء عامين بعده ليبقى هو من يسيّر عمل المنظمة التي يقف على رأسها، والأكثر من ذلك أن بعضهم ينتقد الحكومات التي لا تقر بالتعددية والتداولية والتناوبية، وكأن الأمر لا يعنيهم، بل أن بعض إدارات هذه المنظمات والجمعيات من يبرر ذلك بزعم الإدارة التاريخية والحرص على بقاء هذه المنظمات في خطها الصحيح، والمقصود بذلك خطها التقليدي والمتوارث، الذي يقوم على أيديولوجية أو رأي سياسي عفا عليه الزمن، في حين أصبحت بعض هذه المنظمات التي يتشبث هؤلاء بإدارتها خاوية ولا عمل لها سوى إصدار بعض البيانات الروتينية بين حين وآخر، ولعلّ مثل هذه المؤسسات على المستوى العربي والإقليمي كان يمكنها القيام بدور أكبر وحيوية أكثر لو تجددت دماء العاملين فيها ووثقت بالكفاءات الشابة الجديدة ومنحتها الفرصة لتولي المسؤولية، ناهيك عن المبادرة إلى تقديم قوة المثل والنموذج والتخلي عن المسؤولية والتشبث بالمواقع، التي لا تغني ولا تسمن من جوع.
الجدير بالذكر، أن التنمية المستدامة التي تطمح إليها الأمة العربية ودولها، إضافة إلى دول الإقليم بجميع تكويناته وأممه، لا يمكن أن تتحقق، دون مشاركة فاعلة من المجتمع المدني والمنظمات المهنية، التي ينبغي أن تكون “قوة اقتراح” لتقديم مشاريع قوانين وأنظمة واقتراح لوائح، وليس “قوّة احتجاج” وحسب، لذلك لا بدّ من مشاركتها كرديف ومكمل وراصد للحكومات، لاسيّما بعد تجاوز إشكالياتها ومشكلاتها الذاتية، وتجديد نفسها وابتداع أساليب عمل جديدة والتخلّص من الفوقية والهيمنة ومحاولة احتكار المواقع، ناهيك عن عدم قراءة المستجدات والمتغيرات في عصر الثورة العلمية – التقنية والطفرة الرقمية الديجيتل وتكنولوجيا الإعلام واقتصادات المعرفة والذكاء الاصطناعي، فما كان يصلح للسابق قد لا يصلح للحاضر والمستقبل، فما بالك حين يكون الماضي مشوبًا بالضبابية والقصور والفهم الخاطئ، وهذا موضوع آخر يحتاج إلى معالجة مستقلة.
مفكّر وأكاديمي عربي