بيروت: ندوب بحّار على صخرة صبحي حديدي
بيروت هي بيروت، مرّة أخرى، تباعاً ودائماً: تروح وتجيء، تغيب وتحضر، تُدمّر تارة وتُعمّر طوراً؛ ولكنها هكذا؛ غنية، متعددة، واعدة، فسيحة، تليق بتعبير محمود درويش البليغ في وصف زوال لا يزول؛ أو هي “صخرة كأنها وجه بحّار قديم”، كما يقول جوزف حرب في أغنية فيروز الشهيرة. إنها “من روح الشعب خمر”، و”من عرقه خبز وياسمين”، ولهذا يقتضي أوّل عشقها الذهابَ معها بعيداً وحيثما تشاء. كذلك يستوجب عشقُها أن يقاتل عاشقها في سبيل ألا تظلّ ساحة تصفيات بين الوحوش، وألا تحيلها القوى المستحكمة إلى مستوطنات مصالح ومنافع، أو أهراء نفوذ وأجندات، وألا يقلبها بعض أبنائها إلى ولايات طائفية ومذهبية أو إلى مزارع فساد وإفساد!
وكرّة أخرى يصحّ القول بأنها ذُبحت مراراً، ثمّ قامت من الذبح مراراً أيضاً، لأنها في الجوهر كانت وتظلّ نسيج وحدها في صناعة تعدد إنساني وثقافي وسياسي وإثني، والاختصام حول حدود ما يتيحه من حرّية، ومدى ما يستثيره من اختلاف. وكان طبيعياً أن تُذبح بيروت بيد جيرانها الأشقاء قبل أبنائها وقبل الغرباء في الواقع، ثمّ قبل مجرمي حرب أمثال مناحيم بيغن وأرييل شارون وبنيامين نتنياهو؛ لأنّ “فيروس” الديمقراطية التي اعتادت المدينة السخية على نشره يميناً ويساراً، كان من نوع لا يملك كارهو الحرية علاجه إلا بالذبح.
وفي سبيل النجاة من سيرورات إغراق بيروت في مستنقعات استيهام زائف سطحي وركيك، اعتادت هذه السطور اللجوءَ إلى خيار بسيط وفاعل وعالي الجدوى: كتاب الشهيد سمير قصير “تاريخ بيروت”، الذي صدر في باريس سنة 2003 عن دار النشر الفرنسية فايار؛ لأنه، أيضاً، قد يكون الأكثر تعبيراً عن مجمل مواهب قصير: الكاتب والمؤرخ والمثقف الملتزم، وذوّاقة الأدب أيضاً. هنا مجلد ضخم في 732 صفحة، يحتوي على عشرات الصور والوثائق النادرة، ويتابع المدينة بمختلف مراحلها الزمنية، وجوانبها السياسية والاجتماعية والمعمارية والثقافية والتجارية وحتى المطبخية. وهنا كتاب فريد في أكثر من اعتبار، لكنّ سمته الأساسية هي المزج البارع والذكيّ بين المعرفة العميقة والمتعة العالية، وتشويق سرد الحكاية التاريخية خصوصاً.
مقاربة أخرى، ومنهجية مختلفة تشتغل على مادّة مختلفة من حيث الأبعاد السياسية والاجتماعية والثقافية، وإنْ كانت تتقاطع مع كتاب قصير في مناحٍ عديدة؛ تقترحها اللبنانية نادين عادل سنو في كتابها “حرب الألوان: الغرافيتي وفنّ الشارع في بيروت ما بعد الحرب”، الذي صدر مؤخراً بالإنكليزية، ضمن منشورات جامعة تكساس، أوستن. وعدا مقدّمة سخية تعرّف بسلسلة مفاهيم نظرية وتعريفات تخصّ أنساق التعبير الشعبي والعمومي في الفضاءات المفتوحة، تتناول فصول الكتاب الخمسة سلسلة شعارات هيمنت على أذهان اللبنانيين، ووجدت طريقها إلى الجدران والشوارع: “الشارع إلنا”، “أنا شاذّ”، “هذا البحر إلي”، “ثورة بيروت لكلّ العالم”، “الشعب السوري عارف طريقه”؛ ثمّ شعار الخاتمة: “قبل ما موت بدّي لبنان”.
وهذه مباحث متعمقة في وظائف الرسوم، وأشكالها، وألوانها بالمقارنة مع استخدام الأبيض والأسود، وتنوّع توزيع الرسوم من حيث الأحجام والمواقع الجغرافية، والمغزى السياسي والاجتماعي والطائفي والأمني لهذا الموقع أو ذاك، تبعاً أيضاً لطبائع الاستثارة التي يطمح الرسم الغرافيتي إلى إحداثها لدى المارّة، وتبعاً بالتالي لمقادير الاستفزاز البصري والدلالي الذي ينطوي عليه رسم يعتمد جملة قصيرة مفيدة أو علامة أو مجرّد حرف عربي أو لاتيني… وبالنظر إلى اختصاصها الدراسي والتدريسي، حيث تعمل أستاذة مشاركة في قسم اللغات والآداب الحديثة والكلاسيكية في جامعة فرجينيا تك؛ تتعامل سنو مع هذه الموضوعات من زوايا أدبية وتشكيلية ونسوية وجندرية، عريضة التلمّس وعيانية الاستخلاص في آن معاً.
وكتاب سنو، مثل كتاب قصير، يضخّ طاقة عشق سحرية في ذاكرة أيّ طراز من معرفة بيروت، حتى حين يقتصر على محطة عبور نحو المنفى كما كانت حال هذه السطور؛ إذْ تتبدى فصحى سعيد عقل التي نُحتت من صخور الذرى في البلاغة العربية، أو معجزة فيروز المفتوحة على أربع رياح الروح، أو محترف راشانا حيث منحوتات ألفريد بصبوص تعيد تشكيل الجسد الإنساني وفق نَحْوٍ لغوي/ بصري إعجازي… ولعلّ المرء سيفتش عن ظلّ بدر شاكر السياب، الذي سار هنا ذات يوم كليلاً مرهقاً؛ أو سيداهمه تبغ محمد الماغوط، إذْ دخّن بشراهة المنفيّ الميّت شوقاً إلى الشام وإلى باب توما؛ أو ستعترضه رسوم ناجي العلي، فيرتسم حنظلة على جدار ما، بالمرارة الساخرة الأشهر…
ولأنّ ذبحاً يُذكّر بذبح، أو يستدعيه ويستوجبه، فإنّ المشاهد الأشدّ وحشية وبربرية وفاشية التي حُفظت كعلامة مسجّلة لدولة الاحتلال الإسرائيلي؛ لا تجبّ ما قبلها حين لم يكن النظام السوري وأجهزة حافظ الأسد ثمّ وريثه من بعده، سوى نسخة تدمير سابقة/ لاحقة، حتى مع فوارق مقدّرة في أنساق التوحش.
“هنالك مدن يغلب فيها الثابت على المتحوّل، أمّا بيروت فهي المدينة التي ينحصر ثابتها في تحوّلها الدائم”، كتب قصير. وجه بحّار قديم، تكسرت عليه نصال التواريخ فتركت فيه شتى الندوب والأخاديد والوشوم، ولكنه ظلّ “شكل الروح في المرآة”، قُدّ “من تعب، ومن ذهب، وأندلس وشام”…