سياسة

بين سقوط الديكتاتور و«التعافي» من الإستبداد د. سيلفا بلوط *

د. سيلفا بلوط *

يفرض تعزيز النظام الديمقراطي تنشئة حول حقوق الانسان، والمشاركة المدنية و الحلول السلمية للصراعات. وهذا ما يفتقد النظام التربوي في لبنان.

يؤسس سقوط الدكتاتورية، خفية كانت أم لا، لمرحلة انتقالية تبدو دقيقة و معقدة، لأنها ترتكز على استرجاع ما تم سلبه من حياة الفرد والوطن معاً. لذلك، توجد مشحونة بخليط من الخوف والقلق والأمل والوهم والتردد والاندفاع. بتعبير آخر، لا تنعكس هذه الحال فقط على الواقع السياسي فحسب، وإنما أيضاً على الحياة النفسية لمن عانى في ظل الاستبداد.
ومن هذا المنطلق، يتبدّى تناول هذا السقوط من زاوية سيكولوجية ضرورة و حاجة، لأنه يلقي الضوء على انعكاساته النفسية و يسهم في فهمها، مما قد يساعد توظيفها على استشراف حياة سياسية أكثر ديمقراطية و استقراراً.

تطلق اللحظة الأولى، من انهيار سنوات كثيرة من الاستبداد و القمع، شعوراً بسعادة مفرطة، واندفاعاً انفعالياً يظهر من خلال سلوكيات، تعكس مدى التَوق الحاد إلى الحرية، كتحطيم تماثيل الدكتاتور، و التجمعات التي تدعو في هتافاتها، إلى محاكمة من أمعن في انتهاك الحياة، على مستوياتها كافة أو رحيله… كما يتبدى التماسك الوطني أكثر متانة و قوة، بالرغم من أنه قد يكون مؤقتاً، بحسب ما ستأتي به الأوضاع المحيطة بهذا السقوط.

من الطبيعي أن يعاني من عاش في ظل نظام قمعي، سواء كان سياسياً أم دينياً، من إضطراب ما بعد الصدمة، نتيجة ما قد يختبره من اعتقال عشوائي، و تعذيب، و تهديد دائم، وخوف من الموت… وعلى هذا النحو، يدخل سقوط الدكتاتورية الفرد ومعه الجماعة، في حالة من “الفوضى النفسية” و عدم الاستقرار، بالإضافة إلى فراغ سياسي.

وإذا ما تناولنا الأواليات التي يستخدمها الطاغية، بهدف السيطرة على “المتمرّد”، فيتبدّى التعذيب والتهديد بالقتل والتصفية، أداتين رئيسيتين لتطويعه، و إجباره على “ضبط الذات”، الذي يوسم فيما بعد شخصيته “الثائرة”، بفعل ما استدخله من خوف و شعور بالعجز. كما لو أنه “تعوّد” التعذيب أو التهديد، كما يتم الاعتياد على مادة مخدّرة. وهنا، تظهر حاجته إلى التحرر من هذا الضبط المرضي لذاته، مدخلاً إلى استرجاعها.

وبالرغم من ميل الأفراد أو الجماعات، إلى التحرر من قيود السنوات “المستبِدة”، فمن الملاحظ أن هناك جماعات تبقى “وفية” لها. وقد يعود السبب في ذلك إلى الشعور بالحنين، نتيحة التماهي مع من استبد، أو الخوف من التغيير الناجم عن سوءٍ لتقدير الذات، تجذّر بفعل عملية منظمة من “التدجين”، على الدونية و النقص و التحقير. لذلك تنعدم الثقة في أي سلطة أخرى بديلة حتى لو كانت ديمقراطية.

من الطبيعي وأيضاً البديهي، أن تمهّد نهاية الدكتاتورية، الطريق أمام استعادة الفكر النقدي، الذي تم الإطاحة به من خلال الممارسات القمعية. إلا أن ذلك ليس بالأمر السهل، لأن عملية الاسترجاع تلك، مثقلة بما خلّفه الاستبداد من أجيال اختبرت اللاعدالة، و عاشت التعذيب و أحياناً الاخفاء القسري… وكل ما يمكن للذاكرة الجمعية وليست الفردية فقط، أن تعجز عن حملها!

تتعمّد الدكتاتورية خلق صراعات خفية، قد تكون إثنية وثقافية وإيديولوحية، وتعمل على ضبط إيقاعها، إن صح التعبير، خدمةً لتماسك هويتها و تعزيزاً لنرجسيتها “المرضية”. بمعنى آخر، تعمل على خلق الفتن التي تبتز من خلالها الأفراد والجماعات، و تتسبب في إطلاق الشعور باللاأمان و عدم الثقة المتبادلة.

وأما بالنسبة إلى فراغ السلطة الناجم عن سقوط النظام الاستبدادي، يشعر من عاش سنوات طويلة تحت التعذيب، بالارباك والخوف بمجرّد التفكير بالحرية. بمعنى آخر، قد يخيفه هذا الفراغ نتيجة قلقه من أن يكون ما هو آتٍ أكثر استبداداً، لذلك يعجز عن تقبل أي بديل عن السلطة المستبدة التي “اعتادها”، حتى و إن كان أكثر رأفة وانسانية.

تميل المجتمعات، عموماً، إلى إعادة بناء هويتها الجمعية في كل مر تسقط أنظمتها. و من أجل ذلك، تلجأ إلى صياغة تاريخ جامع، بين دروس الماضي وظروف الحاضر واستشراف المستقبل. وهنا، تبرز أهمية التربية، التي تؤدي دورها في تمكين الاجيال المقبلة، من فهم أواليات الدكتاتورية، بهدف حماية أنفسها من الوقوع ضحيتها.

تميل المجتمعات عموماً إلى إعادة بناء هويتها الجمعية في كل مر تسقط أنظمتها و من أجل ذلك تلجأ إلى صياغة تاريخ جامع، بين دروس الماضي وظروف الحاضر واستشراف المستقبل

و بدورها، تشكل حرية التعبير عن الذات، مدخلاً إلى “تعافي” الفرد من تأثير الخضوع للاستبداد. ويعود السبب في ذلك إلى مسألتين. تتمثل الأولى في أنها تعزّز تفتّح شخصية الفرد، وتقوّي ثقته في نفسه. أما فيما يتعلق بالمسألة الثانية، فإن التعبير الحر عن الذات، يسمح له بتفريغ مخاوفه وهواجسه، وبذلك يتحرر مما يبقيه أسيراً، لمرحلة اختبر فيها وسائل التعذيب والقمع.

أهمية معالجة الماضي في كونها خطوة أساسية تسهم في تخطي المآسي التي تطلقها الدكتاتورية بالإضافة إلى تعزيز المرونة النفسية واكتساب ثقافة الحرية والعدالة

كما تتجلى أهمية معالجة الماضي، في كونها خطوة أساسية، تسهم في تخطي المآسي التي تطلقها الدكتاتورية، بالإضافة إلى تعزيز المرونة النفسية واكتساب ثقافة الحرية والعدالة…

تسعى الدكتاتورية جاهدة إلى خلق “نمط” بشري عاجز و خانع، يرفض الحرية لنفسه وللآخرين، إلا أنها حتى وإن نجحت، في تحقيق بعض ما “تمنّته”، إلا أنه يغيب عن بالها أن العقل البشري يرفض الخضوع، و هو يستيقظ دائماً من غيبوبته ويتحرر من قيودها و يستعيد عافيته.

  • كاتبة لبنانية
  • عن موقع (جنوبية)
زر الذهاب إلى الأعلى