بين فوضى الرصاص وفوضى العجز… دروس في الفاشية جواد بولس
تستمر حكومة نتنياهو في محاولاتها لتقويض الوضع الذي ساد على جميع الجبهات الخارجية والداخلية الإسرائيلية، قبل بداية ولاية سلطتها الحالية. وهناك من يعتقد أن نتنياهو ينتظر تسلّم دونالد ترامب مقاليد الحكم في أمريكا، منطلقا من قناعة أن الإدارة الأمريكية الجديدة ستساند إسرائيل في إتمام مخططاتها لتماثلها مع ما يضمره ترامب وإدارته لمستقبل إسرائيل ولمكانتها المتخيّلة في المنطقة. تتفاوت التقديرات حول موقف ترامب المتوقع، وتصعب التنبؤات حيالها، لاسيّما إذا نظرنا إلى تعقيدات الصراعات المتفاعلة في أرجاء واسعة من المعمورة.
بيد أنني أرى أن ما تقوم به حكومة نتنياهو في هذه الأيام يشير إلى أنها لا تنتظر جديد أمريكا، بل إنها عاقدة عزمها على إنهاء مخططاتها قبل دخول ترامب للبيت الأبيض، ومواجهته بوضع قائم جديد، سواء فيما يتعلق بمصير قطاع غزة أو الضفة الغربية، أو حتى في لبنان وسوريا والدول العربية والإسلامية المتورطة أو المورّطة في مشاهد الاقتتالات والفوضى، التي تدمر هذه البلدان، أو تقف على مقربة منها.
قد يعتقد البعض أن الفوضى من نصيب البلدان المجاورة وحسب، وأن إسرائيل تعيش حالة من الاستقرار والسلم الأهلي الداخلي؛ وهذا ما يجافي الواقع تماما. فمن يتفحص تداعيات الحالة الإسرائيلية الداخلية، وما طرأ على مجتمعها منذ السابع من اكتوبر 2023، سيقف عند عدة تحوّلات لافتة ومعقدة، لا نعرف كيف ستكون نهاياتها ولا إلى ما ستفضي إليه.
لقد أدّت أحداث السابع من أكتوبر إلى حدوث صدمة عنيفة داخل المجتمع اليهودي؛ فَقَدَ على أثرها المواطنون، بجميع شرائحهم وانتماءاتهم الفكرية والسياسية، شعورهم بالأمان الذي كانوا يعيشون في كنفه؛ وتضعضعت ثقتهم بقوة دولتهم، العسكرية والمخابراتية، وحصانتها التي آمنوا أنها كفيلة بحمايتهم من جميع المخاطر الممكنة. لقد تملّكتهم مشاعر الهلع والقناعة بأن العرب/المسلمين/ الفلسطينيين ما زالوا مصممين على إزالة إسرائيل، وأنهم قادرون عمليا على تحقيق ذلك عسكريا.
لم تكتفِ حكومة نتنياهو بشنّ حروبها على جميع الجبهات الخارجية، بل عمل وزراؤها ووكلاؤها الحزبيّون، في ظل القذائف والنيران، على تثبيت «انقلابهم القضائي» واحتلال معظم أجهزة ومرافق الحكم والسلطة. لقد تجنّدت الكنيست، ذات الأكثرية المطلقة الموالية لأحزاب الحكومة، وقامت بتشريع عشرات القوانين العنصرية والفاشية، في سبيل تمكين الحكومة من ملاحقة «أعدائها» والمعارضين لسياساتها بين المواطنين والمؤسسات اليهودية والعربية على حد سواء. كانت نشاطات وزراء الحكومة وزبانيتهم معلنة على الملأ؛ وكانت نواياهم واضحة. إلا أن معارضيهم التزموا الصمت طيلة الشهور الأولى التي تلت عملية السابع من أكتوبر، وامتنعوا عن إبداء احتجاجاتهم علنا، فتشبث نتنياهو بطريقه وبطريقته واستقوى وزراؤه وصار جميعهم «ردّيحة وشبّيحة» يهتفون للحكومة ويذودون عن سلامة رئيسها وحاشيته. وبعد تدمير غزة وإبادة الآلاف من أهلها وتهجير مئات الآلاف منهم، وبعد تدمير الجنوب اللبناني وضاحية بيروت الجنوبية وغيرها من المواقع اللبنانية، وبعد انتصار نتنياهو وحكومته واحتلالهم لمعظم مواقع الحكم ومضيّهم في الحرب على ما تبقى من «ثغور» لم تستسلم لارادته، شرعوا، هو وكتائبه، بشن معركتهم الحاسمة على ما تبقى من المؤسستين العسكرية والأمنية، خاصة على جهاز المخابرات العامة ورئيسه، وعلى ما تبقى من المؤسسة القضائية، خاصة المحكمة العليا الإسرائيلية، ومكتب المستشار القضائي للحكومة ورئيسته. ولئن أدّت حروب نتنياهو على الجبهات الخارجية إلى إسكات أصوات خصومه السياسيين لشهور عديدة، استفزت حربه، على رموز الدولة الأمنية والقضائية، أولئك المعارضين فقرروا أن يثوروا ضده. وبدأ بعضهم يصرخ دفاعا عن إسرائيله «الديمقراطية اليهودية»، وبعضهم يحتج على إسرائيله التي ترتكب، باسمه وباسم يهود الأرض، جرائم الإبادة والتطهير العرقي، وتحوّلت إسرائيل بسببها، بنظر المجتمع الدولي، إلى أقبح أنظمة الحكم التي عرفها التاريخ، قديما وحديثا. من يمعن النظر في الحالة التي آلت اليها إسرائيل في الأشهر الماضية الأخيرة، سيلاحظ أنها تواجه حالة من الفوضى العارمة، وتعيش واقعا ملتبسا لا تعمل فيه معظم المؤسسات التي حمت وحافظت، منذ لحظة إقامتها، على «كيانية الدولة الصهيونية»، تلك التي نجحت في تسويقها، أمام معظم دول العالم، كبيت «قومي تستحقه الضحية اليهودية»، وكدولة جديرة بدعم مجتمعات «العالم المتحضر» وحكوماته، إنها «فوضى مهندسة» خلقها نتنياهو وعمل مع أعوانه على تأجيجها متعمّدا ومدركا أن في عراها ستضيع القيم الإنسانية وتختفي قواعد الأخلاق القديمة، فلا يسود في ظلّها قانون إلا قانون «خالق الفوضى وربّها»، بنيامين نتنياهو.
لن أجري في هذه العجالة جردا لقوائم الجهات المعترضة على سياسة نتنياهو، ولا لدوافعها؛ فعندما نقرأ، مثلا، أن وزير الدفاع الأسبق ورئيس أركان جيش الحرب الإسرائيلي بوغي يعلون، يعلن بحزم أن الجيش الذي كان قائده ذات يوم، ينفذ في غزة حرب إبادة للفلسطينيين، وأن حكومة إسرائيل تقوم بعملية تطهير عرقي، وتُجلي سكان غزة عن أراضيهم كي يعود الاستعمار اليهودي إليها؛ عندما نقرأ هذه التصريحات، يجب أن نتوقف عندها ونتفحص كيف يمكننا أن نستفيد، نحن الفلسطينيين عموما ومواطني الدولة خاصة، من هذا الموقف ومن صاحبه، خاصة إذا علمنا أن هناك أصواتا كثيرة تؤمن مثله.
تعيدنا تصريحات بوغي يعلون الأخيرة إلى تعقيدات أوضاعنا السياسية الخطيرة، وما تحمله من مخاطر وآفاق بالنسبة لنا كمواطنين في إسرائيل، وتضعنا مجددا أمام مسؤولياتنا في مواجهة سياسات الحكومة الإسرائيلية، خاصة إذا أجمعنا على أنها تضمر لنا أسوأ الخيارات وأخطرها على استمرار وجودنا في الوطن؛ فنحن، رغم جميع التطورات التي حصلت، لم نهتد بعد إلى صياغة معادلاتنا السياسية الملائمة لواقع فاشي وعنصري لم نعهده من قبل. وما زلنا نراوح في مكاننا ونلوك مواقفنا التقليدية التي لم تمنع وصولنا إلى شفا الهاوية. لقد افترقت طريق بوغي يعلون عن طريق نتنياهو وحزب الليكود في عام 2016 حين أعلن اعتزاله الحلبة السياسية في أعقاب خلاف جدي مع نتنياهو، أدى إلى ابعاده عن حقيبة وزارة الدفاع واستبداله برئيس «حزب إسرائيل بيتنا»، ايفيت ليبرمان. كانت خطوته مؤشرا لإمكانية حدوث تغيير في قناعاته السياسية اليمينية المتزمتة، وبداية لتحوّل قد ينقله من معسكر الأعداء الأزليين إلى معسكر الحلفاء الممكنين في جبهة معارضة للفاشية وحكومة عازمة على التخلص من القضية الفلسطينية وأهلها الفلسطينيين. ليس أحوج منا، في هذه الفوضى، إلى مراجعة دروس الأمم التي واجهت الأنظمة الفاشية والديكتاتوريات؛ فلكل عصر قوانينه ولكل حالة قيودها وضرورياتها. إن مواقف بوغي يعالون المتغيرة، وهي لغرض هذه المقالة، مجرد مثال أو عيّنة، تتيح لنا فرصة إعادة النظر في أحد أهم قوانيننا السياسة التقليدية المتحجرة، إزاء من قد نعتبرهم حلفاء لنضالاتنا في وجه سياسات حكومة نتنياهو ومشاريعها التصفوية، أو إبقائهم في خانة الأعداء مهما قالوا أو تغيروا. لقد كتب يعالون في سيرته الذاتية قائلا: «لقد تعلمت أنه في عالم متغير بوتيرة متصاعدة، وفي جميع مناحي الحياة، من لا يسأل نفسه في كل صباح ومساء: ماذا تغيّر، يتحول إلى إنسان غير ضروري».
تعيش إسرائيل اليوم حالة من «فوضى الرصاص»، ونحن ضحايا تلك الفوضى المباشرون. لكننا نعيش أيضا حالة من «فوضى العجز»؛ فوضى من صناعة مجتمعاتنا وجهلها أو تيهها، ناتجة عن عجز مؤسساتنا وقياداتنا. ومن يعيش في عصف «فوضويين» عليه أن يراجع دروس الشعوب التي حاربت الفاشية والفاشيين، وناضلت من أجل حقوقها وكرامتها ونجاتها. لقد كتبت هذا مرارا وأعرف أن الكثيرين من بين العرب والمسلمين، من مواطني الدولة ومن خارجها، يشعرون براحة لانتشار هذه الفوضى داخل إسرائيل؛ فأولئك ما زالوا يعتقدون أن كل حرب تدور بين اليهود واليهود ستكون في صالحهم، وستؤدي إلى زوال إسرائيل، كما هي مشيئة الرب. أمْا أنا فلست من هؤلاء ولا أومن بأن نجاتنا ستضمنها الفوضى التي يعمل على هندستها نتنياهو ورهطه؛ فالدول العاصية، حتى المارقة منها، لا تهزم بالتمني وبالصلاة وبالتشفي، ولا هو الغيب مضمون في جيب العرب!
طريقنا واضح ووحيد: علينا أن نسعى ونتحالف مع كل من يعارض هذه الحكومة الفاشية، ونقيم معهم جميعا «الجبهة ضد الاحتلال والفاشية»؛ فإسرائيل الجديدة قد تنتصر إذا نجحت بمشروع تطهيراتها العرقية، واستمرت بحصاد جثث الفلسطينيين والعرب.
كاتب فلسطيني