ثنائية الوهم والأمل بين رئيس نزق وأمير حاذق جواد بولس

ثنائية الوهم والأمل بين رئيس نزق وأمير حاذق
جواد بولس
لا يجوز الاستهتار بما يقترحه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بخصوص فكرة تهجير سكان قطاع غزة، والاستيلاء بعدها على الأراضي لأغراض استثمارها في مشاريع سياحية وتجارية؛ فالفكرة، منذ إشهارها رسميا وعلنا، تعدّ حدثا فاصلا قد يؤسس لمرحلة سياسية جديدة سيتاح فيها التعاطي مع مستقبل القضية الفلسطينية، وفق قوالب، أو نماذج، أو أنماط، أو صيغ حلول (براديم) غير القائمة والخارجة عمّا كان مألوفا، دوليا ومحليا، في العقود الأخيرة.
يميل البعض إلى الاعتقاد بأن ترامب استل فكرته بشكل عفوي ومفاجئ، وهي لذلك، لا تتعدى كونها حركة بهلوانية سيقيّض لها الفشل والنسيان، إلّا أن بعض الشواهد والتحقيقات تشير إلى وجود هذه الأفكار ضمن «أوراق تصور» كانت قد قدّمت إلى البيت الأبيض، وانتظرت فرصة لتحويلها إلى خطة مكشوفة، إن لم يكن بهدف تنفيذها الفعلي، فلتحقيق أهداف أخرى، مثل تحويل النقاش عن مسؤولية إسرائيل عن جرائمها في غزة، ونقل تبعات ووزر قضية فلسطين ومأساتها إلى داخل قصور ملوك وحكّام العرب، وإلى أعقار ديارهم، وإجبارهم على مواجهتها في جبهة جديدة وخطيرة قد تؤدي إلى اشتعال النيران في دولهم نفسها. وكما كان متوقعا، فقد ندّد حكام الدول العربية والإسلامية، ومعهم زعماء دول عديدة بموقف الرئيس الأمريكي وعارضوا فكرته وقاموا بتجريمها ببيانات واضحة وحازمة.
من السابق لأوانه التكهن حول تداعيات «الحالة الغزية»، أو التنبؤ بمآلات الأحداث الجارية في الضفة الغربية المحتلة، لاسيما إذا تابعنا عمليات جيش الاحتلال وسوائب المستوطنين وهم يحاولون، ولو بنطاقات محدودة حتى الآن، استنساخ ما مارسوه في حربهم على غزة بالأساليب والأهداف نفسها.
يسمع الفلسطينيون مواقف زعماء العالم والعرب وردودهم على مخططات ترامب فيستقبلها بعضهم براحة وبإيجابية، كما توجب «العزوة» بين الإخوة والأشقاء، ويتشكك إزاءها البعض الآخر، ويستقبلونها بريبة مبعثها تجاربهم من الماضي ودروسه. ففلسطين ضاعت، أو ضُيّعت، بعد أن تآمر عليها «ترامبات» ذلك الزمن، ونهشت بلحم أهلها بنادق العصابات الصهيونية وباعها «أخوة يوسف» على مفارق خطوط العرض والطول، وإغواءات العروش. لقد تعلّم الفلسطيني أن البساطة والطيبة في السياسة، وأحكام الأقدار وصفَتان للموت أو للتيه، وأن جميع « الأحضان» مواقد للاحتضار إلا حضن أمك/وطنك فهو حاميك «ومنبت العيدان»؛ وخبروا كذلك، بعد أن تعبت دماؤهم وشاخ الشقاء، أن «الجنة» في منافي السلاطين ستبقى جهنما، وأن الخيمة في صحارى الوطن هي البيت والقبر والعنوان. لن يبقى الفلسطينيون لوحدهم في هذه المواجهة؛ وهذا ليس لأن «عالم اليوم» مختلف عن عالم ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي وحسب، بل لأن ما يقترحه ترامب ومن حوله سيقوّض أواصر النظام العالمي وأحكامه الناظمة، ولو بشكل نسبي، لعلاقات الدول والأمم، ولأنه سيمس أمن واستقرار بضع دول وشعوب غير دولتي الأردن ومصر، وهما من يسعى ترامب إلى زجّهما أوّلا في فوهة الأزمة الحارقة. لن يبقى الفلسطينيون لوحدهم في هذه المواجهة، وهذا ما يفهمه الفلسطيني ويتمناه من ردود الفعل العالمية والعربية، حتى لو كان بعضها «فافوشا» أو مجرد «ضرائب كلام «، فمن هذه المواقف يتزوّد الفلسطينيَ بجرعات من الأمل، وبدعائم لصموده في الوطن، وإفشال مخططات تهجيره. لفتت انتباهي بشكل خاص الرسالة المفتوحة التي خاطب فيها الأمير السعودي تركي الفيصل الرئيس ترامب بكلام يصلح أن نسميه «درسا في تاريخ الصراع والتآمر على فلسطين وأهلها».
لا يمكن لمن يقرأ الرسالة خاصة في بلاد الغرب ألا يفهم الحقيقة التاريخية، وألّا ينكشف على أن «الشعب الفلسطيني ليس مهاجرا غير شرعي، ليتم ترحيله إلى أرض أخرى، فالأراضي هي أراضيهم والبيوت التي دمرتها إسرائيل هي بيوتهم وسيعيدون بناءها كما فعلوا بعد الهجمات الإسرائيلية السابقة عليهم». يحمل هذا الكلام أهمية خاصة بنظري، لا بسبب ما أكدّه الأمير من مواقف ومضامين حازمة وحسب، بل لما يمثله صاحب الكلام في منظومة الحكم في المملكة العربية السعودية، وبكونه إحدى الشخصيات البارزة في تاريخ العمل السياسي والأمني والدبلوماسي السعودي، وعارفا ببواطن وبخفايا سياسات الدول الغربية، وتشابك مصالح حكوماتها وإداراتها في منطقتنا. على هذه الخلفية ووفقا لهذا الفهم خاطب الأمير ترامب قائلا «السيد الرئيس، إن نيّتك المعلنة لإحلال السلام في فلسطين تحظى بإشادة كبيرة في منطقتنا من العالم. إنني أقترح بكل احترام أن الطريقة لتحقيق ذلك هي اعطاء الفلسطينيين حقهم غير القابل للتصرف في تقرير المصير ودولة عاصمتها القدس الشرقية، كما هو منصوص عليه في قرارات الأمم المتحدة ومبادرة السلام العربية». كلام سبقته البيانات الرسمية السعودية الرافضة لفكرة تهجير الفلسطينيين والداعمة لحقوقهم الكاملة.
تذكرت وأنا أقرأ الرسالة موقفا كنت شاهدا عليه بين الراحلين فيصل الحسيني ووزير خارجية السعودية في عام 1995 الأمير سعود بن فيصل، وهو شقيق الأمير تركي. لقد دعي فيصل الحسيني لزيارة كندا في شهر أبريل للقاء مسؤولين كنديين، والتباحث معهم حول مواضيع المرحلة النهائية التي أرجأتها نصوص اتفاقية أوسلو إلى ما بعد المرحلة الانتقالية. وخلال أحد اللقاءات أخبر رئيس الوفد الكندي فيصلا أنهم مضطرون لإجراء تغيير بسيط على مواعيد جلسات الغد، وذلك بسبب زيارة قصيرة طارئة سيقوم بها الأمير سعود الفيصل لكندا قادما من الأمم المتحدة. طلب فيصل من مضيفه أن يعلم الأمير سعود بوجوده في «أوتاوا» وبرغبته اللقاء به. تبسم الكندي محاولا أن يشرح لفيصل أن تحقيق رغبته ستكون مهمة مستحيلة، فالأمير سيقوم بزيارة خاطفة وسيعود بعدها فورا إلى المطار حيث تنتظره الطائره هناك. تفهّم فيصل الموقف وانتظر. بعد ساعات عاد المسؤول الكندي وعلى وجهه علامات الدهشة، فأخبر فيصل أن الأمير سعود «سرّ بوجودك وعبّر عن رغبته باللقاء بك فور وصوله إلى أوتاوا، وطلب أن يكون اللقاء بك قبل جميع لقاءاته الأخرى». كان الكندي ينقل بانفعال ظاهر ويضيف: «لقد تفاجأنا من علاقتكما المميزة. لك كل الاحترام». أجابه فيصل: «إنها علاقة فلسطين وشعبها والقدس وأهلها بالمملكة السعودية وبشعبها وبحكّامها». بعد ساعات وصل الأمير إلى مكان إقامة فيصل الحسيني. كان مبتسما وهادئا وودودا. تعرف علينا، وبعدها انفرد بلقاء طويل مع فيصل. بعد اللقاء بدا فيصل مرتاحا ومطمئنا، فكلام الأمير السعودي، هكذا فهمنا، كان واضحا وحازما وداعما للحق الفلسطيني ومع إقامة الدولة المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية. كان فيصل مقتنعا «أنهم لن يتخلوا عنا ولا عن القضية الفلسطينية». فلسطين كانت وما زالت حاضرة في الوجدان، وطريق الأمل كما وصفه الامير تركي ما زال موجودا.
قد يؤثر بعض الفلسطينيين أن يتمسكوا بشكوكهم إزاء مواقف زعماء العرب، ولهم في مواقفهم دوافع وأسباب ومبررات؛ لكنني، وأنا أعيش في فلسطين الصابرة والمكابدة، أوثر اللجوء إلى ما علّمنا إيّاه، في ساعات المحن والأزمات، فيصل الحسيني. فإذا قال لك أحدهم أو قريبك أنه إلى جانبك ومعك في صراعك مع «الغول» صدقه وامضِ في طريقك مدركا أن الاعمال بالنيات، وأن الأواني تنضح بما فيها، وأن الأمور بخواتيمها، وأنّ الوهم يبقى وجها من وجوه الأمل، وهو ليس خيارك الوحيد! فدون ذلك ستبقى تراتيل أبريل هذيانا والأمل مفقودا.
حكاية الفلسطيني مع ثنائية الوهم والأمل لم تبدأ في أبريل 1948، عندما اختزل عبد القادر الحسيني سيرة الوهم المعلق على جدران جامعة الدول العربية في رسالة قصيرة خاطب فيها زعماء العرب صارخا: «إني أحملكم المسؤولية بعد أن تركتم جنودي في أوج انتصاراتهم دون عون أو سلاح» وعاد من الشام ليقاتل ويقتل. كما لم تبدأ في أبريل 1995 حين بدد فيصل الحسيني وهم الكندي والتقى مع اخيه السعودي على ناصية الدهشة وتعاهدا على الوفاء لفلسطين ولقضيتها العادلة. والحكاية لن تنتهي في أبريل الآتي ومعه التباسات «كاليغولا» العصر ونزواته وتنمّره، ومعه أيضا ثنائية الوهم والأمل. في فلسطين سيبقى «الوهم/السراب كتاب المسافرين في البيد» فلولاه، لولا ذاك الأمل، ما كان الفلسطيني حيا.
كاتب فلسطيني