فكر وفن

حكايتي مع ديورانت  والهيام بالفلسفة  علي حسين  *

 

 السنوات التي قضيتها في مهنة بائع كتب اعتبرها اسعد واجمل سنوات عمري ، وعندما أسترجع اليوم ما كنت أقرأه في ذلك الوقت ، لا تدهشني عدد الكتب بقدر ما تدهشني تنوعها، والأهم جرأة مراهق مثلي في مناطحة كتب كان الزبائن يتجنبون الاقتراب منها ، لكنها بالمقابل تسعد فئة من القراء المتفلسفين ، في تلك السنوات عثرت على كتاب ول ديورانت ” قصة الفلسفة ” الذي تعرفت من خلاله على كتيبة من الاسماء كانت كتبهم المترجمة الى العربية تثير فزعي كلما نظرت اليها ، لكنني ساهيم عشقا بديورانت بعد ان عثرت على كنزه ” مباهج الفلسفة ” – ترجمة احمد الاهواني – . ديورانت المولود في مثل هذا اليوم – الخامس من تشرين الثاني عام 1885 – ، والذي رحل عن عالمنا بعد احتفاله بعيد ميلاده الـ ” 96 ” – توفي في السابع من تشرين الثاني عام 1981 – قضى الجزء الكبير من حياته يبحث في تاريخ الافكار وتطور الحضارات ، كنت أسمع اسمه كثيراً من زبائن المكتبة وهم يتلهفون للحصول على نسخة من موسوعته ” قصة الحضارة ” التي صدرت اجزائها الـ ” 40 ” بشكل متسلسل عن الدائرة الثقافية في جامعة الدول العربية التي كان يشرف عليها طه حسين ، وقد قضى ديورانت ما يقارب الـ ” 40 ” عاما في كتابة موسوعته وكان ينوي في بداية الأمر ان تكون الموسوعة بخمسة اجزاء ، لكن البحث تطور وتشعب واخذ ينتج مجلدا بعد آخر .. وكان الفضل لصاحبنا ” ديورانت ” ان فتح عيني على كنوز من الكتب كنت اتطلع اليها كل يوم ، لكني اخشى الاقتراب منها ، فقد كنت اؤمن قبل لقائي بديورانت ان الفلسفة عالم خاص ولغة خاصة وانها تهم طائفة معينة من الناس ، وهو ما اخبرني به ديورانت نفسه في ” مباهج الفلسفة ” عندما كتب في المقدمة عن فتنة الفلسفة التي فقدت ولم تعد محبوبة ، لماذا ؟ يقول ديورانت لأن احفادها – ويقصد العلوم – سعوا الى رميها الى خارج الدار ، إلا ان ديورانت لم يكتف بالقاء اللوم على العلوم وإنما على الفلسفة ايضا لأنها حسب رايه :” فقدت روح المغامرة ” . قد يقول البعض ان الفلسفة اليوم لا ترتبط كثيرا بحياتنا ، غير ان الواقع يقول أن الفلاسفة وان اختلفت مسمياتهم واشكالهم لا يزالون يبحثون عن اجابات لما يدور حولنا ، وان المؤلفات التي تخرجها لنا المطابع عن الفلسفة ومناقشتها للسياسة والاخلاق والمعرفة ، تثبت ان الفلاسفة لا يزالون هم الافراد الذين يسألون عن كل شيء كما اخبرنا ذات صباح مشرق عمنا ” سقراط ” ، وان الفيلسوف لا يزال هو ” الفرد العارف بكل شيء ” مثلما كان يردد بروتاجوراس زعيم الفكر السفسطائي الذي عاش اصحابه في أثينا في نهاية القرن الخامس قبل الميلاد ، وكانت طريقتهم في الفلسفة تسمى ” السفسطائية ” وهي طريقة تدريس يقوم بها مجموعة من المعلمين يستخدمون الفلسفة لتدريس الفضيلة وتعليم الحكمة للشباب ، يتقاضون مقابلها مبالغ مالية ، وفي إحدى محاورات أفلاطون يتوجه سقراط الى بروتاجوراس عما يقترحه من موضوعات لتعليم الطلبة فيجيب بروتاجوراس : أعلمه كيفية الاهتمام بكل أموره الشخصية ، لكي يحسن إدارة بيته ، وأعلمه كذلك الاهتمام بأمور الدولة لكي يصبح قوة حقيقية في المدينة كمتكلم ورجل أفعال . ربما يعارض البعض قول ” بروتاجوراس ” ويعلن ان الفلسفة مجالها ” التخصص ” وهي لها اساتذة في الكليات وطلبة يدروسنها داخل اروقة الجامعات ، فلماذا تريدون من الناس البسطاء ان يرطنوا بافكار انتهت مع بروز عصر العولمة وظهور الانترنيت وسيطرة السيد ” مارك زوكربيرغ ” وفيسبوكه على حياتنا اليومية ؟ وهناك حتما من سيقول ان الثورة الرقمية يمكنها ان تجادل فيلسوفا بحجم ” مونتسكيو ” ، فهي بامكانها توسيع دائرة النقاش الديمقراطي . في اوائل عصر التنوير كان مونتسكيو ومعه الكثير من الفلاسفة يؤلفون كتيبات صغيرة ورسائل يصفها البعض اليوم بانها قريبة من طوفان الثورة الرقمية في عصرنا ، وتؤدي هذه الرسائل احيانا نفس الغرض الذي تؤديه اليوم مواقع التواصل الاجتماعي ، ولكن السؤال الذي يمكن ان يُطرح : هل كان بإمكان شارل لوي دي سيكوندا المعروف باسم ” مونتسكيو ” المولود قبل 332 عاما على ميلاده – ولد في الثامن عشر من كانون الثاني عام 1689 وتوفي في العاشر من شباط عام 1755- أن يحلم بالمجموعة الواسعة من الوسائط التي نستخدمها اليوم للتعبير بحرية عن آرائنا في الديمقراطية والفصل بين السلطات ، وان مواقع التواصل الاجتماعبي بامكانها اليوم ان تتلاعب بالرأي العام ، وانها احيانا تهدد القيم التي سعى اليها صاحب الكتاب الشهير ” روح الشرائع ” الذي اشتهر ، بـ “فصل السلطات”، وفكرة أن الحكومة المقسمة إلى ثلاثة فروع – تنفيذية وتشريعية وقضائية – تعمل بشكل أفضل ، ظل مونتسكيو يعتقد أن ” الحرية السياسية التي يجب ان يحرص عليها المواطن هي هدوء الروح الذي يأتي من رأي كل فرد بشأن أمنه ، ولكي يتمتع المواطن بهذه الحرية ، يجب أن تتشكل الحكومات بحيث لا يستطيع أي مواطن أن يخشى مواطنا آخر” – روح الشرائع – . بالنسبة لمونتسكيو ، الحرية رأي يتم تشكيله على أساس الكثير من الحقائق، ولكي يدافع المواطنون عن حريتهم من الانتهاكات ، يحتاجون إلى الوصول إلى معلومات موثوقة لتحديد التهديدات المحتملة.. ويفقد المواطنون ميزة الحرية عندما تصر السلطة عبر وسائلها ببث معلومات مظللة ، مثلما يحدث اليوم حين تستخدم الحكومات الاستبدادية والشعبوية والأحزاب المتطرفة وسائل التواصل الاجتماعي لتشكيل الرأي العام من خلال بث رسائل تثير الانقسام بين الناس ، ومن خلال الاستخدام السيء لمواقع التواصل الاجتماعي حيث يتمكن البعض من ترويج المعلومات المضللة والسعي لتقويض الحريات المدنية وحقوق الإنسان. ربما يتساءل البعض ماذا لو عاش مونتسيكو في عصر الثورة الرقمية ؟ ، سيجيبنا هو بنفسه حيث عُرف عنه مواقفه الوسطية في الحكم على الاشياء : ” أقولها ، ويبدو لي أنني كتبت هذا العمل فقط لإثبات ذلك: يجب أن تكون روح الاعتدال هي روح المشرع ؛ دائما ما يوجد الخير السياسي ، مثل الخير الأخلاقي ، بين حدين ” إذا حكمنا من خلال رد مونتسكيوعلى المناقشات حول الديمقراطية في أيامه ، فإن الفيلسوف الفرنسي يجادل بأن صانعي السياسة يجب أن يضعوا قواعد لضمان الحقوق لأشياء مثل “حماية البيانات الشخصية” و “حرية الفكر والضمير و الدين “و” حرية التعبير والمعلومات ” : ” “سيكون لكل مواطن إرادته الخاصة وسيقدر استقلاليته وفقا لذوقه” – روح الشرائع – . لعل ابرز ما اشتهر به مونتسكيو هو طرحه لموضوعة حرية التعبير. يعتقد مونتسكيو أنه من أجل التمتع بالحرية ، يجب أن يكون كل فرد قادرا على قول ما يفكر فيه ، وعليه يجب أن يكون المواطن قادر على تكوين آراءه ، دون تدخل من السلطة وبدون حدود لتحقيق هذه الغاية ، بالتاكيد لو ان مونتسكيو يعيش معنا اليوم لطالب الحكومات بان تفعل المزيد لحماية حرية التعبير من خلال مكافحة الدعاية والشائعات التي ترعاها اجهزة الدولة. في حالة عدم القيام بذلك ، فإن المواطنين “سيشعرون على الفور أن الحياة والممتلكات ليست ملكهم ، وأن من يستطيع أن يسلب أحدهم يمكنه بسهولة أن يسلب الآخر”– مونتسكيو روح الشرائع – في كتابه ” ما هي الفلسفة ؟ ” يرى الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز انه لا يكفي القول ان الفلسفة ” ام العلوم ” لان النضج الهائل للعلوم والتقنيات يستدعي التساؤل عن سبب استمرار الفلسفة ، ولهذا يطالب دولوز الفلسفة على ابداع انماط جديدة من للفكر . ويتساءل دولوز : ما معنى ان نتفلسف في هذا العصر بالذات ؟ الجواب سنجده عند ديكارت الذي يقول اننا نتفلسف اعتمادا على ذواتنا من دون ان يعني ذلك الاستغناء عن فكر الآخرين أوالغاءه . في منشور نُشر مؤخرا ، يخبرنا مؤسس فيسبوك ” مارك زوكربيرغ عن نوع الفلسفة التي يعتنقها ، فقد ظهر علينا السيد مارك بوجهه الطفولي ليعلن انه يمتلك شبكة من القوة الهائلة ، تقوم بجمع البيانات والعلاقات والذكريات والعواطف لأكثر من ملياري شخص ، وليؤكد ان فلسفة فيسبوك لا تبتعد كثيرا عن فكرة ديكارت في عدم الاستغناء عن فكر الآخرين ، ولهذا يكتب مارك زوكربيرغ من ان ” الغرض من أي مجتمع هو جمع الناس معا للقيام بأشياء لا يمكننا القيام بها بمفردنا. للقيام بذلك نحتاج إلى طرق لمشاركة الأفكار الجديدة ومشاركة ما يكفي من الفهم المشترك للعمل معا ” . وهو يرى ان هدف فيسبوك هو تسهيل انشاء أول مجتمع عالمي ، ودفع تطوره. ولتسهيل هذه العملية ،يصرح زوكربيرغ أنه ملتزم بتعزيز المجتمعات التي تكون داعمة وآمنة ومطلعة ومشاركة مدنية وشاملة. كيف سيتطور تاريخ الفلسفة في ظل ثورة المعلومات ؟ ، يجادل الفيلسوف الإنكليزي “جوليان باجيني ” بأن الناس في كل مكان يتعاملون مع نفس الفلسفة باعتبارها تبحث في الأسئلة الأخلاقية . يرفض باجيني ما يقوله البعض من أن الفلسفة تدور حول الافكار ، فهو يرى ان مهمة الفلسفة أن تتناول الحجج والأدلة :” لا جدوى من أن يكون لديك ما يبدو فكرة فلسفية عظيمة ، كالقول مثلا انه ليس لدينا إرادة حرة ، وذلك إذ لم تتمكن من الإتيان بحجج أو ادلة تدعم هذا القول ” .، وباجيني الذي وجد في منصات التواصل الاجتماعي عاملا مساعدا في نشر افكاره يقول ان قوة الفلسفة تأتي من خلال قدرتها على مواصلة التاثير وهو يرى في مواقع التواصل الاجتماعي عاملا مساعدا في نشر الافكار ، والتعرف على جمهور جديد لا يجد ضالته في الورق وانما في شاشة الهاتف او الكومبيوتر جوليان باجيني المولود في التاسع عشر من حزيران عام 1968 في مدينة تقع شرق انكلترا يرى ان مواقع التواصل الاجتماعي جعلت الفلسفة تتساءل عن كل شيء ولا تدعي صحة أي شيء .. وهو يجادل بأنه لا توجد فلسفة تستطيع الهروب من خصوصيات مكانها. حتى الفلسفة العالمية يجب أن تأتي من مكان ما. يصر على ان السؤال ليس من أين أنت ، ولكن إلى أين أنت ذاهب. هل الفلسفة لا تزال مهمة يقول باجيني ان لكل ثقافة فلسفاتها وفي شكل اتجاهات مميزة في صنع القرار ، حيث تكمن الفلسفات في النسيج المادي الذي يحيط بالشعب ، في هندسته المعمارية ، وأدواته ، وتجربته في الحياة ، وهذه التجربة في الحياة هي التي تجعل مواطنا عراقيا مثل ” جنابي ” يجلس وراء جهاز الكومبيوتر يكتب متذكرا حكايته مع الفلسفة وغرامه بـ” ول ديورانت ” وبفضل السيد مارك زوكربيرغ وشبكته الزرقاء K ومعه السيد ماسك وعلامته ” x ” سيقرأ هذا المقال العديد من الاصدقاء والمعارف في بلدان مختلفة ، وايضا بفضله ساعثر على صورة لكتابي ” دعونا نتفلسف ” وهو يحشر نفسه وسط مجموعة من امهات كتب الفلسفة منها كتب ول ديورانت ، انظر الى الصورة بدهشة وتعجب ، واتذكر ذلك الفتى الذي لم يكن يتوقع يوما ان اسمه سيجاور اسم كاتب عظيم مثل ديورانت .

*صحفي عراقي من جيل الرواد رئيس تحرير (المدى) البغدادية

زر الذهاب إلى الأعلى