فكر وفن

رحيل حلمي التوني… الفنان الذي جعل الألوان تغني

 

رحل عن عالمنا الفنان التشكيلي حلمي التوني عن عمر يناهز 90 عاماً، وهو فنان متعدّد المواهب، رسم اللوحات الزيتية والأعمال الكاريكاتورية، وكذلك صمَّم أفيشات أشهَر الأفلام المصرية، والإعلانات، وصفحات المجلات والصحف وأغلفة الكتب. ساهم عبر عمله الغزير بتشكيل الحس البصري لدى أجيال من الأطفال والكبار العرب على حد سواء. وسعى إلى تطوير أسلوب عربي حقيقي في الرسم التصويري، وذلك بمزيج من الأنماط الحروفية القديمة، والرموز الإسلامية والقبل-إسلامية، والثقافة الشعبية، والنمط الحداثي في الرسم التصميم.
ولد التوني في محافظة بني سويف بمصر في 30 نيسان 1934، حصل على بكالوريوس كلية الفنون الجميلة تخصص ديكور مسرحي العام 1958 ودرس فنون الزخرفة والديكور، وأقام العديد من المعارض، المحلية والدولية. وصمم ما يزيد على أربعة آلاف من أغلفة الكتب.

في حوار مع جريدة “الحياة” في آب 2015، يجيب على سؤال متعلق بالبدايات: “البداية كانت وأنا في عمر سبع سنوات، مع أول صورة أرسمها وتلقى استحسان والدي. ما زلت أذكر تلك الواقعة لأنها أثّرت في مجرى حياتي، بعدها كنت أمارس الرسم طوال فترات الإجازة وأنا طالب في المدرسة”. ويكمل التوني وكأنه يوجه الكلام مباشرة إلى حنان وأمها: “تعثرت قليلاً في دراستي بعد وفاة والدي. وبعد حصولي على الثانوية العامة، أردت الالتحاق بكلية الفنون الجميلة في القاهرة، لكن أهلي رفضوا ذلك باعتبار أن الصورة المأخوذة في تلك الفترة عن الفن هي أنه «ما بيأكلش عيش». أرادوا أن ألتحق إما بكلية الزراعة أو الهندسة، وانتهى الصراع بأحد الأمور الوسط، وهي أن ألتحق بقسم الديكور باعتباره الأقرب إلى الهندسة. لكني تعلقت أكثر بالرسم والتصوير، فكنت دائم التنقل بين أقسام الرسم والتصوير بالكلية، وهكذا بدأت”.

عكف التوني في البدء على تصميم مجلّة “الكواكب” المصرية، ثم تسلم الإدارة الفنيّة في “دار الهلال”. وهو من وضع أجمل أغلفة نجيب محفوظ، ووضع لمساته الخاصة على صورة نسائه التي رسمها بشكل لا ينسى، حتى أن الباحث أشرف أبو اليزيد قال: “أعادت مصرية التوني التشكيلية تفسير مصرية محفوظ السردية بصرياً، حتى إن نكهة أحدهما لم تتفوق على الآخر، ولم تغالب مكانة الفنان الأديب، وإنما نهل متبادل، لأن المعين واحد”. كما صمم غالبية أغلفة روايات إحسان عبد القدوس التي التصقت بالذاكرة. فعمله مع “دار الشرق” للنشر جعله على تماسّ مع نصوص كبار الكتّاب، ووضع أغلفة لأنيس منصور، وعبد الوهاب البياتي، وإبراهيم عبد المجيد، ورضوى عاشور، وآخرين.

حين كان حلمي التوني في القاهرة مديراً فنياً في “دار الهلال”، أصدر الرئيس أنور السادات قراراً بطرد أكثر من 100 صحافي لمطالبتهم بإنهاء حال المراوحة مع إسرائيل التي تأرجحت بين السِّلم والحرب. هكذا طُرد التوني من عمله بتهمة الشيوعية، مع أنه لم يكن كذلك، ووجد نفسه بلا عمل لشهرين. يقول التوني في برنامج “معكم منى الشاذلي” أنه عمل في مسرح عرائس مع صلاح جاهين، متابعاً: “أنا قعدت في بيروت 13 سنة، السادات زعل مننا عشان كنا بنقوله لازم تحارب، فعمل لجنة النظام، يعني الناس دول يتحبسوا، والناس دول يترفدوا، وأنا كنت من المرفودين”، واستكمل: “وأزاي تم رفدي، كان في ساعي أسمه عم محمود علي، لقيته جايبلي ورقة صغيرة، مكتوب فيها، ممنوع تواجدكم على مكاتبكم من الآن”…وكان التوني الفنّان الوحيد في لائحة ضمّت: نجيب محفوظ، وتوفيق الحكيم، وأحمد بهاء الدين، وألفريد فرج، وجمال الغيطاني الذين نُقلوا للعمل في هيئة الاستعلامات. قضى شهرين لا يعرف ماذا يفعل. أراد عرض أعماله، لكنّ قاعات القاهرة أقفلت في وجهه.. قبل أن يقرر التوجه إلى بيروت، وكانت العاصمة اللبنانية في حالة غليان ثقافي.

تعتبر اقامته في بيروت مرحلة التحول الحقيقي، حيث صمّم عشرات الملصقات التي تُمجّد “المقاومة”، ضمن تعاونه مع الإعلام الموحد لـ”منظّمة التحرير الفلسطينية”، ووثّق برسومه حصار بيروت الذي عاش تفاصيله مع المحاصَرين العام 1982، وضع لوغو جريدة “السفير” اللبنانية (المحتجبة الآن) وشعار النادي الثقافي العربي… يقول: “هناك (بيروت)، استفدتُ من انفتاح لبنان على الغرب وكانت الطباعة متقدّمة، والإمكانات متوافرة مقارنة بمصر ذات الإمكانات الاقتصادية المحدودة بسبب الحرب”.

التحق بـ”المؤسسة العربية للنشر” بفضل علاقته بالناشر عبد الوهاب الكيالي، وبالمقاومة الفلسطينية، وراح يصمّم ملصقات المقاومة وبوستراتها، وتعاون مع مؤسّسات ثقافيّة وجمعيات اجتماعية أخرى، من بينها “دار الفتى العربي” و”جمعية المقاصد الخيريّة الإسلاميّة”، ومنحه “معرض الكتاب العربي في بيروت” الجائزة الأولى لأفضل غلاف وتصميم كتاب لثلاث سنوات على التوالي (1977 – 1979). وحاز “جائزة اليونيسيف للعام الدولي للطفل” العام 1979. وعاد التوني الى القاهرة بعدما اجتاحت الحرب بيروت.

مزج حلمي التوني، بألوانه الزاهية الصاخبة المغناة والمرحة، بين الأسطورة والجو الشعبي برموزه وطقوسه، متخذًا من المرأة المصرية أيقونة وموضوعاً لمعظم لوحاته. يقول: “حتى في أعمالي للكبار على مدار السنوات أحاول دائماً إشاعة البهجة في نفوس الناس عن طريق الفن، فالمجتمع يعاني ضغوطاً كثيرة ويمكن أن تكون اللوحة التشكيلية متنفساً للشخص عندما يشاهدها فتنقله لعالم آخر مليء بالسعادة والألوان، وتكون حالة إيجابية مشرقة وسط المشكلات التي يعانيها الناس، فالعين تطرب وتستمتع برؤية الفن مما ينعكس على الحالة العامة للشخص”. وعلى امتداد تجاربه، استعان التوني بالكثير من الرموز التي تعود إلى الفنّ المصري القديم، بما يعكس اعتزازه بالانتماء إلى قريته تونا الجبل، التي وُلِد فيها وهي غير بعيدة من مقابر بني حسن في مدينة المنيا، أو مدينة أخناتون، بصعيد مصر.
واعتاد الفنان أن تحتفي لوحاته بالمرأة المصرية والفلسطينية والروائية ويضعها في دور البطولة؛ ويرى أنّ جسد المرأة يقدّم خطاباً يعكس العديد من التحوّلات المجتمعية. استفاد التوني من منطلقات الفنّان الشعبيّ الفطريّ وأدواته في تجسيد الحكايات الشعبية ورسمها على عربات الأراجوز أو الجداريّات الشعبيّة التي تستلهم قصص ألف ليلة وليلة ورسوم الحج أو حكايات السيرة الهلالية. تتكرّر في لوحاته بطريقة الرموز الشعبية نفسها، لا سيما بالأسماك والطيور، فالأسماك لديه هي رمز للخصوبة.
وتتسم أعمال التوني كذلك بسِمة الطفولة والرغبة في تعزيز حالة المرح، بألوانه الحارّة والحيويّة. كما أنّ الخطوط والتكوينات بسيطة وسهلة ولها القدرة على مخاطبة كافة الفئات والأعمار. كذلك تجد في أعماله الأسد، وهو كناية عن الشجاعة والقوة، أضف إليها الأواني المنزلية، والعقد حول عنق امرأة، والطفل الذي يحمل الشمعة، لكنك قليلاً ما ستعثر على رجل، فهو لا يحب رسم الرجال، ويفضل بدلاً منهم الأحصنة خصوصاً الجامحة. ويصف نفسه بأنه رسّام غنائي: “أنا مواطن أغنّي لبلدي وأرسمها… أحب الرومانسية وأريد أن أُفرح الناس”. بل إن أغلفته ولوحاته هي انعكاس لأغنيات سمعها. “أنا بتاع الحب والوطنية، مش ندّابة”.

 المصدر : (المدن) البيروتية

 

 

زر الذهاب إلى الأعلى