سوريا الجديدة واليسار الغربي: عَوْد على بدء اعوجاج صبحي حديدي

لم يكن طيباً حظّ الانتفاضة الشعبية السورية، 18 آذار (مارس) 2011، مع تيارات وشرائح مختلفة تمثّل اليسار الأوروبي والأمريكي عموماً، وليس اختيار مفردة «حظّ» هنا سوى مسعى لغوي مقصود، يتيح ترحيل الأسباب إلى اعتبارات فوق ــ منطقية، إذا جاز القول؛ بالنظر إلى أنّ انتفاضة أيّ شعب، ضدّ الاستبداد ومن أجل الحرية والكرامة والحقوق، يتوجب أن تحظى بتأييد قوى تزعم الانتماء إلى حقّ الشعوب في الثورة والتحرر وتقرير المصير. وكان محزناً على نحو خاصّ، ويجافي صواب المنطق الأبسط، أنّ تخلّف تلك التيارات عن تأييد الانتفاضة الشعبية السورية، ونزوعها على العكس إلى أخذها بجريرة «الإمبريالية العالمية» و«الرجعية العربية»، أفضيا تلقائياً إلى الاصطفاف خلف الاحتلالَين الإيراني والروسي، ثمّ في صفّ نظام بشار الأسد ذاته في نهاية المطاف.
أحد الأمثلة الساطعة/ الفاقعة كانت، وتظلّ اليوم أيضاً، تحوّلات الكاتب اليساري الباكستاني ــ البريطاني طارق علي، بما يحمله من متاع تروتسكي وتمرّد فوضوي على الطريقة البلانكية؛ هكذا:
ــ اتهام المعارضة السورية المسلحة (في حديث من شاشة الفضائية الروسية!) بمجزرة الحولة، أيار/ مايو 2012، التي ذهب ضحيتها 108 أشخاص، بينهم 34 امرأة و49 طفلاً؛
ــ العودة عن هذا الرأي إلى تقدير آخر يعترف بأنّ النظام هو المذنب في الضربة، وأنّ علي تسرّع أوّلاً بسبب من مقابلة متلفزة قصيرة لم تتجاوز 6 دقائق؛
ــ الرجوع عن التقديرَين معاً، ولكن بعد مرور 13 سنة، في عام 2025 حين كان نظام «الحركة التصحيحية» قد انهار، حيث ركن علي إلى هذه الخلاصة: «لا نعرف إذا كان النظام قد استخدم الأسلحة الكيميائية».
وفي مقالة أولى أعقبت سقوط النظام السوري مباشرة، حملت عنوان «طُرُق دمشق»، نشرتها «مجلة اليسار الجديد» NLR البريطانية، التي ارتبط بها علي طويلاً وهو عضو في هيئة التحرير الاستشارية؛ يبدأ علي السطور الأولى بالتشديد التالي: «لا أحد، ما عدا قلّة من المحاسيب الفاسدين، سوف يذرف الدموع على رحيل طاغية. ولكن لا يتوجب أن يكون هناك شكّ في أنّ ما نشهده في سوريا اليوم هو هزيمة هائلة، 1967 مصغّرة للعالم العربي (…) الأسد لاجئ في موسكو. جهازه البعثي عقد صفقة مع القائد الشرقي للحلف الأطلسي رجب طيب أردوغان (أعماله الوحشية في إدلب عديدة) وقدّموا البلد على طبق».
وبمعزل عن نبرة الجزم القاطعة المانعة، «لا يتوجب أن يكون هناك شكّ»، المضحكة المبتذلة إذْ تأتي من ذهن يزعم دائماً الانتماء إلى الماركسية، وبالتالي إلى علوّ الجدل المادّي التاريخي على التعميم والإطلاق؛ في وسع مواطن سوري من غير «المحاسيب»، بالغ الابتهاج بانتهاء الأسد هارباً لائذاً في موسكو، أن يردّ على علي هكذا: أليست هذه بمثابة دموع على الأسد مبطنة مموّهة، يا متعلمين يا بتوع المدارس، مع حفظ الاقتباس للفنان المصري الراحل سعيد صالح؟ أهي «هزيمة هائلة» أنّ سوريا طوت 54 صفحة من نظام المجازر والاستبداد والفساد والنهب وانتهاك الحريات والتبعية والتمييز الطائفي والمناطقي؟ ومَن يُهزم فيها، حسب علي، ليس الشعب السوري وحده، بل العالم العربي بأسره؟ وإذا كان يوم 8 كانون الأول (ديسمبر) 2024 صنيعة الإمبريالية الأمريكية، كما يزعم علي، فكيف يحدث أنّ واشنطن، دونالد ترامب بعد جو بايدن، ما تزال تمانع في رفع العقوبات عن سوريا؟
وانخراط الإمبريالية الأمريكية في «إسقاط الأسد»، كما يفضّل علي القول، رافضاً بالتالي سقوط إرث «الحركة التصحيحية» في الشكل والمحتوى؛ يسعى إلى إحداث «فراغ» من نوع جديد، مفاده تجريد سوريا من السلاح، بما يتيح لتركيا ولأمريكا ملء الفراغ، مستعينة في هذا بـ«هيئة تحرير الشام». والذي كان يحفظ لهذا الرجل بعض كرامة عقلية، اكتسبها خلال ستينيات القرن المنصرم عبر الانخراط في تظاهرات الطلاب وتعرية أكداس العفن في بريطانيا؛ ألا يحقّ له أن يشفق على عقل يتبنى هذه المعادلة البائسة العرجاء الكليلة؟ أيّ سلاح ذاك الذي استخدمه آل الأسد ضدّ الإمبريالية العالمية، ودولة الاحتلال، ليس على مدى 14 سنة من توريث الأسد الابن، بل 30 سنة من حكم الأسد الأب؟ وفي المقابل، كم من الأسلحة، الفتاكة والكيميائية والبدائية الهمجية البراميلية، استخدم آل الأسد على سبيل كسر الإرادة الشعبية في سوريا؟ وأيّ ماركسي هذا الذي يفضّل نظرية مؤامرة تبسيطية خرقاء، على الأخذ بعين الاعتبار تضحيات الشعب السوري وعشرات آلاف الضحايا وملايين المهجرين والتدمير المنهجي المعمم وتسليم البلد إلى خمسة احتلالات؟
طريف إلى هذا أنّ ذاكرة علي لا تبدو يقظة بما يكفي للتمييز بين بعثي سوري مثل يوسف زعيّن، التقاه التروتسكي الباكستاني ــ البريطاني قبل 57 سنة؛ وبين الأسد الأب، رأس انقلاب 16 تشرين الثاني (نوفمبر) 1970 الذي أطاح بزعيّن نفسه، صحبة آخرين أمثال نور الدين الأتاسي وصلاح جديد؛ بحيث خلط بين هؤلاء جميعاً ليزعم أنّ البعث السوري «مستنير» و«راديكالي» يعتزم تحويل سوريا إلى «كوبا الشرق الأوسط»، في مواجهة «النزعة القومية المحافظة» في المنطقة! والمقارنات على هذا الطراز الفاضح تقود علي إلى عقد مشابهة بين الأقلية السنّية التي ساندت صدّام حسين في العراق، والأقلية العلوية التي ساندت آل الأسد في سوريا؛ على خلفية مشتركة هي ضمان «شبكة أمان قاعدية» للأقليات. وهنا أيضاً، لم يكن هذا اليساري المخضرم في حاجة إلى مراجعة أدبيات كارل ماركس في اقتصاد النهب، كي يقف على شبكات الولاء والنهب والفساد والإجرام والكبتاغون، التي ترعرعت في قلب ما يشير إليه من شبكات قاعدية في سوريا.
وفي مقالة ثانية، مسهبة هذه المرّة، حملت عنوان «أراضٍ تحت الاجتياح»، نشرتها المجلة ذاتها مؤخراً؛ استعرض علي مآلات التقاسم الجيو ــ سياسي للمنطقة من جانب الاستعمارَين البريطاني والفرنسي عند تفكيك الإمبراطورية العثمانية؛ وكما تتجلى اليوم في السعودية ومصر وليبيا وسوريا وإيران، و«فلسطين ــ إسرائيل» حسب صيغته.
حصّة سوريا من هذه المآلات يذهب بها علي سريعاً نحو أطوار ما بعد «إسقاط» النظام السوري، حيث البلد تشهد اليوم «تحالفاً غير رسمي» بين ثلاث قوى: «هيئة تحرير الشام»، بقايا منظمة «القاعدة» مدعومة من تركيا، والكرد السوريون (بالتحالف مع دولة الاحتلال الإسرائيلية، بالنسبة إلى هذه القوّة الثالثة). نعم، صدّقوا أنّ هذا الماركسي المخضرم ينتهي إلى هذه الخلاصة الكسيحة، التي لا تغمض البصر والبصيرة عن حقائق دامغة على الأرض، لعلّ أطفال سوريا باتوا على دراية بها، فحسب؛ بل تضع في سلّة واحدة ابتهاجَ الشعب السوري بانطواء صفحة النظام، وابتهاج «الكارتل الأمريكي ــ الإسرائيلي» للسبب ذاته. مدعاة إشفاق على الرجل، هنا أيضاً؟ الأرجح أنّ مآلاً كهذا، خاطئاً تماماً وبليداً وغبياً، يستدعي ما هو أبعد من مجرّد الشفقة.
وهذا التحالف، في ناظر علي، هو «زواج عُقد في الجحيم»، لأنّ «سوريا لم تعد دولة ذات سيادة»؛ و«المرحلة ما بعد الكولونيالية بلغت نهايتها»؛ والولايات المتحدة تريد فرض «نموذج الخليج على هذه الأراضي الواقعة تحت الاجتياح»؛ والأساس أنّ «حرباً أهلية اندلعت، وتضمنت ارتكاب الفظائع على الجانبين. ولا نعرف إذا كان النظام قد استخدم الأسلحة الكيميائية».
وهكذا… لا عجب، استطراداً، أن تنتهي خلاصات طارق علي إلى هذا المستوى من الهبوط والهزال والخطل؛ فهي إجمالاً ليست أكثر من عَوْد على بدء اعوجاج، قديم/ مقيم.
كاتب وباحث سوري يقيم في باريس