شعر «نيويوركر»: درويش يجاور نيرودا صبحي حديدي

هو طراز من المختارات الشعرية يندر أن ينهض على مصدر نشر واحد، ويعكس في الآن ذاته عشرات وربما مئات الأغراض والأساليب والتيارات والأشكال في جنس إبداعي واحد هو الشعر، وفي لغة واحدة هي الإنكليزية، كُتبت بها القصائد أو تُرجمت إليها. هذه، في اختصار أوّل ضروري، هي حال «قرن من الشعر في نيويوركر: 1925ـ2025»، المختارات التي صدرت مؤخراً عن ألفرد كنوف في نيويورك، وضمّت قصائد لأكثر من 500 شاعرة وشاعر، على امتداد 1025 صفحة.
اختار القصائد وحرّر الكتاب كيفن يونغ، محرر الشعر في المجلة، ويدير على موقعها بودكاست متميزاً عن الشعر والشعريات؛ وهو صاحب مراس طويل في هذا المضمار تحديداً، لأنه أصدر من قبلُ تسع مختارات شعرية متنوعة، بينها «الشعر الأفريقي الأمريكي: 250 سنة من النضال والأغنية». مع ذلك، لم تكن مهمته شاقة ومعقدة وحمّالة عثرات شتى لجهة اختيار الأسماء فحسب، بل كانت أقرب إلى مقارعة الخطل أو الإجحاف أو الانتقاص إزاء كلّ شاعرة وشاعرة، بين ما يتجاوز 13,500 قصيدة دأبت «نيويوركر» على نشرها منذ تأسيسها أواخر شباط (فبراير) 1925 في نيويورك.
صعوبة أخرى اكتنفت عمل يونغ، لجهة الاستقرار على خيار/خيارات في توزيع القصائد، وما إذا كان يجب اعتماد تسلسل للقصائد يتبع تواريخ نشرها في المجلة، أو تقسيمها إلى أغراض تارة، وتيارات شعرية تارة أخرى، أو حتى حسب اللغة الأمّ التي كُتبت بها. ولقد حسم الرجل حيرة لا يُحسد عليها، والحقّ يُقال، فاعتمد سلسلة من المعايير المختلطة أو المتقاطعة أو المتكاملة، فانتفى عناصر تاريخ الكتابة أو النشر، واللغة (أو جنسية الشاعرة والشاعر، تالياً)، والمكان والزمان؛ لصالح تصنيفات يلوح بعضها غريباً بعض الشيء (مثل مشاغل الحياة اليومية، وطقوس الصباح والظهيرة والمساء والليل، أو العقود ذات الخصوصية…)، وجهد لها أن تقيم صلات دلالية: عريضة عمومية تارة، أو ملموسة خصوصية تارة أخرى.
ولقد نجح في هذه المقاربة الذكية، إلى حدّ كبير في ظنّ هذه السطور بالطبع، التي لم تغبْ عنها جسارة بيّنة في المجاورة بين شاعر وشاعرة هنا وهناك، وبالتالي بين نصّ شعري وآخر قد يلاقيه أو يناقضه، في الشكل كما في المحتوى، وفي جماليات الكتابة كما في السياقات التاريخية أو السياسية أو الاجتماعية أو الثقافية التي تكتنف النصوص الشعرية. ففي قسم أوّل عنوانه «جرس الصباح»، يتجاور و. س. مروين مع و. هـ. أودن وديريك ولكوت؛ وفي «استراحة الغداء» نجد سيلفيا بلاث مع جيسواف ميوش وآن سكستون ومحمود درويش؛ وحقبة الستينيات والسبعينيات تضمّ أمثال إزرا باوند، يانيس ريتسوس، إليزابيث بيشوب، مارك ستراند، وبابلو نيرودا… الأمر الذي لا يعني أنّ أياً من هذه الأسماء لا يندرج أيضاً في تقسيمات أخرى.
لافت في ناظر هذه السطور دائماً أنّ الـ»نيويوركر» نشرت قصيدة باوند «كانتو 113» في عددها بتاريخ 30 تشرين الثاني (نوفمبر) 1968، وكان الشاعر على قيد الحياة يومذاك، لكنه لم يكن قد حظي تماماً بتسامح أوساط سياسية وأدبية، أمريكية خصوصاً، لم تغفر له حماسته لشخصية بنيتو موسوليني؛ الأمر الذي يؤشر على خطّ ليبرالي، وربما حداثي في اعتبارات كثيرة، كانت المجلة تنتهجه. لافت كذلك ترحيب تحرير «نيويوركر» بشاعرات وشعراء شباب من جنسيات مختلفة ذات أصول مهاجرة، آسيوية خصوصاً، ولكنها كتبت بلغة إنكليزية تميزت سريعاً وتركت بصمتها على المشهد الشعري الأمريكي.
المختارات خارج اللغة الإنكليزية، أي المترجمة إليها هنا، احتوت على أمثال خورخيه بورخيس، فلاديمير نابوكوف، أوكتافيو باث، فيسوافا شيمبورسكا، إيميه سيزير، مايكل أونداتجي، زبغنيو هربرت، و. ج. زيبولد. حصة اللغة العربية ذهبت إلى محمود درويش، أدونيس، ناومي شهاب ناي، فادي جودة (شاعراً ومترجماً لدرويش)، خالد مطوع (مترجم أدونيس)، حلا عليان، ومصعب أبو توهة. أسباب متنوعة جعلت شعراء وشاعرات فلسطين أغلبية، في ما نشرت «نيويوركر» وما اختار يونغ، على حدّ سواء، ليس هنا المقام المناسب لاستعراضها؛ ولكن يمكن الافتراض في المقابل أنّ البُعد السياسي لم يتفوّق على الأبعاد الجمالية خلف الخيارات.
تبقى إشارة إلى أنّ قصيدة درويش الأولى ضمن المختارات هي «بقيّة حياة»، من مجموعته «أثر الفراشة»، 2008؛ ويسير مطلعها هكذا: «إذا قيلَ لي: ستموتُ هنا في المساء/ فماذا ستفعل في ما تبقى من الوقت؟/ ـ أنظرُ في ساعة اليدِ/ أشربُ كأس عصيرٍ/ وأقضمُ تفاحةً/ وأطيلُ التأمّل في نملة وجدت رزقها…/ ثمّ أنظر في ساعة اليد». قصيدة ثانية هي «هنا تنتهي رحلة الطير»، من مجموعته «وردٌ أقلّ»، 1986؛ وتبدأ هكذا: «هنا تنتهي رحلة الطير، رحلتُنا، رحلةُ الكلمات/ ومن بعدنا أفقٌ للطيور الجديدة، من بعدنا أفقٌ للطيور الجديدة/ ونحن الذين ندقّ نحاس السماء، ندقّ السماء لِتَحفر من بعدنا طرقاتْ/ نصالح أسماءنا فوق سطح الغيوم البعيدة، سطح الغيوم البعيدةْ/ سنهبطُ عمّا قليل هبوط الأرامل في ساحة الذكريات/ ونرفع خيمتنا للرياح الأخيرة: هُبّي وهبّي، لتحيا القصيدة».
مختارات من طراز خاصّ، جديرة بالترحيب إذن؛ يتجاور فيها درويش مع نيرودا، وروبرت فروست مع سلماز شريف!