عرب الداخل: ضحايا الصراع الإسرائيلي في زمن الحروب جواد بولس
لم يكن القرار الإسرائيلي بنقل الجبهة اللبنانية إلى مرحلة عسكرية جديدة مفاجئا؛ فإبقاء المواجهة مع حزب الله وفق تعريفه لها «كجبهة إسناد لغزة» فقط، لم يعد يتماشى ومخطط حكومة إسرائيل الكبير، وأهدافها الرامية إلى تدمير القطاع وتهجير سكانه والقضاء على قوة «حركة المقاومة الإسلامية» العسكرية في غزة، ومع القضاء على قوة حزب الله العسكرية؛ أو على الأقل تحييد الحزب وإجبار عناصره على التراجع إلى مواقع لبنانية جديدة، لتضمن إسرائيل وجود شريط حدودي آمن لها، وخلق واقع سياسي جديد يؤدي إلى إضعاف مكانة حزب الله على الساحة اللبنانية الداخلية، وخلخلة دوره كعضو بارز ضمن قوى «محور الممانعة» الناشطة تحت الراية الإيرانية.
من الصعب، في هذه الأيام، التكهن بشأن التداعيات المحتملة لهذا التصعيد، الذي بدأ، من دون شك، بعد أن وافقت عليه الإدارة الأمريكية، بعد أن ضمنت عدم معارضة حلفائها في المنطقة وداخل لبنان نفسه للخطوة الإسرائيلية، في حين تمتنع إيران لغاية الآن عن التدخل، بينما لا تتحرك الدول الكبرى التي لها مصالح استراتيجية كبرى في المنطقة، بل تكتفي بشجب الفعل الإسرائيلي وبانتقاده.
يحاول نتنياهو أن يرسم بواسطة نيران حروبه الحالية «خريطة جديدة للمنطقة»، كما صرح في أكثر من مناسبة؛ ويستهدف بالطبع، أوّل ما يستهدف بقرارة نفسه، نسف إمكانية إقامة الدولة الفلسطينية، وإحياء «حلف إبراهيمي» جديد أو ما يشبهه، بحيث تتوسطه إسرائيل وترعاه الولايات المتحدة كقوة مناهضة للنفوذ الإيراني في بعض دول المنطقة.
أمّا على الصعيد الإسرائيلي الداخلي فنتنياهو يستغل، من جهة، مسألة التصعيد الحربي على الجبهة اللبنانية لتعزيز مكانته السياسية داخل الأوساط الغوغائية الشعبوية الإسرائيلية، ومن جهة أخرى يستغلها من أجل إجهاض محاولات أحزاب المعارضة ضعضعة استقرار حكومته، ولضبط بعض ظواهر الفوضى والانفلات، التي بدأت تظهر داخل توليفة ائتلاف حكومته وتؤثر على صورته كقائد سياسي محنك وقوي، يجب ألا يجرؤ أحد من داخل حزبه وحكومته أن يتحدى زعامته أو أن يتمرد عليها. لقد بدأ نتنياهو يشعر بأنه لا يستطيع الاستمرار بتسويق وبتبرير مشهد الهزيمة المتمثل بنزوح أهل بلدات شمال إسرائيل عن منازلهم، وبشل جميع أشكال الحركة والحياة في المنطقة الشمالية؛ ولم يعد محتملا، بعد مرور ما يقارب العام، الإبقاء على حالة اللاحرب واللاسلم مع حزب الله، خاصة بعد عودة الاحتجاجات الشعبية إلى شوارع المدن الإسرائيلية وعودة الانتقادات معها لسياساته التي فشلت باستعادة المخطوفين من غزة، وفشلت بالقضاء على حماس، وفشلت أيضا بطرح أي رؤية سياسية واضحة لما بعد انتهاء الحرب ومصير مستعمرات غلاف غزة ومستعمرات الشريط الشمالي وأمنهم في المستقبل. من المستفز أن نرى كيف تستغل القوى والحركات اليمينية وحكومة نتنياهو عملية السابع من أكتوبر وتداعيات حالة الحرب، من أجل تنفيذ مخططاتها السياسية على مستوى الساحة الداخلية الإسرائيلية وتأليب الرأي العام ضد مواطني الدولة العرب، ومن لا يدعم سياستها الحربية، أو من يعلن معارضته أو تحفظه منها.
فخلال العام المنصرم استمرت القوى الانقلابية التي تشكل الحكومة الحالية، بتنفيذ مخططها وتشديد سيطرتها على مؤسسات الدولة. ومن أهم إنجازاتهم وأخطرها يمكننا أن نسجل: إخضاع وزارة الأمن الوطني بالكامل لإرادة وسياسة الوزير إيتمار بن غفير، والسيطرة على مؤسسة «مراقب الدولة»، وعلى «مجلس التعليم العالي»، وعلى وزارة المالية، وعلى هياكل الإدارات التنفيذية في معظم الوزارات. ولعل أبرز المعارك التي تدور حاليا داخل إسرائيل، في الوقت نفسه مع استمرار حربي الحكومة على غزة وعلى لبنان، هي المعركة ضد المحكمة العليا، وتمرد معظم وزراء حكومة نتنياهو، بدعمه شخصيا، على قراراتها وأحكامها، وإعلان إصرارهم على «احتلالها» وإخضاعها لإرادتهم ضمن مشروع بناء الدولة التوراتية الفاشية الجديدة.
ليس لديّ شك بأن المحكمة العليا الإسرائيلية سوف تسقط قريبا، ففي إسرائيل الحالية لا يوجد من يستطيع حماية المحكمة وإنقاذها من الهزيمة الأخيرة. إسرائيل اليوم هي مجرد مسخ ولد في حقول من الدماء والرصاص وكبر وصار وحشا في حضن إسرائيل الأم، وعلى مستنقعات احتلالها وفي ظل ممارساتها لسياسات القمع والقهر والعنصرية التي احتضنتها ورعتها هذه المحكمة العليا ذاتها منذ أول يوم لإنشائها وحتى أيامنا هذه. سوف تسقط المحكمة العليا كآخر رمز من رموز إسرائيل المهزومة، ولن يتبقى على المنتصرين إلا أن يُخضعوا بقايا المنظومة الأمنية القديمة، التي يحاول رؤساؤها النجاة بأنفسهم وحماية أجهزتهم من سيطرة فقه المنظومات والحركات الغيبية والفاشية. أراهن على أنهم لن يصمدوا وسيسقطون مع أجهزتهم كما سقطت سائر منظومات الحكم ومؤسساته.
نحن على أعتاب مرحلة سياسية خطيرة جديدة، قد نشهد فيها ولادة خريطة جديدة، سياسية وجغرافية، لمنطقتنا؛ لكننا حتما سنشهد ولادة إسرائيل الجديدة. ستنتهي الحربان الحاليتان ضمن اتفاقات سياسية وشروط ستمليها معطيات النهايات المتشكلة وموازين القوى المحلية والقطرية والعالمية، وسنبقى، نحن المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل، رهائن لمستقبل مجهول ونواجه مصيرنا في واقع أشد خطورة علينا، وداخل دولة يعتبرنا حكامها ومعظم سكانها أعداءهم وخطرا عليهم يتوجب اقتلاعه. أقول ذلك وأعرف أننا بحاجة لمن يزرع الأمل فينا والثقة، لكنني أقوله وأعرف أيضا أننا قوم شاخت جباهنا، ونحن واقفون على مفارق التاريخ وقد طارت العصافير عن بيادرنا، وصرنا نعدّ في كل صباح أضلاعنا ونداري قلوبنا خشية أن يُسكتها الحنين أو يسقطها الوجع. وفي الليالي نأوي إلى صدور «القصب» ولا ننام إلا على قلق النايات ونخاف من الغد ومن الندم.
يجب أن نبقى واقعيين ونرى ما يجري في مواقعنا، فإسرائيل اشعلت حربين على جبهتي غزة ولبنان وتدير حربها الثالثة، داخل مناطق الضفة المحتلة وتمارس كل هذا وأعينها علينا وتحريضها ضدنا لم يتوقف ولا للحظة، حتى بات استهدافنا اليومي رياضة قومية يهودية، والاعتداءات العنصرية ظاهرة يومية وعادية. فعلى سبيل المثال قرأنا مؤخرا كيف حاولت نقابة الطلاب في جامعة حيفا منع اشتراك الطلاب العرب في الانتخابات العامة للنقابة، بقرار عنصري فاشي، وقرأنا أيضا كيف اعتدى جندي احتياط على سائق عربي لمجرد أن السائق كان يستمع لموسيقى عربية داخل سيارته في محطة وقود. وقرأنا عن الاعتداء الخطير الذي تعرضت له طالبة عربية في إحدى مدارس مدينة بئر السبع حيث تدرس مع طلاب يهود ادعوا أنها صرحت عن تعاطفها مع الفلسطينيين، وأنها حرضت على الدولة وجيشها. كان هذا الادعاء الذي نفته الطالبة وأبوها، كافيا لملاحقتها من قبل عشرات الطلاب ومحاولتهم الاعتداء الجسدي عليها، وإمطارها بالشتائم والصراخ والتوعد بحرقها وحرق القرية التي تسكنها. نجت الفتاة بعد تدخل إحدى المعلمات وحمايتها، لكن ادارة المدرسة طلبت منها الا تعود إلى التعليم، بينما طالب نائب رئيس بلدية بئر السبع بضرورة إبعادها وطرد أهلها من المدينة وسحب المواطنة الإسرائيلية من جميع أفراد أسرتها، علما بأنه ثبت بان كل ما قالته كان أن الحرب في غزة حصدت أرواح الكثيرين من الأبرياء، وكان هذا ردها على سؤال من طالب يهودي مستفز حول رأيها في الحرب على غزة.
لن أعدّ في هذه المقالة قوائم الاعتداءات العنصرية التي تتم على المواطنين العرب بشكل يومي في الشوارع الإسرائيلية، وفي الأماكن العامة وأماكن العمل، ولا قائمة الملاحقات السياسية التي تمارسها أجهزة الحكومة بحق جميع من يعارضون سياساتها، من عرب ومن يهود، لكنني أؤكد أننا نواجه ظاهرة خطيرة للغاية هي في الواقع بمثابة جبهة حرب رابعة علينا نحن المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل. إنها حرب مختلفة، فعندما سيتوصل العالم إلى حل بشأن الحربين على غزة وعلى لبنان سيبقى الفلسطينيون في الضفة عُزّلا، ونحن داخل إسرائيل مجرد كائنات مدجّنة ومهددين، إما بحرق قرانا، وإما بالتهجير كما تطالب سوائب الغوغائيين في ملاعب كرة القدم وفي مظاهرات اليمينيين، أو وهم يطاردون فرائسهم، كما حصل قبل أيام في المدرسة الشاملة على اسم زيلبرمان في مدينة بئر السبع.
كاتب فلسطين