مقالات رأي

عندما يسير التاريخ إلى الخلف جواد بولس

 

عندما يسير

التاريخ إلى الخلف

جواد بولس

حصلت رومانيا بعد الحرب العالمية الأولى على أراض اقتطعت من الامبراطوريتين النمساوية المجرية والروسية على سبيل مكافأتها على الدور الذي لعبته في انتصار الحلفاء. كانت تسكن في هذه «الأراضي الجديدة» أقليات ليست صغيرة العدد من اليهود والمجريين والألمان، الذين كان لهم حضور بارز بين الشرائح الاجتماعية المهنية والمالية. أجمعت قطاعات واسعة من الرومانيين على ضرورة انصهار المقاطعات الجديدة في دولة قومية رومانية متجانسة واحدة، ووجوب ادماج بعض الأقليات وإقصاء البعض الآخر، لاسيّما اليهود، وإحلال الرومانيين الأصليين محلهم في الأعمال والمهن.
كان الطلاب الجامعيون ومثقفو رومانيا يعتبرون أنفسهم رواد الحركة القومية، ويشعرون «بالاختناق بسبب الحشد الهائل من الطلاب اليهود الذين يعملون على نشر الشيوعية». وقد اندلعت عام 1922، في جميع انحاء رومانيا، حملة لتقييد التحاق اليهود بالجامعات، رافقتها حملة ضد الحكومة التي أبدت تحفظات من حملات التقييد، واتهمت، بسبب ذلك، من قبل المجموعات الفاشية بالانحياز نحو أعداء رومانيا. برز من بين الطلاب القوميين ناشط يدعى كورنيليو كودريانو، كان يدرس في كلية الحقوق في جامعة ياش ويقود «كتيبة رئيس الملائكة مخائيل» التي عرفت أيضا باسم «الحرس الحديدي». خاضت هذه المنظمة الفاشية معارك مريره تخللتها اغتيالات سياسية، من بينها كانت عملية اغتيال مدير شرطة مدينة ياش، نفذها كودريانو نفسه عام 1924، فاعتُقل بسببها وقُدّم للمحكمة.
لم تنجح السلطات بإجراء المحاكمة في مدينته، بسبب اندلاع أعمال الشغب المؤيدة له؛ فنقلت محاكمته إلى احدى المدن الصغيرة البعيدة، على أمل أن تكون أجواؤها أكثر هدوءا وملاءمة، لكن أنصار كودريانو اجتاحوا المدينة وحرّضوا أهلها فخرج هؤلاء الى الشوارع مرتدين الملابس الوطنية، وتباهى بعضهم بشاراتهم الفاشية. حاولت نقابة المحامين الرومانية أن تضمن عدم تمثيل أي من أعضائها لأرملة مدير الشرطي، ورغم نجاح النيابة بتوكيل أحد المحامين الضعفاء، حصل كودريانو على البراءة. لم تكن نتيجة المحاكمة غير متوقعة رغم قوة الأدلة، ولا كان كودريانو يشعر بالقلق ازاءها؛ فمعظم المحلفين في المحكمة كانوا يرتدون فوق طيات ستراتهم الشارة الفاشية، وحتى محامي الادعاء تحدث عن ظروف من شأنها أن تخفف الحكم مؤكدا: إن الفوضى اجتاحت الجامعة بسبب وجود عدد كبير من «الأجانب»؛ وهو الكلام الذي كان يضفي جاذبية على دعوة الفاشيين وشعارهم «رومانيا للرومانيين». (من كتاب «الفاشية، مقدمة قصيرة جدا» للمؤلف كيفن باسمور).
مرّ قرن من الزمن وها هو التاريخ يسير إلى الخلف. نقلت وسائل الإعلام الإسرائيلية صباح الاربعاء الفائت، وقائع الجلسة التي عقدت في المحكمة العليا لمناقشة الالتماس الذي قدمته «جمعية حقوق المواطن» بخصوص استمرار عمل معسكر الاعتقال «سديه تيمان»، طالبت فيه ‘غلاق المعسكر بدعوى أنه يعمل بصورة غير شرعية ومنافية لجميع القوانين الإسرائيلية والمواثيق الدولية.
لن أكتب عمّا واجهه ويواجهه الأسرى الفلسطينيون في سجون ومعسكرات الاعتقال الاسرائيلية، لاسيّما بعد السابع من أكتوبر، وهي مسألة يجب ألا تغيب عن اهتماماتنا المهنية، وعن دور الصحافة الحرة في ملاحقتها وفضحها، لكنني سأكتفي بإحالة القارئ الى عدد من التقارير التي نشرتها المؤسسات الفلسطينية والعالمية الحقوقية التي تتابع قضايا الأسرى، وآخرها كان تقرير أعدّته «منظمة بتسيلم» الإسرائيلية بعنوان «أهلا بكم في جهنم» وفيه وثّقت بشكل مهني ومفصّل جملة من الجرائم والخروقات الخطيرة التي مورست بحق الأسرى الفلسطينيين في عدد من السجون ومعسكرات الاعتقال، لا في معسكر «سديه تيمان» وحسب. كان من المفروض أن يستمع القضاة، خلال جلسة المحكمة المذكورة، إلى رد ممثل النيابة العامة على الادعاء بعدم شرعية معسكر الاعتقال، وما يمارس داخله، ولكن القضاة فوجئوا، أو ربما لم يفاجأوا، بشروع عدد من الحاضرين داخل قاعة المحكمة بالصراخ والتهجم عليهم. حاول رئيس الجلسة القاضي عوزي فوغلمان، احتواء «غضب» الحاضرين فتوجه إليهم قائلا: «سادتي، نحن في دولة إسرائيل. دولة إسرائيل، سيان أحببتم ذلك أم لا، هي دولة قانون ويجب أن تجري المداولات هنا بهدوء»؛ ثم أمر بإخراج المشاغبين. استمر الصراخ في القاعة وامتلأ الفضاء كراهية وتعابير تمتح من أمعاء التاريخ مثل: «اخجلوا اخجلوا» «والشعب هو السيّد»، فاضطر القضاة للانسحاب من القاعة، وتركوا العمل لحراس المحكمة. بعد عشرين دقيقة عادوا لاستئناف الجلسة فبدأ رئيس الهيئة كلامه وقال: «ما رأيناه الآن كان محاولة لإجهاض عقد جلسة مداولة قضائية في المحكمة. نحن نحترم حق كل إنسان بالتظاهر، ولكن لا يمكن أن يحصل ذلك داخل قاعة المحكمة، وطبعا ليس بصورة من شأنها أن تمنع إجراء المداولة. في اسرائيل تعمل المحكمة وفقا للقانون حتى في زمن الحرب، وستستمر في عملها كذلك». بعد انتهاء الجلسة أخرج المحامي عوديد فلر، ممثل جمعية حقوق المواطن، من داخل مبنى المحكمة تحت الحراسة المشددة. ليست هذه هي المرة الأولى التي تقتحم فيها مجموعات البلطجيين من المنظمات اليمينية قاعات المحاكم، ويحاول أفرادها إشاعة الخوف في أجوائها، خاصة بين المحامين وتهديدهم، عربا ويهودا، لأنهم يمثلون المواطنين الفلسطينيين أو ينوبون عن المنظمات والجمعيات الحقوقية التي تدافع عن حقوقهم.
يوم الأحد الفائت تمّت محاصرة طاقم من المحامين اليهود والعرب داخل أروقة المحكمة العليا، خلال مرافعتهم عن التماس طالبوا فيه بإلغاء قانونين تم تشريعهما في الكنيست مؤخرا لصالح عائلات يهودية، رفع أفرادها أمام المحاكم الإسرائيلية دعاوى ضد السلطة الفلسطينية يطالبونها بدفع تعويضات مالية خيالية بحجة مسؤوليتها عن عمليات نفذها أفراد فلسطينيون ضد إسرائيليين. مع انتهاء مرافعة المحامين وحين كانوا داخل قاعة المحكمة بدأت المجموعات اليمينية، التي وجد قسم منها داخلها وقسم آخر خارجها، بالصراخ وبالتهجم عليهم من غير اكتراث بوجود القضاة في القاعة، الذين غادروا مع بداية الصراخ وعلى وقعه كراسيهم، ولاذوا مسرعين دون أن يتخذوا أي اجراء لضمان سلامة المحامين، واختفوا وراء كواليسهم. كان مشهد هروب المحامين وهم مطاردون بالعشرات من أفراد كتائب اليمينيين المسعورين، وبينهم عضو كنيست واحد على الأقل، مرعبا؛ ولولا أن أحاط بهم عدد من حراس المحكمة ومنعوا اقتراب القطعان الهائجة منهم، لكانت العواقب وخيمة. كانت تجربة المحامين صادمة والمشهد برمّته مخيفا؛ وتم تصويره من قبلهم ليبث على الملأ ويظهر انتصارهم، وليشيع الخوف في نفوس كل من لا يؤمن بأن «رومانيا للرومانيين». سبقت هذه الحادثة حوادث اعتداءات مشابهة نُقلت تفاصيلها الموثقة من قبل بعض المحامين والمنظمات الحقوقية الإسرائيلية، التي واجه محاموها التجربة الصادمة المفزعة نفسها، لرئاسة المحكمة ولأجهزتها الإدارية. حذرت الشكاوى من أننا ازاء ظاهرة خطيرة آخذة بالاتساع والانتشار ولا يمكن السكوت عنها أو الانحناء أمامها، كما فعل ويفعل القضاة لغاية اليوم؛ فسقوط الدولة في ايادي «الشعب وكتائبه الحديدية» بات أقرب من غفوة.
أنا لا أومن بأن قضاة المحكمة العليا، ولا غيرهم في جهاز القضاء الإسرائيلي، قادرون في عهد إسرائيل الحديدية، هذا اذا افترضنا أن بعضهم راغب، على الوقوف في وجه الزحف اليميني المنفلت والفاشي الداهم، وكتائبه الزاحفة تردد أمامهم شعار «فلتسقط ديمقراطيتكم» و»تنحوا، يا أعداء إسرائيل» دعونا ننهي المهمة «فالشعب هو السيّد». وإذا القضاة غير قادرين، فمن في هذا الجهنم يستطيع؟ إنها مجرد أسئلة واخزة من مقدمة عن الفاشية. كم صرخنا أمامهم وفي أروقة محاكمهم وحذّرنا من أن أي نار يجيزون إضرامها هناك على هضاب الخليل ونابلس ورام الله، ستصل ألسنتها إلى ساحات الناصرة وأم الفحم وتل أبيب وحيفا، ومنها إلى أحراجهم. صرخنا وكانوا قادرين على إنقاذ انسانيتهم؛ بيد انهم صمّوا وتواطؤوا ومارسوا سلطانهم الظالم باسم سيادة هذا الشعب ونقاء دمه. إنها دروس في التاريخ/تاريخكم يا سادة حين يسير إلى الوراء؛ أما أمثالكم، المصابون بالعمى القومي، فلن يروها كذلك.

كاتب فلسطيني

 

زر الذهاب إلى الأعلى