في تذكّر كاسترو وصديقه ماركيز عبد اللطيف السعدون
غارسيا ماركيز (يمين) وفيديل كاسترو في حفل عشاء في هافانا (4/3/2000 فرانس برس)
مناسبة هذه الحاشية حلول الذكرى الثامنة لرحيل زعيم كوبا فيديل كاسترو الذي ملأ اسمه الدنيا وشغل الناس نحو سبعة عقود مخلفاً وراءه أطناناً من الوثائق والخطب والكتابات والصور، وكان قد انصرف في سنواته الأخيرة بعد تخليه عن رئاسة الدولة والحزب إلى كتابة عمود صحافي تحت عنوان “تأملات فيديل”، أودعه ذكرياته وتأملاته في شؤون المجتمع والحياة.
وفي واحد من تلك الأعمدة، عرض لصداقته الحميمة مع الروائي الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز الذي التقاه للمرّة الأولى في مؤتمر طلابي في العاصمة الكولومبية بوغوتا قبل الثورة الكوبية بعقد، ويتذكّر كاسترو كيف شارك مع “غابو” في تظاهرة احتجاج على المجازر التي ارتكبتها السلطات الكولومبية بحقّ الفلاحين، ومرّت سنوات نسي كل منهما أمر الآخر، حتى شاءت مصادفة نادرة بعد الثورة أن يلتقيا مجدّداً عندما تقدّم شاب ابن عامل التلغراف في قرية ضائعة بين أحراش الموز الكولومبية الشاسعة، للعمل في وكالة الأخبار الكوبية التي أنشأها تشي جيفارا بعد الثورة، ولم يكن ذلك الشاب سوى غابرييل غارسيا ماركيز نفسه. ومن هنا نشأت بين الصحافي والزعيم علاقة امتدّت عمراً، أجريا خلالها مئات اللقاءات والمحادثات بمعدل أكثر من مرّة في العام، وكانت “شائقة ومهمة مثلت علاجاً للتوترات الشديدة التي يعيشها على نحو غير واع أي ناشط ثوري”.
يستعيد كاسترو في مقالته حكاية تعرضه للاغتيال في أثناء جولة بالعربات نظّمت لضيوف القمة الأيبرو- أميركية في مدينة كارتاخينا الكولومبية، ورافقه فيها ماركيز وزوجته مرسيدس: قلت لغابو وأنا أمزح “أردتك معي في هذه العربة حتى لا يفكر أحد في إطلاق النار علي، وأنت معي”. وخاطبت زوجته مرسيدس التي كانت تجلس خلفنا “لعلك ستكونين الأرملة الأكثر شباباً”… عرف كاسترو فيما بعد أنه كان هناك بالفعل مخطط لاغتياله، وأن سلاحاً أوتوماتيكياً أخفي في موضع لا تقع عليه العين، لكن الأصابع المكلفة بالضغط على الزناد ارتجفت، ولم تجر العملية كما خطط لها، وربما أعاق رأس “غابو” النظر إلى الهدف المطلوب.
وصف كاسترو صديقه ماركيز الذي أشرف على عمل مؤسسة السينما الكوبية التي تأسّست آنذاك بأنه “كان دقيقاً في عمله، ولم تكن تغيب عنه حتى التفاصيل الصغيرة، وقد كان لي حكم غير منصف عليه، إذ تصورته ينطلق من إحساس طاغ بالخيال، ولم أكن أدرك كم من الواقعية يكمن في عقل هذا الرجل المثقف”.
وتذكر فترة الساعتين اللتين قضاهما مع ماركيز ومرسيدس في آخر لقاء قبل رحيله، ودعوته لهما إلى مائدة الغداء. وفي هذا اللقاء، تسلم كاسترو من ضيفيْه “هدية لطيفة مغلفة بورق جذّاب وزاهي الألوان، حوت خمسة كتيّبات صغيرة، كل واحد منها أكبر قليلاً من بطاقة بريدية، وأقل طولاً، تضمنت خطابات خمسة من الحاصلين على جائزة نوبل للآداب، وليام فوكنر، وبابلو نيرودا، وغابرييل غارسيا ماركيز، وجون ماكسويل كويتزي، ودوريس ليسنغ”. وقد دفعه فضوله، كما يقول، إلى قراءة الكتيّبات لمعرفة ما قاله رجال “نوبل” الذي عاشوا في هذا العصر المضطرب الذي شهد وتيرة تحوّلات خطيرة، ولم ينس أن يوضح أن جائزة نوبل كانت مثار نقاش في الأوساط السياسية والثقافية، لكنه يشير إلى الطابع الخاص الذي تمثله ” كونها تمنح في عاصمة بلد لم يشهد معاناة حرب منذ عشرات السنين، وهو خاضع لنظام حكم ملكي دستوري يهيمن عليه حزب من الاشتراكية الدولية، وفيه رجال نبلاء مثل أولف بالما الذي اغتيل لمواقفه التضامنية مع فقراء العالم، وقد منحت لكتّابٍ متمرّدين ملهمين، وحتى لمناضلين شيوعيين مثل بابلو نيرودا”.
يعود كاسترو ليكشف للقارئ أن صديقه غابو لا يحب إلقاء الخطب، وهو يقضي شهوراً للبحث عن معلومة معيّنة يضمنها في خطاب ما، وقد كان متضايقاً من إلقاء خطبة في حفل تسلم “نوبل”، لكنه، في النهاية، خضع وألقى خطاباً تضمن إشارة لافتة مفادها بأن مهمّة مخترعي الأساطير والحكايات صنع اليوتوبيا المعاكسة لأهوال التراجيديا الإنسانية الهائلة التي يعيشها العالم، والتي ستكون يوتوبيا عاصفة زاخرة بالحياة، حيث لن يكون في مقدور أحد أن يقرّر نيابة عن الآخرين طريقة موتهم، وأن يثبت أولئك المبدعون أن السعادة أمر ممكن، وأن بإمكان كل الأعراق التي كانت محكومة بمائة عام من العزلة أن توفر لنفسها، في آخر المطاف، فرصة للعيش الكريم على سطح المعمورة.