في وداع قطّة ابنتي رشا عمران

تقول نظرية في علم النفس الحديث إن فكرة العلاقة مع الحيوانات الأليفة قد تعمل بوصفها “علاقات انتقالية”، تساعد في بناء شعور بالطمأنينة يمكن للفرد أن يختبر معه الشعور بالأمان والقبول، اللذين يُعدّان عنصرَين أساسيَّين في النمو النفسي الصحّي. كما أن التعامل مع الحيوانات المنزلية يساعد كثيراً في الشفاء من الصدمات الكبيرة والتجارب السلبية، ويمنح الشخص شعوراً بالاستقرار والسيطرة، ويقلّل من شعور الوحدة والعزلة.
تشبه حياة تلجة (قطّة ابنتي) حكايةَ الثورة السورية كلّها، وحكايتنا معها، نحن الذين وُلدنا لحظة الثورة، وانتظرنا طويلاً نصرها، لكنّ الخذلان الذي أصابنا اليوم يكاد يكون طلاقنا الأبدي مع سورية، رحيل تلّوجة (كما اعتدنا مناداتها في هذا الوقت) هو تجسيد كامل لكلّ مسيرتنا مع الثورة السورية.
في بداية الثورة عام 2011، اعتُقلت ابنتي الوحيدة في واحدةٍ من المظاهرات السورية الأولى مع مجموعة من رفاقها، وقضت وقتاً في المعتقل، خرجت منه في حالة نفسية متردّية، كانت تحتاج معها إلى علاج نفسي، لم يكن سهلاً في ذلك الوقت في سورية، لكنّ ما ساعدها على التجاوز هو قطّتها الصغيرة البيضاء (تلجة)، التي أهداها إليها أحد أصدقائها، بعد رفض طويل منّي لوجود قطّة في المنزل الصغير الذي كنّا نعيش فيه. جاءت تلجة (القطّة الصغيرة جدّاً) إلى البيت أمراً واقعاً عليَّ التعامل معه، ومعها تغيّرت علاقتي بالقطط والحيوانات الأليفة إلى الأبد.
تلجة قطّة بيضاء صغيرة من عمر الثورة السورية، عيناها خضراوان وأنفها أحمر ووبرها كثيف يترك أثره في كل مكان في المنزل. كان هذا يوتّرني في البداية، حتى بدأت اعتياده والتعامل معه بوصفه جزءاً من يوميّات حياتنا، حتى أنها نفسها تحوّلت فرداً من أفراد العائلة، مع دهشتي من تعلّقي بها، وفرحي بما شكّله وجودها من أمان لابنتي، كانت قد فقدته منذ اعتقالها. وحين آن أوان الرحيل من سورية، رفضت ابنتي ترك قطّتها الصغيرة، وأصرّت على أخذها معها إلى فرنسا، حيث عاشت معها رحلة انتقال بين منازل ومدن فرنسية عدّة، وتحمّلت معها عبء التأقلم في كلّ مكان جديد. غادرت ابنتي إلى ألمانيا لتستقرّ في برلين، كانت تلجة مرافقتها وظلّها الحامي (حرفياً)، وفي كلّ مكان كانت تلجة، مثل نينار (ابنتي)، تتعرّف إلى أشخاص جدد تختار منهم من تمنحهم ثقتها ومن تمنع عنهم تلك الثقة. وغالباً ما تكون مصيبةً في علاقتها مع الأشخاص الجدد، ذلك أن من لم تحبّهم تلجة منذ البداية اتضح أنهم لم يكونوا يستحقّون الثقة فعلاً.
قبل سنتين، قرّرت ابنتي الاستقرار في مصر لتكون قريبةً منّي. وككلّ مرّة، رافقتها تلجة في رحلة طويلة من برلين إلى القاهرة، لتكون واحدةً من القطط النادرة التي عاشت في ثلاث قارّات وقابلت أناساً من جميع أنحاء العالم. ليت للقطط قدرة على الكتابة أو الحكي، كنا سنسمع منها سِيَراً وحكايات بالغة الإثارة عن هذه المسيرة الغريبة في التنقّل بين قارّة وأخرى، وبين بلد وآخر.
قبل أيّام، اتصلت بي ابنتي وهي تبكي بحرقة: “ماتت تلجة، أصيبت بجلطة قلبية وماتت”… قالت لي ذلك وسط بكائها الحارق، لم أصدّق الأمر بدايةً، ثمّ فكرت لماذا ماتت قبلنا وهي عاشت التغريبة السورية بأكملها؟ أما كان عليها أن تعود إلى سورية معنا؟ أم شعرت بالخذلان كلّه، والخيبة التي نشعر بها الآن ممّا وصلت إليه حال سورية، وعرفت أننا لن نعود، وأن مصر قد تكون هي مكاننا الأخير، فاختارته لتموت فيه؟… ليتني كنت أملك معجزةَ فهم القطط. لست نبيّةً لأمتلك هذه الميزة، لكنّني شاعرة ألعب بالمجاز أحياناً، وللموت قدرة كبيرة على استحضار المجاز. قلت لابنتي التي ماتت قطّتها الأثيرة بين يديها، إن تلك العضّة التي عضّتها إياها قطّتها، وروحها تغادر جسدها، هي ليست رسالة ألم فقط، هي رسالة وداع ومحبّة وعرفان وصداقة أبدية لا يفصم الموت عُراها.
هل تذهب تلك الأرواح البريئة إلى حيث يذهب البشر في النهاية؟… أظن أنهم يتحوّلون نجوماً تراقب أصحابها من الفضاء، وتحميهم من الخطر. هذا مجاز شعري، لكنّه المجاز الأقرب إلى حقيقة أرواح نقيّة كهذه.