قازان ومعضلة الـ”بريكس”: فلسفة المناطق الرمادية صبحي حديدي
الرقم الأوّل، ذو الدلالة الأهمّ ربما، يقول إنّ اقتصاديات مجموعة الـ”بريكس” في تكوينها الراهن اقتربت من تمثيل 28% من إجمالي الاقتصاد العالمي، بقيمة 28,5 تريليون دولار أمريكي، وأكثر من 45% من مجموع سكان العالم؛ متفوقة بذلك على “مجموعة السبع”، الـG-7، التي تحتكر 26% من الاقتصاد العالمي، وتغطي 10% من سكان العالم. فإذا أخذ المرء بعين الاعتبار معطى أوّل يقول إنّ دول “بريكس” المؤسِّسة هي البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا (ومن هنا التسمية، تبعاً للأحرف الأولى للدول BRICS)، وأنها خليط يجمع مناطق “جنوب” العالم مع الشطر الروسي من “الشمال”؛ فإنّ المسعى المركزي لهذا التجمع، أي إعادة هيكلة النظام الدولي ابتداء من الاقتصاد، تكتسب أهمية ابتدائية على صعيد كسر منظومات القطبية الغربية/ الرأسمالية، وذلك أيضاً في ضوء تعددية النًظُم الاقتصادية والتحالفات السياسية لبعض دول الـ”بريكس” في العلاقة مع “مجموعة السبع”.
ومع انضمام مصر وإيران وإثيوبيا والإمارات إلى المجموعة، واحتمال التحاق دول أخرى مثل الجزائر وبيلاروسيا وبوليفيا وكوبا وإندونيسيا وكازاخستان وماليزيا ونيجيريا وتايلاند وأوغاندا وأوزبكستان وفيتنام، إلى جانب تركيا (العضو في الحلف الأطلسي)؛ ليس من المستبعد ما تتنبأ به منصة بلومبرغ الاقتصادية من أنّ مجموعة الـ”بريكس” يمكن أن تستحوذ على نصف الناتج العالمي في سنة 2040، وأنها في سنة 2050 يمكن أن تمثل 4 مليارات نسمة حسب تقديرات الأمم المتحدة. فإذا اكتملت مسارات المجموعة على هذا النحو، فإنها سوف تأخذ موقع النظير الاقتصادي، والسياسي استطراداً، للكتلة التي تتزعمها الولايات المتحدة اليوم، ولا تقتصر على كندا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا واليابان والمملكة المتحدة والولايات المتحدة؛ أعضاء الـG-7.
ضمن اعتبارات كهذه، وأخرى جيوسياسية متشابكة وعابرة للانشطار الافتراضي بين “جنوب” و”شمال”، ثمة أهمية خاصة في متابعة مخارج قمة الـ”بريكس” الـ16، التي احتضنتها مدينة قازان الروسية أواخر تشرين الأول (أكتوبر) الماضي برعاية فائقة من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين؛ وخاصة ما بات الآن يُعرف باسم “إعلان قازان” الذي أصدرته القمّة عند اختتامها، وصادقت عليه 36 دولة شاركت في الاجتماع بصفة العضو أو المراقب. وهذا نصّ مستفيض، يتألف من 134 فقرة تعالج سلسلة متداخلة من المسائل التي تخصّ العلاقات الدولية في ميادين شتى، تبدأ من الاقتصاد ولا تنتهي عند الثقافة؛ وعمادها المركزي هو اقتراح نظام كوني جديد، متعدد الأقطاب والأطراف، ركائزه المساواة في السيادة والاشتراك التكاملي والإجماع على الديمقراطية.
فكرة الـ”بريكست” الأولى اقترحها تيرنس جيمس أونيل في سنة 2001، وكان يومها الرئيس التنفيذي لـ”غولدمان آند ساكس”، المؤسسة المالية والمصرفية العملاقة، وإحدى أعرق قلاع الرأسمالية المعاصرة
فقرات الإعلان تتمحور، إذن، حول عناوين مثل “تقوية تعددية الأطراف بهدف نظام عالمي أكثر عدلاً وديمقراطية”، و”توطيد التعاون من أجل استقرار وأمن عالمي وإقليمي”، و”تعزيز التعاون الاقتصادي والمالي من أجل تنمية كونية عادلة”، و”تقوية التبادل المباشر بين الشعوب سعياً نحو تنمية اجتماعية واقتصادية”… وإذْ لا يخفى الفارق بين اللغة (الوردية والبلاغية والتعميمية)، وبين الواقع الفعلي لعدد غير قليل من الدول الموقعة على البيان (حيث الفساد والارتهان وبعض الاستبداد والعداء للديمقراطية وانتهاك أبسط حقوق الإنسان)؛ فإنّ فضيلة الإعلان الكبرى، ولعلها الوحيدة أيضاً، هي اقتراح مهاد نظرية ونوايا حسنة ووعود خلابة يمكن وضعها في موازاة حصيلة تعتمد مادّة بلاغية تجريدية بدورها، لدى “مجموعة السبع”.
والفوارق تزداد تضاؤلاً بين “فلسفة” المجموعتين حين يتصل الأمر بملفات شائكة وراهنة، مثل جرائم الإبادة الإسرائيلية ضدّ قطاع غزة وحروب دولة الاحتلال في الضفة الغربية والقدس المحتلة وجنوب لبنان؛ إذْ تميل العبارة هنا إلى مناطق وسطى تصالحية، أو تكتفي بالعموميات، أو تجنح إلى التلطيف الدبلوماسي لمواقف تقتضي الحدّ الأدنى من وضوح الإدانة وواجب التضامن. على سبيل المثال، تقول الفقرة 30: “نعيد التشديد على قلقنا البالغ إزاء تدهور الوضع والأزمة الإنسانية في الأراضي الفلسطينية، وخصوصاً التصعيد غير المسبوق للعنف في قطاع غزة والضفة الغربية نتيجة الهجوم العسكري الإسرائيلي، الذي أسفر عن مقتل وجرح المدنيين، والتهجير القسري والتدمير واسع النطاق للبنية التحتية المدنية”.
لافتة أيضاً، بل هي طريفة، الفقرة 34 حول سوريا، والتي تقول: “نشدد على ضرورة احترام سيادة سوريا وتكامل أراضيها. وندين التواجد العسكري الأجنبي غير الشرعي الذي يؤدي إلى مخاطر متزايدة ذات نطاق واسع يشمل المنطقة. ونؤكد أن العقوبات أحادية الجانب وغير الشرعية تفاقم بصفة جدية معاناة الشعب السوري”. اللغة هنا ليست خطابية جوفاء أو دبلوماسية مستهلكة فقط، لأنّ النصّ لا يسمّى هوية القوى العسكرية الأجنبية المتواجدة على الأراضي السورية، تفادياً لذكر الاحتلال العسكري الروسي، الرديف لاحتلالات إسرائيلية وإيرانية وتركية وأمريكية، فضلاً عن الميليشيات المذهبية والجهادية. طيّ هذا التفادي الفاضح، ثمة إيحاء بأنّ القوات الروسية (البلد الذي احتضن قمّة الـ”بريكست” الـ16) يتواجد في سوريا بصفة مشروعة وشرعية!
فماذا عن أوكرانيا، التي شهدت وتشهد غزواً روسياً متواصلاً، وأزمة كونية شملت الاقتصاد والطاقة والأغذية، وأسفرت وتسفر عن استقطابات عسكرية وتسليحية بالغة الحدّة والخطورة بين الولايات المتحدة وشريكاتها الأوروبيات والحلف الأطلسي من جهة، والاتحاد الروسي والدول والكيانات الدائرة في فلك موسكو من جهة ثانية؟ لا شيء، حرفياً وبالمطلق، حتى أنّ مفردة أوكرانيا لا ترد أبداً في إعلان قازان، ليس لأنها لا تشكل تهديداً للسلم العالمي ومحاور انفتاح الشعوب على بعضها، إذ العكس هو الصحيح بالطبع؛ ولكن لأنّ إثارة الملفّ الأوكراني يتعارض مع مصالح الدولة الراعية للمؤتمر، التي حظيت في النصّ بإطراء خاصّ وشكر جزيل.
هذا الانتقاص الفادح في معالجة ملفات حرب الإبادة الإسرائيلية وسوريا وأوكرانيا، وسواها، هي محض أمثلة على معضلة كبرى حكمت إطلاق الـ”بريكس” منذ البدء، وجسدتها فلسفة المكوث في المناطق الرمادية إزاء المسائل الكبرى في العالم الراهن، سواء اقتصرت منظوماته على أحادية القطب أو تعددت من حيث الشكل وبقي المضمون الفعلي على حاله. وما يُعلَن بين الحين والآخر عن “رسالة” المجموعة، بصدد محاربة شرور الدولار والنموّ الاقتصادي الغربي والتجارة الحرّة الرأسمالية، يُغفل عن سابق عمد حقيقة ساطعة وصانعة للمفارقة؛ مفادها أنّ فكرة الـ”بريكست” الأولى اقترحها تيرنس جيمس أونيل في سنة 2001، وكان يومها الرئيس التنفيذي لـ”غولدمان آند ساكس”، المؤسسة المالية والمصرفية العملاقة، وإحدى أعرق قلاع الرأسمالية المعاصرة.
فكرة أونيل اقتصرت في البدء على “الأربعة الكبار”، البرازيل وروسيا والهند والصين، وتركيزه لم ينصبّ على توحيد هذه القوى لتشكل كتلة موازية لـ”مجموعة االسبع”؛ بل أرادها أن تتطوّر كأسواق منفصلة، يعرض كلّ منها فرص استثمار وتنمية متمايزة؛ الأمر الذي لا يلوح أنّ أقطاب الـ”بريكس” يتبعون منهجاً مخالفاً له، منذ التأسيس وحتى اليوم. وذلك الجوهر الوظيفي، على وجه التحديد، هو الذي شجّع أونيل على اقتراح صيغة الـMINT، كناية عن المكسيك وإندونيسيا ونيجيريا وتركيا؛ من منطلق أوّل (جدلي، كما يساجل البعض!) هو أنها تتقارب في أحجام اقتصاداتها الوطنية، ومنطلق ثانٍ يباعد بينها على أصعدة جيوسياسية وثقافية.
وهذه سطور لا تخفي انحيازها إلى كلّ وأيّ جهد يستهدف تنويع الاستقطابات الكونية، أو الحدّ من القطبية الواحدة التي تتزعمها الولايات المتحدة وشركائها في الغرب؛ وهذا، في الآن ذاته، لا يصحّ أن يطمس حقائق الانقسامات العميقة، عمودية كانت أم أفقية، بين الدول المكوّنة لمجموعة الـ”بريكس”، ولا سلسلة الأوهام حول فضائل المكوث في منطقة وسطى رمادية، بين الحقّ والباطل.
٭ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس