مقالات رأي

كيف ومتى ستنتهي حروب السماء؟ جواد بولس

 

 

كما كان متوقعا فقد أدّى الإعلان عن التوصل إلى الصفقة بين إسرائيل وحركة المقاومة الإسلامية، حماس، إلى سيل من ردود الأفعال الإيجابية في جميع أنحاء العالم. وتمنى جميع من أبدوا ارتياحهم من إعلان التوصل إلى صفقة بأن يلتزم الطرفان بتنفيذ جميع بنودها؛ فاحتمالات إخلال الحكومة الإسرائيلية بها تبقى واردة، كما حصل في صفقات سابقة، وبسبب وجود معارضة للصفقة من قبل عدة جهات سياسية داخل إسرائيل، تعتبرها «صفقة هزيمة» لا راية الانتصار الماحق على حماس؛ وهو هدف الحرب كما كان وعد به نتنياهو وحكومته شعبهم.
سوف يُكتب الكثير عن التفاصيل التي سبقت التوقيع على الصفقة؛ وستكثر التحاليل والشروحات حول، كيف رضيت حماس وإسرائيل، أو أجبرتا، على قبولها، خاصة بعد أن قرأنا أنها كانت ناجزه بمضامينها الحالية منذ شهر مايو الماضي. كل هذه الدقائق والتفاصيل ستبقى موادّ صالحة لتعاطي السياسيين وللتأريخ ولاجتهادات المؤرخين؛ بيد أن العبرة ستبقى بالخواتيم، وفيما ستفضي إليه إزاء مستقبل قطاع غزة السياسي ومصير أهلها. قالوا، إن «الحرب خدعة» وصدقوا؛ لكننا، في الشرق، عرفنا أكثر أن «السلم خدعة» وتشهد على ذلك عواصم العالم، وأوسلو ليست أولها وصفقة شليط آخرها.

حماس تؤكد للبسطاء وللمنكوبين أن الإسرائيلي قد يسمّي الموت خلال المعارك تضحية من أجل الوطن والشعب والدولة، أما عند العرب فيسمونها الشهادة في سبيل الله وهي ضمانتهم للفوز بالجنة

هناك فئتان رئيسيّتان لا يشكك أحد في فرحتيهما الصادقتين من ابرام الصفقة؛ الاولى، هم أهل غزة الذين يواجهون منذ 467 يوما أوحش حرب في تاريخ الاحتلال الإسرائيلي. لقد صبروا وصمدوا وانتظروا وتمنوا أن يعلن وقف إطلاق النار الدائم ليعودوا إلى حياتهم الآمنة، وإلى أنقاض بيوتهم ليبنوها مجددا من طوب أحلامهم الجديدة وليؤثثوها بأنفاس جيل وُلد في رحم العدم. أما الفئة الثانية فهي عائلات المخطوفين الإسرائيليين، الذين كانوا ينتظرون هذه الساعة بقلق، بعدما رأوا، ربما لأول مرة في تاريخ حروب اليهود العصرية، تنكّر حكومتهم لمبدأ افتداء الرهائن، والتخلي شبه المعلن عن «قدسية» هذا المبدأ، كما كانت الدولة اليهودية تتغنى وتفاخر به. لقد كشفت الحرب على غزة صورة إسرائيل الجديدة؛ وأظهرت الخطر الحقيقي من وراء تحوّل أكثرية شعبها إلى مجتمع يؤمن بفوقيته القومية، ويسعى، مدفوعا بعقائده المسيانية اليهودية، إلى إقامة مملكته في إسرائيل الكبرى، في غزة وعلى ضفتي نهر الأردن وأبعد. ولعل أهم ما كشفته هذه الحرب كان ما يتعلق بتغيير سياسة الحكومة تجاه وقوع رهائن إسرائيليين، مدنيين أو جنودا، خلال مواجهات عسكرية أو خلال الحرب مع أي طرف ثان. لقد أشاعت حكومات إسرائيل منذ البدايات على أنها تتحيّز لمبدأ «قدسية الحياة»، وأنها، وفقا لهذا المبدأ، تلتزم باسترجاع أية رهينة إسرائيلية قد تقع في أسر أي عدو، إما عن طريق القوة وإما بالتفاوض. نحن نعلم أن إسرائيل لم تلتزم بمبدأ استرجاع رهائنها بسبب تقديسها للحياة، بل لاعتبارات عسكرية محضة؛ فتقديس الحياة كان أبعد المبادئ عن سياسات حكوماتها كلها، إلّا أن الشعب في إسرائيل آمن بهذه الحقيقة، وعاش في ظلها وشارك أبناؤه في الحروب بقناعة أن حكومتهم وقيادات جيشهم لن يتركوهم، أمواتا أو أحياء، أسرى بيد العدو. إنها إحدى «البديهيات» التي تربّت عليها أجيال يهودية، وشكّلت في ذهنياتها دافعا متينا للانخراط في جيش، تحوّل مع السنين إلى أحد أهم منظومات الدولة وأكبرها، وواحدا من رموزها المقدسة. وهي الحالة التي تعمّدت الدعاية الإسرائيلية نشرها في جميع أنحاء العالم، وتفاخرت بها كقيمة أخلاقية تميّزها عن قيم العرب والمسلمين، الذين لا يقدسون الحياة، بل يعبدون الموت ويسعون لنيله عن طريق الاستشهاد. وجاءت هذه الحرب وظهرت إسرائيل الجديدة على حقيقتها، لا أمام الفلسطينيين وحدهم فحسب، بل أمام العالم وقطاعات واسعة من أبناء شعبها أيضا.
لقد أصغيت بعد الإعلان عن التوصل إلى الصفقة، للقاءات أجراها مراسلو الفضائيات مع الكثيرين من أهل غزة النازحين والناجين. كانت لقاءات عفوية، وكان ظاهرا من أحاديث جميعهم أنهم فرحون بإعلان التوصل إلى الصفقة، وأنهم يتمنون على أن يدخل وقف النار فورا. لم يُخفِ معظمهم الحزن على من فقدوا خلال هذه الحرب، لكنهم تحدثوا عن الأمل في أن يعودوا إلى بيوتهم وبلداتهم المدمرة. تحدثوا بلغة إنسانية بسيطة، فشكروا ربهم على نجاتهم من الموت وذكروا أحبابهم الشهداء برضا. على وجوه بعضهم ظهرت علامات لبقايا خوف وتعب من التشرد وعلامات قلق من الدروس التي تعلموها وهم يهربون من ألسنة النيران ووقع القذائف ورصاص القناصين. أصغيت وشعرت بوجع الناس وهم يشكرون ربهم على نعمة النجاة، ويستمطرون رحمته ويترحمون على شهدائهم، الذين، كما علّمتهم عقيدتهم، ينعمون بجوار ربهم. لن أنسى وجه امرأة أدهشتني حين تحدثت عن فرحها بالصفقة ووصفت رحلة نزوحها بعد أن قتلت طائرات اسرائيل زوجها وأبناءها وعددا من أفراد أسرتها.. لقد تحدثت عن حزنها المدفون في صدرها وتمنت لو بقي زوجها وأولادها على قيد الحياة، فالحياة عندها أولى، لكنّها أنهت مقتنعة «إن كان لا بد من موت، فليكن موت الشهداء».
كنا نشاهد الأخبار أنا وصديق فلسطيني فسألني: ماذا يريد اليهود منا؟ نحن في النهاية نعيش بسلام وبطمأنينة أكثر منهم؛ فرغم القمع والقتل والتشرد والنوم في العراء نشعر «بطمأنينة النهايات»، بينما يعيشون هم في خوف دائم وبغريزة الانتقام، ويتمنون أن يتخلصوا من جميع الفلسطينيين، لكنهم لن ينجحوا. فماذا يريدون بعد كل الذي حصل في غزة ويحصل فيها وفي الضفة الغربية أيضا؟ كان صديقي يحدثني بمرارة مأزومة، ويسترسل في تعقيباته ونحن نسمع كلام تلك المرأة. كان يغوص في شرح أصول ودوافع المواجهة الفلسطينية الصهيونية، حتى خلص إلى أن الصراع كان في البدايات بين أهل البلاد وغزاة أرضهم وكانت الديانات في ظله؛ لكنه صار اليوم صراعا دينيا يتمترس فيه كل طرف وراء وعود ربه وخيمة السماء. كان يشرح ويؤكد لي أنه لا يدعم حماس ولا برنامجها السياسي، ولكن «على اليهود أن يفهموا أننا الفلسطينيين نعشق الحياة ومستعدين أن نموت في سبيلها. هي قناعة رسّخها ديننا وعززتها الحاجة للدفاع عن كراماتنا الفردية، وكشعب أمام غطرسة احتلالهم وقمعه». كنت أصغي إليه، وتذكرت أول موقف واجهت فيه قواعد التعزية بعد «ارتقاء شهيد» وفهمت كيف توظف اللغة في خدمة المقدس، حينها قتلت عناصر جيش الاحتلال شابا مقدسيا كنت صديق عائلته. في المساء اصطحبني بعض الأصدقاء لبيت عائلة الشهيد لتأدية واجب العزاء. وفي الطريق نبهني أحدهم أن التعزية في هذه المواقف تتم بتهنئة عائلة الشهيد لا بتعابير المواساة في العزاءات العادية. وصلنا خيمة العزاء حيث وقف صف طويل من الرجال يستقبلون المعزين. كنت أسمع، ونحن ندق أكفنا بأكفهم، رفاقي وهم يباركون للعائلة باستشهاد ابنهم بتعابير تليق بالأفراح؛ أما أنا فلم أقوَ على ترديد العبارات ذاتها واكتفيت بالتمتمة وجلست بصمت بعد أن عرض علينا كأس عصير وحبة حلوى. مرّت السنون وتعلمت عادات البلد، وتعرفت إلى عقائد أهلها، وفهمت لماذا ومتى يبارك لأب باستشهاد ابنه، وكيف تكون «تعزية السماء» أقوى من تعازي البشر وأثلج على قلوب يحرقها الفقد والفراق. هكذا هي دنيا البشر ونواميسهم وليس بين العرب والمسلمين فحسب، فالموت قهار والسماء كريمة، ومن يمت على إيمانه، فإما أن يرتقي شهيدا أو يرقد على رجاء القيامة، أو يخلد اسمه على جدران البطولة والقديسين. كان صديقي يسمعني ويهز برأسه فضحك وسألني إذن فهمت الآن لماذا تستطيع حماس أن تعلن انتصارها على إسرائيل؛ فنتنياهو لم يحقق انتصاره الكبير، ورغم جبروت جيشه لم ينجح باسترجاع الرهائن، أو بالتخلي عنهم، فرضي بصفقة مع حماس، وهكذا أعطى حماس الحجة والسبب في إعلان نصرها، على الأقل في قضية الرهائن وتحريرها الأسرى الفلسطينيين. حماس تؤكد مرة أخرى للبسطاء ولجميع المنكوبين أن الإسرائيلي قد يسمّي الموت خلال المعارك تضحية من أجل الوطن والشعب والدولة ويجازي موتاه بالنياشين وبألقاب البطولة وبوعود القداسة؛ اما عند العرب فيسمونها الشهادة في سبيل الله وهي ضمانتهم للفوز بالجنة. وهكذا تستطيع هذه الشعوب أن تفرح على ركامات بيوتها وقبور أحبابها الضائعة.
إنها حروب السماء بالسماء فكيف ومتى ستنتهي؟ للسماويين لغاتهم وللأرضيين، مثلي، ما قاله الدرويش:» يموت الجنود مرارا ولا يعلمون من كان منتصرا! ومصادفة عاش بعض الرواة وقالوا، لو انتصر الآخرون على الآخرين لكانت لتاريخنا البشري عناوين أخرى».
كاتب فلسطيني

 

زر الذهاب إلى الأعلى