مقالات رأي

لكي لا تموت الحقيقة عبد اللطيف السعدون

جمال عبد الناصر في القاهرة (29/5/1967 Getty)

 

كان الرئيس الراحل جمال عبد الناصر يتحرّك في العمل بما هو ممكن

مع عدم نسيان الهدف الاستراتيجي الذي يحتاج زمنا أطول، وتكلفة أكبر، وهو القضاء على إسرائيل

 في غضون ولاية الرئيس الأميركي دونالد ترامب الأولى حملت مجلة تايم على غلاف أحد أعدادها سؤال “هل ماتت الحقيقة؟”، وكانت ترمز من خلاله إلى كلام كثير لترامب اتسم بالتناقض وعدم الوضوح، قالت عنه المجلة إنه يجعل المرء يقع أسير وقائع ملتبسة في حقيقة ما كان يفكّر فيه ترامب فعلاً فيما كتب الباحث الأميركي في معهد ماساتشوستس لي ماكنتاير إن وقائع كهذه تشكل خطراً يهدّد الوصول الى الحقيقة على نحو مخيف.

نحن اليوم أمام حالة مشابهة، وإن اختلفت في التفاصيل، إذ أثار حديثٌ للرئيس المصري جمال عبد الناصر في لقاء له مع صنوه الليبي معمر القذافي في أغسطس/ آب 1970 عن قبوله مبادرة روجرز في وقف إطلاق النار مع اسرائيل، والتوجّه إلى حلٍّ سلميٍّ جدالاً واسعاً على صفحات الصحف وعبر مواقع التواصل، وانقسم الناس إثره بين وجهة نظر وأخرى حيث فسر بعضهم حديثه بأنه “مناورة سياسية”، أراد منها كسب الوقت لتطوير القدرة العسكرية، بخاصة في مجال إنجاز بناء حائط الصواريخ الذي وفر الغطاء لاحقاً لحرب استعادة سيناء على عهد خلفه أنور السادات، فيما اعتبر آخرون ذلك تراجعاً عما كان يطلقه من شعارات التحرير والمواجهة. ورأى فريق ثالث أن القصد من ترويج حكاية الحديث وما فيها في هذا الوقت دعم مسار التطبيع الماثل اليوم على خلفية أن “زعيم القومية العربية” كان هو الآخر يُضمر السير في طريق الصلح مع اسرائيل، و”ما فيش حد أحسن من حد“.

ليس هذا العرض المبتسر كل الحكاية، فقد وجد فريق رابع في رد عبد الناصر على قيادات عربية زايدت عليه، واتهمته بالانهزامية والاستسلام محاولة لإعادة الروح لتلك القيادات، وتزكيتها مدافعة عن فلسطين والفلسطينيين، وإلصاق وصمة الخيانة بعبد الناصر، وهو أمر لا يمكن القبول به في كل الأحوال.

وعلى أية حال، برزت خلال الجدال نقطة مهمّة، نبّه إليها نجله عبد الحكيم الذي قال ان والده “رجل دولة وليس زعيما حنجورياً كما يعتقد البعض (..)، ولم يكن مستعدّاً للتضحية بشعبه وبشباب القوات المسلحة مقابل زعامة وهمية“.

من القماشة نفسها، ولكن بتوضيح أكثر، وردت شهادة سابقة لمحمد حسنين هيكل اللصيق بعبد الناصر، وعرّاب منهجه الفكري في أحاديث برنامجه “مع هيكل” في قناة الجزيرة “إن مصر كانت محتاجة إلى مبادرة روجرز لنقل وتحريك الموقف إلى نقطة جديدة، واستكمال ضرورات معينة (..)، وهناك توافقات دبلوماسية مع السوفيات (..)، وفي اللحظة التي تم بها قبول مبادرة روجرز كانت صواريخ جديدة تتحرّك إلى الجبهة“.

ويكشف هذا أن عبد الناصر كان يتحرّك في العمل بما هو ممكن مع عدم نسيان الهدف الاستراتيجي الذي يحتاج زمنا أطول، وتكلفة أكبر، وهو القضاء على إسرائيل، وعندما حاول القذافي حشر محدثه عبد الناصر في زاوية حادّة أشار الأخير في حديثه معه الى “مزايدات” حكام سورية والعراق والجزائر الذين ظلوا مصرّين على رفع شعار “تدمير إسرائيل، والقضاء عليها قضاء شاملاً وكاملاً”، متجاهلين أن “اللي إيده ف الميّه مش زي اللي إيده بالنار“.

واستطراداً مع كل ما قيل ويقال، للوصول إلى الحقيقة، يمكن التمييز في الفترة التي حكم فيها عبد الناصر مصر، وامتدت قرابة 18 عاما بين مرحلتين، مرحلة ما قبل هزيمة حزيران 1967 التي ظهر فيها قائداً للمد القومي، مؤمناً بتحرير فلسطين “من النهر الى البحر”، و”لا صوت يعلو على صوت المعركة”، ومرحلة ما بعد الهزيمة التي تغيّر فيها العالم العربي ليصبح، بتعبير هيكل، “أمة تحت التأسيس”، ظهر فيها عبد الناصر رجل دولة يدقق، ويستقصي، ويقرأ ما يحيط به، باحثاً عن خريطة طريق عملية توصله الى إنجاز هدفه الاستراتيجي بسلام، وبأقل الخسائر، والتي ربما تستغرق عقودا وحسب ما يمليه الوضع الدولي، وما يقتضيه منطق القوة والقدرة، ويمكن رصد بداية هذه المرحلة مع إعلان لاءات مؤتمر الخرطوم “لا صلح ولا اعتراف ولا تفاوض”، والقبول بوقف إطلاق النار، ثم القبول بمبادرة روجرز، وهو ما وصفه هيكل بأنه “نقلة في السياسة، ونقلة في التفكير والوعي“.

ولكي لا تموت الحقيقة، لا نرى بأسا من استدعاء التاريخ، وبعضه ما يزال جزءا من الحاضر، والتاريخ يقول لنا إن عبد الناصر، ومع كل الأخطاء والخطايا التي شابت حكمه مصر، كان لديه حلم، وكان يسعى إلى أن يصنع تاريخا جديدا لبلاده، وللعرب. وبحسب ماركس، فان “الأفراد يصنعون التاريخ لكن ليس بالضرورة بالطريقة التي يختارونها”، وهذا ما حدث.

 

زر الذهاب إلى الأعلى