ما يشبه الرسالة للرئيس إسحاق هرتسوغ جواد بولس
حضرتني فكرة هذه المقالة بعد أن شاهدت الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ يواجه، قبل عدة أيام، مجموعة من أهالي المخطوفين في غزة وقد وقفوا أمام مقر سكنه للاحتجاج، ومطالبته بالتدخل من أجل إنقاذ أبناء عائلاتهم. لم يعط المحتجون فرصة كبيرة للرئيس هرتسوغ لإجراء حوار مؤدب، إذ كانوا يقاطعونه ويهاجمون مواقفه بالصراخ، إلا أنه نجح في تمرير بعض المواقف، التي استفزتني ودفعتني إلى كتابة ما يشبه الرسالة إليه. اكتبها وأعرف أن «كلامي إن قلته ضائري/ وفي الصمت حتفي، فما أصنع»؟
كان همه في المواجهة أن يؤكد على ضرورة حماية وحدة المجتمع الإسرائيلي. لكن عندما سألوه إذا كانت هذه الوحدة تشمل وزراء مثل الوزير ايتمار بن چفير أجابهم «على العكس يجب إخراج الكاهانية». وعندما سئل عن موقفه إزاء اعتداء سوائب المستوطنين على أهالي وبيوت قرية «جيت» الواقعة قرب مدينة قلقيلية في شمال الضفة الغربية أجاب: «هذا عمل خطير جدا، لكن المؤسسة تقوم بمعالجته». ثم أضاف «يوجد هناك نصف مليون إنسان (يقصد نصف مليون مستوطن يهودي في الضفة المحتلة) يسكنون في المستوطنات و 99٪ منهم يحافظون على القانون. كلهم موجودون في المعركة، وفي هذه الحرب، وحياتهم مهددة من جميع الجهات. مهمتنا الآن أن نكون موحدين».
حكى ويا ريته ما حكى!
لم يفاجئني كلامه بل، كما قلت، استفزني بريائه، عندما تحدث عن معارضته للكهانيّة، وبديماغوجيّته وهو يتحدث عن الديمقراطية، ويعبر عن «خشيته على حياة المستوطنين المهددين من كل جهة والمحافظين على القانون» وبتنكره الواضح لأوضاع مليوني مواطن عربي يسكنون في داخل إسرائيل، لأنه عندما تحدث عن حماية وحدة المجتمع الإسرائيلي كان يقصد دون أدنى شك، وحدة اليهود في الدولة اليهودية وحسب.
لن أتطرق لتاريخ إسحاق هرتسوغ السياسي، فما يهمنا اليوم هو موقفه السلبي والخطير، الذي اتخذه إزاء مؤامرة الانقلاب على الديمقراطية، التي باشرت حكومة نتنياهو بعد الانتخابات الأخيرة تطبيقها. وحتى بعد أن اتضحت نوايا وزراء الحكومة والقوى العنصرية اليمينية، التي خططت لها ودعمتها، لم يُقدم الرئيس هرتسوغ على مواجهتهم، بل بادر إلى طرح حلول وسطية وتسويات استرضائية آزرت في الواقع القوى اليمينية، ومكنتها من الزحف البطيء، واحتلال جميع مرافق الحكم ومؤسساته السيادية والإدارية.
قد لا يكون السبب في وصف الرئيس هرتسوغ بالمتملق جديدًا؛ فهو تربى داخل معسكر حزب العمل، وبرز خلال السنوات الماضية باعتباره أحد قيادييه المركزيين. كان قد تشرّب هذه الميزة من سياسات حزبه ومواقف حكوماته التاريخية، التي عانى منها المواطنون العرب وقياداتهم منذ عقود. كذلك خَبِرَتهم الأحزاب الصهيونية اليمينية والمتدينة ودأبت على وصفهم بالمتملقين، كما فعل الوزير ايتمار بن چفير حين سمع هرتسوغ ينادي بضرورة استبعاد الكاهانية عن الحكومة، فوصفه بالمتملق، ونصحه بأن يسكت، كما فعل عندما خضع للتحقيق في الشرطة، وقال له إن «الرياء صفة مقرفة».
قال هرتسوغ خلال مواجهته مع المحتجين إنه «مؤمن بدولة إسرائيل، ومؤمن بالمجتمع الإسرائيلي، ومؤمن بالديمقراطية الإسرائيلية. وإن الديمقراطية الإسرائيلية ستنتصر»! من يسمع هذا التصريح لا يفهم منه موقفا سياسيا واضحا؛ إنه أسلوب ديماغوجي بامتياز، فهو يعرف أنه لو سئل أي كهانيّ أو أي فرد في الكتائب الفاشية أو أي طيار عسكري يقصف من قمرة طائرته الأبراج السكنية في غزة، ويقتل من فيها من الأطفال والشيوخ والحوامل، لو سئل جميع هؤلاء لماذا يفعلون ما يفعلونه، لأجابوا مثلما أجاب، فهم أيضا يؤمنون بإسرائيل وبالمجتمع الإسرائيلي وبالديمقراطية.. إنهم، إذًا، إخوة في السلاح وفي الديماغوجية.
لم ترق مواقف الرئيس هرتسوغ المعلنة قبل السابع من أكتوبر للكثير من السياسيين والنخب الإسرائيلية. أما بعد السابع من أكتوبر فقد صارت مواقفه مقلقة أكثر ومستفزة، إذ أعلن في البدايات، مثل أغلبية الشعب اليهودي، تأييده للحكومة ولحربها. وبعد أن استمرت الحرب بصورها العبثية وأسبابها الملفقة انتقل إلى خانة الصمت الكثيف ولاذ بها.
لقد اتضح أن الهدف من وراء استمرار العدوان هو في الواقع إعادة احتلال القطاع، وتهجير سكانه، وفق فرضية إسرائيلية قديمة تنظر لهذا الحل على أنه الحل الممكن والوحيد، الذي «سيخلص» إسرائيل من نصف المواجهة المستمرة مع الفلسطينيين على الأقل.
وبدأ كثير من الإسرائيليين يقتنعون بذلك وبأن حكومة نتنياهو توظف أصداء الحرب ونيرانها كي تلجم فرص الاحتجاجات الشعبية ضدها، وقد بدأت عقب إخفاقها في إعادة المخطوفين، مع احتمال تطورها للاحتجاج على نهج الحكومة السياسي الذي سيؤدي، وفق البعض، إلى انهيار إسرائيل.
لقد برز من بين هؤلاء المنتقدين البروفيسور الإسرائيلي أهرون تشحنوبر الحائز على جائزة نوبل في الكيمياء عام 2004 . اخترته من بين عشرات الشخصيات التي خرجت علنا ضد سياسة نتنياهو وحكومته لما يمثله في المنجز الإسرائيلي الرسمي ومكانته محليا وعالميا. لقد شارك مؤخرا في مؤتمر عقد في كيبوتس نير عوز وهناك حذر من ظاهرة هجرة العقول والأكاديميين من إسرائيل، وأكد أن «أطباء كبار يختفون من المستشفيات.. الجامعات تجد صعوبة في تجنيد محاضرين في الميادين الحساسة، فهذه مجموعات صغيرة لكن عندما سيترك الدولة ثلاثون ألف شخص من هذه الفئات لن تكون هنا دولة».
وأضاف: «هؤلاء أشخاص قرروا الهجرة من الدولة لأن الوضع هنا لم يعد يلائمهم. لا يلائمهم بسبب ما حصل قبل الحرب، فهم يريدون أن يعيشوا في دولة ليبرالية وديمقراطية وليس في دولة تسيطر فيها الحكومة على السلطة بالقوة». ثم تحدث عن موقفه من رئيس الدولة خاصة عن صمته. وقال: «لقد خبا صوت رئيس الدولة. إنه شخصية رمزية هامة، وأنا من هذه المنصة أتوجه إليه لأقول له ما قاله آينشتاين: هذا المكان ليس خطيرا بسبب وجود الأشرار فيه، إنّما بسبب الأشخاص الذين يرون الأشرار ويصمتون ولا يحركون ساكنًا. قم واعمل عملا».
كنت أتمنى أن أعرف ماذا يقترح البروفيسور تشحنوبر نفسه في هذا الصدد، خاصة وأنه أبدى قناعته بأن الجيش الإسرائيلي سوف ينتصر في هذه الحرب. فإذا انتصر الجيش انتصرت هذه الحكومة والبقية الآتية ستقرأها الأجيال القادمة في كتب التاريخ.
لا أعرف ماذا سيفعل الرئيس هرتسوغ من أجل وقف الحرب على غزة، أو إذا كان يرغب في أن يفعل أي شيء؛ كما لا أعرف إذا كان سيفعل شيئا كي يمنع هذه الحكومة أو غيرها من السطوة على نظام الحكم بالقوة، أو إذا كان الوقت قد فات؟ لكنني أعرف أن هذا الرئيس قد شارك يوم 2021/10/29 في مراسم إحياء ذكرى مجزرة كفر قاسم، وأعلن على الملأ: «إنني أنحني أمام ذكرى الضحايا وأطلب العفو باسمي وباسم دولة إسرائيل». وهو الرئيس نفسه الذي كان مع جنود الاحتياط قبل دخولهم إلى غزة بتاريخ 2023/12/25 والتقط صورا له وهو يوقع على أحد الصواريخ قبل إطلاقه نحو بيوت غزة، بعد أن كتب عليه «نعتمد عليكم» وكأنه قد نسي أنه القائل في ذكرى مذبحة كفر قاسم إن «القتل والمس بالأبرياء هو عمل ممنوع، بغض النظر عن أي موقف أو خلاف سياسي» وهو الرئيس الذي قال كذلك في مواجهته مع المحتجين إنه «إذا رأيت خطرا على الديمقراطية الإسرائيلية، سأقف في مقدمة المعسكر».. ويبدو أنه لا يرى في ما يجري خطرًا على الديمقراطية، أو أنه يرى ويقف فعلا في المعسكر الصح، أو ربما كان يقصد العسكر وليس المعسكر.. فليحيا التملق ولتعش الديماغوجية.
محام وكاتب فلسطيني
من كتاب (البلاد)