من الصحافة العربية : الذكرى الـ22 لاحتلال العراق: دولة منهكة، مجتمع مفكك، وجراح لم تندمل
ما جرى في العراق لم يكن "تحريرا" كما ادعى قادة الاحتلال، بل كارثة متعددة الأبعاد، قانونية وإنسانية وأخلاقية

لحظة فارقة في تاريخ العراق
ناجي حرج *
الاحتلال شجّع على نشوء العشرات من الجماعات المسلّحة والميليشيات،
بعضها مدعومة خارجيا، وذات ولاءات طائفية وقومية متضاربة
. العدالة للعراق ليست مجرّد مطلب شعبي أو شعارات سياسية، بل ضرورة إنسانية وتاريخية
كما هو الحال كلّ عام، مضى يوم التاسع من أبريل، ثقيلا، قاسيا، ومؤلما جدّا على العراقيين، وعلى كلّ شرفاء العالم الذين يرفضون الحروب والعدوان. ففي التاسع من أبريل 2003، دخلت القوات الأميركية وسط العاصمة العراقية بغداد لتبدأ احتلالا سيطول، ومعلنة بداية فصل دمويّ من فصول التاريخ الحديث للعراق.
ويمثّل مرور 22 عاما على ذلك الحدث، تذكيرا بآثاره الكارثية الماثلة للعيان، سواء في دمار البنية التحتية، أو تمزيق النسيج الاجتماعي، أو في استلاب السيادة الوطنية، وكذلك في زعزعة الاستقرار الإقليمي.
لقد شكّل هذا الغزو انتهاكا صارخا للمبادئ الأساسية في القانون الدولي والقانون الإنساني الدولي وتسبّب في معاناة إنسانية طويلة الأمد. وفي هذه الذكرى الأليمة لا بدّ من استذكار بعض ارهاصاتها وتداعياتها.
جرى الغزو دون أي تفويض من مجلس الأمن الدولي، في مخالفة صريحة لميثاق الأمم المتحدة، الذي يحظر استخدام القوة ضدّ سلامة الأراضي أو الاستقلال السياسي لأي دولة، ويؤكد على ضرورة حلّ المنازعات بالطرق السلمية.
وجرت محاولات بائسة لتبرير الغزو، منها بادعاء امتلاك العراق لأسلحة دمار شامل، وهو ما أثبتت زيفه لاحقا تقارير وكالة الطاقة الذرية ولجنة التفتيش الدولية التابعة لمجلس الأمن الدولي، بل واللجنة التي شكّلتها الولايات المتحدة بعد الغزو. من هنا فإن الغزو المدمّر للعراق قد بُني على الخداع والتضليل، ويشكلّ ذلك ـ بحد ذاته ـ سابقة خطيرة في العلاقات الدولية.
عند الغزو، كانت جمهورّية العراق دولة ذات سيادة، وهي عضو مؤسس للأمم المتحدّة، وباجتياحها، وإسقاط حكومتها، وفرض سلطة الاحتلال عليها، جرى تقويض سيدتها وإنهاء استقلالها.
تؤكد التقديرات أن ما يقرب من مليوني عراقي قد فقد حياته جرّاء الغزو وتداعيات الاحتلال. ففي عام 2006، أكدّت دراسة مجلة The Lancet الطبية الرصينة، أن إجمالي الضحايا العراقيين، بسبب الحرب والعنف المرتبط بها، بلغ نحو 650.000 عراقي حتى ذلك العام. لكن ما حصل من انتهاكات بعده قد زاد، وللأسف، هذا الرقم كثيرا، بحيث يُقدّر الآن بمليوني إنسان.
وهنالك أعداد كبيرة من المدنيين تعرّضوا لشتى أنواع الإصابات أثناء الغزو والاحتلال، وقسم كبير منهم كانت إصاباتهم بليغة، ولم يشفوا منها إلى حد الآن، في حين تحوّلت إصابات آخرى إلى عاهات مستديمة لعدد غير قليل من العراقيين.
وما بين عامي 2003 و2025، اعتُقل أكثر من 500.000 عراقي على يد قوات الاحتلال والحكومات اللاحقة. وقدّ تعرّض معظم هؤلاء لشتّى ضروب التعذيب والمعاملة المهينة.
لا شكّ أن فضيحة سجن أبوغريب في 2004 كشفت عن تعذيب وإذلال واسع النطاق للسجناء، في انتهاك لاتفاقية مناهضة التعذيب واتفاقيات جنيف.
تشير معظم التقديرات إلى الإخفاء القسري لأكثر من مليون عراقي منذ عام 2003، من قبل قوّات الاحتلال، ثم السلطات الرسمية والميليشيات المرتبطة بها، ولا تزال الآلاف من العائلات العراقية تجهل مصير أبنائها حتى اليوم، إذ يقبعون في سجون سرّية، مع الاعتقاد بأن الكثير منهم قد جرى إعدامهم صوريا.
واستخدمت القوات الأميركية الفوسفور الأبيض والأسلحة التي جرى تعزيز قوّتها باليورانيوم المنضّب خلال تقدّمها في الأراضي العراقية، واستخدمتها بكثافة في معارك الفلوجة (2004)، وتؤكدّ الدراسات العلمية أنّها تسبّبت بأمراض سرطانية وولادات مشوهة.
والثابت علميا أن اليورانيوم المنضّب يبقى تأثيره البيئي والصحي لسنوات طويلة، ويُعدّ استخدامه انتهاكا خطيرا للقانون الدولي الإنساني.
أدت قرارات الحاكم الأميركي بول بريمر بحلّ الجيش والأجهزة الأمنية إلى حدوث فراغ أمني خطير، لا تزال تداعياته ماثلة إلى يومنا هذا.
وشجّع الاحتلال على نشوء العشرات من الجماعات المسلّحة والميليشيات، بعضها مدعومة خارجيا، وذات ولاءات طائفية وقومية متضاربة. وأصبحت قوّة هذه الجماعات تفوق قوّة أجهزة الدولة، وغالبا ما تكون لها اليد العليا في القضايا الأمنية والإستراتيجية في مخالفة صريحة للدستور العراقي.
وتورّطت هذه الجماعات في عمليات قتل على الهوية، تطهير عرقي، وتهجير قسري، ولا تزال طليقة اليد إلى حد الآن ودون أيّ محاسبة.
وفتح الاحتلال وسياسات السلطات الحاكمة الباب على مصراعيه لدخول تنظيمات إرهابية إلى العراق ارتكبت أبشع الانتهاكات، منها تنظيما القاعدة ثم داعش.
تقدّر الأمم المتحدة أن أكثر من 5 ملايين عراقي تم تهجيرهم داخليا أو لجأوا إلى الخارج منذ 2003. وإلى حد الآن يعيش الملايين من العراقيين خارج بلادهم في هجرة قسرية فرضتها عليهم تداعيات الاحتلال، وحاليا، هنالك أكثر من مليون نازح داخليا في العراق.
شهد العراق موجات تهجير طائفي كبيرة، خاصة بين عامي 2006 و2008، ثم مجددا مع اجتياح داعش في 2014. وقد مورس التهجير الطائفي في بغداد وديالى وصلاح الدين وبابل والبصرة وكركوك، ضمن سياسة ممنهجة لإجراء تغييرات ديموغرافية في التركيبة السكّانية في هذه المحافظات.
وبسبب الغزو وما تلاه من أعمال تخريبية ومعارك، حدث انهيار واسع في الأنظمة الصحيّة والتعليمية بشكل واسع، رغم تخصيص ميزانيات ضخمة لإعادة الإعمار، لكن الفساد الإداري والسياسي يلتهم جلّ هذه التخصيصات.
وتعرّضت العشرات من المستشفيات، المدارس، محطّات توليد الطاقة الكهربائية ومحطّات تصفية المياه إلى التدمير المباشر جرّاء العمليات العسكرية أو النهب، ولم يجر إصلاح معظمها إلى حد الآن.
فرض الاحتلال على العراقيين القبول بنظام حكم مشوّه يعتمد على المحاصصة الطائفية والإثنية، ما أدّى إلى تقويض مفهوم الدولة المدنية، وتعميق الانقسامات، وصعود قيادات لحكم البلاد وهي لا تمتلك أدنى خبرة في إدارة الدولة.
وتحوّل العراق إلى ساحة للتدخل الخارجي المباشر بشؤون البلاد، مما قوّض استقلاليته واستقلالية قراره السيادي.
ما جرى في العراق لم يكن “تحريرا” كما ادعى قادة الاحتلال، بل كارثة متعدّدة الأبعاد، قانونية وإنسانية وأخلاقية.
بعد 22 عاما، لا تزال آثار الغزو ماثلة في واقع العراق اليوم: دولة منهكة، مجتمع مفكك، الملايين من الضحايا، وجراح لم تندمل.
من هنا، فإن العدالة للعراق ليست مجرّد مطلب شعبي أو شعارات سياسية، بل ضرورة إنسانية وتاريخية، من أجل أن لا تتكرّر هذه الكارثة في أماكن أخرى من العالم.
- حقوقي ودبلوماسي سابق
- المصدر : جريدة (العرب) لندن