سياسة

من الصحافة العربية : غزّة بين الرؤى الاقتصادية الأميركية ومشاريع الربط الإقليمي منال علان  *

 

منال علان  *

مع دخول اتفاق وقف إطلاق النار في قطاع غزّة حيّز التنفيذ في 19 يناير/ كانون الثاني 2025، وقبل استئناف إسرائيل حرب الإبادة، برزت توجهات أميركية بشأن مُستقبل القطاع. ففي 25 من الشهر نفسه، صرّح رئيس الولايات المتحدة، دونالد ترامب، في حديثه مع الصحافيين على متن الطائرة الرئاسية، أنهُ أبلغ العاهل الأردني، الملك عبد الله الثاني، برغبته في أن تستقبل كلٌّ من الأردن ومصر مزيداً من الفلسطينيين من قطاع غزّة. وفي 4 فبراير/ شباط، وفي مُؤتمر صحافي مُشترك مع رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، في البيت الأبيض، عبّر ترامب عن رغبته في تحويل غزّة إلى ما وصفها “ريفييرا الشرق الأوسط”، تحت “ملكية طويلة الأمد” للولايات المتحدة. وأخيراً، جدد ترامب دعوته إلى تولي الولايات المتحدة السيطرة على قطاع غزّة، وذلك خلال استضافته لنتنياهو في البيت الأبيض بتاريخ 7 إبريل/ نيسان الجاري.

وفي مواجهة هذه المُقترحات الأميركية، طرحت مصر خطة لإعادة إعمار قطاع غزّة، وذلك قبيل انعقاد القمة العربية الطارئة في القاهرة في 4 مارس/آذار 2025. وقد أعلن الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، أن القمّة اعتمدت المشروع المصري، الذي “يحفظ حق الشعب الفلسطيني في إعادة بناء وطنه والبقاء على أرضه”، داعياً إلى تقديم الدعم المالي للصندوق المزمع إنشاؤه لتنفيذ هذه الخطة.

لا يمكن النظر إلى المُقترحات الأميركية بشأن السيطرة على قطاع غزّة بمعزل عن المُتغيرات الجيوسياسية المُتسارعة في منطقة الشرق الأوسط، ولا سيما في ظل التطورات في كل من لبنان وسورية أخيراً. وفي هذا السياق، تصاعدت النقاشات بين المحللين السياسيين بشأن وجود ارتباط محتمل بين الأهداف العسكرية الإسرائيلية والمخطّطات الاقتصادية الإقليمية التي تحظى برعاية أميركية، خصوصاً المُتعلقة بالبنية التحتية والممرّات التجارية الكبرى.

وقد أثار مراقبون تساؤلات جوهرية ما إذا كانت الحرب على غزّة تنطوي، في أحد أبعادها، على محاولة لإعادة رسم الجغرافيا السياسية للمنطقة بطريقةٍ تمهّد لدمج القطاع ضمن مشاريع اقتصادية إقليمية ضخمة، مثل الممرّ الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا.

ورغم ما تُشير إليه تقديراتٌ أن قطاع غزّة قد يُمثّل نقطة محورية محتملة ضمن الرؤى الاقتصادية الأميركية للمنطقة، لكن إدراجه في هذه المبادرات لا يزال مجرّد احتمال نظري، فالرؤية الاقتصادية التي عبّر عنها ترامب، والمبنية على فرض سيطرة أميركية على القطاع وتهجير سكانه، لم تُترجم بعد إلى خطة رسمية مُعلنة.

ويبقى إدراج قطاع غزّة ضمن مشاريع الربط الإقليمي مرهوناً بعوامل سياسية وأمنية مُعقّدة، فبينما تسعى إسرائيل إلى بسط سيطرة أشمل على القطاع، وتسعى لتحقيق أهدافها المُعلنة من الحرب، وفي مقدّمتها القضاء على فصائل المقاومة الفلسطينية في غزّة، لا تزال هذه الفصائل حاضرة ومؤثرة ميدانياً، ما يُبقي القطاع خارج نطاق الحسابات الفعلية للمشاريع الاقتصادية الإقليمية؛ نظراً إلى احتمال اندلاع مواجهات جديدة قد تستهدف خلالها المقاومة البنية التحتية لأي مشروع اقتصادي يمر عبر قطاع غزّة.

من “سنغافورة” إلى “ريفييرا” الشرق الأوسط

قدّم الصحافي والمؤرخ العسكري الأميركي، دان كورزمان (1922–2010)، تصوراً لافتاً لمستقبل قطاع غزّة، في مقال نُشر في صحيفة نيويورك تايمز في 7 يناير/ كانون الثاني 1988، بعنوان: “مدينة-دولة: غزّة قد تصبح سنغافورة الشرق الأوسط”. طرح فكرة تحويل غزّة إلى “دولة-مدينة” على غرار سنغافورة؛ بوصفها كياناً صغيراً، محايداً، مستقرّاً وديمقراطياً، يمكن أن يتحوّل إلى نموذج للنهضة الاقتصادية في المنطقة. وقد استند هذا الطرح إلى جملة من مقوّمات محليةٍ يتمتّع بها القطاع، مثل صغر مساحته الجغرافية وتماسك نسيجه الاجتماعي، بما يُسهّل تطوير بناه التحتية، ويعزّز قدرته على الاندماج في الاقتصادين الإقليمي والعالمي.

وبحسب هذه الرؤية، يمكن لغزّة أن تضطلع بدور مشابه للدور الذي لعبته بيروت في عقود سابقة، باعتبارها مركزاً تجارياً إقليمياً. وتقوم الفكرة على إنشاء منطقة تجارة حرّة خالية من النزاعات، تُسهم في تحسين مستويات المعيشة عبر جذب الاستثمارات وتنشيط النمو الاقتصادي. كما تُطرح هذه الرؤية بوصفها أحد الحلول المستقبلية الممكنة للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، من خلال تصوّر “دولة – مدينة” مستقلة ومحايدة تفتح أفقًا جديدًا لتسوية الصراع.

وأخيراً، برزت رؤى جديدة بدعم من إدارة الرئيس الأميركي، ترامب، تدعو إلى تحويل غزّة إلى وجهة سياحية فاخرة على غرار “الريفييرا الفرنسية”. تقوم هذه الرؤية على إعادة إعمار القطاع من خلال مشاريع سياحية كبرى، تشمل إنشاء مجمّعات فندقية ومنشآت استثمارية متقدمة، بهدف تحويل غزّة إلى مركز اقتصادي يحمل طابع “ريفييرا الشرق الأوسط”. غير أن هذا التصوّر يرتبط أيضاً بمُقترح يتمثل في تهجير سكان القطاع إلى دول مجاورة مثل مصر والأردن، بزعم أن حجم الدمار الذي خلفته الحرب يجعل من إعادة توطينهم خارج غزّة أمراً ضرورياً لتنفيذ المشروع.

تختلف الرؤيتان جوهرياً في الأسس والمنهجيات؛ فبينما يقوم تصوّر “غزّة سنغافورة” على الإبقاء على السكان داخل قطاع غزّة، وتحويله إلى دولة-مدينة محايدة تضمن رفاهية مواطنيها عبر اقتصاد إنتاجي وتجاري. يقوم تصور “غزّة الريفييرا” أن الحل يكمن في إعادة تشكيل القطاع مركزاً استثمارياً سياحياً مع تهجير سكانه. ورغم هذا التناقض، تشترك الرؤيتان في هدف واحد، تحويل قطاع غزّة إلى مركز اقتصادي قادر على الاندماج في الأسواق الإقليمية والدولية.

وفي هذا السياق، ناقشت ورقة تقدير موقف (صدرت عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات وحدة الدراسات السياسية، 10/2/2025، بعنوان: “خطة ترامب لتهجير سكان قطاع غزّة: أصل الفكرة، آفاقها، وتداعياتها”)، فكرة “الاستحواذ على غزّة وتطويرها”، مُشيرة إلى أن الطرح تطوّر خلال مناقشات داخلية بين ترامب وعدد محدود من مستشاريه، ولم يكن ضمن خطة مُكتملة، بل مجرّد أفكار أولية ترتبط بإعادة توطين السكان. وقد أثارت تصريحات ترامب في أثناء لقائه نتنياهو موجةً من الجدل، دفعت مسؤولين أميركيين إلى محاولة التخفيف من وقعها؛ نظراً إلى ما تمثله من انتهاك صريح للقانون الدولي.

تصورات لدمج غزّة ضمن مشاريع الربط الإقليمي

قبل شهر من اندلاع الحرب على قطاع غزّة، وتحديداً في 9 سبتمبر/ أيلول 2023، أعلن قادة كلٍّ من الهند، والاتحاد الأوروبي، وفرنسا، وألمانيا، وإيطاليا، والسعودية، والإمارات، والولايات المتحدة، توقيعَ مُذكرة تفاهم لتطوير مشروع ممرّ اقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا. ويهدف المشروع إلى تعزيز الترابط التجاري واللوجستي بين آسيا وأوروبا عبر البنية التحتية الإقليمية في الشرق الأوسط. ويرى مراقبون أن أهداف هذا المشروع تتقاطع مع ما يُعرف بمشروع قناة بن غوريون، وهو تصور بديل لقناة السويس يربط البحر الأبيض المتوسط بخليج العقبة عبر صحراء النقب. يستند إلى عدة وثائق تاريخية، مثل دراسة أميركية تعود إلى عام 1963 بعنوان “استخدام المتفجرات النووية في حفر قناة على مستوى سطح البحر عبر صحراء النقب”، والتي رُفعت عنها السرّية عام 1996. وقد اكتسب هذا الطرح زخماً إضافياً خلال حرب غزّة، بعد كشف شبكة بي بي سي البريطانية، في مايو/ أيار 2024، عن وثيقة رسمية بريطانية تعود إلى 1942، تُظهر مُقترح مشروع لإنشاء “منطقة تنمية عملاقة”، تمتد من “جنوب مدينة العقبة الأردنية إلى قطاع غزّة، وتشمل رفح والعريش في شمال شبه جزيرة سيناء المصرية”. وقد قدّم هذا المُقترح رجل الأعمال اليهودي الأميركي ويليام إل. غوردن إلى حكومة رئيس الوزراء البريطاني، ونستون تشرشل.

تتقاطع بعض المُقترحات التاريخية مع الطموحات الإسرائيلية السابقة لإقامة مشاريع ربط إقليمي تشمل جزءاً منها قطاع غزّة. ففي عام 2005، ناقشت إسرائيل إمكانية إنشاء “مشروع سكة حديد” يربط قطاع غزّة بمدينة طولكرم عبر ميناء أشدود. ورغم غياب أي إعلان رسمي بهذا الخصوص، نشرت الصحف الإسرائيلية، في 25 يناير/ كانون الثاني 2005، تقارير تُشير إلى اهتمام القيادة الإسرائيلية بهذا المشروع منذ فترة طويلة، تحت عنوان: “إسرائيل تدرس مشروع قطار بين غزّة والضفة الغربية“.

سيناريو مُستبعد

رغم تكرار الإشارات إلى مشاريع إقليمية تطرح تصوّراً اقتصادياً – جيوسياسياً لدمج قطاع غزّة ضمن الممرات التجارية الكبرى، يُظهر التدقيق في طبيعة هذه المشاريع وتطلّعاتها أن إدماج القطاع ضمن مشاريع الربط الإقليمي لا يزال احتمالاً غير مرجّح.

وبشأن مشروع “قناة بن غوريون”، لا تتناوله الأدبيات الإسرائيلية خطّة حكومية رسمية أو مُعلنة. ويُرجّح أن التسمية تعود إلى محاولات إسرائيلية قديمة لإيجاد بدائل استراتيجية لقناة السويس خلال عهد رئيس الوزراء الأسبق، ديفيد بن غوريون. ففي 11 أغسطس/ آب 1956، أي بعد أقل من ثلاثة أسابيع على تأميم قناة السويس (26 يوليو/ تموز)، نشرت “نيويورك تايمز” تقريراً بعنوان: “إسرائيل تدرس بديلاً لقناة السويس في الشرق الأوسط وربطها بأوروبا”، جاء فيه أن البدائل المُقترحة تضمنت مشروعاً لحفر قناة من إيلات (أم الرشراش) إلى البحر المتوسط، وخط سكة حديد من إيلات إلى بئر السبع، وخط أنابيب من إيلات إلى حيفا، وأفاد بأن هذه المشاريع تواجه عقبات طبيعية ولوجستية تعيق تنفيذها على أرض الواقع.

أما الدراسة الأميركية المُشار إليها، ونُشرت عام 1963، فإنها تقترح إنشاء قناة تصل البحر الأبيض المتوسط بخليج العقبة مروراً بصحراء النقب، باستخدام متفجّرات نووية. ورغم تلاقي هذه الفكرة مع الطموحات الإسرائيلية لمنافسة قناة السويس، فإنها تصطدم بالمخاطر البيئية والجيولوجية الجسيمة الناجمة عن استخدام السلاح النووي في شق الممرّ، مما يجعل المشروع مستحيل التحقيق. وبالمثل، فإن الوثيقة البريطانية التي كُشف عنها خلال حرب غزّة في مايو/ أيار 2024، ورغم توقيتها الحساس، يُحتمل أن تكون ناتجة عن ظرف تاريخي متعلق بالتطورات الإقليمية والدولية آنذاك، فقد جاءت في سياق التحولات الاستراتيجية البريطانية في الشرق الأوسط، بما في ذلك الانسحاب من فلسطين ومصر، وتأميم قناة السويس عام 1956، وربما شكّلت محاولة لاستكشاف مشاريع تنموية ذات طابع سياسي واقتصادي لتقاطع المصالح المستقبلية بين بريطانيا وإسرائيل. وهذا يجعل من هذا المقترح إطاراً نظرياً استشرافياً أكثر منه خطة تنفيذية عملية.

وفي ما يخصّ مشروع الممرّ الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا، يبدو إدراج قطاع غزّة ضمن هذا المخطط مستبعداً؛ ليس فقط لأسبابٍ سياسيةٍ وأمنية، بل أيضاً لأسباب جغرافية واضحة، فعلى الرغم من أن الأردن وإسرائيل لم تكونا من الدول المُوقعة رسمياً على مُذكّرة التفاهم لإعلان مبادرة الممرّ، لكنهما أُدرجتا ضمن المسار الجغرافي المُقترح للممرّ، الذي يهدف إلى إنشاء شبكة سكك حديدية توائم بين النقل البحري والبرّي، لتسهيل حركة البضائع والخدمات من وإلى وبين الهند، والإمارات، والسعودية، والأردن، وإسرائيل، وأوروبا. ومن ثم، يُرجَّح أن يمر الممرّ الاقتصادي عبر الأردن وإسرائيل من خلال ميناء حيفا؛ وتعزز عدة معطيات هذا الاتجاه؛ أبرزها أن الهند تُعد الشريك الرئيسي الراعي للمشروع، وأن ميناء حيفا في الشمال الغربي من فلسطين المُحتلة، تديره منذ عام 2022 شركة هندية بشراكة إسرائيلية. أما قطاع غزّة، الواقع في أقصى الجنوب الغربي، فيبقى خارج هذا المسار جغرافياً.

وعليه، تندرج المحاولات والمُقترحات التاريخية التي سعت إلى إدماج قطاع غزّة ضمن خطوط تجارية ومشاريع ربط إقليمي، ضمن تصورات ذات طابع سياسي واستراتيجي، ارتبطت بظروف وسياقات زمنية محدّدة. ومع أن بعضها يعكس طموحات جيوسياسية كانت قائمة في حينها، لكنها لا تحمل صلة مباشرة بالمبادرات الاقتصادية الحديثة، مثل مشروع الممرّ الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا.

ولا يزال قطاع غزّة خارج إطار مشاريع الممرات الاقتصادية الإقليمية المُعلنة، سواء من حيث الموقع الجغرافي أو من حيث توافر البنية التحتية اللازمة. وتبقى المُقترحات التي تتناول احتمالات دمج غزّة في مبادرات اقتصادية إقليمية شبه مُستحيلة التنفيذ في غياب سيطرة فعلية لإسرائيل أو الولايات المتحدة على القطاع، واستمرار وجود فصائل المقاومة الفلسطينية، التي يُحتمل أن تستهدف أي بنية تحتية تُقام في إطار مشروع ممرّ اقتصادي، في حال تجدّد المواجهات العسكرية.

ومع ذلك، تفتح التحولات الجيوسياسية المتسارعة في المنطقة الباب أمام احتمالات وجود تصوّرات أو مخطّطات “غير مُعلنة” لإعادة تشكيل الإقليم سياسياً وأمنياً واقتصادياً كذلك. وقد يُعاد طرح دور جديد لقطاع غزّة في المُستقبل، سواء على الصعيد الاقتصادي أو السياسي أو الأمني، في حال تغيّرت المعادلات الميدانية والسياسية القائمة.

وفي هذا السياق، يُشار إلى أن قطاع غزّة كان دوماً جزءاً من الرؤية الاستراتيجية لنتنياهو؛ إذ اعتُبر مشروع إنشاء سكّة حديد تربط القطاع بطولكرم عبر ميناء أشدود، سالف الذكر، من بين مُقترحاتٍ طرحها خلال توليه منصب وزير المالية بين عامي 2003 و2005. وقد عارض بشدة خطة “فك الارتباط” الأحادي الجانب التي نفذتها حكومة أرييل شارون، وأفضت إلى انسحاب إسرائيل من قطاع غزّة في 2005، حيث اعتُبرت استقالته من الحكومة آنذاك خطوة احتجاجية تهدف إلى الضغط لوقف تنفيذ الخطّة.

  • جريدة (العربي الجديد)
زر الذهاب إلى الأعلى