مقالات رأي

نظام بغداد في ربع الساعة الأخير عبد اللطيف السعدون

 

ليسوا وحدهم خصوم “العملية السياسية” الماثلة في العراق ومعارضوها من يقول بذلك، فأهل النظام أيضا يخشون انهيار ما هو قائم. وفي الأسبوع الماضي، دقّ زعيم حزب الدعوة، أكبر الأحزاب المهيمنة على السلطة، نوري المالكي، جرس الإنذار محذّرا شركاءه من “تداعيات التجاوزات الحاصلة على السلطات الثلاث، والتي ربما تكون أخطر من العمليات الإرهابية التي تستهدف النظام”.

ما لفت إلى ذلك المؤتمر الصحافي الذي عقده رئيس هيئة النزاهة حيدر حنون في أربيل، وفجّر فيه اتهاما مباشرا للقضاء بالتستّر على عمليات فساد مهولة، “سرقة القرن” المرتبطة بنور زهير ليست سوى عيّنة منها، وزهير نفسه “ليس سوى العربة التي حملت فيها الأموال” التي قدّرت بمليارين ونصف المليار من الدولارات، فيما تشير أرقام جديدة إلى ثمانية مليارات. هناك أيضا اختفاء 22 مليار دولار تحت لافتة “إنشاء سكة حديد”، وأيضا الاستيلاء على مساحات كبيرة من الأراضي الزراعية في منطقة شط العرب من دون وجه حقّ. وقد أشار حنّون إلى ضلوع جهات وشخصيات سياسية في هذه العمليات، ودعا البرلمان إلى عقد جلسة علنية، واستضافته للكشف عن تفاصيل كل هذه الفضائح، ونشر غسيل أطرافها. لكن ما عُرف أن شخصياتٍ نافذة تعمل على منع الاستضافة أو تأجيلها، على الأقل إلى حين إيجاد مخرج مناسب، خوفاً مما قد تجرّه من مضاعفاتٍ تطاول الجميع، وما في الوسع تثبيته هنا أن رئيس هيئة النزاهة، بإقدامه على خطوته الجريئة هذه، وضع نفسه في مواجهة منظومة فسادٍ كبرى، تضم قيادات أحزاب ورجال مليشيات مستفيدة من نهب المال العام، ولن تتوانى عن فعل ما يمكنها فعله لرد السهام الموجّهة إليها.

ثمّة واقعة أخرى لا تقل تراجيدية عن وقائع الفساد السالفة، اكتشاف شبكة تنصّت وابتزاز في مكتب رئيس الوزراء، يقودها رجال نافذون عاملون في مناصب مهمّة مستهدفة شخصيات سياسية وعسكرية لصالح جهةٍ لم يُكشف النقاب عنها. وثمّة مصادفات غير سارّة لأركان الحكم ما نقل لهم من الولايات المتحدة، الراعية الأساسية للعملية السياسية، عن دعوة أعضاء في الكونغرس الرئيس جو بايدن إلى معاقبة مسؤولين عراقيين، من بينهم وزير النفط، ورجال مليشيا “عصائب الحق” المشاركة في حكومة محمد شيّاع السوداني لضلوعهم في عمليات تهريب النفط الإيراني، وبيعه في السوق العالمي باعتباره عراقيا، وتحويل ثمنه إلى طهران. وأيضا ما تناقلته تقارير الولايات المتحدة عن تحذيرها حكومة بغداد من تداعيات سيطرة زعيم مليشياوي تابع للحشد الشعبي، هو ريان الكلداني، على منطقة سهل نينوى، واستيلائه مع مجموعته على أراضٍ وممتلكاتٍ لمئات العوائل المسيحية النازحة واستباحتها، وهذا يعكس المدى الذي بلغه توغّل المليشيات والفصائل المسلحة في قلب المجتمعات العراقية المحلية، وسيطرتها عليها، وتلاعبها بمصائر الممتلكات، والبشر أيضا، وعجز الحكومات المتعاقبة عن حصر السلاح بيد الدولة، وهو البند الذي ظهر في كل أجندات تلك الحكومات، ولم تظهر خطوة عملية واحدة باتجاهه، بل زاد الأمر خطورة أن تلك المليشيات والفصائل، رغم ارتباطها الشكلي بالقيادة العامة للقوات المسلحة، واستئثارها بالمال العراقي، تأتمر بأوامر إيران وتنفّذ مخططاتها.

فجّرت هذه الكومة من الوقائع الدراماتيكية الصراعات داخل “الإطار التنسيقي”، وأثارت اللغط بشأن مسؤولية قياداته فيها، وهي التي دفعت المالكي إلى إلقاء خطابه التلفزيوني الذي حذّر فيه من مخاطر ما يجري على “العملية السياسية”، كما دفعت السوداني، هو الآخر، إلى إلقاء خطاب تلفزيوني اتهم فيه أطرافا سياسية لم يسمّها بالسعي إلى تشويه عمل حكومته في مكافحة الفساد ومحاسبة المفسدين.

ما يُراد قوله هنا إن المواطن العراقي لم يعُد يعطي مثل هذه الوقائع الصادمة قدراً من الاهتمام. يكفيه ما يعانيه من هموم، وما تفرضه عليه حياته من متطلّباتٍ تبدو الطبقة الحاكمة غير عابئة بها، اذ لا تزال مشكلة الطاقة الكهربائية قائمة، وقل الشيء نفسه عن توفير فرص العمل لآلاف الخرّيجين، وغياب الأمن، وانتشار آفة المخدّرات، وأمور أخرى تثير شجناً كثيراً.

إنها محنة العراق التي يعكسها هذا الوضع السوريالي ذو الاحتمالات الكثيرة، والذي يصعُب التحكّم فيه، ما جعل أهل النظام أنفسهم يحذّرون من حدوث تداعياتٍ قد تعصف بالعملية السياسية، وتدفع بها إلى الهاوية.

يظلّ هناك ما يعزّي هؤلاء، وما قد يقودهم إلى مزيدٍ من التمترس، هو أن البديل الوطني لم يستكمل أدواته بعد، ولا يزال عاجزاً عن استيلاد الحركة الشعبية المنظمّة القادرة على تعبئة الناس المغلوب على أمرهم، ووضعهم في دائرة الفعل، ولا يزال الحراك الشعبي يعاني من أوجه قصور عديدة، وهذا كله يطيل زمن “ربع الساعة الأخير”، ويمدّ في عمر النظام.

 

زر الذهاب إلى الأعلى