هل التسمية مهمة فعلاً؟ رشا عمران
في الحالة السورية، هل الإصرار على اسم "الثورة" يغير النتائج الحالية؟ وهل استبدال الثورة بـ"حرب أهلية" يلغي مسؤولية النظام عن كل الجرائم التي ارتكبها ويلغي ضرورة محاسبته ومحاكمته في محكمة العدل الدولية؟
ليس سهلاً على كثير من السوريين الإقرار والتسليم بأن الثورة التي دفعت سوريا وشعبها كل تلك الأثمان الباهظة من أجلها تحولت في أدبيات العالم ووثائقه وتصنيفاته (ومنذ سنوات) لتوضع تحت مسمى “حرب أهلية”.
ليس سهلاً فعلاً هذا على أحد ممن شارك في الثورة في عاميها الأولين، أي قبل أن تتحول العسكرة والأسلمة فيها إلى نسق ممنهج ومدروس تناسلت منه تنظيمات وميليشيات ذات طابع جهادي، قابلتها لدى النظام تنظيمات وميليشيات جهادية مشابهة. ومن هنا انتقلت الثورة الشعبية التي كانت تنادي بالسلمية لتتحول إلى حرب طويلة الأمد وممتدة على كامل المساحة السورية، ثم تحولت تلك الحرب لتصبح بؤرة للتدخلات الدولية، تعرضت سوريا خلالها لاحتلالات متعددة من دول كبرى ما زالت حتى اللحظة موجودة في الأراضي والمناطق السورية المختلفة، بينما أصبحت “السيادة السورية” شعاراً إعلامياً يتم التندر به من قبل السوريين من كل انتماءاتهم وتحزباتهم.
لن نعود هنا في هذه السطور إلى تعريف الحرب الأهلية، ذلك أنه خلال الأيام الماضية امتلأت صفحات التواصل الاجتماعي بالتعريفات المتعددة لها، وللأسف كلها تنطبق على ما حدث في سوريا منذ نهاية شهر آذار/مارس 2011 وحتى الآن، أي منذ اللحظة التي قرر فيها النظام استخدام حله الأمني ضد المواطنين المنتفضين في وجهه. جيش النظام وقوات أمنه وشبيحته هم سوريون حملوا السلاح وارتكبوا المجازر ضد سوريين آخرين. هذه حرب النظام ضد مجموعات من الشعب، لكنها حرب أهلية كون الذين قاموا بالمجازر والجرائم وأعمال القتل هم مجموعات أخرى من الشعب نفسه، لهم عقيدة مختلفة سواء كانت دينية أو مذهبية أو حزبية أو مناطقية أو طبقية أو أي انتماء آخر من الانتماءات الكثيرة التي فتتت الشعب السوري وجعلته منقسماً تلك الانقسامات القاسية والشديدة.
لنتحدث بشكل أكثر وضوحاً: منذ بداية الثورة في 18 مارس/آذار 2011 بدأ الإعلام السوري نشر نظرية الإرهاب وبدأ النظام الترويج لفكرة أن الإرهابيين المسلحين قادمون إلى مناطق الساحل والريف (العلوي) للانتقام من مجازر حماة التي حدثت في ثمانينيات القرن الماضي. وبدأ مع هذا الترويج توزيع السلاح على مواطنين مدنيين لم يستخدموا السلاح في حياتهم. قال لي ذلك شاب من معارفي في مدينتي طرطوس حين كنت أكلمه هاتفياً في أول شهر نيسان/إبريل 2011 وأنا في دمشق، أخبرني أنه حصل على مسدس (نسيت الآن موديله) من الفرقة الحزبية في حيهم. وحين سألته من سمح للفرقة الحزبية بتوزيع السلاح على المواطنين، قال: القيادة. القيادة قد تعني الجهات الأمنية وقد تعني القصر الجمهوري، لا فرق في سوريا بين الاثنين، فمن يحمي القصر الجمهوري هي الجهات الأمنية المتعددة المنتشرة في سوريا. بعد هذا بأيام بدأ الخطاب الشعبي في الساحل السوري وفي مناطق الأقليات يأخذ طابعاً خطيراً، تحول اسم المواطنين السوريين المنتمين إلى المناطق الثائرة إلى اسم: إرهابيين. أذكر هنا أيضاً أن قريبة لي حكت لي عن مشكلة وقعت في قريتي حين اجتمع أهالي القرية، بعضهم يحمل سلاحاً وبعضهم يحمل عصي خشبية، حول سيارة تحمل نمرة ريف دمشق كانت متوقفة في القرية قبل أن يتأكدوا أن من كانوا بها هم أصدقاء لأحد شباب القرية. (فكرناهم من الإرهابيين) قالت لي تلك القريبة وصوتها يرتجف من الغضب والخوف معاً. وأذكر أيضاً منشوراً على فيسبوك لشاعرة سورية طالبت فيه (السيد الرئيس) بضرورة الأمر للقيام بتسليح المثقفين من أجل حماية الوطن من الإرهابيين، ومنهم جيران لها، كما كتبت، تباهت بأنها سلمت بعضهم للجهات الأمنية المختصة التي قبضت عليهم من الجامع وهم يصلون.
في المقابل، كان خطاب الشيخ الشهير (العرعور) الطائفي ينتشر بين جماهير الثورة بشكل مخيف، وكان الحديث عن التسليح يتم تداوله بين مواطنين عاديين متعاطفين مع الثورة وليسوا منخرطين بها. أذكر هنا أيضاً حديثاً جرى بيني وبين زميلة عمل لي في اتحاد الكتاب العرب في دمشق، كانت تقول: يجب على الثوار أن يتسلحوا للقضاء على النظام. قلت لها: ولكن التسليح يعني أنهم سيقتلون شباباً في الجيش سوريين مثلهم. قالت لي بعفوية وسرعة: (هدول علويين) قبل أن تتذكر أنني أيضاً علوية، فحاولت تدارك الأمر بقولها: إنهم هم البادئون بالقتل. أتذكر أيضاً في منتصف 2012 في مدينة القاهرة، كنت مدعوة إلى مؤتمر عن التسامح الديني في سوريا وعن ما يجب فعله في (اليوم التالي)، أتذكر أن أحد المشاركين طلب الكلام وتحدث عن ضرورة التسامح شرط إعطاء مهلة شهر للثوار قبل بدء المسامحة للانتقام من المؤيدين للنظام ممن شاركوا في جرائمه، وأطلق اسم (العلويين) على هؤلاء. وأذكر أنني طلبت منه مازحة تخفيض المهلة إلى أسبوع واحد لتقليل عدد الضحايا.
تبدأ الحروب الأهلية حين تشعر المجموعات المكونة لمجتمع معين بالتهديد بعضها من بعض، وتبدأ أيضاً حين تتحول رغبة فناء الآخر والقضاء عليه حتى بالقتل إلى حديث طبيعي يتداوله البشر الطبيعيون بين بعضهم بعضاً.
وتبدأ الحروب الأهلية أيضاً حين يصبح ابن البلد “آخرا” وعدواً لمجرد انتمائه إلى غير ما ننتمي إليه. تبدأ الحروب الأهلية بالكلام عنها أولاً، أو بسهولة الكلام عنها وسهولة معاداة الآخر وسهولة المطالبة بقتله، وسهولة الاعتياد على أحاديث كهذه بين بشر ومواطنين عاديين عاشوا حياتهم وهم يخشون قتل نملة أو فأراً فما بالكم بحمل السلاح وقتل بشر آخرين كانوا حتى اليوم جيراناً أو أصدقاء أو معارف أو زملاء عمل؟
بشر هم مواطنون مثلهم يشربون من نفس الكأس التي شرب منها الجميع دون استثناء: كأس الفساد، كأس التسلط، كأس القبضة الأمنية، كأس الفقر، كأس الفاقة، كأس الإقصاء، كأس الخوف، وكأس القمع، تلك الكأس التي كانت عادلة في توزيعها على السوريين جميعاً، لكنهم مع بداية الثورة صارت سلاحاً يحملونها بعضهم ضد بعض.
هل الاعتزاز بالثورة يمنع توصيفها بالحرب الأهلية؟ في اعتقادي الشخصي أنه لا فواصل بين الاثنين في سوريا. آمن مواطنون بالثورة وانخرطوا بها بكل قلوبهم وعواطفهم، وما زالوا متعلقين ومؤمنين بها رغم ابتعادها واستحالتها حالياً، لكن هذا لا ينفي أن تلك الثورة حملت معها بذور حرب أهلية كانت مطمورة في قلب المجتمع السوري منذ عقود، وكانت تحتاج إلى إزاحة بسيطة للغطاء الذي كان محكماً عليها لتظهر للنور. هذا للأسف يتنافى مع الرومانسية التي عادة ما ترافق أفكار الثورة، وهو ما يحدث الآن للمصدومين من تسمية “الحرب الأهلية”، بعيداً عن عنوان الكتاب سبب الحديث وبعيداً عن متنه وبعيداً عن مؤلفه وعن المؤسسة التي أصدرته؛ كاتبة هذه السطور تتحدث هنا عن معانٍ مجردة تتعلق بالثورة وعن وقائع معاشة تتعلق بالحرب الأهلية.
لكن هل رومانسية الاسم (الثورة) تعني أنها إيجابية دائماً؟ هل أدت الثورات السابقة إلى نتائج إيجابية دائماً؟ لنتحدث هنا عن الثورات العربية التي أنتجت واقعنا الراهن شديد البؤس، كلها ثورات قامت بها الشعوب العربية بقيادات عسكرية وما زالت حتى هذه اللحظة بالمنطوق الشعبي تسمى “ثورة”. هل كانت نتائجها إيجابية على الشعوب العربية؟ أترك لكم تحديد ذلك. مثلها أيضاً الثورة الإيرانية ضد الشاه والتي سميت “ثورة” بكل أدبيات العالم ومراكز بحثه. في المقابل، نتجت عن الحرب الأهلية الأميركية دولة قوية ومجتمع متماسك، ونتجت عن الحرب الأهلية الإسبانية دولة بالغة الجمال والتحضر. هل التسميات مهمة فعلاً؟ وفي الحالة السورية، هل الإصرار على اسم “الثورة” يغير النتائج الحالية؟ وهل استبدال الثورة بـ”حرب أهلية” يلغي مسؤولية النظام عن كل الجرائم التي ارتكبها ويلغي ضرورة محاسبته ومحاكمته في محكمة العدل الدولية؟ وهل الإصرار على اسم “ثورة” يلغي مسؤولية من تنطعوا لقيادتها عن هزيمتها وفشلها هذا الفشل الذريع؟ هذه أسئلة برسمنا نحن السوريين الذين لا مانع لدينا من قتل بعضنا بعضاً معنوياً لمجرد اختلافنا على توصيف ما لا يقدم ولا يؤخر فيما وصلنا إليه.
تلفزيون سوريا