هل العراق دولة منزوعة السيادة؟ عبد اللطيف السعدون
الدولة العراقية اليوم ليست “منزوعة السيادة” فحسب، إنما هي منزوعة الارادة أيضاً
لم يعد العراقيون بحاجة للرجوع الى أرسطو أو افلاطون أو سواهما من فلاسفة الماضي أو علماء العصر كي يعرفوا أن “لا سياسة من دون دولة، ولا دولة من دون سيادة”، وقد اكتشفوا، وهم “مفتحون باللبن” كما يقول المثل الشعبي، من خلال عشرات الوقائع المنظورة أمامهم أن ليس ثمّة سيادة مجتزأة أو سيادة منقوصة، وانما قد تكون هناك دولة منزوعة السيادة كما هو حال العراق اليوم.
ثمّة طوفان من المفارقات يفضح ذلك، هذا بعضها، يقول مساعد وزير الخارجية الأميركي الأسبق لشؤون الشرق الأوسط ديفيد شينكر “رفضنا طلبا للسوداني (رئيس حكومة العراق) بعدم استخدام الأجواء العراقية لضرب إيران”، ويردّ عليه قنصل إيران العام في كردستان نصرالله رشنودي أن “قرار الرد على إسرائيل باستخدام الأجواء العراقية بيد السلطات الإيرانية”. من ناحية أخرى يزعم المسؤولون العراقيون أن العراق دولة ذات سيادة، ويوصمون من ينكر ذلك بأنه إرهابي أو صدّامي أو من أبناء السفارات، ومن ذلك أخيراً تأكيد مستشار الأمن القومي قاسم الأعرجي “رفض استخدام الأراضي والأجواء العراقية منطلقاً للاعتداء على أي دولة”. وفي المقابل، تمضي المليشيات في بياناتها مؤكّدة أن قرار الحرب والسلم في يدها، وأن بإمكانها أن تضرب متى تشاء، أو قل متى تأمر دولة “ولاية الفقيه”.
من نصدّق، ومن نكذّب؟ … ثمّة مفارقاتٌ أخرى توحي بأكثر من ذلك، فالأميركيون ينظرون إلى العراق بلداً تابعاً لهم، وجزءاً من الاستراتيجية الأميركية في المنطقة، وهو لا يزال عملياً تحت ولايتهم، رغم “اتفاقية الإطار الاستراتيجي” التي وقّعها الطرفان عام 2008، وأعطت حكومة بغداد سلطة شكلية على القواعد العسكرية التي يعمل فيها أكثر من 2500 من أفراد القوات المسلحة الأميركية. وحتى في ظل الاتفاق الذي قيل إنه جرى الوصول إليه في عهد حكومة محمد شيّاع السوداني الحالية، والذي يقضي بسحب القوة العسكرية تدريجياً، وتحويل العلاقة بين بغداد وواشنطن إلى صيغة “شراكة شاملة ومستدامة”، تشمل مجالات الاقتصاد والثقافة والعلوم والتكنولوجيا والصحة والتجارة، فإن ما هو مستنبط من تصريحات المسؤولين الأميركيين أن “سحب القوات مرتبطٌ بالوضع على الأرض”. وهذا يعني أنهم ليسوا في وارد الالتزام بأي تاريخ محدّد أو جدول زمني، وهم يستطيعون، في كل مرّة، إذا ما أرادوا، تبرير بقائهم بحدوث متغيّرات على الأرض تستدعي ذلك.
كما أن “الشراكة الشاملة المستدامة” تعني سيطرة كاملة للأميركيين على الموارد النفطية العراقية، وربطها بعلاقة تنسيقٍ مع وزارة الخزانة والبنك الفيدرالي، وما يتبع ذلك من وضع قيود على تحويل المال العراقي واستخدامه من حكومة بغداد. هنا تكرّس الاتفاقية شكلاً من أشكال التبعية والرضوخ لما يريده الأميركيون، وما تفرضه ضرورات أمنهم القومي، ومن خلالها، وبوجود أكبر سفارة لهم على أرض العراق، يهيمنون على الفضاء الاجتماعي بما يتفق ومخطّطاتهم في العراق والمنطقة.
ومن جهة أخرى، ليس الإيرانيون أقلّ شرّاً من الأميركيين في تعاملهم مع العراق، إذ هم يعتبرون بغداد إحدى عواصمهم، ويمارسون هيمنة كاملة على المؤسّسات العراقية عبر وكلائهم من قادة الأحزاب “الإسلاموية” الذين يدينون بالولاء لسلطة المرشد، وأفراد مليشياتهم الذين يقدّر عددهم بمئات الألوف المنتظمين في أكثر من 70 مليشيا وفصيل، معظمها تابع للحرس الثوري بصورة مباشرة، وقد عملت إيران، من خلالهم، على تدمير المجتمع العراقي وامتصاص حيويّته، والسعي إلى بلورة واقع ديموغرافي جديد، إذ ضمنت لعشرات الألوف من الإيرانيين الحصول على الجنسية العراقية، ومنحتهم صيغة الإقامة ورخصة العمل. وفي ظل تلك الهيمنة الشريرة، تعرّض النسيج الوطني العراقي إلى انتهاكات وارتكابات طوال الأعوام العشرين الأخيرة، قد لا يتمكّن العراقيون من معالجتها على مدى عشرين عاماً أخرى.
هكذا يجد العراقيون أنفسهم اليوم، وفي غفلةٍ من التاريخ، في مواجهة قوى غاشمة شرّيرة تمارس عليهم هيمنة لا حدود لها، وليس في مقدورهم أن يرفضوا أو يعاندوا، أو حتى أن يناوروا، وخاصة أن القائمين على أمورهم، وإن كانوا من أبناء جلدتهم، إلا أنهم، كما يبدو، تعلّموا المراوغة من ماكيافيلي، وأتقنوا مسلك الخنوع، ما داموا يحصلون على حصّتهم من المال العام، ومن الامتيازات التي أوجدت منهم طبقة خاصة منفصلة تماماً عن واقع مواطنيهم.
وفي ظل هذه الأوضاع، ينظر العراقيون الذين يعانون من البؤس والخوف والحرمان بأسف إلى دولتهم العتيدة التي كانت في الزمن الراحل مركز قوة ومنعة واقتدار، وقد أصبحت اليوم ليست “منزوعة السيادة” فحسب، إنما هي منزوعة الارادة أيضاً، وتلك أم الكوارث.